اللغَة:
﴿العدة﴾ المدة التي تحتبس فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها
﴿أَحْصُواْ﴾ اضبطوا بطريق العَدَد
﴿حَسْبُهُ﴾ كافية
﴿وُجْدكم﴾ طاقتكم ووسعكم
﴿ارتبتم﴾ شككتم
﴿كَأِيِّن﴾ كثير
﴿عَتَتْ﴾ تكبرت وتجبرت وأعرضت
﴿نُّكْراً﴾ منكراً شنيعاً وفظيعاً
﴿خُسْراً﴾ خساراً وهلاكاً.
سَبَبُ النّزول: أروى البخاري أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتغيَّظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: ليراجِعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإِن بدا له أن يطلِّقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عَزَّ وَجَلَّ.
ب وروي عن أنس قال طلّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى {يا أيها
374
النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فقيل له: راجعْها فإِنها صوَّامة قوَّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
ج وروي أنه لما نزل قوله تعالى
﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ ﴿البقرة: ٢٢٨] قال جماعة من الصحابة يا رسول الله: فما عدة لا قرء لها من صغر أو كِبَر فنزلت {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ..﴾ الآية.
التفسِير:
﴿ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ الخطابُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحكم عام له ولأمته، وخصَّ هو بالنداء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعظيماً له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم قال القرطبي: الخطابُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوطب بلفظ الجماعة
﴿طَلَّقْتُمُ﴾ تعظيماً وتفخيماً والمعنى: يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء
﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي فطلقوهن مستقبلاتٍ لعدتهن، وذلك في الطهر، ولا تطلقوهن في الحيض قال مجاهد: أي طاهراً من غير جماع لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء» قال المفسرون: وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر
﴿وَأَحْصُواْ العدة﴾ أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب
﴿واتقوا الله رَبَّكُمْ﴾ أي خافوا الله ربَّ العالمين، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه
﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ أي لا تخرجوهن من مساكنهم، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن
﴿وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن، إِلا إِذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها قال في التسهيل: نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل: إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويؤيده قراءة
«إِلا أن يفحشن عليكم» ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله﴾ أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه
﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أي ومن يخرج عن هذه الأحكام، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا
375
يأتمر بها، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه قال الرازي: وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة
﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ أي لا تعرف أيها السامع ماذا يحدث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، والمحبة لرجعتها في العدة
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن قال المفسرون: الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق، والمتعة عند الطلاق، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها
﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة، شخصين من أهل العدالة والاستقامة من تثقون في دينها وأمانتها قال في البحر: وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى
﴿وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة
﴿وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ﴾ أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه
﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ أي هذا الذي شرعناه من الأحكام، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة
﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده، يجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال: إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس!! والله تعالى يقول
﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك وقال المفسرون: الآية عامة وقد
«نزلت في» عوف بن مالك الأشجعي
«أسر المشركون ابنه، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشكا إِليه الفاقة وقال: إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له: اتق الله واصبر، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول» لا حول ولا قوة إِلا بالله «ففعل هو وامرأته، فينا هو في بيته إِذ قرع ابنه الباب، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها
376
العدو فاستاقها» فنزلت
﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أي ومن يعتمد على الله، ويثقْ به فيما أصابه ونابه، فإِن الله كافيه قال الصاوي: أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب، وفي الحديث
«لو توكلتم على الله حقَّ توكله لزرقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» ﴿إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ أي نافذُ أمره في جميع خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل: وهذا حضُّ على التوكل وتأكيدٌ له، لأن العبد إِذا خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل: وهذا حضٌ على التوكل وتأكيدٌ له، لأ، العبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله، توكَّل على الله وحده ولم يعوِّل على سواه
﴿قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ أي قد جعل اله لكل أمرٍ من الأمور، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، حسب الحكمة الأزلية قال القرطبي: أي جعل لكل شيءٍ من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إِليه.. ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال
﴿واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم﴾ أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ، إِن شككتم وجهلتم كيف عدتهن؟ فهذا حكمهن
﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ﴾ أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة
﴿واللائي لَمْ يَحِضْنَ﴾ أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر
﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقة، أو متوفى عنها زوجها
﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ أي ومن يخضى الله في أقواله وأفعاله، ويجتنب ما حرَّم الله عليه، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير
﴿ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾ أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به، وتعملوا بمقتضاه
﴿وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرا﴾ أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه، ويضاعف له الأجر والثواب قال الصاوي: كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى وقال في البحر: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء
﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل﴾ الآية
﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ﴾ أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها، على قدر طاقتكم ومقدرتكم، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة
﴿وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ﴾ أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء
﴿وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ﴾ أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً
﴿فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ أي فعلى الزوج أن ينفق عليها ولو طالت مدة الحمل حتى تضع حملها
﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده
﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، لأن الأولاد ينسبون
377
إِلى الآباء قال في التسهيل: والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن
﴿وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير، من المسامحة والرفق والإِحسان، قال القرطبي: أي وليْقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والمعروف منها: إِرضاعُ الولد من غير أجرة، والمعروف منه: توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع
﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ﴾ أي تضايقتم وتشددتم، وعسر الاتفاق بين الزوجين، فأبى الزوج أن يدفع أن يدفع لها ما تطلب، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر
﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى﴾ أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها وهو خيرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى قال أبو حيان: وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها: سيقضيها غيرك، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم قال الضحاك: إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر
﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾ هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى: لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير، على قدر وسعة وطاقته، قال في التسهيل: وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً وعسراً
﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية
﴿فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله﴾ أي فلينفق على مقدار طاقته، وعلى قدر ما آتاه الله من المال
﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا﴾ أي لا يكلف الله أحداً إِلا قدر طاقته واستطاعته، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني قال أبو السعود: وفيه تطييبٌ لقلب المعسر، وترغيبٌ له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك الوعد بقوله
﴿سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى، وبعد الشدة السعة والرخاء، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم.
. ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال
﴿وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة
﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ﴾ أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله
﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً﴾ أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال
﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً﴾ أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور
﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله
﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً﴾ أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار، والخسران الذي ما بعده خسران.. ولّما ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية، أمر المؤمنين بتقوى الله، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال
﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد
﴿فاتقوا الله ياأولي الألباب﴾ أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة
﴿الذين آمَنُواْ﴾ أي أنت يا معشر المؤمنين الذي صدقتم بالله ورسوله {قَدْ أَنزَلَ الله
378
إِلَيْكُمْ ذِكْراً} أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم
﴿رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ﴾ أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ عليكم آياتِ الله، واضحات جليات، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام قال في البحر: والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
﴿لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي ليخرج المؤمنين المتقين، من الضلالة إِلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم
﴿وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً﴾ أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته
﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي يدخله في الآخرة جنات النعيم، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة
﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي ماكثين في تلك الجنات جنان الخلق أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون
﴿قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً﴾ أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم، لأن نعيمها دائم لا ينقطع قال الطبري: أي وسَّع لهم في الجنات الرزق، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب.
. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وعظيم سلطانه وجلاله فقال
﴿الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سمواتٍ طباقاً، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السموات
﴿يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ﴾ أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السموات والأرضين
﴿لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ
﴿وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ أي ولتعلموا أنه تعالى عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ﴾ وكذلك
﴿بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾.
٢ - الإِظهار في موضع الإِضمار للتهويل
﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله﴾.
٣ - الالتفات لمزيد الاهتما
﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ ورد بطريق الخطاب والأصل أن يكون بطريق الغائب
«لا يدري».
٤ - إيجاز الحذف
﴿واللائي لَمْ يَحِضْنَ﴾ حذف منه الخبر أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً.
379
٥ - تكرار الوعيد للتفظيع والترهيب
﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ الآية.
٦ - المجاز المرسل
﴿وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ يراد بها أهل القرية من باب تسمية الحال باسم المحل.
٧ - الاستعارة اللطيفة
﴿لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ استعار الظلمات للضلال والكفر، واستعار النور للهدى والإيمان، وهو من روائع البيان، وجلال تعبير القرآن.
٨ - السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل
﴿قد جعل الله لكل شيء قدراً.. يجعل له من أمره يُسراً.. ويُعظم له أجراً.. وكان عاقبةُ أمرهها خُسراً﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية.
380