وآياتها خمس
كلماتها : ٣٠ ؛ حروفها : ١٢٠
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ( ١ ) وما أدراك ما ليلة القدر ( ٢ ) ليلة القدر خير من ألف شهر ( ٣ ) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ( ٤ ) سلام هي حتى مطلع الفجر ( ٥ ) ﴾
رفع الله تعالى قدر الكتاب العزيز، وأعلى ذكر الشهر الذي نزل فيه، والليلة التي أنزل فيها، فالكتاب مبارك كثير الخيرات، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والشهر خير شهور العام ﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.. ﴾١، ولكأنما فرض المولى صيام نهاره، وسن قيام ليله تثبيتا لصبغة القرآن التي نودي للاصطباغ بها أهل الإيمان، بل هي دعوة البر الرحيم لكل بني الإنسان، بل لكافة أولي الحجا والجنان، من ملائكة أو جان ؛ فاستيقنوا أن الليلة التي أنزلنا فيها هذا الذكر الحكيم ليلة شرف وعزة- عز المنزل، فنسخ سائر الكتب، ولا ينسخه غيره ؛ وعز المستمسكون بشرعته ومنهاجه :﴿ فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم. وإنه لذكر لك ولقومك.. ﴾٢، وعز من رآه السميع البصير سبحانه في هذا الشهر وفي هذه الليلة صائما قانتا، راكعا ساجدا، ذاكرا عابدا متهجدا، ﴿... يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.. ﴾٣ ؛ فاستيقنوا أنا نحن- لا وأنا- ﴿ أنزلناه ﴾، والضمير هذا يعود على القرآن العظيم، وإن لم يسبق له هاهنا ذكر، للعلم به، حيث جاء في سورة كريمة أخرى :﴿ حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه.. ﴾٤ ؛ وهل المراد : بدأنا إنزاله ﴿ في ليلة القدر ﴾ ؟ فيكون مجازا، ذكر الكل والمراد البعض وجزء منه ؟ أم المراد : أنزلناه جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل به ملك الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم نجوما متفرقا حسب الأحوال ؟ ! يشهد لهذا الرأي الثاني قول الله الحق- تبارك وتعالى- :﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ﴾٥ وكذا قوله عز شأنه :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ﴾٦ ؛ والجمهور على ذلك، فقد صح عن ابن عباس : أن القرآن أنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة ؛ وابن حجر في شرح البخاري قال : والصحيح المعتمد أنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ؛ بل حكى بعضهم الإجماع عليه.
﴿ ليلة القدر ﴾ : قال الزهري وغيره : إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها ؛ من قولهم : لفلان قدر، أي شرف ومنزلة ؛ وقال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها ؛ وقيل : ليلة الحكم والتقدير، روى عن ابن عباس وغيره : إنه يقدر فيها ويقضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، والمراد إظهار تقديره تعالى ذلك للملائكة- عليهم السلام- المأمورين بالحوادث الكونية، وإلا فتقديره تعالى جميع الأشياء أزلي قبل خلق السماوات والأرض٧.
﴿ وما أدراك ما ليلة القدر ﴾ الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والمراد- ولله أعلم- أمته، وكل من يصلح للخطاب، وما علمك ما ليلة القدر ؟
﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ الضمير عند الجمهور للقرآن... وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره وتعظيم له أي تعظيم لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه، كأنه حاضر عند كل أحد... وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين، وتأكيد الجملة... وكذا تفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى :﴿ وما أدراك ما ليلة القدر ﴾ لما فيه من الدلالة على أن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق، ولا يعلم ذلك ويعلم به إلا علام الغيوب، كما يشعر به قوله سبحانه :﴿ ليلة القدر خير من ألف شهر ﴾ فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه عليه الصلاة والسلام إلى درايتها، فإن ذلك معرب عن الوعد بإدرائها، وعن سفيان بن عيينة : إن كل ما في القرآن من قوله تعالى ﴿ ما أدراك ﴾ أعلم الله تعالى به نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، وما فيه من قوله سبحانه :﴿ ما يدريك ﴾ لم يعلم عز وجل به٢-
وخيرية ليلة القدر- كما قال كثير من المفسرين – تعني : العمل والطاعة والعبادة فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
[ وقيل : عنى بألف شهر جميع الدهر ؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء ؛ كما قال تعالى :﴿... يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.. ﴾٨ يعني : جميع الدهر... وقال ابن مسعود : إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك ؛ فنزلت :﴿ إنا أنزلناه ﴾ الآية.
﴿ خير من ألف شهر ﴾ التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله.. وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره : سمعت من أثق به يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ؛ فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر ]. ٩
﴿ بإذن ﴾ بأمر.
﴿ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر( ٤ ) ﴾ تنزل الملائكة عليهم السلام ويهبطون من سماواتهم التي يسكنونها [ ومن سدرة المنتهى ]١. ويهبط معهم جبريل، فينزلون إلى الأرض [ ويؤمنون على دعاء الناس ]١. ويفيضون الرحمة بإذن ربنا العلي الأعلى، على الذين سبقت لهم الحسنى- نسأل الله أن يجعلنا منهم- بكل أمر قضاه المولى الحكيم في تلك السنة إلى قابل- كما قال ابن عباس : كقوله تعالى :﴿ .. يحفظونه من أمر الله.. ﴾١ أي بأمر الله.
﴿ والروح ﴾ عن الجمهور، هو جبريل عليه السلام، وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل بالذكر٢- وقيل : بكل أمر من الخير والبركة.
٢ -ما بين العارضتين من روح المعاني.
﴿ سلام هي حتى مطلع الفجر ﴾ هي ليلة يهب الله تعالى من أكرموا فيها سلاما من كل مخوف، فهي من أقوى أسباب السلامة والنجاة من أهوال الآخرة وعذابها، وفزعها وخزيها، وكل الليلة رحمة وسلام من بدايتها حتى انتهائها، بطلوع فجر اليوم التالي لها ؛ والجمهور على أنها في كل رمضان١ ؛ روى البخاري عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى "، فسره كثيرون بليالي الأوتار، وهو أظهر وأشهر٢. ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر "، وفيهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ". وروى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال : " خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ". يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : وجه الدلالة منه أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين لما حصل لهم بعينها في كل سنة، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلا ذلك العام فقط، اللهم إلا أن يقال : إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط، وقوله : " فتلاحى فلان وفلان فرفعت " فيه استئناس لما يقال : إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع، كما جاء في الحديث : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه "، وقوله : " فرفعت " أي رفع علم تعيينها لكم، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود كما يقول جهلة الشيعة، لأنه قد قال بعد هذا : " فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة "، وقوله : " وعسى أن يكون خيرا لكم " يعني عدم تعيينها لكم، فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها، فكان أكثر للعبادة، بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط، وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها، ويكون الاجتهاد في العشر الآخر أكثر ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده، أخرجاه- البخاري ومسلم – من حديث عائشة ؛ ولهما عن ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ؛ وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر. أخرجاه. ولمسلم عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره، ... والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات ؛ وفي شهر رمضان أكثر، وفي العشر الأخيرة منه، ثم في أوتاره أكثر ؛ والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء : " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني "... عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ! أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : " قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني :"، وهذا لفظ الترمذي، ثم قال : هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الحاكم من مستدركه، وقال : هذا صحيح على شرط الشيخين. اه٣.
٢ - روى الإمام أحمد- بسنده- عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة) وروى الترمذي والنسائي. بسنديهما- عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس ييقين أو ثلاث أو آخر ليلة) يعني التمسوا ليلة القدر؛ وقال الترمذي: حسن صحيح.
٣ - أورد جمع من المفسرين كلاما طويلا، سموا جانبا منه آثارا، وجانبا سموه أحاديث، أوردها بعضهم وسكت عنها، وبعضهم يقول بعد إيراد الواحد منها: ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدا؛ هذا من حيث النقل، أما من حيث العقل فالذي رووه سيق لذم دولة بني أمية؛ فأية مناسبة بين ليلة القدر وبين دولة بني أمية؟! إن تفضيل ليلة القدر على دولتهم لا يدل على ذم أيامهم! إذ كيف تمدح ليلة لها الشرف الرفيع بتفضيلها على أيام عنوا ذمها؟ إنهم كالذي عجب منه الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟!
يقول ابن كثير: ثم الذي يفهم من الآية أن الألف شهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية، والسورة مكية، فكيف يقال على ألف شهر هي دولة بني أمية، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها؟! والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة، فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته؛ والله أعلم؛ وبعض الآثار التي سيقت يعنون عنه مورده بهذا العنوان: ذكر أثر غريب ونبأ عجيب يتعلق بليلة القدر؛ ويطول هذا الأثر حتى يربو على الستمائة كلمة! ألا إن السنة الصحيحة تشفى وتكفي، ؛ ولقد عظمت منة الله تعالى علينا بالكتاب العزيز: ﴿.. ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾، فحبسبنا كتاب الله، والصحيح من حديث رسول الله؛ والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى..