تفسير سورة العاديات

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة العاديات من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

أقسمَ اللهُ تعالى بالخيولِ العادياتِ في سَبيلهِ إكراماً للغُزاة، وللهِ أن يُقسِمَ بما شاءَ من خلقهِ، وليس لنا أن نُقسِمَ إلاّ بهِ. والضَّبْحُ حَمْحَمَةُ الخيلِ، وما يُسمع من أصواتِ أنفَاسِها إذا عَدَتْ. وعن عليٍّ رضي الله عنه: ((أنَّ الْمُرَادَ بالْعَادِيَاتِ الذاهِبَةَ إلَى الْعَدُوِّ، يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مُعَدّاً يَوْمَئِذٍ إلاَّ فَرَسٌ وَاحِدٌ رَكِبَهَا الْمِقْدَادُ)). وانتصبَ قولهُ ﴿ ضَبْحاً ﴾ على المصدر تقديرهُ: والعادياتِ تَضْبَحُ ضَبحاً.
أي فالْمُظهِرَاتِ بسَنابكها النارَ بوطئِها بنعالها للحجارةِ، وبضربها الحصَى بعضَها ببعضٍ كنار القادح، والقَدْحُ والإيْرَاءُ بمعنى واحدٍ، وتقديرهُ: فالقادحاتِ قَدحاً.
يعني الخيلَ تُغِيرُ عند الصبَّح في سبيلِ الله، أضافَ الإغارةَ إليها وأرادَ بذلك ركَّابَها، وذلك أنَّهم كانوا يَسِيرُون إلى العدوِّ ليلاً ويأتوهم صُبحاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ﴾؛ أي هجَمت بالمكانِ الذي انتهت إليه غُباراً. وإنما لم يذكرِ المكان؛ لأن في الكلامِ دَليلاً عليه، وذلك أن إثارةَ الغُبار لا يكون إلاّ بمكانٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ﴾؛ أي دخَلن في ذلك المكانِ في وسطِ جمعِ المشركين للإغارةِ.
هذا جوابُ القسَمِ هاهنا، والإنسانُ عبارةٌ عن جنسِ الناسِ، وَقِيْلَ: المرادُ به الكافرُ، والكَنُودُ هو الكافرُ، الذي" يَمْنَعُ رفْدَهُ، وَيَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ "وهكذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال الكلبيُّ: ((الْكَنُودُ بلِسَانِ مِعَدٍّ: العاصِ))، وبلسان مضر وربيعة وقضاعة: الكفورُ، وبلسان بني مالك: البخيلُ. وقال الحسن: ((يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى النِّعَمَ)) وقال عطاءُ: ((الْكَنُودُ الَّذِي لاَ خَيْرَ فِيْهِ)). والأرضُ الكَنُود الذي لا تُنبتُ ثانياً، وَقِيْلَ: هو الحقودُ الحسود.
معناهُ: إنَّ اللهَ على صُنع هذا الكنودِ وكُفرانهِ لنِعَمِهِ لشهيدٌ يُحصِي عليه أعمالَهُ. وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ الإنسانَ على نفسهِ لشهيدٌ، يشهدُ بذلك حالهُ في بُخلهِ، وإعراضهِ عما يجبُ عليه، فالهاء على هذا القولِ راجعةٌ للإنسان.
الضميرُ عائدٌ على الإنسان، معناهُ: إنَّ الإنسانَ في حقِّه، ويقالُ في معناه: وإنَّه لِحُبه المالَ لبخيلٌ، ويقالُ: رجل شديدٌ إذا كان بَخيلاً. قال ابنُ زيد: ((سُمِّيَ الْمَالُ خَيْراً وَعَسَى أنْ يَكُونَ خَبيثاً وَحَرَاماً، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُ خَيْراً، وَسَمَّى الْمَالَ خَيْراً، وَسَمَّى الْجِهَادَ سُوءً، فقال﴿ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ ﴾[آل عمران: ١٧٤])) أي فقالَ وليس هو عندَ الله سوءً ولكن يسمُّونه سوءً. ومعنى الآيةِ شأنهُ من أجلِ حب المال الشديد بخيلٌ، ويقال للبخيلِ: شديدٌ ومتشدِّدٌ، قال طُرفة: أرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الرِّجَالَ وَيَصْطَفِي   عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِوالفاحشُ البخيل، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ ﴾[البقرة: ٢٦٨] أي بالبُخلِ.
قولهُ تعالى: ﴿ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ ﴾؛ معناهُ: أفلا يعلمُ هذا الإنسانُ إذا بُعث الموتَى من قبورهم.
﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ ﴾؛ أي وأُظهِرَ ما في صُدورهم من الخيرِ والشرِّ والسَّخاء والبُخل.
﴿ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ﴾؛ أي عالِمٌ يعلمُ ما أسَرُّوه وما أعلنوهُ، ويجازيهم على أعمالهم. ولولا دخولُ اللام في جواب (إنَّ) لجاءت مفتوحةً لوقوعِ العلم عليها، ولكنْ لما دخَلت اللامُ كُسرت (إنَّ) على عادةِ العرب، كما في قولهِ تعالى:﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ ﴾[المنافقون: ١].
ويحكى: أنَّ الحجاجَ غلطَ في قراءةِ هذه السُّورة فقالَ: (أنَّ رَبَّهُمْ) بالفتحِ، واستدركَ الغلطَ من جهةِ العربية وحذفَ اللام فقالَ: (خَبيرٌ) فالتفتَ الحسن إلى أصحابهِ وقالَ: ((ألاَ تَنْظُرُونَ إلَى عَدُوِّ اللهِ يُغَيِّرُ كِتَابَ اللهِ لِيُقَوِّمَ لِسَانَهُ!)).
Icon