تفسير سورة الصف

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الصف من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الصف
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام وهي مدنية في قول الجمهور وروي ذلك عن ابن الزبير وابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وقال ابن يسار : مكية وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد أيضا والمختار الأول ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) قال عبد الله فقرأها علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ختمها وروي هذا الحديث مسلسلا يقرأها علينا وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر : إنه أصح مسلسل يروى في الدنيا إن وقع في المسلسل تمثله في مزيد علوه وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قول شباب من المسلمين : فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا وما روي عن ابن زيد من أنه قول المنافقين المؤمنين : نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك وآيها أربع عشرة آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه

سورة الصّفّ
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام، وهي مدنية في قول الجمهور، وروي ذلك عن ابن الزبير وابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد، وقال ابن يسار: مكية، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد أيضا، والمختار الأول، ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نقرأ من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ
[الصف: ١، ٢] قال عبد الله فقرأها علينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى ختمها، وروي هذا الحديث مسلسلا يقرأها علينا، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر: إنه أصح مسلسل يروي في الدنيا إن وقع في المسلسلات مثله في مزيد علوه، وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قول شباب من المسلمين: فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا، وما روي عن ابن زيد من أنه قول المنافقين للمؤمنين:
نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.
وآيها أربع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه.
277
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الكلام فيه كالكلام المار في نظيره، والنداء بوصف الايمان في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ على ما عدا القول الأخير في سبب النزول ظاهر، وعليه قيل: هو للتهكم بأولئك المنافقين وبإيمانهم، ولِمَ مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية قد حذف ألفها- على ما قال النحاة- للفرق بين الخبر والاستفهام ولم يعكس حرصا على الجواب، وقيل: لكثرة استعمالها معا فاستحق التخفيف وإثبات الكثرة المذكورة أمر عسير، وقيل: لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه، وبين بأن قولك: لم فعلت؟ مثلا المستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة والفعل والعلة مدلول اللام والفعل مدلول- ما- لأنها بمعنى أي شيء، والمفيد لذلك المجموع، وعند عدم الحرف المسئول عنه الفعل وحده وهو كما ترى، والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟! على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجه إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد أيضا، وقد كانوا يحسبونه معروفا، ولو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ بيان لغاية قبح ما فعلوه، وكَبُرَ من باب بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، وأَنْ تَقُولُوا هو المخصوص بالذم، وجوز أن يكون في كَبُرَ ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله سبحانه: لِمَ تَقُولُونَ أي كبر هو أي القول مقتا وأَنْ تَقُولُوا بدل من المضمر أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل: قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كما في قوله:
وجارة جساس أبأنا بنابها كليبا غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، وأسند إلى أَنْ تَقُولُوا ونصب مَقْتاً على تفسيره دلالة على أن قولهم: ما لا يَفْعَلُونَ مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأة أبيه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا حتى جعل أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد من أهل اللغة، وقال ابن عطية: المقت البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت، وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت إذا كان يبغضه كل واحد، واستدل بالآية على وجوب الوفاء بالنذر وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا فسكت، فقيل له: حدثنا فقال:
وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فاستعجل مقت الله عز وجل، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ بيان لما هو مرضي عنده سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده جل شأنه، وظاهره يرجح أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون ما يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول، ويقتضي أن مناط التوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم وصف مصدر وقع موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، ونصبه على الحال من ضمير يُقاتِلُونَ أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، وكَأَنَّهُمْ إلخ حال من المستكن في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهم ببنيان إلخ، وهذا ما عناه الزمخشري بقوله: هما أي صَفًّا وكَأَنَّهُمْ إلخ حالان متداخلان، وقول ابن المنير: إن معنى التداخل أن الحال الأولى مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الاتصاف هي هيئة الارتصاص خلاف المعروف من التداخل في اصطلاح النحاة، وجوز أن يكون حالا ثانية من الضمير.
وقال الحوفي: هو في موضع النعت- لصفا- وهو كما ترى، والمرصوص على ما قال الفراء ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص، ويراد به المحكم، وقال المبرد: رصصت البناء لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة
278
واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان، والظاهر أن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص من حيث إنهم لا فرجه بينهم ولا خلل، وقيل: المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص، والأكثرون على الأول، وفي أحكام القرآن فيه استحباب قيام المجاهدين للقتال صفوفا كصفوف الصلاة وأنه يستحب سدّ الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام الصف الأول فالأول، وتسوية الصفوف عدم تقدم بعض على بعض فيها، وقال ابن الفرس: استدل به بعضهم على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص إنما يمكن منهم، ثم قال: وهو ممنوع انتهى، ثم إن القتال على هذه الهيئة اليوم من أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية، وأنت تعلم أن للوسائل حكم المقاصد فما يتوصل به إلى تحصيل الاتصاف بذلك مما لا ينبغي أن يتكاسل في تحصيله، وقرأ زيد بن علي يقاتلون بفتح التاء، وقرىء- يقتلون- وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال وَإِذْ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: ٢١] فلم يمتثلوا لأمره عليه السلام وعصوه أشد عصيان حيث قالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إلى قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٢- ٢٤] وأصروا على ذلك كل الإصرار وآذوه عليه السلام كل الأذية فربخهم على ذلك بقوله: يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جملة حالية مؤكدة لإنكار الإيذاء ونفي سببه وَقَدْ لتحقيق العلم لا للتقليل ولا للتقريب لعدم مناسبة ذلك للمقام، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار أي والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر على يدي من المعجزات الباهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجائكم من ملكته أني رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خيري الدنيا والآخرة، ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي فَلَمَّا زاغُوا أي أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به عليه السلام واستمروا عليه أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي صرفها عن قبول الحق والميل والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى والضلال، وقيل: أي فلما زاغوا في نفس الأمر وبمقتضى ما هم عليه فيها أزاغ الله تعالى في الخارج قلوبهم إذ الإيجاد على حسب الإرادة، والإرادة على حسب العلم. والعلم على حسب ما عليه الشيء في نفس الأمر، وعلى الوجهين لا إشكال في الترتيب، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة. ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية، وإلا فالهداية إلى ما يوصل إليها شاملة للكل، والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في مقام الإضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهداية به، أو جنس الفاسقين وهم داخلون في حكمهم دخولا أوليا، قيل: وأيا ما كان فهو ناظر إلى ما في قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: ٢٥] وقوله سبحانه: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: ٢٦] هذا وقيل: إذ ظرف متعلق بفعل مقدر يدل عليه ما بعد كزاغوا ونحوه، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة.
وذهب بعضهم إلى أن إيذاءهم إياه عليه السلام بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله سبحانه جهرة والتكذيب الذي هو حق الله تعالى وحقه عليه السلام،
279
وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ويرتضيه الذوق السليم وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها يا بَنِي إِسْرائِيلَ ولعله عليه السلام لم يقل يا قومي كما قال موسى عليه السلام بل قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم، أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليه السلام هضما لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل: إن الاستعطاف بما ذكر لما فيه من التعظيم، وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام.
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقا، فنصب مُصَدِّقاً على الحال من الضمير المستتر في رَسُولُ وهو العامل فيه، وإِلَيْكُمْ متعلق به، وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال، وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليه السلام، وقوله تعالى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي معطوف على مُصَدِّقاً، وهو داع أيضا إلى تصديقه عليه السلام من حيث إن البشارة بهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس منها: أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه، وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه، ويقول لهم ما آمره فيه، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى غير ذلك، ويتضمن كلامه عليه السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام جميعا من تقدم ومن تأخر، وجملة يَأْتِي إلخ في موضع الصفة- لرسول- وكذا جملة قوله تعالى: اسْمُهُ أَحْمَدُ وهذا الاسم الجليل علم لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه قول حسان:
صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد
وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي الترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي. وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب»
والعاقب الذي ليس بعده نبي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من أفعل التفضيل من الحامدية، وجوز أن يكون من المحمودية بناء على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد، وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي، وقرىء «من بعدي» بفتح الياء، هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان، وقولهم: ولو وقعت لذكرت في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة، وإذا سلمت قلنا: بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها اكتفاء بما في التوراة ومزامير داود عليه السلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام.
ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد- حبا لدينهم أو لأمر ما غير ذلك- أسقطوها كذا قيل، وأنا أقول: الأناجيل التي عند النصارى أربعة: إنجيل متى من الاثني عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا جمعه بالإسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، وإنجيل
280
يوحنا وهو حبيب المسيح جمعه بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وهي مختلفة، وفيها ما يشهد الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز وجل ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعا ونحو ذلك، وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض الأحوال، والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوي وما تعسف. ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي يعلمكم كل شيء، وقال يوحنا أيضا: قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب، وقال أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبي لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب، وقال أيضا: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم من قريب، والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إرادته صلّى الله تعالى عليه وسلم من كلامه عليه السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصارى بالحماد، وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة والسلام أحمد، وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى عليه السلام: فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلّى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلّى الله تعالى عليه وسلم بعنوان التخليص، فيستدل به على ثبوت رسالته صلّى الله تعالى عليه وسلم، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا، وزعم بعضهم أن الفارقليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب، ولا يخفى أن وصفه بآخر يأبى ذلك إذا لم يتقدم لهم غيره فَلَمَّا جاءَهُمْ أي عيسى عليه السلام بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرة.
قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ مشيرين إلى ما جاء به عليه السلام، فالتذكير بهذا الاعتبار، وقيل: مشيرين إليه عليه السلام وتسميته سحرا للمبالغة، ويؤيده قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب- هذا ساحر- وكون فاعل جاءَهُمْ ضمير عيسى عليه السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه، وقيل: هو ضمير أَحْمَدُ عليه الصلاة والسلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار بالبينات قالُوا إلخ.
281
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الاجابة الافتراء على الله عز وجل بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا فإن الافتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت وإثبات المنفي أي لا أظلم من ذلك، والمراد أنه أظلم من كل ظالم، وقرأ طلحة «يدّعي» مضارع- ادعى- مبنيا للفاعل وهو ضميره تعالى: ويُدْعى بمعنى يدعو يقال: دعاه وادعاه نحو لمسه والتمسه، وقيل: الفاعل ضمير المفتري، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدي بإلى أي وهو ينتسب إلى الإسلام مدعيا أنه مسلم وليس بذاك، وعنه «يدّعى» مضارع ادعى أيضا لكنه مبني للمفعول، ومعناه كما سبق، والآية فيمن كذب من هذه الأمة على ما يقتضيه ما بعد، وهي إن كانت في بني إسرائيل الذين جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ تمثيل لحالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم كما تقول الناس: هو يطفىء عين الشمس، وذهب بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الله دينه تعالى الحق كما روي عن السدي على سبيل الاستعارة التصريحية، وكذا في قوله سبحانه: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ومُتِمُّ تجريد، وفي قوله تعالى: بِأَفْواهِهِمْ تورية، وعن ابن عباس وابن زيد يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول، وقال ابن بحر: يريدون إبطال حجج الله تعالى بتكذيبهم، وقال الضحاك: يريدون هلاك الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بالأراجيف، وقيل: يريدون إبطال شأن النبي صلّى الله عليه وسلم وإخفاء ظهوره بكلامهم وأكاذيبهم،
فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف:
يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالى نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلّى الله عليه وسلم فنزلت يُرِيدُونَ إلى آخره
، وفي يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا مذاهب: أحدها أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها، وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في:
لا أبا لك لتأكيد معنى الإضافة ثانيها أنها غير زائدة للتعليل، ومفعول يُرِيدُونَ محذوف أي يريدون الافتراء لأن يطفئوا ثالثها أن الفعل أعني يُرِيدُونَ حال محل المصدر مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للإطفاء والكلام نظير- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- من وجه، ورابعها أن اللام مصدرية بمعنى أن غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة والأمر، خامسها أن يُرِيدُونَ منزل منزلة اللازم
282
لتأويله بيوقعون الإرادة، قيل: وفيه مبالغة لجعل كل إرادة لهم للإطفاء وفيه كلام في شرح المغني. وغيره.
وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن «متمّ» بالتنوين «نوره» بالنصب على المفعولية لمتم وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ حال من المستكن في مُتِمُّ وفيه إشارة إلى أنه عز وجل متم ذلك إرغاما لهم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلم بِالْهُدى بالقرآن، أو بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهدى مبالغة وَدِينِ الْحَقِّ والملة الحنيفية لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولقد أنجز الله عز وجل وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وعن مجاهد إذا نزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام، ولا يضر في ذلك ما روي أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على الاستمرار، وقيل: المراد بالإظهار الإعلاء من حيث وضوح الأدلة وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أبدا وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك، وقرىء هو الذي أرسل نبيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ جليلة الشأن تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ يوم القيامة، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر «تنجّيكم» بالتشديد، وقوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ استئناف بياني كأنه قيل: ما هذه التجارة؟ دلنا عليه: فقيل: تُؤْمِنُونَ إلخ، والمضارع في الموضوعين كما قال المبرد وجماعة خبر بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا، ويؤيده قراءة عبد الله كذلك، والتعبير به للإيذان بوجوب الامتثال كأن الإيمان والجهاد قد وقعا فأخبر بوقوعهما، والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلّص فالمراد تثبتون وتدومون على الإيمان أو تجمعون بين الإيمان والجهاد أي بين تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهرا فالمراد تخلصون الإيمان، وأيا ما كان فلا إشكال في الأمر، وقال الأخفش: تُؤْمِنُونَ إلخ عطف بيان على تِجارَةٍ، وتعقب بأنه لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كما في قوله:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى يريد أن احضر فلما حذف أن ارتفع الفعل وهو قليل، وقال ابن عطية: تُؤْمِنُونَ فعل مرفوع بتقدير ذلك أنه تؤمنون، وفيه حذف المبتدأ وأن واسمها وإبقاء خبرها، وذلك على ما قال أبو حيان: لا يجوز، وقرأ زيد بن علي- تؤمنوا وتجاهدوا- بحذف نون الرفع فيهما على إضمار لام الأمر أي لتؤمنوا وتجاهدوا، أو ولتجاهدوا كما في قوله:
قلت لبواب على بابها تأذن لنا إني من أحمائها
وكذا قوله:
محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا
وجوز الاستئناف، والنون حذفت تخفيفا كما في قراءة «ساحران يظاهرا» (١) وقوله:
ونقري ما شئت أن تنقري قد رفع الفخ فماذا تحذري
(١) سورة: القصص، الآية: ٤٨٠.
283
وكذا قوله:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وأنت تعلم أن هذا الحذف شاذ ذلِكُمْ أي ما ذكر من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم إذ الجهلة لا يعتدّ بأفعالهم حتى توصف بالخيرية، وقيل: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتم أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتخلصون وتفلحون يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما في قولهم: اتقى الله تعالى امرؤ وفعل خيرا يثب عليه أو جواب لشرط، أو استفهام دل عليه الكلام، والتقدير أن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم. أو هل تقبلون أن أدلكم؟ أو هل تتجرون بالإيمان والجهاد؟ يغفر لكم، وقال الفراء: جواب للاستفهام المذكور أي هل أدلكم، وتعقب بأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة، وأجيب بأنه كقوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: ٣١] وقد قالوا فيه: إن القول لما كان للمؤمن الراسخ الإيمان كان مظنة لحصول الامتثال فجعل كالمحقق وقوعه فيقال هاهنا: لما كانت الدلالة مظنة لذلك نزلت منزلة المحقق، ويؤيده إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأن من له عقل إذا دله سيده على ما هو خير له لا يتركه، وادعاء الفرق بمأثمة من الإضافة التشريفية وما هنا من المعاتبة قيل: غير ظاهر فتدبر، والإنصاف أن تخريج الفراء لا يخلو عن بعد، وأما ما قيل:
من أن الجملة مستأنفة لبيان أن ذلك خير لهم، ويَغْفِرْ مرفوع سكن آخره كما سكن آخر «أشرب» في قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
فليس بشيء لما صرحوا به من أن ذلك ضرورة وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي طاهرة زكية مستلذة، وهذا إشارة إلى حسنها بذاتها، وقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إشارة إلى حسنها باعتبار محلها ذلِكَ أي ما ذكر من المغفرة وما عطف عليها الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه وَأُخْرى أي ولكم إلى ما ذكر من النعم نعمة أخرى، فأخرى مبتدأ، وهي في الحقيقة صفة للمبتدأ المحذوف أقيمت مقامه بعد حذفه، والخبر محذوف قاله الفراء، وقوله تعالى: تُحِبُّونَها في موضع الصفة، وقوله سبحانه: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل بدل أو عطف بيان، وجملة المبتدأ وخبره قيل: حالية وفي الكشف إنها عطف على جواب الأمر أعني يغفر من حيث المعنى كما تقول: جاهدوا تؤجروا ولكم الغنيمة وفي تُحِبُّونَها تعبير لهم وكذلك في إيثار الاسمية على الفعلية وعطفها عليها كأن هذه عندهم أثبت وأمكن ونفوسهم إلى نيلها والفوز أسكن.
وقيل: أُخْرى مبتدأ خبره نَصْرٌ وقال قوم: هي في موضع نصب بإضمار فعل أي ويعطكم أخرى، وجعل ذلك من باب:
علفتها تبنا وماء باردا ومنهم من قدر تحبون أخرى على أنه من باب الاشتغال، ونَصْرٌ على التقديرين خبر مبتدأ محذوف أي ذلك أو هو نَصْرٌ، أو مبتدأ خبره محذوف أي نصر وفتح قريب عنده، وقال الأخفش: هي في موضع جر بالعطف على تِجارَةٍ وهو كما ترى.
وقرأ ابن أبي عبلة نصرا وفتحا قريبا بالنصب بأعني مقدرا، أو على المصدر أي تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا، أو على البدلية من أُخْرى على تقدير نصبها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على قل مقدرا قبل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وقيل: على أبشر مقدرا أيضا، والتقدير فأبشر يا محمد وبشر.
284
وقال الزمخشري: هو عطف على تُؤْمِنُونَ لأنه في معنى الأمر كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله تعالى وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك، وتعقبه في الإيضاح بأن فيه نظرا لأن المخاطبين في تُؤْمِنُونَ هم المؤمنون، وفي بَشِّرِ هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، ثم قوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بيان لما قبله على طريق الاستئناف فكيف يصح عطف بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه؟ وأجيب بما خلاصته أن قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأمته كما تقرر في أصول الفقه، وإذ فسر بآمنوا وبشر دل على تجارته عليه الصلاة والسلام الرابحة وتجارتهم الصالحة، وقدم آمَنُوا لأنه فاتحة الكل ثم لو سلم فلا مانع من العطف على جواب السائل بما لا يكون جوابا إذا ناسبه فيكون جوابا للسؤال وزيادة كيف وهو داخل فيه؟ كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقيل:
آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته لهم، وفيه من إقامة الظاهر مقام المضمر وتنويع الخطاب ما لا يخفى نبل موقعه، واختاره صاحب الكشف فقال: إن هذا الوجه من وجه العطف على قل ووجه العطف على فابشر لخلوهما عن الفوائد المذكورة يعني ما تضمنه الجواب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان «أنصارا لله» بالتنوين وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز وجل.
وقرأ ابن مسعود- على ما في الكشاف- كونوا أنتم أنصار الله، وفي موضح الأهوازي والكواشي- أنتم- دون كُونُوا كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أن من جندي متوجها إلى نصرة الله تعالى ليطابق قوله سبحانه: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وقيل: إِلَى بمعنى مع ونَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ بتقدير نحن أنصار نبي الله فيحصل التطابق، والأول أولى، والإضافة في أَنْصارِي إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز وجل كان بينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في أَنْصارَ اللَّهِ إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى، وقال أبو حيان: هو على معنى قلنا لكم كما قال عيسى.
وقال الزمخشري: هو على معنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وخلاصته على ما قيل: إن ما مصدرية وهي مع صلتها ظرف أي كونوا أنصار الله وقت قولي لكم ككون الحواريين أنصاره وقت قول عيسى، ثم قيل: كونوا أنصاره كوقت قول عيسى هذه المقالة، وجيء بحديث سؤاله عن الناصر وجوابهم فهو نظير كاليوم في قولهم: كاليوم رجل أي كرجل رأيته اليوم فحذف الموصوف مع صفته، واكتفى بالظرف عنهما لدلالته على الفعل الدال على موصوفه، وهذا من توسعاتهم في الظروف، وقد جعلت الآية من الاحتباك، والأصل كونوا أنصار الله حين قال لكم النبي صلّى الله عليه وسلم: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ كما كان الحواريون أنصار الله حين قال لهم عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فحذف من كل منهما ما دل عليه المذكور في الآخر، وهو لا يخلو عن حسن، والْحَوارِيُّونَ أصفياؤه عليه السلام، والعدول عن ضميرهم إلى الظاهر الاعتناء بشأنهم، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا فرقهم- على ما في البحر- عيسى عليه السلام في البلاد، فمنهم من أرسله إلى رومية، ومنهم من أرسله إلى بابل، ومنهم من أرسله إلى إفريقية، ومنهم من أرسله إلى أفسس، ومنهم من أرسله إلى بيت المقدس، ومنهم من أرسله إلى الحجاز، ومنهم من أرسله إلى أرض البربر وما حولها وتعيين المرسل إلى كل فيه، ولست على ثقة من صحة ذلك ولا من ضبط أسمائهم، وقد ذكرها السيوطي أيضا في الإتقان فليلتمس ضبط ذلك في مظانه، واشتقاق الحواريين من الحور- وهو البياض- وسموا بذلك لأنهم كانوا قصارين، وقيل:
285
للبسهم البياض، وقيل: لنقاء ظاهرهم وباطنهم، وزعم بعضهم أن ما قيل: من أنهم كانوا قصارين إشارة إلى أنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم، وما قيل: من أنهم كانوا صيادين إشارة إلى أنهم كانوا يصطادون نفوس الناس من الحيرة ويقودونهم إلى الحق.
وقيل: الحواريون المجاهدون،
وفي الحديث «لكم نبي حواري وحواريي الزبير»
وفسر بالخاصة من الأصحاب والناصر، وقال الأزهري: الذي أخلص ونقي من كل عيب، وعن قتادة إطلاق الحواري على غيره رضي الله تعالى عنه أيضا، فقد قال: إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي بعيسى عليه السلام وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أخرى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ وهم الذي كفروا فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ فصاروا غالبين قال زيد بن علي وقتادة: بالحجة والبرهان، وقيل: إن عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء قالت طائفة من قومه: إنه الله سبحانه، وقالت أخرى: إنه ابن الله- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- رفعه الله عز وجل إليه، وقالت طائفة: إنه عبد الله ورسوله فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فظهرت المؤمنة على الكافرتين، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: اقتتل المؤمنون والكفرة بعد رفعه عليه السلام فظهر المؤمنون على الكفرة بالسيف، والمشهور أن القتال ليس من شريعته عليه السلام، وقيل: المراد فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بمحمد عليه الصلاة والسلام وكفرت أخرى به صلّى الله تعالى عليه وسلم فأيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين وهو خلاف الظاهر والله تعالى أعلم.
286
Icon