هذه السورة مكية وعدد آياتها ١٣٥، وكلها نزلت بمكة، وقيل إلا آية ١٢، ١٣، وقد ابتدأت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى ما أنزل عليه القرآن ليشقى بتحمل أعباء الكافرين في كفرهم، وليس هو إلا مذكر، والقرآن تنزيل من قوى قاهر خلق السماوات العلا، وهو المسيطر على هذا الوجود. ﴿ الرحمن على العرش استوى ٥ ﴾ وهو يعلم كل شيء، ﴿ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ٧ ﴾.
وقد تحدث سبحانه بحديث موسى عليه السلام في بعثه وخطاب الله تعالى له، وقد رأى نارا ﴿ فلما أتاها نودي يا موسى ١١ إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ١٢ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ١٣ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ١٤ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ١٥ ﴾، وبذلك أخبره باختياره نبيا ونبهه إلى معجزته الأولى وهي العصا، قال :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ١٧ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ١٨ قال ألقها يا موسى ١٩ فألقاها فإذا هي حية تسعى ٢٠ ﴾ وأمره أن يأخذها ولا يخاف، وأعقبها بمعجزة أخرى فقال :﴿ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى، ٢٢ لنريك من آياتنا الكبرى ٢٣ ﴾.
كلفه بعد أن رأى هاتين الآيتين أن يدعو فرعون إلى الهدى فقال سبحانه :﴿ اذهب إلى فرعون إنه طغى ٢٤ ﴾ ولكن موسى الكليم يحس بضعفه، وأنه لا يحسن القول فيقول :﴿ رب اشرح لي صدري ٢٥ ويسّر لي أمري ٢٦ واحلل عقدة من لساني ٢٧ فقهوا قولي ٢٨ واجعل لي وزيرا من أهلي، ٢٩ هارون أخي ٣٠ اشدد به أزري ٣١ وأشركه في أمري ٣٢ كي نسبحك كثيرا ٣٣ ونذكرك كثيرا ٣٤ إنك كنت بنا بصيرا ٣٥ ﴾ ويجيبه الله ﴿... قد أوتيت سؤلك يا موسى ٣٦ ولقد مننا عليك مرة أخرى ٣٧ ﴾، ولقد أشار سبحانه إلى منته الأولى عند ولادته إذ ألهم أمه ﴿ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ٣٩ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن... ٤٠ ﴾، ويذكر سبحانه بعض قصصه قبل الرسالة وقتله المصري وفتنته ببني إسرائيل، ويشير سبحانه إلى قصته في أهل مدين ﴿ فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ٤٠ واصطنعتك لنفسي ٤١ ﴾.
وقد أمره سبحانه أن يذهب هو وأخوه إلى فرعون، وأن يترفقا معه في القول ﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ٤٤ ﴾، ولكنهما يخشيانه لسطوته وجبروته واستهانته بكل إنسان، وهكذا يبرر سكوت الناس عن الطغاة واستنكار أعمالهم بالقلوب، ولقد قال الله تعالى لهما :﴿ فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ٤٧ ﴾ أمرهما بأن يخبراه بوحي الله تعالى :﴿ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذّب وتولّى ٤٨ ﴾، أخذ فرعون يجادلهما، وسألهما من ربكما ؟ قالا : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وسألهما : فما بال القرون الأولى ؟ قالا : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، وأخذا يعرفان فرعون بكمال الله تعالى في خلقه وبيان قدرة الله تعالى في الخلق والإعادة ﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ٥٥ ﴾.
ولقد أراه الله تعالى على يد موسى وهارون الآيات الكبرى، وكانت كلها حسّية ولكنه لم يؤمن، وحسب أن موسى جاء لينزع ملك فرعون، لا ليهديه، وكذلك كان يستعين الفراعنة الذين حكموا مصر في عصور النور :﴿ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ٥٧ فلنأتيك بسحر مثله... ٥٨ ﴾، وجعلوا بينه وبينهم موعدا، وقد وافق موسى على أن يكون الموعد هو يوم الزينة يوم يحشر الناس ضحى.
التقى موسى بالسحرة فتبين للسحرة أن موسى ليس ساحرا، وأن معجزة موسى أعجزت السحرة فآمنوا، ولكن فرعون بدل أن يؤمن قال للسحرة :﴿ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ٧١ ﴾، وهنا تبدو قوة إيمان المصري إذا آمن :﴿ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ٧٢ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ٧٣ إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ٧٤ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ٧٥ جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ٧٦ ﴾.
ذلك إيمان المؤمن، ولقد أخذ موسى يأتي بالآيات حتى بلغت تسع آيات، ولكن لم يؤمن فرعون وملؤه، فأمره بأن يسري ببني إسرائيل ليلا ﴿ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ٧٨ وأضل فرعون قومه وما هدى ٧٩ ﴾.
أخرج الله بني إسرائيل من فرعون وطغيانه، ومكنهم من أرض سيناء، وقال له تعالت حكمته وكلماته :﴿ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزّلنا عليكم المن والسلوى ٨٠ كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ٨١ ﴾.
عالج موسى أمر فرعون الطاغية وأعانه الله تعالى عليه، ثم أخذ بعد ذلك يعالج بني إسرائيل وكان علاجهم أشد من علاج فرعون، لأن علاج النفوس التي تطغى وتضعف، ومردت على النفاق والضعف، ومعاشرة الكافرين، وتأثر نفوسهم بالكفر والشرك، ولذا صعب أمرهم.
ذهب موسى إلى ربه ففُتن بنو إسرائيل بالعجل من بعده فقال الله تعالى :
﴿ وما أعجلك عن قومك يا موسى ٨٣ قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى ٨٤ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ٨٥ ﴾. أضلهم السامري بأن صنع لهم تمثال عجل من ذهب، ووضعه لهم في مهب الريح فإذا هبت صوّت بصوت يشبه الخوار ﴿ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار... ٨٨ ﴾، ولتأثرهم بعبادة العجل التي كان المصريون يمارسونها قالوا :﴿... هذا إلهكم وإله موسى... ٨٨ ﴾، ولكن إذا كان له صوت خوار فليس بحي، ولا فيه حياة ﴿ أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرّا ولا نفعا ٨٩ ﴾. فعلوا ذلك في غيبة موسى عليه السلام، وأخذ هارون يرشدهم ويقول :﴿... يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ٩٠ ﴾. ولكنهم أصروا على عبادته وقالوا :﴿... لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ٩١ ﴾. جاء موسى فوجّه اللوم إلى أخيه هارون عليهما السلام ولكن اعتذر نبي الله هارون بأنه خشي أن تكون فرقة بين بني إسرائيل، وقال :﴿... يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ٩٤ ﴾، وعلى أي حال فهارون عليه السلام لم يشارككم في عبادة العجل، كما قالت التوراة المحرفة غير الصادقة، وكان هذا من أعظم الأدلة على تحريفها، بعد أن عاتب أخاه وحسبه مقصرا اتجه إلى السامري الذي أضلهم فقال :﴿ قال فما خطبك يا سامري ٩٥ قال بصرت بما لم يبصروا به... ٩٦ ﴾ من الصناعة، صناعة التماثيل، ﴿ فقبضت قبضة من أثر الرسول ﴾، أي من تعاليمه ودعوته إلى التوحيد﴿... فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ٩٦ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ٩٧ ﴾، كان هذا دليلا عمليا على أن ذلك الصنم لا يملك من أمره شيئا، ولذلك قرر ألوهية الله وحده ﴿ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ٩٨ ﴾.
هذه أطراف من قصة موسى عليه السلام، وقال تعالى في ذلك :﴿ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ٩٩ ﴾.
وبين سبحانه عاقبة من أعرض عن ذكر الله تعالى، وأشار سبحانه إلى يوم القيامة ﴿ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ١٠٢ ﴾، مبينا سبحانه حال الناس يوم القيامة وحال الأرض، وما فيها ﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ١٠٥ فيذرها قاعا صفصفا ١٠٦ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ١٠٧ يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ١٠٨ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ١٠٩ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ١١٠ ﴾.
بعد هذا بين سبحانه أن الوجوه كلها تكون عانية خاضعة، وقد خاب من حمل ظلما، بين سبحانه منزلة القرآن وأنه نزل عربيا، وصرف فيه من الوعيد ما تهلع له القلوب، فتعالى الله الملك الحق﴿... ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ١١٤ ﴾.
ويقول سبحانه تذكيرا لابن آدم، وبيان عرضته للخطأ والنسيان، فيقول سبحانه :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ١٠٥ ﴾، فذكر سبحانه أبانا بأنه حذره من الشيطان وقال له :﴿... إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ١١٧ ﴾، ولكن وسوس إليه الشيطان :﴿.... قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ١٢٠ فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ١٢١ ﴾ وهبط آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض بعضهم لبعض عدو، وقال لهم رب البرية :﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ١٢٣ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ١٢٤ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ١٢٥ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ١٢٦ ﴾، وإن العذاب عذابان : عذاب الدنيا بالضلال والعمى عن الحق، وهذا عذاب لأهل العقول، وعذاب في الآخرة وهو أشق وأبقى.
ويذكر الله سبحانه بعد ذلك العبر في الماضين الذين أهلكوا وكان يمكن أن ينزل مثل ذلك بالمشركين الذين كفروا بمحمد، وفتنوا المؤمنين، وضلوا، ولكن سبقت الكلمة ببقائهم ليكون من ذريتهم من يعبدون الله تعالى، وقال تعالى في ذلك :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ١٢٩ ﴾، واتجه سبحانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر على ما يقولون، وأن يسبح الله تعالى :﴿ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ١٣٠ ﴾.
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يمد عينيه، ويتطلع إلى ما هم متمتعون به من متع هي زهرة الحياة الدنيا، وذلك أمر لأمته، فلا تتطلع إلى ما هم فيه من متع فهي فتنة، ﴿... ورزق ربك خير وأبقى ١٣١ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ١٣٢ ﴾.
لقد تعللوا في كفرهم بتعللات ظاهرة البطلان طلبوا آيات حسية، وقالوا :﴿... لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ١٣٣ ﴾.
لقد جاءهم الرسول مبشرا ونذيرا، ولكنهم كفروا وعاندوا ﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ١٣٤ قل كل متربص فتربصوا فستعملون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ١٣٥ ﴾.
معاني السورة
ﰡ
ولكن مع ذلك نسرد ما قيل في ذلك، قيل : إن طه اسم لله تعالى، وقيل : إنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، وربما يسوغ ذلك أن ما بعدها كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه نودي بذلك، ثم ألقى القول والبيان المنبه إلى ما عليه في هذه الرسالة، فليس عليه أن يؤمنوا، وإنما عليه التذكرة فلهذا القول وجه من التوجيه.
وقيل : إنها فعل أمر أصله "طأ" قلبت الهمزة هاء، ويصح أن يقال : إنها قلبت ألفا ثم جاءت هاء السكت بدلا عنها، وقيل : إن معناه "يا رجل"، لأن طه في لغة عك١ معناها يا رجل. وقيل : هي بهذا المعنى في لغة الحبشة.
وإني أراها كأخواتها من الحروف التي تبدأ بها السور، يقال : إنها أسماء للسور، وإذا كان ثمة احتمال لأن تكون بمعنى ندركه، فإنا نميل إلى أن يكون اسما للرسول صلى الله عليه وسلم.
.
وكان المؤدى النهائي للآيتين : لا تحزن، وحسبك من اتبعك من المؤمنين.
أولهما : أنه ذكر "تنزيل" وفعله "نزّل"، وهو التنزيل المقرر مجيء القرآن منجما آية بعد آية، أو سورة بعد سورة، حتى يمكن حفظه مرتلا محفوظا في الصدور، فلا يُحّرف ولا يُنسى على مدى الأجيال، بينما قال سبحانه وتعالى :﴿ وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ٢ ﴾ فذكر بفعل الإنزال لا التنزيل، لأنه كانت العبرة في أنه أنزله كله لينذر به ويبشر، لا ليشقى، فكان التعبير بالإنزال في موضعه من النزول في جملته لا في تفضيله، أما هنا فإنه يحكي الواقع، وهو التنزيل شيئا فشيئا.
الأمر الثاني : أن في الكلام التفاتا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، وذلك لتصريف القول، ولأنه من قبيل الرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يكون منه التكليف، فكأنه سبحانه يقول، ولكلامه المثل الأعلى، ما أنزلت القرآن وكلفتك ما فيه لتشقى، فهوّن عليك، ولا تأس على القوم الكافرين، وأما في هذه الآية فهو بين صفاته سبحانه وأفعاله، فيناسبها حديث الغائب.
وإن الله سبحانه بين علم ميزة القرآن وقدرته، وأنه جاء مناسبا لمن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فمهما تكن لهم من قوة فالله غالب عليهم، وهو القاهر فوق عباده، وقد ابتدأ سبحانه بالأرض فقال عز من قائل :﴿... ممن خلق الأرض... ٤ ﴾ لأنه سبحانه في أكثر آي القرآن يقدم في الخلق السماوات على الأرض، لأنها أعظم خلقا، ولكن هنا قدم في الخلق السماوات على الأرض، لأنها أعظم خلقا، ولكن هنا قدم الأرض لأنها التي يدّعى المشركون وغيرهم من الطغاة السلطان فيها، فبين الله تعالى أنه خالقها فهو لها أملك، وسلطانه عليها، ثم ذكر سبحانه السماوات بصورة عالية في الفخامة، وهو سبحانه خالقها، وليس لهم أي مكان للسلطان فيها.
وقد ذكر سبحانه أن له السماوات بأبراجها ونجومها، وكلها مسخرات بأمره وله الأرض بما فيها من نجاد ووهاد، وجبال شامخات وبحار وما فيها من أسماك وسفن جاريات تمخر عباده، وما بينهما من فضاء قد سُخّر للإنسان، ثم قال تعالى :﴿ وما تحت الثرى ﴾ من معادن وفلزات وغير فلزات وجواهر، وهذا كله من نعم الله على عباده يستخرجون من بحارها وترابها زينة، وهو العليم القدير.
هذه قصة موسى كما جاءت في هذه السورة، وقد فصّل فيها ما لم يفصّله في السور الأخرى، وأجمل فيها ما فصله في السور الأخرى من غير تكرار في القرآن، كما يدل على ذلك الاستقراء والتتبع، فالمقصد مما يذكر في كل موضع يختلف عن المقصود في الموضع الآخر، والعبرة تختلف في موضع عن الآخر، والتفصيل يتبع العبرة، والإجمال يكون فيما يجئ تابعا لذلك.
قوله تعالى :﴿ وهل أتاك حديث موسى ﴾ الاستفهام للتنبيه إلى الخبر الخطير الذي يقصه عن موسى عليه السلام، وكيف كلمه ربه، و( الحديث ) ما يتحدث به، والمراد ب﴿ حديث موسى ﴾ ما يتحدث به عن موسى، فالإضافة لأدنى ملابسة، والاستفهام كما قلنا للتنبيه إلى أمر خطير، وكان الاستفهام عن علمه صلى الله وعليه وسلم، وإذا لم يكن على علم به فإنه سبحانه سيُعلمه.
وقد أكد ضمير المتكلم، وهو ياء المتكلم بتأكيدين أولهما :"إن" المؤكدة، وثانيهما الضمير الظاهر ﴿ أنا ﴾ المؤكد لياء المتكلم، وكان التأكيد لغرابة المؤكد في ذاته، ولغرابته على موسى عليه السلام، أما الغرابة في ذاتها فهو أنه من أغرب الغرائب أن يكلم الله أحدا من عباده، فقد يوحى إليه، أما أن يكلمه فذلك أمر غريب لم يكن به عهد حتى عند الأنبياء، وأما الغرابة بالنسبة لموسى فهو أنه خرج من مصر هاربا من مظالم فرعون وقهره، وفرضه على الناس عبادته حتى يقول لهم ما لكم من إله غيري، وقد خرج محتاجا يقول :﴿... رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ٢٤ ﴾ ( القصص )، ثم مأجور يزرع ويرعى الغنم، ولكنه يفاجأ بأن يخاطبه ربه من وراء حجاب، ولذا كان التأكيد في موضعه ليأنس بربه وتذهب عنه وحشة الاغتراب، ﴿ وربك ﴾ معناه الذي خلقك، وربك، وأقامك، وقام على رعايتك والعناية بك. و﴿ فاخلع نعيك ﴾ "الفاء" فاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر، أو هي تفيد أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، فإنه يترتب على أنه في الحضرة القدسية، أن يكون الأمر بخلع نعليه، وذلك الخلع للخشوع والخضوع، إذ هو في الحضرة الربانية، وهو بواد مقدس طاهر، وإن الناس إذا كانوا في حضرة ملوك الأرض خلعوا نعالهم، فكيف إذا كان موسى في حضرة ذي الجلال والإكرام والفضل والإنعام، وإن في هذا الفعل الحسي إشعار للنفس بأن تتفرغ لله تعالى، وأن يكون الله وحده هو شاغلها، فلا يشغلها شيء سواه، وقال تعالى :﴿ إنك بالواد المقدس ﴾ المطهر من الأرجاس الحسية والمعنوية، وهو ﴿ طوى ﴾، وهو اسم لواد في هذه الأرض المقدسة، وحسبه شرفا أنه قد تجلى الحق فيه وكلم موسى تكليما.
وقوله تعالى :﴿ فاستمع لما يوحي ﴾ الفاء للعطف والترتيب والتعقيب، فالاستماع لما يوحى الأمر به مترتب على الاختبار له، أو هو موضوع الاختيار ذاته، وما يوحى إليه هو التوراة وما فيها من شرائع وأحكام وأساسها عقيدة صحيحة مستقيمة هي ما تضمنه قوله تعالى :﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ١٤ ﴾
لهذه الجملة السامية بيان لمعنى ما يوحى الله به مما يجب الاستماع له والأخذ به وتبليغه، وأن يخاطب به فرعون، وما ذكره في هذا المقام، هو لب التدين، فلبّ التدين هو عبادة الله وحده وإقامة الصلاة لذكر الله تعالى، والخشوع والركوع والسجود، فالصلاة كلها ذكر لله تعالى، وهي شرعته لتمتلئ القلوب بالله، ولتكون مطمئنة لذكر الله تعالى :﴿... ألا بذكر الله تطمئن القلوب ٢٨ ﴾ ( الرعد ) وذكر الله تعالى هو الذي ينقي القلوب من أدران الهوى، والقلوب التي تذكر الله تعالى لا يدخلها الشيطان، ولا يسكن الشيطان إلا القلوب الفارغة من ذكر الله تعالى، ولقد قال الزمخشري في معنى ﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾، "لذكري : أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد وليصلى لي، أو لتذكري فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار... أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو لإخلاص ذكري، وطلب وجهي لا تراني بها، ولا تقصد بها غرضا آخر، أو لتكون لي ذاكرا غير ناس، فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، كما قال تعالى :﴿... لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله... ٣٧ ﴾ ( النور ). هذه معان متوافقة غير متضاربة لكلمة ﴿ لذكري ﴾ ولتوافقها صح أن تكون كلها داخلة في معنى هذه الكلمة السامية ﴿ لذكري ﴾.
﴿ إن الساعة آتية أكاد أخفيها ﴾، أي أنه سبحانه وتعالى أخفاها لأنه لا يبين للناس متى تكون، ولم يعط علمها لنبي، ولا لأحد من الناس، مع تأكيد وقوعها من غير تعيين لزمانها، فكأنه أخفاها، أخفى زمانها وأكد وقوعها، فهو لم يخفها، ولو كان أعلم الناس بها علما كاملا لأعلم متى تكون، ولكنه أكد مجيئها.
وقوله تعالى :﴿ لتجزى كل نفس بما تسعى ﴾ "اللام" متعلقة ب ﴿ آتية ﴾، أي أن مجيئها للجزاء فيجزي من عمل عملا صالحا جزاء صالحا، ومن عمل عملا سيئا يجزى جزاء وفاقا لما ارتكب، وهكذا يكون كل مجزيا بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فما خلق الإنسان سدى يفعل ما يشاء من غير حساب على ما فعل وجزاء للخير الذي أراده ونواه وفعله، وقوله تعالى :﴿ بما تسعى ﴾، أي تجزى جزاء بالذي تسعى، " الباء" للمقابلة أي مقابل ما تسعى، أو تجزى بذات ما تسعى وذلك لمساواة السعي مع الجزاء فكأنه هو.
﴿ فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ١٦ ﴾ "الفاء" للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر تقديره : إذا كانت آتية، وإن كان زمانها خافيا، فبين للناس وجوب الإيمان بها، ولا يصدنك عنها من لا يؤمن بها فلا يؤمن بالبعث، ويقول : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، والسبب في عدم إيمانهم بالبعث هو سيطرة أهوائهم عليهم، ولذا قرن بعدم الإيمان باليوم الآخر إتباع الهوى.
وقوله تعالى :﴿ فترْدى ﴾ الخطاب لموسى عليه السلام، والفاء للسببية، أي الصد عنها سبب الوقوع في الرّدى، والنهي في "لا يصدنك"، نهي عن قبول أسباب الصد، وهو محاولة الكافرين، منع الإيمان باليوم الآخر، أي نهى عن تمكينهم من الإغراء به، فكن صلبا في بث روح الإيمان باليوم الآخر حتى لا يطمع أحد من الكافرين في أن تصد عنه، والنهي عن ذلك بالنسبة لنبي الله تعالى ليس لاحتمال أن يقع، بل إن ذلك لمكان الإيمان بالبعث من الإيمان والله أعلم.
خاطب الله موسى عليه السلام بأنه اختاره رسولا نبيا، واصطفاءه بكلامه، ولكنه يظهر أنه كان يخاطب بكلام الله تعالى من وراء حجاب، وأنه كان يوحى إليه بتعليماته وأحكامه، ولذا قال له وهو يكلمه، فاستمع لما يوحى، فكان خطاب الله تعالى بكلامه من وراء حجاب، وخطابه له بالوحي كغيره من الرسل، خاطبه الله تعالى بالمعجزة وأعطاه ما يدل على صدقه، وهو العصا، وضم يده إلى جناحه وإخراجها من غير سوء، مع آيات أخرى كانت تجيء كل آية في مناسبتها.
قال تعالى لنبيه وكليمه :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ١٧ ﴾ الاستفهام للتنبيه إلى حالها التي عليها من أنها خشب شجر، أو نحوها، وإلى ما ستئول إليه بعد ذلك من أنها حية تسعى، و﴿ بيمينك ﴾ صلة لموصول محذوف وقامت الصلة مشيرة إليه، أي : وما تلك التي بيمينك، وكان التنبيه والإشارة إلى كونها،
وخلاصة القول، أن الاستفهام توجيه لذهن موسى عليه السلام إلى أن ينظر في حقيقتها لكي يدرك من بعد وجه الإعجاز إذا رأى حالها بعد ذلك في الحال التي تتحول إليها.
وقد أجاب موسى عليه السلام إلى المنفعة التي ينتفع بها فيها وذكر أمرين وأمر ثالث فيه شتى المنافع، الأمر الأول مما ذكره عبر عنه عليه السلام بقوله :﴿ أتوكأ عليها ﴾، أي أعتمد عليها في متابعتي للغنم، ومراقبتي لها عندما يحل بنا التعب، أو أعتمد عليها في كل الأحوال في مراقبتي لها، والأمر الثاني ذكره بقوله :﴿ وأهش بها على غنمي ﴾، أي أخبط على رأسه خبطا خفيفا، لأبعده عن مواطن تضره، وذلك من هش الورق إذا خبطه خبطا يسيرا لينظمه، وفي ذلك دلالة على الرفق بهذا الحيوان الضعيف وتوجيهه بأقل ما يكون من توجيه من غير ضرب ولا زجر، ولذا كان النبيون يعوّدون الرفق برعاية الغنم، فهذا نبي الله موسى قبل أن يبعثه الله رسولا نزعه من قصور فرعون إلى رعاية الغنم، وهو القوي الذي وكز الرجل من آل فرعون فقضى عليه، فكان لا بد أن يذوق الفقر ويتعود الرفق في رعي الغنم. والأمر الثالث الذي أشار إليه هو قوله :﴿ ولي فيها مآرب أخرى ﴾ والمآرب جمع مأربة بضم الراء وكسرها وفتحها، وهي الحوائج والمنافع، وقال ﴿ أخرى ﴾، لأن جمع ما لا يعقل يكون بالمفرد المؤنث كقوله تعالى :﴿... يا جبال أوّبي معه... ١٠ ﴾ ( سبأ )، فقد خوطبت الجبال بالمفرد المؤنث، وقد روي عن ابن عباس أنه عد هذه المآرب فقال :"إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض، وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي، وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم".
وقد أفاض الرسول في الرد بعض الإفاضة باتجاهه إلى بيان منافعها فبدل أن يقول في ماهيتها : عود من شجرة، ليستأنس بكلام ربه فهو كلام العلي الأعلى.
وكانت هذه العصا بعد ذلك أداة ظاهرة للمعجزات فبها ضرب البحر فافترق، وكان كل فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر فانبجست منه اثننا عشرة عينا.
ذكر موسى لربه ما ينتفع به من العصا، فصّل ما فصّل، وأجمل ما أجمل
الضمير في قوله تعالى :﴿ فألقاها ﴾ يعود إلى العصا التي هي عود من شجر والتي كانت منها المنافع التي ذكرها عليه السلام، ولها تلك الخواص الخشبية تنقلب حية تسعى، أي تكون من لحم يتلوى يمينا وشمالا بعد أن كانت خشبا يتوكأ عليه وله فيها مآرب أخرى وحاجات تكون من الخشب لا من حية، و"الفاء" و"إذا" للمفاجأة، وكانت المفاجئة في أنها تحولت من خشب جامد إلى حي متحرك، والحية هي الثعبان، ولكن لا يقال لها ثعبان إلا إذا كانت كبيرة، ويقال لها جان، وهو الرفيع السريع الحركة من الحيات، وقد جاء في عبارة القرآن عن حية موسى التعبيرات الثلاثة، فقال تعالى :﴿ فإذا هي ثعبان مبين ١٠٧ ﴾ ( الأعراف ) وقال تعالى :﴿... فلما رآها تهتز كأنها جان ولّى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف... ٣١ ﴾ ( القصص ) ويظهر أنها كانت تكون على حسب المقامات، فعندما التقى بسحرة فرعون كانت ثعبانا كبيرا يلقف ما يأفكون، ويظهر أن المفاجأة التي اعترت موسى عليه السلام إنما هي من انقلاب الخشب الجامد إلى حية تسعى، والسعي هو المشي السريع، ومن ذلك السعي بين الصفا والمروة، فكانت المفاجأة من الانقلاب حية، وأنها تسير سريعا شديدا، ويظهر أنه من فرط المفاجأة ولي مدبرا ولم يعقب، كما قال تعالى في آية أخرى قد تلوناها من قبل، وقد ناداه ربه ﴿... يا موسى أقبل ولا تخف... ٣١ ﴾ ( القصص )، وهنا قال له تعالى :﴿ قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ٢١ ﴾..
ما كان لموسى وهو مضطرب بسبب المفاجأة، لهذا الانقلاب أن يمد يده إليها ليأخذها إلا بعد الاطمئنان، وقرار النفس، ولذا قرن سبحانه وتعالى الأمر بأخذها بالنهي عن الخوف لتقر نفسه وتطمئن، وبين له أن ما أزعجك من الانقلاب زائل، ولذا قال عز من قائل :﴿ سنعيدها سيرتها الأولى ﴾، حيث كنت تستخدمها في التوكؤ عليها والهش على غنمك والمآرب الأخرى التي كنت تنتفع بها، والسيرة اسم هيئة على وزن "فعلة" بكسر الفاء، أي سنعيدها على الهيئة التي كنت تستخدمها فيها قارا مطمئنا، وقد ذكر الزمخشري ثلاثة وجوه "سيرة" أولها أنها ظرف، وثانيها أنها مفعول ثان ل "أعاد"، لأن عاد أصلها متعدية بنفسها من قولهم عاد المريض يعوده، فإذا جاءت همزة التعدية صار يتعدى لمفعولين، والثالث وهو الذي رجحه وقد ذكره بقوله :"ووجه ثالث حسن وهو أن ﴿ سنعيدها ﴾، مستقلا بنفسه غير متعلق ب ﴿ سيرتها ﴾ بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصى، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشئت أولا، ونصب ﴿ سيرتها ﴾ بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى"، جملة هذا ما قاله الزمخشري وما كان لنا أن نسير في هذا التوجيه الإعرابي، ولتمام القول فيه أنه على هذا الإعراب الأخير تكون ﴿ سيرتها ﴾ مع الفعل المحذوف جملة حالية، وقبل أن نترك القول في الآية الكريمة نقول : إن "سيرة" فعل هيئة من سار، وهي تطلق ابتداء على السير الحسي وهو هنا قريب من ذلك، ثم أطلقت على المعنويات فقيل : سيرة فلان، أي : مسلكه في الحياة، وقيل : سيرة النبيين، ثم أطلقت على المذهب والطريقة.
"الجناح" هنا الجانب، وهو تشبيه جانبي الإنسان بجناح الطير لأنهما محسوسان في جانبيه، وسمي جناحي الطائر بذلك لأنهما يطويان عند الطير، ويميلان على جنبيه، والجناح الميل، وضم اليدين إلى الجانبين معناه وضع اليدين تحت الإبطين
وقوله تعالى :﴿ تخرج بيضاء من غير سوء ﴾ والفعل مجزوم على جواب الأمر، وهما لا يخرجان من تلقاء أنفسهما، بل يخرجهما موسى بإرادة الله تعالى، فليس الضم سبب الخروج، ولكنه شرطه. والسوء ما يسوء الإنسان عند النظر إليه، ولذا أطلق سبب الخروج، ولكنه شرطه. والسوء ما يسوء الإنسان عند النظر إليه، ولذا أطلق على العورة السوءة، قال الله تعالى عندما أكل آدم وحواء من الشجرة :﴿... فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة... ١٢١ ﴾ ( طه ).
وقالوا : كنى بهذا عن البرص، أي تخرج اليدان بيضاوان من غير ذلك المرض الذي يسوء النظر إليه، ويقول الزمخشري في ذلك : إن قوله تعالى :﴿ من غير سوء ﴾ كناية عن البرص، كما كنى عن العورة بالسوءة، والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مجّاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا ألطف، ولا أحرى للمفاصل من كناية القرآن وآدابه.
وإن ذلك كلام قيم في ذاته، ولكن ذكر البرص في القرآن الكريم، فلقد ذكر سبحانه وتعالى في معجزات عيسى فقال تعالى :﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص ١١٠ ﴾ ( المائدة ) ولقد قال تعالى :﴿ تخرج بيضاء من غير سوء ﴾ لتبين أن البياض إشراق وضياء منزهة عن أي مرض، فهو مدح للبياض، وهذه آية أخرى غير آية العصا، ولذا قال تعالى :﴿ آية أخرى ﴾ والنصب لفعل محذوف مناسب للنص تقديره مثلا : أعطيناك آية أخرى لتذهب إلى من تُرسل إليه مسلحا بالحجة بحيث لا يماري فيها إلا جاهل أو متجاهل ممن يستيقنون بالآيات، ولكن يجحدونها، وسنرى فرعون من هذا النوع.
"اللام" لام التعليل، وهي متعلقة بفعل محذوف تقديره مثلا : جعلنا لك هاتين الآيتين لنريك من آياتنا الكبرى، و﴿ من ﴾ للتبعيض، أي لنريك بعض آياتنا الكبرى التي تجابه بها فرعون الطاغي، وإن الله تعالى ممدك بعون من عنده ومزودك بكل الآيات التي تقيم بها الحق على فرعون، وكان ذلك تأييدا، ولإعطاء موسى الكليم قوة يحتمل بها طاغوت فرعون، ويكون حمولا صابرا يتلقى أذاه بقلب الصابر الحليم المحس إحساسا كاملا بأن الله مؤيده، ومعه الحجة والبرهان، وهما سلطان الأنبياء
﴿ إنه طغى ﴾ أي أنه تجاوز الحد، وهذا يتضمن أنه ظلم الناس فقال لهم : ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، وذلك حجر على العقول أن تفكر وترى، وطغى فظلم العباد وأكل أموالهم وحقوقهم، وطغى فلم يحسب للناس وجودا إلا بوجوده، وطغى وبغى فحسب أن البلاد ملكه، وقال طاغيا : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي. أرسل الله تعالى إليه موسى فكان العبء كبيرا.
استجاب موسى لله الذي أكرمه بالكلام معه، ولكنه أحس بالعبء الذي سيحمله، وإذا كان الله العزيز الكريم قد أمده بالآيات الدالة على الرسالة فهو في نفسه طلب من الله تعالى أن يمده في شخصه بالمعونة، وبأن يعطيه من ينصره ويؤيده، وإن العاقل الصافي النفس يعرف عيوبه من غير أن يعرّفه غيره، ولقد أحس موسى عليه السلام بأنه يضيق صدره أحيانا وبأن الأمر الذي بعثه الله به خطير عسير ليس بيسير، وأنه ليس فصيح اللسان بحيث يفقه الناس قوله، وبأنه يحتاج إلى من يؤازره، ولذا طلب أمورا أربعة ليسهل عليه التكليف الذي كلفه الله تعالى إياه، فطلب أمورا أربعة :
أولها – قوله :﴿ قال رب اشرح لي صدري ٢٥ ﴾ شرح الصدر توسعته حسا، وما طلب توسعته حسا، إنما طلب أن يكون عنده قدرة على احتمال الرأي الذي يخالفه، وألا يكون صدره ضيقا حرجا بمن يخالفه، بل تكون عنده أناة الصابرين، وإن موسى كان يضيق ذرعا بكل من يخالفه : ولعل ذلك لأنه نشأ ونما في قوم مقهورين يقتل أبناؤهم، وتُستحيا نساؤهم، ومن التربية الأولى في بيت فرعون، ولأنه كان يحس بأنه وقومه مظلومون، ﴿ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ١٥ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ١٦ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ١٧ فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين ١٨ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبّارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ١٩ ﴾ ( القصص ).
ونفس موسى الكليم الشفافة أدركت عيوبها فطلب من ربه أن يبرئه منها عالما أنه سيلقى من فرعون عنتا، ولا بد أن يلقاه بقلب قوي غير ضجر، ولا سائم ليتحمل ما حمله، فطلب أن يشرح صدره بجعله قادرا على احتمال المخالفة، بل المعاندة والمهاترة فقال :﴿ رب اشرح لي صدري ﴾.
الوزير : المعاون، وهو من الوزر بمعنى أنه يحمل أوزار الأمر معه، أو من الوزر – بفتح الواو والزاي – بمعنى الملجأ، وهو بمعنى أنه يلجأ إليه في المُلمّات، أو من المؤازرة بمعنى المعاونة، والوزير الصادق المخلص فيه هذه المعاني كلها فهو يحمل التبعات، وهو ملجأ في الملمات، وهو معاون عندما تشتد الأمور وتدلهم، يعين برأيه وتدبيره.
السؤل بمعنى المسئول، كالخبز بمعنى المخبوز، والأكل بمعنى المأكول، و﴿ أوتيت ﴾ معناه أعطيته، وصار بين يدك ما طلبت، وذلك في نظرنا أبلغ من أجبت ؟ لأن الإجابة قد تكون بالقول، ويتحقق مدلولها بعد، إذ الإجابة لا تقتضي التحقق، بل إنها ربما تكون بينها وبين التحقيق زمن، والمجيب ليس بمخلفه، وإنه بندائه سبحانه بالاسم تقريب وإدناء، وإلقاء بالمودة التي لم يحرم منها كليم الله طول حياته، ولئلا يقصى عليه أمر بني إسرائيل أمده الله تعالى بكل أسباب الصلاح، ولكنهم كانوا قد مردوا على الذل، ومرضت قلوبهم بالنفاق كما رباهم فرعون على الخنوع الذليل، ولم يجد فيهم من يجيئهم بالرشاد والموعظة الحسنة والولاية الهادية الرشيدة.
كلام لموسى عليه السلام، وكانت تلك المجاوبة الرحيمة من الله والمحبوبة لموسى من وقت أن آنس من جانب الطور نارا وذهب إليها ليأتي لأهله منها بقبس أو يجد على النار هدى، وقد من الله على موسى بأن آتاه سؤله، وذكر موسى بأنه كانت كلاءته الكريمة من وقت أن وُلد، ولذا قال له :﴿ ولقد مننا عليك مرة أخرى ٣٧ ﴾ فليست هذه أول ما مننا به عليك، فقد من عليك بمنن كثيرة من قبل، وإذا كانت هذه منة تسهيل الرسالة، وتبليغها عليك، فقد مننت عليك بالكفالة والمحبة من وقت ولادتك إلى أن لقيتني عند الشجرة، ونبتدئ فنلخص هذه المنن الكريمة :
﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ٢٦ إلا من ارتضى من رسول... ٢٧ ﴾ ( الجن ) وقد تعلقت بهذا الوحي مصلحة دينية، وعدل أرضي، أما المصلحة الدينية فهي نجاة من كتب الله تعالى في غيبه المكنون أن يكون نبيا وكليما ومن المصطفين الأخبار، وأما إقامة العدل الأرضي فهو كف فرعون عن بني إسرائيل الذي كان يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم، وإن الله يرسل في الأرض من ينجي عباده من ظلم الظالمين وفساد المفسدين.
ألقته في التابوت بمعاناة نفسية، ثم ألقت التابوت الذي فيه موسى – قطعة نفسها – في اليم وهي في ألم مرير، والضمير في قوله تعالى :﴿ اقذفيه في التابوت ﴾ يعود على موسى بلا ريب وأما في قوله :﴿ فاقذفيه في اليم ﴾ يحتمل أن يكون لموسى وأن يكون للتابوت، وفي كلتا الحالتين هي تقذفه وقلبها معلق به، والأوضح أن يكون لموسى، لقوله تعالى :﴿ فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له ﴾ فالعداوة ليست للتابوت، وإنما هي لشخص الرسول الكليم.
ويلاحظ أن العطف كله بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب من غير تراخ زمني، ذلك لأن الأم الرءوم تريد المسارعة بنجاة ولدها الحبيب من الذبح، والإلقاء هو السبيل الوحيد أمامها، والله سبحانه وتعالى الذي ألهمها بإلهامه الذي هو وحي، ينقذه قبل أن يموت جوعا أو تتقاذفه الرياح، يعجل سبحانه وتعالى بالنجاة فألقاه في الساحل وقوله تعالى :﴿ يأخذه عدو لي وعدو له ﴾ ﴿ يأخذه ﴾ مجزوم في جواب الأمر، وعداوة فرعون لله تعالى واضحة وقت الإلقاء على الساحل، أما عداوة موسى لفرعون فستكون من القابل.
وقد عبر عن وجوده على الساحل بالإلقاء دون القذف، لأن القذف يكون من أعلى لأسفل ولأن الإلقاء لم يكن بمعاناة من الأم، بل كان برحمة من الله تعالى.
نجا موسى صغيرا من الذبح الذي كان يترقب كل مولود ذكر من بني إسرائيل، ثم كانت الثانية وهي حفظه وكفالة أمه له، وأن يكون بين أحضانها وهذا هو المظهر الثاني لمنة الله تعالى فقد ألقى عليه تعالى محبة، فقال تعالى كلماته :﴿ وألقيت عليك محبة مني ﴾ ألقى الله تعالى عليه محبة منه سبحانه، والمحبة التي ألقاها تعالى ذات عناصر، أولها : أن الله تعالى أحبه، ومن أحبه الله تعالى كان كريما على الناس، وثانيها : أن الناس بتوفيق الله وتوجيهه أحبوه، فكان محببا منهم إذ زرع في قلوبهم محبته، وثالثها : أن الله تعالى فتح له القلوب المغلقة، ففتح له قلب فرعون المغلق، وفتح له قلب امرأته، فقالت :﴿... قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا... ٩ ﴾ ( القصص )، وكما قال تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزنا... ٨ ﴾ ( القصص )، أي في المآل لا وقت الالتقاط، إذ إنهم في وقت الالتقاط التقطوه ليكون قرة عين لفرعون وامرأته :﴿ ولتصنع على عيني ﴾ ﴿ لتصنع ﴾ أي تتربى تحت رقابتي وملاحظتي فلا تقهر، ولا تذل بل تكون عزيزا كريما، ولتضمن التربية أن تكون تحت رقابة الله تعالى تعدت ب "على"، لأن معنى هذه التعدية أن الله وقد مكن فرعون من تربيته والقيام على شؤونه أشار سبحانه إلى أنه على رقابة له.
وإن في الكلام استعارة تمثيلية، إذ شبه سبحانه وتعالى حال الرقابة على تربيته وصيانته بحال من يصنع شيئا على مرآه ونظره، وبعض المفسرين قال : إن "على" هنا بمعنى "الباء"، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لتصنع على عيني ﴾، "الواو" عاطفة على فعل محذوف تقديره لتنعم بمحبة الله والناس، ولتصنع على عين الله تعالى، وتحت رقابته ومحبته ورعايته سبحانه وتعالى. والمظهر الثالث لمنته الأخرى هو عودته إلى أمه ليتربى في حضانتها رحمة به وبها، لأن أمه ما طابت نفسها بفراقه إلا لنجاته، ولأنها تريده لنفسها، كما تريد كل أم رءوم مُحبة، فرتب الله تعالى لها أن يعود إليها محفوظا مصونا فحرم الله تعالى عليه المراضع، وقد احتار من في بيت فرعون في أمره، وقد صار ملء قلوبهم جميعهم، ولكن الله تعالى أرسل إليهم.
وإنه في سورة القصص تفصيل لما أجمل هنا من غير تكرار، فقد ذكر سبحانه حال أمه بعد أن ألقته في البحر فقال تعالى :﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ١٠ وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ١١ وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ١٢ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ١٣ ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ١٤ ﴾ ( القصص ).
وبذلك ترى أن ما أجمل هنا أو أشير إليه إشارة من غير بيان قد وضح هنالك في سورة القصص من غير تكرار، بل جزء سيق في موضعه من غير تكرار لفظ أو معنى.
المظهر للمنة الأخرى ذكره سبحانه وتعالى بقوله عز من قال :﴿ وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ﴾ أن الله تعالى قد نجاه من الغم الذي أصابه من قتله نفسا و﴿ الغم ﴾ الحزن الذي يغمر النفس ويصيبها بما يشبه الغُمّة، وهنا نجد أن الله ذكر النفس ولم يذكر من أي قبيل هو، وفي ذلك إشارة إلى سبب الغم، وهو أنه قتل نفسا، وحسب ذلك موجبا للغم الذي يصيب بكرب شديد من نفس كنفس موسى الطاهرة التي صنعت على عين الله، ولقد قال موسى عندما قتلها :﴿... قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ١٥ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ١٦ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ١٧ ﴾ ( القصص ).
هذا هو الغم الذي أصابه بعد قتل النفس، وقد نجاه الله تعالى منه بأن غفر له سبحانه، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليه، وعاهد الله تعالى ألا يكون ظهيرا للمجرمين.
وبعض المفسرين أو جلهم يقول : إن الغم الذي أصابه هو الخوف من القصاص، وربما يؤيد هذا قول الله تعالى عن موسى :﴿ فأصبح في المدينة خائفا يترقب... ١٨ ﴾ ( القصص ). وقد نقول : إن الغم كان من الأمرين، عن نفسه اللوامة التي أوجدت كمدا وغما، ومن الخوف من فرعون، أو من الناس وقد قتل منهم واحدا.
المظهر الخامس من منة الله على موسى الكليم عليه السلام عبّر الله تعالى عنه بقوله تعالى :﴿ وفتناك فتونا ﴾، أي اختبرناك اختبارا شديدا، و"فتون" مصدر ك "شُكور"، ويكون مصدر التوكيد الفتنة التي فتن الله تعالى موسى، ويصح أن تكون جمع فتن، أما أن الله تعالى أصابه بأنواع من الفتن، ففتنة الاحتياج، وفتنة الغربة، وفتنة العمل، وهو الذي كان مرفّها مترفا في بيت فرعون.
ولكن كيف يكون فتنة الله تعالى له فتنونا أو بأصناف الفتن مظهر المنة، أو منة ؟ ونقول في جوابنا عن ذلك : إن موسى عليه السلام تربى في بيت فرعون، فاكها في نعيمه، وإن ذلك لا يكون منه نبي، بل لابد أن يعرك الحياة وتعركه، ويعيش بين من يستمع إلى أنينهم، ولا بد أن يبتلى ليصل إلى مقام النبوة أو الإرهاص لها، وذلك عُدّ مظهرا من مظاهر المنة وأي منة أعظم من أن يهيئه الله تعالى للنبوة، ويخرج من دار فرعون ليجئ إليه نبيا رسولا ينذره بالنذر، ويقدم له الآيات تَتْرى آية بعد آية.
ثم قال تعالى مبينا نتائج هذا الاختبار أنه سبحانه نقله من بيت فرعون إلى بيت رجل صالح، ومن أنه كان يأكل من ترف فرعون في عيشة رخوة غير راضية، فانتقل إلى حياة عاملة كادحة بأجل من جهد مستمر مع شعيب، وقال تعالى :﴿ فلبثت سنين في أهل مدين ﴾ وهي من أرض سيناء على بعد ثماني مراحل من مصر.
الفاء في قوله تعالى :﴿ فلبثت ﴾ عاطفة وهي للترتيب والتعقيب مع الإشارة إلى السببية في الفاءات الثلاث، فكان قتل النفس سببا للغم، فنجاه الله تعالى منه ثم اختبره الله تعالى ليعده للنبوة، ثم استقر به المقام في آل مدين عاملا كادحا، وصار ذا زوج طاهرة وبيت وأولاد يحمل أعباءهم. وبذلك قامت أصهار نبوته، وكلام الله تعالى له :﴿ ثم جئت على قدر يا موسى ﴾ العطف ب "ثم" للدلالة على انتقاله من مكان إلى أعلى مكانة، وهي مكانة النبوة في أعلى درجاتها، إذ كلمه الله تكليما، والقدر هو ما قدره الله تعالى لأن يكون رسولا نبيا كليما.
كان أول ما كلفا به أن يذهبا إلى فرعون يدعوانه إلى التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده، ولقد زودهما بأمرين ذكرهما :
أولهما : الآيات الدالة على أن الله تعالى بعثهما، وذكر الآيات الدالة على أن الله وحده خالق السماوات والأرض، وسنرى أنهما ذكرا الآيات الدالة على وجود الله تعالى وخلقه.
والثاني : أن يذكرا صفات الله تعالى الدالة على أنه وحده الإله الذي يعبد دون سواه، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ولا تنيا في ذكري ﴾، أي لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بصفات الكمال والجلال.
وقوله تعالى :﴿ بآياتي ﴾، أي تصحبكما آياتي، أو معكما آياتي، والعناية بذكر الله تعالى لفرعون، لأن فرعون وقومه ما كانوا يعرفون الله كالعرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يعرفون الله وأنه خالق السماوات والأرض والذي يلجأ إليه في الشدائد ويستغيثون به في الحال التي توجب الاستغاثة.
أما قوم فرعون فما كانوا يعرفون، وكانوا يعبدون الشمس ومظاهر الحياة، فاحتاجوا إلى التعريف بالله سبحانه وتعالى.
أمرهما الله تعالى بالأمر القاطع، بأن يذهبا إلى فرعون، كما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم من بعد أن يصدع بأمر ربه فقال له :﴿ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ٩٤ ﴾ ( الحجر ).
فقال لهما سبحانه :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ٤٣ ﴾ وقد أشرنا إلى نواحي طغيانه في قوله لموسى منفردا ﴿ اذهب إلى فرعون... ٢٤ ﴾ وفي هذه الآية خاطبه وأخاه هارون إجابة لطلبه، فقال :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ٤٣ ﴾، وقد طلب منهما أن يترفقا في القول معه، فقال سبحانه :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ٤٤ ﴾ والقول اللين لا يكون بالملق أو الإدهان أو المواراة، فإن هذه أمور تتجافى مع الحق إلا بالقول الحق، وما كانت رسالة موسى وأخيه إلا الحق وطلب الحق، ولا يطلب الحق إلا بالقول الحق، وإنما لين القول يكون باللين والرفق، حتى لا يُصدم في أمره بالجفوة، وبيان أن الحق يزكي نفسه، ويرفع نفسه فوق ما هي فيه، كأن يقولا له : هل لك إلى أن تزكي، لأن ظاهر القول التساؤل والاستفهام، وأن يتبع الأمر باختياره لا بطلب من أحد، ومن القول اللين ألا يجافيه وأن يخاطبه بما لا يمس سلطانه، فإن طواغيت الدنيا لا يجدون شيئا أعز عليهم من سلطانهم في الأرض، فيصابون في حسهم إذا مُسّ ولو من بعيد، وإن قول موسى قولا لينا لفرعون يتفق مع أصل التبليغ الصحيح الذي يقتضي اللين في القول، كما قال تعالى مخاطبا محمدا صلى الله عليه وسلم :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله... ١٥٩ ﴾ ( آل عمران )، وإن اللطف في الدعوة من موسى لفرعون يقتضي الرفق في القول، لأنه رباه صغيرا ورعاه، وكانت له به محبة فكان له مثل حق الأبوة، وقد عتب فرعون على موسى حتى هذه الدعوة الرقيقة، وقال له :﴿... ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ١٨ ﴾ ( الشعراء ).
ابتدءا كلامهما بالالتجاء إلى الله الذي فوق كل جبار في الأرض، ولو كان فرعون، قائلين ﴿ ربنا ﴾ أي الذي خلقنا وربنا ويعرف ما عندنا من قدرة، وما عنده من طغيان ومدى ما نستطيعه معه، ومدى مسارعته إلى البشر، وعدم تردده فيه.
﴿ إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ﴾ والفرط التقدم بالأذى والمسارعة إليه، فالفارط المتقدم السباق، ويقال فرس فارط، أي سابق الأفراس المسابقة، وبذلك يعاجلنا بالإهلاك أو الأذى قبل أن نرشده إلى رسالتك بلين القول أو جفائه ﴿ أو أن يطغى ﴾ إذا سمع ولم يعجل بالإهلاك فيقول في طغوائه ما لا يليق بمقامه الأعلى، أو يذهب به جبروته إلى منعنا من الدعوة وتضييق سبلها، أو ينزل بنا عقابا لا يمكننا من الاستمرار في الدعوة، وفي الجملة يتبع معنا طرائق طغيانه من تعذيب وإيذاء مستمر، فطغيانه لا حد له، كما تعلم :
خاطبهما الله تعالى بعزته وجلاله مشيرا إلى أنهما في حمايته وكلاءته، وأنه يسمع ويبصر، فكيف يكون نهى عن الخوف، والنهي عن الخوف كيف يكون وهو فزع من الأمر المخوف إذ هو أمر نفسي لا يقع تحت قبضة الخائف ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إن المراد الأمر بالاطمئنان وقرار النفس، وأن يشعرا بجلال الله تعالى، وأنه معهما، ولذلك أعقب سبحانه وتعالى النهي عن الخوف بأنهما في معية الله تعالى فقال :﴿ إنني معكما أسمع وأرى ﴾ أي إنني في صحبتكما أسمع قوله إذا هدد وأنذر، وأبصر فعله إن حاول سوءا أو أنزل بكما أذى، وإن هذا تبشير بأنه إن حاول أن يبطش بهما نزلت به البطشة الكبرى من رب العالمين.
ولقد كان من موجبات الفطرة أن يعتريها الخوف، فقد كان جبارا في الأرض ليس فوقه في قومه من يرد كيده، ويزيل طغيانه.
"الفاء" هنا "فاء الإفصاح" تفصح عن شرط مقدر تقديره : إن ذهب الخوف، واطمأننتما إلى الله ﴿ فأتياه ﴾ فاذهبا إليه، والتعبير بإتيانه يفيد أنهما مدرعان بقوة الله التي ترهب كل مخلوق، ولو كان فرعون طاغية الأرض ﴿ فقولا إنا رسولا ربك ﴾ ذكرت رسالتهما معا مكاثرة عليه ومغالبة، ولأنهما رسولا رب العالمين أحدهما بالأصالة والثاني بالمؤازرة والمعاونة، لقد أعطاهما الله تعالى قوة بعد ضعف وأمنا بعد خوف فأمراه ونهياه، وهو الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى، أمراه فقالا :﴿ فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ﴾ والأمر والنهي يتعلق بسلطانه وقوته وبطشه فهو يمس صميم جبروته ﴿ فأرسل معنا بني إسرائيل ﴾وتخلّ عن حكمهم وأخرجهم عن طاعتك وجبروتك وطغيانك ﴿ ولا تعذبهم ﴾ وكان – عليه اللعنة – يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويكلفهم بأشق الأعمال من حفر الترع وحمل الطوب والآجر والأحجار في بناء الأبنية الكبيرة مع الإذلال والاستهانة والعنت الشديد، فجمع لهم عذاب الأجسام وإرهاقها، وعذاب الأنفس بإذلالها، وإذاقتهم عذاب الهوان، فكان كلامهما محاربة لطغيانه، ومواجهة له في قوته وجبروته.
و"الفاء" في قوله :﴿ فقولا ﴾ عاطفة للترتيب والتعقيب من غير تراخ، فمجرد أن أتياه جابهاه بالقول المر الذي لم يسمعه أبدا، ولكنهما أسمعاه له بقوة الله تعالى وقدرته، وبما ألقاه تعالى في قلوبهما من قوة الحق الذي جهرا به، ولقد رجعا إلى الله تعالى في آياته البينة التي تدل على رسالتهما، فقالا :﴿ قد جئناك بآية من ربك ﴾ وهنا انتقل الموقف بهما من خائفين إلى مرهبين، وقوله تعالى :﴿ قد جئناك ﴾، أي جئناك مجابهين مسلحين بآية ﴿ من ربك ﴾ الذي خلقك ورباك وأعطاك هذا السلطان والجبروت اختبارا لنفسك، وكل فعل وقول محتسب عليك، وختما قولهما بإلقاء الأمن بعد الإرهاب المفزع له، ولو كان فرعون مصر، فقالا :﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾، أي إن الأمن والاطمئنان والدعة وعدم الانزعاج يكون لمن اتبع الهدى، فإن لم تتبع الهدى فلا أمن ولا اطمئنان، بل انزعاج وعدم الاستقرار، وإرهاب من الله، ولو كنت فرعون، ووحّدا الآية وهما اثنتان، لأن المراد ما به البرهان على الرسالة وواحدة كافية.
﴿ قال فمن ربكما يا موسى ٤٩ ﴾ كان الخطاب لهما ولكن اختص موسى بالذكر، لأنه المتكلم باسمهما، فما كانا يتكلمان معا، بل كان يتكلم موسى ويوافقه هارون، لأن هذا وزير، وذاك الرسول المبعوث، ولأنه كان يأنس موسى، لأنه تربى في كفالته، ورعايته، وهو قريب إلى نفسه مع ما بينهما من بعد بالهداية في موسى، والكبرياء الضال في فرعون، وقال الزمخشري : لأنه كان يعلم رُتة لسانه ويريد أن يحرجه في البيان، ويستدل على ذلك بقوله عندما احتدم الخلاف :﴿ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ٥٢ ﴾ ( الزخرف )، على أي حال مهما يكن السبب اختص موسى بالنداء وعمم خطابهما.
قال :﴿ فمن ربكما يا موسى ﴾، أي إذا لم أكن ربكما الأعلى فمن ربكما، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر.
﴿ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ٥٠ ﴾ ﴿ ربنا ﴾ الذي خلقنا وربنا الذي قام على شؤوننا، وسير أمورنا هو ﴿ الذي أعطى كل شيء خلقه ﴾، أي صورته وحاله التي تناسب ما عهد به إليه فهو أعطى كل شيء وجوده وهيأه لما أنشأه لأجله، ولقد قال في ذلك الإمام الزمخشري :"أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد، والرجل واللسان كل واحد مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه، أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة". والمعنى أنه أعطى كل موجود الصورة التي اختارها سبحانه وتعالى له، وهيأ كل ما فيه من قوى لما أعده الله سبحانه وتعالى له، فكل قوي الإنسان والحيوان صوره الله سبحانه لكي يؤدي عمله الذي خلقه الله تعالى له، ثم بعد هذا الخلق تكون الهداية العامة في الحياة وفي الخير وفي الشر، فقال تعالى :﴿ ثم هدى ﴾ وكان العطف ب"ثم" فيه دلالة على البعد بين أصل الخلق والتصوير، وأداء كل عضو مهمته في الحياة وإدراك معانيها، و﴿ هدى ﴾ أي هدى كل عضو صورة لأداء المنفعة التي خلق لها فهديت العين إلى معرفة الأشياء البصر، وهديت الأذن لمعرفة كل ما يعلم عن طريق السماع، وهدى العقل الإنساني إلى إدراك الخير والشر، كما قال تعالى :﴿ وهديناه النجدين ١٠ ﴾ ( البلد )، وكما قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها ٧ فألهمها فجورها وتقواها ٨ ﴾ ( الشمس ).
قال فرعون :﴿ فما بال القرون الأولى ﴾، أي حالها ومآلها، وما صنع بها، و"الفاء" هنا للإفصاح، والسؤال قال بعض المفسرين : ليصرفه عن الحديث عن الله تعالى، وهو لا يريد السماع عن إله غيره. وإني أرى أن السؤال كان عن أمر ديني عند المصريين القدماء، إذ إن الديانة المصرية كانت تؤمن بالبعث، ولذا عنوا بالتحنيط لتبقى الأجسام كما هي، وتبعث كما هي، ولهم في ذلك أقوال بينة، حتى إن الكتاب المقدس لديهم هو "كتاب الموتى" يضعونه في قبر الميت الذي يموت، وهو كتاب يشتمل على فضائل الأخلاق، وعلى ما تلقنه الروح لتحسن الإجابة أمام محكمة الحساب في اليوم الآخر عندهم، وهو يعد الكتاب الأعلى عند قدماء المصرين، ويتعبدون بقراءته أحياء ويوضع في قبورهم عند موتهم.
وعلى ذلك إن سؤال فرعون لموسى عن حال القرون أي الأجيال، سؤال نابع من مذهبهم في الموتى، وإذا كان العرب يفضلون المصريين بأنهم في جاهليتهم كانوا يعرفون الله الخالق المنزه عن المشابهة للحوادث، ولكنهم يعبدون الأوثان معه، فالمصريون القدماء عرفوا البعث والحساب، الأمر الذي كان يجهله العرب ويقولون :﴿... أئنا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد... ٥ ﴾ ( الرعد ).
أي إن علم حال الأموات بعد موتهم مسجل في كتاب، وهذا تشبيه علم الله تعالى الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها بالعلم المسجل في كتاب، وإذا كان كالعلم المسجل فإنه ﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ أي لا يخطئ ولا ينسى، لأن المسجل لا يمكن أن يكون فيه خطأ ولا يمكن أن يعروه النسيان.
تعجل فرعون بعد أن ذكرا له أن العذاب على من كذب وتولى، فأخذ يسأل متعرفا بعد أن كان لا ينزل إلى التعرف حاسبا أنه الإله الأعلى كما عبر عن نفسه، فسأل ﴿ فمن ربكما يا موسى ﴾ فأجابه إجابة مختصرة مفيدة، لأنها جامعة لمعنى الخلق فاعترض بقوله :﴿ فما بال القرون الأولى ﴾ صارفا القول، أو متعجلا في تعرف حال الأموات الذين كان أمرهم يهم المصريين لإيمانهم بأنهم يبعثون كما أشرنا، فكان ذلك الاعتراض شاغلا موسى عن أن يتم التعريف بربه
وقد ذكر موسى الكليم من قدرة الله تعالى ما يتصل بفرعون وأرض مصر، فأرض مصر منبسط هو واد بين جبلين، وعيشها ميسور سهل، وهي أرض زراعية يجري نيلها مبسوطا في ديارها من جنوبها إلى شمالها ممهدة ليست وعرة، فقال بوحي من ربه :﴿ الذي جعل لكم الأرض مهدا ﴾، أي ممهدة لينة سهلة ليست وعرة متعثرة بالأحجار، فهي لأهلها الذين يعيشون فكهين في نعيمها، كما يعيش الطفل في مهده، وهذا كناية عن الراحة والاستقرار، ثم بين سبحانه تسهيل الانتقال فيها من مكان إلى مكان في عيشة راضية ﴿ وسلك لكم فيها سبلا ﴾ والمعنى خطها خطوطا، وأنشأ فيها سبلا، أي طرقا مختلفة مسلوكة، ونظير هذا قوله تعالى :﴿ الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ١٠ ﴾ ( الزخرف )، وقوله تعالى :﴿ والله جعل لكم الأرض بساطا ١٩ لتسلكوا منها سبلا فجاجا ٢٠ ﴾ ( نوح )، وإن مصر كذلك مبسوطة الأرض فيها الطرق والوديان حتى الصحراء نجد فيها وسط كثبان الرمال المسالك الصحراوية والواحات التي تعد كالجنات في وسط الصحاري المجدبة ﴿ وأنزل من السماء ماء ﴾، أي أنزل من السحاب الذي يتكاثف ليعتريه البرد، فينزل ماء مدرارا، كما قال تعالى :﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ٤٣ ﴾ وماء النيل ينزل من السماء مطرا مدرارا، ثم يتجمع فيجرى من جبال الحبشة حتى يصل إلى مصر لا يعوقها عنها عائق.
وقوله :﴿ وأنزل من السماء ماء ﴾ هو من حديث موسى عن ربه قطعا معرفا له لمن لا يعرفه، وإن كانت فطرته تناديه معرفة، ولكنه يتجاهلها، وصم أذنيه عن صوتها. ثم قال الله تعالى :﴿ فأخرجنا به أزواجنا من نبات شتى ﴾ هنا انتقال من الغيبة إلى المتكلم، ويحتمل أن يكون ضمير المتكلم لموسى، وهو بعيد، لأنه ضمير جماعة، وليس ضمير مفرد ويحتمل أن يكون لله تعالى وهو الواضح، لأن الله تعالى هو الذي يخرج النبات، وإن كان الزارع هو الذي يحرث، ويلقى البذور بعد الحرث، ويرجو الثمار من الرب، وكان الالتفات إلى المتكلم لأنه تحول القول من الذي أخرج كل شيء، وقوله تعالى :﴿ فأخرجنا به ﴾، أي بالماء فهو الذي أمدها بالحياة، كما قال تعالى :﴿... وجعلنا من الماء كل شيء حي... ٣٠ ﴾ ( الأنبياء )، وقوله تعالى :﴿ أزواجا ﴾ يقول المفسرون : أي أصنافا، وأرى أن أزواجا ليست من الازدواج بمعنى الأصناف، بل من الزوجية، أي أنه من كل نبات زوجان كما أن في الحيوان من كل زوجين، ففي النبات زوجان ذكر وأنثى يجرى التلاقح بينهما وإن كان ربما لا نراه ولكن يجري بمقدار.
﴿ من نبات شتى ﴾، أي مختلف متنوع فهذا حب متراكم، وهذا في سنابل وهذا للإنسان وذاك للحيوان، وهذا نخيل باسق وهذا كروم، وهذه فاكهة ورمان، و﴿ شتى ﴾ جمع شتيت كمرضى جمع مريض، وهو على ما قلنا صفة للنبات.
وهذا التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطبين، لبيان النعم التي أنعم بها عليهم، إذ إن هذا النبات فيه طعام لكم ولأنعامكم و"الأنعام" جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، لأنها نعم أنعم بها عليكم في ركوبها، وفي أكلها، وفي أخذ أنواع المنافع منها، من أصوافها، وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
وقوله :﴿ كلوا وارعوا أنعامكم ﴾ الأمر فيها للإباحة لا للوجوب، والأمر بالأكل للإنسان واضح ولا يكون إلا بعد الإعداد من طحين ونخل وعجن وخبز، وبعضها يؤكل مباشرة كبعض الخضر، وقال بالنسبة للأنعام :﴿ وارعوا أنعامكم ﴾ ولم يقل :"لتأكل أنعامكم"، والجواب عن ذلك أن الماشية، لا تخاطب، والنعمة ليست لها، إن النعمة لمالكها، ولذا جعل خطاب الإباحة موجها إليهم بقوله جلت عزته :﴿ وارعوا أنعامكم ﴾، لأن الرعي ذاته نعمة أنعم بها عليهم، إذ ربما تكون لهم أنعام ولا يجدون مرعاها، فلا يمكنهم أن ينتفعوا بها، ومعنى :﴿ وارعوا أنعامكم ﴾ مكنوها من الكلأ، والعشب الذي خلقه تعالى، ومعنى رعيها أن يقوم على شؤونها، ويتبع بها مواطن الماء والكلأ، وينتقل من مكان إلى مكان لسقيها وأكلها، فالمقصود الظاهر هو أكلها، وهو تعبير عن السبب وإرادة المسبب، أو الفعل وإرادة المآل، وذلك مجاز مرسل جائز في أساليب البيان.
﴿ إن في ذلك لآيات لأولى النهي ﴾ الإشارة إلى المذكور من آيات الله من خلق الأرض وجعلها ممهدة، وخط السبل فيها، وإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج النبات أزواج في صنوف شتى مفرقة متعددة المنافع متنوعة الأجناس، إن في ذلك كله لآيات بينات تدل على قدرة الواحد الأحد، ولكن لا يدركها إلا أولى النهي، أي أولو العقول، وسمي العقل "نُهية"، لأنه ينهى عن قبائح الأفعال، كما سمي العقل عقلا، لأنه يعقل النفوس عن الزلل والوقوع في الأخطاء والخطايا إن استعمل فيما خلقه الله تعالى له، ولم يشطط، ولم يفسد، وفي كل هذا كما أشرنا وحدانية الله، لأنه وحده الخالق الوهاب.
استعلى فرعون على الخلق، واختبر الله به أهل مصر اختبارا شديدا حتى إنه فرض عليهم أن يجعلوه إلها فجعلوه، وفرض عليهم عبادة العجل فعبدوه، وأوجب عليهم أن يلغوا عقولهم في عقله، ورأيهم في رأيه، حتى إنه ليقول لهم ما رأيكم إلا ما أرى أهديكم إلا سبيل الرشاد، فبين الله تعالى أنه من الأرض، ويعود إلى الأرض، ثم يكون الحساب الشديد على ما قدم من عمل، ولذا قال تعالى :﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ٥٥ ﴾.
فعظامه ولحمه نبت من تراب، فآدم أبوه، وأبو الخليفة خُلق من طين، ثم كان غذاء ذريته من نبات الأرض الذي ينبت في الطين، ومن حيوان الأرض الذي يتغذى من نباتها، وهكذا كان لحمه، ولقد كان خطاب الله تعالى لفرعون الذي استكبر واستعلى ليخفف من غلوائه.
وما أن تنتهي حياته في الدنيا حتى يعود إلى الأرض التي نبت منها، وصوره الله من طينها، ولذا قال تعالى :﴿ وفيها نعيدكم ﴾ بأن تدفنوا فيها، وعبر سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وفيها نعيدكم ﴾ فعدّى ب"في" دون "إلى" للإشارة إلى أنه لم يخرج من محيط الأرض فمنها خلق وفيها يحيي فهو مستمر فيها حيا وميتا.
وإنه سيخرج بعد ذلك بتجميع أجزائه المتفرقة، ولذا قال سبحانه :﴿ ومنها نخرجكم تارة أخرى ﴾ لكن هذا الإخراج ليس خلقا جديدا كما خلقناكم منها، بل هو إعادة بجمع المتفرق من أجزائها، كما قال تعالى :﴿ قال كونوا حجارة أو حديدا ٥٠ أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة... ٥١ ﴾ ( الإسراء ).
آتى الله تعالى موسى تسع آيات بينات، كما قال تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات... ١٠١ ﴾ ( الإسراء )، وذلك لرسوخ الكفر في نفس فرعون وقومه، فكان لابد من قوارع جسيمة تقرع حسهم لتخرجهم من كفرهم الذي كثفته السنون المتوالية، وتكثف بالحضارة المستمكنة، والعلم المادي الذي كانوا عليه، ولقد بدأهم موسى بالعصا واليد البيضاء من غير سوء، ثم توالت الآيات : الجراد والقمل والضفادع والدم آيات البيضاء من غير سوء، ثم توالت الآيات : الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، والرجز، وكل ذلك لم يجد في القلب الجاسي المتصلب، والقلوب الخائفة التي تحسب أن الخنوع للفراعنة دين يتبع، ولذا قال :
﴿ ولقد أريناه آياتنا كلها ﴾ وهذا النص يفيد أن الآيات كلها خوطب بها كل واحدة في ميقاتها، وعند الحاجة إليها، والوعد بالإيمان إذا رفعها الله، كما وعدوا بالإيمان إذا رفع الله الرجز عنهم، ولكنه رفعه، ( فبغوا ) وقبل أن نتكلم في أمر المعجزة الأولى وهي العصا نذكر أمرين، أولهما : أنه سبحانه وتعالى أكد أنه أبى وقد أعطاه الآيات كلها مبينا لها، واحدة بعد الأخرى مع أنه لم يبين هنا إلا آية واحدة وهي العصا، والجواب عن ذلك أن هذا النص الحكيم حكم عام على إبائه وتجبره واستكباره، وقد جاءته الآيات كلها، والإباء ختام لما قدمه موسى، فقد أكد الله تعالى أنه بين له الآيات كلها ب"اللام" و"قد"، والتأكيد بكل ذلك حق لا ريب فيه، ولكنه اختص أولى الآيات، لأنها التي كانت بها الصدمة الأولى.
الأمر الثاني : لماذا اختص الله سبحانه وتعالى فرعون بالذكر ولم يذكر قومه إلا تابعين، ففي قصة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يذكر المشركون ويشار إلى زعمائهم، أما هنا فيذكر فرعون بالأصالة، وربما يذكر قومه بالإشارة، عندما يكون رجز يعم ولا يخص ؟ والجواب عن ذلك أن قريشا كانوا أحرارا في تفكيرهم ولو باطلا، فلم يكن فيهم ملك أو طاغية يفرض رأيه ويقول لهم ما أريكم إلا ما أرى، وأما أهل مصر فقد رضوا أن تندغم إرادتهم في إرادته حتى صاغ له أن يقول : أنا مصر ومصر أنا وتلك خاصته فيهم، وقد رأينا بعضها الآن في عهد طاغية مضى :
أتاهم من ناحية ما يحرصون عليه، وهو أرضهم، وأدخل قومه ليثير حميتهم، وقد خشي من موسى عندما انفرد بالقول معه، قد أفزعه بذكر ربه القوي القهار، الذي يُزيل ملك فرعون ونفسه بكلمة إن أرادها، ولقد قال في ذلك الزمخشري كلمة مصورة حاله :"إن فرائصه كانت ترتعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام، وإيقانه أنه على الحق، وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت، وأن مثله لا يخذل ولا يقل أنصاره، وأنه غالب على ملكه"، وذلك ما كان، فقد أزاله وملكه، وغرق في البحر هو وجنوده الذي تحكم بهم في رقاب المصريين، قال تعالى :﴿ أجئتنا ﴾هذا استفهام للتنبيه، وحث الهمم على المقاومة والمحاربة لإنكار الذي جاء خوفا من أن يتسرب إلى نفوسهم، كما تسرب لنفسه بالفزع والإرهاب والتخويف، ولكيلا يسري إلى نفوسهم كما سري إلى نفسه الفرعونية، وإن كانوا دونه حرصا، لأن ما يملكونه قليل يتفضل به عليهم، وقال :﴿ لتخرجنا من أرضنا بسحرك ﴾ لتخرجنا من أرضنا يعترف بأنها أرضهم وأرضه، وأنه لا ينفرد بملكيتها، وهو القائل لهم :﴿... أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي... ٥١ ﴾ ( الزخرف )، ويقول :﴿ بسحرك ﴾ كأنه لفزعه وخوفه حسب أن السحر يخرج من الأرض، ولعله كان يعتقد ذلك، لأن السحر كان عندهم علما يغير ويبدل، ولكنه كان يستحث قومه على المقاومة، ولذلك قال ﴿ فلنأتينك بسحر مثله ﴾.
وهنا يجب الالتفات إلى كلمة قالها في هذه الحوْمة من الجدل، فلقد نادى موسى قائلا ﴿ يا موسى ﴾ استدرارا لمحبته، وتذكيرا له بسابق تربيته بينهم، إذ قال من قيل :﴿... ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ١٨ ﴾ ( الشعراء )، وهذا يدل على فزعه واضطرابه وتلمس الأمن من أي جانب يكون فيه أمن واطمئنان، ولقد أقسم بما يقسم به عندهم، موثقا قوله عليهم مطمئنا إليهم ﴿ فلنأتينك بسحر مثله ﴾ "الفاء" للسببية، أي بسبب سحرك لنأتينك بسحر يماثل سحرك، أقسم على قومهم استحثاثا لهممهم واستدرارا لمعونتهم في هذا الكرب النفسي، وأكد قوله ب "نون" التوكيد، وب "لام" القسم، وقال ﴿ مثله ﴾ شعورا بالضعف، وأنه لا يزيد عليهم فهو ليس عنده طاقة بالزيادة
ولذلك أراد اللقاء في معركة، ولم يجرؤ على أن يعين هو مكانها وزمانها وترك لموسى أن يعد الأمر ويبين الموعد، فقال :﴿ فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ﴾، تلطف فرعون الجبار مع موسى الكليم ففوض إليه أن يختار هو الزمان والمكان الذي تكون فيه المغالبة يين سحرهم وعصى موسى، ولا شك أن هذا التلطف كان يمكن أن يكون مطمعا للإيمان لولا الملك وطغيانه، وأن مصر بلد السحر، وأن سحرتها كانوا علماءها، وقوله :﴿ موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ﴾ ﴿ موعدا ﴾ مفعول ب ﴿ فاجعل ﴾ وكذلك ﴿ مكانا ﴾ و﴿ سوى ﴾ أي مكانا عدلا ووسطا بين الفريقين لا يشق علينا ولا عليك، وهو صالح لأن يجتمع فيه الناس. وقوله على لسان فرعون ﴿ لا نخلفه نحن ولا أنت ﴾، أي لا نخلف فيه الوعد، وقدم نفسه ومن معه في عدم الإخلاف تطامنا، وتلطفا في القول، ثم تحدث عن موسى تلطفا معه، فقال ﴿ ولا أنت ﴾. و﴿ موعدا ﴾ مصدر ميمي بدليل﴿ لا نخلفه ﴾ فالوعد هو الذي لا يخلف، والإخلاف عدم الالتزام، فالتزام فرعون بالموعد الذي يعينه موسى، والموعد يتضمن التعريف بزمان اللقاء ومكانه، وقد
أجابه موسى عليه السلام مبينا الزمان والمكان، فالزمان هو ضحى يوم الزينة، والمكان هو مكان الاحتفال بيوم الزينة الذي يجتمع فيه الناس لهذا الاحتفال، و"الحشر" هو الجمع، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ٥٣ ﴾ ( الشعراء ).
و﴿ موعدكم ﴾اسم زمان بدليل أنها محمول وموضوعها يوم الزينة فلا بد أن يتفق المحمول والموضوع في الماهية، فلا يكون المحمول مكانا، والموضوع زمانا.
وما يوم الزينة ؟ لم يبين القرآن ما هو ذلك اليوم، ولم يصح عن السنة ما يدل عليه، فقال بعض التابعين : يوم عاشوراء، وقيل يوم سوق عظيم يتزين فيه الشعب، وأقرب الأقوال إلى العقول، أنه يوم وفاء النيل، فمصر من قديم الزمان تحتفل فيه وتتزين سرورا باطمئنانها على السقي والرعي، ولعل كليم الله موسى اختار ذلك اليوم لأنه يكون فيه جمع حاشد، وفيه تذكير برحمة الله تعالى على مصر بهذا النيل السعيد، الذي يفيض رحمة من الله، فيكون الفصل في قضية الإيمان في زمان ومكان يكون نعمة الله سابغة على مصر الزراعية.
بعد الاتفاق على الموعد وزمانه لا باليوم فقط بل بجزء من اليوم وهو ضحى يوم الزينة، واختار الضحى ليكون الجمع أحشد، والشهود أكثر، فتكون المقاضاة على الحق أمام أكبر عدد ممكن، وتكون الدعوة والتبليغ لأوفر عدد، بعد هذا الاتفاق انصرف فرعون وأخذ يتجادل في الرأي مع أحد شوراه، وأهل الرأي والنظر الذين يستنصر بهم، ولذا قال تعالى :﴿ فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ٦٠ ﴾
"الفاء" عاطفة، أي بعد هذا الاتفاق على اللقاء ومكانه مباشرة انصرف فرعون، وأخذ يجمع أهل الرأي، ويتعرف الرأي الجامع منهم، وهذا هو التدبير الذي دبره، وسماه الله تعالى كيده، لأنه كان يدبر للغلب، يتعرف من يرسل إليه ومن يجيئون، ويتعرف بذلك أخلص الناس له، وأخذ هذا التدبير وقتا طويلا، ولذا قال بعده "ثم أتى" فكان العطف ب"ثم' التي تدل على التراخي، وهذا يدل على أن جمع الكيد والتدبير أخذ وقتا طويلا.
﴿ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ٦١ ﴾ اتجه إليهم ببيان قدرة الله تعالى، وأنها تستأصل، ليزيل برهبة الله تعالى القادر - رهبة فرعون الذي لا يملك من أمره شيئا وإنما قوته تخيل ووهم، وهو في ذاته ضعيف كغيره من الناس.
ومعنى قوله تعالى عن موسى :﴿ لا تفتروا على الله كذبا ﴾ معناه : لا تقطعوا كذبا ولا تقولوه في مقام الحق، وصدر النهي بقوله :﴿ ويلكم ﴾ أي الهلاك النازل بكم إن غيرتم الحق وبدلتموه وآثرتم الباطل عليه مرضاة لفرعون وقومه ممالئين في الحق وتقولون الباطل، ثم أكد وقوع الهلاك عليهم فقال الله عن موسى :﴿ فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ﴾ الإسحات : الاستئصال، وألا تبقى منهم ( باقية )، ومع هذا الاستئصال الخيبة، لأن الافتراء أشد الخيبة وأفحشها ولا يلجأ إليه إلا الخائبون في ذات أنفسهم، يعني أنكم إن كذبتم وافتريتم فإن الهلاك نازل بكم إلا محالة، ولا تكونون قد نجحتم في هذا السباق الذي يكون فيه الاتجاه إلى طلب الحق.
الفاء للسببية، أي بسبب ذلك القول الرهيب الذي أرهبهم تنازعوا أمرهم أي تجادلوا مختلفين غير متفقين في موقفهم من فرعون الذي كلفهم، وموسى الذي أفزعهم إن حادوا عن الصواب وجانبوا الحق، وعبر سبحانه عن تجادلهم بأنهم تنازعوا القول فكان فريق في جانب، وآخر في جانب، وتجادلهم بأنهم تنازعوا القول فكان فريق في جانب، وآخر في جانب، وتجادلوا وكل مجادلة بين متناقضين في النظر نزال وتصارع في الأمر، ولكنهم من بعد غلب عليهم أنهم يريدون السلامة لأنفسهم، وأسروا القول، ولم يريدوا إطلاع الناس على أحاسيسهم وفزعهم، ولذا قال في وصف حالهم :﴿ وأسروا النجوى ﴾ أي بالغوا في إسرار مناجاتهم، لأن المناجاة ذاتها إسرار، ومعنى إسرارها المبالغة فيها بحيث لا يستطيع أحد أن يطلع عليهم، ولا يعرف ما أسروه تناجوا به.
أنهم اختلفوا عندما بين لهم كليم الله موسى- عليه السلام – عاقبة الأمر وتناجوا فيما بينهم وأسروا النجوى مبالغين في الإنكار، وانتهوا إلى أن أعلنوا رأى فرعون اتقاء للشر وتعرفا للأمر بعد وقوعه.
﴿ إن هذان لساحران ﴾ فيها ثلاث قراءات أولاها وأشهرها بإن المشددة والألف في الاسم والخبر، والقراءة الثانية ( إن هذين لساحران ) بإن المشددة والياء في ( هذين )، والقراءة الثالثة ( إن هذان لساحران ) ب "إن" المخففة لا المشددة. وإن القراءة الوسطى ( الثانية ) سائرة على الإعراب المشهور وهو أن ( هذين ) اسم "إن" منصوب بالياء.
وأما القراءة الأولى فقالوا إنها على اللغة التي تلزم المثنى الألف في الرفع والنصب والجر كما هي في الأسماء الخمسة، كما قال القائل :
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
وأما القراءة الثالثة التي تقرأ بتخفيف "إن" فنقول : إن ( إن ) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن ويكون التقدير إنه الأمر المقرر الثابت هذان لساحران، وتكون اللام لام التوكيد، وتؤذن بأن تكون "إن" مخففة من الثقيلة، هذه لفتة إلى الإعراب، قد ضل بعض الناس فادعى أنه روى عن عثمان أن في المصحف لحنا تصححه ألسنة العرب، وهذا الضلال كان هنا في المقام، اللهم إن هذا بهتان عظيم على جامع القرآن ذي النورين رضي الله عنه وعفا عنه وجزاه عن الإسلام خيرا١.
ونعود على عجل إلى الكلام في معنى الآية الكريمة، إن السحرة بعد أن أفزعتهم مقولة موسى، وبيان عاقبة قولهم إن حادوا عن الحق وآثروا أن ينطقوا على هوى فرعون حتى يتبين لهم الحق، ﴿ قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ٦٣ ﴾.
ضربوا على نغمة فرعون ابتداء منجاة بأنفسهم من بطشه، والنفس الإنسانية دائما مأسورة بالأمر الحاضر مؤجلة القابل إلى ميقاته، وكذلك كان هؤلاء ﴿ ويذهبا بطريقتكم المثلى ﴾، "الباء" هنا للتعدية والمعنى ليذهبا طريقتكم، وجيء بالباء لتقوية التعدية أي ليذهبا أي إذهاب بطريقتكم المثلى، أي دينكم الأمثل وكل معتقد يعتقد في دينه أنه الأمثل في الأديان، وإن كان ضلالا في ضلال.
﴿ فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ٦٤ ﴾. الفاء للسببية، أي بسبب أنهم أرادوا بسحرهم أن يخرجاكم من أرضكم، ويذهبا بطريقتكم المثلى، وهو أمر جامع متفق عليه، فأجمعوا كيدكم أي اعتزموه، وأقدموا مجتمعين غير متفرقين، وائتوا إلى موسى صفا لا خلل فيه ولا افتراق ولا تنازع، واتفقوا على أمور ثلاثة :
أولها : إجماع كيدهم، وهو تدبيرهم، ادخلوا الحومة مجمعين على تدبير واحد غير متفرقين فإن الإجماع وحده قوة، والفرقة ضعف وعجز، ولا تنازعوا فتفشلوا.
وثانيها : أن يأتوا موسى صفا واحدا لا ثلمة فيه ولا افتراق، فإن ذلك يزرع في نفسه الهيبة منكم، قالوا ذلك وكأنهم مقدمون على ميدان قتال.
والأمر الثالث : أنهم اتفقوا راغبين في الاستعلاء وأخذ الأجر من فرعون والاستعلاء بعزته الفرعونية وكبريائه الغاشمة، ولذا قالوا :﴿ وقد أفلح اليوم من استعلى ﴾، أي فاز برضا فرعون من استعلى على خصمه، والسين والتاء للطلب، أي طلب العلو فعلا، وهذا حث على أن يشمروا عن ساعد الجد ليفوزوا برضا فرعون، ويستعملوا عنده باستعلائهم بالانتصار في هذا الميدان السحري
بادروه باسمه توددا له كما تودد من قبل فرعون، ولأنه كان عندهم من بيت فرعون من قبل، فله مكانته في نفوسهم الفرعونية، وحسن أدب منهم، لأنه قد شارفت نفوسهم الحقيقة وإن لم تدخلها، ولذا تنازعوا فيها، خاطبوه بأدب فقالوا ﴿... يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ٦٥ ﴾، أي اختر لنفسك أحد الأمرين، إما أن تلقى أنت عصاك التي في يدك، وإما أن نكون أول من ألقى، قابل موسى الكليم أدبهم بكرمه وقد لمح من كلامهم بإشارة القول أنهم يريدون أن يبدءوا، إذ قالوا في تخييره ﴿ وإما أن نكون أول من ألقى ﴾ فنفذ رغبتهم المطوية في عبارتهم، ولأنه يريد أن يعرف ما عندهم قبل أن يعرفوا ما عنده، ولأن الترتيب الذي ألهمه الله تعالى به، أنها ستلقف ما يلقون، فكان الترتيب الطبيعي أن يلقوا هو أولا
﴿ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ﴾
وقالوا : إنما أبهم ولم يذكر أنها العصا تعظيما لأمرها، ولأنها هي عود صغير من شجر تأخذ كل هذه الحبال والعصا ولا تُبقى شيئا يتخيل، أو لا يتخيل، وأرى أن قوله ﴿ ما في يمينك ﴾ تنبيه إلى أن في يده ما يدفع وهمهم، فكيف يوجس خيفة، وهو في يده، وقوله تعالى :﴿ تلقف ما صنعوا ﴾ بالجزم جوابا للأمر، أي ألق ما في يمينك – وهو العصا – وقوله تعالى :﴿ تلقف ما صنعوا ﴾، أي تأخذه بسرعة وتبتلعه ولا يكون له أثر. ﴿ تلقف ما صنعوا ﴾ الضمير يعود إلى العصا، ولذا صدر المضارع بالتاء، فكأنه إبهام ثم بيان فقال ﴿ وألق ما في يمينك ﴾ فلم يذكر أنه العصا، ثم بينها بعود الضمير على لفظ العصا بالتاء، وقد علل الله تعالى لقف العصا والحبال، فقال :
﴿... إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ٦٩ ﴾.
"ما" هنا اسم موصول بمعنى "الذي" وهي اسم "إن" وقوله تعالى ﴿ كيد ساحر ﴾ خبر "إن" وأفرد ساحر مع أنهم كانوا كثرة كاثرة حتى ادعى في الأساطير أنهم كانوا سبعين ألفا والله أعلم بعددهم، وعلى أي حال كانوا عددا غير قليل أفرد لأن المقصود وصف ساحر، ولأن التدبير لا يمكن أن يكون من الجميع، إنما هو من واحد وأقره الجميع عليه، ونكر لأنه واحد من جمعهم لا يهم معرفة شخصه، وعبر سبحانه ب﴿ كيد ساحر ﴾، لأنه تدبيره فهو ليس قلبا للحقائق، فلم يقلب الجامد إلى الحي يسعى، وإنما خيل للأعين فقط، فهو تدبير ماكر، يكيد للحق، وليس قلبا للحقائق قط.
وقال تعالى :﴿ ولا يفلح الساحر حيث أتي ﴾ كان التعريف ب"أل" التي للجنس، ويكون المعنى ولا يفلح من كان عمله السحر في أي مكان أتى، فكلمة ﴿ حيث أتى ﴾ حيث : ظرف مكان، أي من أي مكان أتى، وإلى أي مكان سار، فهو لا فوز له أبدا، ولكن ضلال وتمويه، وتخيل للأعين واسترهاب للنفوس.
﴿ فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ٧٠ ﴾.
يقول الزمخشري في عبرة هذه الوقائع :"سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين" ه. ونقول : ما أعظم الفرق بين الباطل والحق. وبين الاستجابة للباطل واستجابة للحق جل جلاله.
"الفاء" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكان ما قبلها هو إلقاء العصا ولقفها كل ما ألقوا وكان شيئا كثيرا إذ امتلأ المكان بالحبال والعصي التي تسعى، حتى كأن الوادي صار أفاعي وحيات في نظر الرائي، فكان عجبا أن تبتلعها عصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، فكان الإيمان بالمعجزة، وهم أهل الخبرة في معرفة ما هو سحر وما ليس بسحر فآمنوا بالمعجزة وخروا ساجدين.
﴿ فألقى السحرة سجّدا ﴾ ﴿ سجّدا ﴾ جمع ساجد، ك"صُوّم" جمع صائم، وقوله :﴿ فألقي ﴾ بالبناء للمجهول للإشارة إلى أنهم ألقوا سجدا لوضوح الحق وظهوره، ﴿ قالوا آمنا برب هارون وموسى ﴾ آمنوا بالله واكتفوا من التعريف بأن يكون رب هذين الصادقين، وخبر الصادق صادق.
﴿ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علّمكم بالسحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أينا أشد عذابا وأبقى ٧١ قالوا لن نؤثرك على ما جاء ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى، قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ٧٢ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ٧٣ إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ٧٤ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ٧٥ جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ٧٦ ﴾.
أحس فرعون بأن الأرض تميد من تحت أقدامه فلبس الجلد الفرعوني، وأخذ يهدد وينذر وينفذ ما قام به من شر، لأنه رأى بوادر المخالفة لأمره والمنازعة لرأيه، ولذلك بطش، وانتقل من الاستدراج إليه إلى القهر، وعاد إلى الطغيان.
﴿ قال آمنتم له ﴾ أي أسلمتم له وأذعنتم له، ويتضمن معنى المسايرة لموسى والمعاندة له، يقال آمنتم له وآمنتم به، وتتضمن التعدية باللام التسليم له والإذعان له، وتتضمن التعدية بالباء الإيمان بالحق الذي جاء به، وقد جاءت التعديات في هذا المقام، فهنا التعدية باللام، وفي سورة الأعراف كانت التعدية بالباء فقد قال تعالى :﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ١٢٣ ﴾ ( الأعراف ).
وفي هذا الاستفهام إنكار للواقع، فهو ينكر إيمانهم الذي وقع، ويوبخهم عليه، وموضع التوبيخ أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم وهو بذلك يصل بهم إلى أعلى درجات العنت والطغيان، فهو يعلن بهذا أن حكمه يصل إلى فكرهم وقلوبهم، ويحقق فيهم قوله ما رأيكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
كان فرعون على رأس طريق أخذ يسلكه السحرة، فلم يقل الحق ويذعن، ويسلك سبيل الرشاد، بل أخذ يُموّه الحق بتمويه من الباطل، فرآهم تبعوا موسى فما أذعن للحق الذي تقاضى مع موسى فيه، بل أخذ يمارى، ولا يقول إنه غلبهم، لأنه على الحق، بل لأنه أكبر منهم قدرة وطاقة، وأنه منهم بمنزلة المعلم الذي علمهم، فقال :﴿ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ﴾، فهو أسحر منهم وأعلم، وهو منه بمنزلة التلميذ من المعلم، فلم يغلبهم لأنه المحق وهو المبطلون، وإنما غلبهم لأنه أسحر منهم وأعلم، وهكذا كانت المعاندة لآيات الله وقد برزت.
ولأنهم على رأس طريق جديد وهو الخروج على طاعته ومقاومة جبروته، والاستعلاء بربهم على طغيانه – وضع العقبات وأنزل بهم العذاب الشديد، فقال :﴿ فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ﴾ "الفاء" للسببية، أي بسبب ما فعلتم لأقطعن أيديكم.
في هذا الكلام قسم بما يُقسم به عنده، و"اللام" لام القسم، ولذا كانت "نون" التوكيد الثقيلة، التي تلازم القسم في اللغة، والتقطيع للأيدي والأرجل بصيغة التفعيل يدل على كثرة القطع، لكثرة من قطعت أيديهم وأرجلهم، وقوله ﴿ من خلاف ﴾ أي تختلف جهة القطع، فإذا قطعت اليد اليمنى، تقطع الرجل اليسرى، وهكذا، وقال مقسما أيضا بما يُقسم به عندهم ﴿ ولأصلبنكم في جذوع النخل ﴾، وقالوا : إن ﴿ في ﴾ هنا بمعنى "على"، وعبر ب"في" لبيان تمكن الصلب واستقرارهم على جذوع النخل، وهذا الصلب على الجذوع يومئ إلى بقائهم على الصلب حتى يموتوا فهو قتل وتقطيع، ثم قال مقالة الجهالة والطغيان :﴿ ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ﴾.
أقسم الجهول في قوله هذا بما يُقسم به عندهم، و﴿ أينا ﴾ استفهام، وهي تفيد التنبيه في زعمه إلى أنه أشد عذابا وأقسى من موسى، وأبقى أثرا في عذابه من موسى، وهو جهل طاغ لأن موسى لا يعذّب، ولكن يرشد ويهدي، إنما الذي يعذب هو الله رب موسى وهارون، وعذابه أليم هو جهنم يخلد فيها فرعون ومن يتبعه.
من دخل الإيمان قلبه يعمره الله بنوره ويستهين بالحياة والأحياء ولو كانوا فرعون وقبيله، ولذا أجابوا عن تهديده الذي نفذه بقولهم كما حكى الله تعالى عنهم :﴿ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ٧٢ ﴾.
وقد رتبوا على عزيمتهم النابعة من قلوب مؤمنة تفويضهم الأمور إلى ربهم والاستهانة بفرعون وتهديده فقالوا ﴿ فاقض ما أنت قاض ﴾ "ما" إن كانت موصولا حرفيا يكون المعنى فاقض قضاءك، لأنه قضاء الحياة الدنيا وهي فانية، والآخرة هي الباقية، ويصح أن تكون موصولا اسميا بمعنى فاقض الذي أنت قاض، ويكون الرابط في الصلة ضمير فاقض ما أنت قاضيه.
وقالوا ما يدل على الاستهانة بحكمه القاصر ﴿ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ﴾ هذه الحياة الدنيا ظرف، فتقدم في الكلام، والمعنى : إن قضاءك هو في هذه الحياة الدنيا، وما موصول حرفي، وإذا قضاؤك هو في هذه الحياة، فهو قضاء تنفيذه وقت قصير ومن بعده خير طويل، فإنما الحياة الدنيا متاع قليل والآخرة خير وأبقى، وإن هذا يدل على كمال الإيمان بالله، والاستهانة بفرعون وعذابه.
قالوا مؤكدين إيمانهم ب "إن" أولا، وبالجملة الاسمية ثانيا، وبقولهم ﴿ بربنا ﴾، أي الذي خلقنا وأنشأنا إنشاء، فكأنهم يوثقون إيمانهم بأنه إيمان بمن خلق وصور لا بمن يظهر قدرته في العذاب والإيذاء لا في الخلق والإنشاء.
وذكروا ما يرجون من وراء إيمانهم فقالوا :﴿ ليغفر لنا خطايانا ﴾ و"اللام" هنا لام العاقبة، أي لتكون عاقبة إيماننا بربنا أن يغفر لنا خطايانا، والخطايا جمع خطيئة، والخطيئة هي الذنب الذي يحيط بالنفس ويستولي عليه، حتى يصير كأنه صفة من صفات النفس يصدر عنه من غير تدبر ولا تفكر، ولذا قال تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار فيها خالدون ٨١ ﴾( البقرة )، وذلك أن الإنسان إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تكررت َتكررت هذه النكت حتى يربادّ فيمتلئ بالخطايا وتصدر عنه بأفعالها كأنه غير قاصد لها، وهي للضال تشبه الخطأ من الصالح في ذات نفسه ومن تقع منه يسمى خاطئا أي آثما.
وقد ذكر رجاء الغفران من خطاياهم، أي آثامهم، التي كانت منهم، وهم في ديانة القدماء من المصريين، وقد اعترفوا أنهم كانوا يفعلون هذه الخطايا مختارين، والأمر الثاني الذي اعترفوا به هو السحر، وهو إثم، ولكنهم ذكروا في هذا أن فرعون كان يكرههم، ولذا قالوا ﴿ وما أكرهتنا عليه من السحر ﴾.
وإذا كنت يذهب غرورك بأن تقول :﴿... ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ٧١ ﴾ فنحن نقول الحق :﴿ والله خير وأبقى ﴾، فالله هو الدائم، وهو الخير كله، فلا يكون عنه إلا خير ولا يرضى لنا إلا كل خير.
﴿ إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ٧٤ ﴾.
الضمير ضمير الشأن أي أنه الحال والشأن المقرر الثابت ﴿ من يأت ربه مجرما ﴾، أي مرتكبا الآثام كاسبا لها، قد سيطرت عليه آثامه واستغرقت نفسه، ﴿ فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ﴾.
وهذا القول يحتمل أن يكون من كلام السحرة الذين آمنوا وذلك ظاهر السياق، لأن الكلام فيما ردوا به على فرعون، ويحتمل أن يكون وصفا لما يجرى على الأشقياء بحكم الله تعالى وقضاءه، ويرشح لهذا ما جاء بعد ذلك من ثواب المتقين، وقوله تعالى لمن يدخل جهنم :﴿ لا يموت فيها ولا يحيى ﴾ وهذا وصف عميق للذين يخلدون في النار فهم لا يموتون ليستريحوا راحة الموت، إذ يفقدون الحس شقاء أو نعيما، ولا يحيون حياة كريمة فيها متعة الأحياء، ولكنها عذاب وآلام، فهم لا يموتون فيها ولا يحيون، إذ هي حياة الألم المرير المستمر الذي لا ينقطع.
وقد جاء النص من بعد ذلك :
﴿ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ٧٥ ﴾.
وقد بين سبحانه هذه الدرجات العلى، فقال سبحانه :﴿ جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكي ٧٦ ﴾.
ولقد سرنا على أساس أن الآيتين ﴿ إنه من يأت ربه مجرما... ٧٤ ﴾ و﴿ من يأته مؤمنا... ٧٥ ﴾ هو من كلام الله تعالى لا من كلام السحرة، لأنه معطى النعيم، وهو المعاقب والمثيب فهو أليق به، وإن كان ثمة احتمال أن يكون من كلام السحرة، وإذا كان السياق يسوغه ابتداء فإن ثمة التفاتا من الحديث عنهم إلى أن يتكلم الله تعالى عن نفسه، فهو مالك يوم الدين.
﴿ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ٧٧ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ٧٨ وأضل فرعون قومه وما هدى ٧٩ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى ٨٠ كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ٨١ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ٨٢ ﴾.
لم يذكر سبحانه وتعالى إنزال الرجز عليهم، وآيات أخرى، ومجادلات لفرعون وملئه وادعائهم التطير بموسى ومن معه، ويلاحظ أنه لم يحاول الفتك بموسى وأخيه هارون، وقد ذكرت هذه الأحوال في سورة الأعراف، وهكذا تتبع قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل يبدو بادئ الرأي أنها مكررة، وبالتأمل تجدها غير مكررة، وما يذكر في مكان يترك في مكان آخر، وفي كل مكان كانت عبرة قائمة بذاتها، يذكر لها جزء من القصة، لتفرد كل عبرة في موضع، فيكون التجدد والتنبيه المستمر والعبرة، استعداد موسى للقاء فرعون، واللقاء بين نبي اختصه الله تعالى بأن كلمه تكليما، وأكبر الطغاة الذي تشبه به كل طاغية في الأرض، وآخرهم من رأينا في مصر، الذي أجرى الله مراحيض مصر على جثمانه النجس، ويصور هذا الجزء استدرار الطغاة لعاطفة مخالفيهم، ثم استبداده من بعد أن يغلب كما رأينا في معاملته للسحرة، الذين قال لهم :﴿ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم... ٧١ ﴾ وقطع أيديهم وأرجلهم.
بعد ذلك ترك المجادلات واتجه القرآن الكريم إلى نهاية الطاغوت في الأرض وإغراق صاحبه :
﴿ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ٧٧ ﴾.
أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى ﴿ أن أسر بعبادي ﴾، "أن" هنا تفسيرية، أي أن الإيحاء كان هو قوله :﴿ أسر بعبادي ﴾، الإسراء : السير ليلا، وكأنهم خرجوا على استخفاء من فرعون خشية أن يبادرهم بالإيذاء، ولكنه علم بهم، فلحلقهم بجنوده، وأمر الله تعالى موسى أن يخط لهم طريقا يبسا جافا من الماء، ولأن خط هذا الطريق كان بالضرب بالعصا التي بيده دائما- عبر عن الأمر، ولأن خط هذا الطريق كان بالضرب بالعصا التي بيده دائما – عبر عن الأمر التخطيط بالضرب، وقد جاء في سورة الشعراء ﴿ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ٦٣ وأزلفنا ثم الآخرين ٦٤ وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ٦٥ ثم أغرقنا الآخرين ٦٦ ﴾ وفي هذه الآية أكد سبحانه وحيه لموسى ب "اللام" و"قد"، وقوله تعالى :﴿ يبسا ﴾ مصدر هو وصف للطريق الذي أمر موسى به، وهو مصدر من يبس.
وقد اطمأن الله موسى ومن معه من بني إسرائيل الذين سماهم عباده، لأنه خلصهم من فرعون وأهواله، طمأنهم بقوله تعالى :﴿ لا تخاف دركا ولا تخشى ﴾ والدّرك : اللحاق، أي لا تخاف أن يلحقوك، والدرك بالسكون والفتح الإدراك الحسي، وهو الوصول إليك واللحاق بك، ولا تخشى بأسه، فأنت في أمن الله تعالى الذي لا يُدرك، من هو في آمنه و"لا" هنا للنفي لا للنهي، فالمعنى ليس من شأنك أن تخاف اللحاق بك، ولا تخشى بعدى اليوم بطش فرعون وقومه، والجملتان حاليتان، وإن من يكون في أمان الله لا يخاف أحدا ولا يخشاه، ولقد بين الله تعالى أن فرعون منعهم وحاول اللحاق بهم، ولكنه لقي حتفه في هذا اللحاق، ولذا قال تعالى :
﴿ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ٧٨ ﴾.
﴿ وأضل فرعون قومه وما هدى ٧٩ ﴾.
موسى وبنوا إسرائيل
عاش موسى المجاهد في الحق أربعة أدوار : أولها أنه عاش في بيت فرعون تكلؤه المحبة من زوج فرعون، وربما فرعون نفسه الذي لم يكن له ولد، فكان في بيته بمثابة ولده، حتى إذا بلغ أشده وأدرك المجتمع الذي يعيش فيه كان الدور الثاني، فأدرك من هو في مصر ومن قومه، فما ارتضى الظلم في ذاته، ولا ظلم قومه، فكان ربيب نعمة فرعون من شيعة المظلومين المضطهدين، وعندئذ خرج من مصر حرا كريما رضي بشظف العيش، وجفوة الصحراء وخلص لله، وقال مناجيا ربه :﴿... إني لما أنزلت إلي من خير فقير ٢٤ ﴾ ( القصص )، وعاش كادحا وتزوج من إحدى ابنتي شعيب، واستمر يرعى الأغنام متمتعا بحرية الصحراء ونسيمها غير الوبئ، وإذا كان قد حرم رافغ١ العيش في بيت فرعون، فقد منح حرية النفس وسلامة الاعتقاد، ونعمة الكفاح، وذوق متاعب الحياة بجوار نعيمها، فاكتملت بذلك إنسانيته، وعندئذ جاء الدور الرابع من حياته.
وهذا الدور الرابع كان في حقيقته دورين : أولهما : لقاؤه هو وأخوه بفرعون، وقد انتهى بغرق فرعون، ونجاة بني إسرائيل، ويبتدئ الدور الثاني، وهو دوره مع بني إسرائيل ومحاولة تربيته لهم، لقد ربوا على الاستخذاء، والضعف والاستكانة، فلا بد أن يربى فيهم العزة والكرامة، وربوا في أحضان الوثنية فلا بد أن تزرع فيهم الوحدانية، وربوا على الختل والاستهانة، فلا بد أن يربى فيهم العناية والخلق الكريم، وهذا أشق الأدوار في حياة موسى.
ناداهم الله تعالى مقربا مدنيا مؤنسا لهم ذكرا سبحانه نعمته عليهم، ليعرفوا حقها عليهم من الشكر فلا يكفروها، ﴿ قد أنجيناكم من عدوكم ﴾ الذي تحكم فيكم وأسامكم سوء العذاب، وإن هذه كانت مظاهر العداوة من ذلك الظالم الغاشم ﴿ واعدناكم جانب الطور الأيمن ﴾ أي الإتيان في جانب الطور الأيمن، فالكلام على حذف مضاف، وحذف لأن المقصود هو ذات الجزء الجانب الأيمن، والإشادة به لأنه الجانب الذي لقي فيه ربه، وأنزلت عليه الألواح العشرة فيه، فهو المكان الذي كانت ذكريات نبوة موسى عليه السلام، وهو من أولى العزم من الرسل، والتوراة من الكتب المقدسة التي تشتمل على الشرائع الخالدة إلا ما نسخه القرآن الكريم.
وقد قال تعالى :﴿ واعدناكم جانب الطور الأيمن ﴾ وهنا ملاحظتان : إحداهما أن الله تعالى جعلهم طرفا في المواعدة وهي مفاعلة تكون من جانبين، جعلهم الله سبحانه وتعالى طرفا مقابلا لذاته، وذلك تكريم لهم، ورفع لنفوسهم التي استخدمت بإذلال فرعون، فأعلاهم رب العالمين ورفع كبوتهم وأزل عنهم خسيسة الذل.
والثانية أن المواعدة كانت مع موسى رسولهم، لا معهم كلهم، ولكن موسى يجيء بهذه الشرائع إليهم، وقد قال تعالى في هذه المواعدة ﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة... ١٤٢ ﴾ ( الأعراف )، ولأن موسى وهو رسولهم الذي أرسل إليهم كانت المواعدة معه مواعدة لهم. ولأن موسى اختار منهم من سيلونهم في هذا اللقاء، فقد قال تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا... ١٥٥ ﴾ ( الأعراف )، فكان اختيار لهذا الموعد فيه معنى أنهم كانوا مواعدين، وخصوصا أنهم كانوا يمثلون بني إسرائيل، ولذا قال تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا... ١٥٥ ﴾ ( الأعراف )، أي أنهم كأنهم قوم موسى جميعهم، كان ذلك كله تشريفا وتكريما، ورفعا لهم مما كانوا فيه من كبوة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى طعامهم في هذه الصحراء الجرداء، فبدلهم الله بطعام مصر طعاما أشهى وأمرأ وأجدى وهو المن الذي أنزله الله في الأشجار، والسلوى ذلك اللحم الطري، ولذا قال تعالى :﴿ ونزلنا عليكم المن والسلوى ﴾ وقال :﴿ ونزلنا ﴾ ولم يقل "أنزلنا"، لأن المن والسلوى لم ينزل عليهم دفعة واحدة، فيغمرهم فيحتاجون إلى وسائل لادخاره وحفظه، بل كان يعرض لهم على حسب حاجتهم شيئا فشيئا غير مقطوع فلا يحتاجون إلى الادخار، ولا يقطع عنهم فيكون الجوع، بل يجئ إليهم غير مقطوع ولا ممنوع، بل مستمر رحمة من الله تعالى.
﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ٨١ ﴾ ذكر الله تعالى رزق بني إسرائيل بالمن والسلوى في سيناء فناسب أن يبين – سبحانه - شكر الرزق، وفساد النعمة بالطغيان، فقال :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ وهذا الأمر لبيان إباحة الطيبات، وهو في معناه يتضمن الطلب، لأن الأكل مباح ومطلوب، أما إباحته فلتخير ألوانه الطيبة، وأما طلبه فلمنع الإنسان نفسه من الأكل فيهلك، والطيبات لا بد لها من أمرين : أن تكون كسبا حلالا طيبا لا خبث من طريق الحصول عليه، وأن يكون غير مستقذر كالميتة ولحم الخنزير، والدم المسفوح، وغير ذلك من المحرمات التي حرمت لأنها رجس مستقذر، ونهى سبحانه عن الطغيان في الرزق، فقال سبحانه :﴿ ولا تطغوا ﴾، أي لا تتجاوزوا الحدود فيه، وتجاوز الحدود فيه يكون بضروب شتى، منها : أن يطلبه من غير حلّه، ومنها : أن يأكل السحت والربا، ومنها : أن يمنع الفقير من حقه، ومنها : أن يسرف فيه إسرافا، وأن ينفقه في غير موضعه، ومنها الشح والبخل بأن يكون عبد الدينار والدرهم، فكل هذه مجاوزة للحد، وطغيان، وإن الذي يترتب على الطغيان في الرزق وعدم شكره غضب الله تعالى فقال :﴿ فيحل عليكم غضبي ﴾ "الفاء" فاء السببية، أي بسبب الطغيان ينزل بكم غضبى، وهو أعظم ما يفقد الإنسان معاني العلو، فغضب الله يبعد الشخص من سماء الرفعة، ويهوي في مكان سحيق من المقت، والبعد عن الله تعالى، ولذا قال تعالى :﴿ ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ﴾ أي فقد نزل إلى الهاوية السحيقة البعيدة الغور، ومن سقط في الهاوية فإنه يهلك لا محالة، ولذا قالوا :﴿ هوى ﴾ معناها "هلك"، ولذلك فسر الزّجاج ﴿ فقد هوى ﴾ بمعنى : فقد هلك.
﴿ تاب ﴾ عما يرتكب من كبائر وهفوات، فالتوبة ضراعة إلى الله، ورجوع إليه، وهي ذاتها عبادة، وإن الله يقبل التوبة من عباده، والتوبة تجُبّ ما قبلها من معاص، كما أن الإيمان يجبُّ الكفر، و﴿ آمن ﴾ معناها ملأ الإيمان بجلال قلبه، بأن قرن توبته بإذعان مطلق لله تعالى، وكان عمله كقلبه، ولذا قال :﴿ وعمل صالحا ﴾ بأن قام بالعبادة مخلصا محتسبا، وعمل النافع للناس، وكان يحب الشيء لا يحبه إلا الله.
﴿ ثم اهتدى ﴾ الاهتداء أن يعلو إلى درجة المهتدين الذين يخلصون عن الداني في عقولهم ونفوسهم، ويكونون ربانيين لا يعرفون إلا ربهم، ويطرحون كل أمور الحياة وراء ظهورهم إلا أن يكون خيرا أمرهم به، وإن الوصول إلى هذه الدرجة وصول إلى مرتقى عال، ولذا كان العطف ب"ثم" التي يدل على البُعد، وهذا كقوله تعالى :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا ٣٠ ﴾ ( فصلت ).
﴿ وما أعجلك عن قومك يا موسى ٨٣ قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى ٨٤ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ٨٥ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ٨٦ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حُمّلنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ٨٧ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ٨٨ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ٨٩ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ٩٠ قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ٩١ ﴾.
إن هذا هو الدور الأخير من رسالة موسى عليه السلام وهو رعايته لبنى إسرائيل، لقد قيل في الروايات : إن عددهم كان ستمائة ألف، ولكن تربيتهم على العقيدة السليمة عقيدة الوحدانية أخذت جهدا كبيرا، ثم إزالة ما علق برءوسهم من أوهام المصريين أخذ أمدا طويلا، وتربيتهم على النخوة والقوة والعزة كان فوق طاقة موسى عليه السلام، ولذا جعلهم الله يتيهون في الأرض أربعين سنة، ليتربوا فيها على النخوة والبأس والعزة، إن كان فيهم استعداد لها ولتكاليفها، وقال الله تعالى لكليمه موسى مواسيا :﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ٢٦ ﴾ ( المائدة ).
أول صدمة لموسى الكليم فتنة العجل، ذهب موسى إلى جانب الطور الأيمن، كما وعده ربه ليتلقى التوراة، وذهب فرحا عجلا، لأن على شوق لمخاطبة ربه، ولأن المسارعة إلى وعد الحبيب ترضيه، وترضي نفسه، وفي غيبة موسى عن قومه لم يكن وقتا طويلا، فتن بنو إسرائيل بعبادة العجل، وربما يكون موضع عتب بهذه المسارعة، لما اقترن بغيبته، وكل شيء بإرادة الله، ولكن على المرشد الهادي أن يراقب النفوس وموضع ضعفها، وموضع الضعف عند الإسرائيليين هو معاشرتهم لأهل فرعون، هو إتباعهم طريق هؤلاء في أوهامهم وعاداتهم وتقاليدهم.
قال الله تعالى لكليمه، وقد جاء مسارعا إليه في موعده :
﴿ وما أعجلك عن قومك يا موسى ٨٣ قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى ٨٤ ﴾.
"الواو" وصلت ما بعدها بما قبلها لكمال السياق، ولبيان أن الفتنة جاءت بعد الإنعام بالإنجاء، وتنزيل المن والسلوى، والمواعدة على خطاب الله تعالى لموسى، وهذا فيه تقريب لما يقع منهم من بعد، إذ قرنوا تلك النعم السامية بالكفر لا بالشك، وبذلك يتصور القارئ ما سيكون منهم.
كان موسى عليه السلام قد خرج من قومه بمن يمثلونهم، وهم السبعون المختارون الذين يمثلون أسباطهم، ولكنه ككل رئيس قد يسبق من معه يتعرف أمر اللقاء، ولأنه في شوق للأنس بكلام ربه، ولأنه يرى أن الله تعالى سيخاطبه بشرائع قد بعث بها.
سبقهم إلى الموعد، ولكن الله تعالى قدر ميقاتا محدّد الابتداء والانتهاء لمصلحة قدرها ولم يكن تقديره لغير أمر قدره سبحانه، وإن لبث موسى في قومه قد قدر الله فيه دفع ضرر، والله لا يخلف الميعاد، وكل شيء بقضاء الله، وبتقديره، وفي علمه المكنون فهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون.
عتب الله تعالى على كليمه المختار تعجله في ذاته، وعتب عليه أن سبق قومه وتركهم، وهم يحتاجون إلى رعايته ومراقبة خواطرهم ببصيرته وهم قريبو عهد بمعاشرة الفاسقين.
الكلمة الأولى هو﴿ إليك ﴾، أي عجلتي كانت إليك، وأنت القريب إلى نفسي آنس بكلامك، والكلمة الثانية هي ﴿ رب ﴾ أي القائم على نفسي، ومن صنعتني على عينك فإني أسارع إلى من صنعني على عينه جل جلاله.
﴿ قال فإنا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلهم السامري ٨٥ ﴾.
فاعل "قال" هو الضمير العائد على الله جلت قدرته، والفاء للسببية، أي بسبب غيبتك وعدم قيامك بحق الرقابة النفسية عليهم التي مكناك منها، ﴿ قد فتنا قومك من بعدك ﴾ أي اختبرناهم لتتبين مقدار إرادتهم وعقولهم ومداركهم وأضاف الاختبار الذي سماه "فتنة" إلى نفسه، وهو العليم بكل شيء قبل وقوعه، وبعد وقوعه، فالأزمان تكون بالنسبة للناس لا بالنسبة للذات العلية.
وعبر سبحانه فقال :﴿ قومك من بعدك ﴾ أضاف القوم إليه استحثاثا لهمته، وقوة في عتابه، أي أنهم قومه الذي جاء لإخراجهم من طغواء فرعون، ولكن لم يزل الأثر السيئ في عقولهم فطغى بتعاليمه عليهم نفسيا، وإن خلعوا الربقة، وأزالوا رق الأجساد، فلم يزيلوا رق النفوس، ولقد قال تعالى :﴿ وأضلهم السامرين ﴾، أي أوقهم في الضلال، والسامري شخص انتقل معهم من مصر، كان يجيد النحت والتصوير، ولم ينص على أنه من الإسرائيليين أو أهل مصر الأصليين، ويغلب على الظن أنه إسرائيلي اندمج مع المصريين وعرف صناعاتهم، وقيل : إنه كان هنديا يعبد البقر، ثم اعتنق ديانة بني إسرائيل.
"الفاء" تفيد الترتيب والتعقيب، ففور أن بين الله تعالى ما كان بقومه رجع إليهم في حال غضب وحزن، ولذا قال تعالى :﴿ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ﴾ والقوم هنا هم الإسرائيليين جميعا الذين كان منهم الذين عبدوا العجل ولم يكونوا عددا قليلا، بل كانوا كثيرين، وإن لم يكونوا الأكثرين، والغضب هو الثورة النفسية للمفاجأة بأمر مؤلم لم يكن يتوقعه، والأسف : الحزن الذي يسكن النفس بسبب أمر غير مقبول، ولا يوجد له أي مبرر، والحزن من شأن أن يوجد في النفس كآبة، وهمّا وغمّا، وكذلك كانت حال موسى عليه السلام عندما علم من ربه أن قومه عبدوا العجل، ولكن الحكمة النبوية توجب ألا يسترسل في الكآبة والغم، والانفعال، بل لا بد أن يعالج الموقف باستنكار شديد وحزم الشر واجتثاثه من أصله، وكذلك فعل، فقال لائما مستنكرا :
﴿ يا قوم ﴾ هذا نداء مقرب بأنه منهم يؤلمه ما يضلهم، ويفرحه ما يكون خيرا لهم ﴿ ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ﴾ أي ألم يعدكم ربكم بخيري الدنيا والآخرة، وهو وعد حسن يطمئنكم في حاضركم وقابلكم، ولم يذكرهم بحاضرهم الذي هم فيه، وما كانوا عليه في الماضي، وحتى لا يصل اللوم إلى المجافاة، ولأن ذلك إنعام عليه وعليهم، ومنزل النعم وهو الله تعالى هو الذي يذكرهم بذلك.
وقوله تعالى :﴿ ألم يعدكم ربكم ﴾ استفهام إنكاري، أي لقد وعدكم ربكم وعدا حسنا مع التنديد الحفي، وعبر ب﴿ ربكم ﴾ للإشارة إلى أنه وعد محقق لا محالة. لأنه وعد من الله ربكم الذي خلقكم، وهو القيوم على كل أمروكم ومالكم نسيتم هذا الوعد﴿ أفطال عليكم العهد ﴾ العهد أي الزمن، و"الفاء" هنا سببية، والمعنى فأطال عليكم الزمن فنسيتم الوعد الذي وعده الله، والمعنى أبسبب طول الأمد نسيتم وعد ربكم ؟ وهو توبيخ شديد، فإن الزمن لم يطُل، بل كانت الأحداث متلاحقة لا تراخي فيها حتى يكون النسيان، فقد أنجاكم ربكم، وأغرق فرعون، ثم كان الوعد من الله باللقاء، وكانت فتنة العجل على قرب من ذلك.
ثم كانت الجملة الاستفهامية المعادلة ﴿ أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ﴾ نزل بهم، رفقا بهم من المعاندة لله تعالى، وهي مرتقى صعب لا يريد أن يكونوا فيه، إلى المعاندة له هو، وسارع فتبين أنها هي الأخرى، مغاضبة لله تعالى، لأنه عليه السلام لا يتكلم إلا عن الله، ﴿ أم ﴾ استفهامية للمعادلة، و﴿ أردتم ﴾ هنا ليست متجهة إلى أن يحل بهم غضب من ربهم، إنما إرادتهم منصب على السبب الذي يفضي إلى حلول غضب الله تعالى عليهم. وفي هذا إشارة ليست خفية إلى أن ما ارتكبوه من عبادة العجل إغضاب لله تعالى، وكفر به، وإن ذلك يؤدي لا محالة إلى أن يحل بهم غضب الله تعالى، وعبر عن الذات العلية بقوله :﴿ من ربكم ﴾ إشارة إلى أنه هو الذي نجاهم من فرعون وأغرقه، وكلأهم بكلاءته ونزل عليهم المن والسلوى.
وقال عن غضب الله بأنه يحل عليهم، والمعنى آثاره من إصابتهم بالبلاء من قتل وذبح وصَغَار في الأرض، وقد ذاقوه وتمرسوا عليه في حياتهم في مصر، وهذا حث على طلب رضا الله تعالى، بدل أن يسيروا فيما يوجب أن يحل بهم غضبه.
وقد رتب الله تعالى حلول غضب الله على إخلافهم موعده فقال :﴿ فأخلفتم موعدي ﴾ الموعد هنا مصدر ميمي بمعنى الوعد، وإخلاف الوعد ألا يقوموا بموجبه، وقد وعدوا موسى بالاستقامة والإيمان بالله وحده وترك الأوهام بالباطلة التي سيطرت عليهم بسبب مقامهم في أرض فرعون.
وإن هذا الموعد بلا ريب يؤدي إلى إغضاب الله تعالى، لأنه يكون إشراكا وتفريطا في جنب الله، فلا بد أن يحل عليهم غضب الله تعالى وأن يعاد إليهم ما ذاقوه من قبل وعرفوه، أجابوا معتذرين عن فعلتهم الكبرى.
نفوا أنهم أخلفوا موعدهم مختارين مريدين، بل كانوا تحت تأثير إغراء شديد وتضليل كبير، وعبروا عن فقدهم لإرادتهم الحرة الخالية من الإغراء بقول﴿ بملكنا ﴾ قرئت بفتح الميم ويكسرها وبضمها١، والمراد أنهم ما أخلفوا وعدك في الوحدانية واستقامة النفس والفكر بإرادتهم الحرة المختارة، ولكن بإغراء.
وفي هذا اعتراف بالجريمة، واعتراف آخر بأنهم ارتكبوها وإرادتهم مسلوبة بإغراء شديد، ولو كانوا أمام قاض من قضاة الدنيا لأخذهم باعترافهم، واعتذارهم بأنهم كانوا مغرورين ومخدوعين لا يخليهم من العقاب بل يقرره عليهم ويثبته، فالعبرة في الجريمة بالاختيار، وقد كان الاختيار من غير إكراه ولا يُعد الغرور إكراها.
وخصوصا أنهم هم الذين قدموا سبب التضليل، وقالوا :﴿ ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ﴾.
الاستدراك هنا استدراك من اعترافهم يتضمن الاعتذار عن ضعف إرادتهم، وضلال نفوسهم، وهو اعتذار سخيف كشأن بني إسرائيل في كل الأزمان ﴿ حملنا ﴾ هذا فعل مبني للمجهول لم يذكروا من الذي حملهم هذه الأوزار، إنما هم الذين حملوها أنفسهم، وهناك قراءة ﴿ حملنا ﴾٢، والأوزار جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، ويصح أن يكون حمل بعضنا بعضا ما عهدته من زينة القوم أي من ذهبهم، وكون الأوزار أحمالا ثقيلة لا تخلو من إثم، لأن الوزر يطلق على الإثم باعتباره حملا ثقيلا على النفوس، كما قال تعالى :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ١٣ ﴾ ( العنكبوت )، وهذه الأحمال كان فيها آثام، لأنها من زينة بني مصر كانوا استعاروها منهم، فما كانوا يملكون مثلها لإيذاء فرعون لهم، وإذلالهم فأخذوا يكثرون من الاستعارة عندما أُذن لهم بالرحيل، وقوله ﴿ فقذفناها ﴾ أي ألقيناها، ولذا قالوا ﴿ فكذلك ألقى السامري ﴾، وتدل الروايات على أن قذفهم لها كان في النار لتصهر، وفعل السامري مثلهم، وقد كان دبر ذلك معهم، ويروى أنه قال لهم : إن موسى يلومنا على ما أخذنا من زينة القوم فلنلقها في النار لتصهر ولا يراها.
وإن هذا يدل على أنه كانت إرادة، وإنه كان إصرار على الجريمة، وأنهم سلكوا الطريق إلى أسبابها من أوله إلى آخره.
وإذا كانت الجريمة عبادة العجل، فقد وضعوا السبب الأول لصناعته، وتولى كبر الصناعة السامري ودعاهم إلى عبادته فعبدوه.
٢ : قراءة (حملنا) بالبناء للفاعل، وتخفيف الميم: أبو عمر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف –غير حفص ورويس – وقرأ الباقون بالبناء للمجهول، وتشديد الميم غاية الاختصار ٢/٥٧١..
﴿ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ٨٨ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ٨٩ ﴾.
عندما ألقيت زينة القوم من الذهب، وكانت أحمالا ثقالا، وارتكبوا أوزارا كبارا لأنها كانت عاريات اغتصبوها، وأموالا سرقوها، لأن جحود العواري يعدُّ من السرقات. يقول المفسرون إلا من أدركوا العصر الحاضر، وعلموا أخبار المصريين وصناعتهم، قالوا : إن السامري رأى الأمين جبريل بعد أن صنع العجل، أخذ قبضة من الأرض التي سار عليها جبريل أو فرسه فألقاها في المصنوع فصار يخور كما يخور العجل، وسرى في جسمه ماء الحياة، فصار جسدا له خوار.
ذلك كلامهم وروجوه بأمرين : بأنه جسد أو له جسد، والجسد، والجسد لا يكون إلا للجسم الحي، فلا يقال عن الحجر إنه جسد، كما لا يقال عن أي جماد إنه جسد، والأمر الثاني : قوله تعالى :﴿ له خوار ﴾ والخوار لا يكون إلا لعجل حي، فما الحيلة في هذا، لقد أعملوا تفكيرهم مستعينين بالإسرائيليات التي حشرت في كتب التفسير فانتهوا إلى هذا القول.
ونحن نرى أن ذلك القول غير معقول، فإن ملائكة الله تعالى لا تسير في صورة حي إلا بأمر من الله، وإلا لنبي، وما كان السامري نبيا، وما كان ثمة دليل منقول يقرر ذلك القول، وما ادعاه السامري عندما ناقشه موسى في هذا البهتان، وإنه عدّ ذلك الإفك من تسويل النفس وتزيينها الباطل، فكيف يكون تزينا للباطل، ويكون بتتبع آثار جبريل، وأيضا فإن الحياة تكون بإذن من الله تعالى، ومع ذلك يقول السامري﴿.... وكذلك سولت لي نفسي ٩٦ ﴾.
وإن الأمر المعقول أن تقول : إن السامري كما ذكر ألقى الذهب هو من معه ذهب من زينة القوم من بني إسرائيل ألقوها في النار فصهرت حتى صارت سائلا، وبما تعلمه من الصناعات المصرية صنعه على شكل عجل، ووضعه في مهب الرياح فدخل الهواء في خروقه بصوت الريح في أجوافه – فصار له خوار كخوار الثور، وما زلنا نرى في لعب الأطفال مثل هذه الأصوات في اللعب.
وما إن رأى الإسرائيليون هذا حتى قالوا يخاطب بعضهم بعضا ﴿ هذا إلهكم وإله موسى فنسي ﴾، أي السامري، ﴿ فنسي ﴾ هنا معناها ترك، فأطلق النسيان وأريد تركه، ونسب النسيان إليه مع أن عباد العجل جميعا تركوا أو نسوا عبادة الله وحده، ونسوا الحق، وذلك لأنه هو الذي أخرجه بصناعته، وفي التعبير ب﴿ فأخرج لهم عجلا جسدا ﴾ ما يشير إلى أنه صنعه صناعة.
بقى أن نرد على من فهم أن الجسد لا يكون إلا جسما حيا يجري فيه الدم فنقول : إن الجسد والجسم لهما معنى يشتركان فيه، ومعنى يختص به الجسم، فالجسم يقال على كل الأشياء ما يتجسد ويصور، وما لا يتجسد ولا يصور فيقال :
إن الماء جسم ولكن لا يقال لا جسد، وقد ذكر ذلك الراغب في مؤلفاته، فقد جاء فيه في مادة جسد ما نصه :
"الجسد كالجسم لكنه أخص، قال الخليل : لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد ما له لون، والجسم يقال لما لا يبين له لون كالماء والهواء، وقوله تعالى :﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام... ٨ ﴾ ( الأنبياء )، يشهد لما قال الخليل. وقال :﴿ عجلا جسدا له خوار ﴾ وقال تعالى :﴿ وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ٣٤ ﴾ ( ص )، وباعتبار اللون يقال للزعفران جساد وثوب مجسد بالجساد".
وأظن هذا واضحا في أن الجسد يستعمل كالجسم، والجسم أعم من الجسد.
فقوله تعالى :﴿ جسدا له خوار ﴾ لا يمنع أنه جسم لا حياة فيه، وربما كان التعبير بالجسد مناسبا لقوله تعالى ﴿ له خوار ﴾ ولكنه جسم لا حياة فيه.
ولذا قال تعالى في بيان أنه ليس فيه حياة قط :﴿ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ٨٩ ﴾
﴿ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ٩٢ ألا تتبعن أفعصيت أمري ٩٣ قال يا بن أُمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ٩٤ قال فما خطبك يا سامري ٩٥ قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ٩٦ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ٩٧ ﴾.
كان موقف هارون، وهم يتدلون من مرتبة التوحيد الذي أخرجهم به موسى من ربق الاستبعاد والذل إلى مرتبة الوثنية المصرية لتأثرهم بها مدة إقامتهم الطويلة في مصر ضعفاء مستكينين، والضعيف – كما قال ابن خلدون – شغوف دائما بتقليد القوى لحسبانه أن ما فيه من قوة سببه ما عنده من أفكار وآراء، ولو كانت باطلة في ذاتها. كان هارون الذي خلف موسى في قومه موقف المرشد الهادي لا موقف الساكت الممالئ، قال لهم عند تدليهم :﴿ يا قوم إنما فتنتم به ﴾ قال لهم بمجرد أن رأى منهم عبادة العجل قبل أن يحضر موسى إليهم، وقبل أن يعرف لموسى أمر فتنتم ﴿ إنما فتنتم به ﴾ أي اختبر إيمانكم بهذه الصورة صورة العجل، والضمير في ﴿ به ﴾ يعود إلى العجل الذي هو موضع الحديث، سلبا وإيجابا شدّا إلى التوحيد، وجذبا إلى الكفر، وإنما في قوله تعالى :﴿ إنما فتنتم به ﴾، أي أنه ليس له حقيقة أي حقيقة حتى تجعلوه إلها يعبد، ولكنها فتنة نفوسكم التي أثرت فيها إقامتكم في أرض الفراعنة.
قال لهم نبي الله هارون عليه السلام ذلك في إبانه، فما قصر في إرشاد، ولكن لم يؤثر فيهم ذلك القول، كما لو كان من موسى عليه السلام، لأن موسى الأصيل في الرسالة، وهارون ردء له، فلم يكن له تأثيره، وكأنهم لا يقرون برياسة إلا لموسى، ومع أنه قرر حقيقة بدهية، وهي أن ربهم الرحمن، وطالبهم بأن يتبعوه ولا يخالفوه في أمر، مع ذلك أعلنوا ما يفيد أنهم لا يعترفون إلا بموسى رئيسا مطاعا، وقبل أن ننقل قولهم الذي أفاد إصرارهم نقول أولا :: إن هارون ناداهم بما يقربهم إليه ويؤنسهم به، فقال :﴿ يا قوم ﴾ فهذا إشعار بالرباط الذي يربطهم به نسبا، ويدنيهم إليه. ويقول ثانيا مؤكدا الفتنة التي يجب أن يتركوها، والمفتون تزول فتنته عند أول تنبيه إليها، ومع ذلك لم يتركوها ويعودوا إلى الصواب الذي يوافق العقول، ويذكر ثالثا وينتقل من هذا الإرشاد إلى الأمر الذي يجب أن يأخذوا فيقول :﴿ فاتبعوني وأطيعوا أمري ﴾ وكان يجب أن يطيعوه لأنه رسول مع موسى وردؤه، ومخالفته مخالفة لموسى، ولكن رجس الوثنية قد ثبت في نفوسهم، ولا ينخلع منه، و"الفاء" في قوله ﴿ فاتبعوني ﴾ هي لترتيب هذا الأمر على أن عبادة هذا الصنم فتنة وأن ربكم الرحمن وحده، وعبارة ﴿ وإن ربكم الرحمن ﴾ تفيد القصر أي لا معبود غيره لأنه الرب الخالق المدبر لشئونكم الحي القيوم.
وقد ذكروا النهاية التي إليها ينتهي ضلالهم :﴿ حتى يرجع إلينا موسى ﴾.
هكذا كان هارون موحدا غير ممالئ، وما كان لنبي أن يعتنق غير التوحيد، ولا أن يمالئ المشركين، ولكنها التوراة التي في أيدي اليهود جميعا لعنهم الله تقرر أنه مالأهم وعبده كما عبدوه، وتلك فرية على نبي الله تليق بقوم مفترين، ولا تليق بكتاب منسوب لله تعالى، ولكن النصارى واليهود يؤمنون بذلك.
جاء موسى غضبان أسفا، ووجه اللوم ابتداء إلى أخيه يحسب أنه قصر في التوجيه والإرشاد، وما قصّر، وكان كما يظهر من قوله أنه كان يرى أن يتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه، ورأى هارون أن يبقى معهم، ويكرر إرشادهم، ويرقب حالهم :﴿ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ٩٢ ألا تتبعن أفعصيت أمري ٩٣ ﴾.
وبتخريج النص السامي على هذا المعنى يكون كلام موسى لأخيه : ما منعك ألا تتبعني، ما الذي جعلك ذا منعة وحماية على ألا تتبعني، ويكون المعنى العام للنص ما النصير لك جعلك منيعا على ألا تتبعني، كأنه يقول له : إنك معاوني وناصري، فماذا لا تتبعني ؟ أصرت ذا قوة تحميك وتمنعك، وتجعلك منفصلا عني، وأنت لي ردء ومعاون غير ممانع، ولذا أردف هذا بقوله :﴿ أفعصيت أمري ﴾ "الفاء" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فباعتمادك وحمايتك من غيري عصيت أمري، وقد قال الأصفهاني في مفرداته : ويقال المنع في الحماية، ومنه مكان منيع، وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه قال :﴿... ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ١٤١ ﴾ ( النساء )، ﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ١١٤ ﴾ ( البقرة )، ﴿... ما منعك ألا تسجد... ١٢ ﴾ ( الأعراف )، أي حملك، وقيل ما الذي حملك وحدك على ترك ذلك.
وهذا قريب مما ذكرنا في قوله :﴿... يا هارون ما منعك إذ رأيتم ضلوا ٩٢ ألا تتبعن أفعصيت أمري ٩٣ ﴾ والله أعلم بمراده.
وإنه في هذه الآية يبدو متعاطفا مع أخيه أو غير منافر له، ولا غاضب عليه، وفي سورة الأعراف بدا غاضبا شديد الغضب على أخيه، فقد قال الله تعالى :﴿... بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ١٥٠ قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ١٥١ ﴾ ( الأعراف ).
هذا ما جاء في سورة طه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف، والتوفيق أن أخذ رأس أخيه يجره كان في فورة الغضب، والرفق والتعاطف بعد سورة الغضب وحدته، وقد هدأ وسكن وعلم أن هذه نفوس بني إسرائيل.
وبتخريج النص السامي على هذا المعنى يكون كلام موسى لأخيه : ما منعك ألا تتبعني، ما الذي جعلك ذا منعة وحماية على ألا تتبعني، ويكون المعنى العام للنص ما النصير لك جعلك منيعا على ألا تتبعني، كأنه يقول له : إنك معاوني وناصري، فماذا لا تتبعني ؟ أصرت ذا قوة تحميك وتمنعك، وتجعلك منفصلا عني، وأنت لي ردء ومعاون غير ممانع، ولذا أردف هذا بقوله :﴿ أفعصيت أمري ﴾ "الفاء" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فباعتمادك وحمايتك من غيري عصيت أمري، وقد قال الأصفهاني في مفرداته : ويقال المنع في الحماية، ومنه مكان منيع، وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه قال :﴿... ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ١٤١ ﴾ ( النساء )، ﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ١١٤ ﴾ ( البقرة )، ﴿... ما منعك ألا تسجد... ١٢ ﴾ ( الأعراف )، أي حملك، وقيل ما الذي حملك وحدك على ترك ذلك.
وهذا قريب مما ذكرنا في قوله :﴿... يا هارون ما منعك إذ رأيتم ضلوا ٩٢ ألا تتبعن أفعصيت أمري ٩٣ ﴾ والله أعلم بمراده.
وإنه في هذه الآية يبدو متعاطفا مع أخيه أو غير منافر له، ولا غاضب عليه، وفي سورة الأعراف بدا غاضبا شديد الغضب على أخيه، فقد قال الله تعالى :﴿... بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ١٥٠ قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ١٥١ ﴾ ( الأعراف ).
هذا ما جاء في سورة طه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف، والتوفيق أن أخذ رأس أخيه يجره كان في فورة الغضب، والرفق والتعاطف بعد سورة الغضب وحدته، وقد هدأ وسكن وعلم أن هذه نفوس بني إسرائيل.
﴿ قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ٩٤ ﴾.
في هذا إشارة إلى أنه أخذ بلحيته، كما ذكر في سورة الأعراف وقت فورة الغضب، وكان ذكرها على لسان هارون نوعا من عتب رفيق لطيف في مودة واصلة غير مفرقة.
كان النداء لأخيه ﴿ يا بن أم ﴾ وفهم من هذا بعض المفسرين أنهما كانا أخوين لأم، وإلا قال : يا بن أبي، وإنا لا نحسب أن هذا يدل على ما قالا، وإنما يدل على كمال الحنو، وكمال العطف والمودة والرحمة الغافرة الراضية، فإن هذا يشير إلى أنهما اجتمعا على ثدي واحدة ودرّ عليهما غذاء واحد، وجمعهما عطف أموي واحد وأنهما تغذيا عاطفيا بغذاء واحد، فإذا كانا قد انفصلا أحياء، فإن كليهما قطعتان من أم واحدة، وأحسب أن ذكر الأب الواحد لا يتضمن كل هذه المعاني، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله قائلا : يا رسول من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال :"أمك"، قالها ثلاثا، وفي كل مرة يقول :"أمك"، حتى إذا قال الرابعة : قال :"أبوك"١.
﴿ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ﴾ هذا نهى ليس للزجر، ولكن للمحبة وللحق، وللبراءة من الاتهام والمؤاخذة، وقوله﴿ ولا برأسي ﴾ يحتمل أنه كان قد أخذه في غضبه عن عمله وقوله برأسه، ويحتمل أنه ذكر رأسه كناية عن تفكيره وعمله، ويكون بذلك كنّى عن عمله وقوله برأسه التي يفكر بها ويرى ويبصر. وعلّل سكوته بعد إرشادهم وعدم اللحاق به أو استعمال العنف فيهم بقوله :﴿ إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ﴾ أي إني لم أعنف معهم، ولم ألحق بك بل أخذتهم بالرفق خشية أن يتفرقوا، وخشيت أن تقول لي إني أوقعت فرقة بينهم، وفي الفرقة يكون التلافي والمقاومة، فيقاوم كل فريق الآخر في قوله، فتكون المجادلة، ثم المحادّة، ويضل فريق، ويهتدي فريق، وإنهم بلا شك قد انقسموا : فريق ضل، وفريق هداه الله، فلو قاومت الضالين، كانت الحدة والمنازعة والمهاترة، فتركتهم حتى تجئ أنت من لقاء الله تعالى، فيكون معك نوره، فتكون الهداية.
وخشيت أن تقول ﴿ ولم ترقب قولي ﴾ أي لم تلاحظ قولي اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، وإنه بلا ريب لو تفرقوا وكنت سببا في هذا التفرق لكنت من المفسدين، فالتفرق في ذاته فساد وضلال، وإذا كانوا قد ضل بعضهم فهدايته ممكنة وعودته إلى الحق قريبة، ولكن عند التفرق يكون التعصُّب، وتكون الفتنة بينهم في جموعهم، وهي تزيد فتنة العبادة حدّة، فلا يمكن حينئذ أن يجتمعوا، إذ تتسع هُوّة الافتراق.
﴿ قال فما خطبك يا سامري ٩٥ قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي ٩٦ ﴾.
قال موسى متجها إلى السامري الذي أحدث هذه الفتنة الطحناء، وأوجد ذلك الخطب الخطير في قوم يعبدون الله تعالى، وقد رأوا آياته فيهم أنفسهم، فكانوا أحق الناس بتوحيد الله سبحانه وتعالى.
﴿ فما خطبك يا سامري ﴾ "الفاء" للإفصاح، أي إذا كان هذا هارون الرسول معي، فما شأنك الخطير الذي كان في ذاته خطبا، وناداه باسمه ليفيض بنفسه بين يديه، ولا يرهبه ولا يفزع، فلا يكشف كل ما في نفسه.
وقوله تعالى :﴿ فقبضت قبضة من أثر الرسول ﴾ والأثر ليس هو أثر جبريل، ولا فرس جبريل، ولكنه أثر معنوي، والرسول ليس هو جبريل، فلم يجئ ذكر لجبريل في هذا الموضوع حتى يراد بالمعرف ب"أل"، إنما الرسول الذي تكرر ذكره بالرسالة هو موسى كليم الله، وأثر موسى كليم الله تعالى هو دعوته إلى التوحيد، وإلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فذلك هو أثر موسى وهو أثر كل رسول برسالة سماوية من الله تعالى ﴿ فنبذتها ﴾، أي ألقاها في مهب الريح، كما تلقى النواة وترمى، واستبدل بالتوحيد الشرك والكفر، وأن يكون على دين من يعبدوه البقر لعنهم الله تعالى، وقد بين بعد ذلك أن هذا من هوى النفس وليس قائما على منطق من عقل، ولذا قال :﴿ وكذلك سولت لي نفسي ﴾، أي كذلك الذي رأيتم من فتنة بني إسرائيل بهذا التضليل زينت لي نفسي، ومعنى التسويل أنه تردد في هذا الأمر بتساؤل نفسي حتى أختار ما أختار وزينته وحسنته. كان لابد له من عقاب يكون به عبرة في الدنيا، وعقاب الآخرة ثابت له.
ولذا ذكره موسى الكليم بعقاب في الدنيا، وترك عقاب الآخرة لربه الأعلى.
وأقوال الزمخشري تتجه إلى أن قوله لا مساس منع من مخالطة الناس، حتى لا يجرهم إلى الضلال والفتنة، وقال في ذلك : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطمَّ منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليه ملاقاتهم، ومكالمتهم، ومبايعتهم، ومواجهتهم، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا، وإذا اتفق أن يماسّ أحدا رجلا أو امرأة حم المماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح : لا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحش النافر في البرية، هذا هو عقاب السامري في الدنيا نفرة من الناس، ونفرة منه لمرض ألم به، ومنع من الناس، ونرى الأول كما أشرنا.
وأما العقاب الأخروي فقد ترك أمره لله تعالى، وقال له موسى﴿ وإن لك موعدا لن تخلفه ﴾ أي أنه جاء لا محالة، وهو يوم البعث.
واتجه موسى إلى مادة الجريمة بعد أن اتجه إلى المجرم، وهو صورة العجل، أو تمثاله فقال :﴿ وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ﴾ أمره موسى أن ينظر إليه لبيان أنه ليس شيئا يعبد، فإن المعبود باق يدوم ولا يفنى، وأمره بالنظر إليه مع التعبير بأنه إلهه الذي يعبده تهكما به، وبمن اتخذه إلها ﴿ الذي ظلت ﴾ مخفف من ﴿ ظلت عليه عاكفا ﴾، أي ظللت مقيما عابدا لله وحده ﴿ لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ﴾ يقال حرّق الشيء إذا برده بالمبرد، حتى صار ذرات تنسف، ومن ذلك قولهم : يحرق الأُرّم، وإنه بعد برده ينسف في البحر نسفا أي يلقى في البحر ذرات غير متجمعة ولا مجموعة، ومن الخطأ أن يفسر ﴿ لنحرقنه ﴾ بمعنى الإحراق بالنار، لأن النار تذيب الذهب وتصهره، ولا تجعله ذرات تنسف، ولأن اللغة تفسر التحريق بالبرد بالمبرد، وهو المعقول المناسب للمقام، والمتفق مع السياق وكلمة النسف.
﴿ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ٩٨ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ٩٩ من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ١٠٠ خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ١٠١ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ١٠٢ يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ١٠٣ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثالهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ١٠٤ ﴾.
بين الله سبحانه بعد أن كشف موسى لبني إسرائيل بطلان عبادتهم تمثال العجل الذي عبدوه، وما نزل بمن ابتدع عبادته، ومآل ذلك التمثيل، أخذ يبين المعبود الحق، والإله الذي توافرت فيه أسباب الألوهية مخاطبا الناس أجمعين قريشا وغيرهم من الخليفة وبني إسرائيل وسواهم، فقال عز من قائل :
﴿ إنما إلهكم الله ﴾ أكد سبحانه وحدانية الألوهية في الله جل جلاله بثلاثة مؤكدات أولها :﴿ إنما ﴾ فإنها تدل على الحصر، أي أنها تدل على أنه لا إله غيره، والثاني : بتعريف الطرفين﴿ إلهكم الله ﴾ جل جلاله فإلهكم معرفة، والله جل جلاله معرفة. والثالث بقوله :﴿ لا إله إلا هو ﴾ هذا التأكيد كان من مقتضى الحال، لأنه تعقيب على قول ناس ضلوا ضلالا بعيدا، حتى بلغ بهم الوهم أن صنعوا تمثالا بأيديهم، وعبدوه، فكان فعلهم بهتانا عظيما بهتوا به العقول والمدارك، وعندما يشتد قول الباطل يكون من مقتضى الحال أن يؤكد بيان الحق ليمحو الأوهام.
ولقد ذكر سبحانه بعد ذلك السبب في أن الله وحده هو الإله، فقال :﴿ وسع كل شيء علما ﴾، أي وسع علمه كل شيء فهو سبحانه وتعالى يعلم الوجود كله من مبتدئه إلى منتهاه ومآله ولا يكون ذلك إلا للخالق المدبر سبحانه تعالى، فالله تعالى كان الإله وحده، لأنه خلق كل شيء وحده، فلا يشاركه في خلقه أحد، وهو بهذا ليس من نوع ما خلق، بل هو مخالف لكل الحوادث التي أنشأها، وغيره منها، فهو بمقتضى حكم العقل المعبود وحده، ولا معبود سواه، لأن ما عداه حجرا أو شخصا أو تمثالا ناقص محتاج إلى غيره، ولا يعبد إلا الكامل واجب الوجود المطلق.
وقوله تعالى :﴿ وسع كل شيء علما ﴾ ﴿ علما ﴾ فيه تمييز محول من فاعل، أي وسع علمه كل شيء، وكان ذلك التحويل من فاعل إلى تمييز لتمكين نسبة العلم إليه سبحانه إذ إن في الإبهام في ﴿ وسع ﴾ وبعده البيان تمكين فضل.
﴿ كذلك نقص عليك من أبناء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ٩٩ ﴾.
الإشارة إلى القصص الذي قصه الله تعالى من أخبار موسى وفرعون وبني إسرائيل وكيف سيطرت الأوهام ودافعت العقول حتى حلت في العقول، وكيف طغى فرعون وتجبر وذبح واستضعف، وكيف نجى الله بني إسرائيل من عذابهم، ثم كيف غلب الوهم القديم فدخل العقول بعد فضل الله عليهم.
و﴿ كذلك ﴾ في قوله تعالى :﴿ كذلك نقص عليك ﴾ الجار والمجرور متعلق ب﴿ نقص ﴾ والتخريج يكون هكذا : ونقص عليك من أنباء ما قد سبق مثل ذلك القصص الكاشف المبين لمنابت الضلال عند من يضلون، وينابيع الهداية التي يستقون منها الحقائق سقيا.
والأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الخطير ذو الشأن العظيم، وأي نبأ أعلى من العبرة من أنباء فرعون ذي الأوتاد، وموسى كليم الله، وبني إسرائيل الذين كانوا المثل في طرق الهداية والتمرد عليها، والانفلات منها بأوهامهم التي يتوهمونها.
وقال سبحانه :﴿ من أنباء ما قد سبق ﴾ "من" للتبعيض، أي بعض أنباء ما قد سبق، وأكد الله تعالى سبقهم ب"قد" ليتعلم أهل مكة منها، وأنهم ضلوا كما ضل هؤلاء وستكون العقبى عندهم كالعاقبة التي حلت بهم، وأنه ينزل بهم ما نزل بغيرهم، وبين سبحانه الكتاب المنزل الذي ذكرت فيه هذه العبر، فقال تعالى :﴿ وقد آتيناك من لدنا ذكرا ﴾ الذكر هنا هو القرآن الكريم، لأنه المذكّر، وهو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عظم الله سبحانه وتعالى القرآن بعبارات سامية، أولا : بأنه عطاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وبينته الكبرى، وذكر أنه من لدنه أي من عنده، ووصفه بأنه مذكّر، فهو ذكر القلوب ودواؤها وطبّها.
وقال سبحانه وتعالى ﴿ أعرض ﴾ ولم يقل "كفر"، لأن الإعراض عن فهم معانيه، وتبصرها وإدراك بلاغته، ووجوه إعجازه يؤدى إلى الجحود، لما اشتمل عليه من خيري الدنيا والآخرة، فعبر سبحانه بالإعراض الذي هو سبب الجحود، وأراد الجحود بذكر سببه، وذلك لتعظيم شأن الإعراض وخطره، وما يؤدى إليه من أضرار، ونقول إنه أراد بالوزر – بمعنى الإثم – عقابه لأنه يكون ثقيلا.
ونكر سبحانه وتعالى ﴿ وزرا ﴾ للتهويل وبيان أنه وزر خطير، وإثم عظيم، وعذابه أليم. وقد وصف سبحانه هذا الوزر فقال :
﴿ خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ١٠١ ﴾.
وإذا الوزر وهو الحمل الثقيل يتساوى مع نار جهنم، وهي بئس المصير، فهو وزر ثقيل سيء، وهو يثير التعجب في مآله، وقد حسبوه ( هينا )، وهو في ذاته أمر عظيم.
﴿ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ١٠٢ يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ١٠٣ ﴾.
﴿ يوم ﴾ عطف بيان عل قوله ﴿ يوم القيامة ﴾ وإن يوم نفخ الصور هو يوم البعث الذي يقدم بعده يوم القيامة، وهنا ثلاث قراءات في ﴿ ينفخ ﴾ فقرئ بالياء المضمومة والبناء للمجهول، وقرئ ( ننفخ ) وضمير المتكلم لله سبحانه وتعالى، لأن النفخ يكون بأمره، والآمر بأمر يعد فاعله، وقرئ ( ينفخ ) بفتح الباء بالبناء للفاعل، والضمير يعود على الله تعالى، لأنه الآمر، والفعل الآمر به كما ذكرنا.
و﴿ الصور ﴾ هو البوق، وقد قال الراغب الأصفهاني في المفردات :"قيل هو مثل قرن ينفخ فيه، فيجعل الله سبحانه ذلك سببا لعود الصّور والأرواح إلى أجسادها، وروى في الأثر أن الصور فيه صور الناس كلهم.
وعلى ذلك يكون للنفخ في الصور معنيان أحدهما : أنه بوق يجمع الله تعالى بالنفخ فيه الأجزاء المتفتتة في الأرض فتعود صورها وأرواحها، والثاني : أن يصور الأجساد المتفتتة فيه ينفخ فيها فتكون أجسادا حية فيها أرواحها.
وعندي أن قوله تعالى :﴿ يوم ينفخ في الصور ﴾ تصوير لجمع الأموات وبعثهم بأنه لا يتجاوز النداء كقوله ( كن فيكون ) كالقائد ينفخ في البوق فيجتمع الجند بل إنه أسرع من لمح البصر، إذ يكفي النداء من رب العزة فيجتمع الجميع، وإذا اجتمع الجميع اختص الله المجرمين بالذكر، فقال عز من قائل :﴿ ونحشر المجرمين يومئذ رزقا ﴾، لأنهم الذين كفروا وعاندوا فكان اليوم عليهم، وعاندوا واستكبروا، وقد قال تعالى :﴿ نحشر ﴾ أي نجمعهم مكدسين كالأشياء لا كرامة لهم بل مهانين غير محترمين، وقال تعالى في سوء حالهم ﴿ زرقا ﴾، وزرقا أي أن أعينهم عميت لأن العين إذا عميت كان سواد حبتها أزرق، وذلك تشويه لها وتشويه للوجه وطمس للعين، ويقول البيضاوي تابعا للزمخشري : زرق العيون، وصفوا بذلك، لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب، لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو أسود الكبد، أزرق العين.
ولعل وصف الزرق بالعمى أقرب من ذلك القول، ولا نحسب أن وصفهم بزرق العيون ذما جيدا في ذاته.
ونحن نقول إن القرآن الكريم لم يجعل ﴿ زرقا ﴾ وصفا للعيون، ولكنه وصف لأجسامهم، ولا شك أن وصفهم بأنهم زرق في أجسامهم ووجوههم وصف لهم بالهلع والفزع، وهو المقصود، فهم هلعون فزعون من هول ذلك اليوم الشديد، والزرقة أقرب إلى السواد، فهي أدل على الفزع، ومعناه أنهم يجيئون سودا، ويتحقق قوله تعالى :﴿ يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه... ١٠٦ ﴾ ( آل عمران ).
الخفت : خفض الصوت، و﴿ يتخافتون ﴾ : يتبادلون الصوت الخافت الذي يكون بين الجهر والإسرار والنجوى، فهو ليس إسرارا ولا نجوى، ولكنه إعلان في خفت، وهذا التخافت من الهلع والفزع، فإن المفزوع الخائف الهالع يكون كلامه خفيضا من شدة فزعه، إذ لا يستطيع أعلى منه، ولأنه يحسب أنه محسوب عليه قوله.
واللبث المتحدث عنه في أي حال هو، أهو اللبث في الحياة الدنيا، أم اللبث في القبور بين الموت والبعث ؟ اتجه كثيرون من المفسرين إلى أنه اللبث في الحياة الدنيا مستمتعين بلذائذها وزينتها وزخارفها، فإنهم يحسبونه زمنا قليلا ويجتمع عليهم ألمان : ألم بشعور قلة متاعهم في الدنيا، والألم الثاني طول عذابهم في الآخرة، أي أنهم يدركون أن الدنيا متاع قليل بجوار عذاب الآخرة الطويل، ومهما تكن حالهم فإنهم يستقلون متعتهم التي يحاسبون فيها بجوار الشقاء الذي يلقونه في دار الجحيم التي يخلدون فيها، ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ١١٢ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين ١١٣ ﴾ ( المؤمنون ).
واتجه بعض المفسرين إلى أن اللبث في القبور إلى وقت البعث، وذلك أنهم يحسبون أنهم لبثوا وقتا قصيرا ثم استيقظوا بالبعث.
وإني أميل إلى ذلك الرأي، فإنهم وقت البعث لا يحسبون أنهم قضوا وقتا طويلا في القبور، وذلك من قدرة الله وضعف الإنسان، والعشر هي عشر ليال بدليل حذف التاء، والشهر العربي يعرف بالليالي، وهو لغة القرآن الكريم.
هذا ما يقدره بعض الناس، ويقدره آخرون بيوم واحد، وهو أمثلهم طريقة، ولقد قال تعالى ﴿ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ١٠٤ ﴾.
والله سبحانه وتعالى أخبر عن تخافتهم في وقت الفزع الأكبر، وأنهم في هولهم يستقلون ما مضى عليهم في الحياة بجوار ما يستقبلون من أيام شداد غلاظ، أو لوجودهم في قبورهم غير شاعرين لا يعرفون الزمن الحقيقي الذي لبثوه في القبور، وذلك دليل قدرة الله – سبحانه وتعالى – على البعث وحكمته في خلق الإنسان.
﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ١٠٥ فيذرها قاعا صفصفا ١٠٦ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ١٠٧ يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ١٠٨ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ١٠٩ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ١١٠ وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ١١١ ﴾.
كان الإحياء في نظر السائلين سهل بالنسبة للجبال التي هي أوتاد الأرض، فقال تعالى في بيان أنها هينة عند الله لا تحتاج إلى معاناة بل ﴿ ينسفها ربي نسفا ﴾، والنسف يقتضي أن يفتنها ذرات تنسف، ويؤكد سبحانه نسفها، وفي تأكيد النسف تأكيد للتفتيت أيضا.
ويجب أن ننبه هنا إلى أمر ذكره الزمخشري فإنه قرر أن "العِوَج" بكسر العين يكون في المعنويات أو ما لا يعرف إلا بالنظر والمقايسات، و"العَوج" بفتح العين ما يكون في الحسيات، ولكنه عبر هنا بما يدل على المعنويات، وذلك ليكون النفي شاملا لكل ما يكون علوا، ولو كان العلو لا يعرف بالنظر المجرد، بل يعرف بالقياس وميزان الماء، فهذا العوج وإن كان في الحسيات لم يعرف بالمقاييس والموازين العقلية.
وكل إنسان مقدم على أمر أحس بخطورته، وقد اعترته هيبة اللقاء، وأحس بالحساب ولا يدري ما الله فاعل به، فالأبرار يستقلون حسناتهم، ويَعُدون أخطاءهم كبائر، والأشرار يعروهم الإحساس بآثامهم وعظم ما ارتكبوا، ويجدون عملهم محضرا، ويعانون من أنكروه من قبل، وهو البعث والحساب.
"إذ" في ﴿ يومئذ ﴾ تشير إلى يوم ينفخ في الصور، ويكون البعث المراد يوم الحساب، يجئ كل إنسان ومعه أعماله مسجلة عليه في كتابه قد سجلت حسناته، وسجلت سيئاته، وجوارحه تنطق بما اكتسبت من آثام وتحوطه السيئات ويحاسب على ما عمل، ولا شفيع يشفع ولا فدية تدفع ﴿ إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ﴾، وهذه الشفاعة تكريما للشافع وليست استنزالا لعقاب، أو زيادة في ثواب، فالله سبحانه يعلم الجزاء حق العلم وإنما هي إظهار لكرامة الكرماء عند الله العزيز الحكيم، الذي علم كل شيء فقدره تقديرا وما قدره في علمه واقع لا محالة، فإن كان بشفاعة شفيع وقع ما كتب على أنه استجابة لشفاعة اختص بها كريما مكرما.
فالشفاعة بالإذن، ويقال للشفيع اشفع تشفع، فيه لا تكون إلا بإذن من الله ولا تكون إلا لمن ﴿ ورضي له قولا ﴾، كما قال في آية أخرى، ﴿... إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ٢٦ ﴾ ( النجم ).
وقوله تعالى :﴿ إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ﴾ كأنه لا بد من شرطين لقبول الشفاعة وهو إذن الله تعالى، ولا يكون الإذن إلا من مرضى القول مقبول، لأنه تكريم من الله عز وجل لأجل الاستقامة، والعدالة في القول، فلا يشفع لأثيم، وقلنا : إن هذا يكون تكريما للشفيع ولرحمة العباد، وهو مقدر في علمه المكنون، فالشفاعة لا تغير مقدورا، ولكن تنفذ المقدور، وقوله تعالى :﴿ ورضي له قولا ﴾ التنكير هنا لتعميم القول لا لتخصيصه، أي رضي الله سبحانه وتعالى له قولا أيَّ قول، أي كان الصادق الأمين عند الله تعالى، ولا يكون ذلك إلا لرسول من المقربين المصطفين الأخبار.
﴿ يعلم ما بين أيديهم ﴾ أي ما هو أمامهم ويستقبلهم، ﴿ وما خلفهم ﴾، أي ما خلفوه وقاموا به من أعمال، هذا تعبير قرآني يعبر عن الأمور الحاضرة والمستقبلة بأنها بين الأيدي، وكأن في الكلام استعارة شبّه الأمور التي تقع في الحاضر أو المستقبل بما يكون مهيأ بين أيديهم يفعلونه، والأمور الماضية التي عملوها في الماضي بما خلفهم، لأنهم تركوه فكان في أعقابهم فالله علم أعمالهم، وما تستحق من جزاء، وما قدره من عقاب، وثواب وغفران ورحمة من عنده إنه هو الغفور الرحيم الودود السميع البصير.
﴿ ولا يحيطون به علما ﴾ الضمير في ﴿ به ﴾ يصح أن نقول إنه يعود على ﴿ ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ فالله سبحانه وتعالى يعلمه، وهم لا يحيطون بشيء من علم هذا، فالقابل مغيّب عنهم لا يعلمونه، والحاضر لا يعلمونه علم إحاطة، بل علم الإحاطة عند الله وحده، وكذلك ما خلفهم لا يعلمونه علم إحاطة، والمراد بعلم الإحاطة علم البواعث والغايات والنافع والضار، ونتائج الأفعال وثمراتها وحقائقها وكنهها وما تسره الأنفس وما تعلنه، وقوله تعالى :﴿ ولا يحيطون به علما ﴾ هو كقوله تعالى :﴿... ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء... ٢٥٥ ﴾ ( البقرة ).
ويصح أن نقول : إن الضمير يعود على ذي الجلالة، لأن الله أعلى من أن نعرف ذاته، إلا بما يعرفنا به من صفات، والاحتمال الأول أقرب، وبه نقول، والله أعلم.
﴿ عنت ﴾ من عنا يعنو إذا خضع، وخشع وخنع، ومنه قولهم عن الأسير أنه العاني، أي الخاضع وهذا الخنوع هل هو في الدنيا، أم في اليوم الآخر ؟ إنه بلا شك في اليوم الآخر، لأن الله سبحانه هو مالك يوم الدين، وهو مالكه، ففيه لا يكون إرادة إلا إرادة الواحد القهار، وقيل إن هذا في الدنيا، فإن الله تعالى في قبضته السماوات والأرض فكل الوجود خانع عان له سبحانه.
ورأى أن ذلك في الدنيا والآخرة :﴿ الوجوه ﴾ المراد به الذوات كلها، فالوجه يعبر به عن الذوات، لأن به المواجهة، وقوله تعالى :﴿ للحي القيوم ﴾، أي الذي يبقى ولا يموت أبدا، فهو الحي الباقي الذي تذل له كل الوجوه، والقيوم هو القائم على الخلق يدبرهم، وهو القائم عليهم يحصي حسناتهم وسيئاتهم، وهو الدائم الباقي ملك الناس في الدنيا والآخرة.
ولقد قال سبحانه :﴿ وقد خاب من حمل ظلما ﴾.
الواو واو الحال، والخيبة : الخسران والفشل والعجز، فهي تشمل في معناها كل هذه المعاني، وسجل سبحانه وتعالى الخيبة على من حمل ظلما، وعبر سبحانه وتعالى عن حمل الظلم أو كسبه بقوله تعالى :﴿ من حمل ظلما ﴾ إشارة إلى أنه وزر كبير ينوء به من يحمله، وإنه يحسبه هينا، وهو حمل ثقيل، وهو تنبيه لمن يظلمون مستهينين بالناس مستخفين بأنهم يحملون ثقلا ينوء به الناس أمام الله، وقد نكّر ﴿ ظلما ﴾ للإشارة إلى أن عموم الظلم عبء كبير، والمعنى حمل ظلما أي ظلم.
وفي الحديث الصحيح :"يقول الله عز وجل :﴿ وعزتي وجلالي لا يجاوز اليوم ظلم ظالم ﴾١ وعن النبي صلى الله عليه وسلم :( إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة٢ ) والخيبة كل الخيبة لمن لقي الله تعالى وهو به مشرك فإن الله يقول :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ١٣ ﴾ ( لقمان ) والظلم قلّ أو كثر خيبة كل الخيبة، لأن من ينال حقه بظلم خائب أمام الله والناس والحق في ذاته، وناقص في إنسانيته، والله أعلم.
٢ : بهذا اللفظ: رواه الدارمي: السير – في النهي عن الظلم (٢٤٠٤)، وهو جزء من حديث رواه أحمد: مسند المكثرين – مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (٦٥٤٢)..
﴿ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ١١٢ وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ١١٣ فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ١١٤ ﴾.
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء الأشرار وحالهم عندما يظهر لهم البعث ويرونه عيانا، وقد أنكروه من قبل وشددوا في إنكاره حتى حسبوه غير معقول، ذكر لهم حال الذين آمنوا به وصدقوه :﴿ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ١١٢ ﴾.
﴿ ومن يعمل من الصالحات ﴾، أي من يقوم بالعمل الصالح في علاقته بربه، فلا يخضع إلا له، ويقوم بالعبادة التي كلفه إياها، وينفع الناس استجابة لأمر ربه، ويحب نفعهم، ويكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( أن يحب الشيء لا يحبه إلا الله١ ) فيكون في عبادة دائمة حتى في مأكله ومشربه وملبسه وفي بضعه إذ يفعل ذلك استجابة لله تعالى، وقال تعالى :﴿ وهو مؤمن ﴾ "الواو" واو الحال، أي والحال أنه مؤمن، فالعمل الصالح لا يعطي حقه من الجزاء إلا مع الإيمان، لأن معطى الجزاء هو الله تعالى، والإيمان هو الإيمان بالله وكيف يثاب من الله تعالى من لا يؤمن بالله تعالى، إنه حائر بائر ليس له مقصد في عمله، ولا نية يرتجى الخير بها، وقد قال في الذين كفروا وفعلوا بعض الأمور النافعة في الدين " ﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلموا الله ولكن أنفسهم يظلمون ١١٧ ﴾ ( آل عمران ).
وقوله تعالى :﴿ فلا يخاف ظلما ولا هضما ﴾، هذا جواب الشرط، ومعناه يعطون أجرهم موفورا غير منقوص ﴿ فلا يخاف ظلما ولا هضما ﴾ الظلم النقص من العمل أو ثوابه، والهضم معناه الكسر، وقد خاض المفسرون في الفرق بينهما، وحيثما اجتمعا وجب ذكر الفرق، لأنه يجب أن يكون لكل معنى خاصا به مؤسسا عليه والتأسيس أولى من التأكيد.
ونقرب الفرق بينهما فنقول : إن الظلم هنا هو النقص من الأعمال التي يستحق عليه الثواب، والزيادة من السيئات انتقاص من الأعمال الصالحة، وأما الهضم فهو ألا تعطي الأعمال حقها فتكسر، كما يكسر الطعام في قلب الهضيم، والله أعلم.
بعد ذلك ذكر الله تعالى القرآن الكريم في مقام بيان الحق والهداية في الحياة الدنيا وكيف بقي محفوظا إلى يوم الدين.
أولاهما – أنه هنا عبر ب ﴿ أنزلناه ﴾، وفي أكثر الآيات كان التعبير بنزلنا، وينزل، فما الفرق ولم كان الاختيار بأنزلناه ؟ ونتلمس الحكمة فنقول : إن المراد به القرآن كمعجزة في ذاته سواء أنزل دفعة واحدة أم منجما، فكان التعبير بأنزلنا، وعندما كان ينزل لبيان الشرع ولحفظ آية آية كان التعبير بنزّلنا، وهنا بيان أنه معجزة وأنه جاء مبشرا ومنذرا ينتفع به المتقون ويذكر به غيرهم ليكون لهم نذيرا.
الثانية : أنه قال ﴿ قرآنا عربيا ﴾ وهذه حال من ﴿ أنزلناه ﴾ وفيه وصفان أحدهما أنه قرآن والثاني أنه عربي، ووصف قرآن يفيد أنه مقروء متلو يتعبد بتلاوته، وأن النبي قال النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبريل بقراءاته وتلاوته، وأنه متواتر بتلاوته وطرق قراءاته، وهو محفوظ بقراءاته وتلاوته، وأن العناية تتجه إلى قراءاته لا إلى تسطيره فهو يحفظ بتواتره جيلا بعد جيل محفوظا في الصدور، وليس متواترا فقط بكتابته في السطور.
والوصف الثاني أنه عربي فلا يعد قرآنا ما ليس بعربي، فترجمة القرآن لا تعد قرآنا بل إنه لا يمكن ترجمته قط كما قرر العلماء، وكما هو الحق في ذاته، وإذا كان قد رُوى عن أبي حنيفة أنه أجاز قراءة الفاتحة بالفارسية فذلك على أنها دعاء لا على أن الترجمة قرآن، ولذا لا تجب سجدة التلاوة بقراءة الترجمة، ومع ذلك فالرواية الصحيحة أنه رجح ذلك، والله أعلم.
وقال تعالى في شأن القرآن وصفا ثالثا، وهو تصريف الوعيد فيه، من ذكر القصص الذي فيه المثلاث، وما نزل بالعصاة، وفيه ذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من عقاب وحساب، وفي ذكر الحق في ذاته، وبيان كماله، وكمال من يتحلى به.
و﴿ الوعيد ﴾ هو الإنذار، وتصريف الإنذار الإتيان به بأساليب مختلفة، كما أشرنا من بيان هول يوم القيامة، أو قصص الماضين، وفيه عبرة لأولى الأبصار، وهو القيامة، والتنبيه للآيات المختلفة الدالة على قدرة الله العلي.
وقال تعالى :﴿ لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ﴾، أي صرفنا من الوعيد بطرق البيان المختلفة الصادقة ليكونوا في حال من يرجى تقواهم وإذعانهم للحق، وتصديقهم له، ويتقون بذلك عذاب جهنم وإغضاب الله تعالى. وينالون رضوانه وهو أعظم الثواب، أو يحدث هذا التصريف لهم ذكرا يذكرهم بعذاب العاصين، ويكون لهم نذيرا، وقد أسندت التقوى إليهم، لأنها أمر نفسي يتجهون إليه بعد قيام الدليل، وأما من لم يتعظ فالقرآن يحدث لهم ذكرا وإنذارا ولقد قال تعالى :
﴿ فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ١١٤ ﴾.
هذا هو الله خالق السماوات والأرض وما بينهما، وهو الذي يملك ميزان هذا الوجود :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولأن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده... ٤١ ﴾ ( فاطر ).
ولقد ذكر سبحانه نزول القرآن فقال عز من قائل :﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه ﴾.
كان النبي صلى الله عليه يساوق الأمين جبريل في قراءته عندما يوحى إليه بالقرآن فنهاه الله تعالى عن ذلك، وقال هذا النص السامي له تعليما عند تلقي القرآن الكريم، وقوله تعالى :﴿ من قبل أن يقضى إليك وحيه ﴾، أي من قبل أن ينتهي وحيه إليك ويحكم بترتيله وتلاوته، حتى ينقله إلى أمته مرتلا فيتوارثوه مرتلا، وذلك كقوله تعالى : في سورة القيامة :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ١٦ إن علينا جمعه وقرآنه ١٧ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ١٨ ثم إن علينا بيانه ١٩ ﴾ ( القيامة )، وقرآنه الثانية معناها تلاوته وترتيله، كما قال تعالى :﴿... ورتل القرآن ترتيلا ٤ ﴾ ( المزمل )، وكما قال تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ٣٢ ﴾ ( الفرقان ).
هذا تعليم من الله تعالى لنبيه في أمر يتعلق بمعجزته الكبرى ليتحقق حفظ الله تعالى كما وعد، ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ٩ ﴾ ( الحجر )، وقد نبه سبحانه نبيه إلى ذلك العلم، وأمره بأن يطلب الزيادة في العلم، لأن كمال الإنسان في العلم وطلب الزيادة فيه فقال :﴿ وقل رب زدني علما ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يطلب الزيادة في العلم بالضراعة إليه سبحانه، وبالسعي في طلبه، قال الزمخشري في هذا المقام :" هذا الأمر متضمن للتواضع لله تعالى، والشكر له عندما علم من ترتيب التعليم أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعليم، وأدبا جميلا ما كان عندني، فزدني علما إلى علم، فإن لك في كل شيء حكمة وعلما، قيل : ما أمر الله تعالى رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم".
﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ١١٥ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ١١٦ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقى ١١٧ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ١١٨ وأنك لا تظمئوا فيها ولا تضحى ١١٩ فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ١٢٠ فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ١٢١ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ١٢٢ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ١٢٣ ﴾.
هذا وصف الله للطبيعة الإنسانية أنها تنسى، وأنها إذا لم تذكر بشرع من الله يقوي الإرادة برجاء الثواب وخوف العقاب، لا تكون للإنسان عزيمة، وآدم أبو البشرية في هذا الوقت الذي نسب الله تعالى إليه أنه نسى، ولم يجد له عزما، كان وهو على الفطرة الأولى التي لم يكن فيها شرائع مدونة قد جاء بها رسل، ولم يكن قد تسلط عليه إبليس اللعين، وتسلط على ذريته، وكل هذا التسلط منه على ذرية آدم بعد أن هبط من الجنة إلى الأرض.
﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ﴾، أي من قبل الشرائع والرسل، أي من قبل أن يقع، والمعنى عهد الله تعالى لآدم قبل أن يوسوس إليه الشيطان، وهذا العهد هو أمر الله وتكليفه، وإن لم يكن في دار تكليف، وكل أمر من الله تعالى هو عهد بين العبد وربه، وذلك العهد هو قوله تعالى :﴿... وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ٣٥ ﴾ ( البقرة )، ولقد بين الله تعالى أن ذلك عهد مؤكد، وقد أكده سبحانه ب "اللام"، وب "قد"، وبإضافة العهد إليه سبحانه وتعالى، وأنه وثق على آدم أشد توثيق، ولقد ذكر سبحانه وتعالى وصفين لآدم أحدهما إيجابي، والثاني سلبي، أما الأول فهو النسيان فقد قال :﴿ فنسي ﴾ "الفاء" للعطف. ونسي منصبة على العهد، أي فنسي العهد، ووقع في المحظور الذي حذره منه، وليس ذلك ما يكون غضاضة على آدم، لأن الله تعالى يصف الطبع الإنساني، وأنه يعرض له النسيان وتعرض له الغفلة، وما يقع في ما ينهى عنه إلا وهو ناس غافل، الأمر الثاني، وهو السلبي ذكره سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ولم نجد له عزما ﴾، أي عزيمة صادقة تحزم أموره وتقطعها، وعبر سبحانه بهذا القول :﴿ ولم نجد له عزما ﴾ في الأمر الواقع، والله تعالى يعلم به من قبل أن يقع، فقد قدر الله تعالى كل ذلك، وعلم ما وقع قبل وقوعه فكيف يقول :﴿ ولم نجد له عزما ﴾ وهو الذي خلقه وصوره وقدره، ونقول : إنه وجده واقعا، وهو يعلم علما أزليا لأنه هو الذي خلق وصور.
وإن إبليس وذريته يجيئون إلى ذرية آدم، من نسيانهم وغفلتهم، ونقص عزيمتهم، كما جاء إبليس اللعين إلى أبى الإنسانية من جهة نسيانه، وأنه لم يكن له عزم مانع، فليحذر الناس بعد أن جاءتهم الشرائع من وسوسة إبليس وذريته.
و﴿ إذ ﴾ مفعول لفعل محذوف تقديره اذكر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلن لأمته فتستعصم الحذر من إبليس، كيلا يقعوا في إغوائه الذي توعدهم إذا قال في إصرار لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
و﴿ قلنا ﴾ ضمير المتكلم لله تعالى، والأمر للملائكة، ويظهر أنه كان داخلا في عموم هذا الأمر سواء أكان منهم أم لم يكن فهو داخل في عموم الأمر، ولذا كان الاستثناء، فسجدوا طائعين مع معارضتهم ابتداء لخلافته في الأرض، فلما رأوا أن ربهم فضله عليهم بأن علمه الأسماء كلها ولم يعرفوها هم سجدوا، أما إبليس فقد أبى السجود معارضا لرب العالمين، وهنا ذكر أنه ﴿ أبى ﴾ ولم يذكر سبب إبائه، وذكره في آيات أخر، وهو قوله خلقتني من نار وخلقته من طين، ونسي أن الله الخالق، وكان في استطاعته أن يكون العكس، ولكن الله تعالى فعال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
﴿ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ١١٧ ﴾.
"الفاء" فاء السببية، لأن ما قبلها سبب لما بعدها، فالحكم بأنه عدو لآدم وزوجته مترتب على امتناعه عن السجود وما سوغ له الامتناع، وهو توهمه أنه خير منه، وأنه يحسده على منزلته عند ربه، وأي عداوة أقوى من ذلك، وإذا كانت العداوة قد بدت فتوقّع الشر، والإيذاء يقترن بها لا محالة، ولذا أكد الله هذه العداوة، فقال :﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك ﴾ وأكد العداوة ب"إن" المفيدة للتوكيد، وبالجملة الاسمية، وبالإشارة، لأن الإشارة متجهة نحو ما بدا منه وهو كلامه وامتناعه عن السجود، فالإشارة تشير إلى سبب العداوة، وإذا ثبتت العداوة فلا بد أن يتوقع آدم نتائجها، وهي محاولة إخراجه من المكان الذي كرم فيه وكان السجود والخضوع فيه، ولذا قال تعالى :﴿ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ﴾ "لام" ناهية، والنهي سببه العداوة، وقد أكد النهي بنون التوكيد الثقيلة، وبأن الخروج من الجنة، وأنه يترتب عليه الشقاء، وهنا ملاحظة بيانية، وهو أن النهي كان لهما، ولكن ذكر الشقاء لآدم، ونقول إن الشقاء أيضا لهما، ولكن ذكر آدم وحده، لأن آدم يشقى شقاءين، شقاؤه هو الذي يقع فيه، وشقاؤه إذا يشقى به، لأن الرجال يتحملون التبعات عن أنفسهم وعن النساء، لأنهم قوامون عليهم، فأوجدت هذا القوامة تبعات عليهم أكثر، وفي طبيعة النساء اليوم تحميل الرجال التبعة حتى على أخطائهن وحدهن.
﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ١١٨ وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ١١٩ ﴾.
بين الله سبحانه وتعالى بهاتين الآيتين أن في الجنة كل ما يطمع فيه الإنسان من حياة هينة فيها كل مرافق قوامه الآدمي من أكل وكسوة، وشرب، وإقامة، وفي ذلك إشارة إلى ما يجب أن يطلبه الإنسان، فإذا كفى هذا فقد أوتي الدنيا بحذافيرها، فإن وراء المطامع الأخرى من جاه وسلطان وتحكم المصارع، كما قال علي كرم الله وجهه : مصارع الرجال تحت بروق المطامع.
وقوله تعالى :﴿ ولا تضحى ﴾ أي لا تبرز، وقد ورد عن ابن عمر أنه رأى رجلا مستظلا عن الشمس قال : اِضْحَ لمن أحرمت له١، فضحى بمعنى برز للشمس، ولا يضحى بمعنى لا يبرز لها بأن يسكن في كنٍّ لا يبرز فيها له، أي في مسكن، والمعنى على ذلك أنك تجد كفايتك في الحياة فتجد الطعام الذي تأكله، واللباس الذي يقيك العري، والماء الذي تشربه، والسكن الذي يؤويك وحسبك ذلك وكفى، وقد قال البيضاوي في هذا النص القرآني الكريم : إنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية، وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن، ومستغنيا عن اكتسابها، والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ليطرق بأصناف الشقوة المحذر عنها.
أي أنه ذكر هذه الكفاية، وهي الطعام والكسوة والشراب والمسكن بصيغة النفي، لأن عدمها هو موضع التحذير والمنع، ولأن عدمها هو الشقاء في الجنة، وقد نفي بذلك أنه لا يشقى في الجنة إنما الشقاء في غيرها، وإبليس العدو يعمل على شقائكما وكدحكما، إذ أخرجكما من الجنة فلا تطيعاه، وقد أشرنا إلى أن هذه الأمور يجب أن تكون مطلبك يا آدم، وإن في طلب غيرها التناحر على البقاء، ومعه الشقاء، وهذه موعظة لمن أراد جنة الدنيا دون شقائها.
وفي الآيتين من أساليب البيان، فذكر المطلب الأساسي الإنساني ﴿ إن لك ﴾ مؤكدا أن له الأكل والكسوة والشراب والمأوى، هذا لك وحده ليس لك غيره، وفي الجنة، ويجب الاقتصار عليها في الحياة التي تستقبلك.
﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ١١٨ وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ١١٩ ﴾.
بين الله سبحانه وتعالى بهاتين الآيتين أن في الجنة كل ما يطمع فيه الإنسان من حياة هينة فيها كل مرافق قوامه الآدمي من أكل وكسوة، وشرب، وإقامة، وفي ذلك إشارة إلى ما يجب أن يطلبه الإنسان، فإذا كفى هذا فقد أوتي الدنيا بحذافيرها، فإن وراء المطامع الأخرى من جاه وسلطان وتحكم المصارع، كما قال علي كرم الله وجهه : مصارع الرجال تحت بروق المطامع.
وقوله تعالى :﴿ ولا تضحى ﴾ أي لا تبرز، وقد ورد عن ابن عمر أنه رأى رجلا مستظلا عن الشمس قال : اِضْحَ لمن أحرمت له١، فضحى بمعنى برز للشمس، ولا يضحى بمعنى لا يبرز لها بأن يسكن في كنٍّ لا يبرز فيها له، أي في مسكن، والمعنى على ذلك أنك تجد كفايتك في الحياة فتجد الطعام الذي تأكله، واللباس الذي يقيك العري، والماء الذي تشربه، والسكن الذي يؤويك وحسبك ذلك وكفى، وقد قال البيضاوي في هذا النص القرآني الكريم : إنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية، وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن، ومستغنيا عن اكتسابها، والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ليطرق بأصناف الشقوة المحذر عنها.
أي أنه ذكر هذه الكفاية، وهي الطعام والكسوة والشراب والمسكن بصيغة النفي، لأن عدمها هو موضع التحذير والمنع، ولأن عدمها هو الشقاء في الجنة، وقد نفي بذلك أنه لا يشقى في الجنة إنما الشقاء في غيرها، وإبليس العدو يعمل على شقائكما وكدحكما، إذ أخرجكما من الجنة فلا تطيعاه، وقد أشرنا إلى أن هذه الأمور يجب أن تكون مطلبك يا آدم، وإن في طلب غيرها التناحر على البقاء، ومعه الشقاء، وهذه موعظة لمن أراد جنة الدنيا دون شقائها.
وفي الآيتين من أساليب البيان، فذكر المطلب الأساسي الإنساني ﴿ إن لك ﴾ مؤكدا أن له الأكل والكسوة والشراب والمأوى، هذا لك وحده ليس لك غيره، وفي الجنة، ويجب الاقتصار عليها في الحياة التي تستقبلك.
﴿ فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ١٢٠ ﴾.
كان نعيم الجنة نعيما هادئا آمنا، ولكن لم يذكر أنه خالد، ومن كان في عيشة راضية تمنى أن تكون باقية، فجاء إبليس من ناحية هذه الأمنية، وقال لآدم : هل أدلك على شجرة الخلد، وملك لا يبلى، وسوس إليهما بقول خفي يشبه وسوسة الذهب١، وأثار التمني في نفسه بقوله :﴿ هل أدلك على شجرة الخلد ﴾ الاستفهام هنا للتنبيه أي أن هذه الشجرة التي نهي عن الأكل منها هي شجرة الخلد من أكل منها نال الخلود والبقاء والسلطان والسيطرة، وهذا هو المعنى المذكور في آية أخرى، إذ قال الله تعالى عنه :﴿... ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ٢٠ ﴾ ( الأعراف )، وما زال بهما يغريهما بالأكل حتى أكلا، ولقد قال تعالى :﴿ وقاسمها إني لكما لمن الناصحين ٢١ فدلاّهما بغرور... ٢٢ ﴾ ( الأعراف ) فكان التدلي بالغرور أن أكلا منها، وكانت العاقبة ليست الحسنى، ولذا قال تعالى :
﴿ فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ١٢١ ﴾.
﴿ فأكلا منها ﴾ أي من الشجرة التي حرمت عليهما في قوله تعالى في الآيات، ﴿.... ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ٣٥ ﴾ ( البقرة )، وبمجرد أن أكلا منها بدت لهما سوءاتهما أي عوراتهما، فالعورة يسوء النظر إليها، وليس النظر إليها سارا عند أهل الطبائع المستقيمة، وكشف السوءتين في هذا الموضع فُهِم منه بعض القارئين للقرآن الكريم أن الشجرة الممنوعة تتعلق بالجنس، ولكن الله تعالى لم يبين ورسوله لم يفسر، فحق علينا ألا نَقْفُ ما ليس لنا به علم.
وقد قال : إنه عقب بدوِّ السوءتين لهما أنهما أخذا يخصفان عليهما الأوراق فقال تعالى :﴿ طفقا ﴾ أخذا واستمرا، من جرّاء كشف عوراتهما واستحيائهما من انكشافها ﴿ يخصفان عليهما من ورق الجنة ﴾.
ومهما يكن من حالهما التي انكشفت، فإن آدم الكريم عصى ربه الذي خلقه وأمر الملائكة أن يسجدوا له، ولم يكن في طاعة تقيه ذلك الانكشاف، وتجنبه إبليس وسوسته ﴿ فغوى ﴾ أي ضل ووقع في الغواية والضلال.
وفي هذا الكلام ما يشير، أولا : إلى أن الإنسان يؤتي من ناحية ما يتمنى، وإبليس وذريته يأتون من ناحية أمانيه، وتشير ثانيا : إلى أن الإرادة القوية هي العزم الصادق، وهي التي تمنع أو تقاوم وسوسة الشيطان.
وتشير ثالثا : إلى أن فتنة الجنس أشد الفتن، وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر :
أنه ما ترك فتنة أشد من فتنة النساء للرجال١.
بعد هذا العصيان من أبينا آدم لم يعد له هو وإبليس مقام في جنة الله، بل لا بد أن ينزلا إلى المعترك في الأرض، ولكن قبل أن ينزل من جنة الله التي لا تكليف فيها إلى أرض التكليف لابد أن يطهره الله من المعصية التي زل فيها بوسوسة الشيطان.
التعبير ب"ثم" العاطفة للترتيب والتراخي، للإشارة إلى البعد بين المرتبتين مرتبة العصيان والغواية ومرتبة الاجتباء والهداية.
والاجتباء الاختيار والاصطفاء، وقد اجتباه ابتداء بأن جعله أول خلقه، واجتباه ثاني بأن اختاره للاختبار، وتاب عليه من هذه المعصية التي عصاها، فرجع الله تعالى إليه بالمغفرة، إذ تاب هو بالشعور بالخطأ، وعاد الله تعالى عليه بالمغفرة، ثم بالهداية بعد ذلك.
وهذا المعنى يشير إلى أن الخطأ في طبيعة الإنسان، والتوبة خلق المهديين والله تعالى غفور رحيم.
القائل هو الله جل جلاله، وقد قدر لهما، أن يكونا مع إبليس في الأرض حيث التكليف والابتلاء، على أن ينزلا إلى الأرض، وقد طهرهما الله تعالى بعد اختبار، واختبار لهما الهداية بعد هذا العصيان وغفر لهما العصيان، لأن الجنة لم تكن دار تكليف، قال الله لهما ﴿ اهبطا منها جميعا ﴾ الهبوط النزول من مكان عال إلى منخفض، ولا شك أن ترك الجنة التي لا تكليف فيها إلى حيث التكليف، فيكون الخير ومعه الثواب، والشر ومعه العقاب، ولا شك أن ذلك هبوط، ولكنه هو سبيل الرفعة مرة أخرى، فالتكليف كما هو نزول، هو طريق للتدرج إلى الرفعة بجهاد التنازع بين العلاقة الروحية والطبيعة الأرضية، فإذا علا بعد هذا الجهاد فقد وصل إلى السماك١ الأعزل من قوة الإيمان، والهبوط أيضا ذريعة إلى انهواء عميق سحيق في المعصية، وقد صرح سبحانه وتعالى بأمور ثلاثة بعضها يحتاج إلى توضيح :
أولها : قوله تعالى ﴿ جميعا ﴾ فإنها توكيد، والتوكيد يكون لرفع احتمال، ونقول : إن ﴿ جميعا ﴾ تشير إلى وجود إبليس معهما، وتدل على هذا قوله تعالى :﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ فما كانت العداوة، وتدل أن تكون الفتنة بين الرجال والنساء، وإنما العداوة هي بين آدم وإبليس، كما قال تعالى :﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ﴾.
الأمر الثاني : هو الاختبار والتكليف وبيان عاقبة العصيان، ولذا قال تعالى :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾ و"إما" هي "إن" الشرطية و"ما" المؤكدة لمعنى الاشتراط في فعل الشرط، وأكدته أيضا نون التوكيد الثقيلة، أي أن إتيان الهدى الهادي مؤكد لا مجال للريب فيه، والهدى يجئ على لسان هاد هو رسول من رب العالمين، وهو مبشر لمن اتبع الحق منذر لمن ضل عن سبيله، وإن هذا هو موجب التكليف، إذ لا تكليف إلا إذا وجد بيان، كما قال تعالى :﴿... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ١٥ ﴾ ( الإسراء ).
الأمر الثالث : أن من اتبع هدى الله تعالى فإنه لا يضل ولا يشقى، وكان الشقاء مقترنا بالضلال، لأن الضلال يجعل المؤمن في حيرة لا يدرك فيها حقا، ولا يهتدي، وإن ذلك شقاء أي شقاء، وشقاء الإنسان في حيرته، وفوق ذلك فإن الضلال يؤدي إلى الشقاء لا محالة في اليوم الآخر حيث الحساب والعقاب، وإن ثمرة الضلال لا محالة هو العقاب.
ويلاحظ أنه قد ذكر في هذه الآية الاختبار مجملا، وذكر مفصلا في سورة البقرة بعض التفصيل، فقال تعالى :﴿ قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ٣٦ فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ٣٧ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٣٨ ﴾ ( البقرة ).
﴿ ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ١٢٤ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ١٢٥ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ١٢٦ وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ١٢٧ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولى النهى ١٢٨ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ١٢٩ ﴾.
بين الله تعالى حال الذي هداه الله واهتدى بالهادي الذي أرسله حيث لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن سماع الهدى فإنه يكون له معيشة ضنكا، يحس فيها بالضيق الشديد الدائم الذي يجعله في لهج دائم بالحياة أو بنوع منها، وهذا قوله تعالى :﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ﴾ الضنك : الضيق، يقال : منزل ضنك أي ضيق، وعيش ضنك، ومعيشة ضنك أي ضيقة، ويستوي فيه الذكر والأنثى والجمع والمثنى فهو وصف لا يتغير بتغير الموصوف.
وهنا أمران يحتاجان إلى بعض البيان، أولهما : أنه عبر هنا عن المرشد ب ﴿ ذكري ﴾ والجواب أن هذا من إضافة المصدر لفاعله فهو تذكير من الله لعبيده، أو باعتبار أن الرسول مبشر ومذكر ومنذر فقط، وأن من ذكر بالهدى له ثوابه إن اهتدى، وإن لم يهتد فعليه إثمه.
ثانيهما : كيف توصف معيشة العاصي في الحياة بأنها معيشة ضنك، مع أنه قد يكون في بحبوحة من العيش وفي رغد دنيوي يفاخر به، ويقول مفاخرا :﴿... أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ٣٤ ﴾ ( الكهف ) فكيف يوصف بأنه في معيشة ضنك ؟ والجواب عن ذلك أن الضيق لا يكون من قلة المال فقط، بل يكون في غير ضنك ؟ والجواب عن ذلك أن الضيق لا يكون من قلّة المال فقط، بل يكون في غير ذلك، لأن من أعرض عن الهدى، وعن ذكر الله لا يكون في قناعة راضية، بل يكون في طمع مستمر، إذا كان عنده مال وفير استقله فلهب في كثيرة، ويريد وجاهة الدنيا وسلطان الحياة، فيكون في ضيق بحياته، فإن حرم ظنها الكارثة، وهكذا هو يحس بالطلب الدائم، ووراء الطلب الإحساس بالضيق. وتعجبني في ذلك كلمة قرأتها في تفسير القرطبي، فقد قال :"ومعنى ذلك أن الله تعالى جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل عليه، فصاحبه ينفق مما رزقه الله عز وجل بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافغا، كما قال تعالى :﴿... فلنحيينه حياة طيبة... ٩٧ ﴾ ( النحل )، والمُعرض عن الدين مستول عليه الحرص، الذي لا يزال يطمع به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق فيعشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم :"لا يعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم وقته، وتشوش عليه رزقه".
وفوق أن الإعراض عن ذكر الله تعالى تكون النفس فارغة وحيث فرغت النفوس عن ذكر الله كان الظلم، وحيث كان الظلم كان اضطراب الحياة، وتوقع الشر والانتقام فتكون المعيشة ضنكا وتكون الحياة ضيقة لمن يعرف العواقب. هذا عذاب الإعراض عن ذكر الله في الدنيا، أما في الآخرة، فقد قال تعالى فيه :﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ والمراد أنه لا يملك حجة ولا برهانا يبرر به ما فعل وما وقع منه، وفي هذا استعارة تمثيلية، فشبهت حال من تقوم عليه الحجة ولا يحير جوابا، بحال الأعمى الذي لا يبصر الطريق أين تكون النجاة، بجامع الوقوع في الهوة، وعدم البصر بطريق للخلاص أبدا، وإذا كان من في الدنيا أعمى، فهذا الذي حُشر بين أهل الضلال في الآخرة أعمى البصيرة وهو أشد ضلالا.
قال وقد رأى نفسه قد عمى عليه الدليل، وضلت عليه السبيل.
يسأل ربه لم حشرتني أعمى، عاجزا عن الدفاع، وقد عميت عن الدليل، ولم أعرف وجهه مع أنني كنت في الدنيا أبصر القول ومراميه، وأجادل، وأخاصم، وأنازل وأقاوم، والآن أنا مستسلم لمن يقودني كالأعمى، ونادى ب ﴿ رب ﴾ معترفا بأنه خالقه وبارئه، وقد كان من قبل يشرك بربه في العبادة، ويضل ضلالا بعيدا.
كهذا الإيتاء والحشر أعمى لا تستطيع القيام بحجة في وقت حاجتك إليها – أتتك آياتنا فنسيتها، أي أنه في مقابل نسيانك آيات الله تعالى، وتركك إياها كانت غشية العمى عليك وعجزك عن الحجة، وكذلك الذي تركت به آيات الله تنسى أنت في شخصك وتهمل وتلقى فيما تستحق من عذاب أليم.
هذه هي العقوبة الأولى وقد أشرنا إليها من قبل، أما العقوبة الثانية، فقد أشار سبحانه وتعالى إليها بقوله عز من قائل :﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ وذكرنا أن العجز هو عن الحجة والبرهان، حيث يجب الإدلاء بها، فهو عجز في موضع الحاجة، ذانكم عقابان أحدهما في الدنيا، وهو مشتق من ذات الجريمة فهو عقاب من ذات الفعل، والآخر وهو على ما لم يستعد له من الحساب وقد جاء من إنكار البعث، ولو كان قد آمن به لاستعد له، وما فوجئ به وارتج قلبه، فكان هذا عذابا شديدا، لأن اللسان يقف حيث الحاجة أشد ما تكون إليه، والبصر يكون عليه غطاء عند إرادة الإبصار.
هاتان العقوبتان قبل عذاب الآخرة الذي يكون بعد الحساب، وتقدير الجزاء، وهذان العقابان ينالان من أسرف في أمره، وانغمر في الشهوات، ولذلك قال تعالى :﴿ وكذلك نجزي من أسرف ﴾.
كهذا العقاب الدنيوي من إحساس بضنك العيش والضيق فيه والتبرم بحياته والإحساس بفقد الاطمئنان لأي شيء، والإسراف على نفسه بالذات، وبالإحساس بالحرمان المتجدد الذي لا يشبع من لذة، ثم يستكبر الأمور، ولذا تجده يكثر الانتحار وبخع النفس عند المسرفين في المعاصي، والمسرفين على أنفسهم بقلقهم، وعدم اطمئنانهم ومع ذلك يكون إحساسهم بسد الطرق في وجوههم.
فالإشارة في قوله تعالى :﴿ وكذلك نجزي من أسرف ﴾ وهي إلى المعيشة الضنك، والحشر أعمى ﴿ وكذلك ﴾ مفعول ل﴿ نجزي ﴾، والتعبير بالموصول ﴿ من ﴾ للإشارة إلى أن الصلة، وهي الإسراف، سبب لذلك الجزاء.
وقد بين سبحانه أن وراء هذا العذاب عذاب أشد وأبقى، فقال عز من قائل :﴿ ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ﴾ وهو الذي يكون بعد الحساب، وتقرير أن الجزاء أشد لأنه بالنار، وهو أبقى أي إنهم يكونون في جهنم خالدين فيها وبئس المهاد.
الكلام في هذه الآية يتعلق بمشركي مكة، و"الفاء" عاطفة على فعل محذوف تقديره مثلا : أيستمرون في عبادة الأوثان مع قيام العبر الدالة على ضلالهم فلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون.
"هدى" تتعدى بنفسها من غير "لام" فيقال هداه ويهديه، واللام لتقوية التعدية والتنبيه، وبيان الهداية لهم أولا وبالذات، أو نقول إن "يهدي" هنا متضمنة معنى "يتبين"، والمعنى أو لم يتبين لهم كم أهلكنا، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الواقع، والمعنى لم يعتبروا بمن أهلكناهم في عددهم الكثير، وهم يشاهدون آثارهم، ويمشون في مساكنهم، يمرون عليها في رحلاتهم إلى الشام والعودة منه، ولقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بمساكن ثمود وهو مار في غزوة تبوك١.
﴿ إن في ذلك لآيات لأولى النهى ﴾ إن في هذه العبر عن القرون الماضية، وهي الجماعات السالفة لعبرة لمن عنده اعتبار، وقال تعالى :﴿ لأولى النّهى ﴾ والنهى جمع نُهْيَة، وهي العقل الذي ينهى عن مساوئ الأفكار ويحث على محاسنها، وكان حقا أن يعتبروا، ولكن ضعفت العقول، وقل الاعتبار.
ولقد كان المشركون لفرط إعراضهم، وصدهم عن سبيل الله يستعجلون العذاب تحديا أو جهلا، كما قال تعالى :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات... ٦ ﴾ ( الرعد )، ولكن الله تعالى بين أنه قادر عليهم، ولكن لحكمة أخرهم، فقال :
﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ١٢٩ ﴾.
﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن أناء الليل فسبح وأطراف النهار فلعلك ترضى ١٣٠ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ١٣١ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ١٣٢ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ١٣٣ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ١٣٤ قل مكة متربص فتربصوا فستعملون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ١٣٥ ﴾.
بعد هذا الإنذار للمشركين بما كان من هلاك الأمم، وأن الله تعالى أجله للمشركين مع استهزائهم بك وسخريتهم بالمؤمنين، وإيذائهم وقولهم عنك ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وإنه سبحانه وتعالى ممهلهم غير مهملهم :﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾، و"الفاء" للسببية، أي بسبب أن الله تعالى قد أجلهم ولا يمهلهم، اصبر على ما يقولون، أي تحمل ما يقولون، ولا تُلق بالا، ولا تحسبن أن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم لأجل غير بعيد، وهو محقق الوقوع، وما هو محقق الوقوع قريب غير بعيد، ولقد بين الله أن تربية النفس على الصبر تكون بالاتجاه إليه واستذكاره في كل الأوقات، ولذلك قال بعد ذلك :﴿ سبح بحمد ربك ﴾ أي نزّهه. و'الباء' للدلالة على مصاحبة الحمد للتنزيه، أي نزه ربك عن أن يتركهم، حامدا ربك على أنه أعطاك القوة وهو لهم قاهر، وتفاءل ولا تتشاءم، واعلم أن الله معك غير متخلٍّ عنك.
والتسبيح يراد به التنزيه المطلق المصحوب بالحمد، وذلك مطلوب في كل وقت أم المراد الصلاة، ولعلها كانت قد فرضت وأن تلك الآيات نزلت بعد المعراج، وهو الوقت الذي فرضت فيه الصلوات الخمس.
إن الآية يمكن أن تخرج على الأمرين، فيصح أن يكون المطلوب بها أن يلجأ الرسول بعد الصبر مستعينا به على اطمئنان النفس وتنزيهه وحده، في الصباح قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل وساعاته، وفي أطراف النهار، قبل الزوال وبعده، أي يعمم أوقات الصحو كلها في تنزيه وتقديس، وحمد، وإن ذكر الله يذهب الشدائد، ويعطي النفس قوة، ويمكنها من الصبر، ويعطيها الاطمئنان والقرار، ولذلك قال تعالى في ختام النص السامي :﴿ لعلك ترضى ﴾ راجيا أنت أيها الرسول أن ترضى وتقبل على تبليغ الرسالة قرير العين غير آبه لهم، ولا ملتفت إليهم.
هذا على أن البيان للتسبيح المطلق والحمد والرضا، وقد يراد بالسياق الصلاة، ويكون في النص السامي إشارات إلى أوقاتها كما في قوله تعالى :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ١٧ وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ١٨ ﴾( الروم ) ويكون معنى قوله ﴿ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ﴾ المراد بالأول صلاة الصبح وأنه مستحسن الإسفار بها بأن تكون وقد زال الغلس، وما قبل الغروب هو صلاة العصر، ﴿ ومن آناء الليل ﴾صلاة العتمة –المغرب والعشاء-، وأطراف النهار تأكيد لصلاة الفجر والمغرب، كقوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ٢٣٨ ﴾ ( البقرة )، فهو تكرار لتأكيد الطلب، وإن تأكيد الطلب في صلاة الفجر، لأنها وقت الهدوء واستجمام النفس واستجماع كل القوى الروحية، وصلاة المغرب يضيق وقتها، ولذلك ورد في الأثر : المغرب جوهرة فالتقطوها، والفجر قد يتلهى عن صلاته بالنوم، ولذلك من السنة في أذان الفجر، الدعوة إلى الصلاة خير من النوم.
و﴿ آناء ﴾ جمع إني، ومعناها وقت، أي نزه الله تعالى واحمده في كل أوقات الليل، وهنا بعض ملاحظات بيانية، أولها : قوله تعالى :﴿ ومن آناء الليل فسبح ﴾ قدم الزمان على الفعل وربط بينهما بالفاء، وذلك لمزيد العناية بالوقت فإنه وقت الهدأة والسكون، والاتصال بالله وحده.
الثانية : أن الفاء في قوله :﴿ فسبح ﴾ لتوكيد الطلب ووصل القول، كقوله :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله... ٣٨ ﴾ ( المائدة )، وقوله :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة... ٢ ﴾ ( النور ).
الثالثة : أن قوله تعالى :﴿ لعلك ترضى ﴾ الرجاء فيها من النبي صلى الله عليه وسلم لا من الله، فإن الله وحده هو الفعال لما يريد، والعليم الخبير، وإن في هذا النص السامي تعليما لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم أن يلجئوا إلى الله عندما تشتد الشديدة.
ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة١ وقد قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها كبيرة إلا على الخاشعين ٤٥ ﴾ ( البقرة )، وإن الذي يذهب بلب اللبيب النظر إلى متع الحياة الدنيا عند غيره.
والحديث رواه أبو داود: الصلاة- وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم (١١٢٤)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢٢٢١)..
إن الذي يقض مضجع ذوى الأهواء أنهم ينظرون إلى ما عند غيرهم من أسباب المتع والملاذ، وإنه هو الذي يمنع صبر من يريد الصبر ويتغيّا الحقائق، ولذا بعد أن أمر الله تعالى نبيه بالصبر نهاه عما يضعف قوة النفس، والإرادة ليصون الرسول ومن معه نفسه، عن الأسباب التي تضعف الإرادة القوية الباصرة، فقال عز من قائل :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ﴾.
"الواو" عاطفة النهي عن مد العينين على الأمر بالصبر، وفي هذا النهي شحذ الإرادة لتقوى على الصبر كما أشرنا، وإن المعنى الذي يبدو من النص أنه نهى للنبي عن أن يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم فيه من استيلاء على زخارف الدنيا، وزينتها ولا يأخذ نفسه ذلك فيحسب أن لهم به منزلة عند الله تعالى، بل إنه دليل خسرانهم، وإذا كان النهي عن أن يلتفت إلى زينة الحياة الدنيا، فهو أمر له عليه الصلاة والسلام، ومن معه أن يتجهوا إلى معالي الأمور ومعنوياتها عن زخارفها.
وفي الكلام مجاز، فقد عبر سبحانه عن عدم الالتفات إلى ما أعطاهم من زخارف بقوله﴿ ولا تمدن عينيك ﴾، أي لا تطل النظر وتسترسل فيه، وذلك يوجب ألا يلتفت، فشبه حال الالتفات بحال من يمد بصره، وذلك للإمعان في التأمل وفي ذلك تتبع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه السلام للفضل بن عباس، وقد أطال النظر في امرأة "الأولى لك والثانية عليك١".
وقوله تعالى :﴿ إلى ما متعنا به أزواجنا منهم ﴾ "إلى" هي نهاية المد، كأن البصر يكون ممتدا من العين إلى متعهم، وذلك قد يؤدي إلى النظر إليهم غابطا لهم، وما هم في غبطة، أو ما يغبطون عليه و﴿ أزواجا ﴾ معناها أشباها متقابلة كبيرة، و﴿ زهرة الحياة الدنيا ﴾ مفعول لفعل محذوف أو ل ﴿ متعنا ﴾، بتضمينها ﴿ أعطينا ﴾، والتعبير عن هذه الزخارف، وغيرها من أسباب القوة الظاهرة ب ﴿ زهرة ﴾ تدل على أمرين أحدهما أنها كالزهرة، والزهرة عمرها قصير، فهي لا تبقى طويلا، والثاني الإشارة إلى أن متعة الدنيا بريق لا يكون بعده قوة حقيقية، فهي متع كالسراج المزهر سرعان ما ينطفئ، وما أنت عليه يا محمد لا ينطفئ نوره أبدا.
وإن غاية هذه الزهرات إلى انطفاء، وهي اختبار لهم، ولذلك قال تعالى :
﴿ لنفتنهم فيه ﴾، أي لنعاملهم معاملة المختبرين فيزدادوا طغيانا على طغيانهم.
وتنكشف حقيقة أمرهم، ويعرف ما فيهم من غي وشر، والتعدية بقوله ﴿ فيه ﴾ دون التعبير بالباء، وللإشارة إلى أنهم مغمورين في فتنة دائمة قد أحاطت بهم فهم يسارعون فيها من جنبة إلى جنبة وقد أحيط بهم.
﴿ ورزق ربك خير وأبقى ﴾ والرزق هو ما يعطيه الله لعباده من أسباب النفقة وقد يطلق على المعاني، لأنها غذاء القلوب وقوت العقول، ويكون ذلك من باب المجاز، وقد رزق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أنواعا ثلاثة من الرزق أولها وأعلاها وأكملها الهداية، وثانيها : المال الطاهر النقي، والثالث : القوة في ذات أنفسهم كما بدت في الجهاد.
وهذا خير، لأنه أبقى في ذاته، وأبقى لأن له جزاء يوم القيامة، وهو النعيم المقيم قال تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ﴾.
أمر الله تعالى نبيه بالصبر، وأمره بما يقوله، وهو أن يكون مستحضرا لله تعالى منزها له حامدا في الصلاة وغيرها، ونهاه عما يضعف الإرادة وهو النظر إلى زخارف الدنيا وزينتها، وما عليه أهلها، ثم بين سبحانه أن الصلاة الدائمة المستمرة هي عدة المؤمنين، وعدة الصابرين، وإنه يجب أن يكون المؤمن في جو الصلاة بأن يكون بيته مقيما للصلوات فقال تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ قال بعض العلماء : أهل النبي هم أهل بيته أو ذوو قرابته، وذلك ظاهر بيّن، وأمرهم بجعل بيت النبي جوه كله مقيما للصلاة، والصلاة والصبر توأمان، كما قال تعالى فيما تلونا :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ٤٥ ﴾ ( البقرة )، وقال آخرون : إن أهل النبي هم الذين اتبعوه، وقد كانوا في مكة والمدينة أسرته المختارة، حتى إنه صلى الله عليه وسلم يقول في سلمان الفارسي :"سلمان منا آل البيت٢" والذي أراه من هذين الرأيين أن أهله صلى الله عليه وسلم هم أهله الأقربون الذين يعاشرونه، وأمره عليه السلام أمر لأمته، فالله سبحانه وتعالى يأمر كل مؤمن بأن يقيم دعائم بيته على أركان من التقوى والإيمان، والاتجاه إلى الله تعالى، وإنه لو تربى كل بيت على الإيمان والعبادة والاتجاه إلى الله تعالى، وأول أركان العبادة الصلاة ليتكوّن مجتمع صالح من أسر صالحة.
٢ عن عمرو بن عوف المزني: أن رسول الله صلى الله وعليه السلام خط الخندق من أحمر السبختين طرف بني حارثة عام حزّب الأحزاب، حتى بلغ المذاحج، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، واحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت"..
وإن هذه التربية على العبادة التي أجل مظهر لها إقامة الصلاة فإن الصلاة عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم١، ليست هذه التربية لعائدة تعود على الله تعالى، فإن الله غني حميد، وإنما لتكوين أسرة صالحة، ومجتمع صالح وجيل صالح، ولذا يقول العزيز الحكيم :﴿ لا نسألك رزقا نحن نرزقك ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وخطابه عليه الصلاة والسلام خطاب لأمته كلها، وهذه الجملة تدل على أن غاية العبادة إصلاح العابدين، ولا يعود على الله منها شيء فهو ليس بمحتاج، والناس يحتاجون إليه، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله :
﴿ نحن نرزقك ﴾ وإنما الأمر أمر إصلاحكم، وخلاصكم من أعلاق الأرض، ولهذا قال تعالى :﴿ والعاقبة للتقوى ﴾، أي والأمر الذي يعقب هذا الأمر بالصلاة، والاصطبار عليها هو للتقوى المهذبة للنفوس الواقية لها من شرور إبليس وعداوته، والتقوى صفة المتقين، وإذا كانت العاقبة لهذه الصفة فهي عاقبة لهم بوجود مجتمع طاهر نقي
﴿ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ﴾ "لولا" هنا معناها "هلا" الدالة على الحث والتحريض، ويتضمن هذا أنهم ينكرون وجود هذه الآية، وقد رد الله تعالى إنكارهم فقال :﴿ أو لم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى ﴾ سمي القرآن ﴿ بينة ما في الصحف الأولى ﴾، وهي كتب النبيين السابقين من توراة وإنجيل وزبور، وما جاء به إبراهيم وإسماعيل وغيرهم من النبيين والصديقين، وهذه البينة هي القرآن، وكان بينتها لأنه الكتاب الخالد الباقي الذي يحمل في نفسه دليل حجيته، وهو حجة لنفسه، ولكل النبيين الذين سبقوه، لأنه معجزة باقية، وهو المسجل لكل المعجزات السابقة، لأنها كانت أحداثا ستنقضي بوقتها، أما القرآن فهو معجزة باقية تتحدي الأجيال كلها أن يأتوا بمثله فهو معجزة المعجزات، وهو سجلها الخالد الباقي، روى في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما من نبي إلا أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة١ وليس أتباع عيسى وموسى هم الذين سموا اليهود، وسموا أنفسهم النصارى، إنما هؤلاء هم الذين يؤمنون بموسى رسولا نبيا، وبما اشتملت عليه التوراة من شرائع وتبشير برسل من بعده، وأتباع عيسى هم الذين يقولون إنه عبد لله خلقه كما يخلق البشر، وإن كان خلقه من غير الأسباب العادية لتعليم الناس في عصر كان الفلسفة فيه لا تؤمن إلا بالأسباب والمسببات العادية، فالله تعالى يعلمهم أنه الفاعل المختار المريد، فهل الذين يدّعون أنهم أتباع موسى وعيسى يؤمنون بإيمانهم، وما جاءوا به من شرائع ؟ إذن فأتباع محمد هم الكثرة، ومحمد عليه الصلاة والسلام، أكثر تابعا يوم القيامة وإنهم يكفرون بالقرآن آية، ويريدون آية غيره، كقوله تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ٥٠ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ٥١ ﴾ ( العنكبوت ).
وإن الله لم يأت بالمعجزات الحسية لأنهم كفروا، كما قال تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون... ٥٩ ﴾ ( الإسراء )، فهم ليسوا طلاب هداية يريدون الوصول إليها، بل هم مكذبون معاندون جاحدون يبررون جحودهم.
وهم إذ جاءتهم الآية كفروا بها، وإذا لم تجئهم أيضا برروا كفرهم بأنهم لم تجئهم آية، ولذا قال تعالى :
﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ١٣٤ ﴾.
ولو أنه سبحانه وتعالى لم يرسل رسلا، وكان الهلاك لقامت لهم حجة، ولذا قال سبحانه :﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ﴾.
الضمير في ﴿ قبله ﴾ يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن المناقشة مع المشركين، فهو حاضر في الذهن، وإن لم يكن مذكورا باللفظ، ويصح أن يعود إلى القرآن، لأنه البينة المثبتة لكل ما في صحف إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وغيرهم، والمعنى لو ثبت أنا أهلكناهم بكفرهم وضلالهم، وأنهم يعيشون في الأرض فسادا لقالوا :﴿ ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ﴾ يكون قولهم يوم القيامة ضارعا، إذ ينادون ﴿ ربنا ﴾ خالقنا والقائم على أمورنا وحياتنا :﴿ لولا أرسلت إلينا رسولا ﴾، أي هلا أرسلت إلينا رسولا يرشدنا ويعلمنا، ويجنبنا طريق الباطل، ويهدينا إلى الطريق المستقيم﴿ فنتبع آياتك ﴾ الفاء للسببية، أي بسبب الرسل نتبع آياتك البينات، والمراد الآيات الشرعية التكليفية، أو نتبع خاضعين لموجب ما تدل عليه آياتك في هذا الوجود كله :﴿ من قبل أن نذل ﴾ باتباع الباطل والهلاك ﴿ نخزى ﴾ أي نصاب بالخزي والعار في الدنيا والآخرة.
وإن أمر الشرك وأهله لعجب، لأن الضلال إذ سيطر كان العجب، فإذا أرسل إليهم رسول جحدوا وعنتوا معه، وعاندوه ولم تعجبهم حجة لفرط إنكارهم لا لنقص في الدليل الذي قدم إليهم برهانا ساطعا، وإن لم يرسل وعذبوا، قالوا هلا أرسل إلينا رسول من قبل أن نذل ونخزى، إنه ليس لهم إلا أن يروا عاقبة جحودهم وعنادهم، ولذا قال عز من قائل :
﴿ قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ١٣٥ ﴾.
﴿ فستعملون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ﴾.
"الفاء" تنبئ عن شرط مقدر، فإذا تربصنا فستعملون من أصحاب الطريق المستقيم، فالصراط هو الطريق السوي أي المستقيم، ومن وصل إلى الهداية وإلى الحق، أي ستعملون من يكون قد سلك المسلك المستقيم، ومن سار على الطريقة، ومن وصل إلى الحق، واهتدى إليه، والاستفهام للتنبيه والتوجيه، والجملة كلها للتهديد، لأن من اهتدى وسلك طريق الحق فقد نال حسن الهداية والتوفيق ونال الجنة النعيم المقيم ورضوان من الله أكبر، ومن ضل وغوى، وسار في مثارات الشيطان فقد هوى إلى نار جهنم وبئس المصير.
فاللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم، وجنّبنا سُبُل الضلالة الموصلة إلى عذاب الجحيم.