﴿ بسم الله ﴾ الذي لا يخرج شيء عن مراده ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بنعمه جميع عباده ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بإسعاده.
ﰡ
﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾ أي : في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال ﴿ من أهل الكتاب ﴾ أي : من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول، فكذبوا. ﴿ والمشركين ﴾ أي : بعبادة الأصنام والنار والشمس، ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق، بأن لم يكن لهم كتاب.
تنبيه : من للبيان. وقوله تعالى :﴿ منفكين ﴾ خبر يكن، أي : منفصلين وزائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا تبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً من فك الكتاب والختم والعظم إذا أزيل ما كان ملتصقاً أو متصلاً به، أو عن الموعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به، فإنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون به، والمشركين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم.
فإن قيل : لِمَ قال تعالى :﴿ كفروا ﴾ بلفظ الماضي، وذكر المشركين باسم الفاعل ؟
أجيب : بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف المشركين، فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان، وذلك يدل على الثبات على الكفر.
وقوله تعالى :﴿ حتى ﴾ أي : إلى أن ﴿ تأتيهم البينة ﴾ متعلق بيكن أو بمنفكين، والبينة الآية التي هي البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا طوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب، وهو القرآن.
ونظيره : قوله تعالى حين أثنى على نفسه :﴿ ذو العرش المجيد ١٥ فعال لما يريد ﴾ [ البروج، الآيتان : ١٥ ١٦ ] فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم : المراد من البينة مطلق الرسول، وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الإنجيل أو القرآن، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي : لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي : حتى أتتهم البينة، وتبعه على ذلك الجلال المحلى. وقوله تعالى :﴿ يتلو صحفاً ﴾ صفة الرسول، أو خبره، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أمّياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل : المراد جبريل عليه السلام، وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي : القرطاس، والمراد فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة ﴿ مطهرة ﴾ أي : في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وأنها لا يمسها إلا المطهرون.
ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين، وموضع التجرّد عن العوائق، فقال عز من قائل :﴿ ويقيموا ﴾ أي : يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود ﴿ الصلاة ﴾ لتصير بذلك أهلاً بأن تقوم بنفسها، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى.
ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى :﴿ ويؤتوا الزكاة ﴾ أي : يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين، أي : ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ [ البقرة : ٣ ]. ﴿ وذلك ﴾ أي : والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور ﴿ دين القيمة ﴾ أي : الملة المستقيمة، وأضاف الدين إلى القيمة، وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث القيمة ردّاً بها إلى الملة. وقيل : الهاء للمبالغة فيه. وقيل : القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها، أي : وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به، كما قال تعالى :﴿ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ]. وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى :﴿ وذلك دين القيمة ﴾ فقال : القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد. قال البغوي : ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد.