تفسير سورة النّاس

التقييد الكبير للبسيلي
تفسير سورة سورة الناس من كتاب التقييد الكبير للبسيلي .
لمؤلفه البسيلي . المتوفي سنة 380 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
يقول عبيد الله الراجي عفوه، ومغفرته أحمد بن محمد بن أحمد البَسِيْليِّ لطف الله به وبالمسلمين بعد حمد الله كما يجب لجلاله، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله خاتم رسله، وأنبيائه، ومبلغ وحيه، وإنبائه الآتي بمعجز القرآن المتضمن للطائف، والنكت المكنونة، المشتمل على أسرار المعاني المصونة: هذا تفسير على كتاب الله المجيد، قصدت منه جمع ما تيسر حفظه، وتقييده من مجلس شيخنا أبي عبد الله محمد بن عرفة - رحمه الله تعالى - مما كان بيديه هو أو بعض حذاق طلبة المجلس زيادة على كلام المفسرين وغيرهم، وأضفت إلى ذلك في بعض الآيات شيئًا من كتب التفسير مع ما منح به الخاطر هذا مع ممانعة ما اقتضته الحال
199
من الذهن الجامد والفكر الخامد وبالله سبحانه أستعين، فهو خير ميسر، وخير معين.
قال الشيخ أبو حيان في تفسيره بالمجرد: التفسير لغة: الإِستبانة قاله ابن دريد.
واصطلاحاً: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، والتركيبية، ومعانيها التي تُحمل عليها حالة التركيب، وتتميمات لذلك.
200
فقولنا: علم: جنس لسائر العلوم. وقولنا: يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن: هو علم القراءات. وقولنا: ومدلولاتها: هو علم اللغة. وقولنا: وأحكامها الإِفرادية والتركيبية: يشمل علم التصريف، وعلم الإِعراب، وعلم البيان. وقولنا: ومعانيها التي تُحمل عليها حالة التركيب: يشمل ما دلالة التركيب عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئًا، ويمنع من الحمل على ذلك الظاهر مانع فيحمل على غير ظاهره، وهو المجاز.
وقولنا: وتتميمات لذلك: هو مثل: معرفة الناسخ، وسبب النزول، وذكر القصة، ونحو ذلك.
قال: والنظر في تفسيركتاب الله تعالى من أوجه:
أ - علم اللغة: اسما، وفعلًا، وحرفًا، فالحروف لقلتها تكلم على معانيها النحاة، فيؤخذ ذلك من كتبهم، وأما الأسماء، والأفعال، فتؤخذ من كتب اللغة.
ب - معرفة أحكام اللغة للكلمة العربية من جهة إفرادها، ومن جهة تركيبها، ويؤخذ ذلك من علم النحو.
جـ - معرفة كون بعض الألفاظ أو بعض التراكيب أحسن، وأفصح، ويؤخذ ذلك من علم البيان.
د - تعيين مبهم، وتعيين مجمل، وسبب نزول، ونسخ يؤخذ ذلك من النقل الصحيح، وذلك من علم الحديث.
هـ - معرفة الإِجمال، والتبيين، والعموم، والخصوص، والإِطلاق، والتقييد، ودلالة الأمر، والنهي، وما أشبه ذلك، ويختص أكثر هذا الوجه بأحكام القرآن، ويؤخذ من أصول الفقه، ومعظمه يؤخذ في
201
الحقيقة من علم اللغة إذ الكلام على أوضاع العرب لكن تكلم فيه غير اللغويين، والنحويين، ومزجوه بأشياء من وجوه حجج العقول.
والنظر فيما يجب لله تعالى، وما يجوز في أفعاله، وما يستحيل عليه، ويختص هذا الوجه بالآيات التي تضمنت ذلك، ويؤخذ هذا من علم الكلام.
ز - اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة أو إتيان بلفظ بدل لفظ أو ما يتواتر أو آحاد، ويؤخذ هذا الوجه من علم القراءات.
وقد ألفت فيه كتاب " عقد اللآلئ " قصيدًا في عروض قصيد الشاطبيّ، ورويه تشتمل على ألف بيت، وأربعة وأربعين بيتًا صرحت فيه بأسماء القراء من غير رمز، ولا لغز، ولا [حوشيِّ] لغة.
فهذه سبعة أوجه، ولا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب الله تعالى إلَّا من أحاط بجملة كافية من كل وجه منها.
وأما الوقف: فقد صنف الناس فيه كُتُبًا مرتبة على السور ومن عنده حَظ من علم العربية لم يحتج إليها.
202
قال: وقد ألفت هذا المسمى بـ " البحر " بمصر في أواخر سنة عشر وسبعمائة، وهي أوائل سنة سبع وخمسين من عمري، وبمصر صنفت جميع تصانيفي.
قال: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، وأبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المغربي الأندلسي الغرناطي هما فارسا علم التفسير، وكانا متعاصرين في الحياة متقاربين في الممات، وُلد الزمخشري بـ " زمخشر " قرية من قرى خوارزم يوم الأربعاء السابع عشر لرجب سنة سبعة وستين وأربعمائة، وتوفي بـ " كركانج " قصبة خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسائة. ووُلد ابن عطية سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وتوفي بـ " لورقه " في الخامس والعشرين لشهر رمضان سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. وكتاب ابن عطية أنقل، وأجمع، وأخلص، وكتاب الزمخشري ألخص، وأغوص، وللزمخشري تصانيف غير تفسيره، منها " الفائق في لغات الحديث "، و " مختلف الأسماء ومؤتلفها "، و " ربيع الأبرار "، و " الرائض في الفرائض "، و " المفصَّل " وغير ذلك..
203
قلت: وله محاجات في مسائل نحوية " أذكر منها في هذا التقييد إن شاء الله.
قلت: وجمع بين تفسير ابن عطية، والزمخشري أبو فارس عبد العزيز بن ابراهيم بن أحمد القرشي التميمي التونسي شُهِر بابن بزيزة، ولد بتونس يوم الإثنين رابع عشر محرم عام ستة عشر وستمائة، وتوفي ليلة الأحد أربع ربيع أَول سنة اثنين وستين وستمائة.
قلت: وولد شيخنا أبو عبد الله محمد بن عرفة سنة ست عشرة، وسبعمائة، وتوفي رحمه الله ضحوة يوم الثلاثاء الرابع والعشرين لشهر جمادى الآخر عام ثلاثة وثمانمائة، ودفن بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء غدًا تاريخه، وله من العمر ستة وثمانون عامًا، وأشْهُر. وحجّ حجة الفريضة، وكان خروجه لذلك من تونس بعد صلاة الظهر يوم الإِثنين الحادي والعشرين لشهر جمادى الآخرة من عام اثنين وتسعين وسبعمائة، وقد كان بلغ في تفسير القرآن إلى قوله تعالى: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) [فصلت: ٤٧]، ورجع من حجه فدخل تونس يوم الثلاثاء التاسع عشر لشهر جمادى الأولى من عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة قرب الزوال، وحَبَس قبل موته كثيرًا من الرباع، وتصدق قرب موته بمال كثير، وترك موروثًا عنه ما قيمته ثمانية عشر ألف دينار ذهبًا ما بين عين، ودرهم، وحُليّ، وطعام، ورباع، وكتب، وكان
204
- رحمه الله - مستجاب الدعاء، ومما رأيت من بركته أني كنت أجلس قبالته بمجلس تدريسه فربما تكلم معي بما يقع في خاطري.
قلت: وكان اعتماده في التفسير على ابن عطية، والزمخشري مع الطيِّبيِّ وُيضَعف تفسير ابن الخطيب. قال ابن سرور في شرح الحاصل
205
من المحصول لتاج الدين الأرموي: فخر الدين هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن خطيب الرَّي بن الحسين بن علي البكري الرازي، والرازي منسوب على الريّ على غير قياس، المعروف بابن الخطيب فقيه على مذهب الشافعيّ، وتقدم في الفقه، وصناعة الكلام، وصنف التصانيف، وانتهت إليه رياسة الكلام، ولد بالرَّيّ في الرابع عشر من شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وتوفي يوم الأضحى سنة ست، وستمائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، ودفن في الجبل المقابل لقرية " مركاخان ". ويقال: إن تصانيف الفخر لما وصلت بمصر لم يُقْبلوا عليها لمخالفتها لكُتُب المتقدمين حتى اشتغل بها تقي الدين المقترح فقرَّ بها لأفهامهم فعكفوا عليها، وتركوا كتب المتقدمين.
206
قال ابن عطية: ما روى عن عائشة - رضي الله عنها -: " ما كان رسول الله ﷺ يفسر من القرآن إلا آيا علَّمه إياهن جبريل ". معناه: في مغيبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو ذلك مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى.
و [أمّا] صدر المفسرين [فـ] علي بن أبي طالب ثم عبد الله بن عباس وعنه أُخِذَ ثم عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت،
207
وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - ثم من التابعين الحسن بن أبي الحسن، ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة، ثم
208
عكرمة، والضحاك بن مزاحم، والسدي، ثم حمل التفسير عدول كل خلف. وألف الناس فيه كعبد الرزاق، والمفضل، وعلي بن أبي
209
طلحة، والبخاري، وغيرهم. ثم محمد بن جرير الطبري جمع أشتات التفسير، وقرب البعيد، وشفى في الإِسناد.
وأما أبو بكر النقاش، وأبو جعفر النحاس فكثيرًا ما استدرك
210
الناس عليهما، وتبعهما مكيِّ بن أبي طالب، وأبو العباس المهدوي متقن التآليف.
فصّل: معنى حديث: " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ".
211
قلت: كان شيخنا ابن عرفة يفسرها بالقراءات السبعة المشهورة.

فصل: فيمن جمع القرآن.

212
ابن عطية، كان القرآن في مدّة رسول الله ﷺ متفرقًا
213
في صدور الرجال.
قلت: في صحيح مسلم: " جمع القرآن على عهد رسول الله ﷺ أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت ورجل من الأنصار يكنى أبا زيد ".
قال المازَرى: هذا الحديث مما ذهب بعض الملحدة في طعنها وحاول بذلك القدح في الثقة بنقل القرآن، ولا مستروح لها في ذلك لأنّا لو
214
سلمنا الأمر كما ظنوا وأنه لم يُكَمِّل القرآن سوى أربعة فقط، فقد حفظ جميع أحزابه خلائق لا يحصرون، ولا من شرط كونه متواترًا أن يحفظ الكل، بل الشيء الكثير إذا روي جزءًا منه خلق كثير عُلِم ضرورة، وحصل متواترًا، ولو أن قصيدة رَوى كلَّ بيتٍ منها مائةُ رجل مثلًا، ولم يحفظوا غيره من أبياتها لجعلت كُلها متواترة. فهذا الجواب عن قدحهم. وأما الجواب عن سؤال من سأل من الإِسلامين عن وجه الحديث، فهو أن يقال له: قد عُلِمَ ضرورة من تدين الصحابة ومبادرتهم إلى الطاعات، والقَرَب التي هي أدنى منزلة من حفظ القرآن. ما يعلم منه مع كثرتهم استحالة أن لا يحفظه منهم إلا أربعة، كيف ونحن نرى أهل عصرنا يحفظه منهم ألوف لا تحصى مع نقص رغبتهم في الخير عن رغبة الصحابة، فكيف بهم على جلالة قدرهم؟! وهذا معلوم بالعادة.
ووجه ثانٍ وهو أنَّا نعلم أن القرآن كان عندهم من البلاغة حيث هو.
وكان كفار الجاهلية يعجبون من بلاغته ويحارون فيها، فتارة ينسبونه إلى السحر، وتارة ينسبونه إلى أساطير الأولين، ونحن نعلم من عادة العرب شدّة حرصها على الكلام البليغ، وتحب كما له، ولم يكن لها شغل سوى ذلك فلو لم يكن للصحابة باعث على حفظ القرآن سوى ما ذكرناه لكان من أدل الدلائل على أن هذا الحديث ليس على ظاهره وأنه متأول.
وطريق آخر وهو ما ثبت في الأخبار بنقل الثقات من كثرة من حفظ القرآن جزم أن النبي - ﷺ - بلَّغه أصحابه. وقد عددنا من حفظ ذلك منهم، وسمينا نحو خمسة عشر صاحبًا ممن نُقِلَ عنه حفظ جميع القرآن في كتابنا المترجم بـ " الواضح في قطع لسان النابح " وهو كتاب تقصينا فيه كلام رجل وصف نفسه بأنه كان من علماء المسلمين ثم ارتد، وأخذ يلفق
215
قوادح في الإِسلام فتقصينا أقواله في هذا الكتاب وأشبعنا القول في هذه المسألة، وبسطناه في أوراق، وقد أشرنا فيه إلى تأويلات الحديث المذكور، وذكرنا اضطراب الرواة في هذا المعنى فمنهم من زاد في هذا العدد، ومنهم من نقص منه، ومنهم من أنكر أن يجمعه أحد، وأنه قد يتأول على أن المراد به لم يجمعه بجميع قراءاته السبع، وفقهه، وأحكامه، ومنسوخه سوى أربعة، ويحتمل أيضا أن يراد به أنه لم يذكر أحد عن نفسه أنه أكمله في حياة النبيّ - ﷺ - سوى هؤلاء الأربعة؛ لأن من أكمله إذ ذاك غيرهم كان يتأول نزول القرآن ما دام ﷺ حيًّا فقد لا يستجيز النطق بأنه أكمله وهؤلاء استجازوا ذلك، ومرادهم أنهم أكملوا الحاصل منهم. ويحتمل أيضا أن يكون من سواهم لم ينطق بإكماله خوف الرياء، واحتياطًا على حسن النية كفعل الصالحين في كثير من العبادات.
وأظهر هؤلاء ذلك؛ لأمنهم على أنفسهم، وكيف تعرف النقلة أنه لم يكمله سوى أربعة، والصحابة متفرقون في البلاد هذا أيضا لا يتصور حتى يَلْقَى الناقل كل رجل منهم فيخبره عن نفسه أنه لم يكمل القرآن، وهذا بعيد عادة. وكيف وقد نقل الرواة إكمال بعض النساء لقراءته وقد اشتهر حديث عائشة - رضي الله عنها - وقولها: " كنت جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن "، وأيضا لم يُذْكَر في هؤلاء الأربعة أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما - كيف يحفظ القرآن من سواهما دونهما؟!. وأيضا يحتمل أن يكون أخبر عن علمه أو أراد من أكمله من الأنصار - رضي الله عنهم - وإن كان قد
216
أكمله من المهاجرين - رضي الله عنهم - خلق كثير.
قلت: وهذا تأويل أبي عمر في " الاستيعاب " في حرف القاف عند ذكره قيس بن السَّكن.
عياض: لو لم يكن تأويل الفرض من هذا الحديث ورفع إشكاله إلا ما تواتر به الخبر أنه قُتِلَ يوم اليمامة في خلافة أبي بكر سبعون ممّن جمع القرآن، وهي سنةُ وفاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأول سنة خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - فانظر من بقي ممّن جمعه ولم يُقتل فيها، وممّن لم يحضرها، وبقي بالمدينة، ومكة وغيرهما من أرض الإسلام حينئذ.
217
ابن عطية: ترتيب الآي في السور، ووضع البسملة في الأوائل هو من النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
قلت: ويحتمل ذلك باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، وبوحي.
218
الاستعاذة
قال رحمه الله يردّ على لفظة سؤال: وهو أن الاستعاذة استجارة والاستجارة إبعاد، وهو من باب النفي، وقد تعلق بالأخص؛ لأن الشيطان الرجيم أخص من مطلق الشيطان، " ونفى الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فلا يلزم من الاستعاذة من هذا الشيطان المخصوص الاستعاذة من مطلق الشيطان ". ؟!
وأجاب: بأن النعت قسمان: نعت تخصيص، ونعت لمجرد الذم، وهذا منه.
الفخر: لفظ: (أعوذ بالله). مشتمل على الألوف من المسائل المهمة المعتبرة نحو العشرة الألف؛ لأن المراد منه الاستعاذة بالله من جميع المنهيات المنقسمة إلى الاعتقادات، وأعمال الجوارح، أما الاعتقادات فقال - ﷺ -
219
" ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملة واحدة". فدل على أن الإِثنين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة، ثم إن ضلال كل فرقة منهم حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المتعلقة بذات الله، وبصفاته، وبأحكامه، وبأفعاله، وبأسمائه، وبمسائل الجبر، والقدر، والتعديل، والتجويز، والنبوات، والمعاد، والوعد، والوعيد،
220
والأسماء، والأحكام، والإِمامة.
فإذا وزعنا عدد الفرق الضالة على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغًا عظيمًا.
وقولنا: (أعوذ بالله). يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع، والاستعاذة من الشيء لا يمكن إلَّا بعد معرفة المستعاذ منه، وإلَّا بعد معرفة كون ذلك " الشيء " باطلا. وأما الأعمال الباطلة فهي عبارة عن كل ما ورد النهي عنه إمِّا في القرآن، أو في الأخبار المتواترة، أو في أخبار الآحاد، أو في إجماع الأمة، أو في القياسات الصحيحة.
ولا شك أن تلك المنهيات تزيد على الألوف.
وقولنا: (أعوذ بالله). متناول لجميعها، وجملتها.
221
البسملة
مسألة: كون الاسم المسمى أو غيره. تكلم عليها الآمدي في " أبكار الأفكار "، والإِمام في " الإِرشاد "، وظاهر كلامه مخالف للآمدي، والفخر في " نهاية العقول ".
222
وتكلم عليها ابن السَّيد في تأليف مستقل، ووقعت في " العتبية " في الجزء الخامس من الجامع، وتكلم عليها شيخنا ابن عرفة في " العقيقة " فِي " مختصره الفقهي "، ونقل ابن راشد في أوائل تأليفه
223
المسمى بـ " المرقبة العليا في تفسير الرؤيا " عن القَرَافي أنه كان يقول: " إنما الخلاف في لفظة اسم، هل هي نفس المسمى أو لا، كقوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: ١]، (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ). [تبارك: ٧٨]!.
وقول الفخر: احتج من زعم أن الاسم غير المسمى بأن إثبات وجود الباري تعالى بالعقل لا بالسمع، وإثبات أسمائه متوقف على السمع إذ لا يسمى إلا بما ورد عنه أنه سمى به نفسه..
يُردُّ: بأنه إن أريد معاني الألفاظ، فثابت بالنقل، وإن أريد مجرد الألفاظ فثبوتها بالسمع.
224
وحصَّل شيخنا في المسألة من حيث الجملة ثلاثة أقوال:
الأول: أن الاسم هو المسمى، وهو قول أهل الحق.
الثاني: أنه غيره، وهو مذهب المعتزلة، ومثله للأشعري في بعض كتبه.
الثالث: ما كان اسمًا لله تعالى باعتبار صفة فعل كخالق فهو غير المسمى، وإلا فهو المسمى.
225
وهو قول الباقلاني الإِمام.
226
قال مشايخنا: قول سيبويه: " الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء " يدل على أن الاسم المسمى.
227
الفخر: " البحث عن كل واحد من أسماء الله تعالى مسألة، والعلم بالاسم مسبوق بالعلم بالمسمى، فالبحث عن ثبوت تلك المسميات وعن الدلائل الدالة على ثبوتها، وعن أجوبة الشبهات التي تذكر في نفيها مسائل كثيرة، ومجموعها يزيد على الألوف. ولمَّا كان التقدير: (بسم الله) أشرع في آداء الطاعات، وهذا المعنى لا يصير ملخصًا معلومًا إلا بعد ١ - ١ الوقوف على أقسام الطاعات المنقسمة إلى عقائد، وأعمال مع الأدلة، وأجوبة الشبهات، وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.
وتقدم الاستعاذة على البسملة من حسن الترتيب؛ لأن الاستعاذة إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من الاعتقادات، والعمليات.
قال: ويظهر أيضا كيفية استنباط العلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة باعتبار المباحث المتعلقة باللغة، والإِعراب، والأصول والمسائل الفقهية.
قال في " شرح الأسماء الحسنى ": قال بعض المحققين: " الرحمة من صفات الذات إرادة إيصال الخير، ودفع الشر؛ لأن من تراه في شدّة، وتريد أن تدفعها عنه، ولا تقدر يصح أن يقال: رحمته، ولا يقال: أنعمتَ عليه فإن أُكْرهت على الإِنعام عليه ولم ترده يقال: أنعمتَ عليه، ولا يقال: رحمته.
228
وقيل: إنها صفة فعل فهي إيصال الخير، ودفع الشر بدليل تسمية الجنّة رحمة، قال تعالى: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ)، وقال: (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا).
وأجيب: بأنه من مجاز إطلاق السبب على المسبب. قال: ورحمة
الله أكمل من رحمة العباد لبعضهم؛ لأنها في العباد محدثة، والمحدث الجائز لا يوجد إلا لمرجح بخلقه، فلولا رحمة الله لما خلق الرحمة.
قال: ولأن انتفاع العبد برحمة العبد، وإحسانه له بالجنان واللذات، إنما يكمل له بعد صحّة حواسّه، وبدنه، وقوته الهاضمة، وعقله، وروحه، وذلك أعظم قدرًا من الأشياء التي يهبها بعض الناس، لبعض؛ ولأن إحسان العبد للعبد ينقصه بقدر ما أعطى.
قال: ومذهب أهل السنة أنه ليس من شرط كونه رحيمًا أن لا يفعل إلا الرحمة، فهو رحيم للبعض، وقهَّار للبعض، ليست رحمته معللة
229
باستحقاق محض؛ ولأنه لو كان التفاوت في القهر للتفاوت في الاستحقاق، لقلنا: من أين حصل التفاوت في الاستحقاق؟. وإن كان التفاوت في الطاعة، فلِمَ صار هذا مطيعًا، وهذا عاصيًّا؟.
قال أبو بكر الواسطي: " لا أعبد من ترضيه طاعتي، ويسخطه ذنبي ". أي: إنما أعبد من حملني رضاه على الطاعة، وسخطه على المعصية، ثم نقل قول الفلاسفة، والمعتزلة.
230
قال ابن العربي في " كتاب الآمدي ": معنى كونه أرحم الراحمين أو خير الراحمين: إما كمال الرحمة بنفي الآفات عن صفته، أو كثرة ثمرتها وهي الإِنعام أو أن رحمة العباد لبعضهم، إمّا لتوقع العوض عن ذلك، وإمّا لزوال الألم اللاحق للراحم بمعرفته حاجة المرحوم، والله تعالى منزه عن ذلك كله.
قال: فإن قيل: كيف يُفهم أنه أرحم الراحمين مع كثرة البلايا في الناس، والرحيم لا يَرى مبتلًا، ولا محتاجًا إلا أعاذه؟!.
فأجاب عنه ابن العربي لمن سأل مسترشدًا: بأنه يُعمم نظره في الأسماء الحسنى فإذا استحضر أن الله أرحم الراحمين، استحضر أن الله شديد العقاب، وأنه عفو منتقم، وهادٍ مضل، وغفَّار قهَّار، ولو عافى الجميع لما كان شديد العقاب.
231
قال: وأجاب بعض علمائنا يريد به الغزالي في " الاحياء ": " بأن الطفل ترق له أمه فتمنعه من الحجامة، والأب يحمله عليها مع شفقته عليه؛ لأنه يرى له فيها خير، فليس في الوجود شر إلا وفي طيه خير، وشر لا خير فيه غير ممكن فإن خطر لك شر لا خير فيه فاتهم عقلك، ويُعدُّ هذا كشف سرك القدر المنهى عنه وأنت أيها المخاطب أظنك عارفًا بسرّ القدر ".
وردَّه ابن العربي بوجوه:
منها: أن قياس الغائب على الشاهد عند من جوَّزه إنما يكون بالجوامع الأربعة وهي: العلة، والحقيقة، والشرط، والدليل.
قال: وقوله: " كل شر في طيه خير "، إن أراد أن الخير يقارنه أو يعقبه، فباطل بعذاب أهل النار فإنه لا خير فيه، وإن أراد أنه يشتمل عليه فمردود لهذا، وبأن الضُرّ لا يشتمل على الخير.
232
وقوله: إن هذا سر القدر الذي لا يفشى، والمخاطب به عارف فكل عالم يعلم سرّ القدر، وهو أن الله تعالى لا يُسأل عمَّا يفعل؛ وإن زعمت أن له سرًّا.
قيل لك: أتقدر أن تردّ ما ظهر من الأدلة بما تظن من الدعاوى هذا لا يفعله حبيب!.
قال: فإن قلت: أهل النار تحت رحمة، فإن في الإِمكان أن يكون عذابهم أشد؟!.
قلنا: هذه عقوبات، وآلام، ولا يقال: لها رفق، فالمقتول بالحجارة
كان يمكن قتله بالطعن، ولا يقال: إنه قُصد الرفق به.
233
قال الآمدي في " أبكار الأفكار ": قال ابن عباس: الرحمن بخلقه جميعًا، والرحيم للمؤمنين خاصة ".
قال: وقيل: الرحيم؛ لأهل الدنيا، والرحمن، لأهل الآخرة "
انتهى.
ونقل ابن العربي فيه سبعة أقوال:
أحدها: قول ابن عباس: أنهما رقيقان أحدهما أرق من الآخر ".
وقال الفخر: رواه عنه أبو صالح "
قال الفخر: وهو وهْم من الراوي، بل هما رفيقان بالفاء؛ لأن الرفق من صفات الله تعالى بخلاف الرقة.
234
" انتهى ".
الثاني: قال الحسن: الرحيم أرق ". وإليه ردّ ابن العربي قول ابن عباس، وقرره بوجهين:
إما بأن لفظ: " الرحمن " خاص باللَّه لا يطلق على غيره، ومعناه: عام في منافع الدنيا، وثواب الآخرة. و " الرحيم " خاص في المعنى بالثواب، والعفو عام في اللفظ، لجواز وصف غير الله به.
وإمّا بأن تقدير " رحمن " كعطفان إذا كان تلك الساعة على تلك الحالة، وإن لم يكن دائما، و " رحيم " نعتًا دائم مثل: كريم.
الثالث: قال أبو عبيدة: " الرحمن: ذو الرحمة، والرحيم: الراحم، وربما سوَّت العرب بين فعلان، وفعيل. قالوا: ندمان، ونديم ".
الرابع: قال ثعلب: جمعوا بينهما؛ لأن الرحمن عبراني الأصل،
235
والرحيم عربي.
الخامس: أنهما بمعنى واحد.
السادس: قال عطاء: " الرحمن في الرزق، والرحيم في المغفرة "
قال الفخر: " والأكثرون على أن الرحمن أبلغ لقولهم: رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، ورحمة الدنيا شاملة للخلق كلهم بالرزق، ورفع المؤلِّمات، ورحمة الآخرة تخص المؤمنين، وكذا قال جعفر الصادق:
236
اسم الرحمن خاص باللَّه عام في الأثر، والرحيم عكسه "؛ ولأن بناء الرحمن للمبالغة يقال: عُريان لمن لا ثوب له أصلًا، فإن كان له ثوب خلق قلت: " عارٍ لا عُريان "، ورحيم: فعيل بمعنى فاعل، كسميع أو مفعول كقتيل؛ ولأن حروف الرحمن أكثر؛ ولأن أبا سعيد الخدري روى عن علي عليه السلام أنه قال: " الرحمن رحمن الدنيا، والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة ".
قال: وقُدِّم على الرحيم إمّا لأن الرحمن انفرد به الباري تعالى أو لإفادته عموم الرحمة فكان أصلًا، والرحيم كالزيادة في التشريف؛
237
للمؤمنين قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).
وإمّا لأجل رؤوس الآي في الفاتحة.
وقيل: الرحيم أبلغ بدليل ذكره بعد الرحمن، ولأن الرحمن يفيد نوعًا من القهر، والكبرياء قال تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ) وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا)، إذ لولا ذلك لما ناسب ذكر الوعيد معه؛ ولأن ختم الكلام بما هو أقوى دلالة على الرحمة، أرجى، وأقرب لحسن الظن باللَّه ". انتهى.
وذكر ابن السِّيد في " أسئلته " الخلاف في " الرحمن "، و " الرحيم " أيهما أخص، وقال: " إن المختص باللَّه تعالى إنما هو مجموعهما ". ومثله للفاسي في " شرح الشاطبية ".
ونص إمام الحرمين، وغيره من الأصوليين على أن: الرحمن مختص باللَّه تعالى لا يوصف به غيره ".
238
وحكى ابن الحاجب في " الأصل " لما عرَّف الحقيقة، والمجاز، والمشترك إنما هو رحمن اليمامة بالاضافة، وذكر الرحمن الأصوليون مثالًا للمجاز الذي ليست له حقيقة.
239
قال ابن الحاجب: ولو قيل: لو استلزم المجاز الحقيقة لكان لنحو " الرحمن " حقيقة، ولنحو: " عسى " كان قويًّا ".
ابن هشام المصري: الحق قول الأعلم، وابن مالك:
240
الرحمن ليس بصفة، بل عَلَم.
وأما قول الزمخشري: إذا قلت: " الله رحمن هل يُصْرف أم لا؟ "
وقول ابن الحاجب: اختلف في صرفه "
فخارج عن كلام العرب من وجهين:
أنه لم يستعمل صفة، ولا مجردًا من " ال "، ويبين عَلَميته أنه في البسملة، ونحوها بدل (لا)، نعت، وأن " الرحيم " بعده نعت له لا نعت لاسم الله سبحانه إذ لا يتقدم البدل على النعت، وأن السؤال الذي سأله الزمخشري، وغيره: لِمَ قدم الرحمن مع أن عادتهم تقديم غير الأبلغ، كقولهم: عالم نحرير، وجواد فياض؟ ا، فغير متجه وممَّا يوضح لك أنه غير صفته مجيئُه كثيرًا غير تابع نحو: (الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ).
241
قال: وقول الشاطبي:..... تبارك رحمانًا رحيمًا ومَوْئلًا.
فصب " رحمانًا " بإضمار: أخص أو أمدح، و " رحيمًا ": حال منه لا نعت له، ولا تمييز كما ذكرنا، وجعلهما بعضهم تمييزين، وهو خطأ؛ لأن التمييز لا يتعدد بخلاف الحال فإنها تتعدد.
وقيل: إن " رحمانًا " حال، وحذف " أل " من " رحمانًا " للضرورة ".
" الفخر ": وقيل: إن عمر بن عبد العزيز خرج إلى المصلى يوم " العيد "، فلما صلى قال: " اللهم ارحمني فإنك قلت: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)، فإن لم أكن منهم فأنا من الصائمين، وقلت: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥). فإن لم أكن منهم فأنا من المؤمنين، وقلت: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣)، فإن لم استوجب ذلك فأنا شيء، وقلت: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، فإن لم أكن
242
كذلك فأنا مصاب حيث حُرِمْتُ رحمتك، وقلت: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).
243
Icon