بسم الله الرحمن الرحيم
٩٨- سورة البينةويقال : سورة القيمة، وسورة المنفكين، وسورة البرية، وعدد آياتها ثمان، وهي مدنية على الأصح. روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك ﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾ قال : وسماني لك ؟ قال : نعم، فبكى " ورواه البخاري ومسلم١، وفي رواية الإمام أحمد٢ عن أبي حبة البدري قال :" لما نزلت ﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾ قال جبريل : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة. قال أبي : وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال : نعم. قال : فبكى أبي ".
٢ أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٤٨٩ من الجزء الثالث..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البيّنةويقال سورة القيمة. وسورة المنفكين. وسورة البرية. وعدد آياتها ثمان وهي مدنية على الأصح.
روى الإمام أحمد بن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ لأبيّ ابن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال: وسمّاني لك، قال: نعم. فبكى. ورواه البخاري ومسلم «١».
وفي رواية الإمام أحمد «٢» عن أبي حبّة البدريّ قال: لما نزلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال جبريل: يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا. فقال النبيّ ﷺ لأبيّ: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة. قال أبيّ: وقد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فبكى أبيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوة النبيّ صلوات الله عليه بعنادهم، بعد ما تبينوا الحق منها مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى الذي عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته، لم يكونوا هم وَالْمُشْرِكِينَ أي وثنيّ العرب مُنْفَكِّينَ أي عن غفلتهم وجهلهم بالحق، ووقوفهم عند ما قلدوا فيه آباءهم، ولا يعرفون من الحق شيئا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي الحجة القاطعة المثبتة للمدعي، وهي هنا النبيّ ﷺ فمجيئه هو الذي أحدث هذه الرجة فيما رسخ من عقائدهم وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومناكرتهم بأنه كان شيئا معروفا لهم، يصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحق أن يتبع. فإن ما هم فيه أجمل وأبدع. ومتابعة الآباء
(٢) أخرجه في المسند ٣/ ٤٨٩.
أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم. وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه. فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب. ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل. لكن هذه البينة لم تفدهم شيئا فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر. وكان ذلك بغيا منهم، واستمرارا في المراد، وإصرارا على ما قاد إليه الهوى. وهذا هو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (٩٨) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي على ألسنة أنبيائهم. فهكذا كان شأنهم في النبيّ ﷺ جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم.
بتفرقهم فيها، وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها. فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا، فما ظنك بالمشركين، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قيادا للهوى،
أو دين الأمة القيمة المستقيمة. ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها. وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى.
وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وإن يصلوا عباد الله بزكاتهم. فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويحلّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس، تسلط الإنصاف عليها، فسادت فيها الوحدة، ولم تطرق طرقها الفرقة. هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب. فما نقول في حالنا؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا، في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعا، وملأناه محدثات وبدعا؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبيّ ﷺ عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن مِنْ في قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبعيض. وأن معنى (لم يكونوا منفكين) :
أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم، فيقع الزلزال في عقائدهم، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها، حتى تأتيهم البينة. ويجوز أن يكون المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا والله أعلم، أولئك الذين جحدوا شيئا من دين الله تعالى عند ما جاءهم. ولم ينظروا في دليله. أو أعرضوا عنه بعد ما عرفوا دليله سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب. وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا. فأراد الله أن يذكر منته على من آمن من هؤلاء. فبين أن الذين كفروا، أي جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب، لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر، فيؤمنوا. فما أعظم فضل الله عليهم في إرسال رسوله إليهم!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (٩٨) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالله ورسوله محمد ﷺ فجحدوا نبوّته مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي شر من برأه الله وخلقه. قال الإمام: لأن منكر الحق، بعد معرفته وقيام الدليل عليه، منكر في الحقيقة لعقل نفسه، مهلك لروحه، جالب الهلاك لغيره.
لطائف:
الأولى- دلت هذه الآية والتي قبلها على أن عنوان (المشركين) لا يتناول أهل الكتاب في عرف القرآن، بل هو خاص بالوثنيين. أعني من يدينون بالإشراك وتعدد الأرباب، فأهل الكتاب- وهم اليهود والنصارى- لا يتناولهم ذلك العنوان وإن دخل في عقائدهم الشرك. لأنه دخيل لا أصيل. ولذلك ينفرون من وصمة الشرك. وبسببه حل النكاح منهم دون الوثنيين.
الثانية- قال ابن جرير: العرب لا تهمز البرية. وبترك الهمزة فيها قرأتها قراء الأمصار، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم. فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها.
وذهب بها إلى قول الله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها وأنها فعلية من ذلك. وأما الذين لم يهمزوها، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك، وهو مفعل، من (ألك) أو (لأك) ومن (يرى) و (ترى) و (نرى)، وهو (تفعل) من رأيت. والآخر أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعيلة من (البراء) وهو التراب. حكي عن العرب سماعا فقيل (بفيك البراد) يعني به التراب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (٩٨) : الآيات ٧ الى ٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
ذلِكَ أي هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خاف الله في الدنيا. في سره وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.
قال الإمام: أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس، بل الخاصة كذلك. وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة، وتقليد الأبوين، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام، وأداء بعض العبادات، كحركات الصلاة وإمساك الصوم، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء. وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء. وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء. بل ولمن دون الأمراء. خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء- كلا لا ينالون حسن الجزاء. فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم. ولهذا لم تهذب من نفوسهم. ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه، وأشعر خوفه قلبه. والله أعلم.