ﰡ
وهي مكية. وآياتها تسع وعشرون آية، وقد تضمنت الكلام على البعث بذكر مقدماته. وما يكون فيه، ثم القسم المؤكد على أن القرآن حق أوحى به إلى محمد على لسان جبريل الأمين. وما كان محمد بمجنون ولا متهم.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤)
المفردات:
كُوِّرَتْ: لفت مثل تكوير العمامة، أى: لفها، والمراد: اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها. انْكَدَرَتْ: انتثرت وتساقطت. سُيِّرَتْ: أزيلت عن أماكنها بالرجفة. الْعِشارُ: هي السحاب، وتعطيلها: منعها من حمل الماء، وقيل: هي النياق أتى على حملها عشرة أشهر. وهي من كرائم المال، وتعطيلها:
إهمالها. حُشِرَتْ: جمعت. سُجِّرَتْ: ملئت بالنار بعد أن غاض ماؤها.
زُوِّجَتْ: زوجت الأرواح بأبدانها وعادت إلى أجسامها. الْمَوْؤُدَةُ: هي
أُزْلِفَتْ: قربت وأدنيت.
المعنى:
ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بذكر علامات ودلائل تكون يوم القيامة. بعضها سابق عليه وبعضها يكون فيه، وعلى العموم فمقدمات البعث تكون بخراب الدنيا واختلال نظامها وهلاك كل من فيها، وذلك عند النفخة الأولى، في هذا الوقت تكور الشمس وتلف حتى لا يكون لها ضوء أو حرارة، والنجوم تتناثر وتسقط، وترجف الأرض وتضطرب فتزول الجبال من أماكنها، وتصبح كالعهن المنفوش، عند ذلك يملأ الخوف والاضطراب كل الكون، فلو فرض وكانت حياة عندئذ يذهل كل إنسان عن أعز شيء لديه، فتراه يهمل عشاره وكرائم ماله، بل تذهل كل مرضعة عما أرضعت لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»
وترى الوحوش قد جمعت من كل مكان وأصبحت في صعيد واحد، والبحار سجرت بالزلازل حتى اختلطت وضاعت الحواجز بينها، وتعود بحرا واحدا، ويكون التسجير: معناه امتلاؤها بالماء. ولعل المراد بالتسجير هنا: ملؤها بالنار بدل الماء، ولا غرابة فباطن الأرض شديد الحرارة جدا بدليل البراكين التي تخرج منه، وليس ببعيد عند انتهاء الدنيا، أن تتشقق الأرض ويغيض الماء لتبخره، ثم يمتلئ البحر بالنار التي تخرج من باطن الأرض، تلك هي مقدمات البعث الأولى، وبعدها يكون البعث والحياة والنشور وهذا عند النفخة الثانية، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [سورة الزمر آية ٦٨].
هذه هي أولى مراحل البعث ذكرت بعد مقدماته، وإذا النفوس عادت إلى أبدانها، بعد أن كانت بعيدة عنها، وكانت الحياة الثانية لأجل البعث، وفيه يؤتى بالموءودة التي دفنت حية خوف الفقر أو العار، وتلك كانت عادة من عادات العرب في الجاهلية، فجاء الإسلام وحاربها وقضى عليها، واستبدل من أولئك الأعراب الذين كانوا يئدون
هذه الموءودة تسأل: لأى ذنب قتلت؟! لم يكن لها ذنب- علم الله- وهذا سؤال للتبكيت والتوبيخ والتسجيل عليهم، وإذا الصحف التي كتبت فيها الأعمال، وسجل فيها ما اقترفه كل إنسان، نشرت ليقرأ كل إنسان كتابه، ويعرف عمله وحسابه، وإذا السماء كشطت وأزيلت فلم يعد لها وجود. والظاهر- والله أعلم- أن المراد بكشط السماء هو رفع الحجاب فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «١» فترى كل نفس عند ذلك عملها، وتقوم عليها شهودها، فتبصر ما لم تكن تبصره من قبل، وإذا الجحيم سعرت وأحميت نارها وأوقدت، وإذا الجنة أزلفت وقربت وقدمت للمتقين.
وإذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت... إلخ ما ذكر هنا من الأمور الاثنى عشر. وجواب هذا الشرط قوله: علمت نفس ما أحضرت، أى: إذا حصل هذا- ما ذكر- علمت نفس ما قدمت من عمل إن كان خيرا فجزاؤه خير، وإن كان شرّا فجزاؤه شر.
وقد فصل هنا ما أجمل في سورة «ق» عند بيان ما يسبق الحساب فقال هناك:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وقال هنا: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله:
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وهنا أجمل في ذكر ما يحصل يوم الحساب حيث اكتفى بسؤال الموءودة، وتسعير جهنم. وتقريب الجنة، وفي سورة «ق» فصل كثيرا حيث قال:
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ...... إلخ. الآيات.
اعتاد العرب في كلامهم أنهم إذا أقسموا على إثبات أمر واضح ظاهر، قالوا:
لا أقسم إشارة إلى أنه لا يحتاج إلى قسم، وقيل: إنه يؤتى بلا في القسم إذا أريد تعظيم المقسم به على ما فصلناه عند قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «٢» وعلى ذلك يمكننا أن نفهم قوله تعالى هنا: فلا أقسم بالخنس.
(٢) - سورة القيامة الآية الأولى
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١٥ الى ٢٩]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
المفردات:
بِالْخُنَّسِ: جمع خانس، وهو المنقبض المستتر. الْكُنَّسِ: جمع كانس، أو كانسة، وأصله من قولهم: كنست الظبية: إذا دخلت الكناس وهو مكانها ومأواها، ومنه قولهم: كنست المرأة: إذا دخلت هودجها، والمراد: الكواكب التي تظهر في أفلاكها للعين ليلا تشبيها لها بالمرأة إذا ظهرت في هودجها، أو الظبية إذا ظهرت في كناسها. عَسْعَسَ: أقبل بظلامه. تَنَفَّسَ: ظهر وامتد حتى صار نهارا بينا. ذِي قُوَّةٍ: صاحب قوة في الجسم وغيره. مَكِينٍ: صاحب مكانة. صاحِبُكُمْ: هو الرسول عليه السلام. بِضَنِينٍ أى: بمتهم، أو ببخيل. رَجِيمٍ: ملعون. ذِكْرٌ: عظة وعبرة.
المعنى:
فلا أقسم بالكواكب المتخفية عن العين نهارا، الجواري لكي تظهر في أفلاكها ليلا كالظباء في كناسها، لا أقسم بهذا على أنه قول رسول كريم لظهور ذلك للعيان فلا
فأين تذهبون «٣» وأى طريق تسلكون؟ وأية حجة تقولون؟ بعد أن سدت عليكم كل الطرق وأقيمت عليكم الحجج والبراهين، وبطلت جميع المفتريات التي تفترونها.
ما هذا القرآن إلا ذكر وتذكرة وموعظة وعبرة، عظة للعالمين لمن شاء أن يستقيم على الجادة ويسير على سواء السبيل، والمعنى أن من شاء الدخول في الإسلام- لمن شاء منكم أن يستقيم- هو الذي ينتفع بهذا الذكر الحكيم، أما غيرهم فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فلا يمكن أن يروا نور الحق، ولا أن يهتدوا بنور القرآن.
ولكن هل مشيئة العباد مطلقة غير خاضعة لأية قوة أو مشيئة أخرى؟ الجواب: إن إرادتكم الخير خاضعة لإرادة الله ولا تكون إلا بعد مشيئة الله رب العالمين، فهو سبحانه
(٢) سورة النجم آية ٦.
(٣) هذا الاستفهام للإنكار، والتعجيز.
ولما كان رب العالمين وكان ما نحهم كل ما يتمتعون به كانت إرادة البشر مستندة إلى إرادة الله، وهذا معنى قوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فمشيئة العبد في دائرة صغيرة هذه الدائرة داخلة في دائرة مشيئة الله الكبرى.
بقيت كلمة أخرى في إقسام الله بالكواكب الخنس والكنس، وبالليل والصباح أو بالشمس والقمر أو غير ذلك، والظاهر أن هذا القسم للفت الأنظار إلى تلك الأشياء، وأنها دلائل على قدرة الله وبديع نظامه في الكون، ثم جاءت صفات لها كالخنس والكنس توبيخا لمن يعبد الكواكب ببيان بعض صفاتها التي يستحيل معها أن تكون آلهة بل هي مخلوقة متغيرة متحولة من حال إلى حال، مصرفة يصرفها المولى- جل جلاله- والله أعلم.