تفسير سورة البينة

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة البينة من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة البينة
أهداف سورة البينة
( سورة البينة مدنية، وآياتها ٨ آيات، نزلت بعد سورة الطلاق )
وتعرض السورة أربع حقائق تاريخية وإيمانية :
الحقيقة الأولى : هي أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة.
قال تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة* رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة* فيها كتب قيّمة. ( البينة : ١-٣ ).
الحقيقة الثانية : إن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهل، ولا عن غموض فيه، وإنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وجاءتهم البينة : وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة. ( البينة : ٤ ).
الحقيقة الثالثة : إن الدّين في أصله واحد، وقواعده بسيطة واضحة، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة. ( البينة : ٥ ).
الحقيقة الرابعة : إن الذين كفروا من بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية، وإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية، ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بيّنا.
مع آيات السورة
١-لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة.
كانت الأرض فهي حاجة ماسة إلى رسالة جديدة، كان الفساد قد عمّ أرجاءها كلها، بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة، ومنهج جديدة، وحركة جديدة، وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا، سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرّفوها، أو المشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها.
وما كانوا لينفكوا ويتحلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته واضحة، فارقة فاصلة.
٢- رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة. أي : محمد صلى الله عليه وسلم –وهو بدل من البينة- يقرأ عليهم من صفحات كتابه المطهرة، وآياته المقدسة، ما يشتمل على المضمون الصحيح لكتبهم المنزلة على أنبيائهم، موسى وعيسى وغيرهما، عليهم جميعا الصلاة والسلام.
٣- فيها كتب قيّمة. يطلق الكتاب على الموضوع، كما تقول : كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة… أي : يشمل القرآن على موضوعات وحقائق قيمة، تحتاج إليها البشرية، ولا تصلح إلا بها.
لقد كان الفساد قد استشرى في الأرض قبل رسالة محمدا صلى الله عليه وسلم، وطمست معالم الحق، وبهتت حقائق الأديان، وانسحب رجال الدين من ميدان الحياة، واستبد الحكام والملوك، وعظمت نكايات اليهود بالنصارى، واشتد تدبير الكيد من النصارى لليهود، واختلف النصارى حول طبيعة المسيح، وعذّب الحكام طوائف المخالفين.
٤-وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة. فلم يكن ينقصهم العلم والبيان، وإنما كان يجرفهم الهوى والانحراف.
٥-وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة.
وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق : عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، والميل عن الشرك وأهله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وذلك دين القيّمة. وهذا هو الدين الذي جاء في الكتب القيمة، ( وقصارى ما سلف، أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلا أن يعبدوا الله، ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف )i.
٦- إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة.
لقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض، لتردّ الناس إلى الإصلاح، فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة، الشاملة الكاملة، فقد تحدد الموقف أمام الجميع بصفة قاطعة. فمن كفر بهذه الرسالة أو أشرك بالله فهو في نار جهنم يصلى نارها، وهو من شرار الخلق، جزاء إعراضه عن دعوة الحق، وعن رسالة الله.
٧- إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة. أما من اهتدى قلبه للإيمان، وكان إيمانه عن يقين وصدق، فأتبع الإيمان بالأعمال الصالحات، من عبادة وخلق، وعمل وتعامل، والتزام بشريعة الله والحفاظ عليها، أولئك هم خير البريّة. وهم صفوة الله من خلقه، حيث منحهم الهدى، ويسر لهم العمل بأحكام هذا الدين.
قال تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده… ( الأنعام : ٩٠ ).
٨- جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه. لقد أحسن الله جزاءهم في جنات إقامة دائمة، تجري من تحتها الأنهار، في جمال ونعمة ولذة دائمة، وأسمى من ذلك سعادتهم برضا الله عنهم، ومحبته لهم، ثم اطمئنانهم ورضاهم العميق عن ربهم، وثوابه ونعيمه. وذلك كله متوقف على خشية الله، والخوف منه والالتزام بأمره.
ملخص السورة
لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، تغير حال اليهود والنصارى والمشركين، فمنهم من آمن به، ومنهم من تردد في صحة الدين، ومنهم من عاند وتكبر، مع أن الله تعالى ما أمرهم إلا ليعبدوه مخلصين له الدين، ولكن الفساد كان قد استشرى بين أرباب الديانات السابقة، وكانت البينة الواضحة والنور الهادي هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أوضح الله تعالى أن من كفر به سيصلى نار جهنم، وأن من آمن به سيتمتع برضوان الله في جنات النعيم.
من فضائل السورة
أخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب :( إن الله أمرني أن أقرأ عليك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب… ) قال : وسمّاني لك يا رسول الله ؟ قال :( نعم ). قال : فبكى أبيّii.

أحوال الناس قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة ١ رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة ٢ فيها كتب قيّمة ٣ وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة ٤ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة ٥ ﴾
المفردات :
من أهل الكتاب : اليهود والنصارى.
المشركين : عبدة الأصنام.
منفكين : منتهين عما هم عليه.
البينة : الحجة الواضحة، أو محمد الموعود به في كتبهم.
التفسير :
تمهيد :
أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل في وقت اشتد فيه الظلام، واحتاجت الدنيا إلى الرسالة واضحة تبين الحق، وتفضح الباطل.
كانت الفرس تعبد النار وتسجد لها، وكانت الروم في خلاف شديد حول طبيعة المسيح عليه السلام، وكان الحكّام يعذبون المعارضين لدينهم، وفي أوسع مكان بالقارة الهندية كان الكاهن يختص نفسه بكل عروس في أيامها الأولى، زاعما أنه يبث في الزواج البركة والنماء، وليس الأمر إلا الدّنس والفحشاء، واشتد القتال بين اليهود والنصارى، وفي بلاد العرب كانت هناك فضائل لكنها اختلطت بالرذائل، ومن بين رذائلهم : وأد البنات، وشيوع الزنا والربا وشرب الخمر، وقيام الحروب لأتفه الأسباب، وكأن البشرية استغاثت بالله أن يرسل لها من يهديها من الظلمات إلى النور، فأرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم.
التفسير :
١- لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة.
أي : كان الفساد قد عمّ أرجاء الأرض، وأقصى الدين عن الدنيا، وانكمش رجال الدين في الصوامع والمعابد، وكان الكفر قد تطرق إلى العقائد، بسبب تحريف الكتب السماوية، وحذف أجزاء منها أو إضافة أشياء إليها ليست منها، وما كان أهل الكتاب والمشركون لينفكّوا ويتحوّلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه، إلا بهذه الرسالة الجديدة، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بيّنة واضحة فارقة فاصلة.
تمهيد :
أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل في وقت اشتد فيه الظلام، واحتاجت الدنيا إلى الرسالة واضحة تبين الحق، وتفضح الباطل.
كانت الفرس تعبد النار وتسجد لها، وكانت الروم في خلاف شديد حول طبيعة المسيح عليه السلام، وكان الحكّام يعذبون المعارضين لدينهم، وفي أوسع مكان بالقارة الهندية كان الكاهن يختص نفسه بكل عروس في أيامها الأولى، زاعما أنه يبث في الزواج البركة والنماء، وليس الأمر إلا الدّنس والفحشاء، واشتد القتال بين اليهود والنصارى، وفي بلاد العرب كانت هناك فضائل لكنها اختلطت بالرذائل، ومن بين رذائلهم : وأد البنات، وشيوع الزنا والربا وشرب الخمر، وقيام الحروب لأتفه الأسباب، وكأن البشرية استغاثت بالله أن يرسل لها من يهديها من الظلمات إلى النور، فأرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
رسول : بدل من البينة، وعبر عنه بالبينة للإشارة إلى ظهور أمره ووضوح دينه.
صحفا مطهرة : مبرأة من الزور والضلال، والمراد بها القرآن.
التفسير :
٢- رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة.
وهذه البينة الواضحة وضوح الشمس هي النور المبين، هي السراج الوهّاج، هي محمد صلى الله عليه وسلم، دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمّه حين حملت به نورا خرج منها أضاء مشارق الأرض ومغاربها، هذا النبي هو رسول من الله إلى عباده، ختم الله به الرسالات، وجعل شريعته خاتمة الشرائع.
رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة.
نعم هو رسول الله، أنزل الله عليه وحي السماء، فهو يقرأ ما تتضمنه صحف القرآن المطهّرة من الخلط والكذب، والشبهات والكفر والتحريف واللبس، بل فيها الحق الصريح، فيها التشريع والإرشاد والهدي والحكمة.
قال تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا* وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. ( الأحزاب : ٤٥، ٤٦ ).
تمهيد :
أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل في وقت اشتد فيه الظلام، واحتاجت الدنيا إلى الرسالة واضحة تبين الحق، وتفضح الباطل.
كانت الفرس تعبد النار وتسجد لها، وكانت الروم في خلاف شديد حول طبيعة المسيح عليه السلام، وكان الحكّام يعذبون المعارضين لدينهم، وفي أوسع مكان بالقارة الهندية كان الكاهن يختص نفسه بكل عروس في أيامها الأولى، زاعما أنه يبث في الزواج البركة والنماء، وليس الأمر إلا الدّنس والفحشاء، واشتد القتال بين اليهود والنصارى، وفي بلاد العرب كانت هناك فضائل لكنها اختلطت بالرذائل، ومن بين رذائلهم : وأد البنات، وشيوع الزنا والربا وشرب الخمر، وقيام الحروب لأتفه الأسباب، وكأن البشرية استغاثت بالله أن يرسل لها من يهديها من الظلمات إلى النور، فأرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
فيها : في صحف القرآن.
كتب قيمة : مضمون الكتب السماوية الأخرى، وهي بلا شك لها قيمتها.
التفسير :
٣- فيها كتب قيّمة.
الكتاب يطلق على الموضوع، كما يقال : كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب القيامة، وهذه الصحف المطهرة –وهي القرآن الكريم- مشتملة على كتب قيمة، أي موضوعات مهمّة، منها : توحيد الله، بدء الخليقة، خلق الكون، أحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج، أحكام البيع والرهن والمعاملات، آداب السلوك مثل غض البصر، تحريم الزنا والربا وعقوق الوالدين، الأمر ببر الوالدين، صلة الرحم، إكرام الضيف، رعاية اليتامى والفقراء والضعفاء، وغير ذلك من معالم الدين وآدابه، وشرائعه وأحكامه وهداياته، وقصصه وأخباره.
تمهيد :
أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل في وقت اشتد فيه الظلام، واحتاجت الدنيا إلى الرسالة واضحة تبين الحق، وتفضح الباطل.
كانت الفرس تعبد النار وتسجد لها، وكانت الروم في خلاف شديد حول طبيعة المسيح عليه السلام، وكان الحكّام يعذبون المعارضين لدينهم، وفي أوسع مكان بالقارة الهندية كان الكاهن يختص نفسه بكل عروس في أيامها الأولى، زاعما أنه يبث في الزواج البركة والنماء، وليس الأمر إلا الدّنس والفحشاء، واشتد القتال بين اليهود والنصارى، وفي بلاد العرب كانت هناك فضائل لكنها اختلطت بالرذائل، ومن بين رذائلهم : وأد البنات، وشيوع الزنا والربا وشرب الخمر، وقيام الحروب لأتفه الأسباب، وكأن البشرية استغاثت بالله أن يرسل لها من يهديها من الظلمات إلى النور، فأرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
وما تفرق : اختلفوا إلى طوائف في الدين.
ما جاءتهم البينة : يتحقق الموعود برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
التفسير :
٤- وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة.
كان اليهود والنصارى يقرأون في كتبهم أن نبيا أظلّ زمانه، بشّرت بذلك التوراة والإنجيل، كما قال تعالى : الذين يتّبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر... ( الأعراف : ١٥٧ ).
وكما قال تعالى : وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله مصدّقا لما بين يديّ من التوراة ومبشّرا يأتي من بعدي اسمه أحمد... ( الصف : ٦ ).
وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( لو كان موسى بن عمران حيّا ما وسعه إلا اتّباعي )iii.
لقد كانوا قبل البعثة المحمدية متفقين على انتظار نبيّ آخر الزمان، وأنه النبي الخاتم، وكان اليهود يقولون لإخوانهم من العرب من الأوس والخزرج : لقد أظل زمان نبيّ نعرف صفاته، فسنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به... ( البقرة : ٨٩ ).
لقد آمن بعض أهل الكتاب ودخلوا في الإسلام، مثل عبد الله بن سلام من اليهود، وكفر آخرون زاعمين أن محمدا ليس هو النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وأن هذا النبي سيأتي فيما بعد، لكن القرآن قد صدق في أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان، رسول الله وخاتم النبيّين... ( الأحزاب : ٤٠ ). ولن يأتي رسول بعد محمد، فإن من أسمائه العاقب، أي الذي يأتي في آخر الزمان.
قال صلى الله عليه وسلم :( أنا العاقب فلا نبي بعدي ). iv
والخلاصة : أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما جاءهم بالرسالة الواضحة البيّنة، والكتاب الواضح المبين، اختلفوا : فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر، مع وجود البينة أي الحجة الواضحة أمامه، وهي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه المبين.
تمهيد :
أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل في وقت اشتد فيه الظلام، واحتاجت الدنيا إلى الرسالة واضحة تبين الحق، وتفضح الباطل.
كانت الفرس تعبد النار وتسجد لها، وكانت الروم في خلاف شديد حول طبيعة المسيح عليه السلام، وكان الحكّام يعذبون المعارضين لدينهم، وفي أوسع مكان بالقارة الهندية كان الكاهن يختص نفسه بكل عروس في أيامها الأولى، زاعما أنه يبث في الزواج البركة والنماء، وليس الأمر إلا الدّنس والفحشاء، واشتد القتال بين اليهود والنصارى، وفي بلاد العرب كانت هناك فضائل لكنها اختلطت بالرذائل، ومن بين رذائلهم : وأد البنات، وشيوع الزنا والربا وشرب الخمر، وقيام الحروب لأتفه الأسباب، وكأن البشرية استغاثت بالله أن يرسل لها من يهديها من الظلمات إلى النور، فأرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
وما أمروا : أي في كتبهم.
مخلصين : جاعلين الدين خالصا لله.
حنفاء : مائلين عن زائف العقائد إلى الإسلام دين الحق.
التفسير :
٥- وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة.
أي : إنهم تفرقوا بشأن محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ورسالته، مع أنهم لم يؤمروا في التوراة والإنجيل والقرآن الذي جاءهم من عند الله، إلا بعبادة الله وحده، وتكون عبادتهم خالصة لا يشركون بالله شيئا، حنفاء. مائلين عن كل ألوان الشرك، أو مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، عند ظهور نبي آخر الزمان، مع إقامة الصلاة في أوقاتها، وتمام شروطها وأركانها وخشوعها، وإخلاص القلب لله فيها، وإيتاء الزكاة التي أوجبها الله لمستحقيها من الفقراء والمساكين.
وذلك دين القيّمة.
وهذا هو دين الملة المستقيمة، الموصلة للعبد إلى رضا الله وجنات الخلد.
وعيد الكفار، ووعد الأبرار.
﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة ٦ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة ٧ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ٨ ﴾
المفردات :
البرية : الخليقة.
التفيسر
٦- إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة.
إنهم يعرفون أن محمدا آخر الرسل، وأن كتابه آخر الكتب، وأنه آخر الأنبياء، وقد بشّرت به التوراة والإنجيل، فالذين كفروا بمحمد ورسالته من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وكذلك من مشركي العرب عبّاد الأصنام والأوثان وكل مشرك بالله، هؤلاء في نار جهنم، خالدين فيها. خلودا أبديّا سرمديّا. أولئك هم شر البريّة. هؤلاء هم شر الخليقة. والبرية هي الخليقة، إذ هي من برأ، أي خلق، والبارئ الخالق سبحانه وتعالى.
التفسير :
٧- إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة.
إن الذين آمنوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ورسولا، وقرنوا الإيمان بالعمل الصالح، أي بكل متطلبات الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم :( ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل )v.
أولئك هم خير البريّة. هؤلاء هم خير خلق الله، هؤلاء هم الصفوة المختارة، هم خير أمّة أخرجت للناس، واستجابت لدعوة الله، وحققت رسالة الإسلام ووحي السماء، من فكرة نظرية إلى أمة تستمع للوحي وتستجيب للأمر والنهي.
المفردات :
جنات عدن : بساتين خلد ومقام أبدي.
الأنهار : أي الأنهار الموعود بها من لبن وعسل وخمر.
خشي ربه : خافه في الدنيا فأطاعه، ونجا في الآخرة من عذابه.
التفسير :
٨- جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه.
هذا هو الوسام الأخير على صدر المؤمنين، إن الجزاء عند الله الغني القوي الكريم، هذا الجزء في الدار الآخرة هو جنات إقامة دائمة في بساتين نضرة، تجري من تحتها الأنهار، لسعادتهم وأنسهم مع الخلود الأبديّ السرمدي مع رضوان الله عنهم، ورضاهم عن ربهم، ويا له من ثواب عظيم.
إن الله العي الكبير يتفضل بالرضا عن الإنسان، ثم يسمح لهذا الإنسان بالرضا عنه ربه سبحانه وتعالى، هذا الفضل لمن خشي ربه، وخاف مقامه، وعلم ما يجب لله من كمالات.
قال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء... ( فاطر : ٢٨ ).
اللهم اجعلنا مع المؤمنين الصادقين، اللهم اجعلنا ممن رضيت عنهم ورضوا عنه، اللهم ارزقنا خشيتك وحبك والصدق في الإيمان بك، اللهم ارزقنا الإخلاص والقبول، اللهم آمين.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
***
تم بفضل الله تعالى ومعونته وتوفيقه تفسير سورة ( البيّنة ) عصر يوم الأربعاء ١٤ من ربيع الأول ١٤٢٢ ه، الموافق ٦/٦/٢٠٠١، والحمد لله رب العالمين.
i تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ٣٠/٢١٥ مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثالثة.
ii إن الله أمرني أن أقرأ عليك :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( ٤٩٥٩ ) ومسلم في صلاة المسافرين ( ٧٩٩ ) من حديث أنس بن مالك بلفظ :( إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا... ) الحديث.
iii لو كان موسى حيا :
أخرجه على القارئ في الأسرار المرفوعة ( ٨٣، ٢٩٢ ).
iv وأنا العاقب :
روى البخاري في تفسير القرآن ( ٤٨٩٦ ) ومسلم في الفضائل ( ٢٣٥٤ ) والترمذي في الأدب ( ٢٨٤٠ ) وأحمد في : مسنده ( ١٦٢٩٢ ) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن لي أسماء : أنا محمد، وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب ).
v ليس الإيمان بالتمني :
ذكره السيوطي في الجامع الصغير ( ٧٥٧٠ ) وعزاه لابن النجار والديلمي في مسند الفردوس عن أنس. وقال السيوطي في ( الدر المنثور ) : وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. فذكره هكذا موقوفا.
Icon