ﰡ
أي: يا أيها الذي منَّ الله عليه بالنبوة، واختصه بوحيه، وفضله على سائر الخلق، اشكر نعمة ربك عليك، باستعمال تقواه، التي أنت أولى بها من غيرك، والتي يجب عليك منها، أعظم من سواك، فامتثل أوامره ونواهيه، وبلغ رسالاته، وأدِّ إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق.
ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد، فلا تطع كل كافر، قد أظهر العداوة لله ورسوله، ولا منافق، قد استبطن التكذيب والكفر، وأظهر ضده.
فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة، فلا تطعهم في بعض الأمور، التي تنقض التقوى، وتناقضها، ولا تتبع أهواءهم، فيضلوك عن الصواب.
﴿وَ﴾ لكن ﴿اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ فإنه هو الهدى والرحمة، وَارْجُ بذلك ثواب ربك، فإنه بما تعملون خبير، يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم، من الخير والشر.
فإن وقع في قلبك، أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة، حصل عليك منهم ضرر، أو حصل نقص في هداية الخلق، فادفع ذلك عن نفسك، واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره، وهو التوكل على الله، بأن تعتمد على ربك، اعتماد من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، في سلامتك من شرهم، وفي إقامة الدين، الذي أمرت به، وثق بالله في حصول ذلك الأمر على أي: حال كان.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا﴾ توكل إليه الأمور، فيقوم بها، وبما هو أصلح للعبد، وذلك لعلمه بمصالح عبده، من حيث لا يعلم العبد، وقدرته على إيصالها إليه، من حيث لا يقدر عليها العبد، وأنه أرحم بعبده من نفسه، ومن والديه، وأرأف به من كل أحد، -[٦٥٨]- خصوصًا خواص عبيده، الذين لم يزل يربيهم ببره، ويُدِرُّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة، خصوصًا وقد أمره بإلقاء أموره إليه، ووعده، فهناك لا تسأل عن كل أمر يتيسر، وصعب يسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وأحوال وحوائج تقضى، وبركات تنزل، ونقم تدفع، وشرور ترفع.
وهناك ترى العبد الضعيف، الذي فوض أمره لسيده، قد قام بأمور لا تقوم بها أمة من الناس، وقد سهل الله [عليه] (١) ما كان يصعب على فحول الرجال وبالله المستعان.
يعاتب تعالى [عباده] (١) عن التكلم بما ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا لا حقيقة له من الأقوال، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا، فإن ذلك القول منكم كذب وزور، يترتب عليه منكرات من الشرع. وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء، والإخبار بوقوع ووجود، ما لم يجعله الله تعالى.
ولكن خص هذه الأشياء المذكورة، لوقوعها، وشدة الحاجة إلى بيانها، فقال: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ هذا لا يوجد، فإياكم أن تقولوا عن أحد: إن له قلبين في جوفه، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية.
﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ﴾ بأن يقول أحدكم لزوجته: "أنت عَليَّ كظهر أمي أو كأمي" فما جعلهن الله ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ أمك من ولدتك، وصارت أعظم النساء عليك، حرمة وتحريمًا، وزوجتك أحل النساء لك، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر؟
هذا أمر لا يجوز، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾
﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ والأدعياء، الولد الذي كان الرجل يدعيه، وهو ليس له، أو يُدْعَى إليه، بسبب تبنيه إياه، كما كان الأمر بالجاهلية، وأول الإسلام.
فأراد الله تعالى أن يبطله ويزيله، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه، وأنه باطل وكذب، وكل باطل وكذب، لا يوجد في شرع الله، ولا يتصف به عباد الله.
يقول تعالى: فالله لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم، أو يدعون إليكم، أبناءكم، فإن أبناءكم في الحقيقة، من ولدتموهم، وكانوا منكم، وأما هؤلاء الأدعياء من غيركم، فلا جعل الله هذا كهذا.
﴿ذَلِكُمْ﴾ القول، الذي تقولون في الدعي: إنه ابن فلان، الذي ادعاه، أو والده فلان ﴿قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ أي: قول لا حقيقة له ولا معنى له.
﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾ أي: اليقين والصدق، فلذلك أمركم باتباعه، على قوله وشرعه، فقوله، حق، وشرعه حق، والأقوال والأفعال الباطلة، لا تنسب إليه بوجه من الوجوه، وليست من هدايته، لأنه لا يهدي إلا إلى السبيل المستقيمة، والطرق الصادقة.
وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته، فمشيئته عامة، لكل ما وجد من خير وشر.
ثم صرح لهم بترك الحالة الأولى، المتضمنة للقول الباطل فقال: ﴿ادْعُوهُمْ﴾ أي: الأدعياء ﴿لآبَائِهِمْ﴾ الذين ولدوهم ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: أعدل، وأقوم، وأهدى.
﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ﴾ الحقيقيين ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ أي: إخوتكم في دين الله، ومواليكم في ذلك، فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة، والموالاة على ذلك، فترك الدعوة إلى من تبناهم حتم، لا يجوز فعلها.
وأما دعاؤهم لآبائهم، فإن علموا، دعوا إليهم، وإن لم يعلموا، اقتصر على ما يعلم منهم، وهو أخوة [الدين] (٢) والموالاة، فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم، عذر في دعوتهم إلى من تبناهم، لأن المحذور لا يزول بذلك.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ بأن سبق على لسان أحدكم، دعوته إلى من تبناه، فهذا غير مؤاخذ به، أو علم أبوه ظاهرًا، [فدعوتموه إليه] (٣) وهو في الباطن، غير أبيه، فليس (٤) عليكم في ذلك حرج، إذا كان خطأ، -[٦٥٩]- ﴿وَلَكِنْ﴾ يؤاخذكم بـ ﴿مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ من الكلام، بما لا يجوز. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ غفر لكم ورحمكم، حيث لم يعاقبكم بما سلف، وسمح لكم بما أخطأتم به، ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم، فله الحمد تعالى.
(٢) زيادة من: ب.
(٣) زيادة من: ب.
(٤) في (أ) وقعت هنا زيادة حرف (في) ولا محل له.
يخبر تعالى المؤمنين، خبرًا يعرفون به حالة الرسول ﷺ ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أقرب ما للإنسان، وأولى ما له نفسه، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه عليه الصلاة والسلام، بذل لهم من النصح، والشفقة، والرأفة، ما كان به أرحم الخلق، وأرأفهم، فرسول الله، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم، من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على يديه وبسببه.
فلذلك، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس، مع مراد الرسول، أن يقدم مراد الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول، بقول أحد، كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه.
وهو صلى الله عليه وسلم، أب للمؤمنين، كما في قراءة بعض الصحابة، يربيهم كما يربي الوالد أولاده.
فترتب على هذه الأبوة، أن كان نساؤه أمهاتهم، أي: في الحرمة والاحترام، والإكرام، لا في الخلوة والمحرمية، وكأن هذا مقدمة، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة، الذي كان قبل يُدْعَى: "زيد بن محمد" حتى أنزل الله ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ فقطع نسبه، وانتسابه منه، فأخبر في هذه الآية، أن المؤمنين كلهم، أولاد للرسول، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه، فلا يحزن ولا يأسف.
وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين، أنهن لا يحللن لأحد من بعده، كما الله صرح (١) بذلك: "وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا"
﴿وَأُولُو الأرْحَامِ﴾ أي: الأقارب، قربوا أو بعدوا ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [أي] :(٢) في حكمه، فيرث بعضهم بعضًا، ويبر بعضهم بعضًا، فهم أولى من الحلف والنصرة.
والأدعياء الذين كانوا من قبل، يرثون بهذه الأسباب، دون ذوي الأرحام، فقطع تعالى، التوارث بذلك، وجعله للأقارب، لطفًا منه وحكمة، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة، لحصل من الفساد والشر، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث، شيء كثير.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ أي: سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام، في جميع الولايات، كولاية النكاح، والمال، وغير ذلك.
﴿إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا﴾ أي: ليس لهم حق مفروض، وإنما هو بإرادتكم، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا، وتعطوهم معروفًا منكم، ﴿كَانَ﴾ ذلك الحكم المذكور ﴿فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ أي: قد سطر، وكتب، وقدره الله، فلا بد من نفوذه.
(٢) زيادة من: ب.
يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عمومًا، ومن أولي العزم -وهم، هؤلاء الخمسة المذكورون- خصوصًا، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد، على القيام بدين الله والجهاد في سبيله، وأن هذا سبيل، قد مشى الأنبياء المتقدمون، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم، محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بالاقتداء بهم.
وسيسأل الله الأنبياء وأتباعهم، عن هذا العهد الغليظ هل وفوا فيه، وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟ أم كفروا، فيعذبهم العذاب الأليم؟ قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾
يذكر تعالى عباده المؤمنين، نعمته عليهم، ويحثهم على شكرها، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز، من فوقهم، وأهل نجد، من أسفل منهم، وتعاقدوا -[٦٦٠]- وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق.
ومالأتهم [طوائف] (١) اليهود، الذين حوالي المدينة، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة.
وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة، فحصروا المدينة، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار على المدينة، مدة طويلة، والأمر كما وصف الله: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾ أي: الظنون السيئة، أن الله لا ينصر دينه، ولا يتم كلمته.
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ بهذه الفتنة العظيمة ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا﴾ بالخوف والقلق، والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر -ولله الحمد- من إيمانهم، وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين.
وعندما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين، ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾
وهنالك تبين نفاق المنافقين، وظهر ما كانوا يضمرون قال تعالى:
وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة القاصرة (١) ويصدق ظنه.
﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ من المنافقين، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم، وصاروا أيضًا من المخذولين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾ يريدون " يا أهل المدينة " فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية] (٢) فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي.
﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ﴾ أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق، وخارج المدينة، ﴿فَارْجِعُوا﴾ إلى المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة، شر الطوائف وأضرها، وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غُيَّبٌ عنها، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك.
﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ﴾ أي: ما قصدهم ﴿إِلا فِرَارًا﴾ ولكن جعلوا هذا الكلام، وسيلة وعذرًا. [لهم] (٣) فهؤلاء قل إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن.
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ المدينة ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ أي: لو دخل الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها -لا كان ذلك- ﴿ثُمَّ﴾ سئل هؤلاء ﴿الْفِتْنَة﴾ أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين ﴿لآتَوْهَا﴾ أي: لأعطوها مبادرين.
﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا﴾ أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم.
والحال أنهم قد ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا﴾ سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذًا، بربهم؟
(٢) زيادة من: ب.
(٣) زيادة من: ب.
﴿قُلْ﴾ لهم، لائمًا على فرارهم، ومخبرًا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئًا ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم.
والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت (١) كل وسيلة، ظنها الإنسان تنجيه.
﴿وَإِذًا﴾ حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم ﴿لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا﴾ متاعًا، لا يسوى فراركم، وترككم أمر الله، وتفويتكم على أنفسكم، التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي.
ثم بين أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئًا إذا أراده الله بسوء، فقال: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾ أي: يمنعكم ﴿من اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾ أي: شرًا، ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلا هو.
﴿وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا﴾ يتولاهم، فيجلب لهم النفع (٢) ﴿وَلا نَصِيرًا﴾ أي ينصرهم، فيدفع عنهم المضار.
فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر.
ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ عن الخروج، لمن [لم] (٣) يخرجوا ﴿وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ﴾ الذين خرجوا: -[٦٦١]- ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾
وهم مع تعويقهم وتخذيلهم ﴿وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾ أي: القتال والجهاد بأنفسهم ﴿إِلا قَلِيلا﴾ فهم أشد الناس حرصًا على التخلف، لعدم الداعي لذلك، من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق، وعدم الإيمان.
﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ نظر المغشى عليه ﴿مِنَ الْمَوْتِ﴾ من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون، من القتال.
﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾ وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، ﴿سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة﴾ أي: خاطبوكم، وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة.
وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحًا بما أمر به، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء الله، أو يدعو إلى سبيل الله، شحيحًا بجاهه، شحيحًا بعلمه، ونصيحته ورأيه.
﴿أُولَئِكَ﴾ الذين بتلك الحالة ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ بسبب عدم إيمانهم، أحبط الله أعمالهم، ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾
وأما المؤمنون، فقد وقاهم الله، شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذل لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم، للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
﴿يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾ أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم.
﴿وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ﴾ مرة أخرى ﴿يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾ أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة، ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟
فتبًا لهم، وبعدًا، فليسوا ممن يبالى (٤) بحضورهم ﴿وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا﴾ فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم، عن أمر جاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنفسه فيه؟ "
فَتأَسَّوْا به في هذا الأمر وغيره.
واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به.
فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة.
فالأسوة الحسنة، في الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله، وهو الصراط المستقيم.
وأما الأسوة بغيره، إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار (٥) حين دعتهم الرسل للتأسِّي] بهم [ (٦) ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾
وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو الله، واليوم الآخر، فإن ما معه (٧) من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم.
لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين فقال: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ﴾ الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، ﴿قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾
﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ فإنا رأينا، ما أخبرنا به ﴿وَمَا زَادَهُمْ﴾ ذلك الأمر ﴿إِلا إِيمَانًا﴾ في قلوبهم ﴿وَتَسْلِيمًا﴾ في جوارحهم، وانقيادًا لأمر الله.
ولما ذكر أن المنافقين، عاهدوا الله، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ﴾ أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته.
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، فقتل في سبيل الله، أو مات مؤديًا لحقه، لم ينقصه شيئًُا.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد.
﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾ كما بدل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون، ولا يتغيرون، فهؤلاء، الرجال على الحقيقة، ومن (٨) عداهم، فصورهم صور رجال، وأما الصفات، فقد قصرت عن صفات الرجال.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم، وأحوالهم، ومعاملتهم مع الله، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال الله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ -[٦٦٢]- صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ الآية.
أي: قدرنا ما قدرنا، من هذه الفتن والمحن، والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ﴾ الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم، عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا الله عليه.
﴿إِنْ شَاءَ﴾ تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم، فلم يوفقهم.
﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب، على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل، والإحسان فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحيمًا﴾ غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان، إذا أتوا بالمتاب. ﴿رَحِيمًا﴾ بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم، وستر عليهم ما اجترحوه.
﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين] عليه [ (٩) جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ.
فأرسل الله عليهم، ريحًا عظيمة، وهي (١٠) ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم الله بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر الله لعباده المؤمنين.
﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، ﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة، قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته.
﴿وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾ أي عاونوهم ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: اليهود ﴿مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾ أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفورًا بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام.
﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ وهم الرجال المقاتلون ﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ مَنْ عداهم من النساء والصبيان.
﴿وَأَوْرَثَكُمْ﴾ أي: غنَّمكم ﴿أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ أي: أرضا كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكنكم الله وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم، وأسرتموهم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ لا يعجزه شيء، ومن قدرته، قدَّر لكم ما قدر.
وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة، غير بعيدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، [حين] (١١) هاجر إلى المدينة، وادعهم، وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئًا.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] (١٢) بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومالؤوا المشركين على قتاله.
فلما خذل الله المشركين، تفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم.
فأتم الله لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم، بخذلان من انخذل من أعدائهم، وقتل من قتلوا، وأسر من أسروا، ولم يزل لطف الله بعباده المؤمنين مستمرًا.
(٢) في ب: المنافع.
(٣) زيادة من: ب.
(٤) في ب: يغالى.
(٥) في ب: المشركين.
(٦) زيادة من: ب.
(٧) في ب: فإن ذلك ما معه.
(٨) في أ: وما وعداهم، ولعل الصواب ما أثبته.
(٩) زيادة من: ب.
(١٠) زيادة من: ب. في أ: وهو ولعل الصواب ما أثبته
(١١) زيادة من: ب.
(١٢) زيادة من: ب.
لما اجتمع نساء رسول الله ﷺ في الغيرة، وطلبن منه النفقة والكسوة، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، شَقَّ ذلك على الرسول، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا.
فأراد الله أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته، ويُذْهِبَ عنهن كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله أن يخيرهن (١) فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي: ليس لكن في غيرها مطلب، وصرتن ترضين لوجودها، -[٦٦٣]- وتغضبن لفقدها، فليس لي فيكن أرب وحاجة، وأنتن بهذه الحال.
﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ شيئا مما عندي، من الدنيا ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ أي: أفارقكن ﴿سَرَاحًا جَمِيلا﴾ من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر، وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي.
﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ﴾ أي: هذه الأشياء مرادكن، وغاية مقصودكن، وإذا حصل لَكُنَّ الله ورسوله والجنة، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها، ويسرها وعسرها، وقنعتن من رسول الله بما تيسر، ولم تطلبن منه ما يشق عليه، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات للرسول فإن مجرد ذلك، لا يكفي، بل لا يفيد شيئًا، مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول الله ﷺ في ذلك، فاخترن الله ورسوله، والدار الآخرة، كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي الله عنهن.
وفي هذا التخيير فوائد عديدة:
منها: الاعتناء برسوله، وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.
ومنها: سلامته صلى الله عليه وسلم، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾
ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن، من تؤثر الدنيا على الله ورسوله، والدار الآخرة، وعن مقارنتها.
ومنها: سلامة زوجاته، رضي الله عنهن، عن الإثم، والتعرض لسخط الله ورسوله.
فحسم الله بهذا التخيير عنهن، التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه.
ومنها: إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان الله ورسوله والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها.
ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة.
ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد الله أن تكون نساؤه (٢) كاملات مكملات، طيبات مطيبات ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
ومنها: أن هذا التخيير داع، وموجب للقناعة، التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه.
ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة، ليس فيها أحد من النساء، ولهذا قال:
(٢) في أ: نساء.
لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن، لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن الله تعالى، فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة، لها العذاب ضعفين.
﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ﴾ أي: تطيع ﴿لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا﴾ قليلا أو كثيرًا، ﴿نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ أي: مثل ما نعطي غيرها مرتين، ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ وهي الجنة، فقنتن لله ورسوله، وعملن صالحًا، فعلم بذلك أجرهن.
يقول تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ خطاب لهن كلهن ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ الله، فإنكن بذلك، تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها.
فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ أي: في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع ﴿الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ أي: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح [فإن القلب -[٦٦٤]- الصحيح] (١) ليس فيه شهوة لما حرم الله، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه، وسلامته من المرض.
بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل، لها أحكام المقاصد. فإن الخضوع بالقول، واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِينَ لهم القول.
ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: ﴿وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا﴾ أي: غير غليظ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع.
وتأمل كيف قال: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ ولم يقل: ﴿فلا تَلِنَّ بالقول﴾ وذلك لأن المنهي عنه، القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع، هو الذي يطمع فيه، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا، ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم، فإن هذا، لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح الله رسوله باللين، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ وقال لموسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾
ودل قوله: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم، والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد، إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش (٢) لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض.
فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال الله العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ أي: اقررن فيها، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ، ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى﴾ أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه.
ولما أمرهن بالتقوى عمومًا، وبجزئيات من التقوى، نص عليها [لحاجة] (٣) النساء إليها، كذلك أمرهن بالطاعة، خصوصًا الصلاة والزكاة، اللتان يحتاجهما، ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات، وأجل الطاعات، وفي الصلاة، الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة، الإحسان إلى العبيد.
ثم أمرهن بالطاعة عمومًا، فقال: ﴿وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يدخل في طاعة الله ورسوله، كل أمر، أمرَا به أمر إيجاب أو استحباب.
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما (٤) نهاكُنَّ عنه، ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ أي: الأذى، والشر، والخبث، يا ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ حتى تكونوا طاهرين مطهرين.
أي: فاحمدوا ربكم، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها، وأنها محض مصلحتكم، لم يرد الله أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، ولتتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم.
ولما أمرهن بالعمل، الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبين لهن طريقه، فقال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ والمراد بآيات الله، القرآن. والحكمة، أسراره. وسنة رسوله. وأمرهن بذكره، يشمل ذكر لفظه، بتلاوته، وذكر معناه، بتدبره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ يدرك أسرار (٥) الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السماوات والأرض، والأعمال التي تبين وتسر.
فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة الله على تلك الأعمال.
(٢) كذا في: ب، وفي أ: يشتهي، والأقرب ما أثبته.
(٣) زيادة من: ب.
(٤) في ب: عما.
(٥) في ب: سرائر.
-[٦٦٥]-
﴿٣٥﴾ ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعقابهن [لو قدر عدم الامتثال] (٢) وأنه ليس مثلهن أحد من النساء، ذكر بقية النساء غيرهن.
ولما كان حكمهن والرجال واحدًا، جعل الحكم مشتركًا، فقال: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ وهذا في الشرائع الظاهرة، إذا كانوا قائمين بها. ﴿وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ وهذا في الأمور الباطنة، من عقائد القلب وأعماله.
﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ أي: المطيعين لله ولرسوله ﴿وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ﴾ في مقالهم وفعالهم ﴿وَالصَّادِقَاتِ﴾ ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ على الشدائد والمصائب ﴿وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ﴾ في جميع أحوالهم، خصوصًا في عباداتهم، خصوصًا في صلواتهم، ﴿وَالْخَاشِعَاتِ﴾ ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ﴾ فرضًا ونفلا ﴿وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ﴾ شمل ذلك، الفرض والنفل. ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ﴾ عن الزنا ومقدماته، ﴿وَالْحَافِظَاتِ﴾ ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ [كَثِيرًا﴾ أي:] (٣) في أكثر الأوقات، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة، كالصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبات ﴿وَالذَّاكِرَاتِ﴾
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي، ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعد وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان.
فجازاهم على عملهم " بِالْمَغْفِرَةِ " لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات. ﴿وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
(٢) زيادة من: ب.
(٣) زيادة من: ب.
أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة ﴿إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا﴾ من الأمور، وحتَّما به وألزما به ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر الله ورسوله.
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا﴾ أي: بَيِّنًا، لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة الله، إلى غيرها، من الطرق الموصلة للعذاب الأليم، فذكر أولا السبب الموجب لعدم معارضته أمر الله ورسوله، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، وهو التخويف بالضلال، الدال على العقوبة والنكال.
وكان سبب نزول هذه الآيات، أن الله تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة، من جميع الوجوه وأن أزواجهم، لا جناح على من تبناهم، في نكاحهن.
وكان هذا من الأمور المعتادة، التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير، فأراد أن يكون هذا الشرع قولا من رسوله، وفعلا وإذا أراد الله أمرًا، جعل له سببًا، وكان زيد بن حارثة يدعى "زيد بن محمد" قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار يدعى إليه حتى نزل ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ﴾ فقيل له: "زيد بن حارثة".
وكانت تحته، زينب بنت جحش، ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد وقع في قلب الرسول، لو طلقها زيد، لتزوَّجها، فقدر الله أن يكون بينها وبين زيد، ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي ﷺ في فراقها.
قال الله: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ أي: بالإسلام ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بالعتق (١) حين جاءك مشاورًا في فراقها: فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته (٢) مع وقوعها في قلبك: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ أي: لا تفارقها، واصبر على ما جاءك منها، ﴿وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ تعالى في أمورك عامة، وفي أمر زوجك خاصة، فإن التقوى، تحث على الصبر، وتأمر به.
﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ والذي أخفاه، أنه لو طلقها زيد، لتزوجها صلى الله عليه وسلم.
﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ في عدم إبداء ما في نفسك ﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ (٣) وأن لا تباليهم شيئًا، ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا﴾ أي: طابت نفسه، ورغب عنها، وفارقها. ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ وإنما -[٦٦٦]- فعلنا ذلك، لفائدة عظيمة، وهي: ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ حيث رأوك تزوجت، زوج زيد بن حارثة، الذي كان من قبل، ينتسب إليك.
ولما كان قوله: ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ عامًا في جميع الأحوال، وكان من الأحوال، ما لا يجوز ذلك، وهي قبل انقضاء وطره منها، قيد ذلك بقوله: ﴿إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا﴾ أي: لا بد من فعله، ولا عائق له ولا مانع.
وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة، فوائد، منها: الثناء على زيد بن حارثة، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الله سماه في القرآن، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره.
والثاني: أن الله أخبر أنه أنعم عليه، أي: بنعمة الإسلام والإيمان. وهذه شهادة من الله له أنه مسلم مؤمن، ظاهرًا وباطنًا، وإلا فلا وجه لتخصيصه بالنعمة، لولا أن المراد بها، النعمة الخاصة.
ومنها: أن المُعْتَق في نعمة الْمُعْتِق.
ومنها: جواز تزوج زوجة الدَّعِيّ، كما صرح به.
ومنها: أن التعليم الفعلي، أبلغ من القولي، خصوصا، إذا اقترن بالقول، فإن ذلك، نور على نور.
ومنها: أن المحبة التي في قلب العبد، لغير زوجته ومملوكته، ومحارمه، إذا لم يقترن بها محذور، لا يأثم عليها العبد، ولو اقترن بذلك أمنيته، أن لو طلقها زوجها، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما، أو يتسبب بأي سبب كان، لأن الله أخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أخفى ذلك في نفسه.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد بلغ البلاغ المبين، فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه، إلا وبلغه، حتى هذا الأمر، الذي فيه عتابه.
وهذا يدل، على أنه رسول الله، ولا يقول إلا ما أوحي إليه، ولا يريد تعظيم نفسه.
ومنها: أن المستشار مؤتمن، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير (٤) ولو كان له حظ نفس، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه.
ومنها: أن من الرأي: الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال، فهو أحسن من الفرقة.
ومنها: [أنه يتعين] (٥) أن يقدم العبد خشية الله، على خشية الناس، وأنها أحق منها وأولى.
ومنها: فضيلة زينب رضي الله عنها أم المؤمنين، حيث تولى الله تزويجها، من رسوله صلى الله عليه وسلم، من دون خطبة ولا شهود، ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
ومنها: أن المرأة، إذا كانت ذات زوج، لا يجوز نكاحها، ولا السعي فيه وفي أسبابه، حتى يقضي زوجها وطره منها، ولا يقضي وطره، حتى تنقضي عدتها، لأنها قبل انقضاء عدتها، هي في عصمته، أو في حقه الذي له وطر إليها، ولو من بعض الوجوه.
(٢) في هامش ب: مقدمًا لها على رغبتك.
(٣) في هامش ب: فإن خشيته، جالبة لكل خير،] مانعة [من كل شر (مع أن كلمة مانعة واضحة في الأصل).
(٤) كذا في ب، وفي أ: للمستشار، ولعل الصواب ما أثبت -والله أعلم-.
(٥) زيادة من: ب.
هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، في كثرة أزواجه، وأنه طعن، بما لا مطعن فيه، فقال: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ﴾ أي: إثم وذنب. ﴿فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ أي: قدر له من الزوجات، فإن هذا، قد أباحه الله للأنبياء قبله، ولهذا قال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ أي: لا بد من وقوعه.
ثم ذكر من هم الذين من قبل قد خلوا، وهذه سنتهم وعادتهم، وأنهم ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ﴾ فيتلون على العباد آيات الله، وحججه وبراهينه، ويدعونهم إلى الله ﴿وَيَخْشَوْنَهُ﴾ وحده لا شريك له ﴿وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا﴾ إلا الله.
فإذا كان هذا، سنة في الأنبياء المعصومين، الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها، أتم القيام، وهو: دعوة الخلق إلى الله، والخشية منه وحده التي تقتضي فعل كل مأمور، وترك كل محظور، دل ذلك على أنه لا نقص فيه بوجه.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ محاسبًا عباده، مراقبًا أعمالهم. وعلم من هذا، أن النكاح، من سنن المرسلين.
أي: لم يكن الرسول ﴿مُحَمَّدٌ﴾ ﷺ ﴿أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أيها الأمة فقطع انتساب زيد بن حارثة منه، من هذا الباب.
ولما كان هذا النفي عامًّا في جميع الأحوال، إن حمل ظاهر اللفظ على -[٦٦٧]- ظاهره، أي: لا أبوة نسب، ولا أبوة ادعاء، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أب للمؤمنين كلهم، وأزواجه أمهاتهم، فاحترز أن يدخل في هذا النوع، بعموم النهي المذكور، فقال: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ أي: هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع، المهتدى به، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته، على محبة كل أحد، الناصح الذي لهم، أي: للمؤمنين، من بره [ونصحه] (١) كأنه أب لهم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ أي: قد أحاط علمه بجميع الأشياء، ويعلم حيث يجعل رسالاته، ومن يصلح لفضله، ومن لا يصلح.
يأمر تعالى المؤمنين، بذكره ذكرا كثيرًا، من تهليل، وتحميد، وتسبيح، وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى الله، وأقل ذلك، أن يلازم الإنسان، أوراد الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب.
وينبغي مداومة ذلك، في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل، وهو مستريح، وداع إلى محبة الله ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح.
﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ أي: أول النهار وآخره، لفضلها، وشرفها، وسهولة العمل فيها.
أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم، وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان، والتوفيق، والعلم، والعمل، فهذه أعظم نعمة، أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر الله، الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه، أفضل الملائكة، ومن حوله، يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا.
وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة، وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم، وتحيته، واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الجميل، وحصول الأجر الكبير، الذي لا يدري ولا يعرف كنهه، إلا من أعطاهم إياه، ولهذا قال: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾
هذه الأشياء، التي وصف الله بها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، هي المقصود من رسالته، وزبدتها وأصولها، التي اختص بها، وهي خمسة أشياء: أحدها: كونه ﴿شَاهِدًا﴾ أي: شاهدًا على أمته بما عملوه، من خير وشر، كما قال تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ فهو ﷺ شاهد عدل مقبول.
الثاني، والثالث: كونه ﴿مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك.
فالمبشَّر هم: المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم.
وذلك كله يستلزم، ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى، وأنواع الثواب.
والْمنْذَر هم: المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية، المترتبة على الجهل والظلم، وفي الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل.
وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به صلى الله عليه وسلم، من الكتاب والسنة، المشتمل على ذلك.
الرابع: كونه ﴿دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾ أي: أرسله الله، يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم (١) لكرامته، ويأمرهم بعبادته، التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته، على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم -[٦٦٨]- بصفاته المقدسة، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى الله بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى الله، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره.
الخامس: كونه ﴿سِرَاجًا مُنِيرًا﴾ وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا علم، يستدل به في جهالاتها (٢) حتى جاء الله بهذا النبي الكريم، فأضاء الله به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلالا إلى الصراط المستقيم.
فأصبح أهل الاستقامة، قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة.
وقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ ذكر في هذه الجملة، المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة.
وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النعم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم، من ثواب الله على أعمالهم، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عونًا على الكف عما حرم الله.
ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى الله، من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهرًا وباطنًا، نهى الله رسوله عن طاعتهم، وحذره ذلك فقال: ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ أي: في كل أمر يصد عن سبيل الله، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، [بل لا تطعهم ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ ] (٣) فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له، ولأهله.
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا﴾ تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها، ويسهلها على عبده.
(٢) كذا في ب، وفي أ: جهاتها.
(٣) زيادة من: ب.
يخبر تعالى المؤمنين، أنهم إذا نكحوا المؤمنات، ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن، فليس عليهن في ذلك، عدة يعتدها (١) أزواجهن عليهن، وأمرهم بتمتيعهن (٢) بهذه الحالة، بشيء من متاع الدنيا، الذي يكون فيه جبر لخواطرهن، لأجل فراقهن، وأن يفارقوهن فراقًا جميلا من غير مخاصمة، ولا مشاتمة، ولا مطالبة، ولا غير ذلك.
ويستدل بهذه الآية، على أن الطلاق، لا يكون إلا بعد النكاح. فلو طلقها قبل أن ينكحها، أو علق طلاقها على نكاحها، لم يقع، لقوله: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ فجعل الطلاق بعد النكاح، فدل على أنه قبل ذلك، لا محل له.
وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة، وتحريم تام، لا يقع قبل النكاح، فالتحريم الناقص، لظهار، أو إيلاء ونحوه، من باب أولى وأحرى، أن لا يقع قبل النكاح، كما هو أصح قَوْلي العلماء.
ويدل على جواز الطلاق، لأن الله أخبر به عن المؤمنين، على وجه لم يلمهم عليه، ولم يؤنبهم، مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين.
وعلى جوازه قبل المسيس، كما قال في الآية الأخرى ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾
وعلى أن المطلقة قبل الدخول، لا عدة عليها، بل بمجرد طلاقها، يجوز لها التزوج، حيث لا مانع، وعلى أن عليها العدة، بعد الدخول.
وهل المراد بالدخول والمسيس، الوطء كما هو مجمع عليه؟ أو وكذلك الخلوة، ولو لم يحصل معها وطء، كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون، وهو الصحيح. فمن دخل عليها، وطئها، أم لا إذا خلا بها، وجب عليها العدة.
وعلى أن المطلقة قبل المسيس، تمتع على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، ولكن هذا، إذا لم يفرض لها مهر، فإن كان لها مهر مفروض، فإنه إذا طلق قبل الدخول، تَنَصَّف المهر، وكفى عن المتعة، وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده، أن يكون الفراق جميلا يحمد فيه كل منهما الآخر.
ولا يكون غير جميل، فإن في ذلك، من الشر المرتب عليه، من قدح كل منهما بالآخر، شيء كثير.
وعلى أن العدة حق للزوج، لقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ دل مفهومه، أنه لو طلقها بعد المسيس، كان له عليها عدة [وعلى أن المفارقة -[٦٦٩]- بالوفاة، تعتد مطلقًا، لقوله: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ الآية] (٣).
وعلى أن من عدا غير المدخول بها، من المفارقات من الزوجات، بموت أو حياة، عليهن العدة.
(٢) كذا في ب، وفي أ: بتمتعهن.
(٣) زيادة من: ب.
يقول تعالى، ممتنًا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه، هو والمؤمنون، وما ينفرد به، ويختص: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ أي: أعطيتهن مهورهن، من الزوجات، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين، [فإن المؤمنين] (١) كذلك يباح لهم ما (٢) آتوهن أجورهن، من الأزواج.
﴿و﴾ كذلك أحللنا لك ﴿مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ أي: الإماء التي ملكت ﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ من غنيمة الكفار من عبيدهم، والأحرار من لهن زوج منهم، ومن لا زوج لهن، وهذا أيضا مشترك.
وكذلك من المشترك، قوله ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ﴾ شمل العم والعمة، والخال والخالة، القريبين والبعيدين، وهذا حصر المحللات.
يؤخذ من مفهومه، أن ما عداهن من الأقارب، غير محلل، كما تقدم في سورة النساء، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء، غير هؤلاء الأربع، وما عداهن من الفروع مطلقًا، والأصول مطلقًا، وفروع الأب والأم، وإن نزلوا، وفروع من فوقهم لصلبه، فإنه لا يباح.
وقوله ﴿اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ قيد لحل هؤلاء للرسول، كما هو الصواب من القولين، في تفسير هذه الآية، وأما غيره عليه الصلاة والسلام، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة.
﴿و﴾ أحللنا لك ﴿امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ بمجرد هبتها نفسها.
﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ أي: هذا تحت الإرادة والرغبة، ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: إباحة الموهبة (٣) وأما المؤمنون، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة، بمجرد هبتها نفسها لهم.
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ أي: قد علمنا ما على المؤمنين، وما يحل لهم، وما لا يحل، من الزوجات وملك اليمين. وقد علمناهم بذلك، وبينا فرائضه.
فما في هذه الآية، مما يخالف ذلك، فإنه خاص لك، لكون الله جعله خطابًا للرسول وحده بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ﴾ إلى آخر الآية.
وقوله: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم، ووسعنا لك ما لم نوسع على غيرك، ﴿لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ وهذا من زيادة اعتناء الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي: لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته، وجوده وإحسانه، ما اقتضته حكمته، ووجدت منهم أسبابه.
(٢) كذا في أ، وفي ب: من.
(٣) في ب: الموهوبة.
وهذا أيضًا من توسعة الله على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته، على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك، فهو تبرع منه، ومع ذلك، فقد كان ﷺ يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك".
فقال هنا: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ [أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك، ولا تبيت عندها] (١) ﴿وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي: تضمها وتبيت عندها.
﴿و﴾ مع ذلك لا يتعين هذا الأمر ﴿مَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ أي: أن تؤويها ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات، له أن يرجي من يشاء، ويؤوي من يشاء، أي: إن شاء قبل من وهبت نفسها له، وإن شاء لم يقبلها، والله أعلم] (٢).
ثم بين الحكمة في ذلك فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك ﴿أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾ لعلمهن أنك لم تترك واجبًا، ولم تفرط في حق لازم.
-[٦٧٠]-
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وعند المزاحمة في الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول الله، لتطمئن قلوب زوجاتك.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾ أي: واسع العلم، كثير الحلم. ومن علمه، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم، وأكثر لأجوركم. ومن حلمه، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر.
(٢) زيادة من هامش (ب) وفي بعض الكلمات عدم وضوح وتم تصويبها من طبعة السلفية.
وهذا شكر من الله، الذي لم يزل شكورًا، لزوجات رسوله، رضي الله عنهن، حيث اخترن الله ورسوله، والدار الآخرة، أن رحمهن، وقصر رسوله عليهن فقال: ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ زوجاتك الموجودات ﴿وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ بدلها.
فحصل بهذا، أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن الله قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة.
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ أي: حسن غيرهن، فلا يحللن لك ﴿إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ أي: السراري، فذلك جائز لك، لأن المملوكات، في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات، في الإضرار للزوجات. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ أي: مراقبًا للأمور، وعالمًا بما إليه تؤول، وقائمًا بتدبيرها على أكمل نظام، وأحسن إحكام.
يأمر تعالى عباده المؤمنين، بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دخول بيوته فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ﴾ أي: لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها، لأجل الطعام. وأيضًا لا تكونوا ﴿نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ أي: منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه، أو سعة صدر بعد الفراغ منه. والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين:
الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ أي: قبل الطعام وبعده.
ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ أي: انتظاركم الزائد على الحاجة، ﴿كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ﴾ أي: يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته، واشتغاله فيه ﴿فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾ أن يقول لكم: " اخرجوا " كما هو جاري العادة، أن الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم، ﴿و﴾ لكن ﴿اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾
فالأمر الشرعي، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء، فإن الحزم كل الحزم، اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أن ما خالفه، ليس من الأدب في شيء. والله تعالى لا يستحي أن يأمركم، بما فيه الخير لكم، والرفق لرسوله كائنًا ما كان.
فهذا أدبهم في الدخول في بيوته، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه، إما أن يحتاج إلى ذلك، أو لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه، فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه، كأن يسألن متاعًا، أو غيره من أواني البيت أو نحوها، فإنهن يسألن ﴿مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ أي: يكون بينكم وبينهن ستر، يستر عن النظر، لعدم الحاجة إليه.
فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل، الذي ذكره الله، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله: ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ لأنه أبعد عن الريبة، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر، فإنه أسلم له، وأطهر لقلبه.
فلهذا، من الأمور الشرعية التي بين الله كثيرًا من تفاصيلها، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته، ممنوعة، وأنه مشروع، البعد عنها، بكل طريق.
ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ﴾ يا معشر المؤمنين، أي: غير لائق ولا مستحسن منكم، بل هو أقبح شيء ﴿أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ أي: أذية قولية أو فعلية، بجميع ما يتعلق به، ﴿وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى الله عليه وسلم، له مقام التعظيم، والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته -[٦٧١]-[بعده] (١) مخل بهذا المقام.
وأيضا، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده، لأحد من أمته. ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ وقد امتثلت هذه الأمة، هذا الأمر، واجتنبت ما نهى الله عنه منه، ولله الحمد والشكر.
ثم قال تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا﴾ أي تظهروه ﴿أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ يعلم ما في قلوبكم، وما أظهرتموه، فيجازيكم عليه.
لما ذكر أنهن لا يسألن متاعًا إلا من وراء حجاب، وكان اللفظ عامًا [لكل أحد] (١) احتيج أن يستثنى منه هؤلاء المذكورون، من المحارم، وأنه ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ﴾ في عدم الاحتجاب عنهم.
ولم يذكر فيها الأعمام، والأخوال، لأنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ولا (٢) خالاته، من أبناء الإخوة والأخوات، مع رفعتهن عليهم، فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن، من باب أولى، ولأن منطوق الآية الأخرى، المصرحة بذكر العم والخال، مقدمة، على ما يفهم من هذه الآية.
وقوله ﴿وَلا نِسَائِهِنَّ﴾ أي: لا جناح عليهن ألا يحتجبن عن نسائهن، أي: اللاتي من جنسهن في الدين، فيكون ذلك مخرجًا لنساء الكفار، ويحتمل أن المراد جنس النساء، فإن المرأة لا تحتجب عن المرأة. ﴿وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ ما دام العبد في ملكها جميعه.
ولما رفع الجناح عن هؤلاء، شرط فيه وفي غيره، لزوم تقوى الله، وأن لا يكون في محذور شرعي فقال: ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾ أي: استعملن تقواه في جميع الأحوال ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ يشهد أعمال العباد، ظاهرها وباطنها، ويسمع أقوالهم، ويرى حركاتهم، ثم يجازيهم على ذلك، أتم الجزاء وأوفاه.
(٢) في ب: بدون (لا) وهو الأقرب.
وهذا فيه تنبيه على كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعة درجته، وعلو منزلته عند الله وعند خلقه، ورفع ذكره. و ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ تعالى ﴿وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ﴾ عليه، أي: يثني الله عليه بين الملائكة، وفي الملأ الأعلى، لمحبته تعالى له، وتثني عليه الملائكة المقربون، ويدعون له ويتضرعون.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اقتداء بالله وملائكته، وجزاء له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلا لإيمانكم، وتعظيمًا له صلى الله عليه وسلم، ومحبة وإكرامًا، وزيادة في حسناتكم، وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، ما علم به أصحابه: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في جميع الأوقات، وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة
لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم، والصلاة والسلام عليه، نهى عن أذيته، وتوعد عليها فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وهذا يشمل كل أذية، قولية أو فعلية، من سب وشتم، أو تنقص له، أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى. ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي: أبعدهم وطردهم، ومن لعنهم [في الدنيا] (١) أنه يحتم (٢) قتل من شتم الرسول، وآذاه.
﴿وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ جزاء له على أذاه، أن يؤذى بالعذاب الأليم، فأذية الرسول، ليست كأذية غيره، لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يؤمن العبد بالله، حتى يؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم. وله من التعظيم، الذي هو من لوازم الإيمان، ما يقتضي ذلك، أن لا يكون مثل غيره.
وإن كانت أذية المؤمنين عظيمة، وإثمها عظيمًا، ولهذا قال فيها: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ أي: بغير جناية منهم موجبة للأذى ﴿فَقَدِ احْتَمَلُوا﴾ على ظهورهم ﴿بُهْتَانًا﴾ حيث آذوهم بغير سبب ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ حيث تعدوا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر الله باحترامها.
(٢) في ب: يتحتم.
-[٦٧٢]-
﴿٥٩ - ٦٢﴾ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾.
هذه الآية، التي تسمى آية الحجاب، فأمر الله نبيه، أن يأمر النساء عمومًا، ويبدأ بزوجاته وبناته، لأنهن آكد من غيرهن، ولأن الآمر [لغيره] (١) ينبغي أن يبدأ بأهله، قبل غيرهم كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾
أن ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾ وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه، أي: يغطين بها، وجوههن وصدورهن.
ثم ذكر حكمة ذلك، فقال: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ دل على وجود أذية، إن لم يحتجبن، وذلك، لأنهن إذا لم يحتجبن، ربما ظن أنهن غير عفيفات، فيتعرض لهن من في قلبه مرض، فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظن أنهن إماء، فتهاون بهن من يريد الشر. فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ حيث غفر لكم ما سلف، ورحمكم، بأن بين لكم الأحكام، وأوضح الحلال والحرام، فهذا سد للباب من جهتهن.
وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي: مرض شك أو شهوة ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ أي: المخوفون المرهبون الأعداء، المحدثون (٢) بكثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين.
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه، ليعم ذلك، كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر، من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين، وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة، من أمثال هؤلاء.
﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ أي: نأمرك بعقوبتهم وقتالهم، ونسلطك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: ﴿ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا﴾ أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلا بأن تقتلهم أو تنفيهم.
وهذا فيه دليل، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه، ويكونون ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا﴾
أي: مبعدين، أين (٣) وجدوا، لا يحصل لهم أمن، ولا يقر (٤) لهم قرار، يخشون أن يقتلوا، أو يحبسوا، أو يعاقبوا.
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ أن من تمادى في العصيان، وتجرأ على الأذى، ولم ينته منه، فإنه يعاقب عقوبة بليغة. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾ أي تغييرًا، بل سنته تعالى وعادته، جارية مع الأسباب المقتضية لأسبابها (٥).
(٢) في ب: المتحدثون.
(٣) في ب: حيث.
(٤) كذا في ب، وفي أ: ولا يقرر.
(٥) كذا في النسختين ولعله والله أعلم المقتضية لمسبباتها.
أي: يستخبرك الناس عن الساعة، استعجالا لها، وبعضهم، تكذيبًا لوقوعها، وتعجيزًا للذي أخبر بها. ﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: لا يعلمها إلا الله، فليس لي، ولا لغيرى بها علم، ومع هذا، فلا (١) تستبطؤوها.
﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ ومجرد مجيء الساعة، قرباً وبعدًا، ليس تحته نتيجة ولا فائدة، وإنما النتيجة والخسار، والربح، والشقا (٢) والسعادة، هل يستحق العبد العذاب، أو يستحق الثواب؟ فهذه سأخبركم بها، وأصف لكم مستحقها.
فوصف مستحق العذاب، ووصف العذاب، لأن الوصف المذكور، منطبق على هؤلاء المكذبين بالساعة فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ﴾ [أي:] (٣) الذين صار الكفر دأبهم وطريقتهم الكفر بالله وبرسله، وبما جاءوا به من عند الله، فأبعدهم في الدنيا والآخرة من رحمته، وكفى بذلك عقابًا، ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا﴾ أي: نارًا موقدة، تسعر -[٦٧٣]- في أجسامهم، ويبلغ العذاب إلى أفئدتهم، ويخلدون في ذلك العذاب الشديد، فلا يخرجون منه، ولا يُفَتَّر عنهم ساعة.
و ﴿لا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ فيعطيهم ما طلبوه ﴿وَلا نَصِيرًا﴾ يدفع عنهم العذاب، بل قد تخلى عنهم الولي النصير، وأحاط بهم عذاب السعير، وبلغ منهم مبلغًا عظيمًا،
ولهذا قال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ فيذوقون حرها، ويشتد عليهم أمرها، ويتحسرون على ما أسلفوا.
﴿يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا﴾ فسلمنا من هذا العذاب، واستحققنا، كالمطيعين، جزيل الثواب. ولكن أمنية فات وقتها، فلم تفدهم إلا حسرة وندمًا، وهمًا، وغمًا، وألمًا.
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾ وقلدناهم على ضلالهم، ﴿فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾
كقوله تعالى ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بعد إذ جاءني﴾ الآية.
ولما علموا أنهم هم وكبراءهم مستحقون للعقاب، أرادوا أن يشتفوا ممن أضلوهم، فقالوا: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ فيقول الله لكل ضعف، فكلكم اشتركتم في الكفر والمعاصي، فتشتركون في العقاب، وإن تفاوت عذاب بعضكم على بعض بحسب تفاوت الجرم.
(٢) في ب: والشقاوة.
(٣) زيادة من: ب.
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم، محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الكريم، الرءوف الرحيم، فيقابلوه بضد ما يجب له من الإكرام والاحترام، وأن لا يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى بن عمران، كليم الرحمن، فبرأه الله مما قالوا من الأذية، أي: أظهر الله لهم براءته. والحال أنه عليه الصلاة والسلام، ليس محل التهمة والأذية، فإنه كان وجيها عند الله، مقربًا لديه، من خواص المرسلين، ومن عباده المخلصين، فلم يزجرهم ما له، من الفضائل عن أذيته والتعرض له بما يكره، فاحذروا أيها المؤمنون، أن تتشبهوا بهم في ذلك، والأذية المشار إليها هي قول بني إسرائيل لموسى (١) لما رأوا شدة حيائه وتستره عنهم: "إنه ما يمنعه من ذلك إلا أنه آدر" أي: كبير الخصيتين، واشتهر ذلك عندهم، فأراد الله أن يبرئه منهم، فاغتسل يومًا، ووضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فأهوى موسى عليه السلام في طلبه، فمر به على مجالس بني إسرائيل، فرأوه أحسن خلق الله، فزال عنه ما رموه به.
يأمر تعالى المؤمنين بتقواه، في جميع أحوالهم، في السر والعلانية، ويخص منها، ويندب للقول السديد، وهو القول الموافق للصواب، أو المقارب له، عند تعذر اليقين، من قراءة، وذكر، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتعلم علم وتعليمه، والحرص على إصابة الصواب، في المسائل العلمية، وسلوك كل طريق يوصل لذلك، وكل وسيلة تعين عليه.
ومن القول السديد، لين الكلام ولطفه، في مخاطبة الأنام، والقول المتضمن للنصح والإشارة، بما هو الأصلح.
ثم ذكر ما يترتب على تقواه، وقول القول السديد فقال: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي: يكون ذلك سببًا لصلاحها، وطريقًا لقبولها، لأن استعمال التقوى، تتقبل به الأعمال كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾
ويوفق فيه الإنسان للعمل الصالح، ويصلح الله الأعمال [أيضًا] بحفظها عما يفسدها، وحفظ ثوابها ومضاعفته، كما أن الإخلال بالتقوى، والقول السديد سبب لفساد الأعمال، وعدم قبولها، وعدم تَرَتُّبِ آثارها عليها.
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أيضًا ﴿ذُنُوبَكُمْ﴾ التي هي السبب في هلاككم، فالتقوى تستقيم بها الأمور، ويندفع بها كل محذور ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
يعظم تعالى شأن الأمانة، التي ائتمن الله عليها المكلفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية، كحال العلانية، وأنه -[٦٧٤]- تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة، السماوات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقومي بها، [ولم تؤديها] فعليك العقاب.
﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ أي: خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها الله على الإنسان، على ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل. فانقسم الناس -بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام:
منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا.
فذكر الله تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
فله الحمد تعالى، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين، الدالين على تمام مغفرة الله، وسعة رحمته، وعموم جوده، مع أن المحكوم عليهم، كثير منهم، لم يستحق المغفرة والرحمة، لنفاقه وشركه.
تم تفسير سورة الأحزاب.
بحمد الله وعونه.