تفسير سورة البينة

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة البينة من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
هذه السورة مدنية. وقيل : مكية، وآياتها ثمان.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة ١ رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ٢ فيها كتب قيّمة ٣ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ٤ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة ﴾.
كان الكافرون من الفريقين وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان المشركون، يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : لا ننفكّ مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم. فحكى الله ما كانوا يقولون، وهو قوله سبحانه :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ﴾ يعني لم يكن هؤلاء الكفار منتهين عن كفرهم أو مائلين عما هم فيه من العبادة الباطلة حتى يتبين لهم الحق وهو أن تأتيهم البينة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد فسره بقوله :﴿ رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ﴾.
قوله :﴿ رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ﴾ فالمراد بالبينة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما يتلوه على الناس من القرآن العظيم الذي هو مكتوب في الملأ الأعلى في صحف مطهرة من الباطل والشك والضلال.
قوله :﴿ فيها كتب قيّمة ﴾ يعني في هذه الصحف المطهرة كتب من الله قيمة. أي محكمة مستقيمة لا عوج فيها ولا خطأ ؛ لأنها من عند الله.
قوله :﴿ وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ﴾ يعني ما تفرق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فكذبوا به إلا من بعد ما جاءهم البيان من الله بإرساله إليهم رسولا. فهم قد اختلفوا فيه وكذبوه بعد أن جاءهم البيان من الله بأنه نبي مرسل، وقد كانوا من قبل يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل، ويعلمون أنه مبعوث إلى الناس رسولا.
إنه ما إن بعث محمد إلى الناس رسولا حتى بادره أهل الكتاب – اليهود والنصارى- بالجحد والصد والعدوان والتشكيك، وليس لهم في ذلك من حجة أو سبب إلا الحقد والحسد، فضلا عن فساد الطبائع المعوجة التي استحوذ عليها المرض والضلال.
قوله :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾ يعني ما أمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا بعبادة الله وحده ﴿ مخلصين له الدين ﴾ أي مفردين له بالطاعة والإذعان ﴿ حنفاء ﴾ أي متبعين دين إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) وهو دين التوحيد والاستقامة على عبادة الله وحده لا شريك له. والحنيف، الصحيح الميل إلى الإسلام، الثابت عليه١ ﴿ ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ﴾ أي ليقيموا بكمال صفاتها من تمام الشروط والأركان والواجبات والمستحبات، وليؤدوا زكاة أموالهم للفقراء والعالة والمحاويج ﴿ وذلك دين القيمة ﴾ أي وذلك الدين الذي أمروا به هو دين القيمة. أي العادلة المستقيمة. فهو الدين المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا عوج ٢.
١ القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٣٤..
٢ تفسير الرازي جـ ٣٢ ص ٤٦ والكشاف جـ ٤ ص ٢٧٤ وتفسير الطبري جـ ٣٠ ص ١٧٠..
قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة ٦ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة ٧ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ﴾.
ذلك إخبار من الله عن مصائر البشرية يوم القيامة. فمآل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين من عبدة الأوثان على اختلاف أنواعها وأجناسها وأصنافها وصورها ﴿ في نار جهنم خالدين فيها ﴾ خالدين منصوب على الحال١ فهم ماكثون في النار لا يخرجون منها. ولا يزولون، يتقاحمون فيها كما تتقاحم القردة ﴿ أولئك هم شر البرية ﴾ أي شر الخليقة التي برأها الله. أما مآل المؤمنين العاملين الصالحات فهو الجنة حيث النعيم المقيم. وهو قوله :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ﴾.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٢٦..
قوله :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ﴾ يعني الذين آمنوا بالله وحده لا شريك له، وآمنوا بمحمد نبيا ورسولا، وأخلصوا لله الدين والعبادة، وأفردوه وحده بالإلهية والربوبية، وعملوا الصالحات من صلاة وزكاة ونحوهما ﴿ أولئك هم خير البرية ﴾ أي خير الخلق الذين ذرأهم الله. وهذه الخيرية إما على التعميم أو خير برية عصرهم.
قوله :﴿ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ﴾ يعني، ثواب هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن يتبوأوا منازلهم من الجنة ذات البساتين والأنهار والنعيم الذي لا يفنى ولا يزول. فهم فيها ماكثون أبدا لا يخرجون ولا يبرحون ؛ بل منعّمون مكرمون.
قوله :﴿ رضي الله عنهم ﴾ أي رضي أعمالهم بما أطاعوه في الدنيا، إذ أفردوه بالعبادة وأذعنوا له بالخضوع والاستسلام ﴿ ورضوا عنه ﴾ أي رضوا بما أعطاهم من حسن الثواب وبما جزاهم على طاعتهم له من الكرامة.
قوله :﴿ ذلك لمن خشي ربه ﴾ هذا الوعد الكريم من الله بعطاء المؤمنين وتخويلهم حسن الثواب والجزاء ﴿ لمن خشي ربه ﴾ أي لمن خاف ربه في الدنيا في السر والعلن فبادر لطاعته وأداء فرائضه واجتناب نواهيه١.
١ تفسير الطبري جـ ٣٠ ص ١٧١ وتفسير القرطبي جـ ٢٠ ص ١٤٤ – ١٤٦ وتفسير الرازي جـ ٣٢ ص ٥٦..
Icon