ﰡ
قد تكلمنا فيما مضى مرارا على الحروف المقطعة في أوائل السور، وذكرنا كلام العلماء فيها، وسنلم هنا ببعض قليل منه. روي عن ابن عباس وغيره أن قوله :[ آلمص( ١ ) ] " أنا الله أفصل " ). كما روي عنه :" أنا الله أعلم " ) في [ ألم ].
وروى عن جماعة أن الألف واللام والميم والصاد أنها من أول اسمه المصور. لأن اسمه المصور تحته غرائب وعجائب تبهر العقول. إذا رأيتم الناس يوم جمرة العقبة مجتمعة من أقطار الدنيا وجدتموها على صبة واحدة : الأنف ها هنا، والعينان هاهنا والفم ها هنا، على نمط وأسلوب واحد، مع أنه لم تشتبه صورة رجل بصورة رجل حتى لا يفرق بينهما، ولا صورة امرأة بصورة امرأة، فكل منهم له صورة يطبع عليها، سابق علم الله بها، منفذ في تصويرها بها. وهذا مما يدل على كمال وعظمة خالق السماوات والأرض.
ولكن تفسير الحروف المقطعة بأنها تدل على حروف من أسماء الله، هذا التفسير وإن قال به بعض أهل العلم، وإن كان له أصل في الجملة في اللغة العربية ؛ لأن من أساليبها : وضع الحرف مرادا به الكلمة، كما قال الراجز :
قلت لها : قفي فقالت لي : قاف *** لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف.
يعني بقوله :" قاف " وقفت. ومنه قول الآخر :
بالخير خيرات وإن شرا فا *** ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني : وإن شرا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فجاؤوا بالحرف واستغنوا عن الكلمة.
لكن هذا التفسير لم يقم عليه دليل، ولا يجب الرجوع إليه. وقد يفتح باب هذا التفسير للباطنية الزنادقة حيث يفسرون الكلام برموز وألغاز غير مرادة.
وقال بعض العلماء :" إن معنى قوله :[ آلمص( ١ ) ] انه اسم لهذه السورة. وبعضهم يقول : اسم من أسماء الله.
وبعضهم يقول : هو من المتشابه الذي استأثر الله، بعلمه.
وأظهر أقوال العلماء فيها- مع كثرتها وانتشارها أظهرها- قول واحد ؛ لأنه دل عليه استقراء القرآن في الجملة، وما دل عليه استقراء القرآن فهو أقرب من غيره. والقول الذي دل عليه استقراء القرآن : هو قول بعض العلماء : إن المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور : إظهار إعجاز القرآن، فكان الله يقول للبشر :[ آلمص ] هذه حروف من الحروف المتداولة بين أيديكم تركبون منها كلامكم، فلو كان هذا الكلام من عند غير الله وهو مؤلف من حروفكم المتداولة بين أيديكم لكنتم تقدرون على تأليف مثله، فلما عجزتم عن تأليف مثله وهو من الحروف المعروفة لديكم مركب منها عرفنا بذلك أنه تنزيل من حكيم حميد لا من البشر.
ووجه الاستقراء الذي دل على هذا القول : أن الله في جميع القرآن في جميع السور المبدوءة بحروف مقطعة لم تذكر منها سورة واحدة إلا وجاء بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من شأنه، فدل هذا على هذا، ولم يخل من هذا في سائر القرآن إلا سورتان : سورة مريم، وسورة القلم، أما غير ذلك فلا تذكر الحروف المقطعة إلا ذكر بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من أمره. قال في البقرة :[ آلم( ١ ) ] فأتبعه بقوله :[ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين( ٢ )[ ( البقرة : الآيتان١، ٢ ) وقال في آل عمران :[ آلم( ١ ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم( ٢ ) ] فأتبعه بقوله :[ نزل عليك الكتاب بالحق ] الآية، ( آل عمران : الآيات ١-٣ ] وقال هنا في الأعراف :[ آلمص( ١ ) ] ثم أتبعه بقوله :[ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ]( الأعراف : الآيتان ٢، ١ ) وقال في سورة يونس :[ آلر ] ثم اتبعه بقوله :[ تلك آيات الكتاب الحكيم ]( يونس : آية ١ ) وقال في سورة يوسف :[ الر ] ثم قال :( تلك آيات الكتاب المبين ) يوسف : آية١ وقال في الرعد :[ آلمر ] ثم قال :[ تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ] الآية( الرعد : آية١ ) وقال في سورة الخليل :[ آلم ] ثم قال :[ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور[ ( إبراهيم : آية١ ) وقال في سورة الحجر :[ ألر ] ثم قال تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ]( الحجر : آية ١ ) وهكذا في سائر القرآن إلا في سورة مريم والقلم حيث اتبع الحروف المقطعة في سورة مريم في قوله :[ كهيعص( ١ ) ] بقوله : ذكر رحمت ربك عبده زكريا( ٢ ) ]( مريم : الآيتان٢، ١ ) وقال في القلم :[ ن والقلم وما يسطرون( ١ ) ] ( القلم : آية١ ) مع أن هذه يحتمل أن المراد ب [ وما يسطرون ] هو هذا القرآن العظيم ؛ لأنه أعظم ما يسطر فيكون في مريم فقط.
والقرآن وإن كان مكتوبا في اللوح المحفوظ فنزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ليس أن جبريل ينظر في اللوح المحفوظ، بل الله( جل وعلا ) يكلم جبريل بما يريد إنزاله من أنجم القرآن، فيسمعه جبريل من كلام الله على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله. وإذا تكلم الله بوحيه صعق أهل السماوات من عظمة كلام رب العالمين( جل وعلا ) كما جاء مبينا في الأحاديث الصحيحة، وأول من يرفع رأسه منهم جبريل، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير. فيسمعه جبريل من كلام رب العالمين، يتكلم به الله على الوجه اللائق بكماله وجلاله، المخالف لكلام خلقه من جميع الجهات، ثم يأتي جبريل فيكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأنواع الوحي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث بكثرة.
ولما كان هذا القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ، وفي الكتب عند الملائكة سمي الكتاب. وقال الله فيه هنا :[ كتب أنزل إليك ] والكتاب( فعال ) بمعنى( مفعول )، أي : مكتوب، وإتيان( الفعال ) بمعنى( المفعول ) مسموع في كلام العرب وليس قياسا مطردا، وتوجد في العربية منه أوزان معروفة ككتاب بمعنى : مكتوب، وإله بمعنى : مألوه، أي : معبود، ولباس بمعنى : ملبوس، وإمام بمعنى : مؤتم به. فكلها( فعال ) بمعنى اسم المفعول.
وأصل مادة الكاف والتاء والباء ( كتب ) أصل هذه المادة في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناها الضم والجمع، فكل شيء ضممت بعض أجزائه إلى بعض فقد كتبته، ومنه قيل للكبكبة من الجيش :( كتيبة ) لأنها طائفة من الجيش جمع بعض أطرافها إلى بعض، كما قال نابغة ذبيان :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
وكاتبين وما خطت أناملهم | حرفا ولا قرؤوا ما خط في الكتب |
ما بال عينيك منها الماء ينسكب | كأنه من كلا مفرية سرب |
وفراء غرفية أثأى خوارزها | مشلشل ضيعته بينها الكتب |
لا تأمنن فزاريا خلوت به | على قلوصك واكتبها بأسيار |
وقوله :[ أنزل إليك ] الجملة الفعلية في قوله :[ أنزل إليك ] في محل النعت لقوله :[ كتاب ] لأن النكرات تنعت بالجمل، ويربط بينها وبين النكرة بالضمير كما هو معروف. وفاعل الإنزال محذوف، والأصل : أنزله الله إليك، وإنما حذف الفاعل اختصارا ؛ لأن من المعلوم أن هذا القرآن العظيم المعجز الجامع لكل خير الشامل لعلوم الأولين والآخرين ليس هناك من يقدر على إنزاله إلا خالق السماوات والأرض. ولما كان المنزل معلوما كان هذا الاختصار والإيجار واقعا موقعه ؛ لأن الفاعل معروف، فلو حذف لما ضر حذفه ؛ ولذا قال :[ كتاب أنزل إليك ] أي : أنزله الله إليك. وقد أنزله الله إليه أنجما، منجما في حوالي ثلاث وعشرين سنة.
وقوله :[ فلا يكن في صدرك حرج منه ] يعني : هذا الكتاب أنزله الله إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فاللام في قوله :[ لتنذر ]- الآتي- يتعلق بقوله :[ أنزل ] يعني : أنزل إليك لأجل أن تنذر وأن تذكر به، فلا تعجز عن ذلك الإنذار، ولا يضق صدرك عنه.
[ فلا يكن في صدرك حرج منه ] صدر الإنسان معروف، وإذا جاء على الإنسان أمر يثقل عليه أو يشق عليه أورثه ضيقا في صدره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يشق عليه ويضيق بصدره التبليغ من حيث إن الكفار يكذبونه ويقولون له : أنت كاذب، أنت ساحر، أنت شاعر، أنت كاهن، هذه أساطير الأولين علمكها بشر. فتكذيبهم له وأذيتهم له يشق عليه، كما قال الله :[ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون( ٩٧ ) ]( الحجر : آية ٩٧ ) وقال[ قد نعلم إنه ليحزنك ]( النعام : آية ٣٣ ) وفي القراءة الأخرى :( ليحزنك الذي يقولون ] أي :[ فلا يكن في صدرك حرج ] أي : ضيق. يعني : أوسع صدرك، وتحمل الأذى، وشق الطريق في تبليغ هذا القرآن العظيم، والإنذار به، والتذكير به، لا تضعف، ولا تجبن، ولا تخف من الأذى، ولا يضق صدرك به.
والحرج في كلام العرب- أصله معروف في كلام العرب أن الحرج في لغة العرب : الضيق. وقد يسمون الشجر الملتف الذي لا تصل إليه راعية يسمونه :( حرجة ) لضيق مكانه. وقد كانوا يقولون في قصة غزوة بدر :" فإذا أبو جهل كالحرجة " -يعني لشدة ازدحام قريش عليه وصيانتهم له- يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه كالشجرة الملتف عليها الشجر لا يمكن أن يوصل لها. هذا أصل ( الحرج ) في لغة العرب الضيق. وقد بيناه في قوله :[ يجعل صدره ضيقا حرجا ]( الأنعام : آية ١٢٥ )[ يجعل صدره ضيقا حرجا ] وكون( الحرج ) هو : الضيق، هذا هو المعروف في لغة العرب، ومنه قوله :[ وما جعل عليكم في الدين من حرج ]( الحج : آية ٧٨ ) أي : ما جعل عليكم من ضيق. وأحرجه. أوقعه في الحرج ؛ ولذا سميت الطلقات الثلاث( المحرجات ) لأنها تضيق على صاحبها وتمنعه من رجعة امرأته. واليمين قد تكون محرجة لأنها تمنع من المحلوف عليه. وهذه المعاني معروفة في كلام العرب، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل بن معمر، على الخلاف المعروف في الشعر المشهور :
قالت :
وعيش أبي حرمة إخوتي | لأنبهن الحي إن لم تخرج |
فخرجت خوف يمينها فتبسمت | فعلمت أن يمينها لم تحرج |
عوجي عليها ربة الهودج | إنك إلا تفعلي تحرجي |
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت | فقد رابني منها الغداة سفورها |
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت | فقد رابني منها الغداة سفورها |
وقوله :[ لتنذر به ] التحقيق أنها لام كي المعروفة بلام التعليل، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، وهي تتعلق بقوله :[ أنزل ] يعني : أنزل إليك هذا الكتاب لأي حكمة أنزل إليك ؟ [ لتنذر به وذكرى للمؤمنين ].
وقوله :[ لتنذر ] أصله مضارع أنذره إنذارا، والإنذار في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو خصوص الإعلام المقترن بتهديد خاصة وتخويف. فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارا ؛ لأن الإنذار الإعلام المقترن بتخويف وتهديد
الأولى منها : فعل الأمر الصريح، نحو :[ أقم الصلاة ]( الإسراء : آية ٧٨ ) وقوله هنا :[ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ]( الأعراف : آية ٣ ).
والثاني : اسم فعل الأمر، نحو :[ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ]( المائدة : آية ١٠٥ ).
والثالث : الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، نحو :[ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ]( النور : آية٦٣ ) [ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق( ٢٩ ) ]( الحج : آية ٢٩ ).
والرابعة : هي المعروفة عند النحويين بالمصدر النائب عن فعله، نحو قوله :[ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ]( محمد : آية ٤ ) يعني : فاضروا رقابهم. كقول هند بنت عتبة يوم
أحد لما انهزم المشركون هزيمتهم الأولى، وقتل حملة اللواء من بني عبد الدار، وبقي لواء قريش طريحا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية التي يقول فيها حسان :
ولولا لواء الحارثية أصبحوا | يباعون في الأسواق بيع الجلائب |
صبرا بني عبد الدار
صبرا حماة الأدبار
ضربا بكل بتار
فكل هذه المصادر مصادر نابت عن أفعالها، ففيها معنى الأمر. تعني : اصبروا يا بني عبد الدار، واضربوا بكل بتار. هذه هي صيغ الأمر.
وقد دل القرآن والسنة ولغة العرب على أن صيغة ( افعل ) تقتضي الوجوب، فمن الدليل على ذلك : أن الله لما قال للملائكة :[ اسجدوا لآدم ]( البقرة : آية ٣٤ ) كانت[ اسجدوا ] صيغة ( افعل ) فلما امتنع إبليس وبخه وحكم عليه بالعصيان وقال :[ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ] موبخا له. فدل على أن عدم امتثال صيغة الأمر انه معصية. ويؤيد ذلك أن نبي الله موسى قال لأخيه هارون لما أراد السفر إلى الميقات، قال لأخيه هارون :[ اخلفني في قومي وأصلح ]( الأعراف : الآية ١٤٢ ) وهذه صيغة أمر، فلما ظن أنه لم يتبعها قال :[ أفعصيت أمري ]( طه : آية ٩٣ ) فصرح بأن مخالفة صيغة ( افعل ) معصية. ومن الأدلة على ذلك أن الله يقول :[ فليحذر الذين يخالفون عن أمرهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ]( النور : الآية ٦٣ )، وقد قال جل وعلا :[ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة ]( الأحزاب : آية ٣٦ ) وفي القراءة الأخرى :[ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ]، ومن قضائه للأمر هو أن يقول :( افعل كذا ) فدلت آية الأحزاب هذه على أن أمره تعالى قاطع الاختيار، موجب الامتثال، والأدلة بهذا كثيرة.
ووجه دلالة اللغة العربية على أن صيغة ( افعل ) تقتضي الوجوب : أن السيد المالك لعبد لو قال لعبده :( اسقني ماءا )فامتنع العبد ولم يسق سيده فأدبه وضربه أن عامة أهل اللسان يقولون : إن هذا العتاب واقع موقعه. فلو قال العبد للسيد : أنت ظلمتني بعقابي هذا ؛ لأن قولك( اسقني ) صيغة( افعل ) وهذه لا توجب ولا تلزم شيئا ! ! لقال له أهل اللسان العربي : كذبت يا عبد، بل الصيغة ألزمتك، ولكنك امتنعت، فلسيدك أن يعاقبك. هذا وجه دلالة اللغة العربية على ما ذكرنا.
وعلى كل حال فقوله :[ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ] هذا الأمر واجب بإجماع العلماء، فيجب على كل مسلم أن يتبع ما أنزله الله في هذا القرآن الكريم على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. والسنة جميعها إنما هي قطرة من بحر القرآن العظيم ؛ لأن القرآن بحر لا ساحل له، والسنة قطرة من بحره ؛ لأن جميع ما جاء في سنة رسول الله يدخل في قوله :[ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ]( الحشر : آية ٧ ) والعمل بما جاء عن رسول الله بالقرآن العظيم، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود( رضي الله عنه ) أنه جاءته امرأة تسأله عن ابنتها يريدها زوجها أن تزف إليه، وقد تمعط شعرها، يعني : سقط شعرها، والشعر جمال المرأة، فهي تريد أن تصل شعر رأسها بشيء تجملها به لزوجها. فذكر ابن مسعود أن الواصلة شعرها بشعر غيرها ملعونة في كتاب الله. فجاءته المرأة بعد ذلك وقالت له : لقد قرأت ما بين اللوحتين أو ما بين الدفتين فلم أجد لعن الواصلة في كتاب الله ! ! فقال لها : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أو ما قرأت :[ وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ] قالت : بلى. قال : هو صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة. وهذا مما يدل على أن كل ما في سنة رسول الله فالعمل به عمل بكتاب الله.
[ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ] فعلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يعملوا بهذه الأوامر السماوية المنزلة من خالق السماوات والأرض، الذي فتح أعينهم في وجوههم، وصبغ لهم بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفتح لهم آنافهم وأفواههم، وأعطاهم الألسنة، وأنبت لهم الأسنان، وشق لهم المحل الذي ينزل عنهم منه البول والغائط، وفتح لهم العروق والشرايين ليجري فيها الدم، فهذا لو لم يثقبه رب العالمين ويفتحه لما قدر أحد على أن يثقبه ! ! هذا الذي هذه عظمته، وهذا سلطانه وقدرته عليكم يأمركم بوحيه المنزل من فوق سبع سموات أن تتبعوا أوامره ونواهيه التي انزلها على رسله، ولا تتبعوا أولياء غيره( جل وعلا )، ولا تشريعات غير شرعه ( جل وعلا )، فيجب على جميع المسلمين أن يعلموا أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، والمتبع هو نظام الله الذي أنزله في هذا القرآن على سيد الخلق ( صلوات الله وسلامه عليه ). فالذين يتمردون على هذا الأمر ويسمعون في القرآن :[ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ] و يقولون : لا، لا يمكن أن نتبع ما انزل إلينا من ربنا بل نتبع قانون نابليون، أو قانون فلان، أو فلان من القوانين الوضعية المستوردة المتمردة على نظام خالق السماوات والأرض ! ! هذا أمر لا يليق، وصاحبه ليس من الإيمان في شيء ؛ لأن هذا الكون ليس فوضى، وإنما له خالق جبار ملك عظيم قهار خالق كل شيء، وبيده كل شيء، وإليه مرجع كل شيء، ولا يقبل أبدا ولا يرضى أبدا أن يتبع شيء إلا الشيء الذي أنزل هو ( جل وعلا ) على رسوله الكريم لينذر به ويذكر به المؤمنين. فهذا هو الذي ينبغي أن يتبع، وهو نظام السماء الذي يحفظ لبني آدم في دار الدنيا أديانهم أتم الحفظ، ويحفظ لهم أنفسهم، ويحفظ لهم عقولهم، ويحفظ لهم أنسابهم، ويحفظ لهم أموالهم، ويحفظ لهم أعراضهم، إلى غير ذلك من مقوماتهم الدينية والدنيوية، فيجب إتباعه وعدم العدول عنه إلى غيره.
وبهذا تعلمون أن من يقوم ويعلن في وقاحة أمام جميع الدنيا انه لا يتبع ما أنزله الله إلى سيد الخلق( صلوات الله وسلامه عليه )، والله يأمر باتباع ما أنزل وترك اتباع غيره، وهو يعلن إذا كان رئيسا لقوم باسم الذين يزعم أنه ممثلهم أنه لا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله، بل يحكم بقانون آخر وضعي وضعه زنادقة كفرة فجرة مظلمة قلوبهم، هم في أصل وضعه عالة على علماء المسلمين، زنادقة كفرة فجرة، يرغب عن تنزيل رب العالمين المأمور باتباعه فيذهب إلى وضع الخنازير الكفرة الفجرة، يعتقد أنه هو الذي ينظم علاقات الحياة، زاعما أن القرآن تقاليد قديمة، وأن ركب الحضارة تطور عنها، وان الدنيا تطورت في أحوالها الراهنة تطورا بعد نزول القرآن لا يمكن أن ينظمها القرآن ! ! فهذا كلام الفراعنة الجهلة المتمردين على نظام السماء. ولا يوجد في الدنيا نظام يضبط علاقات الخلق، وينشر الطمأنينة والرخاء والعدالة مثل نظام السماء الذي وضعه خالق السماوات والأرض ( جل وعلا ). والقرآن بين لنا في آيات كثيرة أن الذي يتمرد على هذا الأمر في آية سورة الأعراف :[ اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ] ولم يتبع ما أنزل إليه من ربه، واتبع القوانين والنظم الوضعية بين لنا في غير ما آية أنه كافر، وان ربه الشيطان، وأن مصيره إلى النار خالدا مخلدا.
( والآيات القرآنية الدالة على هذا كثيرة جدا، من ذلك ما بيناه مرارا : أن إبليس عليه لعنة الله، لما جاء تلامذته وإخوانه من أهل مكة، وأراد أن يهيئ لهم وحي الشياطين ليجادلوا به النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم : سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة، من هو الذي قتلها ؟ فلما أخبرهم أن الله هو الذي قتلها، قالوا له من وحي الشيطان : ما ذبحتموه بأيديكم-يعنون المذكاة- تقولون : حلال، وطاهر، وطيب مستلذ وما ذبحه الله بيده الكريمة-يعنون الميتة، أن الله قتلها-تقولون : هو حرام، ميتة، مستقذر، فأنتم إذا أحسن من الله ! ! وانزل الله في وحي الشياطين جوابا لنبيه عنه قوله :[ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ]( الأنعام : آية ١٢١ ) يعني : الميتة، وإن زعم أولياء الشيطان أنها ذبيحة الله، ثم قال :[ وإنه لفسق ] أي : وإن أكل الميتة لفسق، وخروج عن طاعة الله، ثم قال- وهو محل الشاهد- :[ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ] وإن أطعمتموهم في تحليل الميتة إنكم لمشركون.
اعلم أن تحليل الميتة وتحريمها ليس عقيدة من العقائد، ولا أصلا من الأصول، وإنما هو فرع من الفروع. مضغة لحم شرع الله على لسان نبيه تحريمها ؛ لأنها ماتت ولم يذكر عليها اسم الله، وشرع إبليس على لسان أوليائه تحليلها، فهذا نظام إبليس، وهو تحليل الميتة، وهذا نظام خالق السماوات والأرض الذي شرعه على لسان نبيه. الله يقول : هذه ماتت حتف انفها، ولم تذك ولم يذكر اسم الله عليها. و الشيطان يشرع بفلسفته ويقول :) الحلال ما قتله الله، وهو ذبيحة الله، وان المذكاة التي سمي عليها الله أنها ليست أحل من الجيفة ؛ لأنكم أنتم الذين قتلتموها، وقتل الله أحل من قتلكم ! ! هذا وحي الشيطان، وفلسفة الشيطان، يريد أن يحلل لحم الميتة ! ! ونظام السماء يحرم لحم الميتة على لسان الرسول مأمورا بقوله :[ اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ] ومنه تحريم الميتة، أنزل الله :[ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ]( النعام : آية١٢١ ) يعني : الميتة، وإن زعم أولياء الشيطان وأتباعه الذي يوحي إليهم انه ذبيحة الله بسكين من ذهب، وانه أحل من ذبيحة المسلمين. قال :[ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عل
على حد قوله :[ إنا كل شيء خلقناه بقدر( ٤٩ ) ]( القمر : آية ٤٩ ) إلا أن الرفع هنا على الابتداء أجود ؛ لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير.
والقرية تطلق في اللغة العربية إطلاقين : تطلق على مطلق الأبنية من الحجارة والطين والأسس والسقوف، وتطلق على أهل القرية التي هي عامرة بهم، دل القرآن على إطلاقها هذين الإطلاقين. والتخويف بإهلاك أهلها وإن كان نفس القرى والأبنية يدمره الله ويهلكه، إلا أن التخويف الشديد إنما هو بإهلاك أهلها. والمراد بالإهلاك : إهلاك أهلها ؛ لأن الله قال بأن المراد الأهل، قال :[ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون( ٤ ) ] فقوله :[ هم قائلون ] يدل على أن المراد هو السكان ؛ لأن نفس الأبنية لا يقال فيها :[ هم قائلون ] فلا بد هنا من تقدير :( أهل القرية ) على كل حال ؛ لأن الله قال :[ أو هم قائلون ]فقال بعضهم : يقدر في قوله :[ وكم من قرية أهلكناها ]أي : أهلكنا أهلها[ فجاءها أي : القرية، والمراد : أهلها [ بأسنا بياتا ] بدليل قوله :[ أو هم قائلون ]. وقال بعض العلماء : لا حاجة إلى تقدير ( الأهل ) في الأول :[ وكم من قرية أهلكناها ] أي : دمرنا أبنيتها وجعلناها خاوية على عروشها لما سخطنا على أهلها [ فجاءها بأسنا ] في حال كون أهلها بائتين، أو في حال كونهم قائلين، أي : مستريحين وقت القيلولة.
وفي هذه الآية الكريمة حذف النعت، وحذف النعت يقول بعض علماء العربية : إنه قليل، كما قال ابن مالك في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل *** يجوز حذفه وفي النعت يقل
ولكنه بتتبع اللغة العربية يعلم أن حذف النعت. والنعت المحذوف هنا هو قوله :" وكم من قرية ظالمة عاصية غير متبعة ما أنزل إليها ". والدليل على هذا النعت المحذوف : أن الله لا يهلك قرية إلا قرية ظالمة، كما صرح به في قوله :[ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ]( القصص : آية ٥٩ ) فدلت هذه الآيات على أن القرية يحذف نعتها هنا. أي :" وكم من قرية ظالمة عاصية ممتنعة من اتباع ما أنزلنا، متبعة للأولياء المضلين غير ما أنزلنا، كم من قرية بهذه المثابة أهلكناها ".
وحذف النعت مشهور في كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى :[ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ]( الكهف : آية ٧٩ ) لأن المراد : كل سفينة صحيحة صالحة. إذ لو كان يأخذ المعيبة المخروقة لما كان في خرق الخضر للسفينة فائدة ؛ لأنه لما خرقها خرقها ليعيبها لتسلم بذلك العيب من أخذ الملك الغاصب لها ؛ لأن عيبها بالخرق يزهده في أخذها ؛ ولذا قال :[ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها ]( الكهف : آية ٧٩ ) أي : لئلا يأخذها الملك الغاصب. فدل كون الملك لا يأخذ السفينة المعيبة على حذف النعت في قوله :[ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة ] أي : صحيحة صالحة غير معيبة ولا مخروقة. وحذف النعت معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب قول المرقش الأكبر :
ورب أسيلة الخدين بكر *** مهفهفة لها فرع وجيد
يعني : لها فرع فاحم، وجيد طويل. فحذف النعت لدلالة المقام عليه. ومنه قول عبيد بن الأبرص الأسدي يمدح رجلا :
من قوله قول ومن فعله *** فعل ومن نائله نائل
يعني : من قوله قول فصل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جزل. فحذف النعوت لدلالة المقام عليها. والمعنى :[ كم من قرية ] أي : كثير من نوع القرية الظالمة العاصية المتبعة غير ما أنزل الله أهلكناها بسخطنا عليها فدمرناها تدميرا مستأصلا ؛ لأنها لم تتبع ما أنزلنا واتبعت غير ما أنزلنا.
وهذه القرى بينها الله بكثرة إجمالا وتفصيلا، كقوله :[ وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا( ٨ ) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا( ٩ ) ] ثم بين عذابهم الأخروي فقال :[ أعد الله لهم عذابا ]الآية( الطلاق : ألايات٨-١٠ ) وكقوله :[ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد( ٤٥ ) ]( الحج : آية٤٥ ) والمعنى : أن آبارها تعطلت لم يبق من يستقي عليها لهلاك أهلها وفنائهم عن آخرهم. وكقوله :[ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين( ١١ ) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون( ١٢ )لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون( ١٣ ) قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين( ١٤ ) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين( ١٥ ) ]( الأنبياء : الآيات١١-١٥ ) والآيات بمثل هذا كثيرة. ومن هذه القرى التي أهلكها الله قرى لوط( سدوم ) وغيرها، رفعها الله إلى السماء وقلبها فجعل عاليها سافلها، وأرسل عليها حجارة السجيل ؛ ولأجل أنه قلبها وجعل عاليها سافلها سميت القرى :( المؤتفكات ) وسميت عاصمتها( المؤتفكة ) لأن جبريل أفكها، أي : قلبها فجعل عاليها سافلها. والإفك : قلب الشيء، ومنه قيل لأسوأ الكذب ( إفك ) لأنه قلب للحقائق عن ظواهرها. ومن تلك القرى : قوم مدين( أصحاب شعيب ) الذين أهلكتهم الظلة، وقوم صالح الذين واعدهم ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ومنهم قوم هود أرسل الله عليهم الريح العقيم فدمرهم، ومنهم قوم نوح أرسل الله عليهم الطوفان فدمرهم، كما جاء مفصلا في الآيات القرآنية، وكل هؤلاء القرى التي دمرها الله إنما دمرها لأنه انزل إليها وحيا تشريعا على لسان نبي كريم وقال لها :[ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ] ولا تتبعوا غيره. فتمردوا، ولم يتبعوا ما أنزل الله، واتبعوا غيره فدمرهم الله تدميرا مستأصلا ؛ ولذا يحذر هذه الأمة على لسان نبيها أن لا تتبع غير ما انزل الله، لئلا يهلكها بهلاك مستأصل.
فهذه الآيات فيها تخويف عظيم، وتهديد كبير من رب السماوات والأرض ؛ لأنهم إذا تركوا العمل بما أنزل الله، وذهبوا يعملون بغير ما أنزل الله، فقد استحقوا العقوبة والهلاك، فهم مستحقون للعقوبة والهلاك، فعليهم أن يتبعوا ما أنزل الله، ويتركوا اتباع غير ما انزل الله ؛ ليسلموا بذلك من استحقاق عقوبات الله وإهلاكه العظيم ؛ ولذا قال :[ وكم من قرية أهلكناها ] أي : إهلاكا مستأصلا لم يبق منها داع ولا مجيب [ فجاءها بأسنا ] أي : عذابنا وهلاكنا المستأصل. والبأس يطلق على كل نكال شديد، والمراد به هنا : إهلاكهم وتدميرهم عن آخرهم.
وقوله :[ بياتا ] مصدر منكر في موضع الحال، أي :[ فجاءها بأسنا ] أي : جاء أهلها بأسنا في حال كونهم بائتين، أي : نائمين في الليل في بيوتهم، أو جاءهم بأسنا في حال كونهم وهم قائلون.
والتحقيق : أن الجملة الحالية إذا عطفت بأداة عطف حذف منها واو العطف لاستثقال تكرر أدوات العطف. هذا هو التحقيق، ومناقشات النحويين في عدم حذفه كلها ساقطة. والحق الذي لا شك فيه أن الجملة الحالية إذا عطفت على حال بأداة عطف تحذف منها واو الحال ؛ لأن واو الحال تشبه أداة العطف، فيستثقل إثباتها مع حرف العطف، ويكون الربط بالضمير، لأن ربط الجملة الحالية بالضمير يكفي عن ربطها بالواو.
والبيات : أصله مصدر بات الرجل، يبيت، بيتوتة، وبياتا، وسمي البيت بيتا لأنه يبات فيه، وهو مصدر منكر في موضع الحال، والمصادر المنكرة تقع أحوالا بكثرة. أي :[ فجاءها بأسنا ] أي : جاء أهلها بأسنا في حال كونهم بائتين في غفلة. أو جاءها بأسنا في حال كونهم وهم قائلون.
والقائلون : جمع القائل، وهمزته منقلبة عن ياء، لأن الفاعل من الأجوف تبدل عينه همزة، سواء كانت واوا أو ياء، فإن قلت :" قال زيد، يقول، فهو قائل " الهمزة مبدلة من واو ؛ لأن أصل الأجوف واوي العين من ( القول ). وإن قلت :" قال زيد " معناه : استراح في وقت النهار، يعني من العمل. سواء كانت القيلولة استراحا مع نوم أو غير نوم. تقول :" قال يقيل، فهو قائل " ك :( باع، يبيع، فهو بائع ) فالهمزة مبدلة من ياء ؛ لأن ( قال، يقيل ) أجوف واوي العين، والهمزة تبدل من الواو والياء، وهي هنا مبدلة من ياء ؛ لأن ( القائلين ) هنا جمع ( قائل ) وهو اسم فاعل ( قال، يقيل ) ك ( باع، يبيع ) من ( القيلولة ) وهي الاستراحة في نصف النهار وقت شدة الحر، سواء كانت مع نوم أو مع غير نوم.
وهذان الوقتان وقت راحة ودعة واستراحة، فإتيان العذاب والإهلاك فيها أفظع. وقد أهلك الله قوم شعيب في وقت القائلة حيث أرسل عليهم الظلة في شدة النهار وأحرقتهم، واهلك قوم لوط قبل أن يستيقظوا من نومهم عند انصداع الفجر، كما قال :[ إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ]( هود : آية٨١ ) والله( جل وعلا ) يخوف الظالمين المتبعين لغير ما انزل الله بأن يهلكهم وقت البيات، أو وقت القيلولة، أو أن يهلكهم في أوقات أخر كما قال :[ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون( ٩٧ ) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون( ٩٨ ) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون( ٩٩ ) ]( الأعراف : الآيات٩٧-٩٩ )، وقال جل وعلا :[ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون( ٤٥ ) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين( ٤٦ ) أو يأخذهم على تخوف[ ( النحل : الآيات٤٥-٤٧ ) إلى آخر الآيات التي يخوف الله بها خلقه من معاصيه.
وعلينا جميعا أن نعرف أن خالق السماوات والأرض هو الجبار العظيم، شديد البطش والنكال[ إن بطش ربك لشديد( ١٢ ) ]( البروج : آية ١٢ ) وهو يخوف خلقه أن يعملوا بمعصيته، وان يتبعوا غير ما أنزل، فيجب على كل مسلم أن يخاف من عقوبات الله وسخطه وإهلاكه، وان يحذر كل الحذر من أن يتبع غير ما أنزل الله ؟ ؟، فيجب على كل أحد أن يتبع ما أنزل الله ويدع غيره.
واستدلال ابن حزم وغيره من الظاهرية بهذه الآية على منع القياس سنبسط الكلام عليه في قصة إبليس- عليه لعائن الله- الآتية في الآيات القادمة قريبا- إن شاء الله-
وقوله جل وعلا :[ فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون( ٤ ) فما كان دعواهم ]( الأعراف : الآيتان٥، ٤ ) يعني : لما أهلك الله القرى بظلمها ودمرها تدميرا مستأصلا لم يكن عندها عذر ولا حجة مقبولة ؛ لأن الله ( جل وعلا ) هو العدل الذي لا يأخذ ظلما :[ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ]( النساء : الآية ٤٠ ) فلا يأخذ أحدا بعذاب إلا وهو مستحق كل الاستحقاق لذلك العذاب ؛ ولذا القرى التي دمرها لم تكن عندها دعوى ولا معذرة تقول : يا ربنا إنك ظلمتنا ؛ أو عاقبتنا ولم تنذرنا ! ! لأنه لا يعذب أحدا حتى يقطع حجته ويعذر إليه من جميع الجهات، كما قال جل وعلا :[ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ]( النساء : آية ١٦٥ ) فلو كان عذبهم قبل أن ينذرهم لاعتذروا وقالوا : أنت لم تنذرنا ونحن جاهلون معذورون. ولكن الله يقول :[ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ] وهذه الحجة التي أشار لها في سورة النساء أوضحها في سورة طه، وأشار لها في سورة القصص، حيث قال في طه :[ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى( ١٣٤ ) ]( طه : آية ١٣٤ ) وقال في القصص :[ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين( ٤٧ ) ]( القصص : آية ٤٧ ) فلما قطع عذرهم بالرسل والآيات والمعجزات لما جاءهم الهلاك لم تكن عندهم دعوى يعتذرون بها، ولا حجة يبدونها إلا الإقرار والاعتراف بأنهم الخبثاء الظالمون ؛ ولذا قال :[ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين( ٥ ) ]( الأعراف : آية ٥ ) لم يكن عندهم عذر ولا دعوى ؛ ولذا قالوا : إنا كنا ظالمين ].
فقوله :[ فما كان دعواهم ] قال بعض العلماء : فما كان قولهم ؛ لأنهم لا حجة لهم ولا دعوى.
وقال بعض العلماء : لم يكن عندهم ادعاء ولا معذرة إلا قولهم :[ إنا كنا ظالمين ].
وقال بعض العلماء : الدعوى هنا بمعنى الدعاء، لم يكن عندهم دعاء ولا تضرع إلا الاعتراف بالذنب حين لا ينفع الاعتراف، والندم حيث لا ينفع الندم.
والدعوى تطلق على القول، وعلى الادعاء، وعلى الدعاء. أي : فما كان قولهم ومعذرتهم حين جاءهم العذاب إلا الاعتراف [ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ].
واظهر القولين هنا أن [ دعواهم ] في محل رفع اسم لكان، وأن قوله :[ إلا أن قالوا ] المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في محل نصب خبرا لكان ؛ لأنه إذا كان الفاعل والمفعول أو الاسم والخبر معرفتين كان الأولى منها يستحق أن يكون هو الفاعل أو الاسم إلا بدليل يدل عليه.
وقول بعض العلماء : إن [ دعواهم ] هنا منصوب بدليل قوله :[ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ]( النمل : آية ٥٦ ) فجعل [ إلا أن قالوا ] هو المرفوع، و[ جواب ] هو المنصوب، كذلك [ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا ] فيه فرق ؛ لأن [ جواب ] يظهر فيه النصب فيتعين الاسم من الخبر، وقوله :[ دعواهم ] لا يتعين فيه الاسم من الخبر ؛ لأنه لا يظهر عليه النصب، فالأولى أن يكون الأول هو المرفوع، والثاني هو المنصوب إلا بقرينة تدل عليه. والمعنى فما كان دعواهم وادعاؤهم إلا قولهم :[ إنا كنا ظالمين ] يعني : إنا كنا ظالمين فيما كنا عليه من اتباع غير ما أنزل الله، وترك اتباع ما أنزل الله.
والظالمين جمع تصحيح للظالم، وهو خبر كان منصوب، وهو جمع تصحيح للظالم. والظالم : اسم فاعل الظلم، وقد قدمنا مرارا، أن الظلم في لغة العرب التي نزل بها القرآن أنه وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم.
وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه : وضع العبادة في غير الخالق( جل وعلا ) ؛ ولذا كان الشرك بالله وعبادة غيره هو النوع الأكبر من أنواع الظلم، كما قال العبد الحكيم لقمان :[ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ]( لقمان : آية ١٣ ) وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله :[ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ]( الأنعام : آية ٨٢ ) قال : بشرك. ثم تلا قول لقمان :[ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ] ( لقمان : آية ١٣ ) ونظيره في القرآن :[ والكافرون هم الظالمون ]( البقرة : آية ٢٥٤ ) وقوله :[ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين( ١٠٦ ) ]( يونس : آية ١٠٦ ) هذا أصل الظلم في لغة العرب. أعظم أنواعه : وضع الشيء في غير موضعه، وضع العبادة في غير من خلق، وهي الكفر بالله.
ومن أنواع الظلم وضع الطاعة في غير موضعها بأن يطيع عدوه إبليس ويعصي خالقه ( جل وعلا ). فمن أطاع إبليس واتبع تشريعه، وعصى الله ولم يتبع ما انزل فهو ظالم ؛ لأنه وضع الطاعة في غير موضعها، والمعصية في غير موضعها ؛ والله يقول :[ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ]( الكهف : آية ٥٠ ) وكل من وضع شيئا في غير موضعه تسميه العرب ( ظالما ) ومن ذلك قولهم للذي يضرب لبنه قبل أن يروب :" هو ظالم " ؛ لأنه وضع الضرب في غير موضعه ؛ لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده، وإضاعة زبده وضع للضرب في غير موضعه، ومنه سمي الذي يضرب لبنه قبل أن يروب ( ظالما ) وفي لغز الحريري في مقاماته :" هل يجوز أن يكون الحاكم ظالما ؟ قال : نعم إذا كان عالما ". يعني بقوله :" ظالما " أنه يضرب لبنه قبل أن يروب ويسقيه الناس. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
وقائلة ظلمت لكم سقائي | وهل يخفى على العكد الظليم |
وصاحب صدق لم تربني شكاته | ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر |
وصاحب صدق لم تربني شكاته | ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر |
وصاحب صدق لم تربني شكاته | ظلمت وفي ظلمي لع عامدا أجر |
وقفت فيها أصيلالا أسائلها | عيت جوابا وما بالربع من أحد |
إلا الأواري لأيا ما أبينها | والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد |
فأصبح في غبراء بعد إشاحة | من العيش مردود عليها ظليمها |
وهو في اصطلاح الشرع : وضع العبادة في غير موضعها، وهو الشرك بالله. أو وضع الطاعة في غير موضعها، كطاعة إبليس، ومعصية الله. وقد جاء الظلم في القرآن في موضع واحد يراد به النقص وهو قوله تعالى :[ كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ]( الكهف : آية ٣٣ ) يعني أي : ولم تنقص منه شيئا. وهذا معنى قوله :[ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين( ٥ ) ]( الأعراف : آية٥ ) أي : واضعين الشيء في غير موضعه حيث كنا نضع الاتباع في غير موضعه، فنتبع قانون الشيطان ونترك اتباع ما أنزل الله، ونطيع الشيطان ونعصي ( في الأصل :( غير ) وهو سبق لسان ) أمر الله. فهم متبعون ما لا ينبغي أن يتبع، وتاركون ما ينبغي أن يتبع، فقد وضعوا الأمر في غير موضعه، وأوقعوه في غير موقعه، وذلك معنى الظلم في لغة العرب ؛ ولذا قال :[ قالوا إنا كنا ظالمين ].
وفي الآية التي ذكرنا إشكال معروف وسؤال مشهور عند العلماء، وهو الفاء في قوله :[ فجاءها بأسنا ] لأن المعروف في لغة العرب : أن الفاء حرف تعقيب، وأن ما بعدها آت بعد ما قبلها ؛ لأنك لو قلت : جاء زيد فعمرو. معناه أن عمرا جاء بعد مجيء زيد، عقبه. والقرآن هنا قال :[ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ] فجعل مجيء البأس كأنه واقع عقب الإهلاك، ومجيء البأس واقعا عقب الإهلاك، بل مجيء البأس هو عين الإهلاك، فالتعقيب بالفاء هنا فيه إشكال معروف وسؤال مشهور عند العلماء ؛ لأن طالب العلم يقول : كيف يقول :[ أهلكنا
وقد قدمنا أن الأمم الكافرة إذا سئل الرسل وقالوا :" قد بلغناهم " ينكر الأمم ويقولون : ما بلغونا ولا شيئا، ولو بلغونا لأطعنا ربنا ! ! فيقول الرسل : والله لقد بلغناهم أكمل تبليغ وأتمه. فيقول الله للرسل- هو يسأل الجميع، وهو أعلم – ليظهر براءة الرسل ونزاهتهم وأمانتهم، ويظهر خيانة الكفرة وعنادهم وكفرهم، فيكون فضلا لهؤلاء ونكالا لهؤلاء، فإذا أنكر الكفار أن الرسل بلغوهم، وقيل للرسل : هل عندكم من شهداء ؟ فيقولون : نعم، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد لنا. فيدعى بنا معاشر هذه الأمة الكريمة، فنشهد في ذلك الموقف العظيم للرسل الكرام بأنهم بلغوا ونصحوا وتحملوا الأذى، وبلغوا الدعوة على أكمل وجوه التبليغ، مع تحمل الأذى على أكمل الوجوه، وأن الأمم الكافرة هي التي آذتهم وأهانتهم وطغت وتجبرت وتكبرت عن قبول رسالات ربها. فيقول الأمم : يا ربنا كيف تقبل علينا شهادة أمة محمد وهم وقت إرسال الرسل إلينا لم يبرزوا للوجود، فهم في ذلك الوقت معدومون ؛ لأنهم آخر الأمم، وكيف يشهدون على شيء وقع قبل أن يكونوا في الوجود ؟ ! فنسأل عن ذلك فنقول : نعم، نحن في ذلك الوقت كنا معدومين، ولكنا بعد وجودنا حصل لنا اليقين الجازم، ومدار الشهادة على اليقين الجازم، فما شهدنا إلا بيقين جازم لا تختلجه الشكوك ولا الأوهام ؛ لأنك يا ربنا أرسلت إلينا رسولا كريما هو خير الرسل وأصدقهم وأعظمهم أمانة، وأنزلت عليه كتابا محفوظا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فما جاءنا في ذلك الكتاب ؟، وأخبرنا به ذلك النبي الكريم، فنحن نقطع به ونجزم به أشد قطعا وجزما مما عيناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا، وهؤلاء قد قصصت علينا أخبارهم في آياتك المحكمات قصصا لا يختلجه شك، فهو قطع مجزوم به، فهؤلاء الكفرة قوم نوح قصصت علينا قضيتهم وأذاهم له، وما تحمل من أذاهم، وما نصح لهم من النصح، وما مكث فيهم من الزمن يبلغهم [ فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ]( العنكبوت : آية ١٤ ) وأنه قال :[ إني دعوت قومي ليلا ونهارا( ٥ ) فلم يزدهم دعائي إلا فرارا( ٦ ) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا( ٧ ) ]( نوح : الآيات ٥-٧ ) وهؤلاء قوم هود قصصت علينا قصصهم في آيات كثيرة، كقولهم له :[ يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ]( هود : آسية ٥٣ ) وهؤلاء قوم صالح قصصت علينا أخبارهم في آيات كثيرة، كقولهم له :[ يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ] إلى آخر الآيات ( العراف : آية ٧٧ )، وقد قدمنا أن هذا معنى قوله :[ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ]( البقرة : آية ١٤٣ ) ومن هذا(... ) ( في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل وذهب معه بعض الكلام. ويمكن أن يستدرك أول المسألة الآتية من كلام الشيخ رحمه الله في الأضواء حيث قال :" وهنا إشكال معروف : وهو أنه تعالى قال لنا :[ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين( ٦ ) ] وقال :[ فوربك لنسئلنهم أجمعين( ٩٢ ) عما يعملون( ٩٣ ) ] وقال :[ وقفوهم إنهم مسئولون( ٢٤ ) ] وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال :.... " إلخ. الأضواء( ٢/٢٩٠ ) ).
٢/ب /[ ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون ]( القصص : آية ٧٨ ) وقال :[ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان ]( الرحمان : آية ٣٩ ) فنفى سؤال الناس عن ذنوبهم، وأنه لا يسأل أحد عن ذنبه مع أن قوله :[ فوربك لنسئلنهم أجمعين( ٩٢ ) عما كانوا يعملون( ٩٣ ) ] ( الحجر : الآيتان ٩٣، ٩٢ ) من جملة ما كانوا يعملون : ذنوبهم، فإنهم يسألون عنها.
ووجه الجواب : أشهر أجوبة العلماء عن هذا جوابان :
أحدهما : أن السؤال قسمان : سؤال توبيخ وتقريع، وهو من جنس التعذيب. وسؤال استخبار واستعلام واستكشاف. فالمنفي في الآيات : سؤال الاستخبار والاستعلام والاستكشاف ؛ لأن الله هو العالم المحيط علمه بكل شيء، فليس كقضاة الدنيا الذين يسألون عن الحقيقة ليستفيدوا منها علما، فهو عالم بما صنعوا، مسجل له عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فلا يقال للواحد منهم : هل فعلت الذنب الفلاني ؟ سؤال استعلام واستكشاف، بل هو مسجل عليه ذنبه، محقق عليه، لا يسأل عنه بهذا المعنى أبدا، وإنما يسأل عن ذنبه سؤال توبيخ وتقريع، ويقال له : لم فعلت هذا ؟ ! وإذا وجدت أسئلة الكفار في القرآن وجدتها كلها أسئلة توبيخ وتقريع، كما قال لهم :[ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم ]( الزمر : آية ٧١ )[ أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون( ١٥ ) ]( الطور : آية ١٥ ) كل الأسئلة أسئلة توبيخ وتقريع، وأما سؤال المرسلين فليس سؤال توبيخ ولا تقريع، والمراد به أن المرسلين إذا سئلوا وقالوا :" بلغنا ونصحنا " رجع اللوم والتقريع على الأمم. ومن ذلك القبيل : سؤال الموءودة، وهي البنت التي كانوا يدفنونها حية، كما في قوله :[ وإذا الموءودة سئلت( ٨ ) بأي ذنب قتلت )٩ ) ]( التكوير : الآيتان٩، ٨ ) لأن سؤال الموءودة ليس توبيخا ولا تقريعا للموءودة ؛ لأنها لا ذنب لها، وإنما تقول : قتلت ودفنت حية في غير ذنب ؛ ليتوجه العتاب الشديد واللوم العظيم على من فعل ذلك بها فسؤال المرسلين، وسؤال الموءودة إنما يراد به : شدة توبيخ الكفار الذين كذبوا المرسلين، ووأدوا الموءودة. هذا معنى الآيات.
وهذا معنى قوله :[ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين( ٦ ) ]( الأعراف : الآية ٦ ) والدليل على أن سؤال الله للكفار سؤال توبيخ وتقريع، وأن سؤاله للمرسلين ليجيبوا بأنهم بلغوا فيتوجه التوبيخ والتقريع على الكفار زيادة على زيادة. الدليل على هذا- أنه لا يسألهم سؤال استعلام واستخبار واستكشاف- أنه أتبعه بقوله :[ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين( ٧ ) ]( الأعراف : آية ٧ )
ومعنى :[ فلنقصن عليهم بعلم ] نذكر لهم أعمالهم فذلك قصة، قصة، قصة، فيقول الله للعبد : يا فلان بن فلان ألم تعلم أنك فعلت في اليوم الفلاني، في الوقت الفلاني، في الساعة الفلانية، من الشهر الفلاني، في البقعة الفلانية، عملت كذا وكذا، وكذا وكذا ؟ ثم يسرد عليه أعماله قصة قصة، وقعة بعد وقعة، حتى يأتي على جميع ما فعل، وكذلك تشهد عليهم بقاع الأرض ؛ لأن الإنسان إذا عصى الله في بقعة من بقاع الأرض يومئذ ينطقها الله، وتشهد عليه البقعة، وتقول : أشهد على فلان بن فلان أنه في ساعة كذا في يوم كذا في شهر كذا فعل علي كذا وكذا. كما يأتي إيضاح هذا في سورة الزلزلة في قوله :[ إذا زلزلت الأرض زلزالها( ١ ) ] إلى قوله[ يومئذ تحدث أخبارها( ٤ ) بأن ربك أوحى لها( ٥ ) ] ( الزلزلة : الآيات١-٥ ) تحدث الأرض أخبارها فتخبر بما فعل الناس عليها، كما أنهم في ذلك الوقت تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم وجلودهم، كما قال تعالى :[ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أرجلهم بما كانوا يكسبون( ٦٥ ) ]( يس : آية ٦٥ ) ولما لاموا جلودهم في الشهادة عليهم :[ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ]( فصلت : آية ٢١ ) والله ( جل وعلاه ) يخبر أنهم في دار الدنيا ما كانوا يتسترون على أعضائهم خوف أن تشهد عليهم، لا يظنون أنها تشهد عليهم [ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون( ٢٢ ) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ]( فصلت : الآيتان ٢٣، ٢٢ ) يعني :[ فلنقصن عليهم ] ( الأعراف : آية ٧ ) على الأنبياء والأمم ما فعله كل إنسان على رؤوس الأشهاد، فعلت كذا وكذا، مع أنه يجد كل ما فعل من حين يخط عليه القلم إلى أن يموت مكتوبا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ؛ وإذا وضع الكتاب خاف أهل الذنوب خوفا هائلا شديدا ؛ ولذا قال تعالى :[ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ] مشفقين : أي : خائفين خوفا عظيما يتخلله الإشفاق على أنفسهم من الهلاك[ ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ]( الكهف : آية ٤٩ ) وفي ذلك الوقت يعطى كل إنسان كتابه على رؤوس الأشهاد ويؤمر بأن يقرأه هو بنفسه، كما قال جل وعلا :[ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا( ١٣ ) اقرأ كتابك كفى بنفسيك اليوم عليك حسيبا( ١٤ ) ]( الإسراء : الآيتان ١٤، ١٣ ) فإذا عرف الإنسان أن جميع ما يقول في دار الدنيا سيلقى على رؤوس الأشهاد ويقص عليه أمام الخلائق في الآخرة : فعلت كذا وكذا، في يوم كذا، في تاريخ كذا، وأنه يلقاه في كتاب منشور على رؤوس الأشهاد، إذا كان المسلم يعرف هذا وعنده مسكة من عقل يجب عليه في الدار الدنيا- وقت إمكان الفرصة- أن لا يخزي نفسه ويخجلها على رؤوس الأشهاد خزيا وخجلا يجره إلى النار، فيحاسب وينظر إلى الملكين المصاحبين له، وأن لا يقول ولا يفعل إلا شيئا إذا رآه مسجلا عليه يوم القيامة، أو قيل له :" أنت فعلت " كان يبيض وجهه، ولا يسوده، ولا يخزيه، ولا يفضحه. وعلى كل واحد منا أن يعلم الحقائق القرآنية، وأسرار الوحي، ولا يبقى كالبهيمة التي تأكل النهار وتنام الليل، هذا لا ينبغي ؛ لأن الرحيل قريب والقضاء قريب، والمحاسبة حق، وكل ما فعله الإنسان مسجل عليه، وسيقرأ على رؤوس الأشهاد، وسيجده في كتاب منشور، فعلينا معاشر الإخوان أن لا نفضح أنفسنا يوم القيامة، وأن لا نفوت الفرصة وقت الإمكان ونضيعها في قال وقيل حتى يضيع العمر المحدد، ويجر الإنسان إلى القبر وهو صفر الكفين، فقير ليس عنده حسنات، لا ينشر عنه يوم القيامة إلا ما يفضحه ويخزيه، وفضيحة الآخرة وخزيها ليست كفضيحة الدنيا، فالذي يفضح في الدنيا يكون خسيس العرض وهو في أشد الفضيحة وهو يفرح ويمرح، ويأكل ويشرب، صحيح الجسم، لا أثر عليه. أما فضيحة الآخرة فإنها يتبعها العذاب المخلد، والجر بالنواصي والأقدام إلى النار. فعلينا كلا أن ننتهز الفرصة قبل أن يضيع الوقت، وأن لا نفرط لئلا نندم حيث لا ينفع الندم، لأن الله ( جل وعلا ) مسجل علينا كل ما فعلنا ؛ ولذا قال :[ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين( ٧ ) ].
وقد أجمع جميع العلماء أن مثل هذه الآيات لم ينزل الله من( السماء إلى الأرض ) واعظا أكبر، ولا زاجرا أعظم من هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، الذي لا تكاد تقلب ورقة واحدة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم ؛ لأن جبار السماوات والأرض، خالق الخلق يقول لكم : يا عبادي الأذلاء الضعفاء المساكين : اعلموا أني مطلع على كل ما تفعلون من الخسائس والخبائث، أسجله عليكم بعلم حقيقي أزلي إلهي، ولست غائبا عن شيء تفعلونه، بل كل ما تفعلون بمرأى مني ومسمع، فاحذروا أن تنتهكوا حرماتي، وأن تستوجبوا سخطي وعذابي يوم القيامة.
وضرب بعض العلماء لهذا مثلا- ولله المثل الأعلى-وقد كررناه في هذه الدروس تكرارا كثيرا تكرار القرآن له في جميع الآيات، لو فرضنا أن هذا البراح من الأرض فيه ملك- ولله المثل الأعلى- إذا انتهكت حرماته يغضب غضبا شديدا، وينكل بمن أغضبه أشد النكال وأعظمه، وحول هذا الملك نساؤه وبناته وجواريه، أترون أن الحاضرين يخطر في بال أحد منهم أن يشير إلى جارية من جواريه، أو إحدى بناته ؟ لا، بل كل منهم خاشع الطرف، خاضع الأعضاء، غايته السلامة، لا يتحرك، ولا يفعل أي شيء يغضب ذلك الملك وهو ينظر إليه. هذا- ولله المثل الأعلى- في ملك الآدميين، يموت وتأكله التراب والدود، فكيف ولله المثل الأعلى-بخالق السماوات والأرض، هو أشد بطشا وأعظم نكالا، وهو مطلع عليكم، يقول لكم : اعلموا أن كل ما تفعلون أني مطلع عليه. فلو علم أهل بلدة من البلاد أن أمير ذلك البلد يطلع على كل ما يفعلونه من الخبائث والخسائس في الليل، وانه يراه، لباتوا متأدبين لا يفعلون إلا شيئا حسنا خوفا من عقابه، مع ضعف عقاب ملوك الدنيا( ولله المثل الأعلى- فالله يقول :[ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين( ٧ ) ] [ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ]( يونس : آية ٦١ ) ولأجل أن هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، هو أعظم أسباب طاعة الله ؛ لأن من راقب الله، ولاحظ أن الله مطلع عليه- إن كان عاقلا- استحيا من الله، ولم يرتكب ما يسخط الله، ولا يفضحه هو ويخزيه يوم القيامة. أراد جبريل عليه السلام أن يعلم الصحابة ( رضي الله عنهم ) هذا الزاجر الكبر، والواعظ العظم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حديث جبريل المشهورة، وقال له :" يا محمد-صلوات الله عليه- أخبرني عن الإحسان " والإحسان : هو أن تأتي بالعمل حسنا على الوجه اللائق عند الله ( جل وعلا )، والإحسان هو الذي خلقنا من أجله ؛ لأن الله يقول في أول سورة هود :[ خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ] ثم بين الحكمة في خلقه الخلائق فقال :[ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ]( هود : آية ٧ ) ولم يقل : أكثر عملا. وقال في أول سورة الكهف :[ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ] ثم بين الحكمة في خلق الأرض وزينتها قال :[ لنبلوهم أيهم أحسن عملا ]( الكهف : آية ٧ ) وقال في أول سورة الملك :[ الذي خلق الموت والحياة ] ثم بين الحكمة فقال :[ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ]( الملك : آية ٢ ) فهذه الآيات دلت على انه خلق الخلق ليمتحنهم، وهذا لا ينافي :[ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( ٥٦ ) ]( الذاريات : آية ٥٦ ) أي : إلا لآمرهم بعبادتي على ألسنة رسلي، وأمتحنهم فيظهر المحسن منهم وغير المحسن. فلما كان الإحسان هو الذي خلقنا من اجله، أراد جبريل أن ينبه الصحابة على الطريق إليه فقال : يا محمد أخبرني عن الإحسان " صلى الله عليه وسلم. فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طريق الإحسان محصورة في هذا الزاجر الأكبر، والواعظ العظيم، وهو أن يعلم العبد الضعيف الذليل المسكين أن جبار السماوات والأرض مطلع عليه، حاضر لا يغيب عن شيء من فعله، يعلم كل ما يفعل ؛ ولذا قال " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". فجميع الخلائق الله ( جل وعلا ) مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، لا يغيب عنه شيء من أعمالهم ؛ ولذا قال :[ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين( ٧ ) ]( الأعراف : آية ٧ ).
وآية الأعراف هذه وغيرها من الآيات تدل على بطلان مذهب المعتزلة النافين للصفات، فيقولون : إن الله عالم لا بعلم قام بذاته، قادر لا بقدرة قامت بذاته... إلى آخرها. ويقولون : إن العلم لو كان ثابتا لكان موجودا أزليا قديما، والقديم لا يتعدد. وهذا من سخافة عقولهم، والله أثبت لنفسه أنه عالم بعلم فقال :[ فلنقصن عليهم بعلم ] وأثبت لنفسه صفة العلم ونظيرها قوله :[ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ] ( النساء : آية ١٦٦ ) وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم له صفة العلم والقدرة في دعاء الاستخارة المشهور المأثور :" اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك " فأثبت له صفة العلم وصفة القدرة. فهذه النصوص القرآنية النبوية من الآيات والأحاديث تدل على بطلان سخافة المعتزلة في نفيهم لصفات المعاني وإثباتهم أحكامها ؛ ولذا قال جل وعلا :[ فلنقصن عليهم بعلم ].
[ وما كنا غائبين ]( الأعراف : آية٧ ) صيغة الجمع في قوله :[ وما كنا ] للتعظيم، وقد جاء عن ابن عباس( رضي الله عنه ) أن السماوات السبع، والأرضين السبع ومن فيهما في يد الله ( جل وعلا ) أصغر من حبة خردل في يد أحدنا. وله المثل الأعلى فهو العلي العظم، الكبير الأكبر، الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه شيء، فعلينا جميعا أن نعلم أن كل ما نفعل أن ربنا مطلع عليه، ومدخره لنا فمجازينا عليه، وليعلم كل واحد منا أن حركاته في دار الدنيا هي بيته الذي يبنيه، والذي يصير مصيره الأبدي إليه، فإن كانت حركاته طيبة كلها طاعة لله فإنه يبني بها غرفة من غرف الجنة، ينال فيها الحور العين، والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، والنظر إلى وجه الله الكريم، وإن كانت حركاته في دار الدنيا حركات سيئة مخالفة ( في الأصل :" مخالفة لغير ما أنزل الله " وهو سبق لسان ) لما أنزل الله فإن تلك الحركات إنما يبني بها منزله ومصيره الأخير، وهو سجن من سجون جهنم ؛ لأنه لا مسكن في الآخرة إلا غرف الجنة أو سجون جهنم، وقد يدخل الواحد من أهل جهنم في سجنه ومقره كما يدخل الوتد في الحائط لشدة ضيق مكانه عليه، كما قال جل وعلا :[ وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا( ١٣ ) ]( الفرقان : آية
بين الله ( جل وعلا ) في أول هذه السورة الكريمة- سورة الأعراف- أنه كتاب أنزله، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذر بهذا الكتاب المنزل إليه، وأن لا يكون في صدره حرج، ثم أمر عامة الناس باتباع ما أنزل، ونهاهم عن اتباع غيره، ثم بين لهم أنه أهلك كثيرا من القرى لما أعرضوا عن اتباع ما أنزل واتبعوا غيره. بين في هذه الآية الكريمة أن هذا الكتاب الذي أنزل إليكم والسنة المفسرة المبينة له، التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمركم الله بالعمل بكل ما أنزل في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بين لكم أن المفرط والممتثل منكم ليس واحد منهما يترك فوضى سدى، بل لا بد أن يحصى على كل إنسان ما عمل من يوم تكليفه إلى يوم يموت، وأن جميع ما قدم من خير أو شر يوزن يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فتوزن حسناته وسيئاته بميزان عدل، لا ينقص شعيرة قال :[ والوزن ] أي : وزن أعمال الإنسان مما قدم في دار الدنيا من حسنات وسيئات.
[ يومئذ ] تقرر في علم العربية أن تنوين ( يومئذ ) أنه تنوين عوض عن جملة، والجملة التي تعوض عنها نون التنوين تكون مذكورة سابقا في أول الكلام والمعنى، فنون التنوين في [ يومئذ ] عوض عن قوله :[ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين( ٦ ) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين( ٧ ) ] ( الأعراف : الآيتان ٧، ٦ ) أي : ووزن الأعمال يومئذ نسأل الذين أرسل إليهم ونسأل المرسلين. وزن أعمال الخلائق يومئذ، أي : يوم ذلك السؤال المتقدم وهو يوم القيامة.
[ الحق ] قوله :[ والوزن ] مبتدأ بلا خلاف. واختلف المعربون من علماء العربية في خبره، وقال بعضهم : خبره[ يومئذ ]، والمعنى : والوزن الحق كائن يومئذ، يوم سؤال الرسل والمرسلين. وعليه فالخبر هو الظرف الذي هو( يومئذ ) يقدر له الكون والاستقرار، والوزن كائن يومئذ، أي : يوم ذلك السؤال المذكور.
وقال بعض العلماء : خبر المبتدأ هو( الحق ) أي : والوزن في ذلك اليوم الحق. ف( الوزن ) مبتدأ و ( الحق ) خبره.
وعلى القول الأول فهو يدل على أن الذين أجازوه من علماء العربية- وهم جماعة كثيرة من علماء العربية والمفسرين- يدل على أنهم يرون أن المبتدأ إذا كان منعوتا لا تمتنع الحيلولة بينه وبين نعته بالخبر. هكذا ظاهر صنيعهم وإعرابهم، أن ( يومئذ ) خبر، و( الحق ) نعت للوزن.
وأظهر الإعرابين : أن ( الحق ) هي خبر( الوزن )، و( يومئذ ) ظرف أي : والوزن في ذلك اليوم الحق العدل.
وأصل الحق : الثابت الذي لا يضمحل. والمراد بالحق فيه أنه عدل ثابت لا جور فيه ولا حيف، فلا يزاد في سيئات مسيء ولا ينقص من حسنات محسن، فهو وزن في غاية الحق، وفي كمال العدالة والإنصاف، لا يظلم صاحبه شيئا، ولكن قد يزاد المحسن حسنات إلى حسناته :[ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ]( النساء : آية ٤٠ ) وفي القراءة الأخرى :[ وإن تك حسنة يضاعفها ].
وهذا الوزن فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر. يعني : يا عبادي ما دمتم في دار الدنيا فانتهزوا الفرصة، ولا يضع عليكم الوقت، واعلموا أن كل ما تقدمون وما تقولون وما تفعلون من خير سيوزن بميزان عدل حق قسط على رؤوس الأشهاد، لا يخيس شعيرة، فمن ثقلت موازينه بالحسنات فهو المفلح، ومن خفت موازينه بكثرة سيئاته وقلة حسناته فلا يلومن إلا نفسه.
واعلموا أن جماهير العلماء من عامة المسلمين، سلفهم وخلفهم، على أن هذا الوزن وزن حقيقي، وانه يقع بميزان له لسان وكفتان، وتوضع السيئات في كفة، والحسنات في كفة، فيثقل الله ما شاء منهما، فإن كانت حسناته أكثر ثقلت كفة الحسنات وكثرة سيئاته. وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف. والحق إنما كان ثقيلا في الميزان يوم القيامة لأنه ثقيل على النفوس في دار الدنيا، والباطل إنما كان خفيفا في الميزان يوم القيامة لخفته على النفوس في دار الدنيا. وهذا الوزن التحقيق الذي عليه السلف أنه وزن حقيقي، بميزان حقيقي، له لسان وكفتان، ينظر إليه جميع الخلائق، توضع أعمال العبد في كفة، الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فإن ثقلت كفة الحسنات صار إلى الجنة، وإن خفت كفة الحسنات صار إلى النار.
واختلفوا في كيفية هذا الوزن على ثلاثة أقوال لا يكذب بعضها بعضا، وقال بعض العلماء : لا مانع من أن يقع جميعها فذهب أكثر المفسرين إلى أن الموزون هو صحائف العمال ؛ لأن كل إنسان له كتاب وصحائف فيها عمله، كما قدمنا في قوله :[ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ويخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا( ١٣ ) اقرأ كتابك ]( الإسراء : الآيتان ١٤، ١٣ ) فهذا الكتاب متضمن جميع صحف عمله، وأن هذه الصحف يوضع ما كتب منها فيه الحسنات في كفة، وما كتب فيه السيئات في كفة. وعلى هذا القول الأكثر. واستدلوا له بحديث البطاقة المشهور، الذي أخرجه الترمذي وغيره وصححه بعض أهل العلم، أن رجلا يوم القيامة يجاء له بتسع وتسعين سجلا كلها مملوءة من السيئات، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول له ربه : هل تنكر شيئا من هذا ؟ ؟ فيقول : لا. هل ظلمتك رسلي ؟ ! ! لا.. ثم يؤتى ببطاقة- والبطاقة : القطعة الصغيرة قدر الأنملة- مكتوب فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم- رسول الله، فيقول : وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات العظيمة الكثيرة ؟ ! فيقال له : إنك لا تظلم. فتوضع تلك البطاقة الصغيرة في كفة الميزان وتلك السجلات العظيمة الهائلة في الكفة الأخرى، فطاشت تلك السجلات، وثقلت تلك البطاقة ؛ لأن اسم الله ( جل وعلا ) لا يعادله شيء. استدلوا بهذا الحديث على أن الموزون هو صحائف الأعمال لذكر وزن السجلات ووزن البطاقة التي فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وذهبت جماعة من العلماء، ورواه غير واحد عن ابن عباس : أن الموزون نفس الأعمال، وأن الله يحول الأعمال الحسنة إلى أجرام حسنة مضيئة نيرة، والله ( جل وعلا ) قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يقلب ما ليس بجسم أن يقلبه جسما، وقد جاء ما يدل على هذا كما جاء في حديث الترغيب في الزهراوين البقرة وآل عمران أنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو فرقان من طير صواف، وكما جاء في الحديث أن عمل الإنسان يتجسم له في صورة إنسان طيب الريح، وكذلك العمل الخبيث، وكما جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يتمثل لصاحبه في قبره، وأمثال هذا كثيرة جدا. وعلى كل حال فالله قادر على أن يقلب الأعمال أجساما، فهو قادر على كل ما يشاء، فيجعل الأعمال الصالحة في صورة نيرة حسنة. والأعمال القبيحة في صور مظلمة قبيحة، فتوضع هذه في كفة الحسنات وهذه في كفة السيئات، فتثقل موازين بعض، وتطيش موازين آخرين والعياذ بالله.
وقال بعض أهل العلم : إن ما يوزن : أصحاب الأعمال. واستدلوا بالحديث المعروف المشهور : أن الرجل السمين- الأكول الشروب- يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. وفي مناقب عبد الله بن مسعود : أنهم لما رأوا دقة ساقيه قال لهم صلى الله عليه وسلم :" إنها في الميزان أثقل من جبل أحد ".
وما قاله ابن فورك وغيره من المتكلمين : إن وزن حقيقة الأعمال مستحيل ؛ لأن ما ليس بجسم يستحيل أن يكون جسما ! ! لا يعول عليه لأن الله قادر على كل ما يشاء، لا يتعاصى على قدرته شيء، فهو قادر على ما يشاء، وقادر على ما لم يشأ أيضا، فهو قادر على هداية أبي بكر وأبي لهب، وقد شاء أحد المقدورين وهو هداية أبي بكر، ولم يشأ مقدوره الثاني وهو هداية أبي لهب.
فهذه ثلاثة أقوال :
أحدهما : أن الموزون صحف الأعمال.
والثاني : أن الموزون الأعمال، تقلب أجسما في صورة موزونة.
الثالث : أن الموزون أصحاب الأعمال. وكان ابن جرير الطبري- كبير المفسرين- يرى أن كفة الحسنات يكون فيها نفس الشخص وحسناته، وإن الكفة الأخرى فيها سيئاته، هكذا يقوله العلماء. وعلى كل حال فالتحقيق أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان وكفتين.
وظاهر القرآن تعدد هذه الموازين ؛ لأنه قال في سورة الأنبياء :[ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ] وفي القراءة الأخرى :[ وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ]( الأنبياء : آية ٤٧ ) وقال في القارعة :[ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث( ٤ ) وتكون الجبال كالعهن المنفوش( ٥ ) فأما من ثقلت موازينه( ٦ ) فهو في عيشة راضية( ٧ ) وأما من خفت موازينه( ٨ ) فأمه هاويه( ٩ ) وما أدراك ما هيه( ١٠ ) نار حامية( ١١ ) ]( القارعة : الآيات ٤-١١ ) وقال في سورة ( قد أفلح المؤمنون ) :[ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسائلون( ١٠١ ) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون( ١٠٢ ) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون( ١٠٣ ) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون( ١٠٤ ) ]( المؤمنون : الآيات ١٠١-١٠٤ ) فهذه الآيات تعبر بالجمع في الميزان، وظاهرها التعدد.
وذهبت جماعة من العلماء إلى أن الميزان واحد، وأنه أطلق عليه اسم الجمع لكثرة ما يوزن فيه من أنواع الأعمال، وكثرة الأشخاص العاملين الموزونة أعمالهم
وعلى كل حال فكل ما قدمت أيها الإنسان في دار الدنيا سيوضع لك في كفة، وما قدمت من شر سيوضع في كفة، فإن رجح خيرك على شرك ذهبت إلى الجنة فرحا مسرورا، وإن رجح شرك على خيرك فلا تلومن إلا نفسك. وربنا( جل وعلا ) يذكرنا بهذا ويعظنا به في دار الدنيا، في وقت إمكان الفرصة ؛ لئلا تضيع علينا الفرصة، فعلينا أن نكثر من الحسنات، ونجانب السيئات ؛ ليكون ما في موازيننا يثقل عند الله فنفرح به ونسر وندخل الجنة، فالسفيه كل السفيه، والمتأخر حق المتأخر هو الذي لا يراعي أوامر الله، وإنما يجمع في الدنيا من السيئات ليثقل بها كفة السيئات وتطيش كفة الحسنات، ؟ فيفضح على رؤوس الأشهاد ويجر إلى النار. هذا الخبيث المغفل وإن سموه في الظروف الراهنة متقدما متنورا مسايرا ركب الحضارة ! ! فهو الحمار المغفل الذي لا يفهم ما أمامه، وهو أشد الناس تأخرا، وسيعلم أنه الأرذل المتأخر إذ مات وفارقت روحه جسده، ووجد ما عند الله من العدل والإنصاف، ووجده لم يقدم إلا السيئات والخبائث والتمرد على من خلقه، فإذا وزنت سيئاته، وكانت كثيرة جدا، ولم توجد له حسنات فعند ذلك سيعلم هل هو كان متقدما أم لا ؟ ! وهل كان عاقلا فطنا أم لا ؟ ! ! بل يعلم أنه هو المتأخر الفدم البليد الحمار الذي لا يفهم عن الله شيئا ! ! وعما قليل ستنكشف الحقائق[ لكل أجل كتاب ]( الرعد : آية ٣٨ ) فسيقع ما سيقع، فعلى المؤمن أن يكون عاقلا فطنا، وأن لا يهلك نفسه بيده، وأن يلاحظ أنه يوم القيامة ستوزن سيئاته وحسناته على رؤوس الأشهاد، فإن كانت سيئاته أرجح جر مخزيا مفضوحا إلى النار، وإن كانت حسناته أرجح جاء مسرورا كريما إلى الجنة. فعلى الإنسان أن لا يهلك نفسه في دار الدنيا باتباع الشهوات واتباع المضللين، وأن لا تطبه الشعارات الزائفة ويخسأ عند الوزن. فعلى كل أحد أن يعد لهذا الوزن عدته يوم القيامة.
وقد قدمنا أن جمهور عل
[ فأولئك الذين خسروا أنفسهم ] فأولئك الذين خفت موازينهم لقلة حسناتهم وكثرة سيئاتهم [ الذين خسروا أنفسهم ]، والله ( جل وعلا ) قال هنا إنهم خسروا أنفسهم ؛ لأنهم قد رزئوا في أنفسهم، وأكبر الأدلة على خسرانهم أنفسهم : أنهم إن صاروا إلى النار أكبر منية يتمنونها، وأكبر غرض يطلبونه : هو أن يموتوا وتعدم أنفسهم فتصير لا شيء ؛ ولذلك يقولون :[ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون )( ٧٧ ) ]( الزخرف : آية ٧٧ ) ولكن أمنيتهم العظمى التي هي الموت لا يحصلونها أبدا ؛ لأن الله يقول :[ لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ]( فاطر : آية ٣٦ ) ويقول ( جل وعلا ) في الكافر :[ ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ]( إبراهيم : آية ١٧ )[ فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحي ]( طه : آية ٧٤ ) فمن كانت أمنيته الموت، وغايته الكبرى أن يستريح من نفسه من وجودها إلى العدم فمعلوم انه خسرها ؛ ولذا قال :[ خسروا أنفسهم ]( الأعراف : آية ٩ ) وأصل الخسران في لغة العرب : هو نقصان مال التاجر، سواء كان نقصا في ربح المال، أو نقصا في رأس المال. والخسران في اصطلاح الشرع : هو غبن الإنسان في حظوظه من ربه )جل وعلا( ؛ لأن الإنسان إذا غبن في حظوظه من ربه ( جل وعلا ) فقد خسر الخسران المبين، وقد أقسم الله )جل وعلا( - وهو أصدق من يقول- في سورة كريمة من كتابه- وكل سورة منه كريمة- ألا وهي ( سورة العصر ) أن الخسران لا ينجو منه إنسان كائنا ما كان إلا بأعمال معينة مبينة، وذلك في قوله :[ والعصر( ١ ) إن الإنسان لفي خسر( ٢ ) ] [ إن الإنسان ] معناه : إن كل إنسان كائنا من كان [ لفي خسر ] [ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( ٣ ) ]( العصر : الآيات١-٣ ) فهذا الخسران لا ينجي منه شيء أبدا كما أقسم عليه رب السموات والأرض إلا الإيمان، والأعمال الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. هذا الذي ينجي من الخسران.
وقد بينا في هذه الدروس مرارا أن العلماء ضربوا لهذا الخسران مثلين :
أحد ذينك المثلين : أن كل إنسان كائنا من كان أعطاه الله في دار الدنيا رأس مال، ورأس مال الإنسان هو جواهر نفسية، وأعلاق عظيمة لا يماثلها شيء من الدنيا، فهي أعظم من كل اليواقيت، وأعظم من كل الجواهر، ولا يماثلها شيء في الدنيا أبدا. هذه الجواهر التي هي رأس ماله هي ساعات عمره، أيام عمره وشهوره ولياليه وأعوامه، فهذا رأس مال الإنسان. فاعلم أيها الإنسان أن عمرك هو رأس مالك :
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز | عليه من الإنفاق في غير واجب |
وإذا كان صاحب رأس هذا المال مغفلا أحمق، قليل الفهم عن الله، ليس عارفا بحقائق الأمور، لا يدري الفرق بين التقدم والتأخر، ولا بين التنور وغير التنور، فإنك تراه يتلاعب بهذه الجواهر النفيسة التي أعطاه الله، وهي أيام عمره، ولا يقدرها، ويمضيها في قيل وقال، وربما أمضى أكثرها في مساخط الله، وما يستوجب غضب الله، من الوقوع في محارمه، والتمرد على نظامه ؟، واتباع كل ناعق من شياطين الإنس والجن الذين يدعون إلى النار، وإلى سخط الله( جل وعلا )، حتى ينقضي فيضيع عليه رأس المال، فيجر إلى القبر وهو مفلس فقير. والآخرة يا إخوان دار لا تصلح للفقراء المفاليس ؛ لأنها ليس فيها سلف، ولا بيع، ولا إرفاق، وإنما فيها ما قدم الإنسان من عمل في دار الدنيا :
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها | إلا التي كان قبل الموت يبنيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه | وإن بناها بشر خاب بانيها |
المثل الثاني : هو ما جاء به حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحسنه بعض العلماء، ولا بأس به- إن شاء الله- أن كل إنسان كائنا من كان له منزل في الجنة ومنزل في النار، فالله يجعل منزلا في الجنة باسم كل إنسان، ومنزلا في النار باسم كل إنسان. فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار اطلع أهل الجنة على منازلهم في النار لو أنهم كفروا بالله وعصوه لتزداد غبطتهم وسرورهم بما هم فيه، وعند ذلك يقولون :[ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ]( الأعراف : آية ٤٣ ) ثم إنه يري أهل النار منازلهم في الجنة لو أنهم أطاعوا الله وآمنوا واتقوا لتزداد ندامتهم وحسرتهم، وعند ذلك يقول الواحد منهم :[ لو أن الله هداني لكنت من المتقين ]( الزمر : آية ٥٧ ) ثم إن الله يحكم بمنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، وبمنازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومن كانت صفقته بيع منزله في الجنة بمنزل غيره في النار فصفقته خاسرة، وهو من الخاسرين بلا شك. هكذا قال بعض العلماء وهذا معنى قوله :[ فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ]( الأعراف : آية ٩ )
( ما ) هنا مصدرية، والباء سببية. يعني خسروا أنفسهم بسبب كونهم ظالمين بآياتنا.
قال بعض العلماء : إنما عدى الظلم هنا بالباء لأنه مضمن معنى الكفر والجحود، والجحود يعدى بالباء كقوله :[ وجحدوا ] وقد جاء في القرآن تسمية الجحود في الآيات ( ظلما ) كما قال تعالى :[ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما ]( النمل : آية١٤ ).
وقوله :[ بآياتنا ] قد قدمنا في هذه الدروس أن الآيات جمع آية، وان أكثر علماء الصرف على أن وزنها ( فعلة )، وأن أصلها( أيية ) فاؤها همزة ؟، وعينها باء، ولامها ياء، بعدها هاء تأنيث لفظية. وقد اجتمع فيها موجبا إعلال ؛ لأن فيها حرفي لين كل منهما متحرك بحركة أصلية بعد فتح، فالياءان كل منهما تستوجب إعلالا، والمقرر في علوم العربية : انه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الحرف( الأخير هو الذي وقع فيها الإعلال. ولكنه وقع هنا في الحرف الأول على خلاف القاعدة الكثيرة المطردة، وهو جائز.
وقيل أصلها :( أياه ) ولكن الإعلال وقع هنا في الحرف الأول فصار ( آية )، ولها في اللغة معنيان :
المعنى الأول : بمعنى ( العلامة )، تقول العرب :" الآية بيني وبينك كذا " أي : العلامة بيني وبينك كذا. ومنه قوله تعالى :) ( في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل. وتم استدراك النقص من كلام الشيخ( رحمه الله ) في موضع سابق عند تفسير الآية ( ١١٧ ) من سورة الأنعام( بتصرف ) )
٣/ب /[ إن آية ملكه ] أي : علامة ملك طالوت عليكم[ أن يأتيكم التابوت ] الآية( البقرة : آية ٢٤٨ ) وهذا معروف في كلام العرب. وقد جاء في شعر نابغة ذبيان- وهو جاهلي عربي قح- تفسير الآية بالعلامة حيث قال :
توهمت آيات لها فعرفتها | لستة أعوام وذا العام سابع |
رماد ككحل العين لأيا أبينه | ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع |
المعنى الثاني : أن العرب تطلق الآية وتريد الجماعة، تقول : جاء القوم بآيتهم. أي : بجماعتهم، ومنه بهذا المعنى قول برج بن مسهر الطائي :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا | بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا |
أحدهما : الآية الكونية القدرية، وهي ما نصبه الله ( جل وعلا ) ليدل به خلقه على انه الواحد الأحد الأعظم الصمد المستحق لأن يعبد وحده كقوله :[ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون( ١٦٤ ) ]( البقرة : آية ١٦٣ ) أي : لعلامات واضحة جازمة قاطعة بان من خلقها هو رب هذا الكون، وهو المعبود وحده( جل وعلا ) سبحانه عما يشركون، وهذا كثير.
وتطلق الآية في القرآن إطلاقا آخر، ومعناه
لما أمر الله ( جل وعلا ) خلقه في أول هذه السورة الكريمة فقال لهم :[ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ]( الأعراف : آية ٣ ) ثم إنه وعظهم وأخبرهم أنه يسألهم، وانه يقص عليهم أعمالهم بعلم، وانه لم يكن غائبا عن شيء عملوه في دار الدنيا، وانه يزن أعمالهم بميزان فلا يخيس شعيرة، بين لهم انه أنعم عليهم في دار الدنيا من أنواع الإنعام إنعاما عظيما ينبغي لهم أن يشكروا له ذلك الإنعام، وأن لا يستعينوا بإنعامه على معصيته، فإن من أعظم أنواع اللؤم والخساسة أن ينعم علينا رب السماوات والأرض العظيم الأعظم بنعمه الكثيرة ثم نستعين بها على معصيته وما لا يرضيه ! ! هذا من أقبح القبيح، وأشنع الشنيع، الذي لا ينبغي لأحد أن يفعله.
وقد نبهنا في هذه الآيات على بعض الإنعام الذي أنعم علينا قال :[ ولقد مكناكم في الأرض ]( الأعراف : آية ١٠ ) والله لقد مكناكم في الأرض. أي : جعلناكم متمكنين فيها، متصرفين قادرين على استجلاب المعايش والرفاهية والراحة بما هيأنا لكم من الأسباب، جعلنا لكم الأرض ساكنة قابلة لأن تبنوا عليها، وتبنوا منها البيوت التي هي هنية لذيذة للمقام، ثم جعلناها قبلة لأنواع الازدراع لتزرعوا فيها ما تأكلون وما تلبسون، ثم خلقنا لكم الأنعام، وذللناها لكم، فمنها ركوبكم ومنها تأكلون، انبتنا لكم فيها الصوف، والأوبار، والأشعار لتلبسوا منها، وجعلنا لكم لحومها لتأكلوا منها، وأسمانها، وألبانها، وأزبادها، وجعلنا لكم الحديد لتستعينوا به على أمور دنياكم وفلاحتكم، إلى غير ذلك من سائر الأسباب والتمكين الذي مكنه في الدنيا.
وقال بعض العلماء :( مكناكم فيها ) أي : جعلنا لكم فيها أمكنة تسكنون بها في الدنيا ذاهبين وراجعين. والله جعل لنا الأرض تضمنا على ظهرها أحياء، وفي بطونها أمواتا كما يأتي في قوله :[ ألم نجعل الأرض كفاتا( ٢٥ ) أحياء وأمواتا( ٢٦ ) ]( المرسلات : الآيات ٢٦، ٢٥ )[ كتافا ] أي : محلا لكفتكم. أي : ضمكم. والكفت في لغة العرب : الضم. أي : تضمكم على ظهرها في دار الدنيا أحياء متنعمين بما فيها من المنافع والمعايش، وتضمكم في بطنها أمواتا إذا متم. ولذا قال هنا :[ ولقد مكناكم في الأرض ] والله ( جل وعلا ) مكن لعباده في الأرض. هيأ لهم الأرزاق، وانزل لهم المطر، وانبت لهم النبات، وخلق لهم الحيوانات وجميع المرافق التي تعينهم على دنياهم.
وقوله : وجعلنا لكم فيها معايش ]( الأعراف : آية ١٠ ) قرأه عامة القراء بالياء [ معايش ] بكسر الياء غير مهموز، وما رواه خارجة بن مصعب عن نافع من انه قرأها :[ معايش ] بالهمز لا أصل له، والرواية ضعيفة جدا، ومخالفة للقانون العربي. وكذلك ما روي عن ابن عامر من السبعة كله ضعيف لم يثبت، وهو مخالف للعربية. وقد زعم قوم أن همز [ معايش ] روي عن علي بن زيد والأعمش. والتحقيق أن القراءة التي عليها عامة المسلمين، منهم السبعة، والعشرة، وحفاظ من روى عنهم، وعامة القراء إلا من أشرنا إليه قرؤوا :[ معايش ] بالياء المكسورة من غير همز. والقاعدة المقررة في فن التصريف : أن المدة الثالثة إذا كانت زائدة وجب إبدالها همزة، ك( صحيفة ) فإن الياء زائدة ؛ لأن الصحيفة أصلها من ( صحف )بصاد، فحاء، ففاء. والياء زائدة. فهذه المدة الزائدة تقلب في جمع التكسير ( همزا ) ( في الأصل :" ياء " وهو سابق لسان )، فتقول في جمع ( الصحيفة ) : صحائف. وفي جمع( المدينة ) مدائن، وكذلك الواو والألف كلها إذا كانت زوائد أبدلت من مدتها في جمع التكسير المتناهي : همزا، فتقول في ( السحابة ) : سحائب. فتبدل الهمزة من الألف، وفي ( القلادة ) : قلائد، وفي ( العجوز )-بالواو-عجائز، فالهمزة مبدلة من الواو ؛ لأن المدة الثالثة زائدة. أما ( معيشة ) فالياء التي بعد العين فأصلها من الكلمة، أصلها : معيشة( مفعلة )-بكسر العين- وقيل معيشة ( مفعلة )-بفتح العين- والأول أظهر، نقلت حركة العين المعتلة للساكن الصحيح، وسكونه إليها، فصارت( معيشة ) فالياء أصلية. فيجب أن تجمع على معايش-بكسر الياء- وكذلك غيرها من الروايات يجب تصحيح الواو إذا كانت المدة أصلية، فتقول في ( المقام ) : مقاوم، وفي ( المعونة ) : معاون، وتقول في كل ما هو أصلي بالواو كمخافة، ومخاوف وملامة، وملاوم ؛ لأن المدة فيها أصلية، كمعيشة، ومعايش. ومن تصحيح ما أصله واو قول الشاعر :
وإني لقوام مقاوم لم يكن | جرير ولا مولى جرير يقومها |
وما هي غلا بنت خمس وأربع | مغاور همام على حي خثعم |
والحاصل أن المدة الأصلية تصحح في جمع التكسير، سواء كانت ياء، أو واوا، والمدة الزائدة تبدل همزة، سواء كانت ألفا، أو ياء، أو واوا. فالقراءة الصحيحة التي عليها العشرة وجمهور القراء الموافقة لقاعدة اللغة العربية :[ معايش ] بكسر الياء.
والمعايش : جمع معيشة، والمراد : ما يعيشون به في دار الدنيا، مما سبب لهم من أسباب المعيشة، مما جعل لهم من الثمار، والزروع، والدواب، وجعل لهم في الدواب من الألبان، والسمان، والأزباد، واللحوم إلى غير ذلك مما هيأه في دار الدنيا إكراما منه عليهم يعيشون به في دار الدنيا. وهذا معنى قوله :[ ولقد مكانكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ]( الأعراف : آية ١٠ )
ثم إن الله عابهم فقال :[ قليلا ما تشكرون ]( العراف : آية ١٠ ) ف [ قليلا ] نعت لمصدر محذوف، و( ما ) توكيد للقلة. والمعنى :[ تشكرون ] شكرا قليلا ما ؛ لأنه لا يخلو إنسان من شكر في الجملة.
وأصل الشكر في لغة العرب : أصل مادته تميل إلى معنى الظهور. والعرب تقول : ناقة شكور. إذا كان يظهر عليها السمن. والشكر يطلق في القرآن من الرب لعبده، ومن العبد لربه، فمن إطلاق شكر العبد لربه قوله :[ أن اشكر لي ولوالديك ]( لقمان : آية ١٩ ) ومن شكر الرب لعبده قوله[ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم( ١٥٨ ) ]( البقرة : آية ١٥٨ ) وقوله :[ إن ربنا لغفور شكور ]( فاطر : آية ٣٤ ) فمعنى شكر العبد لربه : هو معناه في الاصطلاح. وأصل الشكر في لغة العرب : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما.
والحمد في لغة العرب : هو الثناء بالثناء الجميل باللسان على المحمود بجميل صفاته، سواء كان من باب الإحسان أو من باب الاستحقاق.
والحمد لغة : يطلق على الشكر اصطلاحا، والشكر اصطلاحا يطلق على الحمد لغة. فبينهما تعاور وتعاقب.
والمراد بشكر العبد لربه : هو أن تظهر نعمة ربه عليه، فيظهر تلك النعمة، ويستعمل جميع ما أنعم الله عليه في طاعة من خلقه ( جل وعلا ). فهذه العيون التي تبصرون بها نعم عظيمة انعم الله عليكم بها، فشكر من خلقها عليها أن لا تنظروا بها إلا في شيء يرضي من خلقها، فلا تنظر أيها العبد بعينيك اللتين انعم الله بهما عليك في شيء حرمه الله عليك، فتكون مستعينا بنعمته على معصيته ! ! هذا فعل لا يليق، فعل خبيث، فعل يدل على لؤم صاحبه وحمقه وقلة عقله. وشكر هذه اليد التي أعطاك الله إياها، وفرق لك أصابعها، وأبعد إبهامها من سبابتها ليمكنك العقد والحل بها- فلو جعل الإبهام مقترنا بالسبابة لما حللت شيئا ولا عقدت شيئا-شكر هذه اليد ان لا تبطش بها في شيء إلا شيئا يرضي من خلقها ( جل وعلا )، فلا تكتب بها ما لا يرضي الله، ولا تضرب بها ضربا لا يرضي الله، ولا تفعل بها فعلا لا يرضي الله. وهذه القدم التي انعم الله عليك بها تمشي بها، شكرها أن لا تسعى بها لشيء إلا لشيء يرضي من خلقها، وهكذا. فالمال الذي أنعم الله عليك به شكره أن لا تستعين به إلا في شيء يرضي من أعطاك إياه. وكذلك الجاه، إذ أعطاك الله جاها، ومنزلة ومكانة يمكنك التصرف فيها وتسهيل الأمور فلا تستعن بتلك النعمة إلا على شيء يرضي من خلقها، لا لنفسك ولا لغيرك، فلا تشفع بجاهك في وصول إنسان إلى محرم، أو ظلم إنسان لإنسان، فكل ذلك من كفر النعمة وعدم شكرها.
فعلينا جميعا أن نشكر خالقنا، وأن نستعين بنعمه على ما يرضيه ؛ لأن العبد إذا عرف قدر ذله وضعفه ومهانته، وعرف قدر عظم ربه وجلالة شأنه، وعرف ما أنعم عليه ربه به من النعم من غير استحقاق عليه، ثم صرف تلك النعم أشد اللؤم وأعظم الوقاحة، ولا ينبغي أن يقدم عليه عاقل ! ! فعلينا جميعا أن نلاحظ نعم الله علينا، وأن لا نستعملها في شيء لا يرضيه ؛ لأن استعانتنا بنعمه على ما يسخطه أمر قبيح منا، ولؤم شنيع لا ينبغي لعاقل أن يقدم عليه.
أما شكر الرب لعبده فقد قال بعض العلماء : هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، كما بين أن العبد يعمل حسنة واحدة فيجعلها الله عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله.
ومادة الشكر تتعدى بنفسها إلى المفعول إذا كان المفعول هو النعمة، وتتعدى باللام في اللغة الفصحى إذا كان المفعول هو المنعم، فهنا فرق دقيق في العربية لا يلاحظه كثير من طلبة العلم، فالفعل الذي هو ( شكر ) إن كان مفعوله النعمة تعدى إلى النعمة بنفسه لا بحرف تعدي، كقوله :[ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ]( النمل : آية ١٩ ) ف[ نعمتك ]مفعول به ل [ أشكر ]. أما إذا كان الشكر للمنعم فاللغة الفصحى التي لم يأت في القرآن غيرها أنه لايتعدى الشكر إلى المنعم إلا باللام، فتقول : شكرا لك، وأنا أشكر لك، واحمد الله وأشكر له. ولا تقول : وأشكره ؛ لذا يقول الله :[ أن اشكر لي ولوالديك ]( لقمان : آية ١٤ )[ واشكروا لي ولا تكفرون ]( البقرة : آية ١٥٢ ) ولم يأت في القرآن تعدية الشكر إلى المنعم إلا بحرف الجر الذي هو اللام، فهذه هي اللغة الفصحى بلا نزاع بين من يحمل القلم العربي. أما لو قال " وأشكره " من غير لام فقد أفرط قوم وقالوا : هذا لحن لا يجوز في العربية. والتحقيق : أن تعدية الشكر إلى المنعم بدون لام أنها لغة مسموعة جائزة، إلا أنها ليست هي اللغة الفصحى المشهورة، ومن شواهد هذه اللغة قول أبي نخيلة :
شكرتك إن الشكر حبل من التقى | وما كل من أوليته نعمة يقضي |
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما | على عذبة الأنياب طيبة النشر |
فإنكما عن عجتما لي ساعة | شكرتكما حتى أغيب في قبري |
وقوله :[ قليلا ما تشكرون ]( الأعراف : آية ١٠ ) نعت لمصدر، أي تشكرون شكرا قليلا. و( ما ) تأكيد للقلة، ولفظة( ما ) تأتي لتأكيد في قلتها وحقارتها. قال بعض العلما
في هذه الآية الكريمة إشكال معروف ؛ لأن الله قال بصيغة الجمع :[ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ]وهذا يتبادر منه أن المخاطبين في قوله :[ خلقناكم ثم صورناكم ] ذرية آدم، إلا أنه رتب عليه قوله :[ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ] و( ثم ) تقتضي الترتيب والمهلة، فيكون الله بعد أن خلق ذرية آدم وصورها قال للملائكة : اسجدوا لآدم. وهذا خلاف الواقع ؛ لأنه أمرهم بالسجود له عندما نفخ فيه الروح قبل أن يولد له شيء، كما دل عليه قوله في سورة الحجر :[ إني خالق بشرا من صلصل من حمإ مسنون( ٢٨ ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين( ٢٩ ) ]( الحجر : الآيتان٢٩، ٢٨ ) وقوله في سورة ص :[ إني خالق بشرا من طين ( ٧١ ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين( ٧٢ ) ]( ص : الآيتان ٧٢، ٧١ ) فيخطر في ذهن طالب العلم إشكال، وهو الترتيب ب( ثم ) فيقول : كيف يقول :[ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ]( الأعراف : آية ١١ ) بعد تصوير ذرية آدم، وخلقها ؟ ! ! وهذا خلاف الواقع. فهذا إشكال معروف في الآية، مشهور عند علماء التفسير. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة :
أحدها : وهو الذي اختاره كبير المفسرين- محمد بن جرير الطبري وغيره- أن المراد بالجمع في [ خلقناكم ] و[ صورناكم ] آدم وحده، وإنما أطلق عليه صورة الجمع لأنه لما كان أبا البشر ووجوده أصل في وجوده كان خلقه وتصويره كأنه خلق وتصوير للجميع. ونحو هذا الأسلوب معروف في القرآن ؛ لأن الله يخاطب اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول :[ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ]( البقرة : آية ٥٧ ) والذين ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى أجداد أجداد أجدادهم، قبلهم بعشرات القرون، فدل على أن أصل الإنسان هو منه قد يخاطب الإنسان والمراد به ذلك الأصل. وهذا كثير في القرآن، كقوله :[ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على ] ( البقرة : آية ٦١ ) [ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك[ ( البقرة : آية ٥٥ ) المخاطب به الموجودون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والقائلون أجدادهم الموجودون قبلهم بقرون.
وعلى هذا فلا إشكال في قوله :[ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ]( الأعراف : آية ١١ ) لأن ( ثم ) على بابها من الترتيب والمهلة، غاية ما في الباب أنه أطلق الأصل وأراد شموله لفروعه، ونظائره في القرآن كثيرة كما مثلنا.
القول الثاني : هو ما قاله بعض العلماء : معنى[ ولقد خلقناكم ] أيها الخلق في أصلاب آبائكم، [ ثم صورناكم ] هذه الصور العظيمة في بطون أمهاتكم. وهذا من غرائب صنعه وعجائبه ؛ لأن تصويره لنا في بطون أمهاتنا فيه من غرائب صنعه ما يبهر العقول، والله في كتابه يعجب خلقه كيف ينصرفون عن تصويره لهم في الأرحام، أولا قال في ذلك :[ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم( ٦ ) ( آل عمران : آية ٦ ) ثم بين تصويره لنا في الأرحام بحالة تبهر العقول، ثم عجب خلقه كيف ينصرفون عن التدبر في هذا ! ! لأنكم كلكم أيها الحاضرون تعلمون أنه ليس واحد منكم يدخل بطن أمه في أول دخوله له فيه يد ولا رجل ولا عين ولا انف ولا فم، بل يدخلها نطفة من ماء مهين مستوية الأجزاء، ليست مفصلة ولا مخلقة، ثم إن رب العالمين بقدرته العظيمة ينقله من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، ينقله من النطفة إلى علقة- وهي الدم الجامد الذي إذا صب عليه الماء الحار لم يذب- ثم ينقل العلقة مضغة، ويصير المضغة عظاما، فيركب هذه العظام بعضها في بعض هذا التركيب الدقيق المحكم الهائل، لو نظرت تركيب النملة بالنملة، وفقرة الظهر بفقرة الظهر، والمفصل بالمفصل، وتركيب عظام الرأس بعضها إلى بعض، وخياطة بعضها مع بعض على ذلك الوجه العظيم الهائل، ونظرت في الإنسان- لأن الإنسان إذا نظر في موضع رأس إبرة من جسده وجد من عجائب صنع الله وغرائبه ما يبهر العقول- بعد أن دخل بطن أمه نطفة من مني فإذا هو مصور هذا التصوير العظيم، مخلوق منه هذا الهيكل العظيم، العظام شد بعضها ببعض على أحكم وجه وأتقنه وأبدعه، ومنه قوله :[ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا( ٢٨ ) ]( الإنسان : آية ٢٨ ) الأسر : أصله شد الشيء بالإسار. والإسار في لغة العرب : القد، وهو الجلد الذي لم يدبغ ؛ لأن الجلد الذي لم يدبغ إذا أخذت سيوره وشددت بها شيئا وهي مبلولة يبست فاستحكم الشد غاية الاستحكام[ وشددنا أسرهم ] المعنى : شددنا بعض عظامهم إلى بعض كما يشد الشيء إلى الشيء بالإسار، وهو الجلد الغير المدبوغ، ومنه قيل للأسير :( أسير ) لأنه يشد بالإسار غالبا. فلو كان الذي شد يدك بمعصمك، ومعصمك بمرفقك، ومرفقك بمنكبك، لو كان غير متقن لتحرك الإنسان فسقطت يده ! ! وقيل : مع الأسف كان شد يده بمعصمه غير وثيق فطاحت يده، أو سقط منكبه، أو سقطت فخذه، أو سقط رأسه عن رقبته، لا، كل هذا مشدود بشد محكم، والعظام بعضها ملصق ببعض على أبدع أسلوب وأحكمه. ثم إن الله فتح في الوجه هاتين العينيين، وصبغ بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، ثم جعل فيهما نور البصر، ثم فتح فمه، ثم جعل فيه اللسان لعبر به عن ضميره، ويرد به شاذ الطعام على الأضراس ليمكنها طحنه ليمكن المعدة هضمه، ثم إنه فتح هذا الأنف الأعلى وجعله مثقوبا من جهتين، وجعل فيه حاسة الشم، وزين الفم بالفك الأعلى، والفك الأسفل، ثم إنه جعل ماء العين ملحا لئلا تنتن شحمتها، وجعل له شحمة لئلا يجففها الهواء، ثم أنبع عينا عذبة في فم الإنسان وهي ريقه يبتلع بها الطعام ؛ لأن الله لو أخذ ريق الواحد منكم لا يمكن أن يبتلع شيئا ولو زبدا ذائبا، فجعل له الريق ليبل به الطعام فيسهل بلعه، وإذا أكل كثيرا يأتيه من مدد الريق ما يبل له الطعام الكثير العظيم الهائل، وإذا لم يحتج إليه في الأكل أمسك عنه جم الريق وكثرته لئلا يتعبه التفل، ثم إنه وضع العينين في الرأس ولم يضعهما في الرجلين، وركب فقار ظهر بعضها مع بعض، وجعل مخها داخلها، وجعل الدماغ في مخلاة حصينة، ثم جعل عليها العظام وحصنها بها، وخاط العظام خياطة هائلة محكمة، ثم خلق الكبد ووضعها في موضعها اللائق بها، ووكلها بوظيفتها البدنية، وفعل كذلك بالكليتين والطحال والمرارة، ثم ثقب الأمعاء ليخرج منها الثفل، ثم ثقب الدبر ليخرج منه الغائط، ثم ثقب محل البول، ثم ثقب العروق والشرايين ليدور الدم، ولو فكرنا وشرحنا عضوا واحدا من أعضاء الإنسان لرأينا من غرائب صنع الله وعجائبه ما يبهر العقول ويعتقد به الإنسان أن خالقه أنه ذو القدرة العظيم، الذي لا يعبد إلا هو وحده، ولا يطاع إلا هو وحده ؛ ولذا من لطفه بالإنسان : كل شيء يحتاج إلى قطعة كشعره وأظافره نزع منه روح الحياة ؛ ليسهل عليه قص الأظافر وحلق الشعر، وتقصيره، إذ لو جعل في الأظافر الحياة كما جعلها في سائر البدن، وجعلها في الشعر لا يمكن قص الظفر إلا بعملية، ولا حلق شعر إلا بعملية ! ! ثم إن القفا- الذي لم يجعل عنده عينين- جعله عظما قويا لو ضربه شيء عليه لم يضره. والأشياء الضعيفة كالكبد والطحال التي إذا مسه شيء عليها أثر عليه- وهي جهة البطن- جعل عليها الحارسين وهما : العينان يحرسانها من أن يضرها شيء. وهذه قطرة من بحر من غرائب صنع الله( جل وعلا ) فعل هذا من العمليات بكل واحد منا، وأنا أؤكد لكم أنه لم يحتج ان يأخذ لأمه غرفة في صحية، وأن يبنجها وينومها ويشق طبقة بطنها العليا، ثم طبقة بطنها السفلى، ثم ينزع المشيمة التي على الولد، ثم يسلط الأشعة الكهربائية لينظر ماذا يفعل ؟ ! فأطباء جميع الدنيا لو اجتمعوا عن بكرة أبيهم من مشارق الأرض ومغاربها وأرادوا أن يعملوا عملية في جنين في رحم امرأة فيستحيل أن يقدروا على أن يعملوا شيئا حتى يشقوا طبقات بطنها الثلاث، ثم يسلطوا الأشعة الكهربائية وينزعوا المشيمة عن الولد، ثم يعملون العملية، فقد يموت وهو الأغلب، وقد لا يموت. فخالق السماوات والأرض يفعل في العبد مئات العمليات، وهو لم يشق بطن أمه، ولم يحتج إلى أشعة كهربائية، بل العلم والبصر والقدرة نافذ تمام النفوذ، يفعل كيف يشاء [ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ]( آل عمران : آية ٦ ) وإنما قصصنا عليكم هذا النموذج من قدرة الله، وصنعه فيكم، وعدم شقه لبطون أمهاتكم ؛ لأن الله أمركم أن تنتبهوا إليه، وأن لا تصرفوا عنه. وذلك في السورة الكريمة، سورة الزمر- وكل سورة من القرآن كريمة- أعني قوله في الزمر :[ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ] ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة ؛ لأن المشيمة تكون منطوية على الولد لا يراه إلا من قشعها عنه[ ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو ] ثم قال وهو محل الشاهد :[ فأنى تصرفون ]( الزمر : آية ٦ ) يا ناس ! ! فأنى تصرفون ؟ ! أين تروح عقولكم عن قدرة خالق السماوات والأرض الجبار الأعظم ولا تنظرون فعله فيكم وانتم في بطون أمهاتكم [ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ]( آل عمران : آية ٦ ) [ يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم( ٦ ) الذي خلقك فسواك فعدلك( ٧ ) في أي صورة ما شاء ركبك( ٨ ) ]( الانفطار الآيات : ٦-٨ ) وهذا التصوير فيه من غرائب صنع الله وعجائبه ما يبهر العقول ؛ لأنكم كلكم أيها الحاضرون طبعتم على طابع واحد، وصببتم صبة واحدة، فالأنف من جميعكم في محل الأنف، والعينان في محل العين، والفم في محل الفم، والأذن في محل الأذن، ولم يشتبه منكم اثنان حتى لا يعرف أحدهما من الآخر، كل من رآكم يعرف أن هذه صورة فلان، وهذه صورة فلان، ولو جاء من الخلق أعداد ملايين الحصى لم يضق علم خالق السماوات والأرض حتى يعلم لكل واحد منهم صورة فيطبعه عليها لا تشابه صورة الآخر، ولم تتشابه أصواتكم ولا آثاركم في الأرض، ولا بصماتكم في الورق، كل واحد طبع على طابع مستقل، لم يشاركه فيه غيره، ولم يشابهه غيره، وهذا يدل على كمال العلم والقدرة الباهرة العظيمة التي يجب على الإنسان أن يعلم عظمة المتصف بها ويطيعه ولا يتمرد عليه. وهذا معنى :[ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ]( الأعراف : آية ١١ ).
وعلى هذا القول- أن المراد بخلق بني آدم في الأصلاب، وتصويرهم في أرحام الأمهات- يكون قوله :[ ثم قلنا للملائكة ] تكون ( ثم ) هنا للترتيب الإخباري، أي : ثم أخبرناكم بعد ذلك أنا قلنا للملائكة :[ اسجدوا لآدم ]. ولفظة ( ثم ) قد تأتي في القرآن للترتيب في الذكر لا ترتيب الحقيقة الواقعة في زمنها، وهذا الأسلوب وإن كان غير ظاهر فهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى في الأنعام- يعني شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو آخر الأنبياء :[ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم بع لعلكم تتقون( ١٥٣ ) ] ثم قال :[ ثم أتينا موسى الكتاب ]( الأنعام : الآيتان١٥٤، ١٥٣ ) وإتيان موسى الكتاب قبل نزول هذا على النبي صلى الله عليه وسلم بقرون، فدل على ان ( ثم ) هنالك ليست للترتيب الزماني وإنما هي للترتيب الذكري، ونظير ذلك في القرآن قوله في سورة البلد :[ فلا اقتحم العقبة( ١١ ) وما أدراك ما العقبة( ١٢ ) فك رقبة( ١٣ ) أو إطعام في يوم ذي
[ أنا خير منه ]( خير ) تستعمل استعمالين ) :
تستعمل اسما للخير هو ضد الشر، وكثيرا ما تستعمل في المال، كقوله :[ إن ترك خيرا ]( البقرة : آية ١٨٠ ) أي : مالا.
وتستعمل صيغة تفضيل، وهو المراد هنا. فقوله :[ أنا خير منه ] أصله : أنا أخير منه. أي : أكثر خيرا منه لفضل عنصري على عنصره. ولفظة ( خير ) و( شر ) جعلتهما العرب صيغتي تفضيل، وحذفت همزتهما لكثرة الاستعمال، كما قال ابن مالك في الكافية :
وغالبا أغناهم ( خير ) و( شر ) | عن قولهم ( أخير منه ) و( أشر ) |
وقياس لإبليس هذا باطل من جهات عديدة :
الأول منها : انه مخالف لنص رب العالمين ؛ لأن الله يقول :[ اسجدوا لآدم ]( الأعراف : آية ١١ ) وكل قياس خالف أمر الله الصريح فهو قياس باطل باطل باطل، وقد تقرر في علم الأصول : أن كل قياس خالف نصا من كتاب أو سنة فهو باطل، ويقدح فيه بالقادح المسمى ( فساد الاعتبار ) ومخالفة القياس للنص تسمى( فساد الاعتبار ) وتدل على بطلان القياس. فهذا وجه من أوجه بطلانه ؛ لأنه مخالف للنص الصريح، ولا إلحاق ولا قياس مع وجود النصوص الصريحة.
الثاني : أن إبليس كاذب في أن النار خير من الطين، بل الطين خير من النار ؛ لأن طبيعة الطين : الرزانة، والتؤدة، والإصلاح، والجمع، وتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتودعه النواة فيعطيكها نخلة. وإذا نظرت إلى البساتين المغروسة في طين طيب ووجدت ما فيها من أنواع الثمار الجنية، والروائح، والأزهار، والثمار عرفت قيمة الطين، أما النار فطبيعتها الطيش، والخفة، والتفريق، والإفساد، فكلما وضعت شيئا فيها فرقته وفسدته، وطبيعتها الطيش والخفة، يطير من هنا فيحرق ما هنالك، ثم يطير الشرر من هناك فيحرق ما وراءه، والذي طبيعته الطيش، والخفة، والإفساد، والتفريق لا يكون خيرا من الذي طبيعته التؤدة، والرزانة، والجمع، والإصلاح، تودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتودعه النواة فيعطيكها نخلة ! ! فالطين خير من النار بأضعاف ؛ ولذا غلب على إبليس عنصره وهو الطيش والخفة، فطاش وتمرد على ربه، وخسر الخسران الأبدي، وغلب على آدم عنصره الطيني فلما وقع في الزلة رجع إلى السكينة، والتؤدة، والتواضع، والاستغفار لربه حتى غفر له.
الثالث : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن النار خير من الطين فشرف الأصل لا يدل على شرف الفرع، فكم من أصل شريف وفرعه وضيع، وكم من أصل وضيع وفرعه رفيع.
لئن فخرت بآباء لهم شرف | قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا |
واعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس، ويذمون الرأي، ويقولون : إن من قاس فقد اتبع إبليس ؛ لأنه أول من رد النصوص بالقياس. وعن ابن سيرين رحمه الله : ما عبدت الشمس إلا بالقياس. ويكثر في كلام السلف ذم الرأي والقياس. ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس : الظاهرية، وبالأخص أبو محمد بن حزم- عفا الله عنا وعنه- فإنه حمل على أئمة الهدى- رحمهم الله- وشنع عليهم تشنيعا عظيما، وسخر منهم سخرية لا تليق به ولا بهم، وجزم بأن كل من اجتهد بشيء لم يكن منصوصا في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه ضال، وانه مشرع ! ! وحمل على الأئمة وسخر من قياساتهم، وجاء بقياسات كثيرة للأئمة وسفهها وسخر من أهلها، فتارة يسخر من أبي حنيفة –رحمه الله- وتارة من مالك، وتارة من احمد، وتارة من الشافعي، لم يسلم منه احد منهم في قياساتهم ! ! ومن عرف الحق عرف أن الأئمة- رحمهم الله- أنهم أولى بالصواب من ابن حزم، وان ما شنع عليهم فهم أولى بالصواب منه، وانه هو حمل عليهم وهم أولى بالخير منه، وأعلم بالدين منه، وأعمق فهما بنصوص الكتاب والسنة منه. وهذا باب كثير، فابن حزم يقول : لا يجوز اجتهاد كائنا ما كان، ولا يجوز أن يتكلم في حكم إلا تبعا لنص من كتب أو سنة، أما من جاء بشيء لم يكن منصوصا في الكتاب ولا السنة فهو مشرع ضال، ويزعم أن ما ألحقه الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال، ويستدل بعشرات الآيات، إن لم تكن مئات الآيات فلا أقل من عشرات الآيات. يقول : الله قال :[ اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ]( الأعراف : آية ٣ ) والمقاييس لم تنزل علينا من ربنا ! ! ويقول :[ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ]( سبأ : آية ٥٠ ) فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس. ويقول :[ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ]( المائدة : آية ٤٩ ) والمقاييس لم تكن مما انزل الله. ويقول :[ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ][ فأولئك هم الظالمون ] [ فأولئك هم الفاسقون ]( المائدة الآيات ٤٧، ٤٥، ٤٤ ) والقياس لم يكن مما أنزل الله، ويأتي بنحوها الآيات من هذا بشيء كثير جدا، ويقول : عن القياس لا يفيد إلا الظن، والله يقول :[ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ]( يونس : آية ٣٦ ) وفي الحديث :" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". ويقول : إن كل ما لم يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه ( لأنه عفو )( في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفتين( ) زيادة يتم بها المعنى ).
ومن ذلك : أن الله حرم أشياء، واحل أشياء، وسكت عن أشياء لا نسيانا رحمة بكم فلا تسألوا عنها، وفي الحديث :" ما سكت الله عنه فهو عفو ".
ويقول : إن ما لم يأت في كتاب ولا سنة فالبحث عنه حرام، وهو معفو لا مؤاخذة به. وهو غالط من جهات كثيرة، منها : أن ما سكت عنه الوحي منه ما يمكن أن يكون عفوا كما قال، فنحن مثلا أوجب علينا صوم شهر واحد من السنة وهو رمضان، وسكت الوحي عن إيجاب شهر آخر، فلم يجب علينا إلا هذا ؛ لأن ما سكت عنه فهو عفو. وأوجبت علينا الصلوات وغيرها لم يكن علينا، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ضمام بن ثعلبة قال :" لا " لما قال له الأعرابي ضمام : هل علي غيرها ؟ قال :" لا، إلا أن تطوع ". أما إنها توجد أشياء لا يمكن أن تكون عفوا ولا بد من النظر فيها والاجتهاد. ومن نظر إلى جمود ابن حزم علم انه على غير هدى، وان الهدى مع الأئمة رحمهم الله.
والذي يجب اعتقاده في الأئمة-رحمهم الله- كالإمام مالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد، والشافعي-رحمة الله على الجميع- أن ما اجتهدوا فيه أكثره أصابوا فيه، فلهم أجر اجتهادهم وأجر إصابتهم، وانه لا يخلو احد من خطأ، فلا بد أن يكون بعضهم أخطأ فيما اجتهد فيه، فما أخطئوا فيه فهم مأجورون لاجتهادهم، معذورون في خطئهم- رحمهم الله- والصحابة كانوا يجتهدون كما كان يجتهد الأئمة-رحمهم الله- وسنلم بأطراف من هذا ؛ لأن هذا باب واسع لو تتبعناه لمكثنا فيه زمنا طويلا ! ولكن إلمامات بقدر الكفاية :
أولا : ليعلم السامعون أن ما كل ما سكت عنه الوحي يمكن أن يكون عفوا، بل الوحي يسكت عن أشياء لا بد ألبتة من حلها. ومن أمثلة ذلك : مسألة العول، فكما قال الفرضيون : إن أول عول نزل في أيام عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها، فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال الزوج : يا أمير المؤمنين : هذه تركة زوجتي، ولم تترك ولدا، والله يقول في محكم كتابه :[ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ]( النساء : آية ١٢ ) فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد، فلي نصف ميراثها بهذه الآية، ولا أتنازل عن نصف ميراثي بدانق. فقامت الأختان فقالتا : يا أمبير المؤمنين هذه تركة اختنا، ونحن اثنتان، والله يقول :[ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ]( النساء : آية ١٧٦ ) والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق. فقال عمر- رضي الله عنه- : ويلك يا عمر، والله إن أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وإن أعطيت الثلثين الأختين لم يبق للزوج نصف ! ! فنقول : يا ابن حزم كيف نسكت عن هذا ؟ وكيف يكون هذا عفو ؟ ! والوحي سكت عن هذا ولم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما ؟ ! فهذا لا يمكن أن يكون عفوا، ولا بد من حله ! ! فلا نقول لهم : تهارشوا على التركة تهارش الحمر، أو ننزعها من واحد إلى الآخر، فلا بد من إلحاق للمسكوت عنه بالمنطوق به، وحل معقول بالاجتهاد. فجمع عمر –رضي الله عنه- الصحابة وأسف كل الأسف انه لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العول بمثل هذا. وقال له العباس بن عبد المطلب-رضي الله عنه- يا أمير المؤمنين : أرأيت هذه المرأة لو كانت تطالب بسبعة دنانير دينا، وتركت ستة دنانير فقط، ماذا كنت فاعلا ؟ ! قال : أجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء، وأعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيبا من الستة. قال : كذلك فافعل، وأصل فريضتها من ستة ؛ لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين. وثلثا الأختين يخرجان من ثلاثة، ومخرج الثلث ومخرج النصف متباينان، فنضرب اثنين في ثلاثة بستة، ثم اجعل نصفة زائدة هي المسم
والمعروف في مختلقات العرب التي كانوا يفعلون : أن غير الحمس- والحمس : جميع قريش ؛ لأن من قريش أهل بطاح وأهل ظواهر، وجميعهم هم وحلفاؤهم يسمون :" الحمس " وأهل البطاح منهم : أولاد كعب فما دونه، وما فوقه كعب وهم بنو عامر بن لؤي، وبنو الحارث بن فهر، وبنو محارب بن فهر من قبائل قريش، هؤلاء كانوا ليسوا ببطاح مكة بل بالظواهر، فهؤلاء أهل الظواهر، وهؤلاء الأبطحيون في نفس بطحاء مكة، والجميع يسمون :" الحمس " هم قريش بجميعها أهل بطاحها وأهل ظواهرها كانت عادة العرب في الجاهلية أن الإنسان إذا جاء يريد الطواف ببيت الله الحرام إن كان له صديق من الحمس أعطاه ثوبا يطوف فيه، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية-قبل البعثة- كان له صديق من بني تميم هو عياض بن حمار الذي كان بعد ذلك صحابيا كريما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد عياض بن حمار أن يطوف أعاره ثوبه ليطوف فيه كما هو معروف في التاريخ. فإن أعاره أحد الحمس ثوبه طاف به، وإن لم يجد من يعيره من الحمس ثوبا فإن كان ثوبه جديدا- لم يلبسه قبل ذلك-طاف فيه، ولكنه عندما يطوف فيه يلقيه من حاله ويذهب عريانا ؛ لأنهم يقولون : لا يطوف بيت الله بثياب عصينا الله فيها. أو يتفاءلون أنهم يخرجون من الذنوب ويتعرون منها كما تعروا من الثياب. وهذه تشريعات الشيطان. والإنسان منهم إذا طاف في ثوبه لا بد أن يلقيه، وإن لم يلقه ضربوه حتى يلقيه ويسمى ذلك الثوب ( لقى ) وهو معروف في التاريخ ؛ لأن ( اللقى ) هذا الثوب الذي يلقيه من طاف فيه يبقى طريحا تدوسه أقدام الناس في المطاف. وبعضهم قالوا : يلقون ( اللقى ) في منى، ومنه الشاعر :
كفى حزنا كري عليه كأنه | لقى بين أيدي الطائفين حريم |
اليوم يبدو بعضه أو كله | فما بدا منه فلا أحله |
يقول- عن معنى الآية- :[ خذوا زينتكم ]( الأعراف : آية ٣١ ) يعني : خذوا زينة اللباس واستروا بها عوراتكم عند الطواف بالبيت والصلاة. والآية وإن كان سبب نزولها في طوافهم بالبيت عراة فلفظها عام لكل مسجد. والمقرر في الأصول : أن اللفظ إن كان عاما والسبب كان خاصا فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. هذا هو الحق الذي عليه جماهير العلماء، وعليه عامة الأصوليين إلا من شذ. والدلالة على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب تفهم من نصوص الوحي، ومن اللغة العربية. اما نصوص الوحي فقد دلت على ذلك احاديث صحيحة تدل على ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يدل عليه استقراء القرآن، وتدل عليه اللغة العربية أيضا. فمن الأحاديث الدالة
على ذلك : قصة الأنصاري المشهورة التي ذكرها الله في سورة هود، وسيأتي إيضاحها ؟، وضابطها : أن أنصاريا كان تمارا فجاءته امرأة تريد أن تبتاع منه تمرا فأعجب بجمالها فقال لها : إن في البيت تمرا أجود من هذا. فلما دخلت في البيت تظن انه يبيعها التمر الأجود، كان بينه وبينها ما لا ينبغي أن يكون بين رجل وغير زوجته، إلا أنه لم يقع بينهما ما يستوجب الحد، فكان شيء مثل التقبيل والضم ونحوه، ثم بعد ذلك ندم ذلك الأعرابي وسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيه آية مدنية في سورة مكية، وهي قوله تعالى في سورة هود :[ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات ] يعني كالصلوات الخمس التي يقيمها في الجماعات[ يذهبن السيئات ]( هود : آية ١١٤ ) أي : يغفر الله بهن تلك الذنوب، كتقبيل تلك الأجنبية، ثم إن ذلك الرجل لما نزلت فيه الآية وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم سأل ذلك الأنصاري وقال له : يا رسول الله ألي هذا خاصة ؟ وسؤال الأنصاري- هذا-مقتضاه : أيختص حكم هذه الآية بي لأني سبب نزولها، أم العبرة بعموم لفظ[ إن الحسنات يذهبن السيئات ] ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" بل لأمتي كلهم ". وسؤال الأنصاري هذا وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له ثابت في صحيح البخاري في تفسير سورة هود، وهو نص صريح في أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومن النصوص الدالة على ذلك : ما ثبت في الصحيح ثبوتا لا مطعن فيه، من ان النبي صلى الله عليه وسلم جاء عليا وفاطمة( رضي الله عنهما وأرضاهما ) وهما نائمان، وأيقظهما ليصليا من الليل، فقال له علي ( رضي الله عنه ) : إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا. فولى صلى الله عليه وسلم كالمغضب يضرب فخذه ويقول :[ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ] ( الكهف : آية ٥٤ ) مع أن آية :[ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ] نزلت على التحقيق في الكفار المشركين الذين يجادلون في القرآن، فيقول بعضهم : شعر. ويقول بعضهم : سحر. ويقول بعضهم : كهانة. إلى غير ذلك. ويدل لأنها في الكفار : أول الآية، وهو قوله :[ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان ] أي المكذب بالقرآن الذي لم يعتبر بأمثاله[ أكثر شيء جدلا ]( الكهف : آية ٥٤ ) وخصومة في التكذيب بالقرآن. فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أنها وإن نزلت في الكفار أن عموم لفظها شامل لقول علي( رضي الله عنه ) : إن أرواحنا بيد الله، إن شاء أن يبعثنا.
ومما يدل على هذا من اللغة العربية : أن الرجل مثلا لو كان له أربع زوجات فآذته واحدة منهن وشتمته وأطلقت لسانها فيه حتى أغضبته، وهي واحدة، والثلاث ساكتات لا يفعلن إلا ما يرضي زوجهن. فقال الزوج بسبب إغضاب التي أغضبته : انتن كلكن طوالق. فان الطلاق لا يختص بذات السبب التي أغضبته وآذته بل يطلق الجميع نظرا إلى عموم اللفظ، ويلغى اللفظ الذي حمل عليه، كما هو معلوم عند أهل اللسان العربي.
وقوله ( جل وعلا ) في هذه الآية :[ يا بني آدم ] ( الأعراف : آية ٣١ ) كأنه يذكرهم بقضية إبليس على النكاية فيكم بنزع ثيابكم عنكم كما فعل بأبويكم.
[ خذوا زينتكم عند كل مسجد ] الأصل : اؤخذوا بالهمزة ؛ لأنه مضارع ( أخذ ) بالهمزة، إلا أن ثلاثة أفعال مهموزة الفاء وهي :( أخذ )، و( أمر )، و( أكل ) يجوز حذف همزتها في الأمر كما بيناه مرارا.
[ خذوا زينتكم ] أي : لباسكم الذي تسترون به عوراتكم وتتجملون به.
[ عند كل مسجدي سواء كان المسجد الحرام للطواف أو غيره من المساجد للصلاة. وكون الزينة هنا لبس اللباس للطواف والصلاة يكاد يجمع عليه المفسرون. وقد دل عليه حديث ابن عباس المذكور الذي قدمنا أن له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخذ العلماء من ظاهر عموم الآية انه ينبغي للرجل إذا أراد أن يخرج إلى المسجد ليحضر جماعات المسلمين ويصلي أن يلبس من الثياب أحسنها. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الثناء على لون البياض في الحديث :" إن من خير ثيابكم البياض فالبسوا البياض وكفنوا فيه موتاكم، وإن من خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر " وهو حديث مشهور أخرجه بعض أصحاب السنن وغيرهم ؛ ولذا كانوا يتطيبون ويستاكون ويقولون : إن الطيب والسواك من كمال الزينة التي يتناولها ظاهر الآية الكريمة. مع القطع بأنها نازلة في عدم العري وستر العورات عند الطواف والصلوات.
وهي دليل واضح على أن الطواف لا يصح من العريان كما عليه جمهور العلماء، وأن الصلاة أيضا لا تصح من كشف العورة خلافا للإمام أبي حنيفة-رحمه الله- في الطواف. ويؤيد معنى ما دلت عليه الآية قوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسل عليا ينادي به :" وألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان ". وهذا معنى قوله :[ خذوا زينتكم عند كل مسجد ]( الأعراف : آية ٣١ ) أي : لا تأتوا الطواف مكشوفة عوراتكم، ولا تأتوا مساجد المسلمين مكشوفة عوراتكم كما كان يفعله المشركون في مسجد مكة ؛ لأنا ذكرنا عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير كما أخرجه مسلم في صحيحه أن هذه الآية نزلت في أن المشركين كانوا يطوفون عراة حتى إن المرأة لتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله | فما بدا منه فلا أحله |
وهذا يدل على أن قائلة البيت من اللاتي كن يطفن بالبيت وهن عريانات يتقربن بذلك إلى الله. مع انه ذكرت جماعة من المؤرخين للبيت المذكور قصة غير ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس، والظاهر أن ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أثبت، فقد ذكر غير واحد ممن تكلم على الصحابة في ترجمة ضباعة بنت عامر بن لقيط بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة- هي من بني قشير الذين منهم مسلم بن الحجاج القشيري- وكانت امرأة ذات جمال، وأنها تزوجها عبد الله بن جدعان التيمي، الجواد المشهور، وجاء بها إلى مكة، وكان من أعظم فتيان مكة في ذلك الزمن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، والد أبي جهل، فأعجبه جمال ضباعة بنت عامر، التي هي زوجة ابن جدعان، فصار يأتيها ويقول لها إن هذا الشيخ الكبير الذي ليس له جمال لا يناسب جمالك وكمالك فتطلقي منه لأتزوجك. يخببها عليه. فخببها عليه، فطلبت من ابن جدعان الطلاق، فلما طلبت منه الطلاق قال : نعم، بشرط أن تنحري كذا وكذا جزورا- مئة من الإبل أو أكثر- وتغزلي غزلا يمتد من هنا إلى جبل كذا، وان تطوفي ببيت الله وأنت عريانة. فقالت له : اصبر حتى أفكر في شأني، فجاءها هشام، وكان هشام من عظام فتيان مكة، وقد قال فيه الشاعر لما مات :
فأصبح بطن مكة مقشعرا | كان الأرض ليس بها هشام |
ومعنى الآية الكريمة : أن الكفار لما حرموا على أنفسهم لبس الثياب في الطواف، وطافوا بالبيت عراة، وحرموا على أنفسهم أيام الموسم أكل الودك، والسمن، وشرب اللبن، وأكل اللحوم، قال الله ( جل وعلا ) موبخا مقرعا للذين يتعدون عليه ويحرمون ما لم يحرم :[ قل ] يا نبي الله لهؤلاء الكفرة الجهلة الذين حرموا لبس الزينة عند الطواف، و وحرموا أكل المذكورات وشربها في الموسم حال التلبس بالإحرام، ( من ) هو الذي [ حرم زينة الله ] وهي اللباس الذي يستر العورة ؛ لأنه لا حالة أقبح من أن يكون الإنسان بادي الفرج، عاري العورة، فهذا في غاية القبح. أما إن أعطاه الله ثيابا فجمل بها ظاهره، وستر بها قبحه وعوره فهذه زينة الله التي أخرجها لخلقه. من هو الذي حرم زينة الله كلبس اللباس الذي يجمع بين ستر العورة والتجمل عند الطواف وفي غيره ؟ !.
[ من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ] أخرجها : أي أظهرها وأبرزها من العدم إلى الوجود بان خلقها ويسر أسباب تناولها حتى صارت في متناولهم، وحرم[ الطيبات من الرزق ]. الطيبات التي أحلها الله وطيبها، كالودك حالة الإحرام، واللبن واللحم ونحو ذلك. من هو الذي حرم عليكم هذه المحرمات والطيبات من الرزق ؟ والله ( جل وعلا ) يشدد النكير على من حرم ما لم يحرمه. والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله :[ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ]( الأنعام : آية ١٥٠ ) [ قل أرأيتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون( ٥٩ ) ]( يونس : آية ٥٩ ) [ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون( ١١٦ ) ]( النحل : آية ١١٦ ) والآيات بمثل هذا كثيرة جدا. فلما قال الله لنبيه : قل لهم يا نبي الله، لهؤلاء المحرمين ما أحل الله، من هو الذي حرم هذا ؟ وعلم انه لا جواب لهم، أمره بالجواب الصحيح، وهو قوله :[ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ] قل لهم يا نبي الله : هي ليست بحرام أبدا، وليست بمحرمات ألبتة. هي للذين آمنوا حلال مباحة.
وقوله :[ هي للذين آمنوا ]غير خالصة[ في الحياة الدنيا ]، أي : غير مختصين بها بل يشاركهم فيها الكفار، ونصيب الكفار فيها كثير، كما قال تعالى :[ ولولا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون( ٣٣ ) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون( ٣٤ ) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ] وفي القراءة الأخرى :[ لما متاع الحياة الدنيا ] الآية( الزخرف : الآيات ٣٣-٣٥ ). قال بعض العلماء : بينت هذه الآية أن سبب خلق الزينة والطيبات من الرزق أن الله خلقها في الدنيا لخصوص المؤمنين، إلا أنه رزق منها الكفار تبعا للمؤمنين ؛ لأن الدنيا متاع يأكل منه البر والفاجر، فتلك الزينة وطيبات الرزق في الدنيا يشترك فيها البر والفاجر، ويأكل منها المسلم والكافر، لكنها يوم القيامة تبقى خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها كافر أبدا ؛ ولذا قال :[ هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ] أي : ويشترك معهم فيها الكفار، في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها أحد ؛ لأن يوم القيامة لا يجد الزينة ولا الرزق الطيب إلا المؤمنون خاصة، أما الكفار فلا زينة لهم ولا رزق طيب.
وعلى قراءة الجمهور ف [ خالصة ] حال، وعلى قراءة نافع [ خالصة ] بالرفع فهي خبر بعد خبر [ وهي للذين آمنوا ]( الأعراف : آية ٣٢ ) الجار والمجرور في [ للذين آمنوا ]خبر، و[ خالصة ] خبر آخر. وعلى قراءة الجمهور ف[ خالصة ] حال، وعامله الكون والاستقرار الذي يتعلق بالجار والمجرور. [ هي للذين آمنوا ] كائنة مستقرة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم وحدهم يوم القيامة.
وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه الجمهور. ومعناه : أن الزينة والطيبات من الرزق في دار الدنيا يشترك فيها البر والفاجر والمؤمن والكافر، وأنها في الآخرة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها أحد، إذ لا يجد الزينة والرزق الطيب في القيامة إلا المؤمنون خاصة، ولذا لم يذكر خلوصها لهم في الدنيا لاشتراك الكفار معهم، وصرح بكونها خالصة لهم في خصوص الآخرة.
وهنالك تفسير غير ظاهر قال به جماعات من علماء التفسير : أن معنى كونها خالصة للمؤمنين أن الله ينعمهم بها في الدنيا، وينعمهم في الآخرة أيضا، ولم يحسبها عليهم، ولم ينقص أجورهم بتلك اللذات والطيبات من الرزق التي أكلوها في الدنيا. وهذا مستبعد، والقول الأول هو الذي عليه الجمهور وهو معنى الآية إن شاء الله. وهذا معنى قوله :[ هي ] أي : الطيبات من الرزق والزينة [ للذين آمنوا في الحياة الدنيا ] أي ويشاركهم فيها غيرهم من الكفار، لكنها يوم القيامة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها أحد. ويوضح هذا أن نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما قال له :[ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ] فلما قال الله له :[ إني جاعلك للناس إماما ] طلب الإمامة لذريته [ قال ومن ذريتي ] فبين له الله أن الظالمين من ذريته غير المستقيمين المطيعين لا يعهد الله لهم بالإمامة، لأنهم لا يستحقونها حيث قال مجيبا له :[ قال لا ينال عهدي الظالمين ]( البقرة : آية ١٢٣ ) فعرف إبراهيم أن ربه كأنه لامه في الجملة حيث طلب الإمامة لناس منهم من لا يصلح لها، كما قال الله لإبراهيم وإسحاق :[ ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ]( الصافات : آية ١١٣ ) ثم بعد ذلك لما أراد إبراهيم طلب الرزق خصه بالمؤمنين خوف أن يلام كالملامة الأولى وقال :[ اجعل هذا بلدا أمنا وارزق أهله من الثمرات ] ثم قيد وقال :[ قال ومن كفر ] فيأكل من الدنيا أيضا مع المؤمن[ فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير[ ( البقرة : آية ١٢٦ ) وهذا معنى قوله :[ خالصة يوم القيامة ]( الأعراف : آية ٣٢ ) يوم القيامة إنما سمي يوم القيامة لأنه يوم يقوم فيه جميع الخلائق بين ( يدي ) ( ما بين المعقوفتين ( ) زيادة يقتضيها السياق ) جبار السماوات والأرض للحساب، كما قال جل وعلا :[ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون( ٤ ) ليوم عظيم( ٥ ) يوم يقوم الناس لرب العالمين( ٦ ) ]( المطففين : الآيتان ٣-٦ ) فقوله :[ يقوم الناس لرب العالمين ] هو الذي سمي به يوم القيامة ؛ لأنه يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين.
ثم قال جل وعلا :[ كذلك نفصل الآيات ]( الأعراف : آية ٣٢ ) كهذا التفصيل الذي فصلنا لكم به الحلال والحرام، وبينا لكم به حرمة كشف العورات ولزوم سترها، واخذ الزينة، وانه لا يحرم احد ما أحله الله، كهذا البيان الواضح لهذه الأحكام نبين الآيات دائما في هذا القرآن[ لقوم يعلمون ] والبيان عام، ولكنه خص به القوم الذين يعلمون لأن أهل العلم الذين يعلمون هم الذين يفهمون عن الله هذا البيان، أما الجهلة فلا يفهمون شيئا، ومن لا ينتفع بالشيء فكأنه لم يتوجه إليه. ونظير هذا كثير في القرآن يخص الله به الحكم المنتفع به مع أن الحكم أصله عام، كقوله :[ إنما أنت منذر من يخشاها ] ( النازعات : آية ٤٥ ) مع أنه في الحقيقة منذر الأسود والأحمر[ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ]( يس : آية ١١ ) وهو منذر للأسود والأحمر[ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ]( ق : آية ٤٥ ) لأن الذي يخاف الوعيد هو المنتفع به مع أن التذكير بالقرآن عام. وهذا كثير في القرآن أن يخص الحكم بالمنتفع به دون غيره، وذلك هو معنى قوله :[ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ].
[ إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ] الفواحش جمع فاحشة، وهو جمع قياسي ؛ لأن ( الفاعلة ) مطلقا و( الفاعل ) إن كان اسما أو صفة لما لا يعقل كله ينقاس جمع تكسيره على ( فواعل ) والفاحشة : هي كل خصلة تناهت في القبح حتى صارت قبيحة بالغة نهاية القبح من الذنوب والمعاصي.
[ ما ظهر منها وما بطن ]( الأعراف : آية ٣٣ ) قد قدمنا أقوال العلماء على هذا في الأنعام في قوله :[ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ]( الأنعام : آية ١٢٠ ) وأنها كلها ترجع إلى شيء واحد، فقال بعضهم : الفواحش الظاهرة هي الزنى مع البغايا ذوات الرايات، والفواحش الباطنة هي الزنى مع الخليلات والصديقات التي يزنى بهن سرا في البيوت. وقال بعض العلماء : ما ظهر من الفواحش : كنكاح زوجات الآباء، كما تقدم في قوله :[ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا( ٢٢ ) ]( النساء : آية ٢٢ ) وأن ما بطن منها هو الزنى. والتحقيق : أن الآية الكريمة تشمل جميع المعاصي والذنوب، ولا تفعلوا شيئا منها ظاهرا علنا بين الناس، ولا شيئا باطنا في خفية لا يطلع عليه احد، وهو يشمل جميع التفسيرات الواردة عن الصحابة وغيرهم.
والفواحش ظاهرها وباطنها تشمل جميع الذنوب ؛ إلا أن الله عطف بعضها على بعض عطف خاص على عام. وقد تقرر في المعاني : أن عطف الخاص على العام، وعطف العام على الخاص، إن كان في كل منهما في الخاص أهمية لا تكون في غيره من أفراد العام انه سائغ، وانه من الإطناب المقبول لأجل الخصوصية التي في الخاص. فكان تميزه بخصوصيته جعله كأنه قسم آخر غير أقسام العام فحسن عطفه عليه. هنا عطف الخاص على العام لأن المعطوفات الآتية كلها داخلة في الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقول من قال : إن [ ما ظهر ] هو الزنى مع البغايا ذوات الريات، و[ ما بطن ] الزنى مع الخليلات الصديقات التي يزنى بهن سرا. أو أن [ ما ظهر منها ] هو نكاح زوجات الآباء، وأن [ ما بطن ] هو الزنى. إلى غير ذلك من الأقوال كله يشمله التفسير العام الذي هو الصواب، وان الله نهى عن ارتكاب جميع المحرمات سواء كان ذلك ظاهرا أمام الناس، أو خفية بحيث لا يطلع عليه الناس. وهذا معنى قوله :[ وما ظهر منها وما بطن ].
وعطف على ذلك [ والإثم والبغي ] قال بعض العلماء : الإثم : هو كل معصية تقتصر على نفس الإنسان، والبغي : هو كل معصية يظلم بها غيره.
وقوله :[ بغير حق ] لا يكون بغي بحق أبدا، فكل بغي بغير حق لا شك، كما قال تعالى :[ ويقتلون النبيين بغير حق ] ومعلوم أن النبيين لا يقتلون بحق أبدا، فهو كالتوكيد، كقوله :[ ولا طائر يطير بجناحيه ] ( الأنعام : آية ٣٧ )[ يكتبون الكتاب بأيديهم ] ( البقرة : آية ٧٩ ).
وقال بعض العلماء :[ بغير حق ]( الأعراف : آية ٣٣ ) كقوله :[ وجزاء سيئة سيئة مثلها ]( الشورى : آية ٤٠ ) لأن من بغي عليه ثم انتقم قد يسمى هذا بغيا، كقوله :[ وجزاء سيئة سيئة مثلها ] وكما سمى الانتقام اعتداء في قوله :[ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ]( البقرة : آية ١٩٤ ) سمى جزاء الاعتداء : اعتداء، وجزاء السيئة : سيئة وإن كان الانتقام ليس سيئة وليس اعتداء.
وقوله :[ و أن تشركوا بالله ] أي : وحرم عليكم [ أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ] على قراءة ابن كثير وأبي عمرو. [ ما لم ينزل به سلطانا ] على قراءة الجمهور. والسلطان : الحجة الواضحة. ومعلوم أن الإشراك بالله لا ينزل به سلطان البتة، كقوله :[ ومن يدع مع الله إلها أخر لا برهان له به ] ( المؤمنون : آية ١١٧ ) فمعلوم أن الإله الثاني لا يكون به برهان البتة، وقد تقرر في علم الأصول أن النص من الكتاب والسنة إذا جاء مبينا للحقيقة الواقعة لا يكون له مفهوم مخالفة. والواقع أنهم يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا، فجاءت الآية مبينة للحقيقة الواقعة ليكون النهي واقعا على بيان الحقيقة الواقعة. وكذلك قوله :[ لا برهان له به ].
[ وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون ] المصدران المنسبكان في قوله :[ وان تشركوا ] و[ أن تقولوا ] في محل نصب عطف على [ الفواحش ] من عطف الخاص على العام.
[ إنما حرم ربي الفواحش ] قوله :[ ما ظهر منها وما بطن ] بدل من الفواحش، أي : وحرم الإثم والبغي بغير الحق، وحرم الشرك بالله، وحرم القول على الله بلا علم.
وكان بعض العلماء يقول : هذا التكرار وعطف ما دخل فيما قبله عليه لحكمة، وهذه الحكمة بيانها وتفصيلها : أن مظالم الناس وتعدي بعضهم على بعض في دار الدنيا راجع إلى ستة أقسام، وهي أن يتعدى عليه في دينه، أو أن يتعدى على نسبه، أو أن يتعدى على عرضه أو أن يتعدى على نفسه، أو أن يتعدى على ماله، فهي ستة جواهر : الدين والنفس والنسب والعقل والمال والعرض. فهذه الجواهر الستة هي التي تدور حولها المظالم. قال من قال هذا : الآية جاءت ناهية عن التعدي في جميع هذه الجواهر الست ؛ لأن قوله :[ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ] هذا تعد على الأنساب ؛ لأن الزنى سواء كان ظاهرا أو باطنا تعد على انساب الناس وتقذير لفرش الناس ؛ لأنه إذا كثر الزنى لم يدر هذا من أبوه، ولم تدر أم هذا من أبوه، فضاعت الصبيان، ولم يعرف لهذا أب، فاختلطت الأنساب، وتقذرت الفرش، وضاعت أخلاق المجتمع. وان النهي عن الفاحشة هو ذب عن الأنساب. وهذا معنى قوله :[ ما ظهر منها وما بطن ]( الأعراف : آية ٣٣ ).
وان قوله :[ والبغي ] المراد به : العدوان والظلم، سواء كأن عدوت على نفسه فقتلته، أو عدوت على ماله فأخذته، أو عدوت على عرضه فتناولت منه وقذفته. قالوا : والمراد بالإثم هنا : الخمر ؛ لأنها هي التي تعدو على العقول. وقال الحسن : الإثم : الخمر. وكثير من علماء العربية يسمون الخمر إثما. ولهم في ذلك شواهد كثيرة، وأشعار معروفة، منها قول الشاعر :
شربت الإثم حتى ضل عقلي | كذاك الإثم تذهب بالعقول |
نشرب الإثم بالصواع جهارا | وترى المسك بيننا مستعارا |
نهانا رسول الله أن نقرب الخنا | وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا |
ورحت حزينا ذاهل العقل بعدهم | كأني شربت الإثم أو مسني خبل |
٥/ب [ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ]الآية ( البقرة : آية ٢٢٨ )/ ومن أجل محافظته على الأنساب منع سقي زرع الرجل بماء غيره ؛ ولذا منع تزويج الحامل، فالمرأة إذا مات عنها زوجها أو طلقها وهي حامل لا يجوز أن تتزوج زوجا آخر حتى تضع حملها ؛ لأنه إن تزوجها وجامعها سقى ذلك الحمل وهو زرع لغيره بمائه فمنع سقي الزرع بماء الغير محافظة على الأنساب فقال :[ وأولات الأحمال اجلهن أن يضعن حملهن ] ( الطلاق : آية ٤ ) وحافظ الشرع الكريم على الأعراض فنهى عن انتهاك الأعراض [ ولا يغتب بعضكم بعضا ]( الحجرات : آية ١٢ ) [ ولا تلمزوا أنفسكم ]( الحجرات : آية ١١ ) [ ولا يسخر قوم من قوم ]( الحجرات : آية ١١ ) ثم إنه أوجب حد القذف ثمانين جلدة زجرا ومحافظة على أعراض الناس، وهو قوله :[ والذين يرمون المحصنات ثم لو يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون( ٤ ) ] ( النور : آية ٤ ) ثم جاء بالمحافظة على العقول فحرم شرب المسكر[ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ]( المائدة : آية ٩٠ ) وقال صلى الله عليه وسلم :" كل مسكر حرام " " ما أسكر كثيره فقليله حرام " واوجب حد شارب الخمر محافظة على العقول وصيانة لها. وكذلك منع من انتهاك المال، واحترم الملكية الفردية حيث قال :[ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ]( النساء : آية ٢٩ ) وفي الحديث " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه ".
وقد بين القرآن في سورة النساء ما يدل على انه سيأتي قوم في آخر الزمان يتخذونه وسيلة إلى ظلم الناس في أموالهم من قولهم : هذا فقير، وهذا غني، فنأخذ من الغني لنرده على الفقير ! ! كما هو مشاهد في المذاهب الهدامة، قال تعالى :[ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى ]( النساء : آية ١٣٥ ) بأن تقولوا : هذا غني فنأخذه للفقير أو نكتم الشهادة عليه للفقير [ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ] ولذا جعل حد السرقة لمن أخذ المال في قوله :[ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والل
ويجب على كل إنسان أن يعلم أن كل إنسان من أفراد كل أمة ؛ وأن كل امة- الجميع محدود له أجل معين لا يتقدمه بلحظة ولا يتأخر عنه بلحظة، كما ذكره هنا في الأمم، وبينه أيضا في الأشخاص في آيات متعددة، كقوله :[ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ]( آل عمران : آية ١٤ ) أي : شيئا مكتوبا محددا بأجل معين ووقت محتوم لا يتقدم عنه ولا يتأخر، وإذا كان عمر الإنسان محددا عند الله بوقت معين لا يتقدم عنه ولا يتأخر، وهو لا يدري أذلك الوقت قريب أو بعيد أو متوسط، قد يمكن أن يكون موته قريبا وهو لاه يضحك، أكفانه تنسج- وهي حاضرة موجودة- وهو لاه يضحك ويلعب ويعصي الله ! !.
فعلى كل عاقل أن يبادر بغتة الموت، وان يخاف أن يكون الوقت المحدد لعمره قد انتهى أو قارب الانتهاء، فيحمله ذلك على أن يشتغل بما يرضي ربه لتكون خواتيم عمله طيبة، فعلى كل إنسان أن يعتبر أن له أجلا محددا ووقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، وإذا كان لا يدري هل ذلك الوقت قريب جدا فعليه أن يعمل بعمل من هو عالم انه يموت قريبا لئلا يعالجه الموت وهو مقيم على معاصي الله وما يسخط ربه، فيموت شر ميتة، فيجر إلى القبر مغضوبا عليه من ربه- والعياذ بالله- فعلى كل مسلم أن يلاحظ هذا، ويحسن عمله خوفا من أن يكون الأجل المحدد له أوشك على الانتهاء. وهذه موعظة يجب على كل مسلم أن يعتبر بها، والأمم منهم من يكون اجلها المضروب لها واحدا، كالأمة التي يأتيها الهلاك في وقت واحد، كقوم نوح الذين اجترفهم الطوفان في وقت واحد، وكقوم هود الذين أهلكتهم الريح العقيم في وقت واحد، وكقوم صالح الذين أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، إلى غير ذلك من قصص المبينة في القرآن. وقد يموت من الأمة أفراد، أفراد، وأفراد من غير استئصال في وقت واحد. والأمة المهلكة في وقت واحد، والأفراد التي تموت، كل منها بأجل محدد له، ووقت معلوم عند الله، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمن قتل فقد مات بأجله الذي قدره الله عليه، خلافا للمعتزلة القدرية الذين يزعمون أن أعمال العباد لا مشيئة فيها، فيقولون : عمره كان أكثر من هذا، ولكن القاتل نقص عمره فقتله قبل أجله. فهذا جهل بالله، وقدح في علم الله ؛ لأن الله عالم بكل ما كان وما سيكون، عالم بكل وقت يموت فيه الإنسان، فلا بد أن يموت في الوقت المعين الذي سبق علم الله انه يموت فيه، فمن مات فقد انقضى اجله المحدد لع عند الله، الذي كان الله يعلم سابقا انه عند انقضائه سيموت كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
والأمة أطلقت في القرآن العظيم أربعة إطلاقات، كلها عربية فصحى : وهي معنى آيات من كتاب الله.
أطلقت الأمة في القرآن على الطائفة المجتمعة في دين أو نحلة. وهذا أكثر إطلاقاتها، نحو :[ كل ما جاء أمة رسولها كذبوه ]( المؤمنون : آية ٤٤ ) [ كان الناس أمة واحدة ]( البقرة : آية ٢١٣ ) [ ولكل أمة أجل ]( الأعراف : آية ٣٤ ).
وأطلقت الأمة في آية من كتاب الله على الرجل المقتدى به، الذي هو إمام ؛ لأن إبراهيم قال الله له :[ إني جاعلك للناس إماما ]( البقرة : آية ١٢٤ ) ولذا سماه أمة في قوله :[ إن إبراهيم كان امة قانتا لله ].
وأطلقت الأمة في القرآن على البرهة من الزمن، والقطعة من الدهر. ومنه بهذا المعنى قوله في أول سورة هود :[ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى امة معدودة ]( هود : آية ٨ ) إلى مدة معينة من الدهر. وقوله في سورة يوسف :[ وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة ]( يوسف : آية ٤٥ ) أي : تذكر بعد برهة من الزمن.
وأطلقت الأمة في القرآن- وهو كثير في كلام العرب- على نفس الشريعة والملة. وإطلاق الأمة على الدين والطريقة الذي هو الشريعة والملة متعدد جدا في القرآن، ومنه قوله تعالى عن الكفار :[ إنا وجدنا آباءنا على أمة ]( الزخرف : آية ٢٣ ) أي : على ملة وشريعة ودين[ إن هذه أمتكم أمة واحدة ]( الأنبياء : آية ٩٢ ) أي : دينكم وشريعتكم وملتكم طريقة واحدة. وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان :
حلفت فلم اترك لنفسك ريبة *** وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع ؟
يقول : وهل يأثمن صاحب دين فيرتكب ما يخالف دينه وهو طائع ؟ يقول هذا وهو كافر.
وقوله :[ لكل أمة ] من الأمم[ أجل فإذا جاء أجلهم ] أي : جاء الوقت المعين المحدد لإهلاكهم هلكوا. كقوم نوح لما جاء الوقت المحدد لهم- المشار إليه بقوله :[ وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ]( هود : آية ٤٠ )- اهلكوا، وقوم هود لما جاء الوقت المحدد لإهلاكهم أرسل الله عليهم الريح العقيم [ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم( ٤٢ ) ]( الذاريات : ٤٢ ) [ فأهلكوا بريح صرصر عاتية ]( الحاقة : ٦ ) وكذلك قوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه، كل أمة من الأمم جاء الوقت المحدد لها وأراد الله إهلاكها أهلكها عند الوقت المعين ؛ لأن قريشا استعجلوا بالعذاب فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :[ ما يحبسه ]( هود : آية ٨ ) ما يحبس العذاب ؟ [ عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ]( ص : آية ١٦ ) وأصل ( القط ) في لغة العرب : هو الصك الذي يكتب به الملك الجوائز للزائرين، لأنه يكتب أوراقا كل واحدة فيها عطاء فلان، فتلك الورقة المكتوب فيها جائزة كل إنسان ممن زار الملك هي قطه، وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
ولا الملك النعمان يوم لقيته *** على ملكه يعطي القطوط ويأفق
ومعنى ( يأفق ) : يفضل بعضا على بعض في العطاء، فقوله :[ عجل لنا قطنا ]أي : نصيبنا من العذاب الذي تزعم. فاستعجلوا بالعذاب، والله يقول [ ويستعجلونك بالعذاب ]( الحج : آية ٤٧ ) وقد جاء استعجالهم به في آيات كثيرة، فبين لهم في هذه الآية من سورة الأعراف أن الله إن أراد إهلاك أمة أو عذابها فلذلك وقت معين محدد عنده لا يتقدمه ولا يتأخره [ ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم ] المعين لإهلاكهم والقضاء عليهم [ لا يستأخرون ]عن ذلك الأجل [ ساعة ] بل يهلكون عند وقت مجيء الأجل ولا يتقدمون عنه، ولا يمكن أن يهلكوا قبله ولا أن يتأخروا عنه ؛ لأنها مواقيت معينة لا يسبقها ما عين لها ولا يتأخر عنها. وقوله في هذه الآية الكريمة :[ فإذا جاء أجلهم ] قرأ هذا الحرف ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي :[ فإذا جاء أجلهم ]بتحقيق الهمزتين، وقرأه أبو عمرو، وقالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير :[ فإذا جاء أجلهم ] بإسقاط إحدى الهمزتين. والقراء مختلفون : هل الهمزة الساقطة هي الأولى او الثانية ؟ وقرأه ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير :[ فإذا جاآجلهم ]( الأعراف : آية ٣٤ ) بإبدال الهمزة الثانية مدا للأولى.
وقوله :[ لا يستاخرون ]قرأه عامة القراء :[ لا يستأخرون ] بتحقيق الهمزة، إلا أن ورشا قرأه عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو :[ لا يستاخرون ] بإبدال الهمزة ألفا، والكل قراءات صحيحة، ولغات عربية فصيحة.
ومعنى :[ لا يستأخرون ]عنه، أي : عن ذلك الأجل [ ولا يستقدمون ] أي : لا يتقدمون عنه.
وإنما ذكر الساعة مع أنهم لا يتقدمون عنه بلحظة ولا يتأخرون ؛ لأن عادة العرب أن يطلقوا الساعة في أقل الأوقات، مع أنهم لا يتأخرون لحظة ولا دقيقة [ ولا يستقدمون ]عن الوقت المضروب لذلك الإهلاك.
[ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ٣٥ ) ]( الأعراف : آية ٣٥ ) قرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو [ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم ]بضم السين والراء، وقرأه أبو عمرو :[ إما يأتينكم رسل منكم ] بسكون السين. وتخفيف ( الفعل ). بإسكان العين قراءة معروفة ولغة مشهورة، كما تقول العرب : كتب، كتب، ورسل ورسل.
لما اخرج الله آدم من الجنة بين لذريته أن الجنة بعد أن أخرج منها آدم وحواء لا يمكن أن يدخلها أحد إلا بعد تكاليف ومشاق، واخبرهم أنه سيرسل لهم الرسل بالأوامر والنواهي فمن أطاع أمره واجتنب نهيه واتبع رسله ادخله جنته ورده إلى الوطن الأول، ومن كفر وعصى وتمرد أدخله النار وأخلده فيها والعياذ بالله.
[ يا بني آدم يا أولاد آدم، والنون فيه محذوفة للإضافة، وأصل ( البنين ) من الملحق بالجموع المذكرة السالمة ؛ لأنه ليس من الوصف ولا من العلم، ولا ينقاس جمع المذكر السالم إلا في الأوصاف والأعلام، فهذا من الملحقات به. [ يا بني آدم ] معناه : يا أولاد آدم الذي استزله الشيطان بوساوسه وغروره من الجنة إلى دار الأكدار والبلايا. [ إما يأتينكم رسل منكم ] ( إن ) هنا هي ( إن ) الشرطية التي زيدت بعدها ( ما ) توكيد الشرط.
فقوله [ إما ] ( الأعراف : آية ٣٥ ) أصله : إن يأتكم رسل منكم. فزيدت ( ما ) لتوكيد الشرط، وزيادة ( ما ) بعد ( إن ) الشرطية لتوكيد الشرط أسلوب عربي معروف. وإن زيدت ( ما ) ( بعد )( في الأصل :" قبل " وهو سبق لسان ) ( إن ) الشرطية في الفعل المضارع، قال بعض علماء العربية : يجب حينئذ توكيده بنون التوكيد، وهو لغة القرآن، فما جاء في القرآن ( إما ) قبل فعل مضارع إلا وأكد ذلك المضارع بنون التوكيد في جميع القرآن من غير استثناء حرف واحد، كقوله :[ وإما ينزغنك[ ( فصلت : آية ٣٦ ) [ فإما يذهبن بك ]( الزخرف : آية ٤١ ) [ فإما تثقفنهم في الحرب ]( الأنفال : آية ٥٧ ) [ وإما نرينك بعض الذي نعدهم[ ( الرعد : آية ٤٠ ) وهكذا. ومن هنا زعمت جماعة من علماء العربية أن توكيد المضارع بنون التوكيد بعد ( إما ) أنه لازم ؛ لأنه جاء به القرآن في جميع الحروف القرآنية التي فيها ( إما ) قبل المضارع وممن قال بلزوم النون : الزجاج والمبرد
وخالف جماعة آخرون فقالوا : توكيد بالنون بعد ( إما ) حسن طيب، إلا أنه ليس بواجب ولا بلازم. وممن قال بأنه غير لازم : سيبويه والفارسي. واستدلوا على عدم لزومه بكثرة سقوط النون في أشعار العرب، وسقوط نون التوكيد من الفعل المضارع بعد ( إما ) لا تكاد تحصيه في أشعار العرب، وهو كثير جدا في كلامهم، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
فإما تريني ولي لمة *** فإن الحوادث أودى بها
فلم يات بالنون في قوله " تريني " وهو بعد ( إما ) ومنه قول لبيد بن ربيعة العامري :
فإما تريني يوم أصبحت سالما *** ولست بأحظى من كلاب وجعفر
ومنه قول الشنفرى :
فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا *** على رقة أحفى ولا أتنعل
ومنه أيضا قول الأفوه الأودي :
إما تري رأسي أزرى به *** ماس زمان ذي انتكاس مؤوس
ومنه قول الآخر وهو حماسي :
زعمت تماضر أنني إما أمت *** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
وقول الآخر :
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة *** فما التخلي عن الخلان من شيمي
وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب فاستدل سيبويه والفارسي ومن وافقهما بهذه الشواهد على أن ( توكيد المضارع بنون التوكيد بعد ( إما ) غير لازم.
كما دلت الآية على أن الرسل الذين يبعثون إلى الناس أنهم )( قع انقطاع في هذا الموضع، وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) / آدميون مثلهم ؛ لأنهم لو أرسل لهم ملك لما تمكنوا عن الأخذ منه ؛ لأن الملائكة لا يجانسون بني آدم ؛ وكذا
[ أولئك ] أشار لهم إشارة البعيد ؛ لأنهم بعداء بغضاء ينبغي أن يتباعد منهم، ومن الاقتداء بهم، ومن الاتصاف بصفاتهم.
وسماهم [ أصحاب النار ] لأن العرب كثيرا ما تطلق المصاحبة على الاجتماع الطويل. والمراد بالنار- والعياذ بالله- نار الآخرة، وهي أحر من نار الدنيا بسبعين ضعفا- نعوذ بالله- تنماع من حرها الجبال، وحرها لا يقادر قدره.
وأصل الألف التي بين النون والراء أصلها واو. أصل النار ( نور ) بدليل أن التضعيف الذي يرد العين إلى أصلها يبين ذلك، تقول :" تنورت " إذا نظرت النار من بعيد، فلو كانت يائية العين لقيل فيها :" تنيرت " فلما قالوا :" تنورت " علمنا أن أصل الألف التي في محل العين واو. ومنه تصغير العرب لها على ( نويرة ) فلو كانت يائية العين لقالوا :: " نييرة ) ومما يدل عليه قوله :
تنورتها من اذعات وأهلها | بيثرب أدنى دارها نظر عالي |
فتنورت نارها من بعيد | بخزازى، هيهات منك الصلاء |
[ هم فيها خالدون ] أصل الخلود في لغة العرب : المكث زمانا طويلا، ومنه قول لبيد :
........................... صما خوالد ما يبين كلامها
يعني : أثافي القدر، أنها مكثت في محله من الديار زمنا طويلا. والمراد بالخلود هنا على التحقيق : الخلود السرمدي الأبدي الذي لا انقضاء له أبدا. فأهل النار الكفار خالدون فيها أبدا.
وما روي عن بعض السلف من الصحابة فمن بعدهم أن النار تفنى، وتخفق أبوابها ليس فيها أحد، وأنها ينبت في محلها الجرجير فإن ذلك يجب حمله كما جزم به الشيخ البغوي- وهو صادق- على الطبقة التي كان فيه عصاة المسلمين، لأن عصاة المسلمين الذين ماتوا مرتكبي الكبائر يدخل بعضهم النار ويخرجون منها حتى لا يبقى فيها أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ولهم طبقة، لأن للنار سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فإذا خرج الموحدون منها فلا مانع من فناء الطبقة التي كانوا فيها، أما الكفار فقد جلت نصوص الوحي العظيمة على أنهم خالدون فيها أبدا خلودا سرمديا لا انقضاء له أبدا. وفي خلودهم الأبدي سؤالات معروفة :
أحدهما أن الله قيده بالمشيئة في سورة الأنعام، وفي سورة هود، حيث قال في سورة الأنعام :[ قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ]( الأنعام : آية ١٢٨ ) وقال في سورة هود :[ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ]( هود : الآيتان ١٠٧، ١٠٦ ).
السؤال الثاني : أن الظرف في سورة النبأ- الظرف المنكر- يدل على المفهوم، وهو قوله :[ لابثين فيها أحقابا( ٢٣ ) ]( النبأ : آية ٢٣ ) فالأحقاب : أزمنة منكرة يدل على أن لها انقضاء.
السؤال الآخر : سؤال فلسفي بارد، يستدل به الفجرة الملاحدة، يقولون : العقل لا يدرك أن يخلدوا فيها أبدا ؛ لأن الله أحكم الحاكمين، وهو ذو عدل وإنصاف بالغ، هو الحكم العدل ( جل وعلا )، وهم إنما ارتكبوا المعاصي في الدنيا في أيام محدودة قليلة، فكيف يكون زمن المعصية محدودا قليلا وزمن الجزاء لا انقطاع له أبدا ؟ ! قال الملحدون في هذا : لا مناسبة إذا بين العمل والجزاء، فالعمل في مدة وجيزة، والجزاء لا انقضاء له. فيقول الملحد : هذا لا يظهر فيه كمال الإنصاف ؛ لأنه ينبغي أن يكون الجزاء بحسب العمل، والعمل قليل في أيام معدودة فكيف يكون الجزاء لا نهاية له ؟ !
والجواب عن الآيات لو تتبعنا جميع الأجوبة فيه لطال جدا، ولكننا نلم بطرف منه باختصار، فنقول : إن الله ( جل وعلا ) ذكر خلود أهل الجنة وخلود أهل النار، واستثنى في كل واحد منهما بمشيئته، قال في خلود أهل النار :[ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ]( هود : آية ١٠٧ ) [ قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ]( الأنعام : آية ١٢٨ ) وقيد خلود أهل الجنة بالمشيئة أيضا قال :[ وأما الذين سعدوا ففي الجنة ]( هود : آية ١٠٨ ) وفي القراء الأخرى :[ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ] فالقيد بالمشيئة في خلود الطائفتين- خلود أهل الجنة، وخلود أهل النار، وهذه المشيئة- قد بينت الآيات في كل من الفريقين أن خلود كل واحد منهما لا انقطاع له أبدا، قال تعالى في خلود أهل الجنة :[ عطاء غير مجذوذ ] أي : لا انقطاع له أبدا [ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ] ( النحل : آية ٩٦ ) أي : لا انقطاع أبدا من نعيم الجنة.
( أما النار التي فيها الكفار فالتحقيق أنها باقية لا تفنى ؛ لأن الله صرح بذلك في آيات كثيرة، فصرح بأنها لا تفنى حيث قال :[ كلما خبت زدناهم سعيرا ] ومعلوم أن [ كلما ] تتكرر ) ( وقع مسح في التسجيل في هذا الموضع، وتم استدراك النقص من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية ( ١٢٨ ) من سورة الأنعام ( مع شيء من الاختصار ) بتكرر الفعل الذي قيد به، والله يقول :[ كلما خبث زدناهم سعيرا[ ( الإسراء : آية ٩٧ ) وهو صريح في أنه ليس للنار خبوة نهائية ليس بعدها زيادة سعير. فمن قال : إن لها خبوة نهائية، وفناء ليس بعدها سعير، نقول : يكذبك القرآن في نص قوله :[ كلما خبث زدناهم سعيرا ] ( الإسراء : آية ٩٧ ) فهو نص صريح في أنه لم تكن هناك خبوة إلا بعدها زيادة سعير إلى ما لا نهاية.
والآيات الدالة على الدوام الأبدي كثيرة[ إن عذابها كان غراما ] ( الفرقان : آية ٦٥ )[ لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون( ٧٥ ) ]( الزخرف : آية ٧٥ ) إلى آيات كثيرة.
أما آية النبأ، وهي قوله :[ لابثين فيها ؟ أحقابا( ٢٣ ) ]( النبأ : آية ٢٣ ) فقد بينتها غاية البيان آية سورة ص، وإيضاح ذلك أن المعنى :[ لابثين فيها ] أي : في النار[ أحقابا ] في حال كونهم في تلك الأحقاب [ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا( ٢٤ ) إلا حميما وغساقا( ٢٥ ) ]( النبأ : الآيتان٢٥، ٢٤ ) فإذا انقضت أحقاب الحميم والغساق عذبوا بأنواع أخر وأشكال لا نهاية لها.
والدليل على أن هذه الأحقاب مختصة بأحقاب الحميم والغساق، وأن لهم أشكالا من العذاب غير هذا صرح الله به في سورة ص، وخير ما يبين به القرآن بالقرآن، حيث قال تعالى :[ هذا وإن للطاغين لشر مئاب( ٥٥ ) جهنم يصلونها فبئس المهاد( ٥٦ ) هذا فليذوقوه حميم وغساق( ٥٧ ) وأخر من شكله أزواج ( ٥٨ ) ]( ص : الآيات ٥٥-٥٨ ) فبين أن هنالك أشكالا وأنواعا من العذاب غير أحقاب الحميم والغساق، فدل على عدم الانتهاء.
أما الشبهة الباردة الفلسفية التي يقولون فيها : إن العبد في دار الدنيا عمل المعاصي في مدة وجيزة، وهي مدة عمره القليلة، فكيف يكون عمل المعاصي في زمن قليل وجزاؤها دائم لا يزول ؟ !
فجواب هذه الشبهة الباردة الملحدة : أن الخبث والكفر الذي انطوت عليه قلوبهم وتمردوا بسببه على الله منطوية عليه قلوبهم أبدا، لا يزول منها أبدا، فكان العذاب أبديا سرمديا ؛ لأن سبب ارتكابه كامن في القلب، أبدي سرمدي، الآيات الدالة على هذا كثيرة، كقوله تعالى عنهم أنهم لما عاينوا النار، ورأوا عذاب الله، وعظمة النار، وهول ذلك الموقف، وتمنوا الرجوع إلى دار الدنيا مرة أخرى ليطيعوا الرسل، ويعودوا إلى رضا الله، وتمنوا ذلك فقالوا :[ يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ؟ ]( الأنعام : آية ٢٧ ) وفي القراءة الأخرى :[ ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ] بين الله أن ذلك الخبث الذي كان في قلوبهم في دار الدنيا لم يزل أبدا حتى بعد الموت، ومعاينة النار، ومعاينة العذاب، قال وهو أصدق من يقول :[ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ]( الأنعام : آية ٢٨ ) فهو يبين أنهم كلما ردوا إلى الدنيا رجعوا إلى الكفر، وأن أصل ذلك الكفر كامن في قلوبهم لا يزول، ومما يوضحه قوله في الأنفال [ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ]( خيرا ) نكرة في سياق الشرط، فهي تعم. معناه : أن الله لا يعلم في قلوبهم خيرا أبدا في وقت من الأوقات كائنا ما كان، ولا زمن من الأزمان. ثم قال على الفرض :[ ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون[ ( الأنفال : آية ٢٣ ). فتبين أن ذلك الشر الذي عصوا به الرسل وتمردوا به على الله دائم لا يزول، فكان جزاؤه دائما لا يزول، فتطابق الجزاء والعمل ؛ ولذا قال تعالى :[ جزاء وفاقا( ٢٦ ) ]( النبأ : آية ٢٦ ) أي : جزاء موافقا لأعمالهم. وهذا معنى قوله :[ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون[ ( الأعراف : آية ٣٦ ) أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها.
فعلينا جميعا في دار الدنيا أن نعمل العمل الذي يجنبنا النار ونستعيذ بالله منها ؛ لأنه لا قدرة لأحد على حر النار. وهذه النار التي هي كلا شيء بالنسبة إلى حر تلك النار إذا مسك منها لهب شديد، أو وقعت يدك على نار عرفت شدة حرها، وانك لا تطيق النار العظمى أبدا، كما قال تعالى في نار الدنيا :[ نحن جعلناها تذكرة ]( الواقعة : آية ٧٣ ) فمن صلي بحرها تذكر نار الآخرة، وعلم انه لا يطيقها، فعليه آن يتحرز منها، ويتباعد عن أسبابها التي تقرب إليها في دار الدنيا ما دامت الفرصة ممكنة. أما الذي يعلم بالنار، وبحر النار، وهو في دار الدنيا يعمل عمل النار الذي يؤدي إليها فهذا كالفراشة التي تسقط في النار وتحرق نفسها، لا عقل له ولا تذكر. فعلى المسلم أن يعتبر بحر النار وبشدة النار، ويضع يده قريبا من حر النار الموجودة حتى يعلم انه لا قدرة له على حرها، وان حرها أليم شديد، وان تلك أحر منها بسبعين ضعفا، وأنه يعمل على أن يتجنبها ولا يصلاها ؛ لأنه إذا عمل الأعمال التي تورده النار فهو ذاهب العقل مضيع نفسه، موردها المهالك، إذ لا قدرة لأحد على حر النار. فاعلموا أيها الإخوان أنه لا قدرة لأجسامكم على النار، فاتقوا النار وأطيعوا الله، وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم، واعملوا بما يرضيه، واحذروا من المعاصي والمنكرات التي تجركم إلى النار ؛ لأنكم لا قدرة لكم على النار. وإذا أردتم أن تعلموا أنه لا قدرة لكم على النار فليأت منكم أحد إلى كير شديد الوقود ثم يضع رجله أو يده فيه، هل له على ذلك طاقة [ نحن جعلناها تذكرة ] فاحذروا من النار، والحذر منها إنما هو ممكن في هذه الأيام التي أنتم فيها، فإذا انقضى الأجل المحدد ضاعت الفرصة. وأسفه الناس، وأقلهم حلما، وأرذلهم عقلا هو كمن لا يتسبب في أن يجانب حر النار ويقدم على النار، والذين يتجرؤون قال الله فيهم :[ فما أصبرهم على النار ]( البقرة : آية١٧٥ ) لارتكابهم أسبابها- والعياذ بالله- فعلى المسلم العاقل أن يجتهد في إنقاذ نفسه من حر النار، وأن ي
قوله :[ فمن أظلم ] استفهام إنكار معناه النفي. أي : لا أحد أظلم. وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو أن معنى : ؟ [ فمن أظلم ] لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. وهذه تدل على أن المفتري على الله الكذب، والمكذب بآياته هو أعظم الناس ظلما ؛ لأن ( أظلم ) صيغة تفضيل، وأنه يفوق غيره ويفضله في الظلم. وقد جاءت آيات أخرى :[ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق[ ( الزمر : آية ٣٢ )[ ومن اظلم ممن منع مساجد الله ] ( البقرة : آية ١١٤ ) قال بعضهم : يظهر لطالب العلم في هذا شبه تعارض ؛ لأنه قال : لا أحد أظلم من هذا، ولا أحد أظلم من هذا، ولا أحد أظلم من هذا.
وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة، أشهرها اثنان :
أحدهما :- وجزم به أبو حيان في كتابه البحر المحيط- أنه لا تعارض أصلا بين الآيات، وإنما دلت الآيات على أن كل من ذكر في قوله [ فمن أظلم ] لا يمكن أن يفوقه أحد من أهل الدنيا في الظلم، إلا أنهم جميعا متساوون لا يفوق بعضهم بعضا، وهم يفوقون غيرهم في الظلم، كما لو قلت : ليس في هذا البلد أعلم من زيد، وليس فيه أعلم من عمرو. وزيد وعمرو مستويان في العلم، فتكون صادقا، ولا معارضة بين قوليك. وهذا وجه ظاهر لا إشكال فيه، وهو كما قال أبو حيان.
الوجه الثاني : أنها تتخصص بصلاتها. وعليه فيكون المعنى :[ فمن أظلم ممن افترى ]( الأعراف : آية ٣٧ ) لا أحد من جنس المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا، ولا أحد من جنس المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من جنس المكذبين أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق، وهكذا. والظلم قد قدمنا معناه- مرارا- بشواهده العربية.
[ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ] الافتراء : الاختلاف، والقول بغير الواقع. والكذب : الأصح في أقواله أنه الإخبار بخلاف الواقع.
وأقوال البيانيين فيه معروفة، والمراد هنا : الإخبار بغير الواقع، كقولهم إن مع الله شريكا، وإن له ولدا، وإنه أمرهم بالفاحشة كطوافهم عراة، إلى غير ذلك من افتراءاتهم على الله.
[ أو كذب بآياته ] التي جاءت بها رسله، فقال : إن هذا القرآن ليس بحق، إنه شعر، أو سحر، أو كهانة، أو أساطير الأولين. لا أحد أظلم ممن افترى هذا الكذب على الله بادعاء الشركاء والأولاد، وانه حرم كذا وهو لم يحرمه، ولا احد أظلم ممن كذب بآيات الله فجحد بها وقال : أنها من السحر، أو من الشعر، أو من كلام الكهنة، أو من أساطير الأولين، أو أنها علمها له بشر. لا أحد أظلم من هذا وهذا.
ثم قال :[ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ] في قوله :[ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ] المراد بهذا النصيب الذي ينالهم من الكتاب فيه أقوال متقاربة لعلماء التفسير لا يكذب بعضها بعضا، أرجحها : ما دلت عليه القرينة القرآنية، قال بعض العلماء :[ ينالهم نصيبهم من الكتاب ] يرجعون إلى ما هم صائرون إليه مما كتب لهم أزلا، فمن كتب له أن يموت على ذلك الشقاء مات عليه، ومن كتب له أن يتوب تاب.
والتحقيق في معنى هذه الآية : أن معنى [ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ] أنهم ينالهم ما كتب الله لهم في الدنيا مما ينالونه من الخير ومن الشر، من الصحة، والعافية، والرفاهية، والأمراض، والأحزان، والأموال، والرزق، والآجال، حتى يستكملوا في دار الدنيا ما سبق في علم الله أنهم ينالونه من الأرزاق، والنعمة، والعافية، والأولاد، والآجال، وما يصيبهم من الخيرات، والخصب، والأموال، وكذلك ما يلاقونه أيضا من البأساء، والأمراض، والفقر، وتحديد الآجال، حتى إذا انتهى نصيبهم في هذه الدنيا مما كتب لهم من خير أو شر، ورزق ومال وأجل لا يزالون كذلك [ حتى إذا جاءتهم رسلنا ] ( الأعراف : آية ٣٧ ) وعليه ف ( حتى ) هذه غائية.
وقال بعضهم : هي حتى الابتدائية التي تكون قبل ابتداء الجمل. حتى إذا جاءت الواحد منهم بعد أن نال نصيبه المكتوب له في الدنيا من جميع الأنواع المكتوبة له من الأرزاق، والآجال، والأولاد، والعافية، والرزق، والأمراض، والهموم، ونحو ذلك.
[ حتى إذا جاءتهم رسلنا ] المراد بالرسل هنا : جمع رسول. وهذه الرسل هي : ملك الموت واعوانه، يقبضون أرواحهم.
واعلموا أن الله أسند قبض الروح في آية إلى نفسه- جل وعلا- حيث قال في نفسه :[ والله يتوفى الأنفس حين موتها ]( الزمر : آية ٤٢ ) وأسنده في آية لملك واحد، وهي قوله في السجدة :[ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ]( السجدة : آية ١١ ) وأسنده في آيات كثيرة لملائكة كثيرة مرسلين لذلك، كقوله هنا :[ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ] الأعراف : آية ٦١ ) وكقوله :[ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ]( النساء : آية ٩٧ ) ولا إشكال في الآيات ؛ لأن إسناد التوفي إلى الله ؛ لأن كل شيء بمشيئته وقضائه وقدره، فلا تقع وفاة أحد إلا بمشيئته- جل وعلا- كما صرح به قوله :[ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ]( آل عمران : آية ١٤٥ ) وإسناده لملك الموت لانه هو الرئيس الموظف بقبض الارواح. واسناده لملائكة كثيرين لان لملك الموت أعوانا كثيرين يقبضون معه أرواح الناس بأمره. قال بعض أهل العلم : يقبض أعوانه الروح حتى تبلغ الحلقوم فيأخذها ملك الموت. والآيات دلت على أن له أعوانا كثيرة من الملائكة يقبضون معه الأرواح، كقوله هنا :[ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ] وكقوله :[ توفته رسلنا وهم لا يفرطون ] [ إن الذين توفاهم الملائكة ] [ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ]( الأنفال : آية ٥٠ ) عياذا بالله جل وعلا.
[ حتى إذا جاءتهم ]( الأعراف : آية ٣٧ ) أي : ذلك الإنسان الذي استكمل في دار الدنيا نصيبه من الكتاب، بأن أكل جميع ما كتب له من الرزق، ونال ما كتب له من الشهوات واللذات والأجل، ونال ما قدر الله عليه من الشرور في الدنيا، حتى إذا انقضى أجله، وجاء الوقت المحدد لموته جاءته [ رسلنا ] أي : ملك الموت وأعوانه ليقبضوا روحه وينزعوها من بدنه. وسنذكر كيفية ذلك في قوله :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ] ( الأعراف : آية ٤٠ ) في الآيات القريبة.
[ جاءتهم رسلنا يتوفونهم ] [ يتوفونهم ] في هذه الآية وجهان من التفسير : التحقيق أنها الوفاة بقبض الأرواح في دار الدنيا، وأنهم إذا جاءهم ( الملائكة ) ( ما بين المعقوفتين ( ) زيادة يقتضيها السياق ) يقبضون أرواحهم في دار الدنيا يوبخونهم ويقرعونهم عند أخذ الروح، ويقولون لهم : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ أين من كنتم تعبدون مع الله ؟ نادوهم فلينقذوكم منا ويخلصوكم من هذا الموت وما بعده من العذاب. وعلى هذا القول فقوله :[ يتوفونهم ] يعني : بقبض الأرواح. وفيه قول آخر، وهو ضعيف، إلا أنه ذكره جماعة من علماء التفسير، ان هذا يوم القيامة إذا حشر الخلق جاءت رسل الله، وهم الملائكة الموكلون بالنار يتوفونهم، أي : يأخذون أهل النار وافين ؛ لأن جميع أهل النار مكتوبون في ديوان، معينة به أسماؤهم، وأسماء آبائهم، وأنسابهم، وقبائلهم، والملائكة الموكلون عندهم السجلات يأخذونهم واحدا واحدا حتى يستوفوا العدد المكتوب. هذا قول في الآية. والأول هو الصحيح. وعلى هذا القول فقوله :[ يتوفونهم ] يأخذون عددهم وافيا. والقول الأول :[ يتوفونهم ] بقبض الأرواح.
[ قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ] يقوله لهم الملائكة عند قبض الروح توبيخا وتقريعا، ويضربونهم أيضا مع ذلك، كما قال جل وعلا :[ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ]( الأنفال : آية ٥٠ ) والعياذ بالله.
[ أين ما كنتم تدعون من دون الله ] ( أين ) هنا هي الاستفهامية. و( ما ) موصولة. أين الذين كنتم [ تدعون ] ؟ أي : تعبدون [ من دون الله ]، أي : مع الله ( جل وعلا )- وتجعلونهم شركاء معه ؟ أين هم ؟ نادوهم فليحضروا فليخلصوكم وينقذوكم ! ! وهذا من التوبيخ والتقريع والتعذيب.
وهذه الآية أطلقت فيها الوفاة على معناها العرفي. واعلموا أن معنى ( توفاه ) تطلق في اللغة العربية إطلاقين، إطلاقا لغويا، وإطلاقا عرفيا.
أما إطلاقها الغوي : فهو اخذ الشيء كاملا بجميعه وافيا. تقول العرب : توفيت ديني. إذا أخذته وافيا كاملا لا ينقص منه شيء. فكل شيء أخذته وافيا بتمامه فقد توفيته. وهذا معناها في اللغة العربية.
ومعناها في العرف : تقول العرب : توفاه الله. إذا قبض روحه وحدها دون جسمه. هذا معناها العرفي، وذلك معناها اللغوي.
والقاعدة المقررة عند جمهور الأصوليين : أن الحقيقة العرفية تقدم على الحقيقة اللغوية ما لم يقم دليل يرجح الحقيقة اللغوية.
وذكر بعض علماء الأصول عن أبي حنيفة –رحمه الله- أنه لا يقدم العرفية على الحقيقية اللغوية ؛ لأن العرفية وإن ترجحت في الاستعمال فالحقيقية قد ترجحت بأصل الوضع.
وهذا تترتب عليه مسألة غلط فيها كثير من الناس، وأضل الملحدون فيها كثيرا من الناس، وهي قضية عيسى ابن مريم ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ) ؛ لأن الله عبر عنه بالوفاة في قوله :[ إني متوفيك ]( آل عمران : آية ٥٥ ) أما قوله ( جل وعلا ) عنه/ :[ فلما توفيتني ]( المائدة : آية ١١٧ ) من كلام عيسى يوم القيامة، ولا تأتي يوم القيامة إلا وعيسى قد مات قطعا، لا نزاع في موته قبل يوم القيامة ؛ لأن [ فلما توفيتني ] من كلام عيسى يوم القيامة إذا قال له ربه :[ ءأنت قلت للناس ]( المائدة : آية ١١٦ ) هذا كلامه يوم القيامة [ ءانت قلت للناس اتخذوني وأميي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ] إلى أن قال :[ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني ] أي : قبضتني إليك ورفعتني إلى السماء [ كنت أنت الرقيب عليهم ] وقول عيسى هذا يوم القيامة لا حجة فيه على انه قد مات. أما آية قوله :[ إني متوفيك ورافعك إلي ] ( آل عمران : آية ٥٥ ) فهي قول في دار الدنيا لا في الآخرة. واحتج به بعض الملاحدة الذين يزعمون أن عيسى قد مات ! ! وهذه فكرة إلحادية.
والتحقيق الذي دلت عليه السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم- الوحي المنزل- أن عيسى لم يمت إلى الآن، وانه حي في السماء، وانه سينزل في هذه الأمة في آخر الزمان ليقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويقتل المسيح الدجال، وهو نازل لا محالة، دل على ذلك السنة المتواترة عن رسول الله، والقرآن العظيم.
أما القرآن العظيم فقد دل عليه دلالة صريحة- وإن قيل فيها قول يخالفها ؛ لأن القول المخالف باطل وإن نسبوه لابن عباس ؛ لأنه باطل ؛ لأن ظاهر القرآن خلافه، والعقل لا يقبله أيضا- ذلك أن الله قال عن عيسى بن مريم :[ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ]( النساء : الآيتان١٥٨، ١٥٧ ) ثم قال :[ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ]( النساء : آية ١٥٧ ) بين أن السبب الذي ادعى اليهود به أنهم قتلوه : أن الله ألقى شبهه على رجل آخر، فظنوه إياه، فقتلوه، وظنوا أنهم قتلوه، والله يقول :[ ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفو
وقوله :[ في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ] قال بعض العلماء " [ في النار ] بدل من قوله :[ في أمم ] والظاهر أن الصواب أنها ليست بدلا منها، وان المعنى : ادخلوا في جملة أجناسكم من الكفرة، ادخلوا انتم وهم في النار.
وقوله :[ من الجن والإنس ] ( الأعراف : آية ٣٨ ) هذه الأمم التي أدخلت النار بعضها من الجن، وبعضها من الإنس. وهذه الآية نص صريح في أن كفرة الجن في النار مع فكرة الإنس كما قدمناه مرارا.
وكون كافر الجن في النار لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما اختلف العلماء في المؤمنين من الجن هل هم في الجنة أو ليسوا فيها ؟ فذهب جماعة أن جزاء المؤمنين من الجن أنهم لا يدخلون النار ولا يدخلون الجنة، بل كان جزاؤهم الإجارة من النار فقط دون التنعم بالجنة. واغتر من قال بهذا القول بظاهر آية الأحقاف ؛ لأن الجن لما قال نذيرهم :[ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ]( الأحقاف : آية ٣١ ) رتبوا على ذلك قولهم [ يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ] ولم يقولوا : ويدخلكم الجنة. فاغتروا بهذا الظاهر. والخلاف في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة أو يجارون من النار ولا يدخلون الجنة ؟ وبعضهم يقول : يكونون رابضين عند أبواب الجنة. خلاف معلوم مشهور، والظاهر أن الصواب أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة كما دخل الكافرون منهم النار. وقد دل على هذا بعض الآيات : من أصرح الآيات دليلا عليه قوله تعالى في سورة الرحمن مخاطبا للإنس والجن :[ ولمن خاف مقام ربه جنتان( ٤٦ )( الرحمن : آية ٤٦ ) ثم بين أن هذا الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه للإنس والجن حيث أتبعه بقوله :[ فبأي ألاء ربكما تكذبان( ٤٧ ) ]( الرحمن : آية ٤٧ ) والتثنية في قوله :[ فبأي ألاء ربكما تكذبان ( ٤٧ ) ] للإنس والجن بلا نزاع بين العلماء. فدل ظاهر هذه الآية أن مؤمن الجن في الجنة، ويستأنس له بظاهر قوله :[ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ]( الرحمن : آية ٧٤ ) فيفهم منه أن في الجنة جنا يطمثون النساء، ولكنهم لم يسبقوا هؤلاء أزواجهم في الجنة. وهذا الأخير أظهر.
وقوله جل وعلا :[ ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ] والعياذ بالله [ كلما دخلت أمة ] من هذه الأمم [ لعنت أختها ] إنما كانت أختها لأنها أختها في الديانة والملة والكفر بالله، وتكذيب الرسل، وكل شيئين متشابهين، أو متصاحبين تنسب العرب لهما الأخوة ومنه :[ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ]( الزخرف : آية ٤٨ ) فالمتشابهان تسميهما العرب ( إخوان ) وكذلك المتصاحبان تسميهما ( إخوان ) وإنما كانت الأمة أخت الأمة لمشابهتها لها في الكفر والطغيان وتكذيب الرسل حتى مات الجميع على ذلك-والعياذ بالله- كما قال تعالى :[ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ]( الإسراء : آية ٢٧ ) وهو معنى معروف في كلام العرب، وكل امة كافرة أخت للكافرة، كما أن الأمة المؤمنة أخت للأمة المؤمنة [ إنما المؤمنون إخوة ]( الحجرات : آية ١٠ ) وإنما لعنتها لأن بعض هذه الأمم يسن الضلال والكفر حتى يقتدي به الذين جاؤوا من بعدهم- والعياذ بالله- فيلعنوهم لأنهم تسبب لهم بالاقتداء بهم دخول النار، كما قال الله ( جل وعلا ) عن نبيه إبراهيم إنه قال لهم :[ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ]( العنكبوت : آية ٢٥ ) وقال- تعالى- عنهم :[ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب( ١٦٦ ) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا ]( البقرة : الآيتان١٦٧، ١٦٦ ) فهم يوم القيامة أعداء يلعن بعضهم بعضا، ويعادي بعضهم بعضا. وهذا معنى قوله :[ كلما دخلت أمة ]( الأعراف : آية ٣٨ ) في النار [ لعنت أختها ] أي : صاحبتها المماثلة لها في الضلال والكفر، وتكذيب الرسل ؛ لأن بعض الأمم تبقى سننهم في الضلال والكفر فيقتدي بها من جاء بعدهم من الأمم- والعياذ بالله- فيلعنونهم لذلك.
ثم قال جل وعلا :[ كلما دخلت امة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا ][ اداركوا ] أصله : تداركوا. والمعروف في علم العربية أن ( تفاعل ) و( تفعل ) يكثر فيهما الإدغام واستجلاب همزة الوصل عند الإدغام. فقوله :[ اداركو ] أصله ( تداركوا ) [ فادارءتم فيها ] ( البقرة : آية ٧٢ ) أصله ( فتدارءتم ). وكذلك في ( تفعل ) كقوله :[ وازينت وظن اهلها ]( يونس : آية ٢٤ ) أصله ( تزينت ) [ قالوا اطيرنا بك وبمن معك ]( النمل : آية ٤٧ ) أصله( تطيرنا ) وهذا الإدغام معروف في كلام العرب، ومثله في ( تفاعل ) كما هنا قول الشاعر :
تولي الضجيع إذا ما التذها خصرا | عذب المذاق إذا ما اتابع القبل |
ومضاعفة العذاب على الرؤساء قادة الضلالة لا إشكال فيه [ الذين كفروا ] يعني في أنفسهم [ وصدوا ] غيرهم[ عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب ] عذابا بصدهم الناس عن سبيل الله [ بما كانوا يفسدون ]( النحل : آية ٨٨ ).
أما مضاعفة العذاب للضعفاء الأتباع ففيها إشكال، وكثير من المفسرين لا يتعرضون لهذا الإشكال ؛ لأن الله يقول :[ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها ]( الأنعام : آية ١٦٠ ) وهم لم يضلوا. وهذا إشكال معروف في هذه الآية. وهو مضاعفة العذاب للأتباع.
فقال بعضهم : إنهم وإن كانوا أتباعا فلا بد لهؤلاء الأتباع من ضعفاء أخر، فالواحد يكون تبعا لرئيسه في الضلالة، ولكنه يضل امرأته وأولاده وبعض أقاربه، فمعهم هم أيضا رئاسة في الضلال قليلة كل بحسبه، ويضاعف العذاب لكل بحسبه.
وقال بعض العلماء : مضاعفة العذاب للرؤساء بإضلالهم وضلالهم، ومضاعفته للأتباع بتقليدهم الأعمى، وتعصبهم للكفر، وعدم نظرهم في المعجزات البينات، والأدلة الواضحات التي جاءت بها الرسل، مع الكفر، فقد جمعوا بين التقليد الأعمى والإعراض عن سماع الحق، مع الكفر الذي ارتكبوه. هكذا قاله بعض العلماء.
وقوله :[ ولكن لا تعلمون ]( الأعراف : آية ٣٨ ) قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا شعبة عن عاصم :[ ولكن لا تعلمون ] بتاء الخطاب. والمعنى : أن لكل من أهل النار ضعفا بحسب عمله ولكنكم لا تعلمون قدر ما ينالونه من العذاب المهين وشدته وهوله وألمه. وفي قراءة شعبة عن عاصم :[ ولكن لا يعلمون ] ولكن لا يعلم الجميع أن لكل منهم ضعفا من العذاب، كانوا لا يعلمون ذلك، ويوم القيامة سيعلمونه :[ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ]( الزمر : آية ٤٧ ).
وهذه الآيات الكريمة تدل على أن المتبوعين في الضلالة، والأتباع في الضلالة، كلهم- والعياذ بالله- يضاعف لهم العذاب في النار، وهؤلاء الأتباع الذين يدعون على الرؤساء بقولهم :[ أتهم ضعفي
[ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها[ ( الأعراف : آية ٤٠ ) من الأتباع والمتبوعين الكفرة [ لا تفتح لهم أبواب السماء ] قرأ هذا الحرف أبو عمرو :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ] بالتاء الفوقية مع التخفيف. وقرأه حمزة، والكسائي :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ] وقرأه الباقون وهم ( نافع، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم ) :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ] ففي الكلمة الكريمة ثلاث قراءات سبعيات :[ لا يفتح لهم أبواب السماء ] وهي قراءة حمزة والكسائي. [ لا تفتح لهم أبواب السماء ] وهي قراءة أبي عمرو. [ لا تفتح لهم أبواب السماء ] وهي قراءة نافع، و وابن كثير، وعاصم، وابن عامر.
هذه القراءات الثلاث معناها واحد. [ إن الذين كذبوا بآياتنا ] وجحدوا أنها من عند الله، وتكبروا عن العمل بها من الكفار أتباعهم ومتبوعيهم قبحهم الله [ لا تفتح لهم أبواب السماء ]. في عدم فتح أبواب السماء لهم أقوال متقاربة معروفة، لا يكذب بعضا بعضا، وهي كلها حق، قال بعض العلماء :[ ولا تفتح لهم أبواب السماء ] فيرفع لهم منها عمل صالح ؛ لأن أعمالهم مردودة إلى الله، كما قال الله :[ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ]( فاطر : آية ١٠ ) والكفار ليس عندهم عمل صالح يرفع كلمهم، وليس عندهم كلم طيب، قالوا :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ] لترفع أعمالهم الصالحة إلى الله. وقال بعض العلماء :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ] لاستجابة دعواتهم ؛ لأن دعواتهم مردودة [ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ]( الرعد : آية ١٤ ) وقال بعض العلماء :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ] أي : لا تنزل إليهم البركات والرحمات من الله ( جل وعلا ) نازلة مفتحة لها أبواب السماء لكفرهم. وكل هذه الأقوال حق. وذهب جماهير من المفسرين أن معنى :[ لا تفتح لهم ] لأرواحهم عند الموت [ لا تفتح لهم أبواب السماء ] والآية تشمل هذا كله. لا تفتح لأعمالهم أبواب السماء فترفع، ولا تفتح لدعواتهم أبواب السماء لأنها غير مستجابة، ولا تفتح لهم أبواب السماء بالبركات، ولا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا. وحديث البراء المشهور المعروف عند العلماء يستدل به المفسرون على دخول القول الاخير في الاية ؛ لأن حديث البراء المذكور اخرجه ابو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، وغير واحد عن البراء : أن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خرجوا معه في جنازة أنصاري، وجلس صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحد الأنصاري، وأمرهم أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر، ثم ذكر لهم حال الميت المسلم والميت الكافر، فقال صلى الله عليه وسلم ما حاصله وملخصه : إن الإنسان المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كان وجوههم الشمس، عندهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه ويقول : أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتسيل نفسه كما تسيل القطرة من فم السقاء، فإذا سالت أخذها فلم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها ويجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فتخرج منها ريح كأحسن ما يكون من نفحة مسك على وجه الأرض، ثم يصعدون بها إلى السماء، كلما مروا بملأ من الملائكة قالوا : ما هذه الروح الطبية ؟ قالوا : هذا فلان بن فلان. بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا. حتى ينتهوا إلى السماء السابعة، فيقول الله ( جل وعلا ) : اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. فترد روحه إلى جسده، ويأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله. فيقولان : وما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام. فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان : وما علمك هذا ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة يأتيه روحها ونعيمها. ثم إن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال الى الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح- والمسوح : جمع مسح وهو الثوب الخلق البالي الخبيث الخشن السيئ والعياذ بالله- فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه ويقول : أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط وغضب من الله ( جل وعلا ). فتتفرق روحه في جسده، فينزعها من جسده، كما ينزع السفود من الصوف المبلول، فإذا أخرجها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلونها في تلك المسوح، وتخرج منها ريح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، ثم يصعدون بها إلى السماء كلما مرت على ملأ من الملائكة قالوا : ما هذه الروح الخبيثة ؟ قالوا : فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء فيستفتحوا له فلا يؤذن له- والعياذ بالله- وتطرح روحه طرحا. وفي حديث البراء المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ :[ لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ]( الأعراف : آية ٤٠ ) وأنه عند طرح روحه قرأ :[ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير ]( الحج : آية ٣١ ) وفي القراءة الأخرى [ فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ] ثم ترد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه ويقولان : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري. ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه لا ادري. ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا ادري. فينادي مناد من السماء : أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وألبسوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار. وفي بعض روايات الحديث : أنه يسلط عليه أعمى وأبكم، عنده مرزبة من حديد لو ضرب بها جبلا لبقي ترابا. يضربونه فيصرخ صرخة يسمعها كل الناس إلا الثقلين والعياذ بالله جل وعلا. وحديث البراء هذا جاءت بمثله أحاديث تدل على أن السماوات(... )( في هذا الموضع وجد انقطاع في التسجيل ).
[ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ] التحقيق أن المراد بالجمل هنا هو البعير زوج الناقة المعروف. وعن ابن مسعود أنه سأله رجل عن الجمل هنا فاستهجن سؤاله وقال له : الجمل هو زوج الناقة. كأنه يستهجن سؤاله، وان هذا لا ينبغي أن يسأل عنه.
والمراد ب( السم ) هو الثقب. و( الخياط ) : الإبرة، والمعنى : أن الجمل- وهو البعير الكبير- لا يمكن أن تدخله من ثقب إبرة الخياطة هذه، لا يمكن أن تدخل من وسطها جملا بعظمه وتفرق قوائمه. فالجمل لا يدخل في ثقب إبرة أبدا، فهم لا يدخلون الجنة أبدا. فهذا أسلوب عربي معروف، يعلقون الشيء على ما لا يكون، فيدل على انه لا يكون، فيقولون : لا يقع كذا حتى يقع كذا. فيكون وقوع الشيء محالا، وهو أسلوب معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي | وصار القار كاللبن الحليب |
فرجي الخير وانتظري إيابي | إذا ما القارظ العنزي آبا |
......................... جسم الجمال وأحلام العصافير
وقال ( جل وعلا ) في شرر النار :[ إنها ترمي بشرر كالقصر( ٣٢ ) كأنه جمالات صفر( ٣٣ ) ]( المرسلات : الآيتان٣٣، ٣٢ ) وفي القراءة الأخرى :[ كأنه جمالات صفر ] هذا هو التحقيق، وان المعنى : أنهم لا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل- البعير- الضخم الكبير مع عظمه وتفرق قوائمه حتى يدخل من ثقب إبرة الخياطة، وهذا لا يكون أبدا ! ! فدخولهم الجنة لا يكون أبدا. وهذا أسلوب عربي معروف. وهذا هو التحقيق.
القراءات الكثيرة التي تروى عن السلف :[ حتى يلج الجمل ] [ حتى يلج الجمل ] [ حتى يلج الجمل ] وغيرها من القراءات كلها قراءات شاذة. ومعانيها لا يعتمد عليها ؛ لأنهم رووا عن ابن عباس أنه قرأ :[ حتى يلج الجمل في سم الخياط ] وزعموا أن المراد بالجمل هو الحبال الغليظة التي تجر بها السفينة، وأن هذه لا تدخل في عين الإبرة. فكل القراءات التي تشير إلى الجمل أو إلى الجمل، أو إلى الجمل، أو إلى الجمل، وغير ذلك من أنها حبال غليظة لا يمكن أن تدخل في الإبرة، كلها لا معول عليها، لأنها قراءات شاذة، ومعانيها غير صحيحة. والتحقيق هو قراءة الجمهور التي عليها السبعة بل والعشرة [ حتى يلج الجمل ]( الأعراف : آية ٤٠ ) أي : حتى يدخل البعير الضخم العظيم في ثقب الإبرة. وهذا لا يكون أبدا، فدخولهم لا يكون أبدا. كقول الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي | وصار القار كاللبن الحليب |
وهذا هو معنى قوله :[ حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين ] كذلك العذاب- والعياذ بالله- وإدخال النار، وتحريم الجنة [ نجزي المجرمين ] المجرمون : جمع تصحيح للمجرم، وهو فاعل الإجرام، والإجرام : ارتكاب الجريمة، والجريمة في لغة العرب : الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال، ومادته تكون رباعية وثلاثية، تقول :( أجرم ) إذا ارتكب جريمة. وتقول العرب :( جرم ) ثلاثيا، والثلاثي لم يرد في القرآن، ولم يرد في القرآن إلا بصيغة الرباعي [ إن الذين أجرموا ]( المطففين : آية ٢٩ ) [ فعلى إجرامي ]( هود : آية ٣٥ ) [ وكذلك نجزي المجرمين ] كله بصيغة الإجرام بالرباعي. أما ( جرم ) ثلاثي فهو مسموع في اللغة وغير موجود في القرآن. ومن أمثلته في اللغة قول الشاعر :
وننصر مولانا ونعلم انه | كما الناس مجروم عليه وجارم |
ثم قال :[ لهم من جهنم ] أي : من النار[ مهاد ] المهاد : الفراش. فراشهم من النار [ ومن فوقهم غواش ] الغواشي : جمع غاشية، والغاشية : هي اللحاف الذي يتغطى به الإنسان. معناها : لحفهم التي تغطيهم من النار، وفرشهم التي تحتهم من النار والعياذ بالله. وهذا معنى قوله :[ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ]( الأعراف : آية ٤١ ) ثم قال :[ كذلك نجزي الظالمين ] الواضعين العبادة في غير موضعها، كالمشركين والعياذ بالله.
[ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ]( الأعراف : آية ٤٢ ) القاعدة المعروفة عند العلماء ان الإيمان إذا لم يعطف عليه العمل الصالح يشمل جميع خصال الدين من اعتقاديات وعمليات. فالإيمان على مذهب أهل السنة والجماعة قول وعمل، وإذا أفرد الإيمان شمل جميع مسائل دين الإسلام من الاعتقاد والعمل. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الإيمان " بضعّ- في بعض الروايات :- " وسبعون شعبة " - وفي بعضها :- " وستون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " فسمى إماطة الذي عن الطريق إيمانا، وهو من الأعمال. وفي الحديث :" من صام رمضان إيمانا " الحديث. فسمى الصوم إيمانا. " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا " الحديث، فسمى صلاة ليلة القدر إيمانا. [ وما كان الله ليضيع إيمانكم ]( البقرة : آية ١٤٣ ) أي : صلاتكم إلى بيت المقدس. وأمثال هذا كثيرة جدا.
أما إذا عطف العمل الصالح على الإيمان كقوله هنا :[ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ]( الأعراف : آية ٤٢ ) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما يجب الإيمان به مما بينته السنة الصحيحة والقرآن العظيم ؛ لأن العمل هنا نص عليه في قوله :[ وعملوا الصالحات ] ولو لم ينص على العمل لدخل في الإيمان ؛ لأن القلب إذا آمن إيمانا صحيحا تبعه جميع-سائر- الأعضاء ؛ لأن القلب أمير البدن، إذا توجه إلى جهة وجه إليها البدن، وفي الحديث الصحيح :" إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
وقوله :[ وعملوا الصالحات ] أي : آمنت قلوبهم، وظهرت آثار ذلك الإيمان في القلوب على الجوارح، فعملت الجوارح بطاعة الله جل وعلا.
وقوله :[ وعملوا الصالحات ] معناها : عملوا الفعلات الصالحات. والعمل الصالح ضابطه عند العلماء : هو ما استكمل ثلاثة أمور، فكل عمل استكملت فيه الأمور الثلاثة فهو صالح، وكل عمل اختل فيه واحد منها أو أكثر، فهو عمل غير صالح :
الأول من هذه الأمور الثلاثة : أن يكون ذلك العمل مطابقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله لا يقبل التقرب إليه بغير ما شرع، فكل من تقرب إلى الله بعمل لم يشرعه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فعمله مردود عليه، وذلك التقرب لا يزيد من الله إلا بعدا. فلو قال جاهل مثلا : إن صلاة الصبح ركعتان، فهي قليلة، فأنا أريد أن أزيد بركعة تقربا لله. فيجعلها ثلاثا كالمغرب. فإنها تبطل وترد عليه، ويضرب بها وجهه ؛ لأنه جاء بها على غير الوجه الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يزيد ولا ينقص، فالزيادات على ما شرعه الله بدعوى التقرب هي باطلة. مثالها عند العلماء كالورم، فهو زيادة في العين بان يكون العضو كبيرا وهو في الحقيقة نقصان ؛ لأنه ألم وفساد، فالذي ينبغي هو اتباع سنته صلى الله عليه وسلم- كما ينبغي طبق الأصل- من غير أن يزيد، وأن لا ينقص. فهذا هو الأول من الأمور الثلاثة، أن يكون مطابقا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله يقول :[ وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ] ( الحشر : آية ٧ ) ويقول :[ من يطع الرسول فقد أطاع الله ] ( النساء : آية ٨٠ ) ويقول :[ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ]( آل عمران : آية ٣١ ).
الثاني : أن يكون ذلك العمل فيما بين العبد وربه. أي : في نية العبد الباطنة التي لا يطلع عليها إلا الله : أن يكون مخلصا ذلك العمل لله لا يشرك معه فيه غيره. فإن كان ذلك العمل- في نية العبد وباطنه الذي لا يعلمه إلا الله- غير خالص لله فليس بعمل صالح، وإنما هو عمل طالح ؛ لأن الله يقول :[ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ]( البينة : آية ٥ ) فالذي عبد الله بغير الإخلاص له جاء بما لم يؤمر به، والله يقول :[ قل إني أمرت أن اعبد الله مخلصا له الدين( ١١ ) ]( الزمر : آية ١١ ) وفي الآية الأخرى :[ مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ] ( الزمر : آية ١٥ ).
فالأول : مطابقة الشرع في الظاهر.
والثاني : الإخلاص من العبد فيما بينه وبين الله في السر الذي لا يعلمه إلا الله.
الثالث : أن يكون ذلك العمل مبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة ؛ لأن العقيدة الصحيحة كالأساس، والعمل كالسقف، فإذا وجد السقف أساسا ثبت عليه، وإن لم يجد أساسا انهار، فالذي ليس عنده عقيدة صحيحة لو عمل الأعمال المطابقة، وأخلص فيها لله لا تنفعه في الآخرة ؛ لأنها لم تبن على أساس ؛ ولهذا يقول الله :[ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ]( النساء : آية ١٢٤ ) فيشترط الإيمان بالعقيدة الصحيحة. ويقول في عمل غير المؤمن :[ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا( ٢٣ ) ]( الفرقان : آية ٢٣ ) ويقول في أعمال غير المؤمنين :[ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد ]٥إبراهيم : آية ١٨ ) وفي آية :[ كسراب ]( النور : آية ٣٩ ) فأعمالهم باطلة- والعياذ بالله- فالكفار الذين لا عقيدة لهم ولا إيمان بالعقيدة الصحيحة قد يعملون أعمالا صالحة يريدون بها وجه الله، كأن يبر الواحد والديه، وينفس عن المكروب، ويقري الضيف ويعين المظلوم، فهذه اعمال صالحة أخلص فيها لله ولكنها لا تنفعه يوم القيامة ؛ لأنها لم تبن على أساس عقيدة صحيحة، وإيمان بما يجب الإيمان به في الكتاب والسنة، لكن أعمال الكفار إن وقعت في الدنيا صالحة مطابقة للشرع مخلصون فيها يثيبهم الله بها في دار الدنيا ؛ لأن الله لا يضيع عنده شيء، كما قال جل وعلا :[ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها/ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون( ١٦ ) ]( هود : الآيتان١٦، ١٥ ) وثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن الله ( جل وعلا ) يطعم الكافر بحسناته في الدنيا حتى يرد على الله يوم القيامة ولا جزاء له. وهو أحد التفسيرين في قوله ( جل وعلا ) :[ ووجد الله عنده فوفاه حسابه ]( النور : آية ٣٩ ) فأحد التفسيرين : فوفاه حسابه في دار الدنيا، يعني عمل الكافر بالعافية والمال والرزق والتنعم في الدنيا على احد القولين كما سيأتي.
فحيث اجتمعت هذه الأمور الثلاثة- بان كان العمل مطابقا للشرع، وصاحبه مخلص فيه فيما بينه وبين الله، وكان صاحبه بانيه على عقيدة صحيحة- فهذا عمل صالح ينفعه يوم القيامة، وهو الذي وعد الله أهله بالجنة في هذه الآية التي نحن بصددها وغيرها من الآيات، وحيث اختل أحد تلك الأمور الثلاثة لم يكن عملا صالحا كما بينا.
وقوله :[ الصالحات ]( الأعراف : آية ٤٢ ) أصله يستشكل طالب العلم : ما مفرد الصالحات ؟ لأن العمل الصالح لا يجمع على صالحات. وإذا فما مفرد الصالحات ؟.
والتحقيق أن مفرد الصالحات : صالحة ؛ لأن العرب تسمي الخصلة الطيبة : حسنة، وتسميها : صالحة. وهذا معروف في كلامهم، تقول مثلا : فعل فلان حسنة، وفعل صالحة. كما قال تعالى :[ من جاء بالحسنة ]( الأنعام : آية ١٦٠ ) أي : بالخصلة الحسنة، وكذلك من فعل الصالحة كالحسنة، أي : هي الخصلة الطيبة التي ترضي الله. وهذا معروف في كلام العرب. ومن إطلاق الصالحة على الخصلة الطيبة : قول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبياته المشهورة :
ذكرت زينب بالأجزاع من إضما | فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما |
بنت الأمين جزاك الله صالحة | وكل بعل سيثني بالذي علما |
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة | من آلام لأم بظهر الغيب تأتيني |
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة.................................
أي : فعلة صالحة طيبة
........................... من آلام لأم بظهر الغيب تأتيني
وسئل أعرابي فقيل له : ما الحب ؟ فقال :
الحب مشغلة عن كل صالحة | وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن |
وقوله :[ لا نكلف نفسا إلا وسعها ]( الأعراف : آية ٤٢ ) جملة اعتراضية بين المبتدأ وخبره، واعتراضها هنا من ألطف شيء ؛ لأن الله لما بين أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلون الجنة كأنه قال : والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة، هم فيها خالدون. فكأن الإنسان يخطر في ذهنه أولا : الجنة مع عظمها وما فيها من الملاذ والكرامات لا يمكن أن يستحقها أحد إلا بعد تعب هائل، وعناء شديد عظيم طويل، فبين الله انه في هذه الشريعة السمحة، التي جاء بها هذا النبي الكريم، أن الجنة تنال- مع عظم قدرها، وما فيها من اللذات والكرامة، وجميع الخيرات- بعمل سهل، لا مشقة فيه، ولا عناء ولا تعبا شديدا فيه ؛ ولذا قال قبل أن يأتي بالخبر الذي هو :[ أولئك أصحاب الجنة ]( الأعراف : آية ٤٢ ) قال :[ لا نكلف نفسا إلا وسعها[ اعلموا أن جنتي التي بينت لكم ما فيها من الخير، وما فيها من النعيم، والحور، والولدان، والجنان، والأشجار المثمرة، والغرف العالية، وانهار العسل، والماء واللبن، وغير ذلك، والنساء الحسان، وغير ذلك من اللذات والمكارم ونضرة النعيم والخلود الذي لا يزول، الذي لا يداخله سقم ألبتة، ولا هرم ولا مرض. اعلموا أن هذه الجنة التي هي بهذه المثابة من العظم، وعلو الأمر، وارتفاع الشأن، أني أدخلكم إياها عمل ليس بالصعب، ولا بالشديد، لا يستلزم المشقة القادحة
[ ونزعنا ما في صدورهم من غل ]( الأعراف : آية ٤٣ ) لما كان أهل الدنيا على مصادقتهم والقرابات بينهم يكون بينهم الغل، والغش، والبغضاء، والحسد، بين الله أن أهل الجنة سالمون من هذا الداء الذي يصاب به أهل الدنيا.
[ ونزعنا ] صيغة الجمع للتعظيم، والله ( جل وعلا ) هو الذي نزع [ ما في صدورهم ] أي : صدور عبادنا المؤمنين الذين هم أصحاب الجنة، نزعنا جميع ما في صدورهم من غل. واختلفت عبارات العلماء في الغل إلى معاني متقاربة، والظاهر أنه يشملها كلها، فبعضهم يقول : الغل : الحقد الكامن، وبعضهم يقول : هو البغض، وبعضهم يقول : هو الحسد والكراهية. وهو يشمل ذلك كله ؛ لأن الإنسان قد يكون في قلبه للآخر حقد كامن، وحسد، وبغض، يكون هذا بين الآدميين، فالله ( جل وعلا ) يوم القيامة ينزع من صدور المؤمنين في الجنة جميع الأحقاد، فلا يكون هنالك أحد يضمر حقدا لأخيه، ولا بغضا، ولا حسدا، ولا غشا، بل ليس بينهم إلا التواد الكامل، والتعاطف والتناصح، يحب بعضهم بعضا، ومن آثار ذلك أن منازلهم متفاوتة ينظر بعضهم منازل بعض فوقه كما ننظر النجم في السماء، ومع ذا لا يحسده على ارتفاع منزلته، بل هو يحبه ولا يضمر له في ذلك حسدا ولا غلا، وذكر غير واحد عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أنه قال :" أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم :[ ونزعنا ما في صدورهم من غل ] " ذكره عن علي '( رضي الله عنه ) غير واحد، قتادة وغيره، وكثير من طرقه فيها انقطاع، والله أعلم بصحته إليه، ولكنه مشهور فائض على ألسنة المفسرين والعلماء والله اعلم بصحته عنه. ولا شك أنهم إن كان بينهم في الدنيا شيء ؛ لأن طلحة والزبير ممن قاتل عليا ( رضي الله عنه ) يوم الجمل. وبعضهم يزعم أنه كان بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشيء. مع أن الذي يظهر أن عليا وعثمان لم يكن احدهما يضمر للآخر إلا الطيب، وكان تسليم الحسن بن علي رضي الله عنه الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان ( رضي الله عن الجميع ) فيها أعظم منقبة لعلي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ؛ لأن كثيرا من الناس كانوا يتهمون عليا ( رضي الله عنه ) بما هو بريء منه، أن له ضلعا في قتل عثمان، وانه يقول له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان من أمه، يعرض بعلي :
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم | ولا تنهبوه لا تحل مناهبه |
بني هاشم كيف التعاقد بيننا | وعند علي سيفه وحرائبه |
وقوله جل وعلا :[ ونزعنا ما في صدورهم ]( الأعراف : آية ٤٣ ) قال بعض العلماء : الله ينزعه من صدورهم بعد أن يدخلوا الجنة. وقال بعض العلماء : ينشئهم النشأة الجديدة على فطرة سليمة خالية من الأحقاد. فظاهر الآية أنهم يوم القيامة يبعثون وهو موجود فيهم، إلا أن الله يسله وينزعه منهم، بدليل قوله :[ ونزعنا ما في صدورهم من غل ]( الأعراف : آية ٤٣ ) وقد قال في سورة الحجر :[ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين( ٤٧ ) ]( الحجر : آية ٤٧ ) وهذا من أعظم كمال اللذات حيث يكون الإنسان خالدا مخلدا، وحيث يكون هو وإخوانه ورفقاؤه في ذلك النعيم ليس بين اثنين منهم شحناء، ولا عداوة، ولا حقد، ولا حسد، ولا مخاصمة، وكل هذا من كمال النعيم.
وقوله :[ تجري من تحتهم الأنهار ]( الأعراف : آية ٤٣ ) أعربه بعضهم حالا، وبعضهم منع إتيان الحال هنا لأنه قال :[ ونزعنا[ فاعلها لا دخل له في الجملة فلا يمكن أن يكون حالا، وبعضهم يقول : يصح أن تكون حالا. فعلى أن الجملة حالية فلا إشكال، وعلى امتناع الحالية فيها- كما زعمه بعض علماء العربية- فهي كلام آخر مستأنف مما يعطيهم الله.
[ وتجري من تحتهم الأنهار ] أي : من تحت قصورهم وغرفهم العالية [ تجري من تحتهم الأنهار ] سائلة. يقول بعض العلماء : انهار الجنة تجري في غير أخدود. ويذكرون أن المؤمن في غرفته العالية قد يشير إلى النهر تحته فيصعد إليه حتى يقضي منه حاجته. كما يأتي في تفسير قوله :[ عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا( ٦ ) ]( الإنسان : آية ٦ ) ولا غرابة في ارتفاع الماء إلى ولي الله في غرفته من الأرض ؛ لأنه يشاهد في الدنيا ما هو أعظم من هذا وأغرب ؛ لأنك أيام البلح تأخذ بلحة من نخلة طويلة سحوق، فإذا ضغطت على البلحة بضرسك طار منها الماء ! ! وهذا الماء إنما أخذته من عروقها، فصعد من ثرى الأرض ومن عروق النخلة وطلع مع هذا الجذع القوي الخشن، طلع معه الماء ورفعه الله من هذا البعد العالي بقدرته، فمن فعل هذا فلا يصعب عليه أن يرفع الماء إلى غرف المؤمنين العالية. وهذه الأنهار مختلفة الألوان والأشكال، كما قال تعالى :[ فيها انهار من ماء غير أسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ]( محمد : آية ١٥ ). وهذا معنى :[ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ] ( في هذا الموضع وقع للشيخ ( رحمه الله ) سهو حيث ساق خاتمة الآية التي في سورة يونس :" [ في جنات النعيم ] وفسر هذا القدر منها، وقد نبه الشيخ- رحمه الله- على ذلك أثناء الدرس ولم يتفطن له. وعلى كل فلم يفت من تفسير آية الأعراف شيء، وإنما صار الكلام على ذلك القدر من سورة يونس من باب الزيادة ) ( يونس : آية ٩ ) تارة يفرد الجنة نظرا إلى أنها اسم جنس، وتارة يجمعها. وإضافتها إلى النعيم لأنهم يتنعمون فيها بجميع اللذائذ، وتظهر على وجوههم نضرة النعيم، فهم في غاية النعيم، والنعيم ضد البؤس، فهم في نعمة دائمة ظاهرة آثارها على أبدانهم، في نضرة وجمال وسرور وغبطة، لا يشيبون ولا يهرمون ولا يمرضون ؛ ولذا قال :[ في جنات النعيم ]( يونس : آية ٩ ).
[ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ]( الأعراف : آية ٤٣ ) بين الله انه لما أدخل أهل الجنة حمدوا الله على نعمه، وذلك ذكره عنهم في مواضع كثيرة كقوله عنهم أنهم قالوا :[ الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب( ٣٥ ) ]( فاطر : الآيتان٣٥، ٣٤ ) وقال عنهم أنهم حمدوه أيضا فقالوا :[ الحمد لله ] الحمد : معناه كل ثناء جميل ثابت لله ( جل وعلا ) ؛ لأنه يستحقه لذاته ؛ ولأنه يستحقه علينا بما أنعمم علينا حيث أدخلنا هذا النعيم الخالد الذي لا يزول.
[ الحمد لله الذي هدانا لهذا ] أي : وفقنا للطريق التي ينال بها هذا الثواب العظيم وهو الجنة. نحمد الله على أن وفقنا في دار الدنيا، وهدانا إلى الإيمان به واتباع رسله حتى نلنا بذلك العمل الصالح هذا الجزاء المقيم، والنعيم العظيم. [ الذي هدانا لهذا ] ثم قالوا :[ وما كنا لنهتدي ]( الأعراف : آية ٤٣ ) هذه اللام هي التي تسمى في النحو بلام الجحود، وهي تؤكد النفي، تؤكد نفي هدايتهم لولا الله هداهم، وتسمى ( لام الجحود ) ولا تكون إلا بعد كون منفي، نحو : ما كان، ولم يكن، والفعل منصوب بعدها ب( أن ) مضمرة.
[ وما كنا لنهتدي ] إلى الطريق التي هذا ثوابها وجزاؤها [ لولا أن هدانا الله ]( الأعراف : آية ٤٣ ) المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في محل رفع ؛ لأن ما بعد ( لولا ) مبتدأ خبره محذوف غالبا. والمعنى : لولا هداية الله موجودة لما نلنا هذا الجزاء ؟، ولما هدينا إلى هذا العمل الذي هذا جزاؤه. وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا الشامي، اعني ابن عامر :[ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ] وقرأه ابن عامر وحده :[ ما كنا لنهتدي ] بلا واو. والمصاحف التي أرسلت إلى الشام ليس فيها الواو، وإنما فيها :[ ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ] بلا واو، وهما قراءتان سبعيتان، ولغتان فصيحتان ؛ لأجل هذا الاختلاف بزيادة حرف في بعض القراءات الصحيحة وحذفه من القراءات الأخرى كان ذلك سبب تعدد نسخ المصحف العثماني، تعدد نسخه لتكون نسخة فيها الواو ونسخة لا واو فيها، فبعض المصاحف التي أرسلت إلى الشام ليس فيها الواو وإنما فيها :[ ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ] بلا واو، وهي قراءة الشامي، وهو ابن عامر. وهذا معنى قوله :[ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ].
ثم قالوا على سبيل الفرح والغبطة والسرور :[ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ]( الأعراف : آية ٤٣ ) والله لقد جاءتنا رسل ربنا في دار الدنيا بالحق ؛ لأن العمل الصالح الذي أمرتنا به، والجزاء الذي وعدتنا أن نناله هذا هو قد تحقق لنا، ودخلنا الجنة التي كانوا يعدوننا في دار الدنيا على الأعمال الصالحة. والله لقد جاءتنا رسل ربنا في دار الدنيا بالحق الثابت الذي لا شك فيه فما كذبونا ولا دلسوا لنا، وإنما جاؤونا بالحق. وقالوا هذا على وجه السرور والغبطة ؛ لأن من دخل في غبطة وسرور يتكلم بهذا الكلام تلذذا لا يقصد غير ذلك.
ولما قالوا هذا الكلام :[ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ] قالوا : هذا [ ونودوا ]( الأعراف : آية ٤٣ ) أي : نودوا من قبل الله، ناداهم الله أو ملك من الملائكة بأمر الله[ أن تلكم الجنة ]( الأعراف : آية ٤٣ ) ( أن ) هذه فيها وجهان : زعم بعضهم انها المخففة من الثقيلة. و( أن ) إذا خففت من الثقيلة- ( أن ) المفتوحة- لم يبطل عملها، ويكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبرها. وأظهر القولين أنها هنا هي التفسيرية. ومعنى التفسيرية أن ما بعدها يفسر ما قبلها، فنفس النداء الذي نودوا به هو قوله :[ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون[ ( الأعراف : آية ٤٣ ) وضابط أن التفسيرية : التي يكون ما بعدها تفسيرا لما قبلها هي أن يتقدمها ما فيه معنى القول وليس فيه حروف القول، أعني :( القاف، والواو، واللام ) وقد تقدمها ما فيه معنى القول ؛ لأن النداء فيه معنى القول، وليس فيه حروف القول، فيظهر أنها تفسيرية، خلافا لمن زعم أنها مخففة من الثقيلة.
[ تلكم الجنة ] ( تلك ) إشارة إلى الجنة، نظرا إلى أنها اسم جنس. وقوله :" كم " هو حرف خطاب للمخاطبين ؛ لأنهم جمع كثير [ وتلكم الجنة أورثتموها ]معناه : أعطيتموها. فإيراث الجنة : إعطاؤها وليس المراد به أنها مأخوذة من أموات كميراث الم
[ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ] وهذا النداء للعلماء فيه سؤالات : هل نادى جميع أهل الجنة جميع أهل النار ؟ أو نادى بعضهم بعضا ؟ وظاهر القرآن أنه نداء عام. وقال بعض العلماء : كل ناس من المؤمنين ينادون من كانوا يعرفونهم في الدنيا من الكفار : يا أصحاب النار هل وجدتم ما وعد ربكم حق ؟ فنحن وجدنا ما وعدنا من النعيم حقا، فهل وجدتم ما كان يقال لكم من الوعيد بالعذاب حقا ؟ [ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ] ( أن ) هذه كالتي قبلها في القول بأنها تفسيرية أو مخففة من الثقيلة. وقد ذكرنا الكلام عليها آنفا.
[ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا ] من الجنة، والنعيم المقيم، والخلود الأبدي في نعم الله، وجدناه حقا من الله، وصدقنا وعده [ الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ]( الزمر : آية ٧٤ ) فوجدنا وعد الله بالنعيم، والخلود الأبدي في الجنة على ألسنة الرسل، وجدناه حقا، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من العذاب، والنكال، ودخول النار، هل وجدتموه حقا ؟ وهذا سؤال توبيخ وتقريع وشماتة، والعياذ بالله. قالوا في ذلك الوقت معترفين حيث لا ينفع الاعتراف، نادمين حيث لا ينفع الندم " [ قالوا نعم ]( الأعراف : آية ٤٤ ) وجدنا ما وعده الله من العذاب والنكال على السنة الرسل حقا، ووجدنا أن تكذيبنا به في دار الدنيا سفاهة منا وجناية على أنفسنا.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا عليا الكسائي [ قالوا نعم ] بفتح النون والعين. وقرأه الكسائي وحده :[ قالوا نعم ]، و( نعم ) و( نعم ) لغتان كلاهما تأتي بمعنى الأخرى على الصواب. و( نعم ) لا تكون جوابا إلا لاستفهام مثبت، ولا يكون جوابا لاستفهام منفي، فلو كانت الآية :" ألم تجدوا ما وعدكم ربكم حقا " بالنفي لما جاز أن يجاب ب( نعم ) وإنما يجاب ب( بلى ) هذا هو المعروف ؛ لأن المكان الذي تصلح به ( بلى ) لا تصلح به ( نعم ) والمكان الذي تصلح به ( نعم ) لا تصلح به ( بلى ). و( بلى ) تأتي في اللغة العربية وفي القرآن العظيم لمعنيين لا ثالث لهما :
أحدهما : أن ( بلى ) تأتي لنفي النفي، فهي نقيضة ( لا ) لأن ( لا ) لنفي الإثبات، و( بلى ) لنقيض النفي، فإذا جاء نفي في القرآن ثم جاءت بعده ( بلى ) فإن ( لا ) تنفي ذلك النفي، ونفي النفي إثبات. فيصير ما بعد ( بلى ) إثبات ؛ لأنها نفت النفي الذي قبلها، ونفي النفي إثبات. وهذا كثير في القرآن، كقوله :[ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ] نفوا البعث بأداة النفي التي هي ( لن ) [ قل بلى ] فنفى الله نفيهم للبعث، فثبت البعث ؛ ولذا قال :[ وربي لتبعثن ]( التغابن : آية ٧ ) وكقوله :[ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة ]( سبأ : آية ٣ ) نفوا إتيان الساعة بحرف النفي الذي هو ( لا )، قال الله :[ بلى ]( سبأ : آية ٣ ) فنفت نفيهم، وأثبتت إتيان الساعة ؛ ولذا قال بعده :[ لتأتينكم ]( سبأ : آية ٣ ) وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.
المعنى الثاني : أن تأتي ( بلى ) جوابا لاستفهام مقترن بالنفي خاصة، لا لاستفهام إيجابي، كقوله :[ ألست بربكم قالوا بلى ]( الأعراف : آية ١٧٢ )[ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى[ ( يس : آية ٨١ ) وهكذا. ولا يجوز أن يقال في هذا : نعم. أما إن كان السؤال بالإثبات فالجواب ب( نعم ) لا ب( بلى ) فلو قلت : هل جاء زيد ؟ فالجواب : نعم قد جاء زيد. وقلت : أليس زيد قد جاء ؟ فالجواب : بلى. لا ب( نعم ). وما سمع من كلام العرب في إتيان ( نعم ) بعد الاستفهام المقترن بالنفي الذي هو موضع ( بلى ) فإنه شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وقد سمع في كلام العرب إتيان لفظة ( نعم ) في محل ( بلى ) في الاستفهام المقترن بالنفي ومن شواهده قول الشاعر :
أليس الليل يجمع أم عمرو | وإيانا ؟ فذاك لنا تداني |
نعم، وترى الهلال كما أراه | ويعلوها النهار كما علاني |
وقوله :[ قالوا نعم ]( الأعراف : آية ٤٤ ) هو حرف إثبات، جواب لاستفهام إثبات. معناه : وجدنا ما وعدنا ربنا من العذاب الأليم والنكال وجدناه حقا.
[ فأذن مؤذن بينهم ]( الأعراف : آية ٤٤ ) التأذين في لغة العرب : الإعلام. تقول العرب : أذن الرجل. إذا علم. ومنه الأذان للصلاة ؛ لأنه الإعلام بدخول وقتها، ودعاء الناس إليها[ فقل أذانتكم على سواء ]( الأنبياء : آية ١٠٩ ) أعلمتكم، وآذنه : إذا أعلمه. ومنه قول الحارث بن حلزة :
آذنتها ببينها أسماء | رب ثاو يمل منه الثواء |
[ بينهم أن لعنة الله على الظالمين ]( الأعراف : آية ٤٤ ) قرأ هذا الحرف نافع، وعاصم، وقنبل عن ابن كثير، وأبو عمرو، وقرأوا كلهم :[ أن لعنة الله ] بتخفيف ( أن ) وضم تاء ( لعنة ). وقرأه الباقون- وهم حمزة، والكسائي، وابن عامر، والبزي عن ابن كثير :/ [ أن لعنة الله ]. بتشديد ( أن ) ونصب ( تاء ) [ لعنة ].
واللعنة في لغة العرب : الإبعاد والطرد. فالرجل إذا كان ذا جرائم، وذا جرائر، يطلبه هؤلاء بدم، وهؤلاء بدم، ثم إن قومه تبرؤوا منه وطردوه لئلا تقاتلهم القبائل التي يطالبونه بالدم، إذا نفوه وطردوه يسمى رجلا لعينا، ومنه قول الشماخ أو غيره :
ذعرت به القطا، ونفيت عنه | مقام الذئب، كالرجل اللعين |
[ فأذن مؤذن بينهم ]( الأعراف : آية ٤٤ ) أي : نادى مناد وأعلم معلم. [ أن لعنة الله على الظالمين ] الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا وكانوا يضعون العبادة في غير موضعها- والعياذ بالله- وهم الكفرة. وهذا من النكال بالكفار لما اعترفوا بأن الوعيد حق عليهم نادى مناد يدعو عليهم باللعنة- والعياذ بالله- ويصفهم بالظلم الذي استحقوا به عذاب الله ونكاله.
[ يصدون عن سبيل الله ] العرب تستعمل ( صد ) استعمالين : تستعملها متعدية إلى المفعول، تقول : صد زيد عمرا يصده، ومصدر هذه ( الصد ) لا غير. ومنه :[ وبصدهم عن سبيل الله ]( النساء : آية ١٦٠ ) صده يصده صدا، على القياس ؛ لأن كل فعل ثلاثي متعد إلى المفعول ينقاس مصدره على ( فعل ) بفتح فسكون، فصده صدا ؛ لأن مصدرها :( الصد ) على القياس. وهذه مضمونة الصاد، وليس فيها إلا الضم. تقول : صده يصده صدا، لا غير.
الثانية : يستعملون ( صد ) لازمه غير متعدية إلى المفعول، تقول : كان زيد ذاهبا إلى الشام فصد عنه إلى العراق. أي : مال عنه إلى العراق، لازما، ومصدر هذه :( الصدود ) على القياس أو الغلبة. وفي مضارعها ضم الصاد وكسرها. تقول : صد زيد عن الأمر يصد ويصد. وعليه القراءتان السبعيتان :[ وإذ قومك منه يصدون ][ إذا قومك منه يصدون ] ( الزخرف : آية ٥٧ ) و( صد ) : هنا في هذه الآية هي ( صد ) المتعدية للمفعول.
[ الذين يصدون عن سبيل الله ] أي : يصدون الناس عن سبيل الله. و( السبيل ) : الطريق. وإنما أضيفت الطريق إلى الله لأنها السبيل التي أمر بسلوكها، ووعد بالثواب من سلكها، ونهى عن عدم سلوكها، ووعد بالعقاب من لم يسلكها.
والسبيل في لغة العرب وفي القرآن تذكر وتؤنث، فمن تأنيثها في القرآن :[ قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله ] ( يوسف : آية ١٠٨ ) وقوله :[ ولتستبين سبيل المجرمين ]( الأنعام : آية ٥٥ ) على من قرأ [ سبيل ] بالرفع : تستبين هي أي سبيل المجرمين.
وقد يذكر السبيل كقوله :[ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ]( الأعراف : آية ١٤٦ ). وسبيل الله : هي دين الإسلام وطاعة الله التي جاءت بها رسله.
[ ويبغونها ] أي : يطلبونها، وهي السبيل، أنثها في هذه الآية. يطلبونها [ عوجا ] هذا مصدر بمعنى الوصف، أي : في حال كونها معوجة، يبغونها معوجة زائغة مائلة، فيها عبادة الأوثان، والشركاء، والأولاد لله. يطلبون هذه السبيل العوجاء التي ليس فيها استقامة. أما القرآن العظيم فسبيله ليس فيها عوج، بل هي مستقيمة، كما قال تعالى :[ قرأنا عربيا غير ذي عوج ]( الزمر : آية ٢٨ ) وقال :[ الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا( ١ ) ]( الكهف : آية ١ ) فسبيل الله ليس فيها عوج. والسبيل التي يبغيها الكفار [ ويبغونها عوجا ]( الأعراف : آية٤٥ ) أي : معوجة ذات عوج، عوجاء غير مستقيمة لما تدعو إليه من الكفر بالله، وادعاء الشركاء والأولاد ل. وهذا معنى :[ يبغونها عوجا ].
[ وهم بالآخرة كافرون ]( الأعراف : آية ٤٥ ) وهم مع ذلك كافرون بالآخرة، جاحدون بها.
[ بالآخرة ] : هي دار الآخرة، وقد بينا مرارا أنها إنما سميت آخرة لأنها ليس بعدها مرحلة أخرى.
ويجب على كل إنسان أن ينظر في مراحله، وتاريخ مراحله، حتى يفهم الآخرة، لأن الله أمره بذلك حيث قال :[ فلينظر الإنسان مم خلق( ٥ ) خلق من ماء دافق( ٦ ) ]( الطارق : الآيتان٦، ٥ ) فاعلم أيها المسكين- الذي هو الإنسان- أن أول مراحلك تراب بله الله ( تبارك وتعالى ) بماء فصار ذلك التراب طينا، ثم بعد أن صار طينا ونقله الله من طور إلى طور خمر حتى ( صار )( ما بين المعقوفتين ( ) زيادة يقتضيها السياق ) طينا لازبا، وتغيرت ريحه حتى صار حمأ، ثم إنه يبس حتى صار صلصالا، ثم إن الله نفخ فيه الروح، وجعله بشرا سويا خلق منه آدم، جعله ذا جسد ودم ولحم، ثم إنه خلق من ضلعه امرأته حواء، كما قال :[ خلقكم من نفس واحدة ] قال في الأعراف :[ وجعل منها زوجها ]( الأعراف : آية ١٨٩ ) وقال في أول النساء :[ وخلق منها زوجها ] وقال في الزمر :[ ثم جعل منها زوجها ]( الزمر : آية ٦ ) وقد خلق حواء من آدم بلا نزاع كما نصت عليه هذه الآيات القرآنية، ثم بعد ذلك كانت طريق التناسل أيها الإنسان أن تكون أولا نطفة من مني، حقيرة مهينة، من ماء الرجل وماء المرأة في رحم المرأة، ثم تمكث ما شاء الله وأنت نطفة، ثم يقلب الله هذه النطفة علقة، أي : دما جامدا إذا صب عليه الماء الحار لم يذب، ثم إن الله يقلب هذا الدم مضغة، أي : قطعة لحم كما يقطعه آكل اللحم ليمضغه، ثم إن الله يقلب هذه اللحمة هيكل عظام يركب بعضها ببعض، يركب فيه المفاصل بعضها ببعض، والسلاميات بعضها ببعض، والفقار بعضها ببعض [ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا( ٢٨ ) ]( الإنسان : آية ٢٨ ) ثم إنه ( جل وعلا ) يكسو هيكل هذا العظام اللحم، ويجعل فيه العروق، ويفتح فيه العيون، والأفواه، والآناف، ويجعل الكبد في محلها، والكليتين في محلهما، والطحال في محله، إلى غير ذلك، ثم ييسر لك طريق الخروج من بطن أمك، وهو مكان ضيق، كما قال :[ ثم السبيل يسره( ٢٠ ) ]( عيسى : آية ٢٠ ) ثم يخرجك إلى الدنيا. وقد جاوزنا جميع هذه المراحل ونحن في مرحلة الخروج إلى الدنيا، وهذه المرحلة المحطة التي نحن فيها منا من يسافر منها بسرعة، ومنا من يمكث فيها :[ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ]( الحج : لآية٥ ) ويقال لنا : اعلموا أن السفر طويل، وأن الشقة فادحة، وأنه لا محطة يؤخذ منها الزاد إلا هذه المحطة، فمن لم يتزود من هذه المحطة هلك وانقطع عن القافلة، وبقي في بلاء وويل لا ينقطع. فعلينا أن نتزود من هذه المحطة التي هي محل الزاد [ فإن خير الزاد التقوى ]( البقرة : آية ١٩٧ ) فنأخذ من الأعمال الصالحات، والشقة أمامنا طويلة، والسفر بعيد، والسفر لم ينته. ثم بعد هذه المحطة ننتقل جميعا إلى محطة القبور، وهي محطة من رحلة الإنسان. وسمع بدوي رجلا يقرأ :[ ألهاكم التكاثر( ١ ) حتى زرتم المقابر( ٢ ) ]( التكاثر : آية ١ ) قال : انصرفوا والله من المقابر إلى دار أخرى لأن الزائر منصرف لا محالة. ثم إن القبر محطة ومرحلة من هذه المراحل يخرجنا الله منه جميعا أحياء نساق إلى المحشر [ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ]( الروم : آية ٢٥ ) فنساق جميعا من محطة القبر إلى محطة المحشر في عرصات القيامة، ويلقى الناس فيها ما يلاقون من الأهوال والأوجال ودنو الشمس منهم، وإلجام العرق إياهم كما هو معروف، ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق الشفاعة الكبرى، فإذا جاء الناس، واعتذر لهم آدم، واعتذر لهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وجاؤوا إليه صلوات الله وسلامه عليهم، وقال لهم :" أنا لها ". يعني : أن الله وعده بذلك في دار الدنيا حيث قال له :[ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ]( الإسراء : آية ٧٩ ) ولكنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) لشدة علمه بالله، وتعظيمه لله، يعلم أنه لا شفاعة إلا بإذن الله [ من ذا الذي يشفع عنده، إلا بإذنه ]( البقرة : آية ٢٥٥ )[ ما من شفيع إلا من بعد أذنه ]( يونس : آية ٣ ) فلا يتجرأ على الشفاعة فلتة بسرعة، وإنما يسجد ويلهمه ربه من المحامد ما لم يلهمه أحدا قبله ولا بعده، ولم يزل كذلك حتى يقول له ربه : يا محمد-صلوات الله وسلامه عليه- ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فيشفع صلى الله عليه وسلم الشفاعة الكبرى، ويظهر في ذلك الوقت فضله- صلوات الله وسلامه عليه- على جميع من في المحشر من الأنبياء والمرسلين، كما ظهر فضله عليهم في دار الدنيا لما عرج به من فوق سبع سماوات، واجتمع بهم في بيت المقدس، وصلى بجميعهم بأمر من جبريل كما هو معروف في الأحاديث، فهو سيدهم في الدنيا وسيدهم في الآخرة-صلوات الله وسلامه عليه- ثم إذا أذن الله في الحساب حاسب الناس، ثم إذا انتهى حسابهم تفرقوا في ذلك الوقت فراقا لا اجتماع بعده، وهو قوله تعالى :[ يومئذ يصدر الناس أشتاتا ]( الزلزلة : آية ٦ ) وقوله :[ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون ][ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون( ١٤ ) ]( الروم : آية ١٤ ) وهذا التفرق مذهوب به ذات اليمين إلى الجنة، ومذهوب به ذات الشمال إلى النار، وقد أوضح الله هذه الأشتات في سورة الروم حيث قال :[ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون( ١٥ ) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون( ١٦ ) ]( الروم : الآيتان١٦، ١٥ ) فيذهب بأهل الجنة إلى الجنة، وبأهل النار إلى النار، ويذبح الموت، ويقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. فحينئذ تنقطع الرحلة، وتلقى عصا التسيار، وتكون تلك هي المحطة الأخيرة التي لا انتقال منها أبدا إلى محطة أخرى. فأهل الجنة في نعيم دائم، وأهل النار في عذاب دائم، لن ينتقل هؤلاء إلى منزل آخر، ولا هؤلاء إلى منزل آخر، ولهذا سميت الآخرة لأن ليس بعدها محطة أخرى ينتقل إليها. وهذا لإيضاح معنى ( الآخرة ).
وقوله :[ كافرون ] أي : جاحدون. أصل الكفر في لغة العرب هو : الستر والتغطية، كل شيء سترته وغطيته فقد كفرته. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قيل للزراع : كفار ؛ لأنهم يكفرون البذر في بطن الأرض، يسترونه ويغطونه. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد في معلقته :
يعلو طريقة متنها متواتر | في ليلة كفر النجوم غمامها |
حتى إذا ألقت يدا في كافر | وأجن عورات الثغور ظلامها |
وضرب ذلك الحجاب يبين أن أهل الجنة لا ينالهم شيء من عذاب النار لا من حرها ولا من نتنها ولا من أذاها، كما أن أهل النار لا ينالهم شيء مما في الجنة من النعيم، لا من بردها، ولا من نسيم روائحها الشذية، وهذا معنى قوله :[ وبينهما حجاب ].
[ وعلى الأعراف رجال ] الأعراف في اللغة : جمع عرف، والفعل يجمع على أفعال. والعرف في لغة العرب هو كل مكان من الأرض مرتفع تسميه العرب عرفا، فالجبل المرتفع والرمل المرتفع تسميه العرب عرفا، ومن ذلك عرف الديك لارتفاعه على سائر بدنه، وعرف الفرس لارتفاعه على سائر بدنها، فكل مرتفع تسميه العرب عرفا، وتجمعه على أعراف، وربما قالوا للعرف عرف بضمتين، ومنه قول الكميت :
أبكاك بالعرف المنزل *** وما أنت والطلل المحول
وهذه الأعراف معناها بإطباق المفسرين أماكن مرتفعة عالية، وأكثر المفسرين على أنها هي أعاليها والسور وشرفاته ؛ لأن هذا الحجاب المضروب بين أهل الجنة والنار، والسور الذي له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب له شرفات- أي : أعاليه له شرفات- مرتفعة في أعلاه هي الأعراف التي عليها هؤلاء الرجال المذكورون. وعلى هذا القول أكثر المفسرين، خلافا لمن زعم ان الأعراف مرتفعات فوق الصراط عليها رجال على هذه المرتفعات فوق الصراط، محبوسون عن الجنة، مزحزحون عن النار. والأكثر أن المراد بالأعراف : أعالي ذلك السور وشرفاته المرتفعة عليها رجال. الرجال : جمع الرجل، واختلف في المراد بهؤلاء الرجال الذي هم على الأعراف المذكورة على نحو من اثنين عشر قولا مدارها على قولين كل منهما تفرع منه أقوال :
أحدهما : أن الرجال الذين هم على الأعراف رجال قلت حسناتهم عن سائر اهل الجنة فاستوت حسناتهم وسيئاتهم ؛ لأنه إذا وزن أعمال الجميع بالميزان المتقدم في قوله :[ والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون( ٨ ) ]( الأعراف : آية ٨ ) من ثقلت حسناته على سيئاته بقدر صؤابة- وهي بيضة القملة- دخل الجنة، وكذلك من ثقلت سيئاته على حسناته فخفت كفة حسناته بقدر ذلك دخل النار، ومن اعتدلت سيئاته وحسناته فلم ترجح كفة السيئات، ولم ترجح كفة الحسنات ؛ لأن آحاده قابلت عشراته فلم يكن هنالك رجحان لهذه ولا هذه فهؤلاء هم أصحاب الأعراف على قول جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم. وممن صرح بهذا : عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس-رضي الله عنهم-.
فعلى هذا مدار هذه الأقوال راجع إلى هذا القول، سواء قلنا ما قاله بعضهم من أنهم رجال جاهدوا في سبيل الله، فنهاهم آباؤهم، فعصوا آباءهم وعقوهم بالخروج، وقتلوا في سبيل الله، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عقوق الآباء من دخول الجنة فكانوا على الأعراف.
وكذلك قول من قال : إنهم بروا آباءهم وعقوا أمهاتهم، أو العكس، فمنعهم بر الأمهات من النار، ومنعهم عقوق الآباء من دخول الجنة. إلى نحو هذا من الأقوال فمداره راجع إلى شيء واحد، كما روي مصرحا به عن عبد الله بن مسعود أنه الوزن، وأن من ثقلت موازينه دخل إلى الجنة، ومن خفت موازينه دخل النار، ومن اعتدلت موازينه فلم ترجح على هذا إحدى الكفتين على الأخرى كان على الأعراف. أقوال العلماء تدور على هذا وعلى هذا القول فأصحاب الأعراف أقل عملا من غيرهم من أهل الجنة ؛ لأن لهم سيئات ثبطتهم عن دخول الجنة، ولهم حسنات منعتهم من دخول النار. وعلى هذا فهم أقل مرتبة من أهل الجنة الذين دخلوها.
وقال بعض العلماء : كما سيأتي في أنهم إذا دخلوا الجنة تبقى في كل واحد منهم شامة بيضاء يعرف بها.
وقال بعضهم : يقال لهم مساكين أهل الجنة ؛ لأنهم آخر الداخلين فيها، وسواء قلنا : إن الأعراف هو أعالي السور المذكور وشرفاته، أو أنه مرتفعات فوق الصراط كما قاله بعض العلماء. وعلى هذا القول فأصحاب الأعراف أقل درجة من أهل الجنة.
وذهب قوم إلى أن أصحاب الأعراف من أعظم درجات أهل الجنة، فزعم بعضهم أنهم ملائكة، وزعم بعضهم أنهم الشهداء، وزعم بعضهم أنهم خيار أهل الجنة من العلماء العاملين، والأتقياء الكرام، أنهم جاؤوا لا خوف عليهم ولا هو يحزنون، وأن الله أجلسهم على هذا المكان المرتفع ليشرفوا على أهل النار وأهل الجنة على سبيل النزهة والتمتع بمعرفة أخبار الجميع، وما صار إليه أهل النار وأهل الجنة.
والذين قالوا هذا القول اختلفوا فيهم اختلافا كثيرا، بعضهم يقول : ملائكة. وهذا لا يساعده ظاهر قوله :[ رجال ] لأن الملائكة لا يسمون رجال. واحتجوا بقوله :[ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ]( الأنعام : آية ٩ ) أنهم في صفة الرجال، أو أنهم أنبياء الشهداء، إلى غير ذلك.
وزعم بعضهم أنهم مؤمنو الجن. كما ذكرنا أن العلماء اختلفوا في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة فزعم بعضهم أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة، وإنما جزاؤهم الإجارة من العذاب الأليم كما صرحوا به في قوله تعالى عنهم في سورة الأحقاف عن الجن حيث قالوا :[ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم( ٣١ ) ]( الأحقاف : آية ٣١ ) ولم يقولوا : يدخلكم الجنة. قالوا : فعلموا أنهم إن أجابوا داعي الله وأطاعوه كان جزاؤهم غفران الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم، قالوا : وربما سمى الله الجن رجالا أيضا كقوله :[ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ]( الجن : آية ٦ ) وقد قدمنا ان التحقيق أن المؤمنين من الجن يدخلون كالمؤمنين من الإنس، وانه دل عليه بعض الآيات، كقوله مخاطبا للجن والإنس معا :[ ولمن خاف مقام ربه جنتان[ ( الرحمن : آية ٤٦ ) ثم بين شمول الوعد بهاتين الجنتين للإنس والجن معا فقال بعده :[ فبأي ألاء ربكما تكذبان ]( الرحمن : آية ٤٧ ) وهو خطاب للإنس والجن بالإجماع كما بينا.
وقول من قال : إن أصحاب الأعراف من أعظم أهل الجنة رتبا، أو أنهم ملائكة لا يتجه كل الاتجاه ؛ لأنه يشير إلى عدم اتجاهه قوله :[ لم يدخلوها وهم يطمعون ]( الأعراف : آية ٤٦ ) على التحقيق من أنها في أصحاب الأعراف ؛ لأن الملائكة وخيار أهل الجنة لا يناسب أن يقال فيهم :[ وهم يطمعون ] وإن احتج من قال بأن العرب قد تطلق الطمع على اليقين، إلا أنه ليس بالإطلاق المعروف المشهور الذي يجب حمل القرآن عليه.
وأقوال العلماء في هذا كثيرة، أظهرها الذي عليه الجمهور من الصحابة فمن بعدهم أن أصحاب الأعراف أنهم رجال منعتهم حسناتهم من دخول النار، ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة، ولم يكن هنالك رجحان للحسنات على السيئات، ولا للسيئات على الحسنات. وظاهر القرآن أنهم كلهم ذكور ؛ لأنه قال :[ رجال ] و لم يقل ( نساء ) والمقرر في الأصول : أن لفظة ( الرجال ) لا يدخل فيها النساء. وقال بعض العلماء : إذا ذكر الرجال فلا مانع من دخول النساء بحكم التبع. واستأنسوا لهذا بأن العرب تسمي المرأة ( رجلة )، وتسمية المرأة ( رجلة ) لغة صحيحة معروفة في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
كل جار ظل مغتبطا *** غير جيران بني جبلة
مزقوا ثوب فتاتهم *** لم يراعوا حرمة الرجلة
يعني : المرأة. وقوله :[ وعلى الأعراف رجال ]( الأعراف : آية ٤٦ ) جملة حالية.
[ يعرفون كلا ]( الأعراف : آية ٤٦ ) التنوين تنوين عوض [ كلا ] من أهل الجنة وأهل النار.
[ بسيماهم ] السيما في اللغة : العلامة التي تميز بها الشيء عن غيره. فسيما أهل الجنة : ابيضاض الوجوه، ونضرة النعيم، والحسن، وسيما اهل النار : اسوداد الوجوه، والقبح، والتشويه الخلقي بأكل النار لهم والعياذ بالله [ يعرفون بسيماهم ]( الأعراف : آية ٤٦ ).
ثم بين الله أن أصحاب الأعراف ربما نظروا تارة إلى الجنة، وربما اجبروا إلى النظر إلى أهل النار ؛ لأن منظر النار فظيع جدا، لا ينظر إليه أحد باختياره ؛ ولذا قال :[ ونادوا أصحاب الجنة ]( الأعراف : آية ٤٦ ) إذا نظروا إلى أهل الجنة وما هم فيه من النعيم حيوهم تحية كريمة، نادوهم من مكانهم :[ أن سلام عليكم ]( الأعراف : آية ٤٦ ) ومعنى :[ سلام عليكم ] سلمتم من جميع الآفات، وصرتم في مأمن من كل ما يؤذي. وهذه تحية الإسلام :( سلام عليكم ) لأن ( السلام ) معناه السلامة من كل الآفات ( عليكم )، وهي أحسن تحية يحيا بها، تحية الإسلام أحسن من تحيات الجاهلية وتحايا الملوك. فأحسن تحية هي تحية الإسلام. ( السلام عليكم ) معناه : سلمكم الله من جميع الآفات، ومن كل شيء يؤذيكم. وكان الجاهلية يحيون فيقولون : حياك الله، و( حياك الله ) : أطال الله حياتك. ومن ذلك قيل للسلام : تحية ؛ لأن التحية مصدر : حياه يحييه تحية. أصلها :( تحيية ) لأن المقرر في فن التصريف أن ( فعل ) مضعفة العين إذا كانت معتلة اللام ينقاس مصدرها على ( التفعلة ) كزكاه تزكية، ونماه تنمية، وحياه تحيية، إلا أن الياء أدغمت في الياء فقيل :( تحية ). ومعنى :)حياك الله( : أطال الله حياتك. ومطلق الدعاء بطول الحياة لا يستلزم الخير ؛ لأن الإنسان قد تكون حياته تعسة نكدة يتمنى أن يستريح منها بالموت، فرب حياة يفضل صاحبها عليها الموت، كما قال بعض المتأخرين :
ألا موت يباع فأشتريه *** فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حر *** تصدق بالوفاة على اخيه
فهذا يريد من يتصدق عليه بالموت تفضيلا لها على حياته. ومنه الآبيات المعروفة، قيل لغيره :
المرء يرغب في الحيا *** ة وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويب *** قى بعد حلو العيش مره
وتسوؤه الأيام ح *** تى ما يرى شيئا يسره
كم شامت بي إذ هلك *** ت وقائل لله دره
فالشاهد أن ( حياك الله ) : أي : أطال الله حياتك. طول الحياة لا يستلزم الخير ؛ لأنه ربما يكون في حياة مزعجة قلقة يتمنى أن يموت، فالموت خير منها، كما جاءت الأحاديث الصحيحة المتفق عليها أنه في آخر الزمان يأتي الرجل قبر أخيه فيتمنى كل المنى أن يكون مكانه ميتا، قلقا من حياته، وإيثار للراحة منها من كثرة الفتن، والعياذ بالله.
هذا معنى [ سلام عليكم ] أي : سلمكم الله سلاما. فالسلام اسم مصدر ( سلم ) وقد تقرر في علم العربية أن ( فعل ) مضعفة العين قياس مصدرها ( التفعيل ) إلا إذا كانت معتلة اللام أو مهموزته فالقياس في مصدرها ( التفعلة ) ويكثر إتيان ( الفعال ) بدلا من ( التفعيل ) اسم مصدر، كما تقول : سلم عليه سلاما. أي : تسليما. وكلمه كلام
وما أدري وسوف إخال ادري | أقوم آل حصن أن نساء |
ومعنى :[ الظالمين ] قد قدمنا أن الظلم يطلق على الكفر، وهو أعظم أنواعه ؛ لأن الظلم : وضع الشيء في غير موضعه، وأنه يطلق على ظلم دون ظلم، كظلم المسلم لنفسه. والظاهر أنهم يعنون الكفار، والكفار هم رؤساء الظالمين، كما قال تعالى :[ والكافرون هم الظالمون ]( البقرة : آية ٢٥٤ ) وقال :[ إن الشرك لظلم عظيم ]( لقمان : آية ١٣ ) وقال جل وعلا :[ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين( ١٠٦ ) ( يونس : آية ١٠٦ ) وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله :[ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ]( الأنعام : آية ٨٢ ) قال : بشرك. وقد قدمنا أن كل من وضع شيئا في غير موضعه فقد ظلم، وان أكبر أنواع الظلم وضع العبادة في غير الخالق ؛ لأن أكل الإنسان رزقه ونعمه وتقلبه في فضله وهو يعبد غيره وضع للعبادة في غير موضعها. وذلك معروف في كلام العرب، فكل من وضع شئيا في غير موضعه تقول له العرب : ظالما، وقد ذكرنا مرارا أنهم يسمون الذي يضرب لبنه قبل أن يروب ( ظالما ) لأنه وضع الضرب في غير موضعه ؛ لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده، فهو ضرب في غير موضعه، فهو ظلم. وهذا معروف في كلامهم. وفي لغز الحريري في مقاماته :" هل يجوز أن يكون الحاكم ظالما ؟ قال : نعم إذا كان عالما " يريد أن القاضي إذا كان يضرب لبنه قبل أن يروب لا مانع من أن يستقضى إذا كان من أهل العلم، وهو معروف كثير في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
وقائلة ظلمت لكم سقائي | وهل يخفى على العكد الظليم |
وصاحب صدق لم تربني شكاته | ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر |
إلا الواري لأيا ما أبينها | والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد |
فأصبح في غبراء بعد إشاحة | من العيش مردود عليها ظليمها |
ومعنى قوله :[ لا تجعلنا مع القوم الظالمين ] أي : لا تصيرنا مع أهل النار في ذلك العذاب الشديد والإهانة العظيمة- والعياذ بالله- وهذا معنى قوله :[ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ]( الأعراف : آية ٤٧ ) في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه قالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير، وأبو عمرو في جميع الروايات :[ تلقا أصحاب النار ]( الأعراف : آية ٤٧ ) بحذف إحدى الهمزتين مع المد بناء على أن المحذوفة الأخيرة، ومع عدم المد بناء على أن المحذوفة الأولى.
وقرأه ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير :[ تلقاء اصحاب النار ] بمد الثانية همزا للأولى، ومدها نظرا للساكن بعدها.
وقرأه بقية القراء السبعة، وهم حمزة، والكسائي، وعاصم، وابن عامر :[ تلقاء أصحاب النار ] بتحقيق الهمزتين.
والتلقاء : مصدر، معناه أن يكون الشيء جهة الشيء الذي يتلقى منها. ولم يأت مصدر على ( التفعال ) بكسر العين إلا ( التلقاء، والتبيان ) أما غير ذلك من المصادر فهو بالفتح في كل شيء، كالتسيار، والتذكار، والتطواف. أما الأسماء فهي تأتي كثيرا على ( تفعال ) كتقصار، وما جرى مجراه، كما هو معروف في علم العربية. [ قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ]( الأعراف : آية ٤٧ ).
أما ( الغنى ) بالكسر والقصر فهو ضد الفقر. وأما ( الغناء ) بالكسر والمد فالمراد به المطرب قبحه الله. وأما ( الغناء ) بالفتح والمد كسحاب فهو النفع، ومنه قول الشاعر :
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا *** قول الأحبة : لا تبعد وقد بعدا
وقول هبيرة بن أبي وهب على إحدى روايتي بيته :
لعمرك ما وليت ظهري محمدا | وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل |
ولكنني قلبت أمري فلم أجد | لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي |
[ وما كنتم تستكبرون ]( ما ) مصدرية. أي : ولم يغن عنكم كونكم مستكبرين في الدنيا متكبرين متعاظمين، لم يغن عنكم ذلك الاستكبار والتعاظم شيئا ؛ لأنكم صرتم إلى دركات النار. وبعض المفسرين يزعم أنهم ينادون الرؤساء بأسمائهم فيقولون : يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن حلف، يا فلان بن فلان، يا عتبة بن ربيعة، يا فلان بن فلان [ ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ] توبيخا وتقريعا لهم والعياذ بالله.
وظاهر القرآن أن هذا التوبيخ والتقريع من أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين هم من النار، وأصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة وأهل النار، ولا مانع من أن الله يطلع من في الجنة على من في النار كما سيأتي في قوله :[ أن أفيضوا علينا من الماء ]( الأعراف : آية ٥٠ ) وستأتي قصة الرجل في سورة الصافات ؛ لأن الله ذكر في الصافات قصة رجل واجملها، والمفسرون يبسطونها ويشرحونها، إلا أن شرحهم لها وبسطها من القصص الإسرائيلية التي لا يعول عليها، إلا أن القرآن جاء بقدر منها كاف. زعموا أنه كان رجلان في دار الدنيا شريكين ولهما مال عظيم، فاقتسما المال، وكان أحدهما مسلما والآخر كافرا، فكان المسلم يقول للكافر : يا أخي تصدق من مالك واتق الله، وذلك يقول له : انت مفقود العقل كيف نحيا بعد الموت ؟ هذا أمر لا يكون وأنت لا عقل لك ! ! ثم إن الكافر اشترى بساتين جميلة، ثم سأل ذلك عن الثمن فقيل : اشتراها بكذا، فقال : اللهم إن فلانا اشترى كذا وكذا من البساتين بكذا وكذا من المال، اللهم إني أشتري إليك من بساتين الجنة بمثل ما اشترى، ثم أخذ قدر الثمن وتصدق به. ثم إن الكافر تزوج امرأة جميلة بارعة في الجمال، وبذل لها مهرا عظيما. فقال المؤمن : اللهم إن فلانا تزوج فلانة، وبذل لها من المال كذا، اللهم إني أخطب إليك بقدر ذلك المال من الحور العين، ثم تصدق به على الفقراء. وهكذا إلى أن نفد ما عنده. فجاء لصاحبه الكافر يريد أن يعمل أجيرا عنده فطرده ومنعه، وكان يراوده على الرجوع إلى الكفر، فدخل ذلك المؤمن الجنة وذلك الكافر النار، فبعض الأوقات كان ذلك المؤمن يتحدث مع إخوانه في نعيم الجنة، فأخبرهم أنه كان له صاحب في دار الدنيا من أمره كيت وكيت، وقال لهم : انظروا معي في النار لنعلم ما صار إليه، وننظر ماذا كان مصيره. فقالوا له : لا حاجة لنا فيه، ولا معرفة لنا به، وأنت إن شئت فانظر. فنظر في النار فرآه يتقلب في دركات الجحيم، وهذا الذي ذكرنا الآن تفاصيله إسرائيليات تحكى ولا يعول عليها. والصحيح الثابت هو ما نص عليه القرآن في سورة الصافات، وهو قوله :[ وعندهم قاصرات الطرف عين ( ٤٧ ) كأنهن بيض مكنون( ٤٩ ) فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( ٥٠ ) قال قائل منهم إني كان لي قرين( ٥١ ) ] يعني في دار الدنيا [ يقول أءنك لمن المصدقين( ٥٢ ) ]وفي القراءة الأخرى :[ يقول أنك لمن المصدقين( ٥٢ ) ][ لمن المصدقين ] [ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون( ٥٣ ) قال هل أنتم مطلعون( ٥٤ ) ]أي : مطلعون معي لننظر مصيره [ فاطلع ] أي : فاطلع هو، أي : صاحبه المؤمن من الجنة إلى النار [ فرءاه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين( ٥٦ ) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين( ٥٧ ) ]( الصافات : الآيات ٤٧-٥٧ ). وقصة هذا الرجل التي ذكرناها استطرادا تدل على المباعدة من قرين السوء ؛ لأن هذا الرجل المؤمن الكريم حلف بالله وهو في الجنة ان قرينه قرين السوء كاد أن يهلكه ويلقيه في النار حيث قال :[ تالله إن كدت لتردين ( ٥٦ ) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين( ٥٧ ) ] أي : معك في النار ؛ ولذا قال جل وعلا :[ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون( ٤٨ )
واختلف في قائل هذا القول، فظاهر القرآن أنه من بقية كلام أصحاب الأعراف، يوبخون رؤساء أهل النار، ويقولون لهم : أهؤلاء الضعفاء المساكين الذين كنتم تسخرون منهم في الدنيا، وتستهزئون بهم، وتضحكون منهم، وتقولون : الله أعظم من أن يعبأ بهؤلاء، والله لا يدخلهم جنة، ولا يدخلهم نعيما أبدا ! ! [ أهؤلاء ] الضعفاء المساكين الذين كنتم تستهزئون بهم في الدنيا وتسخرون منهم وتقسمون –تحلفون بالله- [ لا ينالهم الله برحمة ] ماذا قال لهم الله ؟ قال لهم :[ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا انتم تحزنون ]( الأعراف : آية ٤٩ ) وعلى هذا فيكون أصحاب الأعراف قد وبخوا رؤساء الكفر والقادة بانهم لم يغن عنهم تكبرهم في الدنيا وجمعهم، وأن الضعفاء المساكين الذين كانوا يسخرون منهم أحلهم الله دار كرامته، ونفى عنهم الخوف والحزن أبدا.
وقال بعض العلماء :[ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ] هي من كلام الله يوبخ بها الكفار، أو من كلام بعض الملائكة أمره بذلك، وأن قوله :[ ادخلوا الجنة ] راجعه إلى أصحاب الأعراف، أن أصحاب الأعراف بعد أن وبخوا أهل النار وهم بين الجنة والنار يطمعون أنه بعد ذلك يرحمهم الله فيتفضل عليهم، ويقول لأصحاب الأعراف :[ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ] وهذا الوجه الأخير ذكره جماعة كثيرة من المفسرين، والأول أظهر، وإن كان القائل بهذا الأخير كثيرا جدا من علماء التفسير.
والجنة هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه.
[ لا خوف علكم ] قد بينا أن الخوف في لغة العرب هو : الغم من أمر مستقبل- أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه- وان الحزن- يسمى ( حزنا ) ويسمى ( حزنا ) وفعله يأتي على ( حزن وحزن ) ومضارعه يأتي على ( يحزن ) و( يحزن )- أنه والعياذ بالله- غم من أمر فائت. تقول : فلان حزين. إذا أصابته مصيبة وكان حزينا من أمر قد مضى ووقع. وتقول : فلان خائف إذا كان مغموما من أمر يتوقعه ولم يأت بعد. هذا أصل الخوف والحزن في لغة العرب- اعاذنا الله منهما- وربما وضعت العرب أحدهما في موضع الآخر فعبرت بالخوف عن غم من أمر فائت. وربما عبروا بالحزن عن الغم من أمر مستقبل، ربما وضعت احدهما في موضع الآخر. وهذا معنى قوله :[ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ].
[ أفيضوا علينا من الماء ] إفاضة الماء : صبه بكثرة وسعة.
[ أو مما رزقكم الله ]( الأعراف : آية ٥٠ ) ( أو ) هنا مانعة خلو مجوزة جمع، يجوز أن يكون الماء وحده، أو ما رزقهم الله، أو الجميع.
[ أو مما رزقكم الله ] بعضهم يقول : مما رزقكم الله من الأنواع التي تشبه الماء كالألبان وكالخمر ؛ لأن الإفاضة يظنون أنها تختص بالسائلات، وعلى هذا قدروا في قوله :[ أو مما رزقكم الله ] أو ألقوا إلينا مما رزقكم الله. وهذا وإن كان سائغا في اللغة العربية- أن يحذف فعل يدل ( عليه )( في الأصل :" على " ) المقام، وهذا موجود كثيرا في اللغة العربية- إلا أنه لا يحتاج إليه في هذه الآية الكريمة، وهو معروف في كلام العرب، كقول الراجز :
علفتها تبنا وماء باردا *** حتى شتت همالة عيناها
لأن الماء البارد لا يعلف. يعني : علفتها تبنا وسقيتها ماء، ومنه قول الآخر :
إذا ما الغانيات برزن يوما *** وزججن الحواجب والعيونا
لأن العيون لا تزجج. والمعنى : وأكحلن العيون. وقول الآخر :
ورأيت زوجك في الوغى *** متقلدا سيفا ورمحا
لأن الرمح لا يتقلد. أي : وحاملا رمحا. وهذا كثير في المنصوبات. ومن أمثلته في المرفوعات قوله جل وعلا- على أحد التفسيرين- [ يصهر به ما في بطونهم والجلود( ٢٠ ) ] لأن الجلود لا تصهر. أي : لا تذاب. معناه : وتحرق الجلود. ونظيره في المرفوعات من كلام العرب قول لبيد بن ربيعة في معلقته :
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت *** بالجلهتين ظباؤها ونعامها
لأن النعام لا يطفل، وإنما هو يبيض حتى بعد ذلك ينفلق البيض عن الأطفال. هكذا قال بعضهم، والتحقيق أن إفاضة الشيء بكثرة قد يكون في المائعات وغير المائعات، وقد أطلقه الله على الآدميين المفيضين من عرفات وهم ليسوا من المائعات، كما قال :[ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ]( البقرة : آية ١٩٩ ) [ فإذا أفضتم من عرفات ] ( البقرة : آية ١٩٨ ) والعرب تقول :" أفاض علينا من طعامه، وأفاض علينا من رزقه ". إذا أكثر، كما هو معروف. فلا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذهب إليه كثير من المفسرين.
[ أو مما رزقكم الله ] من مآكل الجنة ومشاربها، يطلبونهم ويستجدونهم. قال بعض العلماء : يسألون مع اليأس. وقال بعضهم : لهم طمع لشدة ما هم فيه. فأجابهم المؤمنون في الجنة، فقالوا :[ إن الله حرمهما ] أي : الشيئين اللذين ( سألتم )( في الأصل : " سألتما " )، وهما : الماء وما رزقنا الله من نعيمه غير الماء.
[ حرمهما على الكافرين ]( الأعراف : آية ٥٠ ) والتحريم هنا تحريم كوني قدري، أي : منعهما من الكافرين ؛ لأن التحريم يطلق في القرآن وفي لغة العرب على التحريم الشرعي، وعلى التحريم بمعنى المنع. وليس المراد هنا أنهما شرعا محرمات، ولكنه تحريم قدري، وأن الله منع منهما الكافرين منعا باتا بقدره وقضائه، ونظيره من التحريم بالمعنى القدري لا بالمعنى الشرعي قوله :[ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ]( المائدة : آية ٢٦ )وقوله جل وعلا :[ وحرمنا عليه المراضع ]( القصص : آية ١٢ ) لأن الرضيع لا يؤاخذ بالتحريم الشرعي حتى يكون عليه حرام أو حلال. والمعنى : منعناه منهما. [ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون( ٩٥ ) ]( الأنبياء : آية ٩٥ ) هو من التحريم بمعنى المنع كونا وقدرا. والتحريم بمعنى المنع معروف في كلام العرب، مشهور في لغتهم التي نزل بها القرآن، ومنه قول الشاعر :
حرام على عيني أن تطعم الكرى *** وأن ترقأ حتى ألاقيك يا هند
فمعنى " حرام على عيني أن تطعم الكرى " : ممنوعتان من ذوق النعاس والنوم. ونظيره قول امرئ القيس لفرسه :
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري *** إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي : لا تقدرين عليه. فمعنى :[ إن الله حرمهما على الكافرين ]حكم بمنعهم منهما حكما باتا، كما قال ( جل وعلا ) عن عيسى بن مريم :[ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ]( المائدة : آية ٧٢ ) وكذلك الكفار كما أن الجنة حرام عليهم فما فيها من الماء والرزق والنعيم حرام عليهم لا يذوقونه أبدا. وهذا معنى قوله :[ إن الله حرمهما على الكافرين ]
ومعنى اتخاذهم الدين لهوا ولعبا : أنهم يسخرون من القرآن، ويسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ضعفاء المسلمين، يستهزئون بالدين وبأهل الدين. وبذلك اتخذوا الدين لهوا ولعبا كما قال ( جل وعلا ) أنهم إذا مر بهم ضعفاء المسلمين :/[ وإذا مروا بهم يتغامزون( ٣٠ ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين( ٣١ ) ]( المطففين : الآيتان٣١، ٣٠ ) ويسخرون منهم ويستهزئون كما قال ( جل وعلا ) عنهم إنهم يقولون :[ إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون( ١٥ ) ]( البقرة : الآيتان١٥، ١٤ ) ويسخرون من المؤمنين كما سخروا من نبي الله نوح، وقالوا له : بعد أن كنت نبيا صرت نجارا. وقال لهم :[ قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم( ٣٩ ) ]( هود : الآيتان٣٩، ٣٨ ) وهذا معنى اتخاذهم الدين لهوا ولعبا.
[ وغرتهم الحياة الدني ]( الأعراف : آية ٥١ ) أي : خدعتهم الدنيا بلذائذها ونعيمها، وظنوا أنها غير زائلة، وأنها لا جزاء بعدها، فألهتهم لذاتها- والعياذ بالله- والانهماك فيها حتى ماتوا وهم كفار.
وهذه الآيات ينبغي للمسلم أن يعتبر بها، ويأخذ منها عظات كريمة، فيعلم أن يوم القيامة إنما هو بحسب الأعمال، هنالك قوم قصرت بهم أعمالهم تقصيرا شديدا فأدخلوا دركات النار، وقوم قصرت بهم أعمالهم تقصيرا غير شديد فحبسوا عن الجنة، وقم لم تقصر بهم أعمالهم فأدخلوا الجنة ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد من قصص هذه الأخبار أن نعتبر في دار الدنيا، ونعلم أن الأمور بحسب الأعمال، وأن من قصر به عمله كان في دركات النار، ومن قصر به عمله تقصيرا أخف من ذلك حبس عن الجنة إلى ما شاء الله. فعلينا أن نحذر من التقصير في طاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ؛ لأن التقصير قد يجر إلى دركات النار، وقد يجر أيضا إلى الحبس عن الجنة. فعلى المسلم أن يحذر من هذا ومن هذا، وأن يطيع الله ويبالغ في مرضاة الله بامتثال أوامر الله واجتناب نواهي الله بحيث لا يتخلف عن أمر أمره الله به، ولا يوجد عند أمر نهاه الله عنه ؛ ليدخل الجنة، ولا يدخل النار، ولا يحبس عن الجنة بسيئاته.
هذا يلزم، كذلك لا يتخذ الدين هزؤا ولعبا ؛ لأن الذين يتخذون الدين هزؤا ولعبا سيجدون غب ذلك. وأتباع هؤلاء كثروا في هذا الزمان والعياذ بالله ؛ لأن كل نزعة كفرية تتجدد لها أغصان بعروقها القديمة، وهذه النزعة متجددة الآن تجددا كثيرا ؛ لأنك تجد كثيرا من الشباب في جميع أقطار المعمورة ممن ينتسبون إلى الإسلام يتخذون الدين هزوا ولعبا، ويتمسخرون من الذي يصلي، ومن الذي يتسم بسمت الأنبياء، فيعفي ذقنه ولا يحلقه، وربما قلدوا عليه التيس استهزاء واستحقارا. فهؤلاء ينالهم من وعيد الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا بقدر ما ارتكبوا. فيجب على كل مسلم شابا كان أو غيره أن لا يتخذ الدين هزوا ولعبا، وألا يتخذ الدين لهوا ولعبا، فلا يسخر من الدين، ولا يسخر من أهله، ولا يسخر من حملة الدين، ولا من العلماء، ولا من هيئاتهم. مع أن الذين يسخرون ذوقهم معكوس، وضمائرهم منطمسة ؛ لأن هذا الذي يسخرون منه هو الشيء الذي ينبغي، وهم في الحالة التي يسخر منها، كما في أمثال العرب :( رمتني بدائها وانسلت ) الآن إذا رأيت رجلا ذقنه مثل ذقني، له لحية بيضاء موفورة لم تقطع منها شعرة، إذا سافر ورآه صبيان المسلمين وشبابهم في الخارج ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار، كأنه في أعينهم تيس، لا يفهم عن الدنيا، ولا يساير ركب الحضارة، مع أنه في الواقع أن الرجل المعفي ذقنه المتسم بسمة الأنبياء هو الرجل العاقل الآخذ بالسمت الكريم ؛ لأن هذه اللحية هي أعظم ما يتميز به الذكر عن الأنثى، فحلقها والفرار منها فرار من كرم الرجولة وشرف الذكورة إلى أنوثة الخنوثة، يريد أن يتشبه بالأنثى ! ! وهذا شرف وكرم وجمال في وجهه، وميزة لفحولته وذكورته عن خنوثة الأنثى وضعفها. والرجال الكرام الذين أخذوا كنوز قيصر وكسرى لم يكن واحد منهم يحلق شيئا من ذقنه، وكذلك سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان أجمل الناس، وأحسن الناس وجها، وأكثر الرجال نساء، ولحيته كثة معفاة، هي في غاية الجمال والكمال، فيجب على كل شاب وعلى كل مسلم أن لا يتمسخر من الإسلام، وأن لا يتخذ الإسلام لهوا ولعبا، وأن لا يسخر من حملة الدين، ولا من هيئات العلماء، وليعلم أن هيئات العلماء هي السمت الذي كان عليه السلف الصالح، والصحابة الكرام، والنبي صلى الله عليه وسلم، وهو سمت الأنبياء الكرام في ماضي الزمان.
هذا هارون- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، من أنبياء سورة الأنعام الذين قال الله فيهم :[ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون ]( الأنعام : آية ٨٤ ) وقال الله لنبينا :[ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ]( الأنعام : آية ٩٠ ) وثبت في صحيح البخاري عن مجاهد انه سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في ص ؟ قال : اوما تقرأ ؟ ! قال :[ ومن ذريته داود ] ( إلى أن قال :) ( ما بين المعقوفتبين ( ) زيادة يقتضيها السياق )[ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ] وهارون من الأنبياء الذين أمر نبينا أن يقتدي بهم، ومن الاقتداء بهم : الاقتداء في سمتهم الكريم- لما غضب عليه أخوه وجده كث اللحية معفاها، فقال له :[ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ] ( طه : آية ٩٤ ) ومرادنا بهذا الكلام أن اتخاذ دين الله هزوا ولعبا ولهوا ولعبا انتشر في أقطار الدنيا، ولا سيما من الشباب الذين يتسمون باسم المسلمين إذا رأوا رجلا يذهب إلى الصلاة يصلي سخروا منه وهزؤوا به ! يظنون أن الكرة رياضة خير من الصلاة، وإذا رأوا رجلا متسما بسمت الإسلام، أو عليه سمت الإسلام، أو ينادي باسم الدين يقولون : هذا رجعي، هذا رجل لا يفهم، هذا لا يساير ركب الحضارة ! ! ويتخذون العلماء، وحملة الدين، والنور السماوي، وتعاليم الدين يسخرون منها، ويضحكون ويستهزئون فليحذروا من الاستهزاء بدين الله، ومن اتخاذ آيات الله هزوا ولعبا ؛ لأن ذلك أمر عظيم عند الله. ولما ضحك بعض المنافقين، وقالوا : النبي صلى الله عليه وسلم- لما ضلت راحلته في غزوة تبوك- هو يدعى انه يأتيه علم الغيب من السماء وهو لا يدري أين ذهبت راحلته ! ! وسخروا من النبي صلى الله عليه وسلم وهوؤا به، فنزل القرآن فيهم :[ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ]( التوبة : آية ٦٥ ) يعني : كنا نسخر ونضحك بهزل غير جد. أجابهم الله[ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ][ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن يعف عن طائفة منكم تعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ]( التوبة : الآيتان٦٦، ٦٥ ) وفي قراءة عاصم وحده :[ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ] وفيها قال ابن المرحل :
لعاصم قراءة *** لغيرها مخالفة
إن نعف عن طائفة *** منكم نعذب طائفة
والشاهد عندنا أن نحذر إخواننا المسلمين من أن يتخذوا دين الله وآيات الله هزوا ولعبا ؛ لئلا يلحقهم ما لحق الكفار الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا، فليحذر المؤمن كل الحذر أن يسخر من دين الله، وأن يستهزئ بآيات الله، وأن يسخر من حملة العلم ومن رجال الدين، وأن يتخذهم مسخرة ومضحكة، هذا لا ينبغي ولا يليق، ومن فعله سيناله من الوعيد بقدر ما قال الله في أهل النار :[ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ]( الأعراف : آية ٥١ ) فعلى المسلم أن يحترم الدين، ويعظم الدين، ويعظم كل ما جاء من ربه من الأوامر والنواهي، ويعظم العلماء وحملة العلم، والمتسمين بسمات العلم، ولا يحتقرهم، ولا يتخذهم هزوا. وإنما بينا هذا لكثرة ما نشاهد من شباب المسلمين في أقطار الدنيا، يتخذون الدين مسخرة وملعبة ومضحكة، يضحكون ممن يصلي، ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويتخذونه لهوا ولعبا كأنه مضحة مسخرة ! ! هذا أمر خطير وعاقبته وخيمة. وقصدنا أن نحذر انفسنا وإخواننا المسلمين منه، فعلينا ان نعظم آيات الله، ونحترم دين الله، ونحترم حملة الدين والعلماء المتصفين بحمل الدين، ولا نتخذهم لهوا ولعبا، ولا نسخر منهم، ولا نقلد عليهم التيوس إذا رأيناهم يعفون لحاهم، بل نعظمهم ونحترمهم ؛ لئلا يلحقنا من الوعيد بقدر ما فعلنا من ذلك، كما قال الله في الكفار :[ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ]لأنهم كانوا يسخرون من ضعاف المسلمين إذا رأوهم يصلون ويعبدون الله يتغامزون ويضحكون[ وإذا مروا بهم يتغامزون( ٣٠ ) ]( المطففين : آية ٣٠ ) ويقولون :[ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ]( الأنعام : آية ٥٣ ) [ ولو كان خيرا ما سبقونا إليه ]( الأحقاف : آية ١١ ) انظروا دين محمد يقول : إن هؤلاء البؤساء النتنى الفقراء أنهم ينالون الكرامة ! ! فيسخرون منهم ويضحكون من دينهم. هذا أمر لا ينبغي، بل يجب على المسلم أن يكون محترما للدين، معظما لما جاء من الله، معظما لرجال العلم، محترما لرجال الدين، غير مستهزىء بالدين، ولا بحملة الدين، ولا متخذهم مسخرة، هذا هو اللازم. وهذا معنى قوله :[ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ] أي : خدعتهم. والدنيا : تأنيث الأدنى، وإنما سميت ( الدنيا ) لدنوها. أي : قربها، أو لدناءتها بالنسبة إلى الآخرة.
ثم قال الله :[ فاليوم ننساهم ]( الأعراف : آية ٥١ ) المراد بالنسيان هنا : الترك مع العلم التام ؛ لأن الله لا ينسى، كما قال :[ علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ]( طه : آية ٥٢ ) والعرب تطلق النسيان على ذهاب الشيء عن علم الإنسان بعد أن كان يعلمه، وهذا المعنى مستحيل على الله. وتطلق النسيان على الترك عمدا. وهو المقصود هنا وهو في آيات كثيرة [ فاليوم ننساهم ]( العراف : آية ٥١ ) أي : نتركهم عن إرادة وقصد يتقلبون في دركات النار، وأنواع العذاب. [ كما نسوا لقاء يومهم هذا ]( الأعراف : آية ٥١ ) أي : نسيانا كنسيانهم لقاء يومهم هذا ؛ لأن هذا اليوم لم ينسوه، وإنما تركوا العمل له عمدا وقصدا وعنادا للرسل [ كما نسوا لقاء يومهم هذا ].
[ وما كانوا بآياتنا يجحدون ]( الأعراف : لآية ٥١ ) في قوله :[ وما ] [ وما كانوا بآياتنا يجحدون ] وجهان من التفسير، الصحيح منهما : أنها مصدرية، والمعنى : كنسيانهم لقاء يومهم هذا، وككونهم جاحدين بآياتنا في دار الدنيا، ف ( ما ) مصدرية، وغلط قوم من علماء التفسير فقالوا : إنها نافية، والمعنى :[ وما كانوا بآياتنا يجحدون ] ما كانوا يجحدون بها في قرارة أنفسهم، بل يعلمون أنها حق، ولكنهم كانوا يعاندون، كما قال :[ فإنهم لا يكذبونك ولكن ال
لما بين الله ( جل وعلا ) مصير أهل الجنة ومصير أهل النار، وما يقوله كل من أهل الجنة وأهل النار للآخرين، وما يقوله أصحاب الأعراف للطرفين، بين أن الذين هلكوا واستحقوا النار وخلدوا في النار ما جاءهم ذلك إلا عن الإعراض عن هذا الكتاب الأعظم، والنور المبين الذي انزله رب السماوات والأرض، وفصل فيه العقائد، والحلال والحرام، وبين فيه الأمثال، وما يوصل إلى الجنة، وما يوصل إلى النار، وأوضح فيه كل خير، وحذر فيه من كل شر، وبشر فيه وانذر، فمن أعرض عن هذا القرآن هم الذين صاروا إلى النار، ومن عمل بهذا القرآن هم الذين صاروا إلى الجنة. ومنذ أنزل الله هذا الكتاب- الذي هو أعظم كتاب نزل من السماء إلى الأرض، وجمع الله فيه علوم الأولين والآخرين- استحال شرعا أن يدخل أحد النار إلا عن طريق الإعراض عنه أو يدخل أحد الجنة إلا عن طريق العمل به، فالعمل به مفتاح الجنة، والأعراض عنه مفتاح النار[ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ]الآية ( هود : آية ١٧ ) ولأجل ذلك جعله الله رحمة لقوم وفقهم للعمل به، وحجة ووبالا على قوم خذلهم فلم يعملوا به [ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في أذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ]( فصلت : آية ٤٤ ) [ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا( ٨٢ ) ]( الإسراء : لآية ٨٢ ) [ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ] ( المائدة : آية ٦٤ ) [ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون( ١٢٤ ) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون( ١٢٥ ) ] ولذا قال هنا :[ ولقد جئناهم ] أي : الخلائق الذين كنا نقص خبرهم ؛ لأن بعضهم في الجنة وبعضهم في النار. فعلى هذا القول ف ( الكتاب ) جنس الكتب السماوية. والأظهر أن المخاطبين به المرادين به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الكتاب هو هذا القرآن العظيم.
[ ولقد جئناهم ] أي : جئنا هذه الأمة التي دخل بعضها الجنة وبعضها النار.
[ بكتاب ] أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقراءة الجمهور من السبعة بل والعشرة :[ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه ] أما قراءة :[ ولقد جئناهم بكتاب فضلناه ] أي : على سائر الكتب، فليست من القراءات السبعية، وقرأ بها ابن محيصن وغيره. وهي وإن كانت شاذة فمعناها صحيح ؛ لأنه مفضل على سائر الكتب. وقراءة الجميع : اللام موطئة للقسم، والله ما تركناهم سدى ولا في غفلة، والله لقد جئناهم بكتاب. يعني : أتيناهم بكتاب. قدمنا أنه قيل له ( الكتاب ) لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال :[ بل هو قرآن مجيد( ٢١ ) في لوح محفوظ( ٢٢ ) ]( البروج : الآيتان٢٢، ٢١ ) وفي صحف عند الملائكة، كما في قوله :[ في صحف مكرمة ( ١٣ ) مرفوعة مطهرة ( ١٤ ) ]( عبس : الآيتان١٤، ١٣ ) وكذلك هو مكتوب عند المسلمين في مصاحفهم يقرؤونه.
[ بكتاب فصلناه ] صيغة الجمع للتعظيم، والله هو الآتي بهذا الكتاب وحده، المفصل له وحده. وصيغة الجمع في ( جئنا ) وفي ( فصلنا ) إنما هي للتعظيم، والمعنى :[ فصلناه ] التفصيل ضد الإجمال. ومعنى تفصيل هذا الكتاب : جعلناه موضحا بينا فيه العقائد بتفصيل وإيضاح، والحلال والحرام والأمثال والمواعظ، وما يدخل الجنة، وما يدخل النار، وما يرضي الله، وما يسخط الله، وما تصلح به أحوال الإنسان في دنياه وآخرته، وما تفسد به، فقد فصل الله فيه كل شيء، وبين فيه أصول كل شيء، فأوضح فيه العقائد، ومكارم الأخلاق، والخروج من الشبهات، ورفع فيه الهمم، وبين أصول الحلال والحرام، وأصول المواعظ وجميع الأشياء. والغريب كل الغريب الذي لا يقضي الإنسان عجبه منه أن أمة ينزل عليها هذا الكتاب الذي يقول الله فيه : إنه فصله على علم منه، بينه مفصلا بعلم الله ( جل وعلا ) المحيط بكل شيء، وضمنه جميع المصالح ودرء جميع المفاسد وخير الدنيا والآخرة، وهذا كله من رب العالمين المحيط علمه بكل شيء، وهذا كلامه الذي فصله على علم منه وأوضحه، وبين فيه معالم الخير ومعالم الشر، وما يصلح دنيا الإنسان وآخرته، وما يكون به على خير في كلتا الدارين، وهو تنزيل رب العالمين، وتفصيل خالق السماوات والأرض، ومع هذا كله يرغب عن هذا الكتاب ولا يبالي به، ويذهب يطلب الخير والحق في آراء قوم كفرة فجرة كلاب خنازير ! ! فهذا من غرائب الدهر وعجائبه ! ! كيف تصرف هذه الأمة عن هذا الكتاب المنزل الذي هو كلام رب العالمين، وما فيه من المعاني، وما فيه من العقائد والحلال والحرام والمعاملات والمواعظ ومكارم الأخلاق، وإيضاح حالة الإنسان في نفسه، وما ينبغي أن يكون عليه، وما ينبغي أن يكون عليه مع مجتمعه الخاص، ومع مجتمعه العام، وما يكون عليه مع أعدائه، كل هذا فصله رب العالمين، وأوضحه وزاده بيانا رسول كريم [ وما ينطق عن الهوى( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى ( ٤ ) ]( النجم : الآيتان٤، ٣ ) فتركها محجة بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. من سلك هذا القرآن العظيم، وعمل به، وبالسنة المبينة له نال خير الدنيا وخير الآخرة، وكان أعظم الناس هيبة، وأقواهم شوكة، وأعزهم منعة، ومع هذا كله فالأمة التي نزل القرآن على أسلافها تخلت عن هذا الكتاب المحكم الذي هو كتاب رب العالمين، الذي قال فيه :[ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ]( الأعراف : آية ٥٢ ) المفصل له هو الله على علم من الله المحيط علمه بكل شيء، ومع هذا يتركونه ولا ينظرون إليه، وينبذونه وراء ظهورهم، ويذهبون يطلبون الرشد ومصالح أمرهم في قوانين ونظم رتبها كفرة فجرة جهلة مظلمة قلوبهم، هم كالأنعام أو أضل سبيلا ! ! فهذا من أغرب ما يشاهده الإنسان ! ولو أننا لم نره عيانا لما كنا نصدق أن عاقلا يذهب عن كلام رب العالمين الذي بين فيه الرشاد وخير الدنيا وخير الآخرة، وأوضح فيه كل شيء يتركه عمدا زاعما أنه لا ينظم علاقات الحياة، ولا يساير ركب الحضارة، ثم يذهب إلى نظم وضعية، وقوانين إفرنجية وضعها ملاحدة لا يعلمون عن الله شيئا، لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. فهذا من أغرب ما وقع في التاريخ ! ! نسأل الله أن يبصرنا بهداه ولا يضلنا، ولكنا بينا مرارا أن الذين ينصرفون عن أنوار القرآن وهدى القرآن يطلبون الرشاد في نظم كفرية قانونية، مخالفة لهدى الله وكتابه الذي فصله على علم منه وهدى ورحمة، أن الذي جرهم إلى ذلك أن القرآن أعظم نور، والله يسميه النور في آيات كثيرة [ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا اليكم نورا مبينا ( ١٧٤ ) ] ( النساء : آية ١٧٤ ) [ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ]( التغابن : آية ٨ ) على عبدنا [ ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ]( الشورى : آية ٥٢ ) فهو نور أعظم، وهؤلاء الذين ينصرفون عنه إلى النظم الوضعية الكافرية في الحقيقة هم خفافيش البصائر، والخفاش لا يلام إذا كان لا يمكن أن يرى ضوء الشمس ؛ لأن بصيرته ليس لها استعداد ولا قوة على مقابلة الشمس.
مثل النهار يزيد أبصار الورى | نورا ويعمي أعين الخفاش |
خفافيش أعماها النهار بضوئه | ووافقها قطع من الليل مظلم |
إذا لم تكن للمرء عين صحيحة | فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر |
ترى الجهلة الملاحدة الذين صبغهم الإفرنج كما يشاؤون يقولون : كيف يجعل دين الإسلام ميراث المرأة أقل من ميراث الرجل وعين القرابة التي يدلي بها الرجل هي عين القرابة التي تدلي بها المرآة، فكيف يكون نفس ما يدلي به الرجل هو ما تدلي به المرأة ثم يفضله عليها ؟ والله ( جل وعلا ) يعلم أن هذا سيضل به قوم، وأن من زعم أن تفضيل الرجل على المرأة في الميراث ليس بحكمة ولا صواب أنه ضال ؛ ولذا بين هذا من غرائب القرآن حيث قال بعد قوله :[ للذكر مثل حظ الأنثيين ]( النساء : آية ١٧٦ ) أتبعه بقوله :[ يبين الله لكم أن تضلوا ] ( النساء : آية ١٧٦ ) فبين أن من لم يتبع هذا التشريع وطعن فيه أنه ضال، وهو كما قال الله.
ثم يقولون : كيف يجعل دين الإسلام الطلاق بيد الرجل من غير إذن المرأة، مع أن عقد النكاح أولا لم يكن إلا بإذن المرأة ورضاها، فهي عقدة اجتمعا عليها، فكيف يجعل الاستقالة منها للرجل وحده دون إذن المرأة ؟ ثم يقولون بالفلسفات الشيطانية : ربما أفنى الرجل جمالها وشبابها حتى صارت لا يرغب فيها غيره ثم يلقيها ويطلقها فتبقى ضائعة، وهذا ظلم. ويلفقون نحو هذا من الفلسفات الشيطانية التي يأتي بها قوم أعمى الله بصائرهم عن أنوار القرآن، وحكم رب العالمين الباهرة.
ونحن نذكر هنا ( إن شاء الله ) بعض الأشياء التي طعنوا بها في التشريع الإسلامي، ونبين أن الذي جرهم إلى ذلك هو سوء فهمهم، وعدم معرفتهم، وطمس بصائرهم، وضلال قلوبهم :
وكم من عائب قولا صحيحا | وآفته من الفهم السقيم |
ويطلق التأويل أيضا على التفسير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس :" اللهم علمه التأويل ". وقولهم : فلان يعلم تأويل القرآن. أي : تفسيره.
والإطلاق الثالث- إطلاق حادث هو اصطلاح الأصوليين لم يكن معروفا في الزمن الأول- وهو أن التأويل : حمل اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل عليه. هذا الاصطلاح حادث، وهو المعروف عند الأصوليين باسم التأويل.
وهو ثلاثة أنواع : تأويل صحيح، وتأويل فاسد، ولعب. فإذا كان التأويل : صرف الكلام عن ظاهره المتبادر منه إلى معنى مرجوح ليس هو الظاهر من الكلام بدليل صحيح يدل عليه حقا في نفس الأمر، فهو التأويل الصحيح المسمى بالتأويل القريب. ومثاله : قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري :" الجار أحق بسقبه " فإن ظاهر هذا الحديث الثابت في صحيح البخاري أن الشفعة ثابتة للجار ؛ لأن الصقب والسقب هو ما يلاصق الجار من أرض جاره. إلا أنه حمل على محتمل مرجوح، وهو أن المراد بالجار هنا : خصوص الشريك المقاسم. وهذا احتمال مرجوح، إلا أنه دل عليه نص صحيح، فحمل اللفظ عليه لدلالة ذلك النص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر :" فإذا صرفت الطرق، وضربت الحدود فلا شفعة ". فعلم أنه لم تكن هناك شفعة إلا مع الاشتراك في الأرض أو في الطريق كما هو معروف. ومثال التأويل البعيد يمثل له بعض أهل الأصول- بعضهم يجيء بما يخالفه به الآخر- والمعروف عند علماء الأصول : أن الأصولي يكون مالكيا مثلا فيمثل بشيء ضد مذهبه، وقصده فهم القاعدة. ويكون شافعيا مثلا ويمثل بمثال مخالف لمذهبه لتفهم القاعدة. وقصدنا بكلامهم هنا المثال لا مناقشة أدلة الأقوال. والشافعية والمالكية والحنبلية يمثلون للتأويل البعيد بحمل الإمام أبي حنيفة ( رحمه الله على الجميع ) المرأة في حديث عائشة :" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " قالوا : حمل أبي حنيفة للمرأة على المكاتبة تأويل بعيد ؛ لأنه بعيد من ظاهر النص، ولم يقم دليل جازم عليه ؛ لأن ( أي ) صيغة عموم، والعموم أكد بلفظة ( ما ) فلا يحسن حمله على صورة نادرة قد لا تخطر في الذهن وهو المكاتبة. قالوا : وكقول الإمام أبي حنيفة ( رحمه الله على الجميع ) :[ فإطعام ستين مسكينا ]( المجادلة : آية ٤ ) حمل ( المسكين ) على ( المد ) من التأويل البعيد. هكذا يمثلون، وقصدنا المثال لا مناقشة أدلة أقوال العلماء هنا. أما إذا كان صرف الكلام عن ظاهره المتبادر منه لا لدليل في نفس الأمر ولا لدليل ( خارجي صحيح فإن ذلك لا يعد من التأويل المقبول ) ( في هذا الموضع وجد انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) بل هو تلاعب بنصوص القرآن، وكقولهم :[ مرج البحرين ]( الرحمن : آية ١٩ ) البحرين : علي وفاطمة [ بينهما برزخ ]( الرحمن : آية ٢٠ ) الحسن والحسين. فهذا ليس من التأويل وإنما هذا من اللعب والتلاعب بكتاب الله. ويكثر مثل هذا في تفسير الباطنيين وغلاة الروافض، ولا يسمى تأويلا وإنما هو لعب.
أما التأويل في القرآن فمعناه : ما تؤول إليه حقيقة الأمر. فقوله :[ هل ينظرون إلا تأويله ] أي : ما تؤول إليه حقيقته من دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار.
ثم قال :[ يوم يأتي تأويله ] ( الأعراف : آية ٥٣ ) أي : يوم يأتي الوقت الذي تحقق فيه مواعيد القرآن، وتحقق الوعد للؤمن والوعيد للكافر.
[ يقول الذين نسوه من قبل ]( الأعراف : آية ٥٣ ) أي : تركوه وتناسوا العمل به في دار الدنيا. [ قد جاءت رسل ربنا بالحق ]( الأعراف : آية ٥٣ ) هذا القرآن ونحوه من الكتب كان حقا، والذي أمر بأن يدخل من امتثله الجنة، ونحن- والعياذ بالله- لما لم نمتثل ذلك الأمر فمصيرنا إلى النار. وهذا معنى قولهم :[ قد جاءت رسل ربنا بالحق ]( الأعراف : آية ٥٣ ) وتمنوا الشفاعة حيث لا شفاعة.
ثم قالوا [ فهل لنا من شفعاء ] ( الأعراف : آية ٥٣ ) جمع شفيع و( هل ) هنا للتمني، يتمنون الشفعاء [ فيشفعوا لنا ]( الأعراف : آية ٥٣ ) ويخرجونا مما نحن فيه [ أو نرد ] ( الأعراف : آية ٥٣ ) أو هل لنا أن نرد إلى دار الدنيا لنبدل تكذيب الرسل بالتصديق، ونبدل المعاصي بالطاعات ؟ وهو معنى قولهم :[ فنعمل غير الذي كنا نعمل ]( الأعراف : آية ٥٣ ) بين الله أنهم لا يجدون الشفعاء ولا يردون وقال :[ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ]( الأعراف : آية ٥٣ ) خسروا أنفسهم- والعياذ بالله- لأنهم غبنوا في أنفسهم ورزئوا فيها. والدليل على خسرانهم أنفسهم : أن غاية أمنيتهم أن تعدم أنفسهم ويموتوا ولكن لا يجدون [ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون( ٧٧ ) ] ( الزخرف : آية ٧٧ ) وهذا معنى خسرانهم أنفسهم لأنهم رزئوا في أنفسهم فباعوها- والعياذ بالله- بعرض من الدنيا، وصارت إلى العذاب المخلد إلى يوم القيامة.
وقوله :[ وضل عنهم ]( الأعراف : آية ٥٣ ) غاب واضمحل ما كان يفترونه في دار الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم، كقولهم :[ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ] ( يونس : لآية ١٨ ) [ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ]( الزمر : آية ٣ ) ومعنى :[ يفترون ] يختلقون من الكذب.
لما أمر الله-جل- ونهى في هذه السورة الكريمة، وبين فيها أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، وأوضح عواقب طاعته وعواقب معصيته، وبين أنه أرسل إلى الدنيا كتابا فصله على علم منه بين أن الذي قال هذه الأشياء وأخبر بها أنه هو رب كل شيء، وخالق كل شيء، والمعبود وحده، المستحق لأن يعبد وحده، ولأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى فقال :[ إن ربكم الله ] إن ربكم الله، كل الناس يعلمون أن الله ربهم، ولم يكابر في هذا إلا مكابر، أو أحد كالبهائم، لا عقل له ؛ لأنه جبلت فطر العقلاء على معرفة أن الله هو الرب الخالق لكل شيء. والكفار الذين يعبدون الأصنام مقرون بهذا عالمون به، والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة [ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ] ( الزخرف : آية ٨٧ ) [ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله ]( يونس : آية ٣١ ) وإنكار فرعون لمعرفته ربوبية الله حيث قال الله عنه إنه قال :[ وما رب العالمين ]( الشعراء : لآية ٥٣ ) وقال :[ لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ]( الشعراء : آية ٢٩ ) وقال :[ أنا ربكم الأعلى ]( النازعات : آية ٢٤ ) فإن فرعون مكابر عالم أنه عبد مربوب، وان الله ربه ورب كل شيء، كما أوضحه الله في إقسام موسى على ذلك، قال :[ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ]( الإسراء : آية ١٠٢ ) والله لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات إلا رب السماوات والأرض. أي : ومن فيهن. وكقوله :[ وجحدوا بها ]( النمل : آية ١٤ ) يعني : فرعون وقومه [ واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ]( النمل : آية ١٤ ) فهو جاحد مكابر ليستخف قلوب قومه[ فاستخف قومه فأطاعوه ]( الزخرف : آية ٥٤ ) والذين ينفون ربوبية الله هم بهائم كالبغال والحمير لا عقول لهم[ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ]( الفرقان : آية ٤٤ ) أما عامة العقلاء الذين ارتفع إدراكهم عن إدراك الحيوانات فهم يعلمون أن الله رب كل شيء وخالق كل شيء.
[ إن ربكم ] ( الأعراف : آية ٥٤ ) أي : إن سيدكم وخالقكم ومدبر شؤونكم [ الله ]- جل وعلا- [ الذي خلق السماوات والأرض ] ( الأعراف : آية ٥٤ ) أي : وما بينهما [ في ستة أيام ]( الأعراف : آية ٥٤ ) هذه الأيام الستة بين الله تفصيل خلقه الخلائق فيها في سورة فصلت- السجدة( - حيث قال :[ * قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين( ٩ ) ] قال :[ خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين( ٩ ) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ]( فصلت : الآيتان ١٠، ٩ ] أي : بإضافة يومين آخرين لليومين الأولين فصارت أربعا، ثم قال :[ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا آتينا طائعين( ١١ ) فقضاهن سبع سماوات في يومين ]( فصلت : الآيتان١٢، ١١ ) تضاف إلى الأربعة السابقة فتكون ستة.
والعلماء يقولون : إن هذه الأيام المراد بها أوقاتها ؛ لأنه في ذلك الوقت لم يكن هنالك يوم ؛ لأن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، وإن لم يكن هنالك شمس لا يعرف اليوم. إلا أن الله قبل أن يخلق الشمس والقمر يعلم زمن الأيام قبل وجود الشمس.
وهذه الأيام قد جاء في روايات كثيرة أن أولها الأحد وآخرها الجمعة. والقرآن بين أنه خلق الأرض في يومين ثم خلق فيها الجبال والأقوات والأرزاق في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، فهي ستة أيام. ويوم السبت ليس منها. وما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن الله خلق التربة يوم السبت، وجعل في كل من أيام الأسبوع بعض الخلق، وإن كان في صحيح مسلم، فهو غلط، غلط بعض الرواة في رفعه، والظاهر أنه أخذه أبو هريرة عن كعب الأحبار أو نحوه من الإسرائيليات ؛ لأنه خلاف القرآن- الصحيح- أن السبت لم يكن من الأيام التي خلق فيها شيء، وان السماوات والأرض وما بينهما خلقت في ستة أيام من الأسبوع، وأولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، خلق الله فيه آدم بعد صلاة العصر.
وهذه الأيام قال بعض العلماء : إنها كأيام الدنيا. وقال بعضهم : اليوم منها هو المذكور في قوله :[ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ]( الحج : آية ٤٧ ).
والله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، مع أنه قادر على أن يخلق الجميع في لحظة واحدة كلمح البصر لحكمته ( جل وعلا )، قال بعض العلماء : أراد أن يعلم خلقه التمهل في الأمور، والتدرج فيها ليقدروا عليها، وهو قادر على خلق ما شاء في لحظة واحدة[ وما أمرنا إلا واحة كلمح بالبصر( ٥٠ ) ]( القمر : آية ٥٠ ) فهو يقول للشيء كن فيكون. هذا معنى قوله :[ الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ]( الأعراف : آية ٥٤ ).
قال بعض العلماء : الستة أصلها ( سدسة ) أبدلت الدال تاء و أدغمت في التاء. قالوا : وتصغر الستة على ( سديسة ) ردا لها لأصلها. وعلى كل حال فالستة العدد المعروف، وهو الثلاثة مرتين كما هو معروف.
[ ثم استوى على العرش ]( الأعراف : آية ٥٤ ) العرش يطلق في اللغة إطلاقات متعددة من أشهرها في القرآن : سرير الملك ( في الأصل قال الشيخ ( رحمه الله ) بعد هذه الكلمة :" وإنما أطلق على السقف ". ثم قال بعدها :" فالعرش سرير... " إلخ، فصنيعه يشعر أنه تراجع عن العبارة السابقة ؛ ولذا لم أثبتها. والله أعلم ). فالعرش سرير الملك، سرير الملك الذي يعد له تسميه العرب عرشا، ومنه ملكة سبأ في قوله :[ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ]وقوله[ أهكذا عرشك قالت كأنه هو ]( النمل : آية ٤٢ ).
وقوله :[ ثم استوى على العرش ] [ ثم استوى ] جل وعلا [ على العرش ] وهذه صفة الاستواء ونحوها من آيات الصفات ارتبك فيه عقول كثير من الناس، وضل فيه من الخلق المنتسبين للعلم، بل والذين عندهم علم وعقول ما لا يحصيه كثرة إلا الله ( جل وعلا ). ونحن نوضح لكم المقام في عقيدة السلف الصحيحة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، وهي العقيدة الكريمة الصافية من شوائب التشبيه والتعطيل، لا تشوبها شائبة تشبيه ولا تشوبها شائبة تعطيل، ونحن نوضح هذا في ضوء القرآن العظيم.
وإيضاح ذلك أن تعلموا –أيها الإخوان- أن الله ( تبارك وتعالى ) أوضح في كتابه هذا القرآن العظيم الذي هو أصل الهدى، ومنبع اليقين، ونور المعرفة والعلم، بين فيه أن المعتقد المنجي في آيات الصفات الذي يأتي صاحبه يوم القيامة سالما من بلايا التشبيه وبلايا التعطيل هو مركز على ثلاثة أسس، نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله، وأن تعتقدوا هذه الأسس الثلاثة الكبار، فتنجيكم أمام الله ومن بلايا هذا المأزق الذي ضل فيه من الخلق ما لا يحصى. هي ثلاثة أسس عظام من جاء بها ولقي الله عليها لقيه سالما على بصيرة من ربه، عاملا بنور القرآن العظيم، ومن أخل بواحد منها فقد أدخل نفسه في مهواة.
وهذه الأسس الثلاثة نوضحها لكم في ضوء القرآن العظيم :
الأول منها، وهو أساس العقيدة، والحجر الأساسي لمعرفة الله معرفة صحيحة، وللعقيدة التي هي أساس سماوي صحيح. هذا الأساس المذكور هو تنزيه خالق السماوات والأرض-جل وعلا- عن أن يشبهه شيء من خلقه ؛ لا في ذواتهم ولا في صفاتهم، ولا أفعالهم. وكيف يخطر في ذهن العاقل أن الخالق – جل وعلا- يشبه شيء من خلقه في الذات أو الصفات أو الأفعال ؟ لأن جميع الخلائق صنعة من صنعه- جل وعلا- [ صنع الله الذي أتقن كل شيء ]( النمل : آية ٨٨ ) والصنعة لا يمكن أن تشبه صانعها بحال ؛ لأنه هو الذي أبرزها من ( العدم إلى الوجود ) ( في الأصل : " من الوجود إلى العدم " وهو سبق لسان )، واخترعها بعد أن لم تكن شيئا. فكيف يخطر في ذهن عاقل أن تكون تشبهه ؟ هذا مما لا يخطر في الأذهان السليمة، وأحرى الأذهان الممتلئة بنور الوحي. فأساس
التوحيد الأكبر، وأساسه الأعظم، هو تنزيه خالق السماوات والأرض-جل وعلا-عن مشابهة خلقه ؛ لأن الخلق صنعة من صنائعه، والصنعة لا تشبه صانعها. فعلينا أولا أن نطهر قلوبنا من أقذار التشبيه، وأنجاس التشبيه، وأدران التشبيه، ونجزم جزما باتا قاطعا أن الوصف إذا أسند إلى الله، ووصف به الله في كتاب أو سنة صحيحة فإن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقتضي على جميع الوساوس، ويقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، وتجزم قلوبنا بأن الخلق صنعة والخالق صانع، ولا مناسبة بين الصنعة وصانعها، لا في الذات، ولا في الصفات، ولا في الأفعال. وهذا الأساس للعقيدة التي هي عقيدة السلف في آيات الصفات وأحاديثها الذي هو التنزيه الكامل، وتقديس صفات خالق السماوات والأرض، وتعظيمها، وإكبارها، وإجلالها عن أن تشبه شيئا من صفات المخلوقين أو دواتهم أو أفعالهم، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كيرا. هذا الأساس الأعظم في ضوء قوله :[ ليس كمثله شيء ] ( الشورى : آية ١١ )[ ولم يكن له كفوا أحد( ٤ ) ]( الإخلاص : آية ٤ ) [ هل تعلم له سميا ]( مريم : آية٥٦ ) [ فلا تضربوا لله الأمثال ]( النحل : آية٧٤ ) إذا رزق الله العبد فهم هذا الأساس الأكبر، والحجر الأساسي للعقيدة الصحيحة، وكان قلبه قلبا طاهرا من أقذار التشبيه، منزها لخالق السماوات والأرض كما ينبغي، جازما بأن الخلق صنعته، وأن الصنعة لا تشبه صانعها بحال، فإذا كان قلب المؤمن طاهرا واعتقد اعتقادا جازما باتا بأن صفة الله منزهة عن مشابهة صفات خلقه كتنزيه ذاته عن مشابهة ذوات خلقه-إذا استحكم هذا الأساس العظيم في قلب المؤمن-فالأساس الثاني : هو أنا كلا علينا أن نصدق الله فيما أثنى به على نفسه، ونصدق سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أثنى به على ربه ؛ لأن الله أصدق من يقول :[ ومن أصدق من الله قيلا ]( النساء : آية ٢٢ )[ ومن أصدق من الله حديثا ]( النساء : آية ٨٧ ) [ أنتم أعلم ام الله ]( البقرة : آية ١٤٠ ) فإذا مدح الله نفسه بوصف كريم في كتابه، أو مدحه رسوله الصادق الأمين الذي قال في حقه :[ وما ينطق عن الهوى( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى ( ٤ ) ]( النجم : الآيتان : ٤، ٣ ) فعلينا أن لا نكذب الله، ولا نكذب رسوله، ولا ننفي ما أثبته الله لنفسه، ولا ننفي ما أثبته الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم لربه، ولكن علينا أن نؤمن بذلك الوصف الذي مدح الله به نفسه، أو مدحه به الصادق الامين صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك الإيمان إيمان مبني على أساس التنزيه وعدم مشابهة الخلق ؛ لأن الخلق لا يمكن أن يشبهوا خالقهم.
وهذا التعليم العظيم الذي هو تنزيه الله- جل وعلا- عن مشابهة الخلق. ثم إذا طهرت القلوب من أقذار التشبيه يتبع ذلك الإيمان بالصفات الثابتة بالقرآن العظيم والسنة الصحيحة إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه.
هذا لم نقله لكم من تلقاء أنفسنا وإنما هو تعليم خالق السماوات والأرض في المحكم المنزل ؛ لأن الله أوضح هذين الأساسين غاية الإيضاح، وبينهما غاية البيان حيث قال :[ ليس كمثله شيء ] ( الشورى : آية ١١ ) وأتبع ذلك بقوله :[ وهو السميع البصير ] ( الشورى :
ليبك يزيد ضارع لخصومة | ومختبط مما تطيح الطوائح |
ومعنى ادعوه خفية : أي ليكن دعاؤكم في خفاء. وكان السلف الصلح ( رضي الله عنهم ) من الصحابة فمن بعدهم يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم شيء، إنما هو همس خفي فيما بينهم وبين ربهم ؛ لأن إخفاء الدعاء أبعد من الرياء، ولأنه يجل على ثقة العبد بان ربه عالم بما خفي وما ظهر لا يخفى عليه شيء. فالدعاء الخفي أفضل وأعظم من الدعاء الذي هو ( جهرا ) ( في الأصل :" سرا "، وهو سبق لسان ) وعلانية، وقد أثنى الله بخفاء الدعاء على عبده زكريا في قوله :[ كهيعص( ١ ) ذكر رحمت ربك عبده زكريا( ٢ ) إذ نادى ربه نداء خفيا( ٣ ) ]( مريم : الايات١-٣ ) فتعليم رب العالمين أن الله يأمرك أن تدعوه في جميع حوائجك إذا اضطررت إلى شيء فادع خالق السماوات والأرض ييسره لك، وإذا نابك أمر، أو حزبك مكروه، أو دهمتك خطوب فادع خالق السماوات والأرض، وتضرع إليه بذل واستكانة في دعاء خفي لا يسمعه أحد ؛ لأن الله- جل وعلا- السر عنده علانية، إذا أسررت به يعلمه ولا يخفى عليه، ولو همست به في نفسك كما قال تعالى :[ فإنه يعلم السر وأخفى ]( طه : آية ٧ ).
ومن هذه الآية الكريمة أخذ الإمام أبو حنيفة وأصحابه حكما فقهيا وهو عدم رفع الصوت ب( آمين ) إذا قال الإمام [ ولا الضالين ] قالوا : إن ( آمين ) دعاء ؛ لأن معناها : اللهم استجب. والله –جل وعلا- يقول :[ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ]( الأعراف : آية ٥٥ ) قالوا : الأمر بإخفاء الدعاء نص صريح في القرآن المتواتر المعصوم، فلا تعارضه الأحاديث التي وردت بإظهار التأمين ؛ لأنه جاء بعض الأحاديث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ :[ ولا الضالين ] رفعوا أصواتهم بآمين حتى ترتج الجدران.
والقاعدة المقررة في أصول أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يقدم الخاص على العام ؛ لأن دلالة العام عنده على أفراده قطعية، فكل فرد داخل في العام كأنه نص عليه بنص خاص، ولا يقدم الخاص على العام بل ينظر في الخاص والعام إذا عرف المتأخر منهما نسخ به الأول، وإذا لم يعرف المتأخر منهما احتاط ؛ ولأجل هذه القاعدة المقررة في أصول أبي حنيفة ( رحمه الله ) كان يقول بوجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض ولم يبلغ خمسة أوسق، ولا نصف وسق، ولا ربع وسق ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال :" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " قال أيضا :" فيما سقت السماء العشر " وكان أبو حنيفة لا يرى تقديم الخاص على العام. قال : يتعارض هذا العام وهو قوله :" فيما سقت السماء العشر " مع الخاص الذي هو قوله :" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " لأن العام عند أبي حنيفة قطعي الشمول لأفراده إلا ما أخرجه دليل، فكأن كل فرد من أفراد العام عنده دل عليه نص مستقل. فنظر أبو حنيفة في التاريخ فلم يعرف تاريخهما أيهما السابق، هل الأول الذي قال النبي :" فيما سقت السماء العشر " أو قوله :" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ؟ فلما جهل التاريخ احتاط لوجوب الزكاة احتياطا لبراءة الذمة والخروج من عهدة التكليف بالزكاة. وكذلك في هذه الآية قال : إن الأحاديث التي جاءت برفع الصوت في التامين أخبار آحاد. ولو فرضنا أنها متأخرة ؛ لأن الظاهر أنها متأخرة ؛ لأن هذه السورة- سورة الأعراف- من القرآن النازل بمكة إلا ثمان آيات منها تأتي في قوله :[ وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ] الآيات. أما غيرها في سورة الأعراف فهي من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة. وأحاديث التامين بالصلاة هي في المدينة متأخرة عنها، إلا أن القاعدة المقررة في أصول الإمام أبي حنيفة- رحمه الله- أنه لا تنسخ المتواترات بأخبار الآحاد، والأحاديث أخبار آحاد، والإسرار بالدعاء متواتر ؛ لأن قوله هنا في سورة الأعراف :[ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ] نص متواتر ظاهر الدلالة يدل على إخفاء الدعاء، و( آمين ) هي من الدعاء، لأن معناها : اللهم استجب.
وهنالك قول شاذ يقول : إن( آمين ) من أسماء الله تعالى. وعلى هذا القول قال بعض أصحاب أبي حنيفة : لو قدرنا أن ( آمين ) من أسمائه تعالى فالله يقول :[ واذكر ربك في نفسك ]( الأعراف : آية ٢٠٥ ) كذا يقولون !
والعلماء الذين يقولون : إن القضاء بالمتأخر، يقولون : إن هذا عام، ورفع الأصوات بالتأمين خاص، ولا يتعارض عام وخاص. وهذا مذهب الجمهور المقرر في أصول الشافعية والحنبلية والمالكية أن الخاص يقضي على العام ويقدم عليه، وكذلك المقيد على المطلق سواء تقدم أو تأخر عنه كما هو معروف في الأصول. وهذا معنى قوله :[ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ].
[ إنه لا يحب المعتدين ] [ إنه ] جل وعلا ] لا يحب المعتدين ]( الأعراف : آية ٥٥ ) في الدعاء ولا غيره. وقد جاء حديث في ابن ماجه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنه يكون في أمتي قوم يعتدون في الدعاء ".
والاعتداء في الدعاء على أنواع كثيرة : منها : الذي يصيح بالدعاء صياحا مزعجا، ومنها : الذي يسأل الله أن يعطيه مرتبة النبيين في الجنة، أو فوق مرتبة النبيين، فهذا اعتداء في الدعاء، وقد جاء عن عبد الله بن مغفل ( رضي الله عنه ) أنه سمع ابنا له يقول :" اللهم إني أسألك القصر الأبيض الذي عن يمين الجنة إذا أدخلتني الجنة " فهذا من الاعتداء في الدعاء. وعن بعض الصحابة أنه سمع ولده يقول :" اللهم إني أسألك الجنة وحورها ونعيمها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا وكذا. قال : هذا الاعتداء في الدعاء، يكفيك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ".
فالله جل وعلا [ لا يحب المعتدين ] المجاوزين في الحدود، سواء كان في الدعاء أو في غير الدعاء من مجاوزة ما ينبغي إلى ما لا ينبغي كما هو عام، وهي وإن نزلت في الدعاء فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ونحن وإن كنا نعلم أن الإخفاء في الدعاء أفضل من ( الجهر ) ( في الأصل :" الإسرار " وهو سبق لسان ) به وندعو غالبا في هذا المجلس دعاء ظاهرا قصدنا به أن يسمعنا إخواننا ويؤمنون لنا فنكون مجتمعين على الدعاء في هذا الشهر المبارك، ولو أسررنا الدعاء لما سمعوه ولما امنوا لنا، والمؤمن أحد الداعيين، وقد نص على ذلك القرآن ؛ لأن الله في سورة يونس قال عن نبيه موسى :[ وقال موسى ] ذكر موسى وحده[ وقال موسى ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ]( يونس : آية ٨٨ ) وفي القراءة الأخرى [ ليضلوا عن سبيلك ] [ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ]ثم قال :[ قال قد أجيبت دعوتكما ]( يونس : آية ٨٩ ) فجعل الداعي اثنين، والداعي في الآية واحد، وهو [ قال موسى ] قالوا : لأن هارون امن، والمؤمن أحد الداعيين. ومن هنا أخذ بعض العلماء أن قراءة الإمام إذا قال المأموم( آمين ) تكفي المأموم ؛ لأن الله سمى المؤمن داعيا، كما ذكره بعض العلماء.
وقول الضحاك وغيره :[ ولا تفسدوا في الأرض ] ولا تغوروا الأنهار، وتدفنوا المياه الجارية، وتقطعوا الأشجار المثمرة. كل ذلك داخل في هذا وربما كان قطع الشجر مصلحة للمسلمين إذا كان فيه حصار للكفار ومضرة عليهم، كما يأتي فيما وقع في بني النضير في قوله :[ ما قطعتم من لينة ] أي : من نخلة [ أو تركتمونها قائمة على أصولها فبأذن الله ]( الحشر : آية ٥ ) ومن الفساد في الأرض : قطع الدنانير، وإفساد السكة، وكل معصية لله وضرر على المسلمين وشرك بالله، جميع هذا من الفساد في الأرض الذي نهى الله عنه ؛ لأن طاعة الله كلها صلاح يستوجب المطيعون بها رحمة الله ونعيمه وعافيته[ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ]( الطلاق : آية ٣ ) [ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ]( الطلاق : آية ٤ ) فطاعة الله وتقواه سبب لإدراك الأرزاق والعافية كما قال تعالى عن نبيه نوح :[ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا( ١٠ ) يرسل السماء عليكم مدرارا( ١١ ) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا( ١٢ ) ]( نوح : الآيات١٠-١٢ ) وقال عن نبيه هود أنه قال لقومه :[ استغفروا ربكم ] إلى قوله :[ يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ]( هود : آية ٥٢ ) وهذا متكرر في القرآن. والمعاصي والشرك كلها إفساد في الأرض، وطاعة الله وإتباع أوامره كلها إصلاح في الأرض.
ومعنى :[ ولا تفسدوا في الأرض ]( الأعراف : آية ٥٦ ) أي : بالشرك والمعاصي وجميع أنواع الفساد.
[ بعد إصلاحها ] بعد أن أصلحها الله بان بعث فيها الرسل الكرام، وعلموا أوامر الله ونواهيه، وما به صلاح الدنيا والآخرة، فإن مبعث الرسل تستقيم به أمور الدنيا، ويصلح به جميع الشؤون مما يصلح الدنيا والآخرة، فمن جاء لأمور الناس وهي صالحة قائمة على أوامر الله وشرعه الذي جاءت به رسله وغير في ذلك وأفسد وأشرك وعصى فقد أفسد في الأرض بعد إصلاحها. وهذا هو الأظهر في معنى الآية.
وقوله جل وعلا :[ وادعوه خوفا وطمعا ]( الأعراف : آية ٥٦ ) قال بعضهم[ وادعوه ] معناه : اعبدوه. وقال بعضهم : هو الدعاء بمعنى المسألة والطلب لجلب الخير ودفع الضر. والدعاء من أعظم أنواع العبادة.
وبين ( جل وعلا ) أن الداعي ينبغي له إذا دعا ربه أو عبد ربه يستشعر الخوف من الله والطمع فيه، فيكون طامعا في ثواب الله ورحمته واستجابة دعائه لما يعلم من فضل الله وكرمه ورحمته ورأفته بعباده. فعلى الداعي أن يكون خائفا طامعا. وبهذا يعلم أن ما يقوله بعض من غلا : أن من عبد الله لأجل الخوف من الله، أو لأجل الطمع فيه أن عبادته ناقصة ! ! لأنه متاجر بعبادته ليدفع عنه الخوف، أو يستجلب له الطمع، وأن الأكمل أن يكون عبد الله لعظمة الله وإجلاله. هكذا يقول بعضهم ! وخير الهدي هدي كتاب الله وقد أمرنا في دعائه أن ندعوه خائفين من عذابه وعقابه ونكاله، طامعين في فضله ورحمته ورأفته وجوده وما عنده من الخير ؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين هما : جلب النفع ودفع الضر. وإذا كان من يعبد الله أو من يدعو الله مستشعرا الخوف من الله والطمع في ثوابه وما عنده من الخير كان الخوف والطمع جناحين يطير بهما إلى الاستقامة وإلى ما ينبغي.
وهذا يعلم منه أنه ينبغي للمسلم أن يكون في جميع أحواله إذا دعا الله أو عبد الله أن يكون جامعا بين الخوف من الله والطمع فيما عند الله ( جل وعلا )، فلا يترك الرجاء لئلا يكون من القانطين [ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ] ( يوسف : آية ٨٧ ) ولا يترك الخوف فيأمن مكر الله ؛ لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون فيكون خائفا من الله، طامعا راجيا في فضل الله.
والعلماء يقولون : ينبغي للإنسان وهو في أيام صحته أن يغلب الخوف على الرجاء، وأن يكون خوفه اغلب من رجائه، فإذا حضره الموت غلب الرجاء في ذلك الوقت على الخوف. فلا ينبغي لمؤمن أن يموت إلا وهو يحسن ظنه بالله ( جل وعلا ) ؛ لأن ربه رؤوف رحيم كما جاء بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن إذا احتضر وعلم أن الموت قد حضره، وأن أيام حياته ذاهبة مدبرة، فهو في ذلك الوقت ينبغي له أن يحسن ظنه بالله، وأن يعلم أنه قادم إلى عفو كريم رؤوف رحيم، والله عند ظن عبده به.
أما في أيام صحته فيغلب الخوف من الله لئلا يحمله حسن الظن على أمن مكر الله والتلاعب بأوامره ونواهيه. هكذا قال بعض أهل العلم. وقد دل الحديث على أن الإنسان لا ينبغي له أن يموت إلا وهو يحسن الظن بالله ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :[ وادعوه خوفا وطمعا ]( الأعراف : آية ٥٦ ).
ثم قال :[ إن رحمت الله قريب من المحسنين ]( الأعراف : آية ٥٦ ) الرحمة صفة من صفات الله اشتق لنفسه منها اسمه( الرحمن ) واسمه ( الرحيم ) وهي صفة كريمة من صفات الله تظهر آثارها فيمن شاء أن يرحمه من خلقه، اشتق من هذه الصفة لنفسه اسمه( الرحمن ) واسمه( الرحيم ) ونحن نثبت لله ما أثبته لنفسه على أكمل الوجوه وأنزهها وأقدسها وأليقها بالله، وأبعدها عن مشابهة صفات المخلوقين.
وقوله :[ قريب من المحسنين ] المحسنون جمع تصحيح للمحسن، والمحسن : اسم فاعل الإحسان، والإحسان مصدر أحسن العمل يحسنه إحسانا، إذا جاء به حسنا.
والإحسان هو الذي خلق الله الخلائق من أجل الاختبار فيه. إحسان العمل كما قال ( جل وعلا ) في أول سورة هود :[ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ]( هود : آية ٧ ) فبين أن الحكمة في الخلق : ابتلاؤه الخلق أيهم أحسن عملا، ولم يقل : أيهم أكثر عملا. وقال في أول سورة الكهف :[ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ] ثم بين الحكمة فقال :[ لنبلوهم أيهم أحسن عملا ]( الكهف : آية ٧ ) وقال في أول سورة الملك :[ الذي خلق الموت والحياة ] ثم بين الحكمة فقال :[ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ]( الملك : آية ٢ ) والإحسان الذي خلقنا من أجل الابتلاء فيه قد أراد جبريل عليه السلام أن ينبه المسلمين إلى الطريق التي يصح بها الإحسان الذي خلقوا من اجله فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور في صفة أعرابي، وسأله عن الإيمان والإسلام، وقال له : يا محمد-صلوات الله وسلامه عليه- أخبرني عن الإحسان ؟ أي : وهو الذي خلقتم من أجل الاختبار فيه. فبين له النبي صلى الله عليه وسلم إن إحسان العمل لا يكون إلا بالواعظ الأكبر والزاجر الأعظم وهو مراقبة الله، وعلم العبد أنه كأنه ينظر إلى الله ( جل وعلا )، وأنه إن كان لم ير الله فالله ( جل وعلا ) يراه. فمن علم أنه بين يدي ملك السماوات والأرض الجبار العظيم الأعظم، وأن الله يراه : أحسن عمله ؛ لأن الإنسان- ولله المثل الأعلى- إذا كان أمام ملك جبار من ملوك الدنيا شديد البطش على من لم يمتثل أمره، وأمره بعمل، وهو حاضر ينظر إليه، لا بد أن يجد ويحسن ذلك العمل على أكمل الوجوه.
فعلى المؤمن أن يستشعر انه بين يدي خالق السماوات والأرض، وأن الله يراه، وأنه ليس بغائب عنه. فإذا لاحظ هذا ملاحظة صحيحة أحسن العمل ؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا لجبريل في قوله : اخبرني عن الإحسان. قال صلى الله عليه وسلم :" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " لأن من لاحظ هذه الموعظة وهذه المراقبة أحسن عمله.
وفي هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف : سؤال عربي مشهور عند علماء التفسير، وهو أنه قال :[ إن رحمت الله ] ثم قال :[ قريب ] بصيغة التذكير ولم يقل. قريبة. يقولون : الرحمة لفظها مؤنث فلم لم يقل : إن رحمة الله قريبة من المحسنين، بل قال : قريب. وللعلماء عن هذا السؤال العربي أجوبة تزيد على العشرة، كما هي معروفة في علوم التفسير، وبعض علوم العربية، نذكر منها بعضا فيه كفاية :
منها : أن الرحمة مصدر بمعنى ( الرحم ) والمصدر مذكر المعنى، فمعنى[ إن رحمت الله ] أي : إن رحمه بعبده قريب. فذكره نظرا لمعنى الرحمة ؛ لأن معناها المصدر بمعنى ( الرحم ).
وقال بعض العلماء :( رحمة الله ) هنا يعني انه يرحم العبد بالثواب فيكون المعنى : إن ثواب الله الناشئ عن رحمته بعبده قريب من المحسنين.
الوجه الثالث : هو ما قرره بعض علماء العربية : أن القرب نوعان : قرب في النسب، وقرب في المسافة المكانية أو الزمانية، أما قرب النسب فالمؤنثة فيه يلزمها التاء بلا خوف بين علماء العربية، فتقول : هذه المرأة قريبتي. تعني في النسب. ولا يجوز أن تقول : قريبتي بلا تاء. فالقرابة في النسب يلزم فيها تاء الفرق بين الذكر والأنثى، فلا يجوز- قولا وحدا- أن تقول : هذه المرأة قريب مني في النسب، بل يلزم أن تقول : قريبة مني في النسب بالتاء. أما إن كان القرب قرب مكان أو زمان فيجوز في المؤنثة التأنيث والتذكير، فتقول : هذه المرأة قريب مني. تعني في المسافة لا في النسب. ودارها قريب من داري. وإن شئت قلت : قريبة من داري. والكل مسموع في كلام العرب، فتقول : دار زيد قريب من دار عمرو، ودار زيد قريبة من دار عمرو، وهذه المرأة الفلانية قريب من فلان. تعني في المسافة وقريبة منه تعني في المسافة، والكل مسموع موجود في كلام العرب، فمن إدخال التاء على قرابة المسافة قول عروة بن حزام :
عشية لا عفراء مني قريبة | فتدنو، ولا عفراء منك بعيد |
له الويل إن أمسى ولا ام هاشم | قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا |
قال بعض أهل العلم : وجه تذكير الرحمة : إضافتها إلى الله جل وعلا.
وقال بعضهم : وجه تذكيرها لأنها نعت لموصوف محذوف : إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين.
والذين يقولون : عن رحمة الله هي رحمته لعبده في الآخرة، يقولون : إن الإنسان كل يوم يقرب من الآخرة ويبعد من الدنيا ؛ لأن ما أمامك قريب وما وراءك بعيد، كما قال الحطيئة أو غيره :
لعمرك ما السعادة جمع مال | ولكن التقي هو السعيد |
وما لا بد أن يأتي قريب | ولكن الذي يمضي بعيد |
والذين يقولون : إن رحمة الله قربية من عباده المحسنين بحصو
وقوله :[ بشرا بين يدي رحمته ]( الأعراف : آية ٥٧ ) فيه قراءات كثيرة، السبعيات منها أربع :[ نشرا بين يدي رحمته ] [ نشرا بين يدي رحمته ][ نشرا بين يدي رحمته ] [ بشرا بين يدي رحمته ] هذه القراءات الأربع هي السبعيات من القراءات التي في هذه الكلمة.
فقرأ بعضهم :[ نشرا ] بضم النون والشين. وهي قراءة نافع، وابن كثير وأبي عمرو.
وقرأ بعضهم :[ نشرا ] بضم النون وسكون الشين. وقرأ بها من السبعة، ابن عامر وحده.
وقرأ بعضهم :[ نشرا ] بفتح النون وسكون الشين. وهي قراءة حمزة والكسائي.
وقرا عاصم وحده :[ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ] هذه القراءات السبعية، على أن بعض السبعة قرأ ( الرياح ) وبعضهم قرأ( الريح ).
ومعنى قراءة ( الريح ) : جنس الرياح، فلا تنافي قراءة الإفراد قراءة الجمع.
أما من قرأ :[ نشرا ] فنشرا جمع ناشرة، أو جمع نشور، وفيها معنيان : أحدهما : أنها تنتشر أمام المطر من ها هنا وها هنا، أو أنها تلقح المطر الذي به إحياء الأرض الميتة فكأنها تنشره. والإنتشار والنشور : النشور الحياة بعد الموت، وانشره : أحياه بعد الموت. وأكثرهم على أن نشرا جمع نشور، أو جمع ناشرة كما قال بعضهم، كشاهد وشهد. ونشر هي التي تنتشر أمام المطر فتأتي منتشرة من ها هنا ومن ها هنا. وعلى هذا القول فهو من الانتشار ؛ لأن الريح كأنها كانت راكدة كالشيء المطوي، فإذا كانت أمام المطر نشرت كما ينشر الثوب، فجاءت منتشرة أمام المطر من ها هنا ومن ها هنا.
وقراءة ابن عامر[ نشرا بين يدي رحمته ] كقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو إلا أن ابن عامر خفف الشين فسكن ضمتها. كما تقول : رسل ورسل، وكتب وكتب، ونشر ونشر. فمعنى قراءة ابن عامر كالقراءة التي قبلها، وهو أن الله يرسل الرياح في حال كونها منتشرة من ها هنا وها هنا أمام السحاب. وهذا من غرائب صنعه وعجائبه جل وعلا.
وعلى قراءة حمزة والكسائي [ نشرا ] ففيه من الإعراب وجهان : أحدهما : أنه ما ناب عن المطلق من [ يرسل الرياح ] لأن معنى ( يرسلها ) في قوة : ينشر الرياح بين يدي المطر نشرا. فتكون مفعولا مطلقا بالمعنى من ( يرسل ). أو أنها مصدر منكر حال، أي : يرسل الريح في حال كونها منتشرة أمام المطر، أو ناشرة كما ذكرنا.
وعلى قراءة حفص[ يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ] فالبشر هنا جمع البشير ؛ لأن الرياح تبشر بإتيان المطر بعدها فهي بشير المطر، كما يدل عليه وقوله :[ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ]( الروم : آية ٤٦ ) فإجراء الريح وانتشارها من هاهنا وهاهنا أمام المطر مبشرة به غرائب صنعه وعجائبه، ومن عظائم نعمه على خلقه، وهو معطوف على قوله :[ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ] هذا الذي خلق السماوات والأرض، وأغشى الليل النهار كذلك هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته.
ومعنى [ بين يدي رحمته ] المراد بالرحمة هنا : المطر ؛ لأن المطر رحمة الله يرحم بها عباده في الدنيا فيكونون في جدب وفي فقر، ومواشيهم على وشك الهلاك، فيغيثهمم الله بالمطر، فتنبت زروعهم وثمارهم وتنعم مواشيهم فتكثر عندهم اللحوم والسمان والأزباد، وتتوفر عندهم الأشعار والأصواف والأوبار، ينسجون منها اللباس وغيره من الفرش والخيام وما جرى مجرى ذلك. فهذا من غرائب آياته وعظائم نعمه.
ومعنى ( بين يدي المطر ) يعني : أمام المطر قدامه منتشرة قدامه مبشرة به. وهذا من غرائب صنعه وكبائر نعمه.
والريح اختلف الفلاسفة في حدها، وربما عجزوا عنه. وبعضهم يقول : الريح هواء متحرك. والريح هي هذا الشيء الذي تشاهدونه وتحسونه. أما تعريفهم فقد عسر على من أراده. وعرفه بعضهم بأنه : هواء يتحرك. وقد سلطها الله على قوم عاد فأهلكتهم عن آخرهم. وهذا معنى قوله :[ يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ] يعني أمام المطر. فقد سمى المطر ( رحمة ) لأن الله يرحم به عباده فتخصب بلادهم وتنمو زروعهم ومواشيهم وثمارهم، وهو أصل النعم الدنيوية على الخلق ؛ ولذا سماه( رحمة ) هنا، وفي قوله بالروم :[ فانظر إلى أثر رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها ] ( الروم : آية ٥٠ ) وفي القراءة الأخرى :[ إلى أثر رحمت الله ].
[ بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ]( الأعراف :: آية ٥٧ ) من فوائد الريح : كما أن الله ينشرها مبشرة بالمطر منتشرة أمامه كذلك يحمل عليها المطر ؛ لأن السحاب هو غير المطر بإجماع أهل اللسان، فالسحاب : الوعاء الذي فيه المطر : هو نفس الماء، وهو نفس الودق.
وهذه الآية من سورة الأعراف تبين أن الماء أنه في وعاء، وأن ذلك الوعاء ثقيل جدا ثقلا عظيما، وان الله يحمله-مع ثقله-على متن الريح، ثم إن الريح تذهب به إلى حيث شاء الله ( جل وعلا )، فيسيل ذلك المطر من الثقوب والخلال التي في ذلك السحاب الذي هو الوعاء، وقد بين الله كيفية هذا في سورة النور في قوله :[ ألم تر أن الله يزجى سحابا ]أي : يسوق سحابا[ ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما ] أي : متراكما بعضه فوق بعض[ فترى الودق ] وهو نفس المطر الذي هو الماء[ يخرج من خلاله ]( النور : آية ٤٣ ) أي : من ثقوب السحاب. وخلال الشيء : ثقوبه وفروجه. فهو يتقاطر من الثقوب والفروج التي جعلها الله في الوعاء الذي يحمل فيه المطر. وبين أن ذلك الوعاء ثقيل جدا في قوله :[ حتى إذا أقلت ]( الأعراف : آية ٥٣ ) أقلت : أي حملت. والعرب تقول : أقلته ناقته. أي : حملته. والمراد : أقلت الريح، أي حملت الريح [ سحابا ] جمع سحابة، وهي الوعاء الذي فيه الماء، وهي المزنة.
[ ثقالا ] جمع ثقيلة، أي : سحابة ثقيلة. وسحاب- بالجمع- ثقال. والله صرح بأنها ثقال، أي : شديدة الثقل لما هي موقرة به- مملوءة به- من الماء.
وهذا نص صريح من رب العالمين الذي هو أصدق من يقول ان الله يجعل من ماء المطر في وعاء، وأنه يحمل تلك الأوعية الثقيلة جدا على متن الريح، ثم إنه إذا أراد نزول المطر إلى محل اخرج الماء من الثقوب والفروج والخلل الذي في ذلك الوعاء الذي فيه الماء، كما قال :[ فترى الودق يخرج من خلاله ] ( النور : آية ٤٣ ) وهذا الماء ينزله الله ( جل وعلا ) من حيث شاء، وهو قادر على أن ينزله من نهر تحت العرش، وعلى أن يجعله من بخار البحر ثم يرفعه فيجعله ماءا صافيا ويجعله في المزن، هو قادر على كل ذلك. وأكثر السلف على أن الماء ينزل في السحاب من نهر تحت العرش. وبعض العلماء يقول : لا مانع من أن يرتفع من بخار البحر ماء صاف عذب تتحلل منه الأجرام الملحة ثم يجعله الله في وعاء المزن، ثم يحمله على الريح، ثم يلقيه حيث يشاء. كما قال مسلم الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له الأرض تحمل صخرا ثقالا |
دحاها فلما استوت شدها | جميعا وأرسى عليها الجبالا |
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له المزن تحمل عذبا زلالا |
إذا هي سيقت إلى بلدة | أطاعت فصبت عليها سجالا |
سقى أم عمرو كل آخر ليلة | حناتم غر ماؤهن ثجيج |
شربن بماء البحر ثم ترفعت | متى لجج خضر لهن نئيج |
لا تلمني إنها من نسوة | رقد الصيف مقاليت نزر |
كبنات البحر يمأدن كما إذا | أنبت الصيف عساليج الخضر |
فقوله في هذه الآية الكريمة :[ ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ] وإتباعه لذلك بقوله :[ فأبى أكثر الناس إلا كفورا ]( الفرقان : آية ٥٠ ) من غرائب هذا القرآن وعجائبه. وتطبيقه الآن على أكثر من ف
[ والذي خبث ] : أي والبلد الذي خبث كالبلد الذي يكون سبخا خبيثا لا يخرج نباته ولو تتالت عليه الأمطار [ إلا نكدا ] إلا في حال كونه نكدا عسير الخروج لا خير فيه ولا منفعة فيه ألبة، يخرج بعسر غاية العسر ويخرج مسلوبا من الخير والنفع.
وأصل النكد في لغة العرب : العسير، لا يخرج إلا في حال كونه نكدا، أي عسير الخروج، مسلوب الفائدة، لا ينتفع به في أكل الناس، ولا أكل الأنعام، إذ لا فائدة فيه، فكذلك قلب الكافر لا يثمر إلا نكدا عسيرا، ثمرة لا فائدة فيها، كالأرض السبخة إذا كثرت عليها الأمطار لا تثمر شيئا فيه فائدة. وهذا المثل بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه بيانا واضحا، وفيه :" إن مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل غيث كثير أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء، فذلك مثل من فقه في الدين ونفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الذي اتفق عليه مسلم والبخاري من حديث أبي موسى الأشعري ( رضي الله عنه ) بين أن قلوب البشر بالنسبة إلى أمطار القرآن ثلاثة أنواع : قلب كالأرض الطيبة إذا نزلت عليه أمطار القرآن أنبت العشب والكلأ الكثير، معناه : أنه يثمر فيه القرآن ومواعظه فيجمع بين العلم به والعمل، فيتعلم معانيه، ويفهم حكمه، ويعمل بها، ويعلمها غيره. وفي حديث البخاري من حديث عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) :" خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وفي رواية في صحيح البخاري :" عن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه " فهذه هي الطائفة الأولى من الطوائف الثلاثة التي شبهها النبي صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه- بالأرض الطيبة القابلة للماء المنبتة للكلأ والعشب الكثير، فكذلك القلوب الطيبة تثمر فيها مواعظ القرآن الثمرات الكثيرة الطيبة، فترى صاحبها خائفا من الله، طامعا في فضل الله، مطيعا لله، متباعدا عن معاصي الله، ممتثلا جميع الأوامر، متباعدا عن انتهاك شيء من النواهي، فهذه الطائفة الأولى.
الطائفة الثانية : ضرب لها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه مثلا بأنها كأنها أجادب ليس فيها مرعى ولكن فيها منافع تمسك الماء فيسيل الماء ويحبس فيها فتكون مجمعة فيها مياه كثيرة، ثم هذه المياه ينفع الله بها خلقه : منهم من يأتي فيشرب، ومنهم من يسقي مواشيه من هذا الماء، ومنهم من يسلطه على زروعه وبساتينه فينتفع بهذا الماء. وهذه الطائفة هي التي حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به من القرآن والحديث الصحيح، ولم يكن عندهم من قوة الفهم ما يتفهمون في معانيه ويطلعون على أسراره وحكمه، فهم كهذا المستنقع الذي امسك هذا الماء حتى انتفع به آخرون، فهم يحفظون ذلك العلم فيرويه عنهم فطاحل علماء يقفهون على أسراره ويفهمون معانيه ويستنبطون منه، فكذلك هذا الماء الذي أمسكته هذه الأجادب لم ينبت هو فيه نفسه، ولكن الله نفع به الناس حيث شربوا منه وسقوا مواشيهم وزروعهم، كذلك هؤلاء
يحفظون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انزل الله عليه، ولم تكن افهماهم بالغة أفهام فطاحل العلماء، إلا أن العلماء يروونه عنهم رواية صحيحة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فيتفهمون في معانيه، ويقفون على أسراره، ويستنبطون منه ويبينونه للناس. هذه الطائفة الثانية " ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " فترى بعض الأئمة العظام يروي حديثا صحيحا وبعض رواته ليس من أهل العلم، وليس من أهل الاستنباط والخوض في معاني الكتاب والسنة، فيحفظ عنه ذلك الفحل من فحول الأئمة ذلك الحديث مثلا فيستنبط منه الأحكام، ويبين فيه الأسرار المشتملة عليه.
الطائفة الثالثة : هي التي ضرب لها مثلا بالأرض السبخة التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، وهذه مضروبة لقلوب الكفار والمنافقين، كلما تتابعت عليهم المواعظ وسمعوا آيات القرآن تتلى وأسمعوا مواعظه وزواجره كان يمر على قلوبهم من غير أن يستفيدوا شيئا، كما أن تلك الأرض السبخة كلما تتابع عليها المطر لم تزدد إلا خبثا، لم تمسك ماء عذبا يشرب منه، ولم تنبت للناس كلأ ولا عشبا. فقلوب هؤلاء لم تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم علما يروى عنهم حتى ينتفع به غيرهم، ولم ينتفعوا بأنفسهم مما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم، فهم كالسباخ التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
وهذا مثل عظيم ضربه الله، وجرت العادة أن الكتب السماوية تكثر فيها ضروب الأمثال ؛ لأن المثل يصير المعقول كالمحسوس ؛ ولذا قال الله :[ وتلك المثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ]( الحشر : آية ٢١ ) وبين أن الأمثال لا يفهمها عن الله إلا أهل العلم حيث قال في العنكبوت :[ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون( ٤٣ ) ]( العنكبوت : آية ٤٣ ) وبين ( جل وعلا ) أنه لا يستحي أن يضرب مثلا ما، كائنا ما كان، وأن الأمثال التي يضرب يهدي الله بها قوما أراد هداهم، وتكون سببا لضلال آخرين أراد الله إضلالهم، فهي من فتنة الله التي يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء، وذلك في قوله :[ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون انه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ] ثم قال :[ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ]( البقرة٢٦ ) هذه امثال القرآن يهدي الله بها من يريد هداه، وما يضل بها إلا الفاسقين. ولما سمع الكفار أن الله يضرب المثل بالكلب في قوله :[ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ]( الأعراف : آية ١٧٦ ) ويضرب المثل بالحمار في قوله :[ كمثل الحمار يحمل أسفارا ]( الجمعة : آية ٥ ) ويضرب المثل بالذباب [ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ]( الحج : آية ٧٣ ) وسمعوه يضرب المثل بهذه الأشياء قالوا : الله أعظم وأكبر وأنزه من أن يذكر الحمار والكلب والذباب والعنكبوت ! فهذا الكلام الذي فيه هذه الحقيرات ليس من كلام الله ؛ لأن الله أعظم من هذا. فبين الله انه يضرب الأمثال ويبين العلوم العظيمة الجليلة في ضرب المثال في أمور حقيرة ؛ ولذا قال :[ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ] فترى الذباب من أحقر الأشياء ولكن المثل المضروب فيه من أعظم العلوم ؛ يبين للناس أن المعبودات من دون الله بالغة من التفاهة وعدم الفائدة ما يجعلها لا تقدر على خلق الذباب، ولو تسلط الذباب عليها فانتزع منها شيئا ما قدرت على أن تنتصف منه. وهذا من التحقير والتصغير للمعبود من دون الله يقتضي علما عظيما له قدره ومكانته، وهو إفراد الله بالعبادة ؛ لأنه يبين أن بيت العنكبوت الذي تنسجه من خيوط ريقها لا يغني شيئا عن احد، فكذلك المعبودات من دون الله. فالشيء في نفسه حقير والعلم المبين في ضرب المثل فيه علم عظيم كريم له مكانته وقدره ؛ ولذا قال تعالى :[ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما ].
وبهذه الآيات وهذه الأمثال التي ذكرنا يجب على المسلم أن يخاف من سخط الله وان يكون قلبه كالأرض السبخة التي لا تنتفع بمواعظ القرآن ولا بزواجره، ويسأل الله أن يجعل أرض قلبه طيبة قابلة لمواعظ القرآن وزواجره وأوامره ونواهيه ؛ فإن من كانت أرض قلبه طيبة انتفع بمواعظ هذا القرآن، ونفعته أوامره فامتثلها، وزواجره فاجتنبها، وأمثاله فاعتبر بها، وقصصه فاعتبر بها. فعلينا جميعا ان نسأل الله أن لا يجعل قلوبنا كالأرض السبخة التي لا تنتفع بما ينزل عليها من أمطار الوحي، وان يجعل أرض قلوبنا كالأرض الطيبة القابلة للإثمار وإنبات العشب والكلأ الكثير والتأثر بآيات الله ( جل وعلا ) لتثمر الخير كله من الإيمان بالله وطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه. وهذا معنى قوله :[ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ]( الأعراف : آية ٥٨ ).
[ كذلك ] التصريف. التصريف : قلب الشيء من حال إلى حال. والله يبين لنا المواعظ موعظة بعد موعظة، والآيات آية
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو :[ إني أخاف عليكم ] بفتح ياء المتكلم. وقرأ الباقون :[ إني أخاف عليكم ] بإسكان الياء. والجميع لغة.
أما قراءة الكسائي :[ ما لكم من إله غيره ]ف( غيره ) نعت للإله وهو مجرور ب( من ). وأما على قراءة الجمهور :[ ما لكم من إله غيره ] فالنعت راجع للمحل ؛ لأن الأصل :( ما لكم إله غيره ] فجر المبتدأ ب( من ) لتوكيد النفي، فهو مخفوض لفظا مرفوع محلا، والتابع للمخفوض لفظا المرفوع محلا يجوز رفعه نظرا على المحل، وخفضه نظرا إلى اللفظ كما هو معروف في علم العربية.
واللام في قوله :[ لقد أرسلنا ] هي جواب قسم محذوف : والله لقد أرسلنا. وهذه اللام الموطئة للقسم إذا جاءت مع الفعل الماضي لا تكاد العرب تجردها من ( قد )، تأتي معها ب( قد ) التحقيقية دائما، حتى زعم بعض العلماء ان ( قد ) واجبة معها إن كانت بعد اللام الموطئة للقسم قبل فعل ماض. والتحقيق انه لغة فصحى كثيرة ربما نطقت العرب بغيرها فجاءت باللام والماضي دون ( قد )، وهو مسموع في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس :
حلفت لها بالله حلفة فاجر | لناموا فما إن من حديث ولا صالي |
والله [ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ] [ نوحا ] هو نبي الله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والمؤرخون يقولون : إنه ابن لمك بن متوشلخ بن خنوخ، ويزعمون أن خنوخ هو إدريس، وان نوحا من ذرية إدريس. هكذا ذكره غير واحد من المفسرين. وأن إدريس قبل نوح، وجاء في بعض روايات حديث الإسراء ما يدل على أن نوحا ليس من ذرية إدريس، لأنه إذا سلم على أجداده كإبراهيم ونوح ومن جرى مجراهم يقولون : مرحبا بالنبي الصالح والابن الكريم. وإدريس لم يقل مرحبا بالنبي الصالح والابن، وإنما قال " والأخ. كما جاء في بعض روايات حديث المعراج كما هو معروف، وأكثر المؤرخين على هذا.
ونوح هو أول نبي بعثه الله في الأرض بعد أن صار الكفر في الأرض، وعبدت فيها الأصنام، وعبد فيها غير الله. فأول رسول أرسل بمنع عبادة الأصنام وتوحيد الله بعبادته هو نبي الله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد ثبت في أحاديث الشفاعة التي تكاد أن تكون متواترة أن آدم يقول لهم : اذهبوا إلى نوح فإنه أول نبي بعثه الله في الأرض. وذكر المؤرخون وأصحاب الأخبار أن بين نوح وآدم عشرة قرون كلها كانت على دين الإسلام، وكان في قوم نوح رجال صالحون من أفاضل الناس في العبادة والزهد وطاعة الله، وهم : ود، ويغوث، ونسر، ويعوق، فلما ماتوا صور قومهم صورهم وبنوا عليهم مساجد، وصاروا إذا نظروا إلى صور أولئك الصالحين بكوا بكاء شديدا ونشطوا في العبادة لما يعلمون من صلاح أولئك القوم وما كانوا عليه من العبادة، فتطاول بهم الزمان حتى مات أهل العلم وبقي الجهال فجاءهم الشيطان فقال لهم : إنما كانوا يعبدون هؤلاء ويسقون بها. فعبدوهم، وذلك أول كفر وقع في الأرض.
وعلم بذلك أن أول كفر وقع في الأرض إنما جاء عن طريق التصوير، فكثير من الناس الذين لا يفهمون يقولون : هؤلاء المنتسبون للعلم يشددون النكير في التصاوير ويحرمون التصوير، والتصوير ليس فيه جناية على مال، ولا على نفس، ولا على عرض، فأي ذنب عظيم في التصوير، وأي بأس فيه ؟ ويظنون لجهلهم أن أمره خفيف.
والتصوير له أثره البالغ في إفساد الدنيا وإفساد الدين أولا وآخرا، أما أولا : فالتصوير هو سبب أول كفر وقع في الأرض تحت السماء، وأوله تصوير صور أولئك القوم الصالحين الذين صورهم بقصد حسن، وكانوا إذا رأوا صورهم بكوا وأنابوا إلى الله، وجدوا في العبادة بما كانوا يعلمون من صلاح أولئك القوم الذين صرروا صورهم، ثم تطاول بهم الزمان إلى أن كانت تلك الصور أوثانا تعبد من دون الله ؛ ولذا عارضوا نبي الله نوحا في عبادتهم أشد المعارضة[ وقالوا لا تذرن ألهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ( ٢٣ ) وقد أضلوا كثيرا ]( نوح : تالآيتان٢٤، ٢٣ ) فعلم أن التصوير كان أول جناية شركية وقعت في الدنيا. وهذا الأثر السيئ التاريخي يدل على عظم شره قبحه الله.
وكذلك في الآخر كان من أعظم الأسباب التي ضيعت أخلاق المسلمين وذهبت بعقولهم ومكارمهم ؛ لأن الذين يريدون ضياع الإسلام يسعون كل السعي في أن يصوروا النساء عاريات الفروج، ويطبعون صورها في الصحف والمجلات، ويرسلونها لأقطار الدنيا. فإذا رأى الشاب الغر المسكين صورة فرج الخبيثة باديا تحركت غريزته، وقامت شهوته، وسافر إلى البلاد التي تمكنه فيها الحرية وإشباع رغبته الغريزية التي لم يقيدها تقوى، ولم يزمها إيمان ولا ورع ولا مروءة. فصار التصوير في الأحوال الراهنة له أيضا أثره البالغ في ضياع الأخلاق، وانتشار الرذيلة، والقضاء على مكارم الأخلاق- قبحه الله- ويكفيه أن الله ( جل وعلا ) له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ومن أسمائه العظيمة التي تحتها غرائب وعجائب تفتت الأكباد اسمه( المصور ) جل وعلا، فهو جل وعلا من أسمائه الأزلية التي سمى بها نفسه ( المصور ) واسمه( المصور ) تحته من غرائب صنعه وعجائب قدرته ما يبهر العقول لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد، ومما يوضح عظمة هذا الاسم وما يشير إليه من كمال قدرة الله وعظم علمه وإحاطته بكل شيء أن ينظر الواحد منكم إلى الحجيج يوم جمرة العقبة فيجد الناس بهذه الكثرة العظيمة مع اختلاف ألوانهم وأشكالهم وبلادهم وهيئاتهم، ويجد الجميع مصبوبين صبة واحدة، الأنف موضوع في محله، والعينان في محلهما، والأذنان في محلهما، والفم في محله، وكل عضو موضوع في موضعه من الجميع. والله يصور كل واحد منهم صورة مستقلة يطبعه عليها بعلمه وقدرته لا يشاركه فيها احد ألبة، فلا يشتبه منهم اثنان، وكل صورة طبع عليها واحد منهم فهي كانت في علمه الأزلي قبل أن يقع ذلك الإنسان، فلما وقع وقع مصورا بالصورة التي كانت مهيأة له في العلم السابق، ولو جاء ملايين أضعاف الحصى من البشر لم يضق علم الله عن أن يخترع لكل واحد منهم صورة تخصه لا يشاركه فيه غيره، حتى أن أصواتهم لم تتشابه، وآثارهم في الأرض لا يختلط بعضها ببعض، وبصمات أصابعهم في الأوراق لا يشابه بعضها بعضا عند من يعرف ذلك، فالله سمى نفسه ( المصور ) لما تحته من هذه الأسرار العظام والعجائب والغرائب التي تبهر العقول، فيأتي هذا الإنسان الضعيف المسكين لينزل نفسه منزلة العظيم الجبار المصور ويفعل كفعله ؛ ولذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تشديد عذاب المصورين في الأحاديث الصحيحة أنهم أشد الناس عذابا، وان ما صوروه في الدنيا يؤمرون بأن يحيوه ويعذبون عليه عذابا شديدا.
والحاصل أن التصوير هو سبب أول شرك وقع في الدنيا، وله أثره الفعال الآن في فساد الأخلاق، وضياع شباب المجتمع كما هو معروف ؛ لأن من أعظم أسباب الفساد وتغيير فطر شباب المسلمين أن يروا في أوراق الصحائف والمجلات فروج النساء-صورها- عاريات، فإذا رأى صورة المرأة على هيئتها متجردة من كل شيء بادية الفرج، فلا شك أن الشباب الذي ليس عقله مزموما بإيمان كامل، وورع ومروءة تامة أن ذلك يحرك غريزته ويهيج طبيعته، فتراهم كثيرا يسافرون باسم العلاج، وباسم كذا وكذا من الأعذار الكاذبة، وإنما مقصدهم في الحقيقة هو أن يشبعوا رغباتهم الغريزية مما عاينوا منتشرا من الفساد في قعر بلادهم نعوذ بالله من ذلك، وهذا معنى قوله :[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ]( الأعراف : آية ٥٩ ).
ذكر بعض العلماء أن قوم نوح كانوا خلقا كثيرا منتشرين في أقطار الدنيا. وبعضهم يقول : إنهم كانوا في بعض الأرض دون بعضها. ولم يقم دليل صحيح على عددهم وكثرتهم، هل كانوا يشغلون جميع نواحي المعمور أو بعضا منها ؟ ولم يأت من هم. والله في القرآن لم يسمهم إلا بقوم نوح. [ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ] يعني : بعد أن عبدوا الأصنام، وعبدوا صور أولئك الصالحين : ودا ويغوث ويعوق ونسرا، وبعد أن فعلوا ذلك أرسل الله إليهم نبيه نوحا ليتركوا عبادة الأصنام ويعبدوا الله وحده، فقال لهم نوح :[ يا قوم ]( الأعراف : آية ٥٩ ) حذف ياء المتكلم، والأصل :( يا قومي ) والمنادى المضاف إلى ياء المتكلم أصله فيه الخمس اللغات المعروفة منها حذف ياء المتكلم.
[ اعبدوا الله ] ( الأعراف : آية ٥٩ ) أصل العبادة في لغة العرب : الذل والخضوع، فكل خاضع ذليل تسميه ( عابدا ) وكل ما خضع وذلل فقد عبد، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
تباري عتاق الناجيات واتبعت | وظيفا وظيفا فوق مور معبد |
والعبادة في اصطلاح الشرع : هي التقرب إلى الله ( جل وعلا ) وإفراده بذلك التقرب والعبادة في جميع ما أمر أن يتقرب إليه به على سبيل الذل والخضوع والمحبة، فلا يكفي الذل والخضوع دون المحبة، ولا يكفي المحبة دون الذل والخضوع، فلا بد من الجمع بين الأمرين. فإن كان الذل والخضوع دون محبة فالذليل الخاضع قد يكن مبغضا كارها لمن أذله وأخضعه، ومن أبغض ربه وكرهه فهو في دركات النار. والمحبة وحدها إذا لم يكن معها خوف قد يتجرأ صاحبها ويكون ذا دلال فيتجرأ على المقام الأقدس بما لا ينبغي. فلا بد أن تكون هناك محبة، وان يكون هناك خوف وذل وخضوع لله. وضابطها هي التقرب إلى الله بما أمر أن يتقرب إليه به بإخلاص، على النحو الذي شرع، فلا يرضى الله أن يعبد بغير ما شرع. فلا بد أن تكون بما شرع مطابقة للشرع، مخلصا فيها لله وحده ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :[ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٥٩ ) ليس لكم من إله غيره.
قوله هنا :[ ما لكم من إله ] ( الأعراف " آية ٥٩ ) أصله مبتدأ زيدت قبله( من ) والمقرر في فن الأصول : أن النكرة في سياق النفي ظاهرة في العموم، أما إذا دخلت عليها( من ) المزيدة لتوكيد النفي فإنها تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم. فلو قيل :" ما لكم إله غيره " كان ظاهرا في العموم. فإن قيل :" ما لكم من إله غيره ". كان نصا صريحا في العموم، وقد تزاد ( من ) قبل النكرة في سياق النفي لتنقله من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، تطرد زيادتها هكذا بهذا المعنى في اللغة العربية في ثلاثة مواضع لا رابع لها :
الأول : أن تزاد قبل المبتدأ كما هنا، كقوله :[ ما لكم من إله غيره ] أصله :( ما لكم إله غيره ).
الثاني : أن تزاد قبل الفاعل، نحو :[ ما جاءنا من بشير ]( المائدة : آية ١٩ ) الأصل :( ما جاءنا بشير ) فالمجرور بها فاعل أصلا.
الثالث : أن تزاد قبل المفعول به، نحو :[ وما أرسلنا من قبلك من رسول ] ( الأنبياء : آية ٢٥ ) الأصل :( وما أرسلنا من قبلك رسولا ).
[ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ] ( الأعراف : آية ٥٩ ) على قراءة الجمهور ف [ غيره ] نعت لمحل الإله ؛ لأن أصله مرفوع. وعلى قراءة الكسائي فهو نعت للفظ الإله ؛ لأنه مجرور ب( من ) وقد قدمنا أن ( الإله ). ( فعال ) بمعنى ( مفعول ) أي : معبود، فالإلهة في اللغة : العبادة. والإله :
وقد قدمنا أن ( المبين ) هو اسم فاعل ( أبان ) وان العرب تستعمله استعمالين كلاهما في القرآن. تقول العرب : أبان الأمر يبين. من ( أبان ) اللازمة. فهو بين ومبين. وعلى هذا فالمبين صفة مشبهة من ( أبان ) اللازمة بمعنى ( بين ) وعليه : في ضلال بين. أي : واضح لا إشكال فيه. وهذا المعنى كثير في كلام العرب-إطلاق ( أبان ) لازمة- ومنه قول كعب بن زهير :
قنواء في حريتيها للبصير بها | عتق مبين وفي الخدين تسهيل |
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها | لبان من آثارهن حدور |
إذا آباؤنا وأبوك عدوا | أبان المقرفات من العراب |
الوجه الثاني : تستعمل ( أبان ) اسم فاعل ( أبان ) المتعدية، أبانه يبينه.
فاسم الفاعل ( مبين ) واسم المفعول ( مبان ) كما هو معروف. والظاهر أن هذه هنا من اللازمة.
ومعنى :[ في ضلال مبين ] أي : في ضلال بين واضح، من ( أبان ) اللازمة.
[ ولكني رسول من رب العالمين ]الأعراف : آية ٦١ ) أرسلت إليكم من خالق السماوات والأرض وما بينهما ومدبر شؤون الجميع. وقد بين في الشعراء أن ( العالمين ) يشمل السماء والأرض ومن فيهما وما بينهما في قوله :[ قال فرعون وما رب العالمين( ٢٣ ) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين( ٢٤ ) ]( الشعراء : الآيتان٢٤، ٢٣ ).
[ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من ربا لعالمين( ٦١ )
[ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ] العرب تقول : نصحه ونصح له، و( نصح له ) أكثر. ومعناه :[ أنصح لكم ] أبغي لكم النصيحة خالصة من شوائب الغش جميعه، بل إنما أعطيكم النصيحة صافية خالصة من شائبة الغش، ادعوكم إلى الله[ وأعلم من الله ما لا تعلمون ]( الأعراف : آية ٦٢ ) اعلم من ربي ما لا تعلمونه، ومن جملة ذلك أنكم إن عصيتموني، ومتم على كفركم أنكم تلقون العذاب العظيم والإهانة الكبرى والخلود في دركات النار، وأنكم إن أطعتموني دخلتم الجنة وخلدتم في نعيم الله، وهذا معنى قوله :[ وأنصح لكم واعلم من الله ما لا تعلمون ] أي : بوحي من الله جل وعلا.
هذا مما قص الله علينا من قصص أنبيائه مع أممهم. لما قال نوح لقومه :[ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ]( الأعراف : آية ٥٩ ) وردوا عليه ذلك الرد القبيح الشنيع، وقالوا له :[ إنا لنراك في ضلال مبيني( الأعراف : آية ٦٠ ) وقابل سفاهتهم وجهلهم وقبح ردهم بالكلام اللطيف، والجواب الكريم الخالي من بذاءة اللسان، اللين كما هي عادة الرسل في مخاطباتهم مع الكفرة الجهلة :[ يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ( ٦١ ) أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم واعلم من الله ما لا تعلمون( ٦٢ ) ]( الأعراف : الآيتان٦٢، ٦١ ) قال أيضا لقومه :[ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ] ( الأعراف : آية ٦٣ ) أجرى الله العادة بأن الأمم إذا بعث فيهم رسل منهم يقولون : لو كان الله مرسلا رسولا لما جعله بشرا يأكل الطعام، ويشرب كما نشرب، ويروح إلى السوق ليقضي حاجته، ويتزوج، ويولد له ! لو كان مرسلا رسولا لأرسل الملائكة ؛ لأن لهم هيبة ليست عند الآدميين، وعلامات تميزهم عن الآدميين. ويقولون للرسل : أنتم بشر مثلنا، تأكلون كما نأكل، وتشربون كما نشرب، وتذهبون إلى الأسواق لقضاء حاجاتكم كما نفعل، وتتزوجون كما نتزوج، ويولد لكم كما يولد لنا، فأنتم بشر مثلنا لا يمكن أن نكون لكم تبعا، وأن تكونوا أفضل منا بحيث تكونون آمرين ناهين علينا ! ! هذه عادة أجراها الله كما قال تعالى :[ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا( ٩٤ ) ]( الإسراء : آية ٩٤ ) كيف يبعث الله بشرا يأكل ويشرب، ويذهب إلى السوق ؟ وهذا كثير في القرآن [ فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه ]( القمر : آية ٢٤ ) لا يمكن هذا [ أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله ]( التغابن : آية ٦ ) [ ما انتم إلا بشر مثلنا ]( يس : آية ١٥ ) [ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعمتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون( ٣٤ ) ]( المؤمنون : الآيتان٣٤، ٣٣ ) فيعجبون من أن الله يبعث الرسل من البشر، ويستنكرون هذا الأمر. والرسل تبين لهم أن هذا لا عجب فيه ؛ لأن الله ما أرسل إلى الأمم إلا رسلا منهم، كما قال :[ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ]( يوسف : آية ١٠٩ ) لم نرسل قبل الملائكة. وقال ( جل وعلا ) لما قالوا :[ مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ]( الفرقان : آية ٧ ) قال الله :[ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ]( الفرقان : لآية ٢٠ ) إلى غير ذلك. ومن هذا القبيل قال نبي الله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لقومه :[ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ]( الأعراف : آية ٦٣ ) هذه الهمزة التي تأتي بعدها أداة عطف كالواو، والفاء، وثم، الأكثرون من علماء العربية على أن الهمزة تتعلق بجملة محذوفة، وان الواو إنما فتحت لأنها عاطفة على الجملة المحذوفة الذي دل عليه المقام. وهذا هو الوجه المختار من الوجهين، واعتمده ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح...........................
وتقدير المحذوف : أكفرتم وكذبتموني أيضا من أن جاءكم ذكر من ربكم، أي : أكفرتم وعجبتم ؟ إنكار لكفرهم، وإنكار لعجبهم المعطوف عليه ؛ لأن كل هذا ليس محل استنكار.
والعجب معروف، وهو أن يستغرب الإنسان الشيء ويستبعده كأنه ليس من المألوف وجود نظيره [ أو عجبتم ]( الأعراف : آية ٦٣ ) أي : أكفرتم وعجبتم ؟ أي : تعجبتم واستغربتم من [ ان جاءكم ذكر من ربكم ] ؟ ( الأعراف : آية ٦٣ ) أي : جاءكم ذكر. أي : موعظة. المراد بالذكر هنا : موعظة الله التي انزلها على نبيه نوح من توحيد الله الخالص وعبادته وحده ( جل وعلا )، والوعظ الذي يلين القلوب، والزجر عن عبادة غير الله، فهذا الذكر الذي جاءهم، ( ذكر ) أي : وعظ نازل من الله.
[ على رجل منكم ]( الأعراف : آية ٦٣ ) على لسان رجل منكم بعثه الله فيكم نبيا، بعثه الله بهذا الوعظ لأجل أن ينذركم. وقد قدمنا أن ( الإنذار ) أنه الإعلام المقترن بتهديد خاصة. فكل ( إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذارا ) ( في الأصل :" فكل إعلام إنذار، وليس كل إنذار إعلاما " وهو سبق لسان )، أي : لينذركم. أي ليخبركم برسالات الله، مبلغكم اوامره ونواهيه، مبينا لكم أنكم إن لم تتقوه وتطيعوا رسوله أنكم ستلقون العذاب الأليم والنكال الشديد. وكون الإخبار مقترنا بهذا التهديد والتخويف من عذاب الله ونكاله هو معنى الإنذار. أي :( لينذركم ) لأجل أن ينذركم، يخوفكم عقاب الله وشدة نكاله وبأسه إن تماديتم على كفركم.
[ ولتتقوا ]( الأعراف : لآية ٦٣ ) علة أخرى. أي : جاءكم ذكر من ربكم على لسان رجل منكم لأجل أن تتقوا وتجعلوا بينكم وبين سخطه وعذابه وقاية، هي امتثال أمر الله واجتناب نهي الله ؛ ولأجل أن ترحموا. ( لعل ) هنا الظاهر فيها أنها تعليلية ؛ لأنها معطوفة على موضعين من لام كي ؛ لأن قوله :[ لينذركم ولتتقوا ] كلتاهما لام كي، فعطف ( لعل ) عليهما يدل على أنها للتعليل. وقد قال بعض علماء التفسير : كل ( لعل ) في القرآن ففيها معنى التعليل إلا التي في سورة الشعراء [ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون( ١٢٩ ) ]( الشعراء : آية ١٢٩ ) قالوا : هي بمعنى كأنكم تخلدون. هكذا قالوا والله اعلم. ولا شك أن ( لعل ) تأتي في القرآن للتعليل، وكذلك تأتي في كلام العرب ؟، فمن إتيانها في القرآن ظاهرة في التعليل واضحة فيه :[ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ]( النحل : آية ٧٨ ) أي : انعم عليكم بنعمة الأبصار والأفئدة لأجل أن تشكروا نعمه فتؤمنوا به. ومن إتيان ( لعل ) في كلام العرب بمعنى التعليل قول الشاعر :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا | نكف ووثقتم لنا كل موثق |
لما مكث فيهم هذا الزمن الطويل وهم يكذبونه ويؤذونه، وكانت امرأته خبيثة تدلهم على من أسلم من القليلين الذين اسلموا معه فيعذبوهم ويهينونهم اهلكها الله معهم، وصارت مع الكافرين، ودخلت النار والعياذ بالله، وضربها الله مثلا مع امرأة لوط لمن يكون في صحبة أفاضل الناس وخيار الأنبياء ولا يكون في نفسه طيبا فلا ينتفع بتلك الصحبة الكريمة لخبث نفسه، قال :[ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين( ١٠ ) ]( التحريم : آية ١٠ ) ومعنى ( خانتاهما ) أي : بالكفر وإطلاع الكفار على أسرارهما، وليس المراد أنهما خانتا خيانة زنى كما توهمه بعض الناس، وان امرأة نوح خانته فزنت ! واستدلوا بأن الله لما قال نوح :[ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين ] قال :[ قال يا نوح إنه ليس من اهلك ]( هود : الآيتان٤٦، ٤٥ ) فهذا غلط، بل غلط عظيم فاحش. والمحققون من أهل العلم أن الله أكرم مناصب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وطهر فرشهم فلم تزن امرأة نبي قط، والولد الكافر الذي أغرق هو ابن نوح لاشك فيه ؛ لأن الله- وهو أصدق من يقول- صرح بأنه ابنه حيث قال :[ ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ]( هود : آية ٤٢ ) وقول الله له :[ إنه ليس من اهلك ] يعني بحذف الصفة، ومن اهلك الموعود بنجاتهم وإركابهم في السفينة في قوله :[ إنا منجوك واهلك ]( العنكبوت : آية ٣٣ ) لأنه فارق دينكم وكان كافرا. فلما تطاول الزمن على نوح وهو يدعوهم، ولا يزيدهم دعاؤه إلا فرارا وبعدا عن الحق ؛ دعا عليهم فأجاب الله دعوته، فأرسل السماء مدرارا، وفجر عيون الأرض، فالتقى الماء من أعلى وأسفل، حتى صار طوفان غطى على الجبال. والدليل على انه غمر الجبال : أن نوحا لما قال لولده :[ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ]وقال الولد :[ سئاوي إلى جبل يعصمني من الماء ] أجابه نوح فقال :[ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ]( هود : الآيتان٤٣، ٤٢ ) فدل على أنه ليس هناك معتصم في الجبال ؛ ولذا قال تعالى :[ فدعا ربه أني مغلوب فانتصر( ١٠ ) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر( ١١ ) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر( ١٢ ) ]( القمر : الآيات١٠-١٢ ) فصار طوفانا جارفا اهلك جميع من على وجه الأرض، من كل ما هو حي إلا من كان في تلك السفينة، كما قال تعالى :[ فأنجيناه وأصحاب السفينة ]( العنكبوت : آية ١٥ ) وأمر الله نبيه نوحا بأن يجعل تلك السفينة- ويجعلها بالنجارة- وكان ينجرها والأرض يبس، وهم يضحكون منه ويسخرون ويقولون : كنت نبيا فصرت نجارا ! وهو يقول لهم :[ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون( ٣٨ ) فسوف تعلمون ]( هود : الايتان٣٩، ٣٨ ) فلما قرب الوعد المحدد لإهلاكهم قيل لنوح : اركب في السفينة واحمل فيها أهلك ومن آمن معك، ثم قال :[ وما آمن معه إلا قليل ]( هود : آية ٤٠ ) وأمر أن يأخذ من كل شيء من جميع الحيوانات زوجين. أي : ذكرا وأنثى ؛ لأن جميع من على وجه الأرض سيهلكه الطوفان، ولن يبقى إلا من في تلك السفينة، فيكون كل جنس من أنواع الحيوانات موجود معه منه ذكر وأنثى ليتناسل ذلك الذكر بتلك الأنثى وينشأ منهما ذلك النوع من أنواع الحيوانات كما يأتي في قوله :[ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ]( هود : آية ٤٠ ) وفي القراءة الأخرى :[ من كل زوجين اثنين ] أي : ذكرا وأنثى ليقع منهما التناسل وينتشر منهما ذلك النوع ؛ لأن من على وجه الأرض سيهلكه ذلك الطوفان. وذلك يبين أن ذنوب بني آدم قد يهلك الله بها الجميع حتى الحيوانات. قال بعض العلماء : قد تهلك الحبارى في وكرها، والجعل في حجره بذنوب بني آدم، وقد يهلك الله بني آدم بذنوب بعضهم. فإذا انتشر الفساد في الأرض وكان الناس قادرين على ان يكفوه فلم يكفوه نزل البلاء فعم الصالح والطالح، كما جاء في الأحاديث الكثيرة وفي قوله تعالى :[ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ]( الأنفال : آية ٢٥ ) ومن اوضح ذلك حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيح- المشهور- الذي ضرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم مثلا للناس إن اخذت على أيدي السفهاء، ومنعتهم من معاصي الله، وامرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وإن لم تفعل ذلك، فضرب لهم مثلا بقوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم في أسفل السفينة، وكانوا إذا أرادوا أن يشربوا من الماء صعدوا فمروا على من فوقهم، فقالوا : لا ينبغي لنا أن نصعد ونمر على من فوقنا بل تخرق السفينة مما يلينا، ونشرب مما يلينا فلا نصعد حتى نمر على من بأعلاها. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إن تركوهم وما أرادوا وخرقوا السفينة دخل الماء فيها فامتلأت فغرق الجميع، وإن زجروهم وكفوا أيديهم نجوا ونجا الجميع. نقلنا الحديث بالمعنى، وهو حديث صحيح، ثابت في الصحيح، مشهور، وهو واضح في أن السفهاء إن لم يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويضرب على أيديهم أنهم يهلكون الجميع، فيهلك الجميع بذنوبهم. وفي الحديث الصحيح المشهور من حديث أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش ( رضي الله عنها ) : أنها لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا ". وعقد التسعين مثل هذا. أنها ( رضي الله عنها ) لما سألته فقالت : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :" نعم إذا كثر الخبث " فإذا انتشرت المعاصي وكثر الخبث ولم يضرب على أيدي السفهاء أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده ؛ ولذا عم جميع من في الأرض بذنوب من كذبوا نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ولما دعا عليهم نوح قيل لنوح :[ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك إلا من سبق عليه القول ]( هود : آية ٤٠ ) الذي سبق عليه القول من أهله : زوجته الكافرة-قبحها الله- وابنه الكافر- والمؤرخون يزعمون أن اسمه كنعان- فلما ركب نوح في السفينة، وفجر الله عيون الأرض، وانزل الماء من السماء فالتقى الماء على أمر قد قدر، أهلكهم الله بذلك الطوفان، ولم يبق منهم باقية. وفي قصتهم : أن الله ( تبارك وتعالى ) لو كان يرحم أحدا منهم لرحم امرأة منهم في القصة ؛ لأن عندها ولدا صغيرا تحبه حبا شديدا، كانت كلما طلع الماء ارتفعت بالولد إلى الجبل، حتى صارت على رأس الجبل، فطم الماء على الجبل، فكان الماء كلما بلغ شيئا منها رفعت الولد، حتى بلغ حلقومها، رفعت يدها بالولد حتى أغرق الله الجميع، ودمر الله الجميع. واعتذر نبي الله نوح عن دعائه عليهم- مع أن الله أعلمه أنهم خبثاء ليس فيهم خير- قال يقول لربه :[ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا( ٥ ) فلم يزدهم دعائي إلا فرارا( ٦ ) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا( ٧ ) ثم إني دعوتهم جهارا( ٨ ) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا( ٩ ) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفورا( ١٠ ) ]إلى آخر ما ذكر. ( نوح : الآيات٥-١٠ ) فالقصة اختصرت هنا في سورة الأعراف وبسطها الله في سور أخرى متعددة ؛ ولذا قال :[ فكذبوه فأنجيناه ]( الأعراف : آية ٦٤ ) أي : انجيناه هو والذين معه في الفلك، وهم قليل ؛ لأن الله قال :[ وما آمن معه إلا قليل ]( هود : آية ٤٠ ). وبعض المؤرخين يقولون : هم أربعون رجلا وأربعون امرأة، هم ثمانون نفسا. وبعضهم يقول : هم تسعة أنفس. والله تعالى أعلم. ولكن الله بين أنهم قليل حيث قال :[ وما آمن معه إلا قليل ] وقال :[ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ]( هود : آية ٣٦ ) فصارت تلك السفينة تجري بهم تتلاطم عليها الأمواج كما قال تعالى :[ وهي تجري بهم في موج كالجبال ]( هود : آية ٤٢ ) الأمواج كأنها الجبال، وهذا يدل على عظم الطوفان وارتفاعه فوق الأرض حيث شبه أمواجه بالجبال كما قال :[ وهي تجري بهم في موج كالجبال ] فأهلكهم الله ودمرهم، واستوت السفينة على الجودي ثم لما قضى الله أمره[ وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ]( هود : آية ٤٤ ) فلما أرسل الله الرياح ونشفت الأرض، ويبست من آثار ذلك الطوفان نزل نوح ومن معه، وتناسل من معه، وصار جميع الدنيا من أولاده الثلاثة الذين كانوا معه، كما قال تعالى :[ وجعلنا ذريته هم الباقين( ٧٧ ) ]( الصافات : آية ٧٧ ).
والمؤرخون يسمون نوحا : آدم الأصغر ؛ لأن جميع من بعده من الدنيا من نسله. وأولاده الذين معه : سام، وحام، ويافث. وبعض المؤرخين يقولون : إن جميع الموجودين في الدنيا راجع إلى تلك الأصناف التي هي من نسل هؤلاء الرجال، ويزعمون أن ساما من نسله : العرب، والروم، والفرس، وان حاما من نسله : القبط، والسوادين، والبربر، وان يافث من نسله : الصقالبة، ويأجوج وماجوج، والترك. وان جميع أنواع الناس يرجع في الأصل إلى هذه العناصر، هكذا يقولون، والله تعالى أعلم. ولذا قال تعالى :[ فأنجيناه والذين معه في الفلك ]( الأعراف : لآية ٦٤ ).
الفلك : السفينة. وهذه السفينة تمشي في البحر تحمل الناس، آية من آيات الله، كما قا
وهذه الأمم يقص الله خبرها على هذه الأمة لتستفيد من ذلك فوائد عظيمة[ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ]( يوسف : آية ١١١ ) فيخاف المكذبون للرسل، الجاحدون بآيات الله ان ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك من المثلات، ومن عذاب الله المستأصل المتصل بعذاب النار، وكذلك يعلم الناس الآداب، وآداب الدعاة إلى الله في لينهم وعطفهم، ولين كلامهم، وكرم مخاطبتهم، وعدم بذاءتهم وكلامهم بكلام الجاهلين ؛ هذا نبي الله نوح لما قالوا له :[ إنا لنراك في ضلال مبين ]( الأعراف : آية ٦٠ ) هو يعلم أنهم هم الضالون، وانه هو المهتدي، والذي يعيبك ويلزمك بعيب أنت تعلم انه فيه هو، وانك أنت بري منه هذا مما يستدعي الغضب، والكلام الشديد، والرد العنيف، فنبي الله نوح لم يقل لهم شيئا من ذلك، ولم يرد عليهم ردا عنيفا، وإنما رد بأكرم العبارة، وألطف الرد، فقال :[ يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ]( الأعراف : آية ٦١ ) فلم يقل : انتم هم الكفرة الفجرة الضلال، ولم يقذع فيهم بلسانه، بل بالعبارات اللطيفة اللينة، وهذا تعليم من الله أن الداعي المتبع لآثار الرسل إذا قابله الجهلة ببذاءة اللسان وعابوه وتكلموا له بالقبيح أنه لا يقابلهم إلا بالقول اللين اللطيف، والحكمة والموعظة الحسنة، كما هي عادة الرسل في خطاباتهم لأممهم.
وقوله :[ وإلى عاد أخاهم هودا ]( الأعراف : آية ٦٥ ) والله لقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. عاد قبيلة عظيمة، والمؤرخون يقولون : إن عاد بن إرم بن عوص، وهو من ذرية سام بن نوح بلا خلاف بين المؤرخين. ويزعمون أن قبيلة عاد كانوا أعظم الناس أجساما. يزعم أهل القصص والأخبار أن أقصرهم قامته ستون ذراعا، وان الواحد منهم يكون مئة ذراع. وعلى كل حال فهم من أشد الناس قوة كما قال الله عنهم :[ وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ]( فصلت : آية ٢٥ ) وهم قبيلة إرم المذكورة في القرآن ؛ لأن عاد بن إرم، وقيل : ابن عوص بن إرم. فهو من أولاد إرم. و( إرم ) اسم رجل تسمى به القبيلة، وعاد من ذريته ؛ ولذا قال :[ ألم تر كيف فعل ربك بعاد( ٦ ) ] ثم أبدل منها فقال :[ إرم ذات العماد( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد( ٨ ) ]( الفجر : الآيات٦-٨ ) قوله :[ لم يخلق مثلها في البلاد ] يدل على عظمة أبدانهم وشدة طولهم وبدانتهم وقوتهم كما هو معروف. أرسل الله إلى هذه القبيلة العاتية الشديدة القوى والبطش أرسل إليهم أخاهم هودا-عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وكان نبي الله هود عربي اللسان، وإنما منع من الصرف قال بعضهم : لأنه عربي، والعجمي إذا كان علما على ثلاثة حروف وسطها ساكن يكون مصروفا كما هو معروف، كما صرف نوح ولوط وهما علمان أعجميان كما هو معروف.
ويزعمون ان هود بن عبد الله بن رباح من ذرية إرم من سام بن نوح. هو من نفس القبيلة، كما قال :[ أخاهم هودا ]( الأعراف : آية ٦٥ ) خلافا لمن زعم أن أصله ليس منهم، وان ( أخاهم ) صاحبهم. والتحقيق انه منهم، وانه أخوهم ومن قبيلتهم كما يأتي في قوله :[ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ]( الأعراف : آية ٦٥ ) فبين انه منهم ؛ ولذا قال هنا :[ أخاهم هودا ] بعث الله إليهم نبيه هودا. وصرح الله في سورة الأحقاف بأن منازلهم في الأحقاف، والأحقاف جمع الحقف، والحقف حبل الرمل. وهم يزعمون أنها حبال الرمل التي في أطراف اليمن أو حضرموت، كانوا إلى تلك الجهة كما يأتي في قوله :[ إذ انذر قومه بالأحقاف ]( الحقاف : آية ٢١ ) والأحقاف جمع الحقف، والحقف : هو الحبل الممتد العالي من الرمل، فهم في رمال هناك، كانت منازلهم في رمال تتخللها أودية في نواحي اليمن أو حضرموت، كما يأتي في سورة الأحقاف.
[ وإلى عاد أخاهم هودا ] ماذا قال هود ؟ قال دعوة الرسل التي جاؤوا بها كلهم وهي عبادة الله وحده، فهم متفقون على وتيرة واحدة وهي الدعاء إلى أن يعبد الله وحده، ويخلص له في توحيده، فهذه دعوة الرسل التي جاؤوا بها عامة، وهي التي فيها المعارك بينهم وبين أممهم، والقرآن بين ذلك جملة وتفصيلا، أما بيانه بالتفصيل كقوله :[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ] ماذا قال نوح ؟ [ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٥٩ )[ وإلى عاد أخاهم هودا[ ماذا قال هود ؟ [ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٦٥ ) [ وإلى ثمود أخاهم صالحا ]ماذا قال صالح ؟ [ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٧٣ ) وهكذا في جميع الرسل. ومن الأدلة العامة المبينة لذلك : قوله تعالى :[ ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ]( النحل : آية ٣٦ ) [ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحي إليه ]( الأنبياء : آية ٢٥ ) وفي القراءة الأخرى :[ نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ][ وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون( ٤٥ ) ]( الزخرف : آية ٤٥ ) فإخلاص العبادة لخالق السماوات والأرض هو دعوة الرسل التي جاؤوا بها كلهم عليهم صلوات الله وسلامه ؛ ولذا أمر نبينا صلى الله عليه وسلم في سورة الأنبياء أن يقول : إنه لم يوح إليه شيء إلا عبادة الله وحده، وإفراده بالعبادة في قوله :[ قل إنما يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد ]( الأنبياء : آية ١٠٨ ) و( إنما ) من صيغ الحصر كما هو مقرر في المعاني في مبحث القصر، وفي الأصول في مبحث العام ؛ لأن كلمة ( لا إله إلا الله ) هي التي قامت عليها السماوات والأرض، وهي المتضمنة توحيد العبادة بنفيها وإثباتها، فنفيها يتضمن : خلع جميع أنواع المعبودات غير الله في جميع العبادات، وإثباتها يتضمن : إفراده-جل وعلا- بالعبادة دون غيره، وهذا معنى قولهم :( لا إله ) نفي ( إلا الله ) إثبات. وهذه الكلمة الشريفة التي قامت عليها السماوات والأرض، وخلقت من اجلها الجنة والنار، وهي التي جاء بها جميع الرسل-صلوات الله وسلامه عليهم- ولذا قال :[ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : الآية ٦٥ ) قد بينا معنى هذه الجملة والقراءات فيها في قضية نوح، ومعنى الكلمتين واحد لا فرق بينهما. [ ما لكم من إله غيره ] إلا أن نوحا قال لقومه :[ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ]( الأعراف : آية ٥٩ ) وهودا قال لقومه :[ أفلا تتقون ]الأعراف : آية ٦٥ ) يعني : أتكفرون بالله فلا تتقونه، فلا تتخذون بينكم وبينه وقاية تقيكم من سخطه وعذابه، هي امتثال أمره واجتناب نهيه. وكان رد الكفار متشابها لتشابه قلوبهم في الكفر، كما قال تعالى :[ تشابهت قلوبهم ]( البقرة : آية ١١٨ ) فقوم نوح قالوا له :[ إنا لنراك في ضلال ]( الأعراف : آية ٦٠ ) وقوم هود قالوا له :[ إنا لنراك في سفاهة ]( الأعراف : آية٦٦ )
مشين كما اهتزت رماح تسفهت | أعاليها مر الرياح النواسم |
وهو في الاصطلاح المشهور : هي خفة العقل وطيش الحلم، بحيث يكون السفيه لا يهتدي إلى مصالحه، ولا يعرف مضاره من مصالحه، لا يميز بين الضار والنافع، ولا الحسن ولا القبيح لخفة عقله وطيشه وعدم رجاحته ؛ ولذا كان السفيه يجب التحجير عليه، وجعل ماله تحت يدي ولي يحفظ له ماله ؛ لأن عقله الطائش وحلمه الخفيف يجعله يضيع ماله.
والعلماء مختلفون في السفه الذي يحجر به على الرجل البالغ ويولى عليه في ماله، فكان مالك بن أنس ( رحمه الله ) وعامة أصحابه ومن وافقه من العلماء يرون أن السفه الذي يحجر به على السفيه في ماله ويولى عليه غيره إنما هو السفه في خصوص المال، بحيث يكون طيش عقله وخفة حلمه في نفس التصرف المالي، بحيث يضيع عن المعاملات، ولا يحسن حفظه ولا التصرف فيه. فمن كان عند مالك يحسن التصرف في المال، ويحفظه، ولا يخدع، بل هو عارف بوجوه التصرفات وحفظ المال فماله يدفع إليه عند مالك وأصحابه، ولا يسمى سفيها، ولو كان سكيرا شريبا للخمر، مرتكبا للمعاصي :
وشارب الخمر إذا ما ثمرا | لما يلي من ماله لم يحجر |
وهذا كلام معروف في فروع المذاهب مشهور ؛ ولذا نسب قوم هود هودا إلى خفة العقل وطيشه، قالوا :[ إنا لنراك في سفاهة ]( العراف : آية ٦٦ ) أي : في خفة عقل وطيش حلم ؛ لأنك تدعونا إلى أن نترك ديننا ونذهب إلى دين آخر جديد ما نعرفه، فلا عقل عندك ولا حلم، بل أنت سفيه خفيف العقل طائش الحلم. هذا قولهم لعنهم الله.
[ وإنا لنظنك من الكاذبين ]( الأعراف : آية ٦٦ ) نظنك كاذبا ؛ لأنك بشر مثلنا، فلا زيادة لك علينا ولا فضل لك علينا ؛ لأنا من عنصر واحد آدميون جميعا نشرب ونأكل جميعا، فما نظنك إلا كاذبا، وأنك سفيه خفيف العقل طائشه.
[ ولكني رسول من رب العالمين ]( الأعراف : لآية ٦٧ ) رسول مرسل إليكم من رب العالمين. قد بينا فيما مضى أن الرسول ( فعول ) بمعنى ( مفعل ) أي : مرسل من رب العالمين أرسلني إليكم. وان أصل الرسول : مصدر سمي به، وإتيان المصدر على وزن ( فعول ) قليل جدا في العربية، مسموع في أوزان قليلة، كالقبول، والولوع، والرسول. وأصل الرسول مصدر بمعنى الرسالة، وهو مشهور في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم | بقول ولا أرسلتهم برسول |
ألا أبلغ بني عمرو رسولا | بأني عن فتاحتكم غني |
فإذا قال لك قائل : الله يقول عن موسى وهارون في سورة طه :[ إنا رسولا ربك ]( طه : آية ٤٧ ) بالتثنية، ويقول في القصة بعينها في سورة الشعراء :[ إنا رسول رب العالمين ] ( الشعراء : آية ١٦ ) بالإفراد، ولم يقل :" رسولا رب العالمين "
فالجواب : إن الإفراد نظرا إلى أصل الرسول، وأن أصله مصدر، والعرب إذا نعتت بمصدر ألزمته التذكير، وأن التثنية في قوله :[ رسولا ] والجمع في قوله :[ تلك الرسل ] ( البقرة : آية ٢٥٣ ) نظرا إلى الوصفية العارضة ؛ لأن العرب نقلته من المصدرية فجعلته وصفا ؛ ولأجل كون أصله مصدرا تطلقه العرب مفردا وتريد به الجمع على عادة النعت بالمصادر، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
ألكني إليها وخير الرسو | ل أعلمهم بنواحي الخبر |
[ وأنا لكم ناصح أمين ] وأنا لكم ناصح فيما أقول، لا أغشكم ولا أخدعكم، أمين فيه لا اكذب، وأنتم تعلمون أني فيما مضى في غاية النصح والأمانة ؛ لأني رجل منكم قد جربتموني قبل الرسالة فما جربتم في إلا النصح والأمانة، فأنا لكم ناصح. وكل خالص لا شائبة فيه تسميه العرب ( ناصحا ) والناصح : هو السالم من جميع الغش والخديعة. والأمين : هو الذي لا خيانة معه. أنا لكم ناصح فيما جئتكم به، لا غش معي ولا خديعة، أمين فيما أقول لكم، في غاية الصدق، ليس فيه كذب، هذه حقيقتي، أما السفاهة التي رميتموني بها فليست بي سفاهة. ولم يقل لهم :" بل انتم السفهاء " لكرامة رد الرسل، ومعاملتهم للجهلة الحمقى بالتي هي أحسن. وهذا معنى قوله :[ ولكني سول من رب العالمين ]
[ أبلغكم رسالات ربي ]الرسالات جمع رسالة، وهي اسم لما يرسل به المرسل رسولا إلى غيره. ورسالات الله هي ما بعثه به إليهم من الإيمان بالله وطاعته وامتثال أمره واجتناب نواهيه.
هذه الآية هي قوله :[ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ] فسرناها أمس ؛ لأنها اتفق فيها قول نوح وقول هود، فكل منهم قالها لقومه ؛ لأن كلا من قومهما عجبوا من أن يبعث الله بشرا، وكذلك عادة الأمم أن تعجب من بعث الرسل، ويقولون : لا يمكن أن يبعث الله رسولا يأكل ويشرب ويتزوج ويولد له، حتى إن الله ( جل وعلا ) بين أن هذه الشبهة الكاذبة كانت هي المانع الأكبر من إيمان الناس، حيث قال :[ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا( ٩٤ ) ]( الإسراء : آية ٩٤ ) كأنه قال هنا : ما منعهم من الإيمان إلا استغراب بعث البشر واستعجابهم منه، كما أن الذين بعث فيهم بنبينا صلى الله عليه وسلم عجبوا من بعث البشر كما قال تعالى في أول سورة يونس :[ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ]( يونس : آية ٢ ) وقال في أول سورة ق :[ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ]( ق : آية ٢ ) والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد بينا أن أظهر الوجهين في قوله :[ أو عجبتم ] أن الهمزة تتعلق بمحذوف، والواو مفتوحة ؛ لأنها عاطفة على ذلك المحذوف، وتقديره : أكفرتم وعجبتم أن يأتيكم ذكر من ربكم على رجل منكم ؟ وقد فسرنا الآية بالأمس، وبينا أن الذكر هو المواعظ والأوامر والنواهي التي تأتيهم بها الرسل، وان قوله :[ على رجل منكم ] على لسان رجل منكم، لأن أنبياء الله رجال كما قال تعالى :[ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ]( يوسف : آية ١٠٩ ) فلم يرسل الله امرأة قط ؛ ولذا قال :[ على رجل منكم لينذركم ] كما أوضحناه بالأمس في مقاولة نوح لقومه.
ثم إن نبي الله هودا قال هنا لقومه ما لم يقله نوح لقومه، وهو قوله :[ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ] ( العراف : آية ٦٩ ) [ واذكروا ] نعم الله عليكم [ إذ جعلكم ] خلفاء في الأرض، يعني : بأن اهلك قوم نوح واستخلفكم في الأرض فجعلكم خلفاء في الأرض آمين فيها، عليكم نعم الله مسبلة.
والخلفاء : جمع خليفة، وهو من يستخلف بعد من كان قبله. قال بعض العلماء : إنما قيل لهم ( خلفاء ) لأنهم صاروا خلفا من قوم نوح حيث اهلك الله أولئك وأسكن هؤلاء في الأرض بعدهم، فكانوا خلفا من بعدهم، وخلفاء من بعدهم. وقال بعضهم : إنهم خلفاء أي : فيهم ملوك، والعرب تسمي الخليفة الذي يكون ملكا بعد من قبله : خليفة. ولفظه مؤنث ومعناه مذكر، فيجوز تذكير الضمائر الراجعة عليه نظرا إلى المعنى، ويجوز تأنيثها كما قال الشاعر :
أبوك خليفة ولدته أخرى *** وأنت خليفة ذاك الكمال
[ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ]( الأعراف : آية ٦٩ ) الخلفاء : جمع الخليفة ؛ لأنه جعلهم خلفا منهم يسكنون الأرض، أو جعلهم ملوك الأرض. يزعم أصحاب القصص والأخبار أنهم كان عددهم كثيرا جدا، وأنهم منتشرون فيما بين حضرموت إلى عمان، وأنهم كانوا يظلمون غيرهم ويقهرونهم لما أعطاهم الله من القوة. ولكن الله بين أن منازلهم كانت في الأحقاف حيث قال في سورة الأحقاف :[ اذكر أخا عاد إذ انذر قومه بالأحقاف ]( الأحقاف : آية ٢١ ) وقد بينا أن الأحقاف جمع حقف، والحقف في لغة العرب : الحبل من الرمل، الرمل المرتفع تسميه العرب حقفا، فالأحقاف : الرمال. والمفسرون يقولون : إنها رمال في جوانب اليمن وحضرموت، وأنهم كانوا في تلك الرمال بينها أودية يزرعون فيها ويعيشون. وسيأتي في سورة الفجر قول من قال من العلماء : إنهم كانوا رحلا يذهبون بالمواشي ؛ لأنه احد القولين في قوله :[ إرم ذات العماد( ٧ ) ]( الفجر : آية ٧ ) لأن أحد القولين في معنى :[ ذات العماد ] أنهم أصحاب عمود يرتحلون ويبنون خيمهم على العمد ؛ ولذا قيل لهم :[ ذات العماد ] على احد الوجهين.
والوجه الثاني : أنهم لقوة أجسامهم وعظمها وطولها وبدانتها قيل فيهم :[ ذات العماد ] لشدة اعتماد أجسامهم وقوتها كما يأتي هناك. وهذا معنى قوله :[ واذكروا إذ جعلكم خلفاء ] ( الأعراف : آية ٦٩ ) أي : في الأرض في عافية وطمأنينة ورفاهية من الدنيا من بعد قوم نوح. والآية تشير إلى تهديد، يعني : كما أن قوم نوح لما كذبوا نوحا دمرهم الله وأهلكهم، وجعلكم خلفاء في الأرض من بعدهم فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم ؛ لئلا يهلككم ويجعل خلفاء الأرض بعدكم غيركم. فيه تهديد وتذكير بالنعمة. وهذا معنى قوله :[ واذكروا إذ جعلكم خلفاء ].
وبعض علماء العربية يقولون :( إذ ) ها هنا مفعول به لا مفعول فيه. أعني ؟ : أنها مفعولا وليست ظرفا. والمعنى :[ اذكروا ] تذكروا الوقت الذي جعلكم فيه خلفاء من بعد قوم نوح تذكرا يحملكم على شكر نعمة الله، والخوف من نقمه أن ينزل بكم مثل ما أنزل بقوم نوح. وهذا معنى قوله :[ إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ]( الأعراف : آية ٦٩ ) الذين أهلكهم الطوفان إهلاكا مستأصلا.
[ وزادكم في الخلق بسطة ]( الأعراف : آية ٦٩ ) في هذا الحرف قراءتان سبعيتان :[ بسطة ]بالسين. فقوله :[ وزادكم في الخلق بصطة ]بالصاد هي قراءة نافع، والكسائي، وقراءة ابن كثير في رواية البزي خاصة، وقراءة عاصم في رواية شعبة، وقراءة ابن عامر في رواية ابن ذكوان خاصة. اما حمزة فقرأها عند خلاد بالوجهين :[ بصطة ] بالصاد، و[ بسطو ] بالسين. فقد قراها خلاد عن حمزة بالوجهين، وقرأها نافع، وأبو عمرو، والبزي عن ابن كثير، وشعبة عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر، كل هؤلاء قرؤوا :[ بصطة ] بالصاد. وقرأها الباقون بالسين، والباقون الذين قرؤوها بالسين هم : أبو عمرو، وعاصم في رواية حفص، وابن عامر في رواية هشام، وابن كثير في رواية قنبل، وحمزة في رواية خلف، كل هؤلاء قرؤوا :[ بسطة ].
وما ذكره الشاطبي وغيره من أن ابن ذكوان له عن ابن عامر فيها :( السين والصاد )كقراءة خلاد عن حمزة ليس يصح عند المحققين ؛ لأن جميع روايات الشاطبي إنما هي من طريق أبي عمرو الداني، وأبو عمرو الداني لم يذكر عن احد ممن ذكر عنهم القراءات عن ابن ذكوان في قراءة ابن عامر إلا [ بصطة ] بالصاد خاصة، ولم يرو عنه السين عن احد، فهذان هما القراءتان السبعيتان. والبسطة والبصطة معناهما واحد، وإنما أبدلت السين صادا في قراءة من قرأ :[ بصطة ] بالصاد نظرا إلى حرف الإطباق الذي بعد السين وهو الطاء، ولذلك تبدل السين صادا كثيرا إذا كان بعدها حرف من حروف الإطباق، والأصل ( بسطة ) بالسين.
والبسط : أصله الزيادة. والمعنى : زادكم في خلق أجسامكم بسطة. أي : زيادة على خلق الناس في الطول وعظم الأبدان وقوتها وبدانتها، كما يأتي في سورة فصلت قول بعض العلماء : إنهم-قبحهم الله- زعموا انه لا يمكن أن تقهرهم قوة ولو قوة الله ( جل وعلا )-قبحهم الله- كما يأتي قول من قال بذلك في قوله :[ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ]( فصلت : آية ١٥ )من هو الذي يكون اشد منا قوة حتى يقهرنا ؟ ثم إن الله بين أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة. ولما أرسل عليهم الريح العقيم علموا أنهم ضعاف غاية الضعف إذا جاءتهم قوة رب العالمين التي يهلكهم بها ويسلطها عليهم، وهذا معنى قوله :[ وزادكم في الخلق بسطة ]
[ فاذكروا ألاء الله ] ذكرهم نبي الله هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أمرهم أن يذكروا آلاء الله. وآلاء الله : نعمه المتواترة عليهم، من الصحة والعافية وقوة الأبدان، وما يسر لهم من الأرزاق والرفاهية في الدنيا. الآلاء : النعم، واحده ( إلى ) بكسرة الهمزة وفتح اللام مقصورا، كعنب وأعناب. ويقال فيه :( إلي ) و( ألو ) و ( ألاء ) وأكثرها في مفرد الآلاء :( إلى ) بكسر ففتح، والمراد به النعمة. والآلاء : النعم [ فاذكروا ألاء الله ] أي : تذكروا نعم الله الكثيرة التي لا تحصى، التي أنعمها عليكم ذكرا يحملكم على طاعة الله، وتصديق رسوله، وعبادته وحده، وترك عبادة الأصنام.
[ لعلكم تفلحون ] والآية تدل على أن من تذكر نعم الله عليه ذكرا يحمله على شكر تلك النعمة والخضوع لله والإنابة إليه بطاعته انه يفلح ؛ ولذا رتب على قوله :[ فاذكروا ألاء الله ] قال :[ لعلكم تفلحون ] فإنكم إن ذكرتم آلآء الله يرجى لكم الفلاح، بناء على أن ( لعل ) على بابها من الترجي بحسب ما يظهر لهود ( عليه الصلاة والسلام ). وعلى أنها حرف تعليل فالمعنى : اذكروا نعمة الله لأجل أن تفلحوا.
وقد بينا مرارا أن العرب تقول : أفلح الرجل يفلح فلاحا. والفلاح : اسم المصدر، والقياس في مصدرها :( إفلاحا ) ؛ لأن المقرر في فن التصريف : أن كل ماض جاء على وزن ( أفعل ) فالقياس في مصدره أن يكون ( إفعالا ) ما لم يكن معتل العين، فإن كان معتل العين سقطت العين بالاعتلال وعوضت منها التاء على الرواية الكثيرة الفصيحة، كما هو معروف في علم العربية، موضح في فن التصريف. فالفلاح اسم مصدر.
والفلاح في لغة العرب : يطلق على معنيين كما بيناه مرارا، ويطلق الفلاح في لغة العرب على الفوز بالمطلوب الأكبر، تقول العرب : أفلح فلان. إذا فاز بأعظم مطلوب كان يطلبه. فمن نال رغبته وحصل مطلوبه تقول له العرب : أفلح. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة :
فاعقلي عن كنت لما تعقلي *** ولقد أفلح من كان عقل
يعني : من أعطاه الله نور العقل فاز بالمطلوب الأكبر، لأن العقل يعقله عما لا ينبغي، ويميز به الحسن والقبيح، والنافع والضار، والحق والباطل.
ويطلق الفلاح في لغة العرب أيضا على البقاء السرمدي الدائم في النعيم، تقول العرب : أفلح فلان. إذا كان باقيا في نعيم سرمدي. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة أيضا في رجزه :
لو أن حيا مدرك الفلاح *** لناله ملاعب الرماح
وقوله :" مدرك الفلاح " أي : مدرك البقاء في الدنيا بلا موت. ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الضبط بن قريع في الشعر المشهور :
لكل هم من الهموم سعة *** والمسي والصبح لا فلاح معه
يعني انه لا بقاء في الدنيا مع تخالف الإمساء والإصباح. وبهذين المعنيين اللذين هما البقاء السرمدي في النعيم، والفوز بالمطلوب الأكبر، بكل واحد منهما جاء تفسير حديث الأذان والإقامة في قوله :" حي على الفلاح " فقال بعض العلماء ؟ :" حي على الفلاح " هلم إلى الفوز بالمطلوب الأكبر وهو الجنة ورضى الله ؛ لأن أعظم أسباب ذلك : الصلاة.
القول الثاني :" حي على الفلاح " هلم إلى البقاء السرمدي في جنات النعيم ؛ لأن أكبر أسباب ذلك : الصلاة كما هو معروف في تفسير حديث الأذان والإقامة. وهذا معنى قوله :[ فاذكروا ألاء الله لعلكم تفلحون ]( الأعراف : آية ٦٩ ) هذه عادة الرسل-صلوات الله وسلامه عليهم- بعظم التذكير، وشدة النصح، ولطافة الأسلوب، والاجتهاد في هدى قومهم، ولكن الهدى بيد الله [ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ]( المائدة : آية ٤١ ).
وكانت عندهم أصنام يسمونها، كما دل عليه قوله :[ أتجادلونني في أسماء سميتموها ]( الأعراف : آية ٧١ ) والمؤرخون وأهل الأخبار يزعمون أن منها صنما يسمى : صداء أو ( صمدا )، وصنما يسمى :( صمودا ) وصنما يسمى :( الهباء ).
وهم يعبدون هذه الأصنام ويسمونها بهذه الأسماء.
[ أجئتنا لنعبد الله وحده ] هذا إنكار منهم، وهم ينكرون أعظم الحق وأوضح الحجج، وهي توحيد رب العالمين. [ ونذر ] أي : ونترك [ ما كان يعبد آباؤنا ] من قبلنا. ثم قالوا له :[ فأتنا بما تعدنا ] نحن لا نصدقك أبدا ولا نؤمن لك أبدا، فالعذاب الذي تهددنا به عجل به علينا، فإن كان عندك شيء أو صدق فأت بالذي تهددنا به وتخوفنا به، إن كنت صادقا في ذلك الوعيد فهات العذاب وعجله. وهذا أعظم طغيان وتمرد، كما قال كفار مكة :[ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو أتنا بعذاب اليم ]( الأنفال : آية ٣٢ ) وقالوا :[ عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ]( ص : آية ١٦ ) فاستعجلوا بالعذاب واظهروا التمرد النهائي، وأنهم لا يرتدعون ولا ينكفون عن كفرهم. [ فأتنا بما تعدنا ] أي : بالذي تعدنا به من العذاب، وعذاب الله لنا في زعمك إن كنت من جملة الصادقين فهات الذي تهددنا به، تمردا على الله، وتعجيزا لرسوله، واستخفافا بدعوة نبيه- قبحهم الله-
والرجز هنا : العذاب. قال بعض العلماء : أصله من الارتجاز، وهو الاضطراب ؛ لأن المعذب يبقى في الاضطراب. وهو ( رجس ) بالسين هنا. [ رجس ] أي : عذاب. وربما يقال للرجس :( رجز ) بالسين والزاي. ومعناه : العذاب. والمعنى : وقع عليكم عذاب وغضب كائن من ربكم فمعناه أن الله غضب عليكم، وأنه معذبكم عذابا مستأصلا لا محالة.
والغضب وصف وصف الله به نفسه إذا انتهكت حرماته. فنحن معاشر المسلمين نمشي على ما كان عليه السلف الصالح نمر كل الصفات كما جاءت، ونصدق ربنا فيما وصف به نفسه مع التنزيه التام الكامل عن مشابهة صفات المخلوقين، على نحو :[ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ]( الشورى : آية ١١ ) كما أوضحناه في آية :[ ثم استوى على العرش ]( الأعراف : آية ٥٤ ).
ثم قال لهم نبي الله هود :[ أتجادلونني ] معناه : تخاصمونني وتنازعونني [ في أسماء سميتموها ] أنا ادعوكم إلى عبادة الواحد الجبار، خالق السماوات والأرض الذي هو يرزقكم ويميتكم ويحييكم، وأنتم تخاصمونني وتجادلونني لتعبدوا أسماء بلا مسميات، لا حقيقة لها، لا تنفع ولا تضر، فهذا أمر جدير بأن ينكر.
والمجادلة : المخاصمة. قال بعض العلماء : أصل اشتقاقها من ( الجدالة )، والجدالة : الأرض، وجدله : إذا تركه صريعا في الأرض. قالوا : كان المتضاربين في الخصام كل منهما يريد أن يسقط صاحبه حتى يجدله. هكذا قال بعضهم والله أعلم.
[ أتجادلونني في أسماء ] أي : في أصنامكم، وإنما هي أسماء بلا مسميات ؛ لأنكم تزعمون أنها آلهة، وأنها معبودات ! ! ومعنى الإلهية واستحقاق العبادة منفي عنها نفيا باتا، فهي اسم بلا مسمى ؛ شيء اختلقته ألسنتكم لا حقيقة له في نفس الأمر. تجادلونني فيها زاعمين أنها لا بد أن تعبد مع الله، وأنها شركاء له يصرف لها من الحقوق كما يصرف له.
[ سميتمومها انتم وآباؤكم ] هم الذين اخترقوا لها هذه الاسماء بلا مسميات، إذ الاسماء التي وضعتم لها ليس لها أساس من الحقيقة ولا من الصحة. فليست بآلهة ألبتة، وليست بمستحقة للعبادة ألبتة، كما صرح الله بذلك في قوله :[ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ]( يونس : آية ٦٦ ) يعني : هؤلاء الذين يتبعونهم ليسوا شركاء ألبتة في الحقيقة.
ثم قال :[ ما نزل الله بها من سلطان ] لأن هذه الآلهة التي تعبدون[ ما نزل الله بها ] أي : بعبادتها واستحقاقها للعبادة [ من سلطان ] أي : حجة واضحة أبدا، بل الذي نزله الله من الحجج القاطعة منع عبادتها، وكفر عابدها، وخلوده في النار.
ثم قال :[ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ] انتظروا ماذا يحدث عليكم من الله وهو الغضب والهلاك الذي وعدتكم به أنه وجب وحق عليكم.
[ إني معكم من المنتظرين ] وسوف تعلمون عن طريق ذلك الانتظار هل يقع عليكم ما وعدتكم به أو لا يقع. وهو تهديد عظيم.
[ وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ] قوله :" قطع الله دابرهم " معناه : استأصلهم عن آخرهم ؛ لأن النسل كأنه دابر للآباء، فالدابر هو الذي يتبعك عند دبرك، فكأن الآباء أمة سالفة، ونسلهم شيء تابع أدبارهم، ناشيء بعدهم. فإذا قطع الدابر معناه : أهلكوا عن آخرهم فلم يبق منهم نسل يدبرهم، أي : يمشي في دبرهم سالكا الحياة بعدهم. فقطع الدابر معناه : إهلاكهم المستأصل بحيث لا يبقى لهم نسل في الأرض يكون حيا عن دبر منهم، بل أهلكهم الله جميعا، ولم يترك منهم داعيا ولا مجيبا.
والمفسرون يذكرون قصتهم هنا، ويذكره الأخباريون وبعضها جاء به بعض الأحاديث، كما جاء في حديث عن الإمام أحمد.
والذي يعرف التاريخ معرفة لا بأس بها يظهر له انه كثيرا مما يزعمه المؤرخون في قصة عاد أنه ليس من الشيء الصحيح. ومعلوم أن التاريخ والسير كالإسرائيليات، منها ما هو صحيح، ومنها ما ليس بصحيح، فتحكى ليعتبر بما فيها من الغرائب والعجائب، وينتفع بما تشير إليه من اجتلاب المصالح وتجنب المضار، ولا يحكم بصحة شيء منها إلا شيء قام عليه دليل من كتاب أو سنة.
والمفسرون يذكرون في قصتهم أنهم لما تمردوا هذا التمرد العظيم على نبي الله هود، وأراد الله أن يهلكهم أمسك عنهم المطر ثلاث سنين،
فقحطعت أرضهم وأجدبوا وجاعوا، وأضعفهم القحط وكاد يهلكهم. ويزعمون أن عادة الناس في ذلك الزمان أن من أصابه كرب أو بلاء يرسلون من يدعو الله لهم عند بيته الحرام ؛ لأنهم يظنون أن الله إذا دعي عند بيته الحرام لا يرد من دعاه ولا يخيبه. فلما وقع بهم ما وقع جهزوا وفدا منهم، يزعمون انه يقرب من سبعين رجلا، كبيرهم : قيل بن عنز، المشهور في التاريخ، وأرسلوا معه جماعة من كبرائهم-يزعم المؤرخون أن منهم : نعيم بن هزالة، ومنهم : مرثد بن سعد. وكان مرثد بن سعد فيما يزعمون ممن آمن بهود، وكان يكتم إيمانه- ويزعمون ان الذين عند مكة في ذلك الوقت العمالقة، والعمالقة : أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وان رئيسهم في ذلك الزمان يسمى : معاوية بن بكر، وان أخواله عاد، وهم أخواله وأصهاره، وأنه كان نازلا بظاهر مكة خارجا عن الحرم، وأن الوفد الذي أرسله عاد ليستسقي الله لهم عند بيت الله الحرام نزلوا عند معاوية بن بكر رئيس العماليق، وكان عاد أخواله وأصهاره، وكان عنده قينتان يغنيان، اسمهما : الجرادتان، وان رئيس العماليق- وهو معاوية بن بكر- مكث عنده الوفد العادي شهرا، يسقيهم الخمر، ويحسن إليهم، وتغنيهم الجرادتان، حتى نسوا ما جاؤوا من أجله.
وكان معاوية بن بكر- فيما يزعمه المؤرخون والمفسرون- رق لأخواله وأصهاره عاد، وأساءته حالة وفدهم، ولم يقدر أن يبين لهم شيئا لئلا يظنوا انه مستثقل بضيافتهم، فاستشار قينتيه فقالا : قل شعرا تنبههم به ونغنيهم بذلك الشعر لينتبهوا، وان معاوية بن بكر ابتدع الشعر المذكور المعروف الذي نبههم به، وأن الجرادتان ( غنتاهم )( في الأصل :" غنتهما " ) بذلك الشعر، ( وأنهم لما غنتاهم )( في الأصل :" وأنهما لما غنتهما " ). الجرادتان به انتبهوا وذهبوا إلى بيت الحرام فقام قيل يدعو عند البيت، ويزعم المؤرخون والمفسرون أنه طلعت سحابات، وناداه مناد : اختر أيها شئت ؟ ! وأنه اختار السوداء، وانه سمع فيها قائلا يقول : اخترت رمادا رمددا، لا يترك من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا. وأن تلك السحابة ذهبت إليهم وجاءت من قبل واد لهم يسمونه : المغيث، ففرحوا بها وقالوا :[ هذا عارض ممطرنا ]( الأحقاف : آية ٢٤ ) ويزعم المؤرخون أن منهم امرأة تسمى : مميد، انها صعقت، فلما أفاقت قالوا : ما بالك ؟ قالت : رأيت في العارض الذي تظنونه مطرا، شيئا كالنار معه رياح، تقوده رجال، وفيه هلاك. فأرسل الله عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما قال تعالى :[ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( ٦ ) سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية( ٧ ) ]( الحافة : الآيتان٧، ٦ ) إلى غير ذلك من الآيات.
والشعر الذي اخترعه معاوية بن بكر ونبه به وفد العاديين هو قوله فيما يذكر المفسرون وأصحاب السير والأخبار، أنه قال :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم | لعل الله يسقينا غماما |
فيسقي ارض عاد إن عادا | قد أهمموا امسوا لا يبينون الكلاما |
من العطش الشديد فليس نرجوا | به الشيخ الكبير ولا الغلاما |
وقد كانت نساؤهم بخير | فقد أمست نساؤهم أياما |
وإن الوحش تأتيهم جهارا | ولا تخشى لعادي سهاما |
وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم | نهاركم وليلكم التماما |
ققبح وفدكم من وفد قوم | ولا لقوا التحية والسلاما |
والمؤرخون يذكرون أن الله لما انبع ماء زمزم لهاجر وإسماعيل أن أول من ساكنها العمالق، وهم أولاد عمليق. وهم من العرب البائدة ؛ لأن العرب نوعان : عرب بائدة : أي : هلكوا عن آخرهم ولم يبقى لهم نسل، وهم قبائل معروفة، منهم عاد وجرهم، ومنهم ثمود، ومنهم أميم وعبيل، وجديس وطسم من العرب البائدة المعروفة الذين هلكوا عن آخرهم. وجاء في بعض الأحاديث ما يدل على أن أول من ساكن هاجر جرهم ويمكن ان يحمل على أنهم أول من ساكنها بعد زوال العمالق.
والمذكور في التاريخ المعروف عند المؤرخين ان ماء زمزم لما نبع لهاجر وإسماعيل مر بهم قوم من العماليق كانوا مسافرين، وكانت مكة في ذلك الوقت لا يعرف بها ماء، فرأو طير الماء، فجاؤوا فوجدوا هاجر وإسماعيل واستأذنوهم في المساكنة، واشترطت عليهم هاجر أن الماء لها، ولم يزل العمالق معهم حتى بغوا وطغوا في الحرم، وشب إسماعيل، فسلط الله عليهم جرهما- وهم من العرب البائدة، من ذرية سام بن نوح، خلافا لمن قال من المؤرخين إن نفس جرهم كان مسلما من الذين دخلوا في السفينة مع نوح. والصحيح الذي عليه جمهور المؤرخين : انه من ذرية سام بن نوح-فسلط الله عليهم جرهما، وكان رئيسهم مضاض بن عمرو الجرهمي، الذي زوج ابنته رحلة لإسماعيل، وهي صاحبة القصة المشهورة الذي قال لها إبراهيم، إذا جاء زوجك فقولي له : ليثبت عتبة بابه. ولم تزل جرهم حتى شب فيهم إسماعيل، وتزوج منهم، وتعلم منهم العربية، وكانت سدانة البيت عند أولاد إسماعيل إلى آخرهم نابت بن إسماعيل، فلما مات نابت أخذ الجرهميون مفاتيح الكعبة، وصارت عندهم سدانة البيت، كما قال شاعرهم لما أجلتهم خزاعة :
وكنا ولاة البيت من بعد نابت | نطوف بذاك البيت والخير ظاهر |
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله | رجال بنوه من قريش وجرهم |
ويزعم المؤرخون أن رجلا منهم يسمى( إسافا ) وامرأة تسمى( نائلة ) دخلا جوف الكعبة فزنى بها في جوف الكعبة، وان الله مسخهما حجرين، وأنهما هما الصنمان اللذان أخذهما الخبيث الخسيس اللعين : عمرو بن لحي- الذي ضيع بقايا دين إبراهيم، وجاء بعبادة الأصنام، وبحر البحائر والسوائب- ووضع أحدهما على الصفا، والثاني على المروة، وكانوا يسجدون لهما في المسعى ! ! وأشار لهما أبو طالب في لاميته المشهورة حيث قال :
وحيث يلقي الأشعرون رحالهم | بملقى الرفاق من أساف ونائل |
وبعض العلماء يزعم أن خزاعة من أبناء قمعة الذين منهم عمرو بن لحي بن قمعة، وقمعة بن إلياس. وإلياس أولاده هم الذين يسمون : خندفا ؛ لأن إلياس بن مضر جد النبي صلى الله عليه وسلم يزعم أهل السير والأخبار أن امرأته تسمى : ليلى، وهي بنت الحارث بن قضاعة، وان إبلهم ضاعت فتبعها عمرو بن إلياس فأدرك الإبل فسمي مدركة، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، مدركة بن إلياس. وان قمعة قمع بالبيت فقام به فسمي قمعة. ومن نسله عمرو بن لحي الخبيث.
وخزاعة على قول من يقول : إنهم خندفيون لا أنهم من سبأ، وأن أحد أولاده. اصطاد أرنبا فطبخه فسمي طابخة، وهو جد تميم، وأن تميم بن مر بن أد بن طابخة، وقبائل الرباب : بنو تيم، وبنو عدي، وبنو عكل، وضبة وبنو ثور وبنو عجل. وهم قبائل الرباب الذين تحالفوا على رب مع تميم وصاروا ينسبون إليهم وقال فيهم الشاعر :
يعد الناسبون إلى تميم | بيوت المجد أربعة كبارا |
يعدون الرباب وآل سعد | وعمرا ثم حنظلة الخيارا |
ويسقط بينها المري عفوا | كما الغيت في الدية الحوارا |
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا | أنيس ولم يسمر بمكة سامر |
بلى نحن كنا وأهلها فأبادنا | صروف الليالي والجدود العواثر |
وكنا ولاة البيت من بعد نابت | نطوف بذاك البيت والخير ظاهر |
باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت | بزق خمر فبئست صفقت البادي |
كنانية بانت وفي الصدر ودها | مجاورة غسان والحي يعمرا |
الكعبة لقصي. فأخذها قصي، وأخذ الوظائف المشهورة، وأعطاها لبني عبد الدار في خ
هذه هي القصة الثالثة من قصص الأنبياء التي قص الله علينا في هذه السورة الكريمة-سورة الأعراف- ذكر لنا قصة نوح وماذا قال لقومه، وماذا قالوا له، وماذا كان مصيرهم ( ثم ذكر لنا قصة هود ) ( في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) مع عاد وماذا قال لهم وقالوا له، وماذا كان مصيرهم. ثم ذكر لنا القصة الثالثة وهي قصة صالح مع قومه ثمود، والله- جل وعلا- يبين لنا هذه القصص ليس المراد مطلق تاريخ فقط وإنما للاعتبار، وليحذر الناس من معاصي الله، والتمرد على أوامره، وتكذيب رسله ؛ لئلا ينزل بهم من الهلاك ما نزل بمن قبلهم كما قال نبي الله شعيب لقومه :[ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد( ٨٩ ) ]( هود : آية ٨٩ ).
وقوله :[ وإلى ثمود أخاهم صالحا ] عطف على قومه :[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ] ( الأعراف : آية ٥٩ ) أي : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه [ وإلى عاد أخاهم هودا[ ( الأعراف : آية ٦٩ ) أي : وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، و[ وإلى ثمود أخاهم صالحا ]. أي : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا.
ثمود : قبيلة من قبائل العرب البائدة الذين انقطع نسلهم، فهو من العرب البائدة. والمؤرخون يزعمون أن ثمود انه ابن عامر، وبعضهم يقول " جاثر أو جائر بن إرم بن سام بن نوح. ونبي الله صالح- من نسبهم- من أوسطهم نسبا وأكرمهم بيتا وحسبا، بعثه الله فيهم، وهو صالح بن عبيد بن آسف، من ذرية أروم من إرم بن سام بن نوح من قبيلة ثمود، وهو من أوسطهم نسبا كما هي عادة الأنبياء. وهو نبي عربي كريم، أرسله الله إلى قبيلة عربية من العرب البائدة، كانت منازلهم بين الشام والحجاز في وادي القرى وما حوله، منازلهم معروفة إلى الآن، وأثار نحتهم للجبال باقية إلى الآن، كما يعرفه من يمر عليهم في طريقه على الشام من الحجاز، وبلادهم هي المسماة بالحجر، وتأتي في قوله :[ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين( ٨٠ ) وأتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ( ٨١ ) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا أمنين( ٨٢ ) فأخذتهم الصيحة مصبحين ( ٨٣ ) ]( الحجر : الآيات ٨٠-٨٣ ).
لما أهلك الله عادا استخلف في الأرض بعدهم قبيلة ثمود، وأكثر الله عليهم الأرزاق والنعم، ووسع لهم في المعاش، وعاثوا في الأرض وافسدوا فيها، وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم نبيه صالحا يذكرهم، والمفسرون يقولون : لم يزل يدعوهم على الإسلام حتى بدا فيه الشمط، وهو البياض الذي يبدو في اللحية، أو الشيب الذي يدخل في الرأس يخالطه سواد، وهو يدعوهم إلى الله، وهم لا يزدادون إلا عتوا وتمردا ؛ ولذا قال تعالى :[ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا ]( النمل : آية ٤٥ ) ثمود جدهم. وأجمع من يعتد به من القراء في هذا الحرف على عدم صرف ثمود، قرؤوا كلهم :[ وإلى ثمود أخاهم صالحا ]( الأعراف : آية ٧٣ ) مجرور بالفتحة ؛ لأنه غير منصرف ؛ لأنه علم مؤنث ؛ لأن المراد علم القبيلة، فاجتمعت فيه العلمية والتأنيث، فمنع من الصرف. ومن قرأ :[ وإلى ثمود أخاهم صالحا ] فهي قراءة شاذة، والقراءات السبعية بعضها يأتي فيه صرف ثمود، ( بعضها ) ( في الأصل :" بعضهم ". ) يأتي فيه منعها من الصرف كما هو معروف. فمنعها من الصرف نظرا إلى تأنيث القبيلة، وانه علم مؤنث، والعلمية والتأنيث مانعان من الصرف، ومن صرف ثمود فقال :( ثمودا ) بتنوين الصرف، أراد جدهم الأكبر الذكر ولم يرد القبيلة فلم تجتمع علامتان مانعتان من الصرف، وهذا هو وجه كونه ينصرف في بعض المواضع ولا ينصرف في بعضها.
أرسلنا إليهم [ أخاهم صالحا ] أخاهم في النسب لا في الدين ؛ لأن دينه يخالف دينهم، فلما جاءهم نبي الله صالح جاءهم بدعوة جميع الأنبياء وهي عبادة الله وحده [ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ] ليس لكم معبود يستحق أن يعبد وحده سواه، بل هو ( جل وعلا ) المعبود وحده، المستحق لأن يفرد في العبادة ويخلص له الدين ؛ لأنه الخالق الرازق المحيي المميت الذي بيده الأمر، وإليه يصير كل شيء، فهو المعبود وحده.
[ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة ربكم ] البينة : هي الدليل الذي يقوم على الحق فيتركه واضحا لا شبهة فيه، ومنه قيل للشهود على الحق :( بينة ) لأنهم يثبتونه ويظهرون أنه حق حتى يبقى لا لبس فيه. فكل دليل يظهر الحق ويبينه حتى لا يبقى فيه لبس تسميه العرب :( بينة ). وهذه البينة جاءتهم من ربهم. ( من ) لابتداء الغاية. أعني : مبدأ إتيانها من ربكم. أي : خالقكم وسيدكم ومدبر شؤونكم. فكان قائلا قال : ما هذه البينة والمعجزة الواضحة التي لم تترك في الحق لبسا، وأن صالحا رسول من رب العالمين ؟ فسر البينة بقوله :[ هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ]( الأعراف : آية ٧٣ ) يذكرون في قصتهم أن سيدهم كان رجلا يسمى : جندع بن عمرو. وبنو عمرو من سادات ثمود وبطونهم الكبار العظام، فلما ألح صالح في الدعاء إلى الله زعم المؤرخون والمفسرون أنهم قالوا : له :" اذهب معنا إلى عيدنا الذي نجتمع فيه، فنذهب بأصنامنا وندعو أصنامنا وتدعو أنت إلهك، فإن استجيب لأصنامنا اتبعتنا وإن استجيب لإلهك اتبعناك. فقال لهم : نعم. فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم يستجيبوا لهم بشيء- كما هو معلوم لا يخفى- فاقترح عليه سيدهم، أو جماعتهم-تعنتا-قالوا : هذه الصخرة-يزعمون أنها كانت صخرة كبيرة كالهضبة، ويزعمون أنها تسمى ( الكاثبة )- اخرج لنا منها ناقة مخترجة. معناه : هي كالبختية، تكون جوفاء وبراء عشراء، فإن أخرجتها لنا على هذا الوصف اتبعناك. فأخذ صالح عليهم عهود الله ومواثيقه انه إن أخرج لهم الله تلك الناقة من تلك الصخرة الصماء اتبعوه، فلما اخذ عليهم المواثيق يقول المفسرون : إنه قام فصلى ركعتين ودعا الله تعالى وهم ينظرون، فلما دعا الله تحركت الصخرة وتمخضت تمخض النتوج عن ولدها، فانشقت عن تلك الناقة، عشراء، وبراء، وجوفاء، ضخمة بالغة في غاية الضخم. ثم إنها ولدت فصيلا ضخما مثلها وهم ينظرون، فلما عاينوا هذا أسلم رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه من الرهط الذين يطيعونه، وحاول كبراء ثمود أن يسلموا كلهم لما عاينوا من آيات الله، فجاءهم خبثاء منهم، منهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، بعضهم يقول : ابن عمرو بن أسد، والحباب صاحبا آلهتهم التي يسدنونها، ورباب بن صمعر، وجماعة من رؤسائهم، فزينوا لهم الارتداد، وأن لا يتبعوا صالحا، فثبتوهم على الكفر والعياذ بالله. وكان فيهم رجل يسمى : شهاب بن خليفة، ابن عم سيدهم جندع بن عمرو، كان من اعز الفتيان في ثمود، ومن أفاضلهم وأماثلهم المتبعين، فدعاه من أسلم من قومه من بني عمرو ليسلم فمنعه الخبيث ذؤاب بن عمرو ورباب ومن معهم من الأعزاء من كفرة ثمود. وكان شاعرهم المسلم يقول في ذلك :
وكانت عصبة من آل عمرو | إلى دين النبي دعوا شهابا |
عزيز ثمود كلهم جميعا | فهم بأن يجيب ولو أجابا |
لأصبح صالح فينا عزيزا | وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا |
واختلفت روايات المؤرخين والمفسرين في الفصيل، ولا شيء في ذلك ثابت، فمنهم من يقول : إن مصدعا تبعه فأخذه ونحره معها واقتسموا لحمه مع لحمها. ومنهم من يقول : إنه رغا مرات، وصار فوق جبل، وانفتحت له صخرة فدخل فيها، حتى إن قوما ليزعمون أنه هو الدابة التي تأتي في آخر الزمان ! وكل ذلك قصص لا معول عليها ولا ثبوت لها. والله اعلم بقصة الفصيل ؛ لأن القرآن لم يبين ماذا كان مصيره، ولم يبينه ولم يثبت بوحي صحيح، وإنما هي روايات يحكيها المؤرخون والمفسرون.
فلما عقروا الناقة- والعياذ بالله- والذي تولى عقرها قدار بن سالف- قبحه الله- هو أشقى الأولين، ويزعم أن أصله ابن زنية، ولد على فراش سالف، وهو خبيث أحمر أزرق، عزيز في قومه عارم، أنه لما عقروها والقرآن أكثر من ذكر عقرهم لها، فب
وقال بعض العلماء : لا نعمة على الكافر أصلا ؛ لأن هذا استدراج، والله يقول :[ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون( ١٨٢ ) وأملي لهم إن كيدي متين( ١٨٣ ) ]( الأعراف : الآيتان١٨٣، ١٨٢ ) فمنزلته منزلة الطعام اللذيذ الذي فيه السم الفتاك القاتل، فشربه ليس بلذيذ، والإنعام به ليس بإنعام ! ! وظاهر القرآن أولى بالإتباع ؛ لأن الله سمى هذه آلاء ونعما عليهم على ألسنة رسله الكرام ( صلوات الله وسلامه عليهم )، وهذا معنى قوله :[ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ].
[ وبوأكم في الأرض ]( الأعراف : آية ٧٤ ) العرب تقول :( بواه يبوئه ) إذا جعل له مباءة. والمباءة في لغة العرب : المنزل. تقول العرب :( بوأه ببوئه ) أي : اتخذ له مباءة، أي : منزلا. وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن :[ وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ] ( الزمر : آية ٧٤ ) أي : نتخذ من مباءاتها ومنازلها حيث نشاء [ لنبوئنهم من الجنة غرفا ] ( العنكبوت : آية ٥٨ ) أي : لنجعلن الغرف مباءات ومنازل لهم. وهذا في القرآن كثير [ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ]( يونس : آية ٩٣ ) أي : أنزلناهم منزلا كريما طيبا كما هو معروف، وهذا كثير في القرآن. ومن إطلاقه في كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
كم من أخ لي ماجد *** بوأته بيدي لحدا
أي : جعلت اللحد مباءة ومنزلا له عند موته. وهذا معروف، وهذا معنى قوله :[ إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض ]( الأعراف : آية ٧٤ ) أي : جعل في الأرض لكم مباءات ومنازل متنوعة، منها ما تتبردون به في الصيف، ومنها ما تستدفئون به في الشتاء، وهذا معنى قوله :[ وبوأكم في الأرض ] أرضهم هي بين الحجاز والشام من وادي القرى فما حوله، كانت ديارهم هناك.
[ تتخذون من سهولها قصورا ] السهول : جمع سهل، وهو المكان المنخفض المستوي الذي لا وعر فيه. أي : تتخذون من أمكنتها السهلة التي ليست بجبال قصورا، تبنون تلك القصور من سهل الأرض مما توقدون عليه من آجرها وطينها وتؤسسونها بالحجارة، وكانوا في الصيف يسكنون القصور المبنية من الآجر والطين ؛ لأنها أشد برودة.
[ وتنحتون الجبال بيوتا ] نحت الشيء : هو أن تنحته شيئا فشيئا، ومنه قيل للمبرد :( منحت ) لأنه ينحت الشيء، ومعنى نحتهم الجبال : أنهم يأخذون آلات حديد- وكانت سواعدهم قوية جدا- فيحفرون في الجبل، حتى يجعلوا فيه أوب البيوت، ثم يقطعون لها أبوابها وطاقاتها من نفس الجبل، ثم تكون تلك الأبواب والغرف والطاقات كلها من الجبال، ينحتونها بالحديد بقوة أيديهم نحتا، إذا اشتد البرد زمن الشتاء دخلوها فكانت لشدة استدفائها لا يحسون بالبرد شيئا، وهذا من نعم الله عليهم.
وقرأ هذا الحرف جماهير القراء :[ وتنحتون الجبال بيوتا ] بكسر باء :( بيوت ) لمجانسة الياء. وقرأه بضم الباء على الأصل :[ بيوتا ] أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع. لم يقرأه من القراء السبعة على الأصل :[ بيوتا ] إلا عاصم في رواية حفص خاصة، ونافع في رواية ورش خاصة، وأبو عمرو. وغير ذلك من سائر القراء قرؤوا :[ وتنحتون الجبال بيوتا ] أي : تنحتون من الجبال بيوتا ينحتونها في الجبال.
وقراءة الحسن شاذة :[ تنحتون من الجبال بيوتا ] وإن كانت قياسية ؛ لأن ( فعل ) إذا كانت حلقية العين أو اللام ينقاس في مضارعها الفتح، إلا أن السماع ( تنحتون ) بالكسر، وهي قراءة السبعة وغيرهم ؛ وقراءة الحسن :" تنحتون " شاذة، وأشذ منها قراءة من قرأ :" تنحاتون " بإشباع الفتحة، فهذه قراءة شاذة جدا، أشذ من الأولى ف " تنحتون " بفتح الحاء شاذة، وإشباع الفتحة ألفا أشذ وأشذ، وإن كان إشباع الفتحة بألف يسوغ في كلام العرب، هو مسموع في كلام العرب، إلا أنه لا يجوز قراءة، وهو موجود في كلام العرب، ومنه قول عبد يغوث بن وقاص :
وتضحك مني شيخة عبشمية *** كان لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
فأشبع الفتحة بالألف، وأصل الفعل مجزوم، فالأصل :" تر " بلا ألف أشبع الفتحة ألفا. وقول الآخر :
إذا العجوز غضبت فطلق *** ولا ترضاها ولا تملق
الأصل :( ولا ترضها ) فأشبعت الفتحة. ومنه في وسط الكلام قول عنترة في معلقته :
ينباع من ذفري غضوب جسرة *** زيافة مثل الفنيق المكدم
فقوله :( ينباع ) أصله :( ينبع ) يعني : أن العرق ينبع من عظم ذفراها، وهو العظم الذي خلف أذنها، أصله يسيل منه العرق من الإبل إذا سارت سيرا شديدا.
وقراءة الجمهور هي التي يجوز القراءة بها [ تنحتون الجبال ] جمع جبل. [ بيوتا ] جمع بيت.
قرأه حفص عن عاصم، وورش عن نافع، وأبو عمرو :[ بيوتا ] بضم الباء على الأصل : جمع بيت، والبيت هو ما يسكن فيه، سمي بيتا لأن الساكن يبيت فيه.
[ فاذكروا ألاء الله ]أي : نعم الله عليكم حيث جعلكم خلفاء في الأرض من بعد عاد ويسر لكم القصور في سهولها، ويسر لكم نحت الجبال في نفس الجبال لتنالوا من برد السكنى زمن الحر، ومن الاستدفاء زمن البرد، وكل هذا نعم الله وآلاؤه عليكم. وهذا معنى قوله :[ فاذكروا آلاء الله ] أي : نعمه التي أنعمها عليكم.
وكان بعض العلماء يقول : هذه الآية الكريمة تدل على بناء القصور الشامخات لأن الله امتن عليهم على لسان نبيهم، بأنهم يتخذون القصور. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل في ظواهر كثيرة من الشرع انه لا ينبغي للإنسان أن يتطاول في البنيان ويبني فوق حاجته ويضيع المال في ذلك، فينبغي للإنسان أن يبني قدر حاجته وألا يضيع المال فيما يزيد على قدر حاجته من القصور الشامخة، ولا سيما إن كان ذلك على سبيل المباهاة والتفاخر فلا خير فيه. وأكثر العلماء على انه لا يمنع الرجل أن يبني بيتا ليستغله فيؤجره ويأخذ منه ؛ لأنه من أنواع التجارات وابتغاء فضل الله-جل وعلا- وكذلك ما يحتاج إليه هو ومن يعوله، فهذا من الأمور الضرورية.
وقوله جل وعلا :[ ولا تعثوا في الأرض مفسدين... ] العثي والعثو معناهما : الفساد. وهذه الحال مؤكدة عاملها ؛ لأن معنى :[ ولا تعثوا ] لا تفسدوا. ف( مفسدون ) حال مؤكدة لعاملها، والحال قد تؤكد عاملها فيكون معناها هو معنى عاملها، وإلى هذه بعينها أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وعامل الحال بها قد أكدا *** في نحو لا تعث في الأرض مفسدا
معناها : لا تفسدوا في الأرض في حال كونكم مفسدين، فالحال مؤكدة لعاملها، والمقصود تأكيد النهي عن الفساد في الأرض بالإشراك بالله وعبادة غيره معه، وأذية من أسلم من قوم صالح، وتكذيب نبي الله صالح، إلى غير ذلك من أنواع الفساد.
[ قال الملأ ] قدمنا أن الملأ أشراف الجماعة ورؤساؤهم الذكور الذين ليس فيهم إناث.
[ الذين استكبروا من قومه ] أي : تكبروا وعتوا ولم يؤمنوا استكبارا عن الإيمان [ من قومه ] أي : من قوم صالح، وهم ثمود قالوا [ للذين استضعفوا ] وكان جل من آمن بصالح( قبل أن يؤمن جندع بن عمرو ومن آمن معه- كان اغلبهم ضعافا ؛ لأن الله أجرى العادة بان أكثر أتباع الأنبياء : الضعفاء، وأكثر من عادى الأنبياء وأكثر أهل النار : أهل الترف في الدنيا والمكانة والمال والجاه. والسر في ذلك : أن المساكين الضعاف لا يحاربون عن رئاسة، ولا يستنكفون أن يكونوا تبعا، فإذا سمعوا الحق آمنوا به، أما الرؤساء فإنهم لا يرضون أن يكونوا تبعا ؛ وأن يكونوا مرؤوسين غير رؤساء، فيجادلوا لتبقى لهم مكانتهم ورئاستهم ؛ لأنهم إن أطاعوا الرسل كانوا تبعا تحت أوامر الرسل لا رئاسة لهم ولا سيادة ؛ ولذا في قصة هرقل الثابتة في الصحيح لما سأل أبا سفيان السؤالات المعروفة- المشهورة الثابتة في الصحيح- عن النبي صلى الله عليه وسلم من جملتها أن قال له : أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم، وقال هرقل : أولئك أتباع الرسل. كما هو معروف.
[ قال الملأ الذين استكبروا ] أي : الرؤساء والقادة من قبيلة ثمود الذين تكبروا عن الإيمان وإجابة نبي الله صالح [ للذين استضعفوا ]أي : للضعفاء المستضعفين. وقوله :[ لمن آمن منهم ] بدل من قوله :[ للذين استضعفوا ] أي : المستضعفين، أعني خصوص المؤمنين من المستضعفين [ أتعلمون ] أتتيقنون وتجزمون بان [ صالحا مرسل من ربه ] وانه غير كاذب على الله ؟ فأجابهم المستضعفون أحسن جواب وأبلغه، فلم يقولوا لهم : نعم نحن نجزم بأنه مرسل، ولكن جعلوا كونه مرسلا أمرا لا ينبغي أن يشك فيه، ولا أن يكون النزاع ولا الخلاف فيه، وقالوا :[ إنا بما أرسل به مؤمنون ] إنا مؤمنون بالأمر الذي أرسل به، الذي لا ينبغي أن يشك ولا أن يختلف في أنه حق، ولهذه الحكمة عدلوا عن أن يقولوا : نعم،
تقول وقد مال الغبيط بنا معا | عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل |
[ فعقروا الناقة ] هي ناقة الله التي أخرجها آية لهم [ وعتوا عن أمر ربهم ] العتو : التكبر والتمرد، وتمردوا وتكبروا عن قبول أمر ربهم، وعقروا الآية التي أجاءهم الله بها معجزة لنبيه، ثم قالوا في غاية الكفر والعناد :[ يا صالح ] سموه باسمه وقاحة منهم واحتقارا وعدم حياء.
[ يا صالح ائتنا بما تعدنا ] قرأ هذا الحرف عامة القراء :[ يا صالح ائتنا ] بتحقيق الهمزة. وقراه ورش عن نافع والسوسي عن أبي عمرو :[ وقالوا يا صالح اوتنا ] بإبدال الهمزة واوا. أما إذا كان الوقف على [ يا صالح ] فجميع القراء يقرؤون :[ إيتنا بما تعدنا ] بكسر الهمزة. فالقراءة في حالة الابتداء ب[ إيتنا ] متفق عليها إذا وقفت فقلت :[ يا صالح ] قلت : في قراءة الجميع [ إيتنا بما تعدنا ] أصله [ ائتنا بما تعدنا ] أبدلت الهمزة الثانية مدا للأولى.
ومدا أبدل ثاني الهمزين من | كلمة ان يسكن كاثر وائتمن |
ومعنى :[ ائتنا بما تعدنا ] هذا العذاب الذي تعدنا به إن تعرضنا للناقة بسوء ؛ لأنك قلت لنا :[ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب اليم ] فقد مسسناها بسوء، وهات العذاب الأليم الذي تعدنا به إن كنت من المرسلين، إن كنت رسولا حقا فهات العذاب الذي وعدت به. فلما قالوا ذلك ذكر المفسرون ما ذكرناه الآن، وقد قال الله إنه قال لهم :[ تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ]( هود : آية ٦٥ ) فهذا قرآن لا شك فيه، والمفسرون يزعمون أنهم قالوا له : ما العلامة ؟ وانه بين لهم أن العلامة اصفرار الألوان في اليوم الأول، واحمرارها في اليوم الثاني، واسودادها في الثالث، ونزول العذاب صبيحة الرابع، وكان كما وقع. وهذا معنى قوله :[ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ].
[ فأصبحوا في دارهم ] الدار هنا معناه : الديار، وفي بعض الآيات :[ في ديارهم جاثمين ]( هود : الآيات٩٤، ٦٧ ) بالجمع، وفي بعضها :[ في دارهم جاثمين ]( الأعراف : الآيات٩١، ٧٨، العنكبوت : آية ٣٧ ) لأن الدار اسم جنس، وهو إذا أضيف إلى معرفة فهو عام. فمعنى [ في دارهم ] و[ ديارهم ] واحد، والمقرر في الأصول : أن من صيغ العموم إضافة المفرد إذا كان اسم جنس إلى معرفة، فإنه يعم، ونظيره في القرآن :[ وإن تعدوا نعمت الله ] ( إبراهيم : آية ٣٤ ) أي : نعم الله [ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ] ( النور : آية ٦٣ ) أي : أوامره [ إن هؤلاء ضيفي ]( الحجر : آية ٦٨ ) أي : أضيافي، ونحو ذلك كثير معروف في الأصول وفي العربية.
ومعنى :[ جاثمين ] هو خبر أصبحوا، والجاثمون جمع تصحيح للجاثم، والجاثم المتصف بالجثوم، وأصل الجثوم : هو أن يكون الإنسان منكبا على وجهه، ركبتاه في الأرض، ومكانه يسمى ( المجثم ) فالذي يفعله ولد الظبية إذا كان منبطحا منكبا على وجهه يسمى ( جثوما ) ومكانه يسمى ( المجثم ) على القياس، ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
بها العين والآرام يمشين خلفة | وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم |
أحدهما انه تولى عنهم لما تحقق الهلاك، وأنه نازل بهم تولى راجعا عنهم وقال لهم :[ يا قوم ] والله[ لأقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم[ غاية النصح[ لا تحبون الناصحين ] فكرهتم نصيحتي ورددتموها وستجدون غب ذلك.
وبعض العلماء يقولون : إن نبي الله صالحا لم يقل لهم هذا إلا بعد أن نزل بهم عذاب الله وصاروا موتى، وفارقت أرواحهم أجسادهم، جاء إلى جثثهم ووبخهم هذا التوبيخ بعد ان ماتوا. وهذا الأخير هو ظاهر القرآن ؛ لأن قوله :[ فتولى عنهم ] مرتب بالفاء على قوله :[ فأصبحوا في دارهم جاثمين ]والفاء تقتضي التعقيب، فكونه قال لهم هذا بعد أن ماتوا وأصبحوا في دارهم جاثمين هو ظاهر القرآن، وظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا لأمر يجب الرجوع إليه.
وقد وقع مثل هذا من نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيح أن كفار قريش لما ماتوا يوم بدر وجعلوا في القليب-قبحهم الله- موتى كفارا وقف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم أموات بعد ثلاث وقال :-ناداهم بأسمائهم- يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا. ووبخهم وقرعهم. ولما قال له عمر بن الخطاب ما مضمونه : كيف تكلم قوما قد جيفوا، هم جيف وأموات ؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم :" ما انتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون ". فلا مانع من أن يكون توبيخ صالح لقومه بعد الموت كتوبيخ النبي صلى الله عليه وسلم للكفرة أصحاب القليب يوم بدر، وهذا ظاهر القرآن ؛ لأنه رتب [ فتولى ] بالفاء على قوله :[ فأصبحوا في دارهم جاثمين ]. [ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ] والله لقد أبلغتكم رسالة ربي [ ونصحت لكم ] نصحا خالصا غير مشوب بغش بحقيقة، حذرتكم نقم الله [ ولكن ] ولكنكم والعياذ بالله [ لا تحبون الناصحين ] بل تكرهون من ينصح لكم وتعصون أمره وإذا فقد وجدتم غب ذلك ونتيجته والعياذ بالله.
هذه هي القصة الرابعة من قصص الأنبياء الذين قص الله علينا أخبارهم مع أممهم في هذه السورة الكريمة-سورة الأعراف- لنعتبر بما فيها[ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... ]( يوسف : آية ١١١ ) فبين لنا أن قوم نوح كذبوه، وأنه أهلكهم بطوفان أغرقهم فبادوا عن آخرهم، وأن قوم هود كذبوه فأرسل عليهم الريح العقيم فدمرتهم عن آخرهم، وأن قوم صالح كذبوه فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين، ليس فيهم داع ولا مجيب، كأن الله يقول : اعلموا معاملتي لمن عصاني وطغى وتكبر وعادى رسلي فإني سأهلكه الإهلاك المستأصل، وأجعل مصيره إلى النار. وهم – والعياذ بالله- مغضوب عليهم في الدنيا، مغضوب عليهم في الآخرة ؛ ولأجل ذلك ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفره في غزوة تبوك مر بأرض الحجر- وهي ديار ثمود- فلما مر بها صلى الله عليه وسلم تلثم وأسرع السير جدا ليجاوز أرض الغضب بسرعة، ونهى أصحابه أن يشربوا من مياهها، وكان قوم منهم قد عجنوا بمائها عجينا، وقوم قد حاسوا منه حيسا، فنهاهم أن يأكلوا العجين الذي عجن بماء تلك الأرض، ونهاهم عن أن يأكلوا الحيس الذي بماء تلك الأرض. وفي بعض روايات الحديث انه أذن لبعضهم في أن يطعموا ذلك الحيس إبلهم، ونهاهم عن أكله.
ومعلوم اختلاف العلماء : هل يجوز الوضوء بمياه أرضهم ؟ وهل يرفع الحدث ؟ وهل تجوز الصلاة في ديارهم أو لا تجوز ؟ وإن وقعت فهل هي باطلة أو غير باطلة ؟ خلاف العلماء في هذا معروف. ومما ينبغي أن يتنبه له الآن أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مياه أولئك القوم ؛ لأنها مياه أرض غضب، وبين أن الشرب منها لا يجوز، وإذا كان الشرب منها لا يجوز فالطهارة التي هي طاعة الله يظهر أنها من باب أولى لا تجوز.
وصرحت الأحاديث المتفق عليها أنه لا يجوز لأحد أن يدخل ديارهم إلا باكيا، خوفا أن ينزل به مثل ما نزل بهم. فأرضهم ارض غضب. وكذلك جاء عن علي ( رضي الله عنه ) لما مر بأرض الخسف في باب من أرض العراق انه أسرع ولم يصل حتى جاوزها.
ومن ذلك يعلم انه لا تجوز السكنى في محل ديارهم، ولا الزراعة ولا الغرس في محل ديارهم، كل ذلك لا يجوز. لا يجوز الانتفاع بمياه أرضهم، ولا الازدراع فيها، ولا الشرب منها، ولا غرس شجر بها، كل ذلك حرام ممنوع لا يجوز، كما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة. فيجب على من بسط الله يده إذا أراد بعض الجهلة أن يسكن في ديار قوم صالح وان يشرب من مياهها ويزرع على مياهها ويغرس عليه الأشجار أن يمنعه من ذلك كله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو خير قدوة، فقد منع أصحابه من أن يشربوا من مائها، ومنعهم أن يأكلوا عجينا بمائها، وان يأكلوا حيسا بل بمائها، وهو صلى الله عليه وسلم خير أسوة، وكل هذا ثابت في الصحيحين عن ابن عمر وغيره رضي الله عنهم.
فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من آبار ثمود ومنعه من أكل العجين الذي بل بمائها، ومن أكل الحيس الذي بل بمائها، وتلثمه صلى الله عليه وسلم وإسراعه السير ليجاوز واديهم، وأمره أصحابه أن لا يشربوا إلا من البئر التي كانت تشرب منها الناقة يدل على أن بلادهم أرض غضب، وأنها لا يجوز السكنى فيها، ولا يجوز دخول ديارهم لأحد إلا وهو يبكي خوفا من الله أن ينزل به مثل ما أنزل بهم. فالذي يدخل بلادهم ليتفرج وينظر غير باك ففعله حرام لا يجوز للأحاديث الصحيحة النبوية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يترك أحد يزدرع في ديارهم، ويشرب من مائها، ويأكل من الحب المزروع بمياههم، كل ذلك لا يجوز ؛ لأنها أرض غضب ملعونة لا يجوز المقام فيها ولا الانتفاع بمائها.
ثم ذكر تعالى القصة الرابعة وهي قصة لوط، قال :[ ولوطا إذ قال لقومه ]( الأعراف : آية ٨٠ ) اختلف العلماء في وجه نصب [ لوطا ] في قوله :[ ولوطا إذ قال لقومه ] على وجهين متقاربين :
قال بعض العلماء : هو معطوف على ما قبله :[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ]( الأعراف : آية ٥٩ ) [ وإلى عاد أخاهم هودا ]( الأعراف : آية ٦٥ ) أي : وأرسلنا هودا إلى عاد [ وإلى ثمود أخاهم صالحا[ ( الأعراف : آية ٧٣ ) أي : وأرسلنا صالحا إلى ثمود، وأرسلنا لوطا أيضا فقال لقومه كذا وكذا.
وبعض العلماء يقول : هو منصوب ب " اذكر " محذوفا. واذكر لوطا حين قال لقومه. وعليه يكون [ إذ قال لقومه ] بدل اشتمال من قوله :[ لوطا ] كما قاله غير واحد.
ولوط : هو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم.
والمؤرخون يزعمون أن أبا إبراهيم اسمه( تارح ) والقرآن صرح بأن اسم أبيه( آزر ) حيث قال :[ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ]( الأنعام : آية ٧٤ ) ولا مانع من أن يكون له اسمان، أو اسم ولقب. وهم يقولون : إن نبي الله لوطا ابن أخي إبراهيم، وأنه لما أنجى الله إبراهيم من نار النمرود وسافر من سواد العراق مهاجرا إلى الشام أن لوطا كان ممن هاجر مع إبراهيم [ فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ]( العنكبوت : آية ٢٦ ) فنزل إبراهيم فلسطين، وكانت محل مهاجره، ونزل لوط بالأردن- والأردن بضم الهمزة والدال وتشديد النون- يقولون : إنه نهر وكورة في أعالي الشام، فأرسل الله نبي الله لوطا إلى قوم لوط، وهم قرى، يزعم بعض المفسرون أنها أربعة، وبعضهم يقول هي خمسة وعاصمتها- البلد الكبير- تسمى :( سدوم ) وبعض علماء العربية يقولون " ( سذوم ) بذال المعجمة، وهو قول الجوهري، ونصره القاموس. وبعضهم يقول : هي ( سدوم ) بالدال المهملة، وهي اكبر قراهم، فأرسل الله فيهم نبيه لوطا ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام )، وجرى لهم معه ما قصه الله علينا في آيات متعددة، منها آية الأعراف هذه [ ولوطا ] أي : وأرسلنا لوطا، أي : واذكر نبي الله لوط بن هاران إذ قال لقومه الذين أرسل إليهم وهم بلد سدوم والقرى التي حولها، وهي المعروفة بالمؤتفكات، لأن المؤتفكات قرى قوم لوط، والمؤتفكة بالإفراد يمكن أن يكون المراد بها جميع القرى ؛ لأن مثل ذلك يطلق عليه ما يطلق على المؤنثة المفردة المجازية التأنيث. وقيل لقرى قومه :( المؤتفكات ] لأن جبريل عليه السلام أفكها أي : قلبها بهم فاقتلعها من الأرض ورفعها إلى السماء ثم جعل عاليها سافلها، كما قال تعالى :[ فجعلنا عاليها سافلها ]( هود : آية ٨٢ ) وجعل العالي هو السافل هو معنى القلب والأفك ؛ لأن العرب تقول : أفك الشيء يأفكه إذا قلبه، ومنه سمي أسوأ الكذب ( إفكا ) لأنه قلب للحقيقة عن ظاهرها الصحيح إلى شيء آخر باطل.
[ إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ]( الأعراف : آية ٨٠ ) [ أتأتون ] هنا همزة إنكار، أنكر نبي الله لوط عليهم الفاحشة، وقد قدمنا أن الفاحشة في لغة العرب أنها كل خصلة متناهية في القبح تسميها العرب فاحشا، وكل شيء بالغ نهايته تسميه العرب فاحشا، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى | عقيلة مال الفاحش المتشدد |
قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا حفصا عن عاصم ونافعا :[ أئنكم لتأتون الرجال ] بهمزة استفهام إلا أن أبا عمرو وابن كثير سهلا الهمزة الثانية بين بين، وأبا عمرو يدخل بينهما الألف المعروفة بألف الإدخال، والباقون من القراء قرؤوها بتحقيق الهمزتين [ أئنكم ] بهمزتين ولم يدخل بين الهمزتين المحققتين ألفا من عامة القراء إلا هشام عن ابن عامر، فهشام وحده عن ابن عامر قرأ :[ ءائنكم ]بألف بين الهمزتين المحققتين، وعامة القراء غير هشام عن ابن عامر الذين حققوا الهمزتين لم يدخلوا بينهما ألفا، والذين سهلوا الهمزة الثانية- وهما : أبو عمرو وابن كثير- ابن كثير منهم لم يدخل الألف، وأبو عمرو أدخل الألف، فتحصل أن في قوله :[ إنكم لتاتون الفاحشة ]ثلاث قراءات سبعيات : قرأه نافع وحفص عن عاصم :[ إنكم لتاتون ] بهمزة واحدة على الخبر لا على الاستفهام، وقرأه أبو عمرو وابن كثثير :[ أينكم ] بتسهيل الهمزة الثانية، إلا أبا عمرو زاد ألف الإدخال، وابن كثير لم يزده. وقرأها الباقون بتحقيق الهمزتين، ولم يدخل ألفا مع تحقيق الهمزتين أحد منهم إلا هشام في روايته عن ابن عامر. هذه القراءات في الآية.
أما على قراءة :[ أئنكم لتاتون الرجال ]( الأعراف : آية ٨١ ) فهو توبيخ بعد توبيخ، وتقريع بعد تقريع ؛ لأن الاستفهام للأنكار، وهو يتضمن التوبيخ والتقريع، فهو يكرر لهم التوبيخ والتقريع المرة بعد المرة، والإنكار بعد الإنكار ؛ لأن فعلهم القبيح الشنيع يستحق ذلك التوبيخ والتقريع والإنكار.
أما على قراءة نافع وحفص عن عاصم [ إنكم لتأتون الرجال ] فبعض العلماء يقول : إنه خبر لا استفهام فيه، والأظهر أنه فيه استفهام إلا أن الاستفهام حذف لدلالة القراءة الثانية عليه ؛ لأن المقام أليق بتكرير التوبيخ والتقريع من غير ذلك، وهمزة الاستفهام إذا دل الدليل عليها جاز حذفها، وهو قياسي عند الأخفش، وسماعي عند غيره. وهو موجود بكثرة في كلام العرب مع ( أم ) ودون ( أم )، ومع ذكر الجواب، ودون ذكر الجواب، قال بعض العلماء منه في القرآن :[ إفأين مت فهم الخالدون ]( الأنبياء : آية ٣٤ ) قالوا : الأصل : أفهم الخالدون. فاكتفى بالاستفهام الأول عن الثاني، وزعم بعضهم أن منه :[ وتلك نعمة تمنها علي ]( الشعراء : آية ٢٢ ). قالوا : الأصل أو تلك نعمة تمنها علي ؟ وزعم بعضهم أن منه قوله :[ قال هذا ربي ]( النعام : آية ٧٦ ) أي : أهذا ربي ؟ باستفهام الإنكار. والدلالة على حذف الهمزة هو توحيد إبراهيم وعدم شكه في ربوبية الكوكب. وأنشد سيبويه ( رحمه الله ) في كتابه لحذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها قول الشاعر :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا *** شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
وأنشد له سيبويه أيضا في كتابه قول الأخطل :
كذبتك عينك أو رأيت بواسط *** غلس الظلام من الرباب خيالا
فبيت الأخطل هذا، أورده سيبويه في كتابه مجوزا أن تكون همزة الاستفهام محذوفة، وان الأصل : أكذبتك عينك ؟ فحذفت همزة الاستفهام. وإن كان الشيخ الخليل بن احمد يخالف سيبويه في معنى بيت الأخطل هذا ويقول : إنه خبر، وأن المراد به ما يسميه علماء البلاغة : الرجوع، وهو من البديع المعنوي عندهم، وهو أن يأتي الإنسان بأمر ثم ينقض ذلك الأمر بعينه ليدل على أنه قاله أولا، وهو في غيبة عن رشده من شوق أو وله أو نحو ذلك، ثم يراجعه رشده، وينفي الأمر للأول الذي كان كذبا ويأتي بالحق، ويمثلون له بقول زهير :
قف بالديار التي لم يعفها القدم *** بلى وغيرها الأرواح والديم
يزعمون أن زهيرا قال :" لم يعفها القدم " لما رأى دار المحبوب خامره الشوق والحب حتى طاش عقله، فعبر بغير الواقع، ثم راجعه عقله فرجع للصواب، وان الخليل يقول : إن بيت الأخطل من هذا القبيل، وسيبويه ( رحمه الله ) يقول : إنه حذفت فيه همزة الاستفهام.
وحذف همزة الاستفهام مع ذكر الجواب، وعدم ذكر الجواب، ومع ( أم ) ودون( أم ) كثير في اللغة العربية عند من تتبعها، فمنه دون( أم ) ودون ذكر الجواب، كقول الكميت :
طربت وما شوقا إلى البيض اطرب *** ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
يعني : أو ذو الشيب يلعب ؟ فحذف همزة الاستفهام، دون( أم ) ودون ذكر الجواب ومنه قول خويلد الهذلي :
رفوني وقالوا ياخويلد لم ترع *** فقلت-وأنكرت الوجوه-هم هم
يعني : أهم هم ؟ كما هو التحقيق. ومنه مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي المعروف المشهور، في شعره المشهور :
شف عنها مرقق جندي *** فهي كالشمس من خلال السحاب
أبرزوها مثل المهاة تهادى *** بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** عدد النجم والحصى والتراب
فقوله :" تحبها " يعني : أتحبها ؟ على التحقيق، وهو كثير في كلام العرب. ومنه مع ( أم ) قول عمر بن أبي ربيعة هذا :
بدا لي منها معصم يوم جمرت *** وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب *** بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني :" أبسبع رميت الجمر أم بثمان " ومنه بهذا المعنى قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري : لعمرك ما تدري وإن ذمرت سقبا *** لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني : ألغيرك أم يكون لك.
وقول الخنساء الشاعرة بنت عمرو بن الشريد السلمية :
قذى بعينيك أم بالعين عوار *** أم خلت إذ أقفرت من أهلها الدار
يعني : أقذى بعينك ؟ ومنه قول امرئ القيس :
تروح من الحي ام تبتكر *** وماذا عليك بأن تنتظر
يعني : أتروح ؟ وهو كثير في كلام العرب معروف، ويكفينا منه ما ذكرنا على سبيل المثال. وعلى هذا فقراءة نافع وحفص حذفت فيها الهمزة لدلالة المقام عليها، فهي لا تخلو أيضا من إنكار وتوبيخ كالتي قبلها، وهذا أليق بالمقام، خلافا لمن قال : لم تقدر هناك همزة استفهام، وإنما الجملة خبرية لا استفهام فيها، فكأنه حكم عليهم بأنهم يفعلون هذا الأمر لما وبخهم عليه.
[ إنكم لتاتون الرجال ]( الأعراف : آية ٨١ ) جمع رجل وهم الذكور [ شهوة ] شهوة هنا في إعرابه أوجه متقاربة، بعضهم يقول : مفعول لأجله، أي : تأتون الرجال لأجل شهوتكم لهم دون النساء. وبعضهم يقول : هو مصدر منكر حالا، أي : في حال كونهم مشتهين الرجال دون النساء. وبعضهم يقول : هو ما ناب عن المطلق، من قوله :[ إنكم لتأتون الرجال ]فإن مضمن معنى : تشتهون الرجال شهوة.
والشهوة : هي ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه.
[ من دون النساء ] لأن النساء هن أزواجكم اللاتي خلقهن الله لكم، لتتمتعوا بهن تمتعا نزيها طاهرا يكون عنه النسل وبقاء الجنس الآدمي، فتركتم هذا الأمر الطيب الكريم وهو إتيان النساء، وهي الأزواج التي خلقهن الله لكم، كما قال تعالى عنهم :[ أتأتون الذكران من العالمين ( ١٦٥ ) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل انتم قوم عادون( ١٦٦ ) ]( الشعراء : الآيتان١٦٦، ١٦٥ ) فبين الله شدة قبح فعلهم هنا حيث أنكر عليهم في قوله :[ لتأتون الرجال ] معناه يأتونهم في أدبارهم بفعل فاحشة اللواط قبحهم الله جل وعلا [ من دون النساء ] اللاتي هن أزواجكم وخلقن لكم لتتمتعوا بهن تمتعا طاهرا كريما لائقا بالمروءة يتبعه النسل وبقاء الجنس الآدمي، فتركتم هذا الأمر الطيب الذي خلق الله النساء له، وذهبتم إلى هذا الأمر الوسخ القبيح النجس الذي يقضي بانقطاع نسل الإنسان ؛ لأن الرجال إذا اكتفوا بالرجال عن النساء، انقطع النسل كله وضاع جنس بني آدم ؛ ولذا وبخهم الله.
وفاحشة اللواط-قبحها الله وقبح مرتكبها- أول من فعلها من أهل الدنيا قوم لوط، وهي من خسائس الذنوب الجامعة بين الخسة ودناءة صاحبها ورداءته، وشناعتها وكثرة مفاسدها، فإن لها مفاسد عظيمة، مع أنها لا يرتكبها إلا أخس الناس، وأرذل الناس، وأقبح الناس دينا، ومروءة وإنسانية، الذين يرتكبونها أشبه شيء بالبهائم قبحهم الله، وقبح فعلهم القبيح.
ومن خسائس هذه الفاحشة : أنها إن انتشرت في الناس واستغنى الرجال بالرجال صار ذلك سببا لانقطاع الجنس الإنساني ودمار الدنيا، وخصلة إذا تمادى الناس فيها كانت خرابا لجميع الدنيا، هي من أخس الخصال. ويزعم الناس الذين مارسوا أضرار هذه الخسيسة أن الإنسان المفعول به إذا نزل مني اللائط فيه أن ذلك المني- والعياذ بالله- يورثه أضرارا قبيحة : يجعله ديوثا، ويضيع همته، ويخرب إنسانيته وكيانه، فيبقى القبيح الخسيس الخنزير كلا شيء، وكذلك اللائط-قبحه الله وقبح فعله- يذهب على أنتن محل وأقذره ومحل النجاسات ليتمتع بهذا ! فهو من أخس الناس وأنتنهم، والمحل الذي يريد التمتع منه هو أنجس شيء، وأنتنه وأقبحه. وفعله الخسيس يقتضي بانقضاء النسل، وربما أورث الخبيث الخسيس أمراضا كما هو مشاهد عند من يعلم ذلك ويعلم الطب ؛ لأن الله جعل في أرحام النساء خاصية لجدب مني الرجال، إذ هاج مني الرجل لينزل وهو يجامع امرأته كان في رحم امرأته خاصية لجذب ماء الرجل، فتجذب رحمها منيه، فيخلص من بقايا المني، أما إذا كانت القضية لواطا-قبح الفاعل فيه والمفعول به فيه، قبح الله الجميع- فإنه لا يكون في دبر الرجل استعداد لجذب ماء الرجل الآخر، فيتهيأ الماء للخروج، ويبقى في المجاري، فينتن ويتعفن، ثم تنشأ منه أمراض وأورام وأسقام عظيمة- قبح الله الجميع-.
والحاصل أنها خصلة من أقبح الخصال وأخسها وأكثرها ضررا، صاحبها في الدنيا تؤذن بأنه ساقط المروءة، ساقط الدين، لا يخاف الله، وتدخله يوم القيامة النار، ومن ارتكبها اجمع العلماء على انه يعاقب في الدنيا عقوبة زاجرة.
واختلف العلماء في عقوبة اللائط، المرتكب هذه الفاحشة الخبيثة-قبحها الله وقبح مرتكبها- فذهب جماعة من العلماء، وحكى عليه غير واحد إجماع الصحابة، وهو مذهب مالك وعامة أصحابه، ورواية عن الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد أنهما يقتلان : الفاعل والمفعول به يقتلان معا، إلا أن العلماء الذين قالوا يقتلان، اختلفوا في كيفية قتله، فمنهم من قال : يقتل بالسيف، ومنهم من قال : يرجم بالحجارة حتى يموت، ومنهم من قال : يحرق الخبيث بالنار حتى يقتل تحريقا، ومنهم من قال : يرفع على شاهق ثم يرمى من الشاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط الذين هم أول من ارتكب هذه الفاحشة، رفعهم إلى أعلى ثم قذف ( بهم إلى ) ( في الأصل :" قذف الأرض بهم " ) الأرض وأرسل عليهم حجارة من سجيل.
والذين قالوا : يقتل اللائط والملوط استدلوا بالحديث الذي رواه عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه الإمام احمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". وقال ابن حجر في رجال هذا الإسناد : إنهم موثقون. وذكر فيه بعض اختلاف. وأكثر العلماء يثبتون هذا الحديث، وكم من واحد قال : إنه حديث ثابت. وما جاء عن يحي بن معين من أن في إسناده عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وأنه اتهمه في هذا الحديث، مردود بأن عمرا المذكور من الحفاظ المشهورين، الذين روى لهم مالك والشيخان، فلا يقدح فيه هذا، فهذا الحديث الذي رواه هؤلاء عن ابن عباس هو حجة م
وعيرها الواشون أني أحبها | وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. |
وقوله :[ إلا امرأتك[ ( هود : لآية ٨١ ) كانت امرأته قبيحة خبيثة مع الكفار وضرب الله لها مثلا هي وامرأة نوح في قوله :[ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين( ١٠ ) ]( التحريم : آية ١٠ ) قبحها الله.
وقراءة الجمهور ما عدا ابن كثير وأبا عمرو لا إشكال ؛ لأن الجمهور قرؤوا :[ ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ] وعلى قراءة النصب لا إشكال في الآية البتة، وان المعنى : فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك فلا تسر بها فاتركها مع الهالكين[ إنه مصيبها ما أصابهم ]( هود : آية ٨١ ) لأنها كافرة منهم.
أما على قراءة أبي عمرو وابن كثير :[ إلا أمرأتك ] بالرفع ففي الآية إشكال متعارض مع قوله :[ إلا امرأتك[ لأن قوله :[ إلا امراتك ] بالفتح يدل على أنه لم يسر بها، وعلى قراءة [ إلا امرأتك ] يدل أنه سرى بها، وأنها لم يلتفت أحد إلا هي.
وجمع بعض العلماء بين القراءتين بان الله أعلمه أنها هالكة لا محالة، وأنه لم يسر بها إسراء إلى حيث النجاة، سواء بقيت معهم أو ذهبت معهم قليلا فالتفتت فأصابها حجر فأهلكها كما أهلك قومها، فهي هالكة على كلا القولين سواء أسرى بها فالتفتت فهلكت، أو بقيت معهم، فهي هالكة على كل حال. وفائدة إسرائه بمن معه هي النجاة، وهي محرومة من هذه الفائدة. وإذا يكون معنى القراءتين كالشيء الواحد. هكذا قال بعض العلماء. وهذا معنى قوله :[ فانجيناه وأهله إلا امرأته ].
[ كانت من الغابرين ]( الأعراف : آية ٨٣ ) ( الغابرين ) : جمع الغابر، والغابر اسم مشترك من الأضداد، يطلق على الماضي وعلى الباقي، تقال ( الغابر ) للماضي، و( الغابر ) للباقي. والمراد بها هنا : الباقين. [ من الغابرين ] أي : من الباقين في الهلاك [ إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ]( هود آية ٨١ ) والله بين هذه القصة في آيات كثيرة من كتابه وأوضحها ؛ لأن الرسل لما قالوا لإبراهيم :[ إنا أرسلنا إلى قوم لوط ] وبينوا له أنهم سيهلكون القرية قال :[ ان فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه واهله الا امرأته ]( العنكبوت : آية ٣٢ ) القبيحة، فلما كان وقت الصبح الذين جاؤوا يريدون كسر الباب وفاحشة اللواط بجبريل والملائكة معه لما قال جبريل للوط :[ يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ]( هود : آية ٨١ ) ذكر المفسرون أن الله أذن له في النكال بهم، فجاء في صورته، وعليه ما عليه من الوشاحات والأجنحة، ثم مسح أعينهم بريشة من جناحه، فبقيت وجوههم كأنها لم تكن فيها عيون أصلا، كما سيأتي في قوله في القصة بعينها :[ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر( ٣٧ ) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر( ٣٨ ) فذوقوا عذابي ونذر( ٣٩ ) ]( القمر : الآيات٣٧-٣٩ ) ويذكرون أن جبريل عليه السلام اقتلع أرضهم من الأرض، وأدخل جناحه من تحتها، واقتلعها من الأرض، ورفعها حتى قربت من السماء، ثم ألقاها منكسا لها، جاعلا عاليها أسفلها، وأنهم أتبعتهم الملائكة حجارة السجيل، كما يأتي في قوله :[ جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ]( هود : آية ٨٢ ) والتحقيق : أن السجيل : انه الطين ؛ لأن الله قال :[ لنرسل عليهم حجارة من طين( ٣٣ ) ]( الذاريات : آية ٣٣ ) وخير ما يفسر القرآن القرآن، إلا أنه طين مشوي بالنار، شديد الحرارة، لا يأتي على شيء إلا خرقه. وهذه القصة مذكورة في مواضع كثيرة من كتاب الله ؛ ولذا قال هنا :[ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين( ٨٣ )
العاقبة : هي ما يؤول إليه الأمر عقب الأمر الأول، وتؤول إليه الحقيقة في ثاني حال.
والمجرمون جمع المجرم، والمجرم مرتكب الجريمة، والجريمة : الذنب الذي يستحق صاحبه العذاب والنكال [ فانظر كيف ] الحال التي يؤول إليها أمر المجرمين وعاقبتهم، وهو الدمار والنكال، والعذاب المستأصل المتصل بعذاب الآخرة. وهذا معنى قوله :[ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ]يخوف الله خلقه أن يقع بهم مثل ما وقع بهؤلاء، ومن أعظم ما يخوف الطغاة الفجرة من فاحشة اللواط- قبحها الله وقبح مرتكبها- أن الله بين في كتابه أن مرتكبيها أرسل عليهم حجارة السجيل، ثم بين أن تلك الحجارة موجودة، وأنها لم تعدم، وأنها ليست ببعيد من الظالمين الذين يفعلون مثل فعلهم حيث قال :[ وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود( ٨٢ ) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد( ٨٣ ) ]( هود : الآيتان٨٢-٨٣ ) فقوله :[ وما هي من الظالمين ببعيد ] على أشهر التفسيرين وأصحهما فيها أعظم تهديد وأكبر زجر وتخويف لمن يرتكب الخسيسة القبيحة وهي فاحشة اللواط. وهذا معنى قوله :[ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ].
قوله تعالى :[ وإلى مدين أخاهم شعيبا ] معناه : وأرسلنا على مدين أخاهم شعيبا فهو معطوف على قوله :[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ]( الأعراف : آية ٥٩ ) لأنا في هذه السورة الكريمة-سورة الأعراف- تكلمنا فيما مضى في الدروس السابقة على قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة لوط مع أصحابهم، وكنا واقفين عند قصة شعيب مع مدين، وابتداء ما ذكر قوله :[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ] ثم قال :[ إلى عاد أخاهم هودا ]( الأعراف : آية ٦٥ ) أي : أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، ثم قال :[ وإلى ثمود أخاهم صالحا ]( الأعراف : آية ٧٣ ) أي : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، إلى أن قال :[ وإلى مدين أخاهم شعيبا ] أي : أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، إلى أن قال :[ وإلى ثمود أخاهم شعيبا ] أي : أرسلنا الى مدين أخاهم شعيبا. أكثر المفسرين والمؤرخين يقولون : إن ( مدين ) اسم مدين بن إبراهيم، وأن هذه الأمة التي أرسل إليها شعيب أنها من ذرية مدين بن إبراهيم، وأن شعيبا أخاهم في النسب، وكانت ديار مدين بأرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز، قريبا من بحيرة قوم لوط. وقال بعض أهل العلم :( مدين ) اسم بلدة. واختلف المؤرخون والمفسرون في نسب شعيب اختلافا كثيرا لا يقوم شيء على دليل قاطع منه، فكثير من المؤرخين يقولون : هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم. وبعضهم يقول : هو ابن صيفور أو ضيفور بن عيفاء أو عنقاء. وبعضهم يقول : هو شعيب من ذرية يشجر بن لاوي بن يعقوب. والأقوال في نسبه كثيرة جدا، ولم يقم برهان على شيء منها. وقد جاء في حديث أبي ذر المشهور في الأنبياء عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لأبي ذر أن أربعة من الأنبياء عرب قال :" وهم هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر " وكان السلف الصالح يسمون شعيبا خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، ووضوح أدلته التي يدعوهم بها إلى الدين.
وسيأتي في سورة هود كلام الناس وما يختار منه على قولهم في تفسير قوله :[ وإنا لنراك فينا ضعيفا ]( هود : آية ٩١ ) أنه كان أعمى.
وقد يشكل على طالب العلم كون شعيب عربيا فمن أين تعرب ومن أين اخذ العربية عمن ؟ لأن إبراهيم أعجمي، وإسماعيل أبو العرب العاربة ( هكذا في الأصل. ولعله سبق لسان إذ من المعلوم أنه أب للعرب المستعربة )، معلوم انه تعرب من العرب العاربة البائدة الذين ساكنوه عند زمزم كجرهم، وقد أرسل إلى جرهم وتعلم منهم اللسان العربي على الصحيح.
ذكر بعض العلماء- وممن ذكره حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر، وذكره ابن حجر في الإصابة وغيرهم- ذكروا في ترجمة سلمة بن سعد-ويقال : سلمة بن سعيد- انه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وانتسب له وهو عنزي، وان النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون، أولئك قوم شعيب، وأختا موسى ". هذا حديث رواه الطبراني وغيره، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب وغيره.
قال بعض العلماء : لو كان هذا الحديث محفوظا صحيحا لكان دالا على أن شعيبا من قبيلة من قبائل العرب البائدة تسمى : عنزة، ولكنه لم يصح. وعنزة هؤلاء المذكورون في هذا الحديث ليس المراد بهم بنو عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، المعروفون ؛ لأن شعيبا قبلهم بكثير، كما قاله غير واحد، وعلى كل حال فالكلام في شعيب ونسبه كثير، واختلاف العلماء فيه كثير، وغلط بعض العلماء وبعض المؤرخين- كصاحب صبح الأعشى- فزعم أن شعيبا كان بعد موسى. وهذا لا شك أنه غلط ؛ لأن شعيبا قبل موسى، وقد دلت آيات القرآن في سورة الأعراف هذه وغيرها ؛ لأن الله في سورة الأعراف هذه لما ذكر قصة نوح وقصة هود وصالح ولوط وشعيب مع قومهم قال بعد ذلك في الآيات الآتية :[ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا ]( الأعراف : آية ١٠٣ ) فدل على أن بعث موسى بآيات الله بعد هؤلاء الرسل وأممهم، كما هو نص القرآن العظيم. وزعم بعض العلماء أن شعيبا ابن بنت لوط. وقال بعض العلماء : هو ممن آمن مع إبراهيم لما نجا من النار وهاجر معه. وكلها أقوال لا دليل عليها، وغاية ما يفيده القرآن : أن الله بعث نبيه شعيبا إلى أهل مدين. وذكر الله في آيات أخرى متعددة- كما سيأتي في سورة " الحجر "، وفي سورة " الشعراء "، وفي سورة " ص " وغير ذلك- أن شعيبا أرسل أيضا إلى أصحاب الأيكة كما سيأتي في قوله :[ كذب أصحاب الأيكة المرسلين( ١٧٦ ) ]( الشعراء : آية ١٧٦ ) والعلماء مختلفون : هل أصحاب الأيكة هم مدين أنفسهم فيكون شعيب قد أرسل إلى أمتين ؟ هذا خلاف معروف بين العلماء، وأكثر أهل العلم على أنهم أمة واحدة كانوا يعبدون أيكة، أي : شجرا ملتفا، وان الله سماهم مرة بنسبهم ( مدين ) ومرة أضافهم إلى الأيكة التي يعبدونها. وجزم بصحة هذا ابن كثير في تاريخه وتفسيره وممن اشتهر عنه أنهم أمتان قتادة وجماعة، وهو خلاف معروف.
والذين قالوا : إنهما أمتان قالوا : في ( مدين ) قال : إنه أخوهم حيث قال :[ إذ قال لهم شعيب ]( الأعراف : آية ٨٥ ) أما أصحاب الأيكة فلم يقل إنه أخوهم بل قال :[ كذب أصحاب الأيكة المرسلين( ١٧٦ ) إذ قال لهم شعيب ]( الشعراء : الآيتان١٧٧، ١٧٦ ) ولم يقل : أخوهم شعيب.
وأجيب عن هذا بأنه لما ذكر مدين ذكر الجد الذي يشمل القبيلة ومن جملتها شعيب، ذكر أنه أخوهم من النسب. أما قوله :[ أصحاب الأيكة ] فمعناه : أنهم يعبدونها، ولما ذكرهم في مقام الشرك وعبادة غير الله لم يدخل معهم شعيبا في ذلك وهم امة واحدة. هكذا قاله بعضهم والله أعلم.
وعلى كل حال فشعيب هذا معروف انه نبي من الرسل الكرام، وقد ذكر الله قصته مع قومه مفصلة في آيات من كتابه، ذكرها هنا، وذكرها في سورة هود، وفي سورة أخرى كما سيأتي إن شاء الله. هذا معنى :[ وإلى مدين أخاهم شعيبا ] أي : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا، ماذا قال لهم ؟ وماذا أرسل به إليهم ؟ قال :[ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٨٥ ).
قوله :[ اعبدوا الله ] هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله. وقوله :[ ما لكم من إله غيره ] حظ النفي منها. وهذه الكلمة التي هي ( لا إله إلا الله ) هي التي قامت عليها السماوات والأرض، وخلقت لأجل الحساب عليها الجنة والنار وأرسل بها الرسل، وهي محل المعارك بين الرسل وأممهم، وجميع الرسل ما أرسل منهم نبي إلا بهذه الكلمة وما تتضمنه من الشرائع والأحكام. إذا نظرت في رسائل الرسل إجمالا وتفصيلا وجدت ذلك كما قلنا، ومما يدل عليه تفصيلا : أن كل رسول إذا أرسل إلى قومه يبين القرآن أن أول ما يقول لهم هو مضمون ( لا إله إلا الله ) كقوله في قصصهم في هذه السورة الكريمة :[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ] ماذا قال لهم ؟ قال :[ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ]( الأعراف : آية ٥٩ ) ثم قال :[ وإلى عاد أخاهم هودا ] ماذا قال لهم :[ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٦٥ ) ثم قال :[ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٧٣ ) وكذلك قال في شعيب :[ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]( الأعراف : آية ٨٥ ) وهكذا. وكذلك بالإجمال قوله تعالى :[ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه انه لا إله إلا أنا فاعبدون( ٢٥ ) ]( الأنبياء : آية ٢٥ ) وفي القراءة الأخرى :[ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ][ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله ] وهو حظ الإثبات منها، [ واجتنبوا الطاغوت ] ( النمل : آية ٣٦ ) وهو حظ النفي منها[ وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون( ٤٥ ) ]( الزخرف : آية ٤٥ ) وهكذا. وهذا من تاريخ الأنبياء والقصص القرآنية يدل على عظمة هذه الكلمة، وأنها هي رسالة الله في أرضه لخلقه، حتى إنه ( جل وعلا ) حصر جميع الوحي فيها في سورة الأنبياء في قوله :[ قل إنما يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد ]( الأنبياء : آية ١٠٨ ) وغير ذلك من الآيات و( إنما ) أداة حصر لشدة أهمية هذه الكلمة.
وهي مركبة من نفي وإثبات، إثباتها قوله :[ اعبدوا الله ] وهي الأمر بعبادته وحده. أصل العبادة : الذل والخضوع، ومنه قيل للعبد ( عبد ) لذله وخضوعه بين يدي سيده، فكل خاضع ذليل يقال له : عبد وعابد. فالعبادة : الذل والخضوع، وهو معنى في كلام العرب مشهور، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت | وظيفا وظيفا فوق مور معبد |
والإله : قال بعض علماء العربية : هو ( فعال ) بمعنى :( مفعول ) أي : مألوه، أي : معبود يعبده خلقه على وجه الذل والخضوع والمحبة. وإتيان ( الفعال ) بمعنى( المفعول ) مسموع في أوزان معروفة في اللغة العربية، كالإله بمعنى المعبود، والكتاب بمعنى المكتوب، واللباس بمعنى الملبوس، والإمام بمعنى المؤتم به، في أوزان غير كثيرة.
والإلهة : العبادة، وفي قراءة ابن عباس- وهي من قراءات الصحابة الشاذة- :( ويذرك وإلاهتك ) أي : وعبادتك. وقد قال رؤبة بن العجاح في زجره وهو عربي قح فصيح :
لله در الغانيات المده | سبحن واسترجعن من تالهي |
وما أدري وسوف إخال ادري | أقوم آل حصن أم نساء |
وقوله :[ ما لكم من إله ]( إله ) هنا : نكرة في سياق النفي زيدت قبلها ( من ) وقد تقرر في الأصول- وذكره الشيخ عمرو سيبويه ( رحمه الله )- : أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة ( من ) لتوكيد النفي
هذا من كلام نبي الله شعيب يذكر قومه بنعمة الله عليهم كي يشكروا نعمة الله فيتوبوا إلى الله ويصدقوا رسوله ويؤمنوا به.
وقوله :[ إذ ] قال بعض العلماء : هو مفعول به لا مفعول فيه. أي : اذكروا الوقت الذي كنتم فيه قليلين فكثركم الله وانعم عليكم بالكثرة.
وقال بعض العلماء : هو مفعول فيه ووقت للذكر.
وقوله جل وعلا :[ واذكروا ] اذكروا يا قوم إذ كنتم ] حين كنتم [ قليلا ] قليلا عددكم [ فكثركم ] الله فجعل عددكم كثيرا. والكثرة تستلزم القوة ؛ لأن الجمع الكثير أقوى عادة من الجمع القليل.
يقول المفسرون : إن مدين بن إبراهيم تزوج إحدى ابنتي لوط فولدت له فرمى الله في نسلها البركة والنماء ؛ فلذا قال :[ إذ كنتم قليلا فكثركم ]( الأعراف : آية ٨٦ ) كثره : أي : جعله كثيرا بعد أن كان قليلا. والمعروف أن الكثرة بعد القلة أنها من نعم الله التي تستوجب الشكر، ومن هنا يعلم أن الذين يأتون بتشاريع الشيطان دائما يعكسون نور الوحي النازل على الأنبياء ! ! فنبي الله شعيب يذكر قومه بنعمة الكثرة بعد القلة، وأولياء الشيطان وأنصار نظام إبليس يقولون : يجب على الأمة تحديد النسل(... ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. ويمكن استدراك النقص بمراجعة كلام الشيخ ( رحمه الله ) في هذه المسألة عند تفسير الآية ( ١٥١ ) من سورة الأنعام ) إشفاقا، كما بيناه في قوله :[ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ]( الأعراف : آية ٨٥ ).
واعلموا أن ما قاله بعض المفسرين من أن الكثرة لا تستلزم العزة ! ! وان الأقلين ربما كانوا اعز من الأكثرين ! ! ويستدلون على هذا بشعر للسموأل بن عاديا(... ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. والكلام مستقيم بدونه ) في قوله :
تعيرنا أنا قليل عديدنا *** فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا *** عزيز وجار الأكثرين ذليل
وهذا لا حجة فيه ؛ لأن هذا الشاهد ( من قول ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) بعض الشعراء ( الذين لا عبرة بقولهم ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) والله يقول فيهم :[ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون( ٢٢٥ ) وأنهم يقولون ما لا يفعلون( ٢٢٦ ) إلا الذين آمنوا ] ( الآية. ( الشعراء : الآيات٢٢٥-٢٢٧ ) ولا شك أن الكثرة هي مظنة العزة والقوة، ونعمة تستحق الشكر، وهو الصحيح ؛ ولذا قال الأعشى ميمون بن قيس في مناظرة علقمة بن علاثة بن الطفيل :
علقم، لا لست إلى عامر *** الناقض الأوتار والواتر
إلى ان قال :
ولست بالأكثر منهم حصى *** وإنما العزة للكاثر
فصرح بأن الكثرة تستلزم العزة، فهذا أفضل من قول السموأل كما هو معروف، وهذا معنى قوله :[ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ].
[ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ]( الأعراف : آية ٨٦ ) العاقبة : من أسماء المصادر التي جاءت على وزن اسم فاعل، فقد تقرر في علم العربية : أن المصدر ربما جاء بوزن (... ) ( في هذا الموضع كلمة غير واضحة ) كان يأتي بوزن اسم الفاعل أو اسم المفعول، فمن المصادر الآتية على وزن ( فاعل ) :( عاقبة ) بمعنى : العقبى. اسم مصدر و( الفاعلة ) أصلها وزن ( اسم فاعل ). ومنه ( العافية ) بمعنى : المعافاة في أوزان قليلة معروفة. ومن إتيان المصدر بمعنى اسم المفعول قولهم : مأسور ومقتول ومعقول (... ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح ) كما هو معروف في محله.
والعاقبة هي ما يؤول إليه الأمر في حاله آخرا، سميت ( عاقبة ) لأنها تبين الحقائق عقب الأمر الأول (... ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. والكلام مستقيم بدونه ) وما يؤول الشيء إليه (... ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. والكلام مستقيم بدونه ) كما تقدم. ومعنى هذا أن النبي الله شعيبا ذكر قومه نعم الله، أن ينيبوا إلى الله ويشكروا له، وحذرهم من الإفساد في الأرض، وبين لهم عاقبة السوء كما كانت عاقبة قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وكان لوط غير بعيد من أهل مدين كما تقدم في احد التفسيرين في قوله :[ وما قوم لوط منكم ببعيد ]( هود : آية ٨٩ ) وهذا معنى قوله :[ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ].
قد آمنت لشعيب طائفة من قومه كما يأتي في قوله عن الكفار منهم :[ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ]( الآية ( الأعراف : آية ٨٨ ) فهذه الطائفة أقل الطائفتين، فكانت طائفة آمنت بشعيب وطائفة كفرت به، فكانت تهدد شعيبا وقومه بالإخراج من الوطن والنفي من البلد أو يرجعوا إلى كفر الكفار فيكونوا معهم في كفرهم كما سيأتي قريبا.
فقال لهم نبي الله شعيب :[ وإن كان طائفة ] لم تدخل تاء التأنيث هنا في قوله :( كان ) لأن تأنيث طائفة تأنيث غير حقيقي ؛ والفعل إذا اسند إلى مؤنث تأنيثا غير حقيقي جاز تجريده من التاء ( كلفظ ) ( في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة ينتظم بها الكلام ) الطائفة كما هو معروف. [ طائفة منكم آمنوا ] رد الضمير في قوله :[ آمنوا ] ضمير جمع على ( الطائفة ) نظرا إلى المعنى ؛ لأن الطائفة اسم جمع تدل على أفراد كثيرة. وهذا معنى قوله :[ طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به ] أي : آمنوا بما أرسلني الله به من إثبات التوحيد لله، وإيفاء المكيال والميزان، وعدم بخس الناس أشيائهم، وعدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، ونحو ذلك.
[ طائفة ] أخرى [ لم يؤمنوا ] بي بل كفروا، وصارت الطائفتان طائفتين مختلفتين كل منهما تقول : إننا على الحق والأخرى على الباطل [ فاصبروا ] انتظروا قضاء الله وحكمه حتى يحكم بيننا وهو خير من يحكم. وفي هذا أعظم تهديد، فالكفار يرون حكم الله سيأتي بإهلاك الظالم الكافر وإنجاء المسلم، وقد حكم الله بينهم هذا الحكم المنتظر في قوله :[ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ] ثم قال :[ وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كان لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود( ٩٥ ) ]( هود : الآيتان٩٥، ٩٤ ) هذا حكم الله جاء مبينا في سورة هود، وسيأتي الإشارة إليه هنا في سورة الأعراف. وهذا معنى قوله :[ فاصبروا[ ( العراف : آية ٨٧ ) أي : انتظروا وتربصوا.
[ حتى يحكم الله بيننا ]حتى حرف غاية، والفعل المضارع بعدها منصوب ب( أن ) مضمرة، وهو في محل جر بمعنى [ حتى يحكم الله ] إلى أن يحكم الله [ بيننا ] إلى أن يأتي حكم الله بيننا. فالمقصود أن حكم الله عاقبته لنا فيهلك الكافر وينجي المسلم كما لا يخفى.
[ وهو خير الحاكمين ]( الأعراف : آية ٨٧ ) جل وعلا. ( خير ) هنا صيغة تفضيل ؛ لأن من الناس من يحكم، في الدنيا حكام يحكمون، ربما حكموا بعدل وتشريف وطهر، إلا أن الله خير من يحكم- جل وعلا- لأنه لا يخفى عليه الحق من الباطل، ولا يفعل إلا ما هو في غاية الصواب والسداد والحكمة ؛ ولذا قال :[ وهو خير الحاكمين ].
[ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين( ٨٨ ) ]
( الأعراف : آية ٨٨ ).لما قال الله ( جل وعلا ) عن شعيب هذا الكلام العظيم الذي خاطب به قومه أجاب أشراف قومه بهذا الجواب السخيف الخسيس :[ قال الملأ ]
الملأ : أشراف الجماعة من الذكور، قال بعض العلماء : سموا ملأ لأنهم يملؤون صدور المجالس بقاماتهم الوافية، وقال بعض العلماء : سموا ملأ لأنهم هم الذين يتمالؤون على العقد والحل حيث إنهم أشرف رجال البلد.
قوله :[ الذين استكبروا من قومه ] أي : تكبروا عن أن يكونوا أتباعا لشعيب ويقروا يقوله. قالوا : لشعيب رادين عليه أخس رد وأسخفه :
[ لنخرجنك يا شعيب ] اللام موطئة لقسم محذوف، والمعنى : والله لنخرجنك يا شعيب [ والذين آمنوا معك من قريتنا ] قوله :[ والذين ] معطوف على الضمير المنصوب. ومعلوم في علم العربية أن الضمائر المنصوبة يجوز العطف عليها بلا قيد ولا شرط، والذين يذكرون فيه بعض الشروط هو العطف على الضمائر المرفوعة المتصلة، والضمائر المنخفضة، كما هو مقرر في محله. وكان من سفاهتهم ووقاحتهم أن نادوه باسمه مجردا [ يا شعيب ] كما ينادى أحد الناس، وهو نبي كريم ! ! ولنخرجن [ الذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ] ف( أو ) هذه هي التي يسميها النظار : مانعة الخلو. وكما أنهم أقسموا أن لا يخلو المقام من إحدى حالتين : إما أن يخرجوا شعيبا، وإما أن يعود هو وقومه في ملتهم، فلا بد من إحدى الاثنتين ؛ فهي مانعة خلو. والمعنى : أن إقسامهم أن الحال لا يخلو من أحد أمرين : إما إخراج شعيب ومن آمن به، أو يدخل في ملة الكفار. لا بد من أحدهما. وهذا معنى قوله [ أو لتعودن في ملتنا ].
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف مشهور ؛ لأن ظاهر القرآن هنا أن شعيبا قد دخل في ملتهم سابقا يوما ؛ لأن قولهم مخاطبون له :[ أو لتعودن في ملتنا ] وقول شعيب مجيبا لهم :[ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ] ( الأعراف : آية ٨٩ ) يدل بظاهره على انه قد كان فيها سابقا يوما ما. وأكثر العلماء يقولون : إن الأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) معادن وحي، ومحل الخير، والله يقول :[ الله أعلم حيث يجعل رسالته ]( الأنعام : آية ١٢٤ ) وفي القراءة الأخرى :[ حيث يجعل رسالاته ] فلا يكفرون بالله لأن فطرتهم التي ولدوا عليها لا يبدلها الله بالكفر لمكانتهم عنده، فبعض العلماء يقول : لو فرضنا أنهم وقع منهم بعض الشرك وأنابوا إلى الله ( فإنهم يصيرون إلى مثل حالهم ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) قبله وصار كأنه لم يكن.
وأكثر الأصوليين وعلماء التفسير أن شعيبا لم يكن كافرا يوما ما. ويجاب عن ظاهر الآية بجوابين :
أحدهما : أن العرب تطلق لفظة ( عاد ) تطلقه إطلاقين :
أحدهما : عاد إلى أمر كان فيه سابقا.
والثاني : تقول العرب :" عاد كذا وكذا " بمعنى ( صار ) على كذا من جديد، ومنه قولهم :( عاد الطين خزفا، وعاد الخمر خلا ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) ولا شك أن هذا الاستعمال موجود في ( عاد ) تقول العرب : عاد :( رجلا ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) فلان. أي : صار إلى ( الرجولة ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام. ) ولم يتقدمه ( وصف مماثل قبلها ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) ومنه بهذا المعنى قول الشاعر :
وربيته حتى إذا ما تركته *** أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وبالمحض حتى عاد جعدا عنطنطا *** إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه ( في هذا الموضع كلام غير واضح )
قالوا : معناه ( صار جعدا ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ).
الوجه الثاني : وبه قال غير واحد : أن نبي الله شعيبا كان معه جماعة من قومه آمنوا به، فالذين آمنوا به من قومه كانوا كفارا على ملة قومهم، وهم عدد كثير، وهو رجل واحد ( فعبر ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) باسم العدد الكثير وغلَّبوه على ذلك الواحد، والتزم معهم شعيب في هذا الخطاب تغليبا لقومه الأكثرين. وظاهر كلام ابن جرير ( رحمه الله ) في تفسير هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف ذاهبا أن شعيبا كان معهم-سابقا- على ملتهم، وكذلك قال صريحا عن إبراهيم في قوله :[ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي ]( الأنعام : آية ٧٦ ) فنقل ابن جرير عن ابن عباس أن إبراهيم كان يظن ربوبية الكوكب في ذلك الزمن. ونحن نقول : إن قوله في الخليل إبراهيم غلط محض لا شك فيه، وإن نسبه إلى ابن عباس ؛ لأن الآيات القرآنية صرحت بأن إبراهيم لم يكن من المشركين، ونفى عنه الشرك في الكون الماضي، والكون الماضي يستغرق كل الزمن. ومنه قوله تعالى :[ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين( ١٢٠ ) ]( النحل : آية ١٢٠ ) ونحو ذلك من الآيات، فنفي هذا عن إبراهيم صريح، ونفيه عن شعيب لم يقم دليل عليه في قوله :[ أو لتعودن في ملتنا ]. الملة : الشريعة والدين. قال بعض العلماء : أصلها مشتقة من الإملال، والإملال-بلامين- هو الإملاء، وهو أن تلقي على الكاتب الجملة ليكتبها ثم يلقي عليه جملة أخرى، قالوا :( وجه كون ) ( في الأصل :" وهو " ما بين المعقوفتين ( ) زيادة ينتظم بها الكلام ) الشرائع كالإملاء : أنها تقع كذلك مفرقة شيئا بعد شيء كما تقع جملة الكتابة إملاء مفرقة حتى تتم. وعلى كل حال فالملة : الشريعة والدين، وملتهم كافرة- والعياذ بالله-.
قال لهم نبي الله شعيب :[ أو لو كنا كارهين ]( الأعراف : ٨٨ ) والتحقيق من القولين أن همزة الاستفهام هنا تتعلق بمحذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، هذا أظهر القولين اللذين بيناهما مرارا في هذه الدروس، وإليه يلمح ابن مالك في خلاصته بقوله في باب العطف :
وحذف متبوع بدا هنا استبح ***..........................
كما هو معروف في محله، ويكون المعنى : أتكرهونا على العود في ملتكم وإن كنا كارهين فتخرجوننا من مقامنا قهرا ولو كنا كارهين لذلك ؟ ! هذا معنى قوله :[ أو لو كنا كارهين ] الاستفهام هنا للإنكار، أنكر عليهم هذا القول السخيف ( مع بيان كراهته له ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ).
الصحيح أن الكذب هو : عدم مطابقة الكلام للواقع في نفس الأمر، والأقوال فيه معروفة يذكرها البلاغيون في فن المعاني.
[ إن عدنا في ملتكم ] أي : رجعنا إليها، وهذا بالنسبة إلى غير شعيب ظاهر أي ألجئنا إليها بالنظر إلى شعيب كما ذكرناه.
[ بعد إذ نجانا الله منها ]( الأعراف : آية ٨٩ ) وقوله :[ بعد إذ نجانا الله منها ] قرينة على انه عود بعد ملابسة سابقة لقوله :[ بعد إذ نجانا الله منها ] لأن الجماعة الذين آمنوا لشعيب كانوا كافرين، وهذا معنى قوله :[ بعد إذ نجانا الله منها ] أنقذنا الله من الكفر وعبادة الأوثان وغير ذلك بأن بعث إلينا نبيا كريما معه المعجزات الواضحة تدل على صدقه، كما تقدم في قوله :[ قد جاءتكم بينة من ربكم... ]الآية ( الأعراف : آية ٨٥ ).
ثم قال :[ وما يكون لنا أن نعود فيها ] [ ما يكون لنا ]( الأعراف : آية ٨٩ ) معناه : ما يصح لنا، وما ينبغي منا، ولا يمكن، ولا يمكن لنا [ أن نعود فيها ] أن نرجع إليها، أو نصل إليها كما قيل، فنبي الله شعيب لما تبرأ من الملة الكافرية، وقال إنهم إن عادوا إليها فقد افتروا على الله كذبا، فوض جميع أمره إلى الله، وبين أن الأمور كلها بيد الله، فهو الذي بيده الهداية وإليه الضلال، فإن نبي الله شعيبا وإن كان من خيار المرسلين لا يهديه ويوفقه إلا ربه- جل وعلا- وهذه عادة العارفين بالله يعلمون أنه لا توفيق إلا بتوفيق الله [ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ]( المائدة : آية ٤١ ) [ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ]( النحل : آية ٣٧ ) ونحو ذلك من الآيات.
[ إلا أن يشاء الله ربنا ] يريد ربنا بمشيئته الكونية القدرية شيئا فلا مفر ولا موئل عما شاء وقدر.
[ وسع ربنا كل شيء علما ] ( علما ) هنا : تمييز محول عن الفاعل، أصله فاعل ( وسع ) فأعطي الفعل فاعلا آخر وحول التمييز عن الفاعل. ومعنى [ وسع ربنا ] علما أي : وسع علمه كل شيء، فالله يعلم كل شيء، ويعلم ما هو اعم من الشيء ؛ لأن المعدوم في مذهب أهل السنة والجماعة ليس بشيء ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام )، والله يعلم المعدوم الذي ليس بشيء، فهو ( جل وعلا ) يعلم الموجودات والمعدومات والجائزات والمستحيلات، فإنه بإحاطة علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في علمه أنه لا يوجد، وهو يعلم أن ذلك المعدوم الذي لا يوجد أن لو وجد كيف يكون، فهو يعلم مثلا : أن أبا لهب لن يؤمن، ومع ذلك يعلم لو آمن أبو لهب أيكون إيمانه تاما أو ناقصا، كما لا يخفى، وكونه ( جل وعلا ) يعلم المعدوم الذي لا يوجد أن لو وجد كيف يكون، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله، من الآيات الدالة على ذلك : أن الكفار يوم القيامة إذا رأوا النار، وعاينوا صدق ما جاءت به الرسل، وندموا وقد فاتت الفرصة، ندموا حيث لا ينفع الندم، وتمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى ليصدقوا الرسل، والله يعلم أنه لا يردهم إلى الدنيا مرة ثانية، فقد بين في سورة الأنعام أن هذا الرد الذي علم أنه لا يكون، بين انه لو كان لعلم كيف يكون ؛ ولذا قال :[ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ]( النعام : آية ٢٨ ) فهو يعلم أنهم لا يردون ويعلم لو ردوا ماذا يكون، كما صرح بقوله :[ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ]( الأنعام : آية ٢٨ ) والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبدا ؛ لأن الله هو الذي ثبطهم عنها بإرادته لحكمة، كما بينه بقوله :[ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ( ٣٦ ) ]( التوبة : آية ٤٦ ) وهذا الخروج الذي لا يكون قد علم ( جل وعلا ) أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله :[ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ] الآية ( التوبة : آية ٤٧ ). وهذا كثير في كتاب الله كقوله جل وعلا :[ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون( ٧٥ ) ]( المؤمنون : آية ٧٥ ) هذا هو العلم المحيط بكل شيء في الجائزات والمعدومات والمستحيلات، والمعدوم الذي لا يوجد أن لو وجد كيف يكون، أما الخلق فإنهم لا يعلمون من العلوم إلا ما علمهم خالق السماوات والأرض ( جل وعلا ). وسنوضح لكم ذلك بأمثلة قرآنية :
فمما لا يخفى عليكم أن اعلم المخلوقات وأفضلهم الملائكة والرسل عليهم جميعا صلاة الله وسلامه، فالملائكة جميعا- مع علمهم –لما قال لهم الله :[ أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ]( البقرة : آية ٣١ ) أطبقوا كلهم على جواب واحد :[ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم( ٣٢ ) ]( البقرة : آية ٣٢ ) فقولهم :[ لا علم لنا ] بنيت النكرة مع ( لا ) وذلك لا يكون إلا في لا التي لنفي الجنس، فالملائكة نفوا جنس العلم من أصله عنهم، ولم يستثنوا إلا ما علمهم الله إياه.
وكذلك وقائع الرسل القرآنية –صلوات الله وسلامه عليهم- هذا سيد الخلق، وأعلم الناس، وأفضل الرسل، سيدنا محمد ( صلوات الله وسلامه عليه )، رميت أحب أزواجه إليه- أم المؤمنين عائشة- بأعظم فرية وأكبر منكر أنها فعلته مع صفوان بن معطل السلمي، وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما قالوه عنها أهو حق ؟ ! أم هو كذب ؟ ! ! ولذا كان يقول : كيف تيكم ؟ وقالت ( رضي الله عنها ) إنها في ذلك المرض أيام قول الناس عليها مسألة الإفك قالت : فقدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت اعرفه منه. وهي لا تدري ما قيل عنها. وكان يقول لها :" يا عائشة إن كنت قد فعلت شيئا فتوبي، فإن الله يتوب عليك، وإن كنت بريئة فسيبرؤك الله ". ولم يدر عن الحقيقة، حتى علمه الحكيم الخبير خالق السماوات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية وقال له :[ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم... ] الآيات العشر إلى قوله :[ أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ]( النور : آية ٢٦ ) ولذا لما قالت لها أمها أم رومان : قومي إليه فاحمديه. قالت : والله لا أحمده، ولا أحمد اليوم إلا الله ؛ لأنه هو الذي برأني.
وهذا نبي الله إبراهيم- وهو هو- صلوات الله وسلامه عليه جاء بتاريخ القرآن أنه ذبح عجله للملائكة يظن أنهم يأكلون، وتعب في إنضاجه، ولم يدر أن ضيوفه ملائكة ؛ ولذا خاف منهم واخبرهم بأنه خاف منهم في سورة الحجر في قوله تعالى عنه :[ قال إنا منكم وجلون ] ( الحجر : آية ٥٢ ) ولم يدر عنهم شيئا حتى أخبروه. ولما جاؤوا لنبي الله لوط [ سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ]( هود : آية ٧٧ ) فظن أنهم شباب يفعل فيهم قومه فاحشة اللواط، حتى جاؤوه يدافعونه عن الباب ليدخلوا عليهم فيفعلوا بهم فاحشة اللواط، حتى قال ذلك الكلام المؤثر :[ لو أن لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد ]( هود : آية ٨٠ ) حتى اعلمه جبريل أنهم ملائكة الله [ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ] ( هود : آية ٨١ ) فعند ذلك علم.
وهذا نبي الله نوح مع جلالته وعظمة رتبته في الأنبياء من أولي العزم، قال :[ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين ]( هود : آية ٤٥ ) كان يظن أن ذلك الابن الكافر من الأهل الموعود بنجاتهم، ولم يعلم الحقيقة حتى قال له الله :[ يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( ٤٦ ) قال رب أني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين( ٤٧ ) ]( هود : الآيات٤٧، ٤٦ ).
وهذا نبي الله يعقوب قال الله فيه :[ وإنه لذو علم لما علمناه ]( يوسف : آية ٦٨ ) [ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ]( يوسف : آية ٨٤ ) ولا يدري عن ولده يوسف شيئا حتى كان يقول :[ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ]( يوسف : آية ٨٧ ).
وهذا سليمان سخر له الله الرياح والجن، الريح غدوها شهر ورواحها شهر، ما كان عنده علم عن مأرب-قريبا من صنعاء باليمن- حتى جاءه الهدهد وتمدح عليه بما علم من علم جغرافية وتأريخ اليمن وسليمان يجهله، وكان سليمان توعد الهدهد في قوله :[ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( ٢١ ) ]( النمل : آية ٢١ ) فلما جاء الهدهد معه بعض العلم عن تاريخ مأرب- جماعة بلقيس من سبأ-بعض تاريخ وجغرافية عنهم، صمد أمام سليمان ولم يرعه الوعيد الشديد من نبي ملك، فنسب الإحاطة إلى نفسه، ونفاها عن سليمان، وقال له :[ أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ]الآية ( النمل : آية ٢٢ )/ كما هو معروف. وإنما أشرنا إلى هذا لنبين أن العالم الحقيقي هو الله :[ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ]( النمل : آية ٦٥ ) فالملائكة والرسل لا يعلمون إلا ما علمهم الله، والله يعلم رسله وملائكته ما شاء من وحيه، وقد علم نبينا ( صلوات الله وسلامه عليه ) علوما كثيرة ؛ ولو حفظ الناس عنه ما أخبرهم به من الغيوب لما مضى عليهم شيء من البلايا والزعازع إلا وقد كان عندهم خبر منه صلى الله عليه وسلم، فهو أخبر بكثير من الأمور، بعضها حفظ، وأكثرها لم يحفظه الناس، صارت تشاهد منه اليوم غرائب عديدة ؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" والذي نفسي بيده(... ) ( لم يتضح الكلام لضعف التسجيل ولفظ الحديث عند مسلم :" والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد " ).
القلاص فلا يسعى عليها هذا الحديث العظيم من غرائب وعجائب الإخبار بالغيب ؛ لأنه ما كان احد في الدنيا يصدق أن الإبل تترك ولا تقطع عليها المسافات، فنحن في هذا الزمان شاهدنا صدق هذا الحديث بأعيننا، نرى ( ونشاهد ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) الإبل محمولة مع المتاع في السيارات ! ! وهذا من غرائب وعجائب الوحي التي أخبر بها –صلوات الله وسلامه عليه- ومن ذلك قوله :" لتتبعن سنن من قبلكم... " الحديث المشهور ألا ترون كيف اتبع المسلمون النصارى واليهود-عياذا بالله ؟ ! وهذا معنى قوله :[ إلا أن يشاء الله ربنا
وقوله :[ لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ] ذكر هنا أمرين كلاهما يحتاج ) ( في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام ) إلى جواب، أحدهما القسم المدلول عليه باللام. والثاني : الشرط الذي من أدواته ( إن ) والقاعدة المقررة في علم العربية أنه إذا اجتمع قسم وشرط جيء بجزاء السابق منهما، وحذف جزاء الثاني ؛ لدلالة جزاء الاول عليه. والسابق هنا القسم، وإذا كان الجواب هنا جواب القسم ( لعله سبق لسان، والمراد : جواب الشرط كما هو معلوم. وفي وجوب اقترانه بالفاء تفصيل معروف. راجع : التوضيح والتكميل ( ٢/٣١٦ ) ) لم يقترن بالفاء كما هو معروف في محله، وهو قوله :[ إنكم إذا لخاسرون ]( الأعراف : آية ٩٠ ) أي : وقال الملأ الذين كفروا من قوم شعيب، أي : لمن دونهم :[ لئن اتبعتم شعيبا ] والله لئن اتبعتم نبي الله شعيبا [ إنكم إذا لخاسرون ] التحقيق أن الدليل في قوله :[ إذا ] أنه ( يدل على الجواب ) ( في هذا الموضع كلمة غير مفهومة، وما بين المعقوفتين ( ) زيادة يتم بها الكلام )والمعنى : إن اتبعتموه خسرتم، ومعنى خسرانهم هنا : يزعمون أنهم عند ذلك يشترون الضلالة بالهدى زاعمين أن الهدى هو الكفر الذي كانوا عليه، وأن إتباع نبي الله ضلال كما هو مذكور في إفساد الأرض بعد إصلاحها، ومن خسرانهم المزعوم : أنهم كانوا ينتفعون بأموال الناس إذا أضلوهم وبخسوهم أشياءهم وطففوا لهم المكيال والميزان، ونبي الله شعيب يضيق عليهم هذه المصالح الدنيوية فيخسرون ما كانوا يأخذونه من أموال الناس ظلما. هذا من خسرانهم المزعوم. وهذه الآية تبين أن الكافر الضال يدعي بكفره وضلاله أنه هو عين الهدى، وأن الهدى هو الخسران والضلال كما كنا نبينه في آية :[ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ]( الأعراف : آية ٨٥ ) وهذا معنى قوله :[ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون( ٩٠ ) ].
وقوله :[ لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون( ٩٠ ) فأخذتهم الرجفة ] الرجفة : معناه الزلزلة القوية التي تؤدي إلى تحريك قوي عنيف، فكل ما تحرك تحريكا قويا فقد رجف، فالرجفة زلزلة قوية حركت الأرض من تحتهم حتى اهتزت بهم هزا عنيفا أدى إلى موتهم. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه : زلزلة القيامة لزلزلتها الأرض وتحريكها إياها تحريكا عنيفا [ يوم ترجف الراجفة( ٦ ) تتبعها الرادفة ( ٧ ) ]( النازعات : الآيتان٧، ٦ ) فهو معنى معروف في كلام العرب مشهور، ومنه قول عنترة :
متى ما تلقني فردين ترجف *** روانق أليتك وتستطارا
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف مشهور عند العلماء وطلبة العلم، وهو : أن الله في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف بين أن الذي اهلك الله به قوم شعيب رجفة، حيث قال :[ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين( ٩١ ) ]( الأعراف : آية ٩١ ) جاثمين : أي : موتى، وكل واحد منهم منكب على وجهه لا روح في جسده، والجاثم : الذي يلزم محلا واحدا، لربما كان على وجهه كما هو معروف، ومنه قول زهير في معلقته :
بها العين والآرام يمشين خلفة *** وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
المجثم : مكان الجثوم، وهو المكان الذي كان فيه منكبا على وجهه غالبا. وهنا قال عن سبب إهلاكهم بالرجفة، وصرح بسورة هود بأن سبب إهلاكهم صيحة، حيث قال :[ وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ]( هود : آية ٩٤ ) وصرح في سورة الشعراء أن قوم شعيب أصحاب الظلة كان عذابهم في ظلة، المذكور في قوله :[ فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ]( الشعراء : آية ١٨٩ ) تارة يعبر عن سبب إهلاكهم بالرجفة، وتارة بالصيحة، وتارة بالظلة، فهذا هو وجه السؤال المعروف في هذه الآيات.
وحاصل الجواب : أن العلماء اختلفوا-كما قدمنا- هل شعيب أرسل إلى امة واحدة أو أرسل إلى أمتين ؟ وكان قتادة ( رحمه الله ) في طائفة من العلماء يقولون : أرسل شعيب إلى أمتين، أرسل إلى مدين فأهلكهم الله بالصيحة، وأرسل إلى أصحاب الأيكة بعد أن هلك أصحاب مدين فأهلكهم الله بالضلة. وهذا القول قال به بعض العلماء، واستدلوا باختلاف نوع العذاب، وفي أن الله قال في أهل مدين :[ وإلى مدين أخاهم شعيبا ] ( الأعراف : آية ٨٥ ) ولم يقل في أصحاب الأيكة : أخاهم. وأكثر العلماء على أن أهل مدين هم أهل الأيكة، وأنها أمة واحدة، وأنهم نسبوا إلى جدهم مدين بن إبراهيم وأنه كانت لهم أيكة- غيضة- ملتفة من الشجر يعبدونها، وبعض المؤرخين يقولون : كانت أيكتهم من شجر الدوم والله تعالى أعلم.
الجواب عن هذا : هو ما قال به غير واحد، وممن ألم به ابن كثير ( رحمه الله ) في تفسيره : أن كل ذلك وقع لقوم شعيب، وأن أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة، والاسم مختلف فيهما والمسمى واحد. قالوا : لما أراد الله أن يهلكهم صاح بهم الملك صيحة شديدة ؛ ولذا قيل :[ أخذت الذين ظلموا الصيحة ]( هود : آية ٩٤ ) فلما صاح الملك اهتزت الأرض بهم هزا عنيفا، ورجفت بهم رجفة قوية، فصار هو معنى قوله :[ فأخذتهم الرجفة ]( الأعراف : آية ٩١ ) ثم إن الله أضرم عليهم الظلة نارا فاحترقوا، فاجتمعت لهم الصيحة من أعلى، والرجفة من أسفل، وأحرقهم الله، واجتمع لهم ذلك كله- والعياذ بالله تعالى- قال بعض العلماء : وممن ذكره ابن كثير : أنهم كان لهم كاهنان احدهما يسمى : سميرا، والثاني يسمى عمران بن شداد، وأن رجلا منهم يقال له : عمر بن جلهاء نظر إلى الأيكة ورأى فيها العذاب فأطلعه الله عليه، وأنه كان يقول لهم أبياته المعروفة، يقول لهم :
يا قوم، إن شعيبا مرسل فذروا *** عنكم سميرا وعمران بن شداد
إني أرى غبية يا قوم قد طلعت *** تدعو بصوت على صمانة الوادي
وإنكم لن تروا فيها ضحاء غد *** إلا الرقيم يمشي بين انجاد
والرقيم : كلبهم. يقول : في ضحى غد لا يرى إلا الكلب وحده يمشي. لكونهم قد أبادهم الله.
وزعم جماعة من المؤرخين أن أبا جاد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت أنها أسماء ملوك مدين الذين أرسل إليهم شعيب، وأن (... ) ( في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وفي ابن جرير ( ١٢/٥٦٨ ) : كلمون ) كان في ذلك الوقت ملك مدين المسمى ( كلمن )، وأنه لما أهلكه الله قال قالت ابنته، وبعضهم يقول : أخته تبكيه :
كلمن قد هد ركني *** هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه ال *** حتف نارا وسط ظلة
وعلى كل حال فقد أهلكهم الله ودمرهم بالرجفة والصيحة والإحراق بعذاب يوم الظلة [ إنه كان عذاب يوم عظيم ] وهذا معنى قوله :[ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم ]( الأعراف : آية ٩١ ) الدار هنا : اسم جنس مفرد، أضيف إلى معرف فهو يعم أي : في ديارهم. وألف الياء منقلبة عن واو ؛ لأن أصلها ( دور ) ولذا تصغر على ( دويرة ) لا على دييرة، والجاثم هو المستلقي على وجهه، والمراد أنهم أصبحوا منكبين على وجوههم موتى لا أرواح في أجسادهم، وانتقلوا إلى الشقاء الأبدي- عياذا بالله- وهذا معنى قوله :[ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين( ٩١ )
ومعنى قوله :[ الذين كذبوا شعيبا كان لم يغنوا فيها ]( الذين ) هنا اسم موصول، ومحله من الإعراب : مبتدأ، وخبر المبتدأ جملة :[ كان لم يغنوا فيها ] و( كأن ) مخففة من الثقيلة، وإذا خففت من الثقيلة نوي اسمها وقدر محذوفا كثيرا، وربما ظهر كما هو معروف في محله. والمعنى : كأنهم، أي : كأنه أي : الأمر والشأن لم يغنوا فيها أبدا.
وقوله :[ يغنوا ] هو مصدر ( غني يغنى غنى ) بفتحتين على القياس ؛ لأن المقرر في فن العربية : أن ( فاعل ) مكسورة العين إذا كانت لازمة ينقاس مصدرها على ( فعل ) بفتحتين، والعرب تقول :" غني بالمكان يغنى به غناء ". إذا أقام به في رفاهية، ومكان إقامته يسمى :( المغنى ) ويجمع على ( المغاني ) وهو معروف في لغة العرب كثيرا، ومنه قول الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة | في ظل ملك ثابت الأوتاد |
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى | فكل سقاناه بكأسيهما الدهر |
فما زادنا بغيا على ذي قرابة | غناها ولا أزرى بأحسابنا الفقر |
أما ( الغنى ) بفتح وقصر فهو محل الشاهد هنا، وهو مصدر غني بالمكان يغنى به غناء إذا أقام به على الدوام.
أما ( الغناء ) بفتح الغين مع المد إلى الهمزة فهو الملاء. تقول العرب : " ماله غناء " أي : ماله ملاء. ومنه قول الشاعر :
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا *** قول الأحبة : لا تبعد وقد بعدا
و( الغنى ) بكسر فقصر هو ضد الفقر، وهو أن يكون الإنسان غنيا مؤسرا.
وأما المطرب الخسيس الخبيث- الأصوات المطربة- فهو ( الغناء ) بكسر الغين ومدها إلى الهمزة.
فالغناء بالكسر والمد هو المطرب، والغنى بالكسر والقصر ضد الفقر، والغنى بالفتح والقصر هو الإقامة، والغناء بالفتح والمد هو الملاء، ومنه قول الشاعر :
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا *** قول الأحبة : لا تبعد وقد بعدا
ومنه قول هبيرة ابن أبي وهب المخزومي-على إحدى الرواتين في بيته- يخاطب زوجه أم هانئ بنت أبي طالب لما هرب يوم الفتح إلى نجران ومات بها كافرا، أرسل لها يخاطبها :
لعمري ما وليت ظهري محمدا | وأصحابه جبنا ولا خفية القتل |
ولكنني قلبت أمري فلم أجد | لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي |
وقفت فلما خفت ضيعة موقفي | رجعت كضرغام هزبر أبي شبل |
والمعنى : الذين كذبوا شعيبا دمرهم الله وأهلكهم إهلاكا مستأصلا حتى كأنهم لم يقيموا في دارهم يوما من الدهر أبدا ولم يوجدوا، والذي زال زوالا كليا تقول العرب : كأنه لم يكن يوما ما، كما قال أحد الجرهميين لما طردهم الخزاعيون من مكة :
كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا | أنيس ولم يسمر بمكة سامر |
ثم قال :[ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ] فرد عليهم كذبهم ردا فصيحا بليغا، يعني : ليس الخاسر من اتبع شعيبا ولكن من كذب شعيبا هم الخاسرون، وهذا معنى قوله :[ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ] والإتيان بالضمير بعد ( كان ) يدل على التوكيد.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا معنى ( الخسران ) وما ضرب العلماء له من الأمثال. فالخاسرون : جمع الخاسر، وأصل الخسران في اللغة هو : ذهاب بعض مال التاجر، كأن يرزأ بشيء من ماله من ربح كان أو رأس مال، ولكن الخسران أقسم الله في كتابه على انه لا ينجى منه أحد إلا بأمور معينة بينها في سورة عظيمة من كتابه وهي قوله :[ والعصر( ١ ) إن الإنسان لفي خسر( ٢ ) ] أي : إن كل إنسان كائنا من كان لفي خسر [ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( ٣ ) ] فهؤلاء هم الذين يخرجون من هذا الخسران.
وقد ضرب العلماء لهذا الخسران مثلين معروفين يعطيان موعظة لطالب العلم وفكرة صادقة. قالوا : احد هذين المثلين : أن الله تبارك وتعالى أعطى كل نفس رأس مال، وأمرها بالتجارة معه فيه- ورأس هذا المال المذكور قد قدمنا مرارا في هذه الدروس بيانه، وكررناه المرة بعد المرة- قصدا –لنعظ به إخواننا المسلمين ونحاول نفعهم بلينة قلوبهم على ضوء القرآن العظيم- قالوا : رأس المال هذا المذكور المنوه عنه : هو الجواهر النفيسة العظيمة الذي لا يوجد في الدنيا شيء يماثلها أبدا، وهذه الجواهر النفيسة، والأعلاق العظيمة، هي-أيها الإخوان-هي ساعات العمر ولحظاته، فهذا رأس مال الإنسان، وهو أنفس شيء يعطاه الإنسان، وخالق السماوات والأرض يأمرنا أن نتجر معه في رأس هذا المال، فنحرك رأس هذا المال، وهي هذه اللحظات والدقائق من ساعات العمر المعدودة، فنتجر مع خالق السماوات والأرض فيها، فننظر ما يتوجه إلينا طول حياة العمر ودقائقه من أوامر الله ونواهيه فنبادر بإرضاء خالق السماوات والأرض بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وربنا ( جل وعلا ) يعطينا أرباحا هائلة بائنة على هذا : يسكننا الجنة، وهي : زوجة حسناء، وغرفة عالية، ونهر مطرد، وشجرة مثمرة، وملك لا ينفذ أبدا، فنربح ربحا لا نفاد له، وعافية لا كدر فيها، وحياة لا موت بعدها، وصحة لا يخالطها مرض أبدا، فمن حرك رأس هذا المال على الوجه الكيس الصحيح مع رب العالمين ربح الأرباح الهائلة، فإنه يربح منه مجاورة رب العالمين في دار كرامته، والنظر إلى وجهه الكريم. وإن كان صاحب رأس هذا المال- وهو ساعات العمر ودقائقه- كان رجلا غير عاقل-يعني اخرق لا يفهم الحقائق ولا يقدر عمره- فإن المسكين يضيع هذه الأعلاق النفيسة، وهذه الجواهر العظيمة في قال وقالوا، ولا يراقب ما يتوجه إليه من قبل خالقه بالامتثال والاجتهاد فيضيعها دائما، وربما صرفها فيما لا يرضي الله من المعاصي والملاهي- والملائكة تكتب عليه- حتى ينقضي الوقت المحدد فيذهب إلى القبر وهو مفلس- والعياذ بالله- فعند ذلك يندم حيث لا ينفع الندم، فعلينا جميعا، ما دامت الفرصة ممكنة أن نعتبر في رأس هذا المال، وأن لا نضيعه، ولا نكون حمقى جهلاء، بل نعتبر به، ونتصرف مع الله بتجارة مرضية ؛ لأن طاعتنا لله وإثابته لنا سماه في كتابه :( تجارة ) ( بيعا ) ( شراء ) إلى غير ذلك، قال :[ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم( ١٠ ) تؤمنون بالله ] إلى آخر الآيات ( الصف : الآيتان١١، ١٠ )، وقال :[ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة ] إلى أن قال :[ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ]( التوبة : آية ١١١ ) وسماه ( قرضا ) في قوله :[ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ]( البقرة : ٤٥ ) إلى غير ذلك. ومقصودنا- أيها الإخوان- أن ننبهكم وأنفسنا إلى مكانة العمر وعظمها، وأن من خسره خسر كل شيء، وان من كان حازما في تحريكه والعمل في رأس ماله الذي أعطاه الله- وهو عمره إذا ضيعه، ولم يبق منه شيئا- كان اخسر الخاسرين، وإذا خسر هو رأس المال علم انه ليس هناك ربح أبدا كما هو معروف.
واعلموا- أيها الإخوان- أن العمر كما أن الله ( جل وعلا ) جعله رأس المال، وهو التجارة الرابحة من خسرها خسر كل شيء، فإنه مع ذلك جعله حجة على المعمر، فأعماركم كما أنها رؤوس أموالكم، وأصل فوائدكم، فكذلك هي حجة عليكم ؛ لأن الله جعل العمر مع الرسول لأن كلا منهما حجة على المعمر كالمرسل إليه، كما قال تعالى في العمر :[ أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ]( فاطر : آية ٣٧ ) فجاء بالعمر والرسول مقترنين ؛ لأن الرسول ينذرك ويعظك، والعمر مهلة تقدر فيها أن تتدارك ما فات وتصلح الخلل، وتنيب إلى الله، وترجع من ما يسخطه إلى ما يرضيه، فهذه الآية العظيمة من عظام مواعظ القرآن [ أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ] احتج به على أهل النار الذين لم يحركوا أعمارهم في خير، ولم يعتبروا بها ؛ ولذا قال :[ فذوقوا فما للظالمين من نصير ]( فاطر : آية ٣٧ ) والعياذ بالله جل وعلا. هذا أحد المثلين المضروبين، الذين جعلهما العلماء لهذا الخسران.
المثل الثاني : ما ذكره بعض العلماء من أن الله ( جل وعلا ) خلق لكل إنسان كائنا من كان-جعل له- منزلا في الجنة ومنزلا في النار، فكل إنسان له منزل في الجنة وله منزل في النار، فإذا ادخل الله أهل الجنة الجنة أطلعهم على مساكنهم في النار- لو أنهم كفروا وعصوا- لتزداد غبطتهم وسرورهم وفرحهم بما هم فيه، فيقول الواحد منهم عند ذلك :[ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ]( الأعراف : آية ٤٣ ) أي : إنه ( جل وعلا ) يطلع أهل النار على منازلهم في الجنة لو أنهم آمنوا وأطاعوا لتزداد ندامتهم وحسرتهم- والعياذ بالله- وعند ذلك يقول الواحد منهم :[ لو أن الله هداني لكنت من المتقين ]( الزمر : آية ٥٧ ) ثم إن الله ( جل وعلا ) يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، ومن كانت معاملته أن استبدل منزل غيره في النار بمنزلته في الجنة فمعلوم أن صفقته خاسرة كما لا يخفى، ومضمون هذا جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن سنده لا بأس به والله تعالى أعلم.
هذان المثلان اللذان ضربهما العلماء في الخسران الذي أقسم الله انه لا ينجو منه أحد إلا من استثنى في قوله :[ والعصر( ١ ) إن الإنسان لفي خسر ( ٢ ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( ٣ ) ]( العصر : الآيات١-٣ ) وبهذا تعرفون أن هذه السورة العظيمة سورة العصر التي قال الإمام الشافعي :" إنها لو لم ينزل من القرآن إلا هي لكفت " ؛ لاشتمالها على جميع تشاريع الإسلام، بين الله فيها الأسس الكبار، والأصول العظام من وجه التجارة بالعمر مع خالق السماوات والأرض الذي يحصل منه الربح الأبدي الذي لا ينتهي، وأنه تحريك العمر والتجارة فيه مع الله، بقوله :[ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( ٣ ) ]( العصر : آية ٣ ) فإن الآية شملت إيمان القلوب وأعمال الجوارح، ودعت إلى النفع إلى الغير بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فجاء بها كل شيء،
[ قال يا قوم ] قد تكلمنا عن القوم فيما سبق قريبا.
[ لقد أبلغتكم رسالات ربي ]( الأعراف : آية ٩٣ ) اللام موطئة لقسم محذوف ( والله لقد أبلغتكم رسالات ربي ) وهذا النبي الكريم أقسم في هذه الآية الكريمة على انه أبلغ رسالة ربه ؛ لأن الأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) يجب عليهم الإبلاغ على أكمل الوجوه وأتمها. فكل مشرع يأتي بتشريع ودين لم يأت به نبينا صلى الله عليه وسلم فكأنه يدعي عليه أنه لم يبلغ. وهو ( صلوات الله وسلامه عليه ) بلغ كل شيء أمر بتبليغه، كما اقسم شعيب على أنه بلغ رسالة ربه، فثبت عن عائشة ( رضي الله عنها ) أنها قالت : من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم حرفا مما أنزل عليه فقد افترى على الله الكذب، والله لو كان كاتما شيئا حرفا مما انزل عليه فقد افترى على الله الكذب، والله لو كان كاتما شيئا لكتم قوله تعالى :[ وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ] ( الأحزاب : آية ٣٧ ) وقد شهد الله لنبينا صلى الله عليه وسلم في آيات عديدة انه بلغ، كما شهد شعيب لنفسه هنا بقوله :[ لقد أبلغتكم رسالات ربي ] فمن الآيات التي شهد الله فيها لنبينا بالإبلاغ قوله :[ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ]( المائدة : آية ٣ ) فلو كان لم يبلغ جميعه على ما ينبغي لما قال :[ أكملت لكم دينكم ] للنقص في الذي لم يبلغ، وقال له :[ فتول عنهم فما أنت بملوم( ٥٤ ) ]( الذاريات : آية ٥٤ ) ولو كتم شيئا لكان ملوما. وقال :[ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا ]( النور : آية ٥٤ ) إلى غير ذلك من الآيات، فهو ( صلوات الله وسلامه عليه ) لنا بمنزلة الوالد الشفيق يعلمنا حتى إنه من شدة رأفته ورحمته بنا وحرصه على هدانا يعلمنا، كل شيء، حتى إنه يعلم الرجل إذا راح إلى بيت الماء ليقضي حاجته- أكرمكم الله- كيف يفعل ؟ وبماذا يستجمر ؟ وما لا يفعل مع القبلة، وفي أي اليدين يستجمر، وماذا يتقي عند الاستجمار كما هو معروف في محله.
وهذه الآيات تدل على أن أنبياء الله ( صلوات الله وسلامه عليهم )نصحوا لأممهم وبلغوا أكمل البلاغ وأتمه، وصبروا على الأذى، وعلى أتباعهم من المنتسبين للعلم أن يبلغوا العلم على الوجه الأكمل، وأن يصبروا على أذى الناس ؛ لأن كل من يأمر بخير وينهى عن منكر لا بد أن يلحقه الأذى من الناس، وهذا أمر معروف ؛ لأن كل من يتعرض للناس في مهوياتهم وينهاهم عما يهوون، ويأمرهم بما لا يهوون يكونون أعداء له ؛ ولذا كان لقمان الحكيم لما أوصى ولده وقال له :[ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ]( لقمان : آية ١٧ ) اتبع ذلك بقوله :[ واصبر على ما أصابك ] لأنه يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم إتباع إصابة الأذى من الناس كما لا يخفى، فعلى طلبة العلم أن يعتبروا بأمثال هذه الآيات، وينصحوا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتموا العلم عند الحاجة إليه، ويبلغوه على الوجه الأكمل بالإيضاح والحكمة والصبر على الأذى. ونحن معاشر هذه الأمة سيثبت بقولنا وشهادتنا على الأمم فصل القضاء يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، كما جاء في القرآن العظيم، وذلك أنه إذا اجتمعت الخلائق سأل الله الرسل والمرسل إليهم كما ( مضى ) ( في الأصل :" يأتي ". وهو سبق لسان ) في قوله :[ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين( ٦ ) ] فالكفار الذين كفروا من الأمم يقولون :[ ما جاءنا من بشير ولا نذير ]( المائدة : آية ١٩ ) فالرسل الذي أرسلت إلينا هم الذين خانونا وكتموا عنا رسائل ربنا، ولو جاءتنا رسالة ربنا لكنا اطوع الناس لها واتبعها لها ! ! فيقول الله- وهو أعلم- للرسل : هل عندكم بينة على التبليغ ؟ فيقولون : نعم، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد لنا. فتدعى هذه الأمة الكرام الذين قال الله فيهم :[ كنتم خير أمة أخرجت للناس ]( أل عمران : آية ١١٠ ) فيقال لهم : أتشهدون أن هؤلاء الرسل الكرام بلغوا هؤلاء الكفرة ؟ فنقول على رؤوس الأشهاد في ذلك اليوم العظيم : نعم، نحن نشهد أنهم بلغوهم أكمل البلاغ وأتمه، وان هؤلاء الكفرة آذوهم وتعرضوا لهم بكل سوء، ولجوا في الكفر بعد أن بينوا لهم كل شيء، وتحملوا منهم كل الأذى. فيحتج علينا الأمم فيقولون : كيف تشهدون علينا وانتم في وقت إرسال الرسل إلينا في ظلمات العدم لم توجدوا إذ ذاك، كيف تشهدون على شيء وقع قبل أن تخلقوا ؟
فنقول : نعم إننا نضع أداة الشهادة على حصول العلم اليقين، وقد حصل لنا العلم اليقين بما شهدنا، فما شهدنا إلا بما علمنا ؛ وكل ما في كتاب الله فنحن نقطع به ونجزم به- لأنه كلام خالقنا- أشد من جزمنا بما رأته أعيننا وسمعته آذاننا، فقد قص الله علينا قصصكم مفصلة ومجملة، فانتم يا قوم نوح قص الله علينا في كتابه ما جرى منكم معه في دار الدنيا وأنه قال :[ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا( ٧ ) ثم إني دعوتهم جهارا( ٨ ) ثم أني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرار ( ٩ ) ] إلى آخر الآيات. ( نوح : الايات٧-٩ ). وانتم يا قوم هود قص الله علينا من خبركم كذا وكذا وكذا، وقولكم له :[ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ]( هود : آية ٥٤ ) وما صبر على آذاكم وما جاءكم به من الإنذار العظيم. وكذلك قوم صالح، فنفصل ما فصل، ونجمل ما أجمل، فيثبت الحكم عليهم بشهادتنا كما سيأتي في قوله :[ وكذلك جعلناكم امة وسطا ] أي : خيارا عدولا [ لتكونوا شهداء على الناس ]( البقرة : آية١٤٣ ) فهذه الآية وأمثالها كقوله :[ كنتم خير أمة أخرجت للناس ]( آل عمران : آية ١١٠ ) فيها الدلالة القرآنية الواضحة على أن هذه الأمة هي خير الأمم وأفضلها، ويؤيد ذلك ويوضحه ما جاء في السنن من حديث معاوية بن حيدة القشيري ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الأمة : " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ". أما قوله في بني إسرائيل :[ وأني فضلتكم على العالمين ]( البقرة : آية ٤٧ ) فلا يتناول هذه الأمة ؛ لأنها في ذلك الوقت لم توجد، والمعدوم ليس بشيء حتى يفضل عليه غيره ؛ فبعد أن وجدت واستقر كيانها صح تفضيلها على جميع الأمم، واستقراء القرآن قد دل على ذلك دلالة واضحة، وإيضاح ذلك : أن الفضل العظيم إنما يعرف بالاختبار، فعند الامتحان(... ) ( )في هذا الموضع انقطع التسجيل. ويمكن استدراك النقص بمراجعة كلام الشيخ ( رحمه الل ) في هذه القضية فيما مضى عند تفسير الآية ( ٤٧ ) من سورة البقرة.
[ فكيف آسى على قوم كافرين ]( الأعراف : آية ٩٣ ) لما علم نبي الله شعيب أن الله مهلك قومه تولى راجعا عنهم، وقال مخاطبا لهم :[ لأقد أبلغتكم[ والله لقد أبلغتكم رسالات ربي التي لو اتبعتموها لما وقعتم فيما وقعتم فيه [ ونصحت لكم ] بذلت لكم غاية النصح، وبينت لكم، وأمرتكم بما فيه لكم الخير، ونهيتكم عما فيه لكم الشر، ولكن تمردتم حتى أهلككم الله [ فكيف آسى ] آسى : معناها أحزن، فالعرب تقول : أسي الرجل يأسى بمعنى : حزن يحزن، ( وآسى ) فعل مضارع، والهمزة الأولى همزة المتكلم، والألف مبدلة من فاء الفعل، والمعنى : فكيف احزن أنا. [ آسى ] أي : أحزن [ على قوم كافرين ] متمردين على الله ؛ أعداء لله ورسله، فهؤلاء لا يحزن عليهم، كما قال الله لنبينا :[ ولا تحزن عليهم ]( النمل : آية ١٢٧ ) ونحو ذلك من الآيات. وهذه الآية تدل أن قوم الرجل إذا كانوا أعداء الله فأهلكهم الله بذنوبهم لا ينبغي له أن يحزن عليهم ؛ لأنهم ليسوا أهلا للحزن عليهم ولعداوتهم لله ورسله.
ومعنى الآية الكريمة :[ وما أرسلنا في قرية من نبي ] المدينة تسمى ( قرية ). لأن الناس يجتمعون فيها، من قولهم : قريت الماء. إذا جمعته في الحوض. والأصل : ما أرسلنا نبيا. فالمفعول نكرة زيدت قبلها لفظة ( من ) لتأكيد العموم، وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا [ من نبي ] بالتشديد، وقرأه نافع وحده :[ من نبي ] بالهمزة. أما على قراءة نافع فالنبي مشتق من النبأ، والنبأ : الخبر الذي له شان. فكل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ ؛ لأن النبأ اسم للخبر الذي له شأن، تقول : جاءنا نبأ الجيوش، وجاءنا نبأ الأمير. ولا تقول : جاءنا نبا حمار الحجام ؛ لأنه لا خطب له. أما على قراءة الجمهور فقال بعض العلماء :( النبي ) أيضا من ( النبيء ) أبدلت الهمزة ياء. وقال بعضهم : هو من ( النبوة ) بمعنى الارتفاع، وهذا معروف [ إلا أخذنا أهلها ] كلما أرسل الله نبيا إلى قوم كذبوه وناصبوه العداء ثم أخذهم الله أولا [ بالبأساء والضراء ] ( الأعراف : آية ٩٤ ) البأساء : الفقر والجوع. الضراء : الأمراض. يبتليهم أولا بالفقر والجوع والجدب، ثم يبتليهم بالأمراض ونحوها، وإذا لم ينفعهم هذا الابتلاء بالشر ابتلاهم بالخير ؛ لأن الابتلاء تارة بالشر وتارة بالخير فبين ابتلاءه لهم بالخير بعد ابتلائه لهم بالشر في قوله :[ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ] ( الأعراف : آية ٩٥ )
ومعنى :[ بدلنا مكان السيئة الحسنة ] أي : بدلنا لهم الخصب مكان الجدب، والصحة والعافية مكان الأمراض، فجعلنا لهم الشيء الحسن بدلا من الشيء السيئ ؛ لنبتليهم أخيرا بالحسن بعد أن ابتليناهم أولا بالسيئ.
وأصل ( السيئة ) أصلها :( سيوئة ) حروفها الأصلية هي : السين وهو فاؤها، والواو وهو عينها، والهمزة وهي لامها، وياء ( فيعلة ) زائدة، فأبدلت الياء الزائدة بالواو التي هي عين الكلمة بعد إبدالها ياء على القاعدة التصريفية المشهورة المعروفة.
و( الحسنة ) صفة مشبهة من : حسن الشيء فهو حسن، وكذلك ( السيئة ) صفة مشبهة من : ساء يسوء فهو سيء ؛ لأن السيئة تسوء صاحبها يوم القيامة إذا رآها في صحيفته.
والحسنة : أصلها صفة مشبهة تأنيث الحسن إلا أنها اشتهر استعمالها حتى استعملت استعمال الأسماء الجامدة كالصالحة والحسنة والخصال الطيبة، وهو معنى معروف في كلام العرب.
ومعنى :[ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ] ( الأعراف : آية ٩٥ ) بدلنا لهم مكان الجدب خصبا ورزقا، ومكان الأمراض عافية وصحة ؛ لنبتليهم بذلك أيضا.
وقوله :[ حتى عفوا ] يعني : كثروا. العرب تقول :" عفا الشيء " بمعنى : كثر، ف( عفوا ) معناه : كثروا. كثرت أنفسهم- بالعافية والصحة- وأموالهم، حتى نموا ونمت أموالهم، وكل شيء كثر تقول فيه العرب :( عفا ) ومنه : إعفاء اللحية، وهو تكثير شعرها وتوفيره لا حلقه وقصه. فمعنى :[ حتى عفوا ] حتى كثروا، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
ولكنا نعض السيف منها | بأسوق عافيات الشحم كوم |
[ بركات من السماء ] البركات : الخيرات، وبركات السماء : ما ينزل منها من الأمطار، وبركات الأرض : ما يخرج منها من النباتات والزروع والحبوب ونحو ذلك.
وهذه الآيات تدل على أن الناس إن أطاعوا الله أغدق الله عليهم رزقه، كما قال تعالى :[ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ]( الطلاق : الآيتان٣، ٢ ) وقال نوح لقومه :[ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا( ١٠ ) يرسل السماء عليكم مدرارا ( ١١ ) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا ( ١٢ ) ]( نوح : الآيات١٠-١٢ ) وقال تعالى :[ ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ]( المائدة : آية ٦٦ ) في آيات كثيرة.
[ ولكن كذبوا ]( الأعراف : آية ٩٦ ) ولكنهم لم يطيعوا الله فكذبوا [ فأخذناهم ]أهلكناهم بسبب ما كانوا يكسبون من الذنوب والكفر والمعاصي.
وقد نقتصر الآن على هذه الكلمات القليلة ؛ لأن البارحة أخذنا دواء أثر علينا، فمعي الآن بعض الأثر.
ولذ قال :﴿ أفأمن أهل القرى ﴾ ( الأعراف : آية ٩٧ ) قدمنا مرارا كثيرة كلام العلماء على الهمزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء والواو وثم. والهمزة هنا للإنكار، ومعنى إنكاره على أهل القرى جمعهم بين الكفر به، وتكذيب رسله، وعدم خوفهم من بطشه ونكاله، فهذا يدل على غاية الجهل بالله ؛ ولذا قال :﴿ أفأمن أهل القرى ﴾ جمع قرية على غير قياس ﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ﴾ أي : يأتيهم عذابنا ونكالنا وإهلاكنا المستأصل، والبأس : العذاب والنكال من الله ( جل وعلا ) بسبب كفرهم بنا وتكذيبهم لرسلنا.
﴿ أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ﴾ ( الأعراف : آية ٩٧ ) قوله :﴿ بياتا ﴾ أي : ليلا، والحال :﴿ وهم نائمون ﴾ [ أي : في غفلة ] ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعوقين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) فيأتيهم في تلك الغفلة ﴿ بأسنا ﴾ أي : عذابنا فنهلكهم. وهذا معنى قوله :﴿ بياتا وهما نائمون ﴾ أي : ليلا في حال كونهم نائمين. والليل معروف، وهو الذي تشاهدونه من ظلام.
﴿ او أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى ﴾ الضحى : هو وقت ارتفاع النهار.
﴿ وهم يلعبون ﴾ لاهون يشتغلون بما لا يجديهم شيئا، وكل مشتغل بما لا ينفعه يسمى لاعبا كما هو معروف. والمعنى : أن الله ( جلا وعلا ) قادر على إهلاكهم في الليل في حالة نومهم، وإهلاكهم في أول النهار في حالة لهوهم ولعبهم، وكيف يأمنون مكره مع الكفر به وتكذيب رسله وقدرته على إهلاكهم ؟ وهذا معنى قوله :﴿ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ٩٨ ﴾.
والمشاكلة : هذا اللفظ من اصطلاحات علوم البلاغيين، يذكره علماء البلاغة في ( البديع المعنوي ) يقولون : منه قسم يسمى ( المشاكلة ) وبعضهم يقول : إن ما يسمى ( المشاكلة ) هو مما يسمونه : بعض علاقات المجاز المرسل.
وهذا الذي يقولون له ( المشاكلة ) هو : أن يأتي لفظ موضوع في معنى غير معناه، بل موضوع في معنى أجنبي من معناه الأصلي، إلا أنه وضع فيه لأجل المشاكلة والمقارنة بينه وبين لفظ آخر مذكور معه، ومن أمثلته عندهم قول الشاعر :
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه *** قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
فقوله :( اطبخوا لي جبة ) يعني : خيطوا لي جبة، فأطلق الطبخ وأراد الخياطة – والطبخ أجنبي من الخياطة –للمشاكلة بينهما. والتحقيق أنه هنا لا مشاكلة، وأن الله ذكر مكره وحده ولم يذكر مكر عبده كما قال هناك :﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ [ الأنفال : آية ٣٠ ) ذكر مكرهم ومكره، وهنا ذكر مكره وحده، ولذا قال :﴿ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ٩٩ ﴾ [ الأعراف : آية ٩٩ ].
والتحقيق أن المكر صفة أطلقها الله على نفسه، ولا يجوز إطلاقها على الله إلا في الموضع الذي يطلقها هو على نفسه أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع جميع العلماء أنه لا يجوز أن يشتق له منها اسم، فلا تقل : من أسمائه الماكر ؛ لأن ذلك لا يجوز إجماعا.
ومعنى ( مكر الله ) أنه ( جلا وعلا ) يستدرجهم ويغدق عليهم النعم والصحة والعافية حتى يكونوا أغفل ما كانوا، ثم يأخذهم بغثة ويهلكهم في غاية الغفلة، وهذا فعل أحسن ما يكون وأبلغ ما يتصور، وقد ضربوا مثلا- ولله المثل الأعلى- قالوا لو فرضنا أن هنالك رجلا شديد البلية على الناس، يقتل هذا، ويظلم هذا، وجميع الناس في غاية التأذي منه، ثم إن رجلا صالحا كريما طيبا احتال عليه بحيلة شريفة، حتى قتله وأراح الناس منه، فكلهم يقول : جزاك الله خيرا، والله إن قتلك له في صورة خفاء إنه أحسن ما يكون.
وعلى كل حال فالله لا يصف نفسه إلا بما هو في غاية الحسن والجمال واللياقة، فوصف نفسه هنا بأنه يهلك الكافرين بمكره، وأن كيده متين كما قال :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ١٨٣ ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٣ ] ونحن قد قدمنا لكم في هذه الدروس مرارا – وكررناه مرارا من شدة الحاجة إليه- : أن المذهب المنجي في صفات الله تبارك وتعالى التي ازدحمت فيها عقول العقلاء، وضل آلاف الناس من جهة التعطيل، وضل آلاف الناس من جهة التشبيه، والمثيل، أن المذهب المنجي عند الله- الذي لا شك فيه، وأنه كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وسلف هذه الأمة - : وهو ما يقال له :( مذهب السلف ) في اصطلاح الناس، أن انتهاجه هو الصواب، وهو المنجي عند الله، وهو العمل بنور القرآن الذي لا شك فيه، فقد أوضحناه لكم مرارا سنين متعددة، ولا نزال نوضحه ونكرره لشدة الحاجة إليه، وكثرة من غلط فيه من فحول النظار.
اعلموا أيها الإخوان- وفقنا الله وإياكم لما ير *** ضيه – أن العمل بضوء هذا المحكم المنزل الذي لا شك أنه على قدم الصواب أن تجري آيات الصفات على ثلاثة أصول، إن لقيتم الله وأنتم على هذه الأصول الثلاثة-لم تخلوا بواحدة منها- فلا شك أنكم تلقون ربكم وأنتم على عقيدة صحيحة، وصلة بالله متينة، ومذهب حق. وإن أخللتم بشيء منها أدخلتم أنفسكم في بلية. واحذروا من قال وقيل، وعلم الكلام، وغير ذلك.
وهذا الأصول الثلاثة :
الأول منها :-أيها الإخوان- هو أساس التوحيد الأكبر، وهو الحجر الأساسي للصلة بالله صلة صحيحة. هذا الأساس الأعظم هو تنزيه خالق السماوات والأرض ( جلا وعلا ) عن أن يشبه شيئا من خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم، وكيف يشبهونه ؟ أليسوا صنعة من صنائعه ؟ بلى هم صنعة من صنائعه ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴾ [ النمل : آية ٨٨ ] ومعلوم أن الصنعة لا تشبه صانعها بحال. هذا أصل التوحيد الأعظم في آيات الصفات، وأساسها الأكبر، وهو تنزيه رب العالمين تنزيها كاملا تاما لائقا بكماله وجلاله عن مشابهته لشيء من صفات خلقه أو ذواتهم أو أفعالهم، وهذا الأصل الأعظم نص الله عليه في قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] ﴿ ولم يكن له كفوا أحد ٤ ﴾ [ الإخلاص : آية ٤ ] ﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾ [ النمل : آية ٧٤ ] ونحو ذلك من الآيات.
الأساس الثاني - : هو أيها الإخوان إذ حققتم هذا الأصل الأعظم الذي هو التنزيه، فالأصل الثاني - : هو الإيمان بما جاء عن الله في كتابه المنزل، والإيمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه ؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ﴿ أأنتم أعلم أم الله ﴾ [ البقرة : آية ١٤٠ } ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه :﴿ وما ينطبق عن الهوى ٣ إن هو إلا وحي يوحى٤ ﴾ [ النجم : الآيتان ٣، ٤ ].
هذان الأساسان العظيمان الذي هما : تنزيه خالق السموات والأرض عن مشابهة خلقه.
والثاني : تصديق الله والإيمان بما مدح به نفسه إيمانا مبنيا على أساس التنزيه.
وهذان الأصلان العظيمان أيها الإخوان لم أقلهما لكم من تلقاء نفسي لا، لا، وكلا، وإنما بينتهما لكم على ضوء هذا الوحي المحكم المنزل الذي هو نور الله وهداه. وإيضاح ذلك : أن الله أوضح هذين الأساسين وارتباط أحدهما بالآخر في غاية الإيضاح في أوجز عبارة وأتمها وأكملها، وذلك بقوله :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] فنؤمل – أيها الإخوان – أن تتأملوا في قوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ وتربطوا أول الآية بآخرها، وآخرها بأولها لتهتدوا كما ينبغي، وإيضاح ذلك : أن السمع والبصر – ولله المثل الأعلى- هما صفتان يتصف بهما- من حيث هما سمع وبصر- سائر الحيوانات، فجميع الحيوانات تسمع وتبصر، والله ( جلا وعلا ) يسمع ويبصر – سبحانه وله المثل الأعلى – ولكن لما أراد أن يبين لنا أنه يسمع ويبصر وضع الأساس الأعظم أولا فقال :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] لأن الأساس لإثبات الصفات هو التنزيه عن المماثلة وعن التشبيه، فوضع التنزيه هو الأساس الأول فقال :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ثم قال :﴿ وهو السميع البصير ﴾ مبنيا على أساس :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ أي : سمعا وبصرا لا يماثلهما سمع مخلوق ولا بصره أبدا ألبتة في حال من الأحوال. فكان أول هذه الآية الكريمة يدل على التنزيه التام من غير تعطيل، وآخرها يدل على الإيمان بالصفات إيمانا حقيقيا من غير تشبيه ولا تمثيل. فعلينا أن نعتقد أولها : وهو التنزيه. ونعتقد آخرها : وهو إثبات الصفات إثباتا حقيقيا على أساس ذلك التنزيه، فكأن الله يقول لك : يا عبدي، يا عبدي تفهم وكن عاقلا، ولا تذهب بسمعي وبصري إلى سمع المخلوقات وأبصارهم حتى تقول : هذه الصفة توهم غير اللائق فيجيب تأويلها والإتيان بغيرها ! ! لا، لا، لا يا عبدي، بل لاحظ أولا أن صفتي في غاية الكمال والجلال والتنزيه عن مشابهة صفات المخلوقين ليمكنك على ذلك الأساس أن تؤمن بها إيمانا مبنيا على أساس التنزيه، كما بينت لك في قولي :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد قولي :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] هذا أيها الإخوان بيان واضح لا لبس فيه.
الأساس الثالث : هو أن تعلموا – أيها الإخوان – أن العقول البشرية مخلوقة، وأنها واقفة عند حدها، وأنها متقاصرة عن إدراك الإحاطات والكيفيات بصفاته ( جلا وعلا )، كما قال تعالى :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ١١٠ ﴾ [ طه : آية ١١٠ ] فنفي إحاطة العلم البشري نفيا باتا عنه ( جل وعلا ) لأن الخلق مخلوق، والخلق ( جل وعلا ) أعظم شأنا من أن يحيط به خلقه.
هذه الأسس الثلاثة – أيها الإخوان- من لقي منكم الله وهو عليها لقيه على هدى ونور من ربه، وعلى عمل بالقرآن، ومن حاد عنها تخبط في ظلام لا يدري في أي وقت يخرج منه. وأنا أقول لكم : إن هذه اللحظات من الأيام والليالي سائرة بنا إلى المحشر سيرا حثيثا، كصاحب السفينة يكون نائما في متكئه في البحر يظن أن السفينة واقفة وهي تقطع فيه المسافات العظيمة في الدقائق والثواني ! ! فنحن تسير بنا الأيام والليالي إلى ربنا ( جل وعلا )، وعن قريب سينكشف لكم الغيب، ونكون جميعا في صعيد واحد أمام رب العالمين ( جل وعلا ) والله قد يسألكم عن كل شيء كما قال :﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ﴾ [ الأعراف : آية ٦ ] ﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ٩٢ عما كانوا يعملون ٩٣ ﴾ [ الحجر : الآيتان ٩٢، ٩٣ ] ويوشك أن يسألكم الله عن ماذا كنتم تقولون فيما مدح به نفسه من صفات الكمال، كاستوائه على عرشه، وكصفة اليد والأصابع، وغير ذلك من الصفات التي أثنى الله بها على نفسه، وكالتي في قوله هنا :﴿ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ٩٩ ﴾ [ الأعراف : آية ٩٩ ] فإذا قال لكم رب العالمين : ماذا كان موقفكم في دار الدنيا من صفاتي التي مدحت به نفسي، وأثنى علي بها رسولي صلى الله عليه وسلم، وأبلغكم إياها عني في كتابي وسنة رسولي، هل كنتم تصدقونني، وتؤمنون بي، أو كنتم تنفون صفاتي وتكذبونني وتكذبون رسولي ؟ ! فلا يخفى على أحد منكم- على طريق الإنصاف –أنه إن كان جوابه لربه في هذا التعليم الذي علمناكم في نور القرآن أنه تعليم صاحبه ناج من هذه المشكلات، ولا يأتيه بلية، بل إنك إن قلت لله : أما أنا فكنت في دار الدنيا أنزه صفاتك عن صفات المخلوقين، وأعتقد اعتقادا جازما أنك لا يماثلك ولا يشابهك شيء من خلقك، لا في ذاتك، ولا في صافتك، ولا في أفعالك، فهذا الجواب لا شك أنه لا يسبب لك بلية، ولا مشكلة من الله ولا لوما، ولا تقريعا، ووالله لا يقول لك الله موبخا : لم كنت تنزهني عن مشابهة صفات خلقي ؟ لا، لا والله.
ثم قلت إنك إذا قلت : أنا كنت أؤمن بصفاتك، وأصدقك بما تمدح به نفسك، وأصدق رسولك، ولا أكذبه فيما كان يثني به عليك من الصفات، ولكن ذلك الإيمان والتصديق مبني على أساس تنزيهك وتعظيمك وإجلالك عن مشابهة صفات الخلق. والله لا يقول لك الله : لم كنت تصدقني في دار الدنيا، وتصدق رسلي، ولم لا تكذبني وتنفي صفاتي ؟ لا، لا. هذا طريق سلامة محقق لا شك فيه. ولا يقول لك الله في الثالث : لم كنت ( في الأصل :( كنت لا تدعي ) ) تدعي أم عقلك لا يحيط بصفاتي، ولا بكنهها ؟ فهذه طرق حق واضحة، وعمل بنور القرآن معلوم أنها ليس وراءها تبعة ولا بلايا ولا مشكلة، لأنها خروج من مأزق عظيم في ضوء نور كتاب الله ( جل وعلا )، وهو المخرج من كل بلية، والمنقذ من جميع أنواع الضلال. واعلموا –أيها الإخوان- أن كثيرا من أجلاء المتعلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من النظار – بعد أن نشأ علم الكلام – غلطوا غلطا شديدا في هذه المسألة على كثرتهم وقوة علمهم وفهمهم، وهم كما قال الإمام الشافعي ( رحمه الله ) –قصدهم حسن، ولا يريدون سواء ولا يريدون إلا تعظيم الله وتنزيهه، ول
قوله في هذه الآية الكريمة :﴿ أولم يهد للذين ﴾ قال جمهور علماء التفسير :﴿ أولم يهد للذين ﴾ معناه : أولم يبين للذين ؟ ف( هدى ) تستعمل في معنى ( بين ) ومنها هذه كما روي عن غير واحد من علماء التفسير من الصحابة فمن بعدهم. فمن إطلاق ( هدى ) بمعنى ( بين ) : قوله تعالى :﴿ وأما ثمود فهديناهم ﴾ [ فصلت : آية ١٧ ] أي : بينا لهم على لسان نبينا صالح. فهو هداية بيان لا هداية توفيق، بدليل قوله بعده :﴿ فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ الآية. ومن إطلاق ( هدى ) بمعنى البيان والإرشاد : قوله تعالى في الإنسان :﴿ إنا هديناه السبيل ﴾ [ الإنسان : آية ٣ ] أي : بينا له السبيل. وليست هداية توفيق، بدليل قوله بعده :﴿ إما شاكرا وإما كفورا ﴾ وهذا معنى قوله :﴿ أولم يهد للذين ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٠ ] أولم يبين للذين ﴿ يرثون الأرض من بعد أهلها ﴾ اعلموا أولا أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي تشكل على كثير من المنتسبين للعلم، وتبين معناها ببيان إعرابها وإيضاح موضع الفاعل والمفعول منها، وفي ذلك ثلاثة أوجه معروفة لا يكذب بعضها بعضا :
الأول : أن الفاعل لقوله :﴿ أولم يهد للذين ﴾ ضمير عائد إلى الله ﴿ أولم ﴾ هو، أي الله. يبين هو، أي : الله ﴿ للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ﴾ وعلى هذا فالمفعول في محل المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ والمعنى : ألم يبين لهم الله أنه لو شاء إصابتهم بذنوبهم لأصبناهم بها- وكون الفاعل هنا ضميرا يعود إلى الله تدل عليه قراءة بعض السلف :﴿ أولم نهد للذين يرثون ﴾ بالنون، فهي وإن كانت غير سبعية إلا أنها قرأ بها بعض السلف، وهي تفيد في التفسير. وعلى هذا المعنى أن الله بين لهؤلاء الأمم الذين أورثهم الله في الأرض بعد أن أهلك أهلها، بين لهم بإهلاك الظالمين المكذبين للرسل واستخلافهم بعدهم، بين لهم بهذا إصابته لهم بذنوبهم لو شاء أن يصيبهم بها كما أصاب من قبلهم، وهذا وجه لا إشكال فيه.
الوجه الثاني : أن الفاعل في قوله :﴿ أولم يهد للذين ﴾ ضمير عائد على ما كان يذكر من قصص الأمم الماضية، والمعنى : ألم يبين قصص الأمم الماضية من إهلاك الله لها لما كذبت رسلها ألم يبين ذلك للذين يرثون الأرض أن الله قادر على إهلاكهم بذنوبهم كما أهلك من كان قبلهم لما كفروا وكذبوا رسله ؟ وعلى هذين الوجهين فالمصدر المنسبك من ( أن ) المخففة من الثقيلة وصلتها في محل نصب على المفعول به.
الوجه الثالث : أن مفعول ( يهد ) محذوف، وفاعلها هو المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها، والمعنى : أولم يبين للذين يرثون الأرض إصابتنا الأمم الماضية وإهلاكنا إياهم ألم يبين لهم ذلك أنا لو شئنا لأهلكناهم ؟ أولم يبين لهم ذلك وخامة عاقبة أمر من عصى الله ؟
وهذا هو حاصل معنى كلام العلماء في هذه الآية، يدور على أن الله ( جل وعلا ) أهلك الأمم الماضية التي كذبت الرسل كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وبين أن ذلك يدل على أن من أهلكهم بذنوبهم لو شاء لأهلك من جاء بعدهم بذنوبهم كما أهلك الأولين، كما قال تعالى :﴿ ألم نهلك الأولين ١٦ ثم نتبعهم الآخرين ١٧ كذلك نفعل بالمجرمين ﴾ [ المرسلات : الآيات ١٦-١٧ ] وهذا معنى قوله :﴿ أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٠ ] معنى :﴿ يرثون الأرض من بعد أهلها ﴾ يخلفون أهلها الذين هلكوا ويسكنون أرضهم بعدهم ؛ لأن هؤلاء الجيل يبيدهم الله فيموتوا فيسكن مواطنهم قوم آخرون، فذلك معنى إيراثهم الأرض بعدهم. فالإرث هنا معناه : انتقال شيء كان عند أحد إلى أحد آخر، ولو لم يكن على سبيل الإرث المعروف ؛ لأن العرب تطلق في لغتها الإرث على مجرد الانتقال من ميت إلي حي كما هو معروف. وهذا معنى قوله :﴿ أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٠ ] أي : الذين كذبوا يسكنونها ودمرهم الله.
﴿ أن لو نشاء ﴾ ( أن ) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن كما هو معروف في محله، وخبرها جملة :﴿ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ أنه أي : الأمر والشأن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم.
اعلموا أن المقرر في علوم العربية أن فعل المشيئة إن اقترن بأداة الشرط فإن مفعوله يحذف لدلالة جزاء الشرط عليه، وتقدير المفعول المحذوف هنا : أن لو نشاء إصابتهم بذنوبهم أصبناهم بذنوبهم. فحذف المفعول لدلالة جزاء الشرط عليه، وربما أظهر نادرا كما قال تعالى :﴿ لو أردنا أن نتخذ لهوا لأتخذناه ﴾ [ الأنبياء : آية ١٧ ] الأغلب أن يقال : لو أردنا لاتخذنا لهوا، ولكنه هنا ذكر مفعول الإرادة مع جزاء الشرط، وذلك يوجد في كلام العرب في بعض الحكم، ومنه قول الشاعر :
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته | عليك ولكن ساحة الصبر أوسع |
قرأ هذا الحرف جماهير القراء غير نافع، وابن كثير، وأبي عمرو :﴿ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ بتحقيق الهمزتين. وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ﴿ أن لو نشاء وصبناهم ﴾ بإبدال الهمزة الثانية واوا، وهما قراءتان سبعيتان صحيحتان ولغتان معروفتان فصيحتان. وصيغة الجمع في قوله :﴿ نشاء ﴾ وفي قوله :﴿ أصبناهم ﴾ كلتاهما للتعظيم. وقوله :﴿ أصبناهم ﴾ أي : بالعذاب، أصبناهم بالعذاب والإهلاك بسبب ذنوبهم، والذنوب : جمع ذنب، والذنب معروف. أهلكناهم بسبب ذنوبهم ككفرهم ومعاصيهم، وهذا معنى قوله :﴿ أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾.
وأقرب الأقوال وأصحها في قوله :﴿ ونطبع ﴾ أنها جملة مستأنفة على التحقيق، أي : ونحن نطبع على قلوبهم. والطبع هنا على القلب معناه الختم عليه والاستيثاق منه حتى لا يصل إليه خير ولا يخرج منه شر، فمعنى ( طبع الله على القلوب ) أنه -والعياذ بالله- يختم على قلب المجرم ويطبع عليه بحيث لا يخرج منه شر ولا يدخل إليه خير، كالقارورة إذا ختمتها وطبعت عليها لا يخرج شيء مما فيها، ولا يصل إليها شيء آخر.
وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تصحح عقيدة من عقائد السلف المشهورة التي وقع فيها القيل والقال والخلط الكثير، وذلك لا يخفاكم – أيها الأخوان- أن هذه المسألة التي هي مسألة ( الجبر والاختبار والكسب ) أنها هي أصعب مسألة في دين الإسلام، وأعقد تخلصا على العوام ؛ لأن الناس انقسمت فيها إلى ثلاث طوائف : طائفة ضلت في الإفراط، وطائفة ضلت في التفريط، وطائفة خرج من هضمها حقا صافيا كاللبن يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين. وهو أفعال العبد ؛ لأن أفعال العبد، وقدرة العبد، وإرادته، هي أصعب شبهة وقعت في دين الإسلام وأعسرها تخلصا. ونحن في بعض المرات نهاب أن نثيرها لئلا يقع منها شيء في قلوب بعض الناس الذين لا يعرفون، فيعسر عليهم التخلص منه، وتارة نستعين بالله ونذكرها ونبينها ليرزق الله الهدى في ذلك وتستنير قلوب من وفقه الله.
اعلموا أولا أن من يتسمون باسم المسلمين من طوائفهم التي هي على الحق والباطل انقسمت في كسب العبد إلى ثلاثة أقسام : فطائفة قالت : إن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها –والعياذ بالله- كالمعتزلة. وهذا المذهب ينصره محمود الزمخشري في تفسيره دائما، يزعم أن الله لا يريد الشر ولا يخلق الشر، وأن الله أنزه من أن يريد الشر، وأن الشر بمشيئة العبد وإرادته وقدرته من غير تأثير لقدرة الله فيه. وهذا –والعياذ بالله- مذهب باطل باطل، صاحبه يريد أن يسلب الله قدرته –سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا- وهذه الطائفة ضلت في التفريط ؛ لأنهم فرطوا في قدرة الله حتى زعموا أنه يقع في ملكه أفعال العبيد من غير قدرته ولا مشيئته ! ! وهذا تفريط في صفات الخالق ( جل وعلا )، فإنه ( جل وعلا ) لا يمكن أن يقع في خلقه تحريكة ولا تسكينة ولا طرفة عين إلا بمشيئته وإرادته ( جل وعلا ) وله الحكمة البالغة في كل ما يشاء. وهذا المذهب الذي يقول : إن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها هو الذي ردت عليه هذه الآية الكريمة الرد الواضح كما ترون ؛ لأن الله إذا بين أنه هو الذي طبع على قلبه فمنعه من سماع الحق لحكمة كيف يقول الإنسان إن ذلك الشر لم يقع بمشيئته ( جل وعلا ) فهذه الآية وأمثالها ترد ردا صريحا على مذهب المعتزلة أقوى رد وأعظمه، فهم ينتحلون شبها وتأويلات كل عاقل يعرف أنها باطلة.
المذهب الثاني : هو مذهب الجبرية، وهؤلاء ضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا تأثير له ولا فعل له، وأن هذا كله فعل الله، وأن الله لا يعذب العبد بذنب ؛ لأن الله هو الذي شاءه وقدره عليه، وهذا من أخطر الباطل كما ترون.
المذهب الثالث الذي هو الحق : مذهب المسلمين وسلف هذه الأمة وجماعتها : أن العبد خلق الله له قدرة وإرادة، وله مشيئة وفعل يختار ويفعل ويقدر، إلا أن قدرة الله وإرادته تصرفان قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به العلم الأزلي فيأتيه طائعا مختارا.
وهنا سنة سنتكلم عليها لعل الله ينفع بها، فلنضرب مثلا : مناظرة للجبري ومناظرة لقدري :
أما مناظرة الجبري فانقطاعه فيها قريب، وهي واضحة ؛ لأن الجبري لو قال : أنا لا فعل لي، وهذا فعل الله، وأنا لا أوخذ بشيء من ذلك، لأن الله فعل هذا ولا ذنب لي. فإنك لو فقأت عينه، أو ضربته ضربا مؤلما، أو قتلت ولده لا يجعل لك القدر حجة، ولا يقول : هذا فعل الله وأنت بريء، لا وكلا، بل يسارع كل المسارعة في ضربك وقذفك والانتقام منك مصرحا بأن هذا فعلك ! ! وانقطاعه قريب.
وأما المشكلة القوية فهي مشكلة المعتزلة الذين يزعمون أن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها. وسنبين لكم إن شاء الله الجواب عنها موضحا من كتاب الله :
اعلموا أولا أنا لو فرضنا رجلا يعتنق هذا المذهب ورجلا من أهل السنة يتناظران، فقال معتنق هذا المذهب : إن كانت ذنوبي التي أآخذ عليها بمشيئة الله، ولست مستقلا بمشيئتي، فمن أي وجه هو يشاء الذنب فيعذبني أنا عليه ؟ وأنا غير مستقل المشيئة، إذ لو كنت مستقل المشيئة لما فعلت إلا ما يرضيه، وقد كتب على البعيد قبل وجوده أنه يرتكب هذا الكفر وهذا الذنب، ولا بد أن يرتكبه ؛ لأن علم الله لا يتغير، وما سبق في علمه الأزلي لا بد أن يقع ؛ لأن علمه لا يستحيل جهلا. فيقول : إذا كان الله قدر عليه -عياذا بالله- أنه يكفره ويعصيه، ولا قدرة له على التخلص من قدرة الله، فبأي ذنب يؤخذ ؟ وأي استقلال له في فعله حتى يؤخذ عليه ؟ ! هذه حجته وأقصى شبهته.
فيقول له السني : جميع الأسباب التي أعطى الله للمهتدين الذين اهتدوا بسببها أعطاكها جميعها، إلا شيئا واحدا هو الذي حصل به الفرق، ولا حجة لك فيه ألبتة على ربك، فإن هؤلاء الذين اهتدوا، وأطاعوا الله، ودخلوا الجنة، جميع أسباب الهدى التي اهتدوا بها كما أعطاهم الله أعطاك، فالعيون التي أصابوا بها آيات الله، واستدلوا بها على قدرته وعظمته، وأنه الرب المعبود وحده أعطاك عينين مثلها، وكذلك القلوب التي عقلت عن الله، وأدركت وحي الله، وصارت سببا للإيمان أعطاك مثلها، فجميع أنواع الأسباب التي أعطاها الله لل
﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾ بعضهم يقول :﴿ تلك ﴾ مبتدأ، و ﴿ القرى ﴾ خبره، و﴿ نقص ﴾ جملة حالية، كقوله :﴿ وهذا بعلي شيخا ﴾ [ هود : آية ٧٢ ] على أن ( هذا ) مبتدأ، و( بعلي ) خبره، و( شيخا ) حال، ولهم فيه غير ذلك. وبعضهم يقول : إن ( تلك ) مبتدأ و( القرى ) نعته. وهذا مبني على ما يقوله جماعة من النحويين أن أسماء الأجناس الجامدة أنها ربما نعت ووصف بها، وبه قال جماعة من علماء النحو كما هو معروف في محله.
وقوله :﴿ نقص عليك من أنبائها ﴾ [ الأعراف : آية ١٠١ ] صيغة الجمع للتعظيم، ومعنى :﴿ نقص عليك من أنبائها ﴾ نتلوا عليك أخبارها في هذا الكتاب العظيم. والأنباء : جمع النبأ وهو الخبر، وقد قدمنا مرارا أن النبأ أخص من الخبر، فكل نبأ خبر وليس كل خبر نبأ ؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على الخبر الخاص، وهو الخبر الذي له خطب وشأن، كما قلنا : إنك لا تقول :( جاءني اليوم نبأ عن حمار الحجام ) لأن حمار الحجام لا خطب له ولا شأن، فلا يطلق فيه النبأ، وإنما يطلق فيه خبر. وإنما كانت هذه الأنباء عن هذه القرى أخبار لها خطب وشأن ؛ لأنها دلت على كمال قدرة الله، وعلى صبر أنبيائه، وعلى شدة بطشه وعدالته وإنصافه، وإهلاكه للظالمين، وأن فيها من التخويف للموجودين من عذاب الله وسخطه ما ينهاهم أن يقع منهم مثل ما وقع من الأولين ؛ ولذا كان لها شأن وخطب ؛ ولذا قال :﴿ نقص عليك من أنبائها ﴾ [ الأعراف : آية ١٠١ ].
ثم قال تعالى :﴿ وقد جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، وقوله :﴿ جاءتهم ﴾ ضمير جماعة الذكور راجع إلى سكان القرى المعبر عنهم بقوله :﴿ تلك القرى ﴾ فأنث في قوله :﴿ نقص عليك من أنبائها ﴾ نظرا إلى لفظ القرى، وذكر في قوله :﴿ ولقد جاءتهم ﴾ نظرا إلى سكانها.
وبعض العلماء يقول : القرى تطلق إطلاقين : تطلق على الأبنية، كما تطلق على السكان. وعلى هذا فلا إشكال.
﴿ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ قد قدمنا فيما مضى أن البينات جمع بينة، وأن البينة هي الحجة القاطعة التي لا تترك في الحق لبسا، ومنه ( البينات في الشهادات ) ؛ لأنها شهادات قوم عدول لا تترك في الحق لبسا، فالبينات : الحجج الواضحة البينة التي لا تترك في الحق لبسا. ومعنى ( البينات ) هنا على التحقيق : المعجزات ؛ لأن الله ما أرسل نبيا قط إلا ومعه معجزة تقارب التحدي، يعجز عنها الخلق، فتثبت بها نبوته ؛ لأن إثبات الله للمعجزات للرسل هي بمثابة قوله لهم : أنتم صادقون في خبركم عني. فهي تصديق من الله لهم ؛ لأنه ما خرق لهم العادة وقت التحدي وجاء بهذا العلم الخارق الذي لا يقدر عليه غيره إلا ومعناه عنده : أنت صادق يا عبدي فيما تنقل عني. فهو تصديق من الله ؛ ولذا سمي معجزة ؛ لأن المعجزة فعل خارق يحصل عند التحدي لا يقدر عليه البشر.
وقد ذكرنا فيما مضى في الكلام على قوله :﴿ قد جاءتكم بينة ﴾ [ الأعراف : آية ١٠١ ] تصريف هذه الكلمة، وما جاء من أمثلتها في القرآن ببعض أمثالها، وكان ذلك الذي ذكرنا هنالك سقط منه قسم نسيانا، وكنا نتحرى إن جاءت لها مناسبة أخرى أن نبين القسم الذي سقط من كلامنا سهوا لئلا يضيع على بعض طلبة العلم الذين يسمعون هذه الدروس. ذكرنا فيما مضى أن ( البينة ) أنها صفة مشبهة من ( بان يبين ) فهو ( بين ) والأنثى ( بينة ) بمعنى : وضح. وأنها المعجزة الواضحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في الحديث الصحيح أن الله ما أرسل رسولا إلا أتاه بمعجزة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ). هذا حديث صحيح صرح فيه النبي أن الله ما بعث نبيا قط إلا أعطاه ما آمن عليه البشر، أي : معجزة تفحم الناس وتلزمهم الحق كما هو واضح.
وقد ذكرنا فيما مضى أن البينة جاء من تصاريفها في القرآن ولغة العرب أربعة تصاريف، وثلاثة مزيدة –وهذا محل النسيان- لأنها جاءت على خمسة أنواع، أربعة منها مزيدة وواحد مجرد، ومن هنا وقع الغلط، وكنا نريد إذا جئنا بمناسبة كهذه أن نتدارك النسيان السابق لنبين القسم الذي سقط. اعلموا أولا : أن هذه المادة أعني مادة ( الباء والياء والنون ) ( ب، ي، ن ) جاء منها لفظ ( بان ) ثلاثيا مجردا، ومنه هذه ؛ لأن قوله :﴿ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ [ الأعراف : آية ١٠١ ] البينات : وزنه ( فيعلات ) وهو من ( بان ) الثلاثية بلا نزاع عند من يعرف فن الصرف معرفة معروفة، ف( بان ) الثلاثي المجرد دل عليه قوله :﴿ فقد جاءتهم بينة ﴾ ﴿ جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ [ الأنعام : آية ١٥٧ ] لأنها ( فيعلة ) وهي من ( بان ) الثلاثية المجردة بلا نزاع عند من له إلمام بموازين الصرف وأصوله. هذا الوجه المجرد، وهذا لازم في القرآن، وفي اللغة العربية، ولم يسمع متعديا بقية الأوزان الأربعة المزيدة التي تستعمل لازمة ومتعدية. ذكرنا فيما مضى منها ثلاثة، وهي ( أبان ) بزيادة الهمزة على وزن ( أفعل ) ومن هذه المادة قوله في جميع القرآن :﴿ والكتاب المبين ٢ ﴾ [ الدخان : آية ٢ ] ﴿ وكتاب مبين ﴾ [ النمل : آية ١ ] لأن المبين هو الوصف من ( أبان ) الرباعية بالهمزة بلا نزاع عند من له إلمام بالفن.
[ وقد قدمنا الكلام على هذه المسألة ] ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) فقد بينا أن ( أبان ) بالهمزة تكون متعدية وتكون لازمة، وذكرنا شواهد ذلك، وقلنا : إن من إتيانها متعدية : أبان حجته، وأبان للناس ما كان يخفى عنهم، وأنها تأتي لازمة، ومنه :﴿ وكتاب مبين ﴾ أي : البين الواضح، ومنه لازما قول كعب بن زهير
قنواء في حرتيها للبصير بها | عتق مبين وفي الخدين تسهيل |
الثاني من الأوزان المزيدة :( بين ) بالتشديد على وزن ( فعل ) بتضعيف العين، وهذه في القرآن كثيرة كما قال :﴿ نبين لهم الآيات ﴾ [ المائدة : آية ٧٥ ] وهي كثيرة في القرآن العظيم، وهي تأتي في كلام العرب أيضا متعدية ولازمة، وذكرنا شواهدها لازمة كما في مثل :( قد بين الصبح لذي عينين ) إلى آخر ما ذكرنا من شواهدها.
الثالث :( استبان ) على وزن ( استفعل ) وقد ذكرنا أنها تأتي متعدية أيضا ولازمة، وأن تعديها ولزومها جاء مثالهما في القراءتين في قوله :﴿ ولتستبين سيبل المجرمين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٥ ] لأنه فيه قراءتان سبعيتان ﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ ﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ فعلى قراءة :﴿ سبيل ﴾ بالرفع، ف( تستبين ) لازمة معناه : تظهر وتتضح، وعلى قراءة ﴿ سبيل المجرمين ﴾ ف( تستبين ) متعدية للمفعول، تستبين أنت يا نبي الله ﴿ سبيل المجرمين ﴾ أي : تعلمها وتعرفها حتى تتضح لك، هذه الأوزان التي ذكرنا، والذي نسيناه في ذلك، وهو سبب الرجوع لهذا الكلام :
الوزن الرابع من المزيد وهو قوله :( تبين ) على وزن ( تفعل ) بزيادة التضعيف والتاء، وهذا موجود في القرآن بكثرة، وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن :﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ [ التوبة : آية ١١٤ ] ﴿ وتبين لكم كيف فعلنا بهم ﴾ [ الرعد : آية ].
( وتبين ) أيضا بزيادة التاء مع التضعيف تأتي في لغة العرب لازمة ومتعدية، مثال إتيانها لازمة :﴿ وتبين لكم كيف فعلنا بهم ﴾ [ إبراهيم : آية ٤٥ ] { فلما تبين له أنه عدو لله ] وقد سمعت في كلام العرب متعدية، ومن سماعها متعدية قول الشاعر :
ولما تزايقا من الجزع والنأي | مشرق ركب مصعدا عن مغرب |
تبينت ألا دار من بعد عالج | تسر وألا خلة بعد زينب |
فنحن نذكر هذه المناسبات لأننا نعلم أن القرآن العظيم هو مصدر العلوم، وله في كل علم بيان، فنتطرق الآية من وجوهها، وقصدنا انتفاع طلبة العلم ؛ لأن القرآن أصل عظيم تعرف به أصول التصريف والنحو وأصول الفقه والتاريخ والأحكام إلى غير ذلك من جميع النواحي، فنحن جرت عادتنا بأن نتطرق الآية من جميع نواحيها بحسب الطاقة لينتفع كل بحسبه.
يقول الله حل وعلا :﴿ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ١٠١ وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ١٠٢ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ١٠٣وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ١٠٤ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ١٠٥ ﴾ [ الأعراف : الآيات ١٠١ -١٠٥ ] اللام موطئة لقسم محذوف، والله لقد جاءتهم. والضمير في قوله :﴿ ولقد جاءتهم ﴾ عائد إلى الأمم المذكورة في قوله :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾ والله لقد جاءت تلك القرى التي قصصنا عليك من أنبائها رسلهم بالبينات، فجاء نوح قوم نوح، وهود عادا، وصالح ثمود، وقوم لوط لوط، وقوم شعيب شعيب. هذه الرسل جاءت هذه الأمم. وهذا معنى قوله :﴿ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ والله ﴿ ولقد جاءتهم رسلهم ﴾ [ الأعرف : آية ١٠١ ] من عندنا، أي : من عند خالقهم ﴿ بالبينات ﴾ أي : بالأدلة الواضحة، وهي المعجزات ؛ لأن الله ما أرسل نبيا قط إلا ومعه معجزة تثبت قوله وتقوم بها الحجة على من أرسل إليهم.
وقوله :﴿ رسلهم ﴾ الرسل جمع رسول، والرسول هو من أرسل بشيء إلى غيره، وأصل الرسول مصدر، وإتيان المصادر على ( الفعول ) قليل، كالقبول والولوع والرسول، وإنما قلنا : إن أصل الرسول مصدر لأن ذلك يزول به بعض الإشكالات في القرآن ؛ لأن الرسول أصله مصدر بمعنى الرسالة، ومنه قول الشاعر :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم | بقول ولا أرسلتهم برسول |
ألكني إليها وخير الرسول | أعلمهم بنواحي الخبر |
قوله :﴿ بالبينت ﴾ أي : المعجزات.
وقوله :{ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من ق
( ما ) : نافية. وصيغة الجمع في ( وجدنا ) للتعظيم، و ( وجد ) هنا علمية. والمعنى :﴿ ما وجدنا ﴾ ما علمنا. ومعلوم أن ( وجد ) في اللغة من أخوات ( علم ) وهذا أظهر الأقوال فيها هنا. ﴿ وما وجدنا لأكثرهم ﴾ أي : لأكثر الأمم السابقة. وقال بعض العلماء : لأكثر الخلق ما وجدنا لهم ﴿ من عهد ﴾ ( من ) دخلت على المفعول به، فالأصل : ما وجدنا لهم عهدا. ولكن ( من ) إذا دخلت على النكرة في سياق النفي نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم.
والعهد : هو ما تجب المحافظة عليه والوفاء به. والأصل : ما وجدنا لأكثرهم عهدا.
ويفهم من قوله :﴿ لأكثرهم ﴾ أن هنالك عددا قليلا لهم عهد. وهذا هو ظاهر الآية ؛ لأن الذين هم الأكثر لا عهد لهم.
ثم قال :﴿ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ ( إن ) هذه وهذه ( اللام ) فيها خلاف معروف بين البصريين والكوفيين، المذهب المشهور عند علماء العربية وهو مذهب البصريين أن ( أن ) مخففة من الثقيلة، وأنها مهملة، وإن ( اللام ) فارقة بين ( أن ) المخففة من الثقيلة، وبين ( إن ) النافية، ولا يكاد هذا يوجد إلا مع الناسخ كما هنا ؛ لأن ( وجد ) ك ( علم ) وغيرها من أفعال القلوب.
ومذهب الكوفيين يقولون : إن ( إن ) نافية، و( اللام ) بمعنى ( إلا ). وهو غريب. والمعنى عندهم : وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين.
والناس على ارتضاء مذهب البصريين دون مذهب الكوفيين في هذه.
وقوله :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٢ ] بين الله في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا عهد لهم –والعياذ بالله- لأن من لاعهد له لا خير فيه ؛ لأن كل التكاليف عهود. ومن لا يفي بعهد لا يطيع الله في شيء، وقد جاءت آيات قرآنية كثيرة تبين أن أكثر الخلق لا خير فيهم كقوله :﴿ ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ [ غافر : آية ٥٩ ] ﴿ بل أكثرهم لا يؤمنون ﴾ [ البقرة : آية ١٠٠ ] ﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ١٠٣ ﴾ [ يوسف : آية ١٠٣ ] ﴿ إن في ذلك لآية وما أكثرهم مؤمنين ٨ ﴾ [ الشعراء : آية ٨ ] ﴿ وقد ضل قبلهم أكثر الأولين ٧١ ﴾ [ الصفات : آية ٧١ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نصيب الجنة من الألف واحد، وأن نصيب النار من الألف تسع وتسعون وتسعمائة. وما شق ذلك على أصحابه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بكثرة الكفار، وأنه يمكن أن يكون من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد، وهذا يدل على أن أكثر الخلق ضلال ﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك ﴾ [ الأنعام : آية ١١٦ ] وأهل الهدى قلة، وهذا قضاء الله وقدره في الجميع. وهذا معنى قوله :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٢ ].
هذه الآية فيها سؤال معروف : وهو أن يقال : إن أكثر الكفار لهم عهد، ولكن لا يوفون بهذا العهد، والعهد على قسمين : عهد موفي به، وعهد ينقض، والمذموم هو العهد الذي ينقض به، والممدوح هو الذي يوفي به، فبعض العلماء يقول : إن معنى ﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ أن الذي ينقض العهد تقول العرب : لا عهد له. فالذي لا وفاء له وكأنه لا عهد له ؛ ولذا قال :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ وهذا لا يتعين، وقد يظهر للناظر في الآية أن فيها حذف الصفة، وهو في نظري أقرب مما يذكرون، أن فيها حذف الصفة إذا دل المقام عليها أسلوب معروف واضح في القرآن العظيم وفي غيره لا لبس فيه. وعلى هذا المعنى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٢ ]. أي : ما وجدنا لهم من عهد موفي به. أي : ما وجدنا لهم من عهد يحصل فيه الوفاء خاصة. أما العهد المنقوض فقد يوجد لكل من الفجرة. وهذا الوجه ظاهر لا خفاء به، ونظيره في القرآن قوله تعالى :﴿ وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ﴾ [ الكهف : آية ٧٩ ] والمعنى : يأخذ كل سفينة صحيحة صالحة ؛ لأنه لو كان يأخذ السفينة التي خرقت لما كان خرق الخضر لتك السفينة فيه فائدة ؛ لأن الخضر صرح بأنه خرقها لتتعيب بذلك الخرق، ويكون ذلك سببا لسلامتها من غصب ذلك الملك لها ؛ ولذا قال :﴿ كل سفينة ﴾ وظاهره يعم المخروقة وغيرها، فالصفة محذوفة دل المقام عليها.
ونظيره قوله :﴿ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ﴾ [ الإسراء : آية ٥٨ ] يعني : من قرية ظالمة، بدليل قوله :﴿ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾ [ القصص : آية ٥٩ ] وحذف النعت موجود في كلام العرب بكثرة، وإن قال ابن مالك في خلاصته : إنه يقل. فهو كثير في كلام العرب. ومن أمثلته في كلامهم : قول المرقش الأكبر :
ورب أسيلة الخدين بكر | مهفهفة لها فرع وجيد |
من قوله قول، ومن فعله | فعل، ومن نائله نائل |
أكل امرئ تحسبين امرأ | ونار توقد بالليل نارا |
قوله :﴿ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٢ ] ( إن ) مخففة من الثقيلة، والتقدير : وإنه، أي الأمر والشأن وجدنا أكثر الناس لفاسقين، ( اللام ) هي الفارقة على التحقيق بين المخففة من الثقيلة والنافية، كما هو معروف في محله.
والفاسقون : جمع تصحيح للفاسق، والفسق في لغة العرب : الخروج، فكل من خرج عن طريق فقد فسق، ومنه قول الراجز :
يهوين في نجد وغورا غائرا | فواسقا عن قصدها جوائرا |
﴿ إلى فرعون وملإيه ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٣ ] الملأ : أشراف الجماعة من الذكور، و( فرعون ) هو ملك مصر. يقولون : إن كل من ملك مصر يسمي ( فرعون ) كما هو معروف من تسمية ( كسرى ) و( قيصر ) لكل من ملك ذلك المحل المعروف، وبعض العلماء يقول :( فرعون ) لفظ عربي من تفرعن الرجل إذا كان ذا مكر ودهاء، وعلى تقدير أن ( فرعون ) لفظ عربي فوزنه :( فعلول ) باللام لا ( فعلون ) بالنون. وبعضهم يقول : هو اسم أعجمي. وهو الأظهر ؛ لأنه لو كان عربيا لما منع من الصرف ؛ لأن هذا الوزن إذا كان عربيا قد لا يمنع من الصرف. وفرعون المذكور هنا هو ملك مصر الذي جاءه موسى وأرسل إليه، وقص الله من خبره ما قص، والمؤرخون والمفسرون بعضهم يقول : اسمه :( طالوس ). وبعضهم يقول اسمه : الوليد بن مصعب بن الريان كما هو معروف في تاريخه.
﴿ إلى فرعون وملإيه ﴾ أي : أشراف جماعته ﴿ بآياتنا إلى فرعون وملإيه ﴾ قوله :﴿ بآياتنا ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٣ ] أي : بمعجزاتنا التي جاء بها موسى.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن المحققين من علماء العربية يقولون : إن أصل الآية ( أيية ) فوزنها ( فعلة ) وفاؤها همزة، وعينها ولامها كلاهما ياء ( أيية ) وقد اجتمع فيها موجبا إعلال ؛ لأن العين واللام كلتاهما ياء مفتوحة قبلها فتحة أصلية. فالإعلال تكرر موجبه هنا، وقد عرف في فن الصرف أن الإعلال إذا تكرر موجبه يكون الإعلال غالبا في الأخير. وهنا خولف الأغلب، وصار الإعلال في الأول، فأبدلت الياء الأولى ألفا، وصححت الياء الثانية، وفيه أقوال غير هذا ولكن هذا أشهرها عندهم.
والآية في لغة العرب : تطلق إطلاقين :
أحدهما : تطلق الآية ويراد بها العلامة. وهذا إطلاقها المشهور. تقول : آية كذا. أي : علامة كذا. وقد جاء في شعر نابغة ذبيان –وهو عربي جاهلي- تفسير الآية بالعلامة، وذلك في قوله :
توهمت آيات لها فعرفتها | لستة أعوام وذا العام سابع |
رماد ككحل العين لأيا أبينة | ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع |
خرجنا من النقبين لاحي مثلنا | بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا |
والآية هنا بمعنى العلامة ؛ لأن المعجزات أفعال خارقة للعادة هي علامات واضحة قاطعة على أن الله مصدق لمن أعطاه إياها مقارنة للتحدي كما هو معروف.
وقوله :﴿ فظلموا بها ﴾ الباء في قوله :( بها ) عدى به. و( ظلموا ) فيه وجهان معروفان لعلماء التفسير :
أحدهما : أن ( ظلموا ) معناه : كفروا. أي : فكفروا بها، وإذا كان ( ظلموا ) بمعنى : كفروا فلا إشكال في الباء، والظلم كثيرا ما يطق بمعنى الكفر كقوله :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ] ﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٤ ] ﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ١٠٦ ﴾ [ يونس : آية ١٠٦ ] وعلى هذا فالظلم بمعنى الكفر، وتعديته بالباء واضحة، وبعض العلماء يقول : فظلموا بسببها، حصل منهم الظلم الكبير بسببها حيث كذبوا بها ولم تدلهم على الحق وعاندوا. وذلك الظلم قد بين ( جل وعلا ) أنهم أيقنوا أن الآيات حق، وأنهم ظلموا عدوانا منهم، كما قال في قوم فرعون لما علموا الحق من آيات موسى في أول سورة النمل :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ [ النمل : آية ١٤ ] فقوله :﴿ ظلما وعلوا ﴾ في النمل يوضح قوله :﴿ فظلموا بها ﴾ أي : بسببها، وقد قال تعالى :﴿ قال لقد علمت ما انزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ﴾ [ الإسراء : آية ١٠٢ ] أي :﴿ لقد علمت ﴾ يا فرعون ﴿ ما أنزل هؤلاء ﴾ الآيات ﴿ إلا رب السموات والأرض بصائر ﴾ أي : دلالات قاطعة لا تترك في الحق لبسا، وهذا معنى :﴿ فظلموا بها ﴾.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا : أن الظلم في لغة العرب، هو وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئا في غير موضعه فقد ظلم، وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه : وضع العبادة في غير من خلق، ثم يليه : وضع الطاعة في الشيطان دون الله ( جل وعلا )، والعرب كل من وضع شيئا في غير موضعه تقول له : ظلم. ومن هذا المعنى قالوا للذي يضرب لبنه قبل أن يروب : إنه ظالم ؛ لأن الضرب وقع في غير موضعه ؛ لأنه يضيع زبده ؛ ولذا كانوا يسمون الذي يضرب [ لبنه ] ( في الأصل :( زبده ) وهو سبق لسان ) قبل أن يروب : ظالما، ففي لغز الحريري يقول :( هل يجوز أن يكون الحاكم ظالما ؟ قال : نعم إذا كان عالما ). فقوله :( ظالما ) يعني : يضرب لبنه قبل أن يروب، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
وقائلة ظلمت لكم سقائي | وهل يخفى على العكد الظليم |
وصاحب صدق لن تربني شكاته | ظلمت وفي ظلمني له عامدا أجر |
إلا الأواري لأيا ما أبينها | والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد |
فأصبح في غبراء بعد إشاحة | من العيش مردود عليها ظليمها |
إذا عرفتم هذا فكل من كفر بالله فقد وضع العبادة في غير موضعها، ومن عصى ربه وأطاع الشيطان فقد وضع الطاعة في غير موضعها، ووضع المعصية في غير موضعها، ومن هنا كان الظلم يطلق على الكفر وعلى المعاصي، قد قدمنا إطلاق الظلم على الكفر آنفا في قوله :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٤ ] ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ] ﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾ [ يونس : آية ١٠٦ ] وقد يطلق الظلم على معصية الله ولو لم تكن كفرا كقوله :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ﴾ [ فاطر : آية ٣٢ ] ﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ﴾ إلى قوله :﴿ فلا تظموا فيهن أنفسكم ﴾ [ التوبة : آية ٣٦ ] لا تعصوا الله فيهن. هذا معنى قوله :﴿ فظلموا بها ﴾ أي : بسببها.
﴿ فانظروا ﴾ يا نبي الله ﴿ كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٣ ] ماذا يؤول إليه أمر المفسدين من الوبال والدمار والخسار فإن جميع الأمم الماضية كانت عاقبة إفسادها عاقبة وخيمة جدا، فأهلك الله قوم نوح بالطوفان، وقوم هود بالريح العقيم، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بالصيحة والرجفة والظلة، وأهلك قوم موسى –فرعون وقومه- بالغرق كما سيأتي إيضاحه، وهذا معنى قوله :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ أهل الإفساد، وقد قدمنا أنهم الذين يحاولون أن يعملوا في الأرض بغير ما أنزل الله ( جل وعلا ) على رسله.
معنى الآية :﴿ وقال موسى ﴾ نبي الله موسى يعلم أن فرعون ينكر رسالته كما بينه تعالى في الشعراء بقوله :﴿ قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ١٨ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ١٩ ﴾ [ الشعراء : الآيتان ١٨ ١٩ ] من يقول فرعون عنه هذه الأوصاف لا يصدقه، وموسى يعلم ذلك. فأكد له في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف أنه رسول حقيق الرسالة، ليست رسالته بكذب ولا بزعم باطل، أنها رسالة صحيحة حق لا شك فيها، وأنها كائنة من رب العالمين، وهذا معنى قوله :﴿ وقال موسى يا فرعون ﴾ ناداه باسمه ﴿ إني رسول ﴾ رسالته مبدؤها ﴿ من رب العالمين ﴾ ( العالمون ) تشمل من في السموات والأرض وما بينهما كما يأتي في الشعراء في قوله :﴿ قال فرعون وما رب العالمين ٢٣ قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ٢٤ ﴾ [ الشعراء : ٢٣، ٢٤ ] ﴿ إني رسول من رب العالمين ﴾ ( من ) لابتداء الغاية.
أما على قراءة نافع فمعنى الآية واضح.
ومعنى ﴿ على أن لا أقول على الله ﴾ يلزمني ويجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق، فما أخبرتك يا فرعون إلا بالحق، وأني رسول من رب العالمين، ولو ربيتني وقتلت القبطي قتلة متقدمة، كل ذلك لا ينافي أني رسول، وأني صادق في مقالتي.
ومعنى :﴿ على أن لا أقول ﴾ يلزمني ويجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق، فما قلت على الله إنه أرسلني إليك إلا وأنا قائل عليه بالحق لا كاذب عليه ولا متخرص، ومعنى قراءة نافع هذه واضح.
أما على قراءة الجمهور فمعنى الآية الكريمة مشكل ؛ لأن معنى ﴿ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ فهذا معناه لم يتبادر إلى الذهن، وللعلماء في تفسير هذه الآية أجوبة معروفة عن هذا الإشكال، أقربها عندي واحد دلت عليه القرينة القرآنية، ولا ينبغي العدول عنه ومع أنه أصوب الأقوال فيما يظهر يقل من يتطرقه من العلماء، فأكثر أقوال المفسرين لا يذكرونه فيها، أنه الصواب وإن قل من يذكره منهم، وسنذكر الآن أقوال أهل العلم في الآية –على قراءة الجمهور- الكريمة : أن ( على ) بمعنى ( الباء )، وقالوا : إن حروف الجر يخلف بعضها بعضا، قالوا : و( الباء ) تأتي بمعنى ( على )، و( على ) تأتي بمعنى ( الباء ). قالوا فمن إتيان الباء بمعنى ( على ) :﴿ ولا تقعدوا بكل صراط ﴾ أي : على كل صراط، كما زعموا. ومن إتيان ( على ) بمعنى ( الباء ) قالوا :﴿ حقيق على أن لا أقول ﴾ أي : حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي : حقيق أي : جدير وخليق بأن لا أقول على الله إلا الحق. وهذا التفسير تشهد له قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه ﴿ إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾.
قرأها أبي هكذا، وهي وإن كانت قراءة شاذة فإنها تفيد بالنسبة إلى التفسير. ومما لا ينافي هذا قراءة بعض الصحابة غير أبي :﴿ إني رسول من رب العالمين حقيق ألا أقول على الله إلا الحق ﴾. لأن هذه تحتمل تقدير الباء أيضا. فهذا قول.
القول الثاني : هو ما يزعمه بعضهم من أن قوله :﴿ حقيق ﴾ مضمن معنى ( حريص ) على قراءة الجمهور، قالوا :﴿ حقيق على أن لا أقول ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٥ ] أي : حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق، واستشهد لهذا التضمين صاحب الكشاف في كشافه بالبيت الذي أنشده سيبويه في الكتاب، قال : ومثله تضمين بيت الكتاب ( هيجني ) بمعنى : ذكرني. والبيت الذي يعني هو البيت المشهور في كتاب سيبويه وهو قول الشاعر :
إذا تغنى الحمام الورق هيجني *** ولو تسليت عنها أن عمار
قالوا :( هيجني ) معناه : ذكرني أم عمار ولو تسليت عنها، وهذا القول من الأقوال التي لا تظهر، فلا يخلو عندي من بعد، والله أعلم.
وقال بعض العلماء : في الآية الكريمة قلب. وهذا القلب الذي يعنون هنا هو المعروف بالقلب العربي الذي فيه النزاع بين البلاغيين والنحويين كما هو معروف في محله. وهذا القلب أنكره جماعة من العلماء، وقال به جماعة. والحق أن هذا القلب العربي وإن أنكره البلاغيون وقالوا لا يجوز في العربية إلا إذا تضمن اعتبارا لطيفا، وسرا من أسرار اللغة العربية، وبغير ذلك لا يجوز. والنحويون يجيزه أكثرهم أنه أسلوب عربي إذا دل المقام عليه، وهو موجود في القرآن، وكثير في كلام العرب كما سنلم به الآن إن شاء الله.
واعلموا أن القلب يطلق إطلاقين : يطلق في البديع، وهذا ليس من غرضنا ؛ لأنه في فن البديع يسمى نوع منه القلب، وهو أن يكون الكلام إذا جئته من آخره قرأته كما جئته من أوله، فيكون الكلام يقرأ معكوسا كما يقرأ مرتبا، كقوله :﴿ وربك فكبر ٣ ﴾ [ المدثر : آية ٣ ] وقوله ﴿ كل في فلك ﴾ [ الأنبياء : آية ٣٣ ] وقول الشاعر :
مودته تدوم كل هول *** وهل كل مودته تدوم
فالآيتان والبيت تقرؤهما بالانعكاس كما تقرؤهما بالاطراد، وهذا ليس من غرضنا.
النوع الثاني : القلب الذي يذكر في المعاني، وهو القلب الذي يكون فيه قلب الفاعل مفعولا مثلا. وهذا أسلوب عربي معروف إذا دل المقام عليه، وهو موجود في كلام العرب، وفي القرآن العظيم، ومن أمثلته في القرآن العظيم :﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة ﴾ [ القصص : آية ٧٦ ] فالآية تقول : إن المفاتح تنوء بالعصبة، والمقصود القلب العربي، لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتح، أي : تنهض بها بمشقة وجهد كما هو واضح، قال بعضهم : ومنه في القرآن :﴿ فعميت عليهم الأنباء ﴾ [ القصص : آية ٦٦ ] قالوا : يعني : فعموا عن الأنباء ؛ لأن الإنسان هو الذي يعمى والأنباء لا تعمى، في أمثلة قرآنية. وهذا المعنى إن دلت عليه القرائن، كثير في كلام العرب، ومنه قول كعب بن زهير :
.............................. *** وقد تلفع بالقور العساقي.
لأن الكلام مقلوب ؛ لأن ( القور ) وهي الحجارة هي التي تتلفع. أي : تلتحف بالعساقيل، وهو السراب، فهو قال : إن السراب يلتحف بالعساقيل. والكلام مقلوب ؛ لأن الحجارة هي التي تتلفع بالسراب، وهذا معنى قوله :
.............................. *** وقد تلفع بالقور العساقيل
ومنه قول الآخر :
………………………… *** كما طينت بالفدن السياعا
يعني : كما طينت الفدن بالسياع. أي : طينت القصر بالطين وهو معروف في كلام العرب بكثرة، ومنه قول الشاعر :
نزلت بخيل لا هوادة بينها *** وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر
يعني : وتشقى الضياطرة بالرماح. وهذا النوع من القلب أنكره علماء البلاغة وقالوا : لا يجوز إلا بما تضمن اعتبارا سرا لطيفا كقلب التشبيه. فالتشبيه المقلوب يقلب فيه المشبه مشبها به، والمشبه به مشبها. قالوا : إنما جاز هذا لنكتة، وهي إيهام أن الفرع أقوى في وجه الشبه من الأصل كقوله :
وبلد مغبرة أرجاؤه *** كأن لون أرضه سماؤه
والذين قالوا : في الآية قلب قالوا : المعنى : حقيق على أن لا أقول على الله، كأنه جعل نفسه حقيق على أن لا يقول على الله إلا الحق. والمراد : قلب الكلام. أي : يجب عليه، حقيق عليه هو ﴿ أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ فكأنه جعله هو الحقيق على القول. والمقصود : أن القول هو الحقيق عليه أن لا يقوله إلا بالحق، وفي الكلام قلب كما ترى، وهذا لا يلزم، وأنكره كثير من علماء العربية.
والوجه الذي يظهر أنه أصوب الأوجه ولا ينبغي العدول عنه وإن قل من تنبه إليه من علماء التفسير : هو إن معنى الآية الكريمة :﴿ إني رسول من رب العالمين حقيق ﴾ [ الأعراف : الآيتان ١٠٤، ١٠٥ ] وأما قوله :﴿ على أن لا أقول على الله ﴾ تتعلق بمعنى الرسالة المشار إليها في الرسول، أي : أرسلت مشترطا علي، أرسلت ﴿ على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ أي : أرسلني ربي على شرط ووتيرة معينة، وهي أن لا أقول عليه إلا الحق.
وقال بعض العلماء :﴿ على أن لا أقول ﴾ تتعلق بقوله :﴿ رسول ﴾ ﴿ إني رسول ﴾ أي : رسول ﴿ على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾.
وبعضهم يقول : هذا لا يجوز. والنحويون من البصريين يقولون : إن العامل إذا أخذ نعته -نعت ووصف- لا يعمل بعد ذلك. وعلى هذا لا يجوز إعمال ( رسول ) في قوله :﴿ على أن لا أقول ﴾ لأنه نعت بقوله :﴿ حقيق ﴾ ولكن الصواب في هذا أن يقدر عامل من جنس الرسول فيكون المعنى : إني رسول حقيق من رب العالمين أرسلت. أي : أرسلني رب العالمين، أرسلني على أن لا أقول عليه كذبا، ولا أقول على الله إلا الحق، وهذا الوجه واضح لا إشكال فيه، ليس فيه تعسف ولا تكلف، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره وإن قل من انتبه إليه من علماء التفسير. وهذا معنى قوله :﴿ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٥ ].
الحق في لغة العرب : الثابت الذي ليس بزائل ولا بمضمحل، وعكسه الباطل. والمراد بالحق هنا : هو الشيء المطابق للحقيقة والصواب والواقع في نفس الأمر.
﴿ قد جئتكم ببينة من ربكم ﴾ قد قمنا أن البينة هي الدليل الواضح الذي لا يترك بالحق لبسا.
﴿ بينة من ربكم ﴾ ( من ) لابتداء الغاية، والرب هو السيد الخالق المدبر الذي يدبر أمور الناس، وهو مشترك بين عشرة معان كما قدمنا.
﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ ( إسرائيل ) هو نبي الله يعقوب ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام )، ومعنى :( إسرائيل ) : عبد الله، و( إسرائيل ) : هو يعقوب، و( بني إسرائيل ) : أولاد يعقوب ؛ لأنكم عرفتم في القرآن في قصة يوسف أنه لما أرسل إليهم وجاؤوه في آخر حياة يعقوب، واجتمعوا به في مصر، سكنوا بعد ذلك في مصر وتناسلوا، وحتى سلط الله عليهم فرعون وأهانهم الإهانة المشهورة المعروفة بالقرآن، وسيأتي بيانها في هذه السورة الكريمة –سورة الأعراف_ وكان الله ( جل وعلا ) سلط فرعون مصر على الإسرائيليين فكان يقتل أبنائهم ويستحيي نساءهم ويستعمل الموجودين منهم بالخدمة الشاقة، وأنقذهم الله منه على يد موسى بن عمران ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ). يزعم بعض المفسرين والمؤرخين أن بين مجيء يعقوب وأولاده ليوسف في مصر وبين مجيء موسى من مدين –لينقذهم من فرعون- يزعمون أن بينهما أربعمائة سنة والله أعلم. ويزعمون أيضا أن مجيء يعقوب وأولاده أنهم كانوا حول الثمانين، وأن خروج الإسرائيليين الآتي ذكره من مصر عند فلق البحر لهم وإغراق فرعون وقومه أنهم كانوا يزيدون على ستمائة ألف والله تعالى أعلم.
وهذا معنى قوله :﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ معنى ( أرسل معي بني إسرائيل ) ارفع يدك عنهم، ولا تعذبهم، ولا تتعرض لهم بسوء، وخلهم يذهبون معي إلى حيث يشاؤون. هذا معنى قوله :﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ [ الأعراف : آية ١٠٥ ].
أليس الليل يجمع أم عمرو | وإيانا فذاك بنا تداني |
نعم وترى الهلال كما أراه | ويعلوها النهار كما علاني |
قوله :﴿ وإنكم لمن المقربين ﴾ أي : ولكم عندي زيادة على الجعل الذي تطلبون وهو كونكم من المقربين، أي : من أهل المكانة والوجاهة والجاه العظيم عندي، ذلك زيادة لكم على ما سالتم من الجعل. هذا معنى قوله :﴿ قال نعم وإنكم لمن المقربين ١١٤ ﴾ [ الأعراف : آية ١١٤ ].
بين ( جل وعلا ) في سورة طه أنه عند هذه المناظرة والمغالبة نصح [ موسى ] ( في الأصل :( فرعون ) وهو سبق لسان ) السحرة وقال لهم :﴿ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ﴾ [ طه : آية ٦١ ] ثم ذكر عن السحرة ما ذكر في قوله :﴿ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى ٦٢ قالوا إن هذان لساحران يردان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ٦٣ فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ٦٤ ﴾ [ طه : الآيات ٦٢-٦٣ ]. لما أجمعوا كيدهم وجاؤوا صفا قالوا لموسى :﴿ إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ﴾ [ الأعراف : آية ١١٥ ] ( إما ) هذه أداة تقسيم معروفة، والمصدر المنسبك من ( ان ) وصلتها في إعرابه للعلماء وجهان :
أحدهما : أنه في محل نصب بمفعول محذوف. والمعنى : إما أن تختار أن تلقي أولا، أي : تختار إلقاءك قبلنا، وإما أن تختار كوننا من الملقين ؟ ومفعول الإلقاء لم يذكر هنا إلا أنه ذكر في آيات أخرى، فإلقاء موسى مفعوله العصا، والمعنى : إما أن تلقي عصاك وإما أن نكون نحن الملقين حبالنا وعصينا ؛ لأن الذي يلقيه هو : عصاه، والذي يلقونه : هو حبالهم وعصيهم كما قال هنا :﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ﴾ [ الأعراف : آية ١١٧ ] فبين أن الذي يلقيه هو عصاه، وذكره في طه والشعراء، وبين في سورة الشعراء أن الذي يلقيه السحرة هو حبالهم وعصيهم كما قال :﴿ فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ٤٤ ﴾ [ الشعراء : آية ٤٤ ] هذا معنى قوله :﴿ إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ﴾.
الوجه الثاني : أن المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، والتقدير : إما إلقاؤك أول، وإما كوننا نلقي أول.
وقال بعض العلماء : هو خبر مبتدأ محذوف : إما الامر إلقاؤنا، وإما الأمر إلقاؤك. والكل متقارب. وهذا معنى قوله :﴿ إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ﴾.
يقول جماعة من علماء التفسير هنا : إن هذا حسن أدب من السحرة، تأدبوا مع موسى هل يجب أن يكون هو أول من يلقي، أو يلقي هو الآخر. وحتى قال بعضهم : لما تأدبوا مع نبي الله كان من حكمة الله أن تفضل عليهم بالهدى والإيمان. والتحقيق الذي يظهر : أن السحرة في ذلك الوقت كفرة فجرة قبل أن يهديهم الله، وأن هذا كأنه إظهار ثقتهم بأنفسهم وسحرهم واعتقادهم أنهم غالبون، يعنون : إن ألقيت قبلنا غالبناك، وإن ألقينا قبلك غلبناك، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر ! ! هذا هو الأظهر، وهذا معنى قوله :﴿ إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ﴾ [ الأعراف : آية ١١٥ ]
﴿ فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن لغالبون ٤٤ ﴾ [ الشعراء : آية ٤٤ ] فلما قال لهم نبي الله موسى :( ألقوا ) يعني : ألقوا ما أنتم ملقون. يزعم بعض المفسرين أنهم نحو من سبعين مائة ألف عند كل واحد منهم عصا ضخمة، وحبل ضخمة، وأن كل واحد منهم جعل السحر في عصاه وحبله، حتى كانت الدنيا كأنها حيات كالجبال يركب بعضها بعضا، وخاف الخلق جميعا خوفا عظيما. وذكر الله في سورة طه أن موسى داخله بعض الخوف كما يأتي في قوله :﴿ فأوجس في نفسه خفية موسى ٦٧ ﴾ [ طه : آية ٦٧ ] حيث قال :﴿ إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ٦٦ فأوجس في نفسه خفية موسى ٦٧ ﴾ [ طه : الآيات ٦٥-٦٧ ] وهذا الترتيب بالفاء لأن نبي الله موسى أوجس في نفسه الخيفة من عظم سحرهم كما قال هنا :﴿ وجاءهم بسحر عظيم ﴾ [ الأعراف : آية ١١٦ ].
وبعض المفسرين يقولون : لم يخف نبي الله من سحرهم، وإنما خاف أن يتفارق الناس ويهربوا قبل أن يقيم حجته أمامهم. هكذا قاله بعضهم والله أعلم، هذا معنى قوله :﴿ قال ألقوا ﴾.
وهذه الآية فيها سؤال معروف، وهو أن يقال : إن نبي الله موسى بن عمران ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ) رسول كريم، والرسول لا يأمر بمنكر، وقوله لهؤلاء السحرة :﴿ ألقوا ﴾ أمر بمنكر ؛ لأنه أمرهم بأشد المنكر، وهو الإتيان بالأسحار تعارض بها معجزات الله التي أيد بها رسله ؟
والجواب عن هذا معروف :
وهو أن نبي الله موسى ( صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم ) لا يريد أمرهم بإلقاء الحبال والعصي سحرا خبيثا تعارض به آيات الله، وإنما مراده إبطاله ؛ لأنه في ذلك الوقت لا طريق إلى إبطاله إلا هذا، وهي أن يبرزوه ثم يأتي آية الله ومعجزة الله التي هي هذه العصا فتبتلع جميع ذلك وتترك الميدان خواء ليس فيه شيء، ولما كان هذا هو الطريق الوحيد للحق اضطر إليه ( صلوات الله وسلامه عليه )، وهذا معنى قوله :﴿ قال ألقوا ﴾.
وفي الكلام حذف دل المقام عليه، أي : ألقوا حبالكم وعصيكم فألقوا، فلما ألقوا حبالهم وعصيهم ﴿ فلما ألقوا سحروا أعين الناس ﴾ دل قوله :﴿ أعين الناس ﴾ على أن سحرهم من جنس الشعبذات ؛ لأنهم جاؤوا بسحر أخذ بعيون الناس حتى صارت ترى تخييلات ليست بحقيقة، وترى العصى والحبال تظنها حيات -ثعابين- من أضخم الحيات، بالمئات والآلاف مكدسة كالجبال، يركب بعضها بعضا، حتى خاف الخلق منها خوفا شديدا، فقوله هنا :﴿ أعين الناس ﴾ يدل على أنه تخييل بالنسبة للعين لا حقيقة. وقد صرح بذلك في طه بقوله :﴿ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ [ طه : آية ٦٦ ] وزعم بعض المفسرين أن الزئبق كان متوفرا عندهم، وأنهم ملؤؤا داخل العصي والحبال من الزئبق وطرحوها حتى تأثر الزئبق بحر الشمس فلما تأثر الزئبق تحركت العصي والحبال صار بعضها يلتوي على بعض ويركب بعضها بعضا ! ! هكذا يقول بعضهم. ويظهر أنه سحر أخذوا به عيون الناس حتى صار يتراءى لهم هذا من الحيات العظام الكبار الضخام يركب بعضها بعضا. وهذا معنى قوله :﴿ سحروا أعين الناس ﴾. ﴿ واسترهبوهم ﴾ قد تقرر في فن العربية أن يأتي ( استفعل ) مزيدة بهمزة الوصل والسين والتاء بمعنى ( أفعل ) وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن :﴿ فاستجاب لهم ربهم ﴾ [ آل عمران : آية ١٩٥ ] يعني : أجاب. ومما يدل عليه من كلام العرب قول سعيد بن كعب الغنوي :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى | فلم يستجبه عند ذاك مجيب |
معنى :﴿ واسترهبوهم ﴾ أرهبوهم. والرهب : الخوف. يعني : خوفوا الناس خوفا شديدا. قال بعض العلماء : استرهبوهم : استدعوا رهبتهم وخوفهم بهذا السحر العظيم.
وفي هذه الآية من سورة الأعراف سؤال معروف : وهو أن يقال : دلت آية الأعراف هذه على أن سحر سحرة فرعون من نوع الشعبذات والأخذ بالعيون حتى يتراءى للإنسان غير الواقع في الحقيقة ؛ لأنه قال :﴿ أعين الناس ﴾ وصرح بما يدل على ذلك في قوله في طه :﴿ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ [ طه : آية ٦٦ ] وهاتان الآيتان –آية طه وآية الأعراف( كلتاهما تدل على أن سحر سحرة فرعون من نوع الخيالات والشعبذات، ومع هذا وصفه الله بالعظم في قوله :﴿ بسحر عظيم ﴾ هذا هو وجه السؤال ؟ ؟
وللعلماء عنه جواب : وهو أنه في الحقيقة تخييل وأخذ بالعيون حتى صار يتراءى لها غير الواقع، وإنما وصفه بالعظم قالوا : لكثرة العصي والحبال وضخامتها. فهذا التخييل وإن كان تخييلا خيل للناس هذا العدد الضخم الكبير من هذه الحيات العظام الكبار كأنها جبال يركب بعضها بعضا، فصار بهذا المنظر الهائل مع التخييل وكثرته كأنه عظيم، وصار في نفس الأمر أخذا بالعيون وتخييلا، وفي هذا يزول الإشكال بين الآيات، وهذا معنى قوله :﴿ سحروا أعين الناس واسترهبوهم ﴾ أي : أخافوهم. والرهب : الخوف. أرهبه : أخافه. والإرهاب : التخويف :﴿ واسترهبوهم ﴾ أرهبوهم، أي : أخافوهم. فجاؤوا بسحر عظيم لكثرة تلك الحبال والعصي وضخامتها وكبرها، وكون بعضها يركب بعضا حتى امتلأ الوادي بالحيات العظام والأفاعي، حتى خاف جميع الناس، وهذا معنى قوله :﴿ سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ﴾ [ الأعراف : آية ١١٦ ].
في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات : قرأه جمهور القراء غير حفص عن عاصم والبزي عن ابن كثير :﴿ فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾ وقرأه البزي وحده عن ابن كثير :﴿ فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾ بتشديد التاء بإدغام إحدى التاءين في الأخرى ؛ لأن أصله :( تتلقف ) وقرأه حفص عن عاصم :﴿ فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾ مضارع لقفه بكسر القاف يلقفه بفتحها. فتحصل أن قراءة الجمهور :( تلقف ما يأفكون ) وهو مضارع( تلقفه يتلقفه ) إذا ابتلعه بسرعة هائلة. والمعنى : كل من التقم شيئا بسرعة تقول العرب :( تلقفه ولقفه ). فقراءة الجمهور حذف فيها إحدى التاءين، أصلها : فإذا هي تتلقف ما يأفكون، أي : تبتلعه وتلتقمه بسرعة، وعلى قراءة البزي فأصله : فإذا هي تلقف ما يأفكون. في الصلة خاصة، فهي واضحة ؛ لأن ( تفعل ) و ( تفاعل ) يجوز فيها الإدغام. واستجلاب همزة الوصل، وهو كثير، كاطيرنا بمعنى : تطير، وازينت بمعنى : تزين، وإدارك بمعنى : تدارك، وهو كثير، ومن أمثلته في الماضي في كلام العرب قول الشاعر :
تولي الضجيع إذا ما التذها خصرا | عذب المذاق إذا ما اتابع القبل |
أما على قراءة حفص عن عاصم :﴿ فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾ فهو مضارع لقفه يلقفه إذا ابتلعه بسرعة. فمعنى القراءتين واحد.
ومعنى :﴿ ما يأفكون ﴾ [ الأعراف : آية ١١٧ ] يأفكون : مضارع أفكه يأفكه بالكسر، وأصل المادة الهمز والفاء والكاف ( أفك ) معناه : قلب الشيء وصرفه، فالإفك قلب الشيء وصرفه ؛ ولذا سمي الكذب إفكا لأنه قلب للكلام وصرف له عن حقيقته الواقعة إلى الكذب والباطل، ومن أجل هذا سميت قرى قوم لوط :( المؤتفكات )، سماها الله :( المؤتفكات ) وسماها :( المؤتفكة ) في قوله :﴿ والمؤتفكة أهوى ٥٣ ﴾ [ النجم : آية ٥٣ ] وإنما سماها :( مؤتفكة ) لأن جبريل عليه السلام أفكها بإذن الله. أي : قلبها، ومعنى أفكه لها هو قلبها وجعل عاليها سافلها كما صرح الله به في قوله :﴿ فجعنا عليها سافلها ﴾ [ الحجر : آية ٧٤ ] وما جعل عاليه سافله فقد أفك، أي : قلب حتى صار أعلاه أسفله. هذا أصل الإفك. ومعنى :( يأفكون ) يختلقون ويكذبون ويفترون من أن هذه العصي والحبال أنها حيات حقيقية مثل العصا التي عند موسى. سماه إفكا لأنه قلب [ لحقيقة الأمر ] ( في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام. ) صرف له عن حقيقته الصحيحة إلى الكذب والافتراء.
ومعنى الآية الكريمة : ان سحرة فرعون لما جاؤوا بذلك السحر العظيم أوحي الله إلى نبيه موسى أن يلقي عصاه ؛ ولذا قال :﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ﴾ وصيغة الجمع للتعظيم ؛ يعني : فألفى عصاه بأمر من الله ﴿ فإذا هي ﴾ فاجأ ذلك من العصا، إذا هي ﴿ تلقف ﴾ أي : تبتلع جميع ما يأفكون. فلما ألقاها موسى من يده، وانقلبت إلى ذلك الثعبان العظيم، وجاءت بسرعة وقوة هائلة وعناد هائل، قال ابن زيد : كانت مناظرة موسى وسحرة فرعون في الإسكندرية من مصر، وكان ذنب العصا لما انقلبت حية وراء البحر كما يزعمون والله أعلم.
وعلى كل حال فقد صرح الله بأنها ابتلعت جميع ما في الميدان من الحبال والعصي. يقولون : انقلبت إلى ذلك الثعبان العظيم، وجاءت تبتلع ذلك الموجود حبلا حبلا، عصا عصا، تلتقم ذلك وتبتلعه ولا يظهر في ضخم جثتها ولا يزيد فيها حتى تركت الميدان ليس فيه حبل وليس فيه عصا ! !
ويقول المؤرخون والمفسرون : إن الخلق خافوا خوفا شديدا، وأنه مات منهم عدد من الآلاف كثير من شدة الزحام هربا من خلقها ! ! ويزعمون أن فرعون كان في مجلس له هو وقومه ينظر، وأنه داخله خوف شديد حتى قال بعضهم : إنه سلح ثلاثمائة سلحة ! !
وقال بعضهم : كان لا يأتي الغائط في أربعين يوما إلا مرة واحدة وفي ذلك اليوم وقع منه ذلك أربعون مرة كما يقولون ! ! والله أعلم.
وعلى كل حال لما ألقى موسى العصا واستحالت إلى هذا الثعبان العظيم والتقمت جميع ما كانوا يكدسونه من الحبال والعصي ولم يبق فيهم شيء وجاء موسى وأخذها بيده فإذا هي عصاه، ولم يوجد أثر ولا عين لتلك الحبال والعصي، عرف السحرة أن هذا أمر من خالق السموات والأرض فخروا ساجدين لله بإيمان صحيح، وإخلاص عظيم رغم فرعون، وقالوا : آمنا بالله رب العالمين، رب موسى وهارون، وداخلتهم بشاشة الإيمان مداخلة هائلة عظيمة، فعبر الله عن شدة عظم البرهان بقوله :﴿ وألقي السحرة ساجدين ١٢٠ ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٠ ] عبر بقوله :﴿ وألقي ﴾ كأن إنسانا أمسكهم وألقاهم ساجدين بالقوة لقوة البرهان الذي رأوا به الحق، ومن هنا تعلم أنه قد يكون الشيء الخسيس الحقير وفيه بعض النفع كما قالوا :
(... ) ( في هذا الموضع كلام غير واضح ) لأن علم السحر -قبحه الله- من أخس العلوم وأقبحها، وقد صرح الله ( جل وعلا ) في المحكم المنزل في سورة البقرة أن تعلمه يضر ولا ينفع، فهو ضرر محض لا نفع فيه كما قال تعالى :﴿ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ﴾ ولكن الله قد نفع هؤلاء القوم بهذا العلم الخسيس الخبيث، فتبين أن قوله :﴿ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ﴾ [ البقرة : آية ١٠٢ ] من جميع الحيثيات غير هذه الحيثية وهو انتفاعهم به أنهم كانوا عالمين بالسحر عارفين بحدوده التي ينتهي إليها، فلما جاءت العصا والتقمت جميع الحبال والعصي ولم يجدوا حبلا ولا عصا عرفوا أن هذه من الله ؛ لأنهم يعرفون السحر ويعرفون مدى تأثيره، فمعرفتهم بالسحر كانت نفعا لهم بأن عرفوا أن العصا ليست من جنس السحر، فلو كانوا جاهلين بالسحر لظنوا أن عصا موسى من جنس السحر والشعوذة، وهم لما عرفوا السحر تماما عرفوا أن البرهان خارج عن طور السحر، وأنه لا يدخل فيه، وأنه أمر إلهي ؛ ولذا ذكر عنهم قالوا : لو كانت العصا من جنس السحر لوجدنا حبالنا وعصينا، فما انعدمت حبالنا وعصينا من أصلها إلا ببرهان من السماء. قيل : وقد قالوا لفرعون : إن كان هذا من سحر أهل الأرض فثق بأنا نغلبه، والذي لا طاقة لنا به هو شيء يأتي من السماء، فإن كان عنده شيء يأتي من السماء فلا طاقة لنا به، فلما كان من أمر العصا ما كان علموا أنه من السماء وأنه من أمر الله فآمنوا هذا الإيمان العظيم ؛ ولذا قال الله عنهم :﴿ وألقي السحرة ساجدين ١٢٠ ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٠ ].
وهذا معنى قوله :﴿ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ١١٨ ﴾ [ الأعراف : آية ١١٨ ].
وكان نبي الله موسى قبل أن يلقي عصاه عالما أن سحرهم باطل، وأنه سيبطله ويضمحل كما جاء عنه في سورة يونس :﴿ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ٨١ ويحق الله الحق بكلمته ولو كره المجرمون ٨٢ ﴾ [ يونس : الآيتان ٨١ -٨٢ ].
فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب هان على صاحبه كل شيء، وصغرت في عينه الأذيات والتعذيب، ورجا ما عند الله كهؤلاء السحرة.
وقوله هنا :﴿ وألقي السحرة ساجدين ١٢٠ ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٠ ] هم وقت إلقائهم ساجدين ليسوا بسحرة، بل إنما هم من عباد الله المكرمين المؤمنين الأفاضل، ولكنه سماهم سحرة نظرا لحالهم الماضية كما سمي البالغين ( يتامى ) نظرا لهم في حالهم الماضية في قوله :﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾ [ النساء : آية ٢ ] كما هو معروف، وهذا معنى قوله :﴿ وألقي السحرة ساجدين ١٢٠ ﴾ أي : لله إيمانا بالله.
﴿ لتخرجوا منها أهلها ﴾ لأجل أن تخرجوا منها أهلها باتفاقكم عليهم ﴿ فسوف تعلمون ﴾ أي : فسوف تعلمون ما أنكلكم به من التعذيب على مكركم وموافقتكم مع موسى على المكر، وإخراج أهل الأرض منها.
ومعنى قوله :﴿ من خلاف ﴾ أي : من جهتين مختلفتين بأن يقطع اليد اليمنى من شق فيضعف ذلك الشق باليد [ ويقطع ] ( في الأصل :( ويضعف ). وهو سبق لسان ) الرجل اليسرى من الشق الآخر فيكون كل من الشقين قد ضعف.
﴿ ثم لأصلبنكم أجمعين ﴾ لم يبين هنا في الأعراف ولا في الشعراء ما ذا الذي يصلبهم عليه، وقد بين في سورة طه أنه يصلبهم في جذوع النخل كما قال :﴿ ولأصبناكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ﴾ [ طه : آية ٧ ] وجذع النخل هو أخشن جذع من جذوع الشجر خلقه الله –جل وعلا- وأصعب على المصلوب الصلب عليه. وعلماء البلاغة يقولون : إن قوله :﴿ ولأصلبنكم في جذوع النخل ﴾ [ طه : آية ٧١ ] فيه ما يسمونه ( استعارة تبعية ) في معنى متعلق الحرف. والأظهر أنه أسلوب عربي معروف، فالعرب تقول : صلبه على الجذع، وصلبه فيه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومن قولهم :( صلبه في الجذع ) قول الشاعر :
هموا صلبوا العبدي في جذع النخلة | فلا عطست شيبان إلا بأجدعا |
وهذا يدل على أن أولياء الله يمتحنون دائما في الله، فخير ما تكون به المحنة : المحنة في الله، فعلى المسلم إذا ابتلى في دينه وامتحن في الله ان يصبر ويصمد، ويعرف أن هؤلاء السحرة وعدوا بقطع أيديهم وأرجلهم، والصلب على جذوع النخل، ومع هذا هم صامدون صابرون لا يلتفتون إلى فرعون، بل يقولون له :﴿ فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ﴾ [ طه : آية ٧٢ ] فالله قص علينا خبر هؤلاء لنعتبر بهم كما قال :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ﴾ [ يوسف : آية ١١١ ] فإذا جاءتنا أذية وبلايا في ديننا فعلينا أن نصبر على المحن بالغة ما بلغت، ولا نتلاشى ولا نضعف، ولا نضيع ديننا ؛ لأن خير ما يبلى الإنسان فيه ويصمد ويصبر هو دينه.
وقوله :﴿ لا ضير ﴾ بناه مع ( لا )، والنكرة المبنية مع ( لا ) تدل على أن ( لا ) هي التي لنفي الجنس، كأنهم نفوا جنس الضرر في عذاب الدنيا واحتقروه وهان في أعينهم ورأوه لا شيء بالنظر إلى ما عند الله. ثم بينوا علة انتفاء ذلك الضرر في أعينهم فقالوا :﴿ إنا إلى ربنا منقلبون ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٥ ] كما يوضح آية الأعراف هذه.
ثم قالوا موضحين :﴿ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ٥١ ﴾ [ الشعراء : آية ٥١ ] فالمؤمن الحق إذا علم ما عند الله من النعيم والثواب هان وصغر في عينه كل عذاب وبلاء في الدنيا، كما قالوا لفرعون :﴿ فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ﴾ { طه : آية ٧٢ ] أي : وليس فيها شي يهم [ لسرعة زوالها ] ( في الأصل :( لزوال سرعتها ). وهو سبق لسان ) وانقضائها. فهذا معنى قوله :﴿ إنا إلى ربنا منقلبون ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٥ ].
هذا الانقلاب ينقلب به كل أحد كائنا ما كان، فينبغي لكل إنسان أن يحسن منقلبه إلى الله ؛ لأن الله يقول :﴿ وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون ﴾ [ الشعراء : آية ٢٢٧ ] فمعنى :﴿ منقلبون ﴾ أنهم يموتون فيبعثون فينقلبون إلى الله، يرجعون إليه فيجازيهم، وهذا معنى قوله :﴿ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ١٢٥ ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٥ ].
ولما بينوا لفرعون أنهم ما فعلوا شيئا يستوجبون عليه تعذيبا سألوا الله أن يرزقهم الصبر على العذاب الدنيوي، وأن يميتهم وهم على إسلامهم، سألوه سؤالين عظيمين :
أحدهما : أن يعطيهم الصبر ويعينهم عليه.
والثاني : أنه يثبتهم على إيمانهم وإسلامهم حتى يموتوا ويلقوه مسلمين ؛ ولذا قال الله عنهم :﴿ قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ الإفراغ في لغة العرب التي نزل بها القرآن : الصب الشديد الذي يترك الإناء فارغا لا شيء فيه ﴿ أفرغ علينا ﴾ معناه : اصبب علينا صبرا من عندك. ونكر الصبر هنا للإشعار بالتعظيم. أي : صبرا عظيما جميلا عظيما نواجه به تعذيب هذا الجبار ﴿ وتوفنا ﴾ أمتنا، ﴿ مسلمين ﴾ أي : ونحن على إسلامنا لا تزغ قلوبنا ولا تشقنا ﴿ وتوفنا مسلمين ﴾.
وهذه الآية الكريمة نظائرها كثيرة في القرآن وفي كلام العرب، وأسلوبها الذي جاء بها هو الذي يقول له البلاغيون :( تأكيد المدح بما يشبه الذم ) ونظيرها في القرآن قوله :﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله ﴾ [ التوبة : آية ٧٤ ] ﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ٨ ﴾ [ البروج : آية ٨ ] وهو كثير في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
ما نقموا من بني أمية إلا | أنهم يضربون فيغلبون |
ولا عيب فيهم غير أن سيوفيهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
والصبر في لغة العرب التي نزل بها القرآن : هو حبس النفس عن المكروه، تقول : صبرت نفسي. ومنه قوله تعالى :﴿ واصبر نفسك ﴾ [ الكهف : آية ٢٨ ] وقول عنزة العبسي :
فصبرت عارفة بذلك حرة | ترسوا إذا نفس الجبان تطلع |
والصبر في اصطلاح الشرع خصلة عظيمة يندرج فيها جميع خصال الإسلام ؛ ولذا قال الله :﴿ إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ [ الزمر : آية ١٠ ] ومن سادات الصابرين : الصائمون ؛ لأنهم صبروا لله عن شهوات بطونهم وفروجهم طاعة لربهم.
والصبر في اصطلاح الشرع يستلزم الصبر عن جميع المعاصي ولو اشتعلت نار الشهوات، والصبر على الطاعات وإن كان كالقابض على الجمر، والصبر على البلايا عند الصدمة الأولى كما طلبه هؤلاء، لأنهم في بلية ومحنة كبرى يطلبون الصبر عليها، ويدخل فيه الصبر على الموت تحت ظلال السيوف عند التقاء الصفين.
وقوله :﴿ مسلمين ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٦ ] قدمنا مرارا معنى الإسلام والإيمان، وأن الإسلام في لغة العرب معناه : الإذعان والانقياد، فكل مذعن منقاد فهو مسلم. وأسلم له إذا أذعن وانقاد، وهو معروف في كلامهم، ومنه قول زيد بن نفيل مؤمن الجاهلية :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له الأرض تحمل صخرا ثقالا |
دحاها فلما استوت شدها | جميعا وأرسي عليها الجبالا |
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له المزن تحمل عذبا زلالا |
إذا عي سيقت إلى بلدة | أطاعت فصبت عليها سجالا |
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له الريح تصرف حالا فحالا |
وهو في اصطلاح الشرع : الإذعان والانقياد التام من جهاته الثلاث، أعني : انقياد القلب بالاعتقاد والنيات، وإذعان اللسان بالإقرار، وإذعان الجوارح بالعمل. أي : توفنا منقادين لك ولطاعتك بقلوبنا وألسنتنا وجوارحنا حتى نلقاك وأنت راض عنا. وهذا معنى قوله :﴿ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٦ ].
لما وقع ما وقع وآمن السحرة لله حرض أشراف جماعة فرعون حرضوا فرعون على موسى وقومه يريدون أن يقتلهم أو ينكل بهم ؛ ولذا قال الله عنهم :﴿ وقال الملأ من قوم فرعون ﴾ أي : أشراف جماعة فرعون قالوا لفرعون :﴿ أتذر موسى وقومه ﴾ ( أتذر موسى ) معناه : أتترك موسى وقومه الذين هم معه مؤمنون به وهم بنو إسرائيل، أتذرهم أي : تتركهم لأجل أن يفسدوا في الأرض ؟
وهذا الفعل الذي هو ( تذر ) لم يسمع منه إلا مضارعه وأمره، تقول العرب :( ذر ) بمعنى اترك. و ( تذر ) بمعنى : تترك. ولم يسمع منه غير هذا. فلم يأت من كلامهم فعل ماض، ومصدر، ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، فاسم فاعله : تارك. واسم مفعوله : متروك. وهكذا نطقت به العرب أمرا ومضارعا فقط. أي : أتترك موسى وقومه ؟
واللام في قوله :﴿ ليفسدوا في الأرض ﴾ هذه لام التعليل المعروفة بلام كي، وأصلها تشكل على طلبة العلم : كيف جاءت هذه اللام المعللة بهذا الوضع ؟
والجواب عن ذلك : أن الملأ من قوم فرعون زعموا أن مجرد تركه لهم هو علة لإفسادهم في الأرض، فجعلوا مجرد ترك فرعون لموسى وقومه، وعدم قتلهم أو التنكيل بهم جعلوه هو نفس علة الإفساد في الأرض ؛ ولذا جاؤوا بعد قولهم :﴿ أتذر ﴾ باللام في قوله :﴿ ليفسدوا ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٧ ] كما يزعمون :( إن السفيه إذا لم ينه مأمور ) ؛ لأنك إن لم تنههم فتضرب على أيديهم فكأنك قد أمرتهم بالإفساد في الأرض ! !
وقد قدمنا مرارا أن الكفرة الفجرة يزعمون العمل بكتب الله واتباع رسله إفسادا في الأرض. وقد أوضحنا ذلك فيما مضى. فمعنى إفسادهم في الأرض : أنهم يزعمون أنهم يؤمنون بموسى، ويكونون معه، يكونون حربا على القبط فيخرجهم من بلاد مصر، هذا معنى إفسادهم في الأرض المزعوم.
﴿ ويذرك وآلهتك ﴾ نصب ﴿ ويذرك ﴾ عطفا على ﴿ ليفسدوا ﴾ وقيل : إنه منصوب ب( أن ) بعد الواو ؛ لأن الواو هي أخت الفاء، فبعد الاستفهام ينصب بعدها المضارع ب( أن ) مضمرة، كما هو معروف، كقول الحطيئة :
ألم أك جاركم ويكون بيني | وبينكم المودة والإخاء |
﴿ ويذرك ﴾ يعني : يتركك وآلهتك، لا يعبدك ولا يعبد آلهتك. يزعم المؤرخون أن لفرعون آلهة يأمر قومه بعبادتها، وهم يتقربون إليه هو بعبادتها، وهو كأنه هو الإله الكبير، كما يأتي في قوله :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ [ النازعات : آية ٢٤ ] عليه لعائن الله، وقراءة ابن عباس :﴿ ويذرك وإلآهتك ﴾ أي : وعبادتك. وهي قراءة شاذة، ف( الإلاهة ) : العبادة قال فرعون لهم :﴿ سنقتل أبناءهم ﴾، سننكل بهم ولا نمهلهم، ﴿ سنقتل أبناءهم ﴾، كل من يولد لهم قتلناه ﴿ ونستحي نساءهم ﴾ نترك بناتهم ﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ (... ) ( في هذا الموضع وقع مسح يسير في التسجيل، وهو لا يؤثر ؛ لأن المعنى مستقيم بصورته الحالية ) يعني : فوقية مكانة ومنزلة، قاهرة لهم، مذللون لهم تحت سلطاننا.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن فرعون ذبح أولاد بني إسرائيل تذبيحتين :
التذبيحة الأولى التي كانت سببا لجعل أم موسى موسى في التابوت، كما سيأتي خبرها مفصلا في سور من كتاب الله، حيث قال لها، ﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ﴾ [ القصص : آية ٧ ] وخوفها عليه أي من قتل فرعون للأولاد حذرا من ذلك الغلام الذي سيزول ملكه عليه.
وتذبيح الأولاد الثاني : هو بعد أن جاءهم موسى نبيا من الله، كما صرح الله به هنا، وأوضحه في سورة المؤمن في قوله :﴿ فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين أمنوا معه واستحيوا نسائهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال ٢٥ ﴾ [ غافر : آية ٢٥ ] وهذا معنى قوله :﴿ قال سنقتل أبناءهم ﴾ وقرأ بعضهم :﴿ سنقتل أبناءهم ﴾.
﴿ نستحي نسائهم وإنا فوقهم قاهرون ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٧ ]
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه | فتناولته واتقتنا باليد |
وأصل مادة التقوى من ( وقي ) ففاؤها واو، وعينها قاف، ولامها ياء. فهي مما يسميه الصرفيون : لفيفا مفروقا، هذا أصلها.
والاتقاء : اتخاذ الوقاية، والاتقاء في الشرع : هو اتخاذ الوقاية التي تقي سخط الله وعذابه، وهذه الوقاية التي تقي الإنسان سخط ربه وعذابه هي امتثال أمره واجتناب نهيه ( جل وعلا ). فالاتقاء : امتثال الأمر واجتناب النهي، وهو اتخاذ الوقاية التي تقي سخط الله وعذابه، وهذا معنى قوله :﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٨ ].
وهذه الآية الكريمة فيها وعيد شديد، وتخويف عظيم، لمن استخلفه الله في الأرض بعد عدوه الذي كان يقاومه وبسط يده بالأرض، فإذا كان عنده عقل فإنه يخاف من نظر الله إليه كيف يفعل، فيطيع الله في كل ما يفعل كما لا يخفى، فهذه من أعظم المواعظ وأكبرها التي يعظ الله بها الذين يستخلفون في الأرض بعد الذي كانوا فيها. وهذا معنى قوله :﴿ ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٩ ].
اللام في قوله :﴿ ولقد أخذنا ﴾ موطئة للقسم، وصيغة الجمع للتعظيم، والمراد ب( آل فرعون ) : فرعون وقومه، والمعنى : أن السحرة لما غلبوا، وأظهر الله معجزة نبيه، وعرف فرعون وقومه أنه الحق، كما قال تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ [ النمل : آية ١٤ ] امتحنهم الله بآيات فيها بعض العذاب، أخذهم أولا بالسنين ونقص من الثمرات، كما قال هنا :﴿ ولقد أخذنا ﴾ والله لقد أخذنا ﴿ آل فرعون ﴾ أي : فرعون وقومه.
﴿ بالسنين ﴾ والمراد بالسنين : الجدب والقحط حتى تقل بسببه الأرزاق. يعني : هذا البلاء بالسنين، العرب تقول : هذه سنة، وهذه سنون. يعنون أنها عام أو أعوام جدب، يقل فيه المطر، ويكثر فيه الجدب، ويقل فيها الأرزاق. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قوله :﴿ اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ﴾ حتى إن العرب ليقولون : أسنت القوم. أي : أصابتهم السنة الشهباء المجحفة، التي فيها جدب وعدم المطر. ومنه قول ابن الزبعري السهمي :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه | ورجال مكة مسنتون عجاف |
﴿ ونقص من الثمرات ﴾ أي : وأخذناهم بنقص من الثمرات بحيث لا تثمر أشجارهم. قال بعضهم : كانت النخلة قد تكون فيها تمرة واحدة. قال بعض العلماء : السنين : هي الجذب بباديتهم، ونقص الثمرات : قلة الزروع والثمرات لأمصارهم.
وعلى كال حال فالمراد أن الله يقل عليهم المطر حتى تقل أرزاقهم من زروع وثمار وغيرها، وهذا معنى قوله :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ١٣٠ ﴾ [ الأعراف : الآية ١٣٠ ] أي : يتعظون.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن أشهر معاني ( لعل ) معنيان :
احدهما : أنها حرف ترجي كما هو معروف، إلا أن الترجي فيها بالنسبة إلى خصوص علم المخلوقين ؛ لأن الله ( جل وعلا ) عالم بما كان وما سيكون وما تؤول إليه عواقب الأمور. وعلى هذا فمعنى قوله تعالى لموسى وهارون :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر ﴾ [ طه : آية ٤٤ ] أي : على رجائكما أنتما أنه يتذكر، أما الله فهو عالم أنه لا يتذكر ولا يخشى.
المعنى الثاني : هو ما ذكره بعض العلماء من أن كل ( لعل ) في القرآن هي بمعنى التعليل إلا التي في سورة الشعراء :﴿ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ﴾ [ الشعراء : آية ١٢٩ ] قالوا : هي بمعنى : كأنكم تخلدون. وهكذا ذكر بعضهم، ومن المعلوم أن ( لعل ) تأتي في القرآن مرادا بها التعليل، منه قوله تعالى :﴿ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ﴾ [ النحل : آية ٧٨ ] أنعم عليكم بهذه النعم لأجل أن تشكروا. ومن شواهد إتيان ( لعل ) مرادا بها التعليل قول الشاعر :
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا | نكف ووثقتم لنا كل موثق |
﴿ وإن تصيبهم سيئة ﴾ [ الأعراف : آية ١٣١ ] المراد بالسيئة هنا في أقوال المفسرين : هو ضد الحسنة، والمراد : إذا جاءهم قحط، وكان في الأرض جدب، وقلت أرزاقهم، وجاءتهم الأمراض، والمعنى : أن الله إذا قلل عليهم الأرزاق، وأمسك عنهم المطر، وجاءتهم الأمراض، إن جاءتهم هذه البلايا ﴿ يطيروا ﴾ أصله : يتطيروا ﴿ بموسى ومن معه ﴾ [ الأعراف : آية ١٣١ ] والتطير في لغة العرب : التشاؤم. أي : يتشاءموا بموسى ومن معه، ويقولون : هذا الجدب، وهذه قلة الأرزاق، وهذه الأمراض ما جاءنا إلا بسبب شؤمكم، وسبب ما جئتم به من دين موسى، كل هذه البلايا بسبب شؤمكم. وهذه عادة الكفار إذا تمردوا على الله، وعصوا الله، وكذبوا رسله، وعذبهم الله على ذلك، زعموا أن ذلك جاءهم من قبل الأنبياء. ونظائره في القرآن كثيرة، كما قال الكفار لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لما ذكره الله عنهم في سورة النساء في قوله :﴿ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ﴾ [ النساء : آية ٧٨ ] وكما قال عن الرسل المذكورين في يس إن قومهم قالوا :﴿ قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ١٨ قالوا طائركم معكم ﴾ [ يس : الآيتان ١٨، ١٩ ] وكما ذكر عن قوم صالح أنهم قالوا له :﴿ قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون ٤٧ ﴾ [ النمل : آية ٤٧ ] والتطير معناه : التشاؤم، والتشاؤم هو أن يقول : جاءني هذا بشؤمك. وأصل التطير مشتق من الطير، لأن عادة العرب أن أكثر ما كانوا يتشاءمون به الطير، وهو الطير المعروفة، وكانوا يأتون الطير ويطيرونها من مواقعها، فإذا طارت على اليمين قالوا : هذا سانح. وتيمنوا به، وإذا طارت إلى الشمال قالوا : هذا بارح، وتشاءموا له، كما قال علقمة بن عبدة التميمي :
ومن تعرض للأطيار يزجرها | على سلامته لا بد مشؤوم |
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا | مقالة لهبي إذا الطير مرت |
وعلى كل حال فالتطير والتشاؤم من صفات الكفار، وعلى المسلمين اجتنابه، وأن يتوكلوا على الله، ولا ينبغي لهم أن يمنعهم التطير من سفر، ولا أن يجزعوا من التطير. واعلموا أن الأمور بيد الله، وأن الشؤم الحقيقي الذي يستجلب كل الضرر هو مخالفة رب العالمين ( جل وعلا )، أما كل فعل لم يخالف به الله فهذا لا ضرر فيه ولا طيرة ؛ لأن الله ما أباحه إلا لأنه لا ضرر فيه. وعلى المسلم أن يتحرز من هذا كله، ولا يتشاءم بشيء، وأن يبني الأمور على التوكل على الله، ومراعاة أوامره ونواهيه، كما هو معلوم لا يخفى. وهذا معنى قوله :﴿ يطيروا بموسى ومن معه ﴾.
﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة : أن الله لما ذكر أنهم يكفرون به، ويتمردون ويعارضون رسله، وأنهم مع ذلك يزعمون أن الذي يصيبهم [ إنما هو بسبب شؤم نبيهم موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، فأكذبهم ] ( في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) الله ﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ أي : الطائر المشؤوم التي جاءتهم البلايا منه عند ربهم وذلك إنما جاءهم بسبب كفرهم بالله ومعصيتهم لله ؛ لأن الكفر بالله ومعصية الله هو الطائر المشؤوم الذي يأتي صباحه بسببه كل سوء ومكروه في الدنيا والآخرة. وقال بعض العلماء : طائرهم وحظهم عند الله هو الذي ياتيهم بالخير ويأتيهم بالشر، وليس ما جاءهم من قبلنا ﴿ ولاكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ لا يعلمون أن ذلك هو الحق فيكذبون على الله ويتقولون على موسى ومن معه أن ما أصابهم بسبب شؤمهم. وهذا معنى قوله :﴿ ولاكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأعراف : آية ١٣١ ].
(... )( في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل كما ترى، ويمكن أن يستدرك بعضه مما ورد في الدر المصون ( ٥٤٣١ )، وهو قوله :( اختلف النحويون في ( مهما ) هل هي بسيطة أم مركبة ؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا : فمنهم من قال : هي مركبة من ما ما، كررت ( ما ) الشرطية توكيدا فاستثقل توالي لفظين فأبدلت ألف ( ما ) الأولى هاء. وقيل : زيدت ( ما ) على ( ما ) الشرطية كما تزاد على ( إن ) في قوله :( فإما يأتيكم ) فعمل العمل المذكور للثقل الحاصل. وهذا قول الخليل... ) ) و ( ما ) الثانية مؤكدة لها تأكيدا لها ؛ لأن تكريرها يفيدها تأكيدا، وأصلها : ما ما بتكرير لفظة ( ما ) وأنهم استثقلوا توالي حرفين متجانسين فأبدلوا ألف ( ما ) للأولى هاء، وقالوا :( مهما ) هذا قول الخليل، واختيار جل البصريين.
وقال جماعة آخرون : إن ( مهما ) أصلها :( مه ) التي هي اسم فعل بمعنى : اكفف. وأن ( ما ) الأخرى هي ( ما ) التي تعلق الشرط بالجزاء، والمعنى : اكفف. اكفف يا موسى ما أتيتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي : كف عنا مجيئك بالآيات، ما تأتينا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين.
وعلى هذين فاصل ( ما ) مركبة لا بسيطة.
وقال جمهور علماء العربية : إن ( مهما ) أصلها حرف بسيط وضعته العرب هذا الوضع تعلق به الجزاء على الشرط، وهو عند الأصوليين من صيغ العموم، وعمومها من جهة الأحوال والأوضاع. والمعنى : أي شيء تأتينا به كائنا ما كان من آية. الضمير في قوله :( به ) راجع إلى ( مهما ) وكذلك الضمير المؤنث في قوله :( بها ) راجع إلى الآية التي هي مبينة ل( مهما )، فكلا الضميرين راجع في الحقيقة إلى ( مهما ) إلا أن الضمير المذكر روعي به لفظ ( مهما ) والضمير المؤنث روعي به معنى الآية المبينة ل( مهما ). ومن علامات الاسم عند علماء العربية : رجوع الضمير، فمن علامات أن ( مهما ) اسم : رجوع الضمير إليها، وقد رجع إليها ضمير مذكر باعتبار اللفظ، وضمير مؤنث باعتبار المعنى، كما جاء ذلك فيها في قوله زهير :
ومهما تكن عند أمريء من خليقة | ولو خالها تخفى على الناس تعلم |
وفي الآية سؤال : كيف أقروا بأنه آية، وزعموا أنه جاء بها ليسحرهم ؟
وأجيب عن هذا : بأن قولهم :﴿ من آية ﴾ أي : بزعمك ودعواك، لا أنهم يقرون بذلك.
﴿ لتسحرنا بها ﴾ لتصرفنا بها عن ديننا وتخدعنا عما نحن فيه.
﴿ فما نحن لك بمؤمنين ﴾ لتصرفنا بها عن ديننا وتخدعنا عما نحن فيه.
﴿ فما نحن لك بمؤمنين ﴾ بوجه من الوجوه، ولا بحال من الأحوال، ولو أتيت بما أتيت به من الآيات ؛ لأن ( مهما ) عموم شامل يدل على أنه لو جاء بجميع الآيات لكانوا كما قالوا، فلما تمردوا هذا التمرد العظيم، وعاندوا هذا العناد الكبير، ولجوا هذا اللجاج الشديد، عاقبهم الله معاقبات دنيوية بعضها يتبع بعضا، قال :﴿ فأرسلنا عليهم الطوافان ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٣ ] قد تقرر في فن الأصول في الكلام على مسلك الإيماء والتنبيه : أن ( الفاء ) من حروف التعليل، ويقولون : سهى فسجد. أي : لعلة سهوه. سرق فقطعت يده. أي : لعلة سرقته، قالوا :﴿ فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ أي : لعلة عنادهم وضلالهم وكفرهم وعدم إيمانهم بآيات الله.
﴿ عليهم الطوفان ﴾ قال بعض العلماء : أصل الطوفان مصدر من : طاف يطوف، كالرجحان، والكفران، والغفران، نعت به وللعلماء في الطوفان المذكور هنا أقوال متقاربة :
أشهرها وعليه الجمهور أن المراد بالطوفان : الماء الكثير كما صرح الله بذلك ؛ لأنه أهلك قوم نوح بالطوفان، وأن الله أولا عذبهم بالماء الكثير، فأرسل عليهم مطرا كثيرا حتى دخل الماء بيوتهم، وصار الواحد منهم في بيته والماء إلى ترقوته، وإذا جلس غرق في الماء، ومنعهم الماء حراثتهم أن يحرثوا أو يزرعوا أو يعملوا شيئا، صار يكاد يهلكهم. هذا هو الأظهر في الآية، أن المراد بالطوفان : الماء الكثير بأن أرسل الله عليهم الأمطار الغزيرة حتى فاض الماء على وجه الأرض ودخل بيوتهم. يقول المفسرون والمؤرخون : حتى إن الماء ليبلغ تراقيهم، ومن جلس منهم غرق في الماء، فمنعهم النوم وحالة المعائش والعمل في أرضهم، وكاد يقضي عليهم. وهذا هو القول المشهور الذي عليه أكثر العلماء.
وقال جماعة من علماء التفسير : الطوفان : الجدري. وهو قول غريب، وإن ذكره غير واحد.
وقال بعض العلماء : الطوفان : الموتان. والموتان بضم الميم : موت كثير يأتي الحيوانات فيقع فيها موت كثير، وربما أطلق على الطاعون ؛ لأنه يموت به موت كثير. وكان بعض علماء السلف يقول : الطوفان : هو كل ما طاف بك ليهلكك ولا قدرة لك عليه، من ذلك قوله تعالى :﴿ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ١٩ ﴾ [ القلم : آية ١٩ ].
فالحاصل أن أشهر أقوال علماء التفسير : أن المراد بالطوفان هنا : الماء الكثير. وقيل : إنه الجدري. وقيل : الموتان، وهو موت الحيوانات الكثير، أي : الطاعون. والأظهر هو القول الأول : أنه الماء الكثير الذي دخل بيوتهم ومنعهم من أن يعملوا شيئا. وبعض علماء التفسير يقولون : مكث عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت. ومنهم من يقول : أربعون يوما، ومنهم من يقول غير ذلك. فلما شق عليهم وأجهدهم شكوا إلى فرعون، فجاء فرعون إلى موسى وقال له :﴿ ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز ﴾ أي : هذا العذاب والله ﴿ لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ١٤٣ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ١٣٥ ﴾ [ الأعراف : الآيتان ١٣٤، ١٣٥ ] فكشفه الله عنهم. قال المفسرون : وانبتت أرضهم من ذلك الماء أكثر ما كانت تنبته، وجاءهم نعيم، فرجعوا إلى كفرهم، قالوا : والله إنه لساحر.
ثم إن الله بعد الطوفان ﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد ﴾ سلط الله عليهم الجراد. والتحقيق أن الجراد هو هذا الجراد المعروف الذي يطير، الذي تعرفونه. وبعض العلماء يقولون : أن أصله نثرات الحوت. وقد جاء ذلك في حديث عند ابن ماجه من حديث أنس وجابر ( رضي الله عنهما ). وتسليط الجراد عليهم : أكثر الله عليهم الجراد. قال بعض العلماء : حتى كانوا لا يرون شعاع الشمس من كثرة الجراد، وانه [ كثر عليهم ] ( في هذا الموضع كلام غير مفهوم، وما بين المعقوفتين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) وملأ بيوتهم، وأكل أبوابهم ومساميرها، وسقوف البيوت، حتى تساقطت البيوت، وأكل جميع ما عندهم من غلات وثمار وزروع، وكاد يهلكهم.
والجراد هو الحيوان المعروف، وهو يؤكل، يجوز أكله على التحقيق، كما ثبت في الصحيح عن ابن أبي أوفي قال :( غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد ) وفي ابن ماجه :( كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق ).
وعامة العلماء على أن الجراد كالسمك، ميتته حلال، ولم نعلم مخالفا في هذا إلا مالك بن أنس ( رحمه الله ) وأصحابه يقول : لا يؤكل الجراد إلا إذا ذكي بما يموت به. أي : ولو مات حتف أنفه فهو ميتة لا يؤكل.
واحتج جمهور العلماء بحديث ابن عمر المشهور :{ أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان : فالسمك والجراد، والدماء : الكبد والطحال ).
ومالك يقول -وهو صادق- : إن هذا الحديث لم يأت من طريق صحيحة مرفوعة، فجميع طرقه المرفوعة ضعيفة لا تقوم الحجة بشيء منها.
واحتج على المالكية من خالفهم بأنه جاء من رواية موقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال، وهي طريق صحيحة، وهي موقوفة على ابن عمر، إلا أن لها حكم الرفع ؛ لأن طريق سليمان بن بلال صحيحة، وكونها موقوفة على ابن عمر لا يضر ؛ لأن لها حكم الرفع، وكل ما هكذا له حكم الرفع ؛ لأن من المعلوم أنه لا يحله إلا هو صلى الله عليه وسلم.
أما المالكية فقالوا : نعم، نحن نعلم طريق سليمان بن بلال هذه، ونعلم أن هذا له حكم الرفع، ولكن كونه له حكم الرفع هذا من صناعة الحديث التي اتفق أهل الحديث عليها، لا من قول الله، ولا من قول رسوله، ونحن يجب علينا أن نتمسك بعموم كلام الله وهو قوله :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ [ المائدة : آية ٣ ] وميتة الجراد داخلة في عموم الميتة، فلا ننصرف عن تحريم الله للميتة إلا بدليل جازم يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا كلام العلماء فيه، ووجه اختلاف وجهات نظرهم في ذلك، وهو معروف. وجاء في سنن ابن ماجه من حديث أنس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الجراد وقال :( اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأسرابه عن معائشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء ). وأن جابرا لما سمعه يدعو عليه قال له : كيف تدعو على جند من جند الله ؟ وأنه قال له :( هو نثرة حوت ). هكذا ذكروا في سنن ابن ماجه ( رحمه الله ) عن هذين الصحابيين. وذكر القرطبي في تفسير هذه الآيات أن الجراد إن هجم على زروع الناس اختلف العلماء : هل تجوز مقاتلته ومكافحته ؟ ؟ وأن اظهر القولين أنه تجوز مكافحته وقتله لكف أذاه عن الناس، وهذا القول هو الذي لا ينبغي العدول عنه لجريه على ظاهر النصوص ؛ لأن المسلم إذا تعدى على أموال الناس لزم دفعه عنها ولو أدى إلى القتال، فكيف بالجراد ! ! وهذا معنى قوله :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٣ ].
هذه الآية كأنها تقرأ عند كل واحدة من الآيات السابقة ﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ١٣٠ ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٠ ] قوله :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٣ ]
أي : ولما عذبوا بالطوفان ووقع عليهم رجز الطوفان ﴿ قالوا يا موسى ادع لنا ربك ﴾ فلما رفعه عنهم ووقع عليهم رجز الجراد ﴿ قالوا يا موسى ادع لنا ربك ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٤ ].
لما أنهكهم الجراد وكاد يهلكهم جاؤوا إلى فرعون وشكوا إليه، فذهب فرعون إلى موسى وقال له :﴿ يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز ﴾ يعني الجراد ﴿ لنؤمن لك... ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٤ ] إلى آخر القصة.
وبعضهم يقول : سنة. فأرسل الله عليهم القمل، هذا القمل الذي أرسل الله عليهم فيه للعلماء أقوال متقاربة :
كان ابن عباس ( رحمه الله ) يقول : هو سوس الحنطة. أرسل الله عليهم سوس الحنطة –على قول ابن عباس- فتكدس عليهم، وملأ عليهم بيوتهم وآنيتهم وأطعمتهم، وكان يدخل بين الواحد وبين ثيابه، فبلغوا منه أذى شديدا.
وقال بعض العلماء : القمل : صغار الدبي، والدبي : صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة.
وكان أبو عبيدة في طائفة من علماء التفسير يقول : القمل هو المعروف بالحمن، ويقال له : الحمنان، وهو نوع من القراد صغير، وأن الله ملأ عليهم الأرض منه. وذكر بعضهم : أن موسى جاء لكثيب أعفر وضربه بعصاه، فجعله الله قملا. وأنه تكدس عليهم فملأ بيوتهم وآنيتهم وأطعمتهم، وامتص دماءهم تحت ثيابهم حتى بلغوا منه غاية الجهد.
والحاصل أن القمل هنا فيه أقوال متقاربة، بعضهم يقول : هو الحمنان المعروف بالحمن، وهو نوع من القردان صغير، وبعضهم يقول : هو صغار الدبي، والدبي : الجراد الصغار قبل أن تنبت له أجنحته، وبعضهم يقول : هو البراغيث. هذه أقوال فيه لا يكذب بعضها بعضا، وعلى كل حال فهو شيء من خلق الله سلطه الله عليهم فعذبهم به، وآذاهم إيذاء كثيرا، حتى ضجوا وزعموا أنهم يتوبون، فهذا معنى قوله :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٣ ] لما عذبهم القمل -سواء قلنا : إنه البراغيث، أو قلنا : إنه الدبى، أو قلنا : إنه سوس الحنطة، أو قلنا : إنه الحمن والحمنان، وقال بعضهم : هو حيوانات تشبه القراد الكبير لها ريح منتنة سلطها الله عليهم- قال بعض المفسرين : مكث عليهم أيضا سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فشكوا إلى فرعون، فجاء فرعون موسى فقال :﴿ ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ١٣٤ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ١٣٥ ﴾ [ الأعراف : الآيتان ١٣٤، ١٣٥ ] والقمل هذا كان يأتي بعض الناس فيتأذى به كما هو معروف، قال بعضهم : ومنه قول الأعشى :
قوما يعالج قملا أبناؤهم | وسلاسلا أجدا وبابا مؤصدا |
لما رفع الله عنهم القمل وأزاله ولم يبق له أثر مكثوا شهرا في عافية، كما قال بعضهم، وقال بعضهم غير ذلك، فأرسل الله عليهم الضفادع، والضفادع جمع ضفدع، وهو الحيوان المعروف، وكان بعضهم يزعم أن الضفادع كانت برية، وأنها لم تكن من حيوانات البحر كما زعموا، فلما عذب الله بها قوم فرعون صارت تقتحم في قدورهم وهي تفور، وتقتحم في تنانيرهم في شدة حرها، ومنعتهم الطعام، كان الرجل يجلس في الضفادع إلى عنقه، وإذا أراد أن يتكلم بادرته الضفدع فجاءت في فيه، ولقوا منها العذاب الشديد –والعياذ بالله- فلما لقوا منها ذلك كانوا ليس عندهم شيء إلا به الضفادع، لا يرفعون ثوبا ولا إناء إلا وبه الضفادع، وبيوتهم ملأى منها، والواحد جالس في الضفادع إلى عنقه، تتساقط لهم في قدورهم وأطعمتهم وتنانيرهم، وكادت تهلكهم، فمكث عليهم –يقولون- سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فشكوا ذلك إلى فرعون، فجاء فرعون موسى فقال :﴿ يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٤ ] إلى آخر ما ذكرنا.
والضفادع حيوانات تكون برية وتكون بحرية، والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أنها لا يجوز أكلها ولا قتلها، وقد ثبت في السنن من حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله طبيب في ضفادع يجعلها في دواء فنهي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هذا جاء في السنن في حديث صحيح عن النبي، وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله لا يجوز أكله ؛ لأنه لا يوصل إلى أكله إلا بقتله بالذبح، وهذا هو التحقيق. فالذين يأكلون الضفادع يرتكبون الحرام الذي لا شك فيه، وظاهر هذا الحديث سواء كانت برية أو بحرية، وهو الأظهر والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ والضفادع ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٣ ].
ولما وقع رفع الله عنهم الضفادع، وبقوا في عافية شهرا أو غير ذلك، وهم راجعون لأشد ما هم فيه من العذاب، وقالوا : تبين لنا أن هذا الرجل هو رئيس السحرة وكبيرهم، كما قص الله عنهم في قوله :﴿ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ﴾ [ طه : آية ٧١ ] عندما آمن السحرة لرب موسى وهارون، فلما رجعوا إلى كفرهم بعد ذلك أرسل الله عليهم الدم، والدم : هو الدم هذا المعروف الذي تعرفونه، وأصل الدم ( دمي ) بالياء، فهو من الأسماء الثلاثية التي حذفت العرب لامها وعاضتها على العين. والتحقيق أن لامه المحذوفة ياء، خلافا لمن زعم أنها واو، فهو ( دمي ) على وزن ( فعل ) وربما ظهرت ياؤه المحذوفة عند التثنية وغيرها، ومن ظهروها عند التثنية قول سحيم بن وثيل الرياحي :
فلو أنا على حجر ذبحنا | جرى الدميان بالخبر اليقين |
هل أنت إلا أصبع دميت | وفي سبيل الله ما لقيت |
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا | ولكن على أقدامنا تقطر الدما |
ومعنى تعذيبهم بالدم : أنهم كانوا كلما أخذوا الماء ليشربوا فإذا ذلك الماء دم أحمر قان عبيط، ليس لهم ماء، فإذا صبوا من أوعيتهم ماء فإذا ذلك الماء دم، وإذا استقوا من الأنهار فإذا الماء الذي استقوا منها دم، وإذا استقوا من الآبار فإذا هو دم.
يذكرون أن فرعون كان يجمع القبطي والإسرائيلي، والإسرائيلي يشرب الماء من إناء واحد فما أخذ منه إسرائيلي فهو ماء، وما أخذه القبطي يكون دما، حتى إنهم زعموا أن القبط لما أضر بهم العطش ؛ لأن جميع مياههم صارت دما، وصار كل ماء استقوه دما عبيطا، أن القبطية كانت تقول لجارتها الإسرائيلية : اجعلي الماء في فيك ومجيه في في لأتبرد به، فإذا مجته في فيها نزل من فم الإسرائيلية ماء، فإذا وصل فم القبطية إذا هو دم عبيط ! ! هكذا يقولون.
والمفسرون يقولون : إن هذا الذي وقع كله للقبطيين لم يقع منه شيء للإسرائيليين، فلم يدخل الماء بيوتهم، ولم يأتيهم القمل، ولم تأتيهم الضفادع، ولم يأتهم الدم كما يقولون –والله تعالى أعلم.
قالوا : زعموا أن فرعون -قبحه الله- أضر به العطش، وعطش عطشا شديدا ؛ لأنه صار كلما استقى ماء فإذا هو دم عبيط، وأنه اضطر إلى مص مياه الشجر التي تكون في الشجر، قالوا : فإذا مص ماء الشجرة فوصل فاه فإذا هو دم –والعياذ بالله تعالى- قالوا : مكث عليهم الدم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فلما تأذوا به كثيرا شكوا إلى فرعون، وجاء فرعون موسى وقال : الآن حق لنا أن نتوب التوبة النصوح ف }ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بين إسرائيل } [ الأعراف : آية ١٣٤ ] فلما كشفه عنهم رجعوا إلى أخبث كفرهم وأشده، وهذا من اللجاج ؛ ولأجل هذا -اللجاج والكفر وإخلاف الوعد- غضب موسى عليهم غضبا شديدا، ودعى ربه ذلك الدعاء الحاد العظيم حيث ذكره الله في سورة يونس في قوله :﴿ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ﴾ [ يونس : آية ٨٨ ] وفي قراءة أخرى :﴿ ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ٨٨ قال قد أجيبت دعوتكما ﴾ [ يونس : الآيتان ٨٨، ٨٩ ] لأن [ هارون ] ( في الأصل :( موسى ). وهو سبق لسان ) قال : آمين. والمؤمن أحد الداعيين. وهذا معنى قوله :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٣ ] ( آيات ) حال. أرسلنا عليهم هذه الأشياء في حال كونها آيات. أي : علامات ودلالات واضحات لا شك في الحق معها.
وقوله :﴿ مفصلات ﴾ قال بعض العلماء :﴿ مفصلات ﴾ أي : بينات واضحات لا لبس فيها أنها من الله، وأنها حق، وأن هؤلاء الكفرة عاندوا الحق الواضح.
وقال بعض العلماء : مفصلات : بينها فصل ؛ لأنه كلما جاءتهم آية وعذبهم الله بها وضجوا إلى فرعون، وضج فرعون إلى موسى، وقال :﴿ لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٤ ] فكشف عنهم الرجز ومكثوا زمنا في عافية فصار بين الآيات فصل من العافية بين هذه وهذه، وأن ذلك هو معنى قوله :﴿ مفصلات ﴾ أي : متتابعات بين كل اثنين منها فصل، هكذا معنى قوله :﴿ والدم آيات مفصلات ﴾.
﴿ فاستكبروا ﴾ أي : تكبروا عن قبول الحق مع مشاهدة هذا عندما ينزل بهم العذاب يستكينون ويخضعون قهرا لا رغبة في الخير، فإذا رفع عنهم أعرضوا إلى ما كانوا عليه، هذا معنى :﴿ فاستكبروا ﴾.
﴿ وكانوا قوما مجرمين ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٤ ] قدمنا مرارا أن القوم في لغة العرب التي نزل بها القرآن : اسم جمع لا واحد له من لفظه، يختص في الوضع في الذكور دون الإناث، وربما دخل فيه الإناث بحكم التبع، والدليل على اختصاصه بالذكور في الوضع قوله تعالى في الحجرات :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ﴾ ثم قال :: ﴿ ولا نساء من نساء ﴾ فلو دخل النساء في اسم القوم وضعا لما قال :﴿ ولا نساء من نساء ﴾ [ الحجرات : آية ١١ ] ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى :
وما أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
المجرمون : جمع تصحيح للمجرم، وهو اسم فاعل الإجرام، والمجرم هو مرتكب الجريمة، والجريمة : الذنب الذي يستحق صاحبه التنكيل والعذاب، وهذا معنى قوله :﴿ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٣ ].
فقوله :﴿ مشارق الأرض ومغاربها ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٧ ] جماهير العلماء على أن مشارق الأرض هو المفعول الثاني ل( أورثنا )، وأورثنا المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها. أي : جعلناها آيلة إليهم بعد أن أهلكنا الكفار الذين كانوا فيها، وهذا هو التحقيق خلافا لما نقل عن الكسائي والفراء من أنه منصوب بنزع الخافض، وأن المعنى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها. وعلى هذا القول فمفعول الإيراث محذوف. ولا يخفى ان هذا القول غير صواب، وإن نقل عن الكسائي والفراء وغيرهم، وأن التحقيق أن الإيراث واقع على بني إسرائيل، وأن قوله :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ﴾ أن ( أورثنا ) تطلب مفعولين، المفعول الأول : هو قوله ﴿ الذين ﴾ والمفعول الثاني : هو قوله :﴿ مشارق الأرض ﴾ أي : أورثناهم مشارق الأرض كما جاء موضحا في آيات أخر، كقوله :﴿ كذلك وأورثناها قوما آخرين ٢٨ ﴾ [ الدخان : آية ٢٨ ] ﴿ كذلك وأورثناها بني إسرائيل ٥٩ ﴾ [ الشعراء : آية ٥٩ ] ونحو ذلك من الآيات.
ومعنى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾ قال أكثر المفسرين :﴿ مشارق الأرض ﴾ : الشام، مغاربها : مصر. وأن الله أهلك فرعون وقومه وأورث بني إسرائيل أرضهم كما صرح بذلك في قوله :﴿ كذلك وأورثناها قوما آخرين ٤٨ ﴾ [ الدخان : آية ٤٨ ] وقوله :﴿ كذلك وأورثناها بني إسرائيل ٥٩ ﴾ [ الشعراء : آية ٥٩ ] وهي ما تركوا من جنات وعيون، وزروع، ونعمة كانوا فيها فاكهين، وان مشارق الأرض : هي الشام، أورثهم الله إياها بعد أن أهلك الجبارين الكنعانيين وأبادهم. هذا يقوله أكثر العلماء، ويزعمون أن في التوراة : أن هذه المشارق والمغارب من الفرات، وأنها من الفرات إلى المحل الذي خرجوا من البحر منه [ وطلبهم ] ( في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفتين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) منه فرعون ! !
وبعض العلماء يقول : مشارق الأرض ومغاربها : الشام فقط ؛ لأنه أورثهم أرضه من مشارقها ومغاربها، أي : ما يلي المشرق منها وما يلي المغرب.
واعلموا أن الآيات القرآنية دلت دلالة واضحة على أن الله أورث بني إسرائيل ما كان عند فرعون وقومه من الجنات والعيون، والزروع والكنوز، والمقام الكريم، هذا جاء في آيات متعددة، جاء موضحا في سورة الشعراء، وفي سورة الدخان، وأشير له هنا في الأعراف.
وبعض العلماء يقول : في إيراثهم ديار مصر وأمواله، وديار قومه وأموالهم، فيه إشكال ؛ لأنه لم يعلم في التاريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد أن أنجاهم الله من عذاب فرعون وفلق لهم البحر –والله تعالى أعلم- ولأجل ذلك قال بعض العلماء : أراضي الشام، ومشارقها : ما يلي جهة المشرق من أرض الشام من أطرافها، وما يلي جهة المغرب. هذا أقوال العلماء في الآية.
وقوله ﴿ التي باركنا فيها ﴾ أي : أكثرنا فيها البركات من كثرة المياه والزروع والثمار ونحو ذلك من بركات الأرض وخيراتها. وهذا معنى قوله :﴿ مشارق الأرض ومغاربها التي بركنا فيها ﴾.
﴿ وتمت كلمت ربك الحسنى ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٧ ] جماهير العلماء على أن المراد بهذه الكلمة التي صرح الله بأنها تمت على الإسرائيليين أنها هي قوله تعالى :﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ٥ ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ٦ ﴾ [ القصص : الآيتان ٥، ٦ ] ومعنى تمام الكلمة : أنها أولا كانت وعدا، فلما أنجز هذا الوعد فقد تم ذلك بإنجازه كما لا يخفي. وهذا معنى قوله :﴿ وتمت كلمت ربك الحسنى ﴾ الحسنى : تأنيث الأحسن، والأحسن : الذي يفوق غيره في الحسن ويفضله.
وقوله :﴿ على بني إسرائيل ﴾ تمت عليهم : أي : مضت عليهم وكملت عليهم بإنجازها لما كانت وعدا.
وقوله :﴿ بما صبروا ﴾ الباء سببية، و( ما ) مصدرية، أي : بسبب صبرهم. وذلك يدل على أن الصبر سبب للفرج كما هو معروف، وكما قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] وهذا معنى قوله :﴿ بما صبروا ﴾.
وقوله :﴿ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ﴾ التدمير : الإهلاك التام. والمعنى : دمرنا وأهلكنا ما كان يصنعه فرعون وقومه من القصور التي كان يبنيها، والبنايات التي كان يضعها في الأرض دمرها الله، وهدمها وأهلكها.
وقوله :﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ قرأ هذا الحرف جماهير القراء غير ابن عامر وشعبة عن عاصم :﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ بكسر الراء مضارع عرشه يعرشه. وقرأ من السبعة : ابن عامر وشعبة عن عاصم :﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ وهما لغتان وقراءتان صحيحتان، ( يعرشون ) بضم الراء لغة بني تميم.
ومعنى :﴿ يعرشون ﴾ فيه وجهان للعلماء : قال بعض العلماء :﴿ يعرشون ﴾ أي : لجنات الكرم وهو العنب يجعلون لها العريش لتمتد عليه، كما تقدم في قوله :﴿ جنات معروشات وغير معروشات ﴾ [ الأنعام : آية ١٤١ ].
وقال بعضهم : عرشه إذا رفع بناءه، والعرش أصله السقف، وعروش الأبنية : سقوفها. يعني : ودمرنا ما كانوا يرفعونه من البناء كصرح هامان المشهور، ونحو ذلك وهذا معنى قوله :﴿ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٧ ].
وعند ذلك أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب البحر بعصاه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم. يعني صار البحر كأنه جبال عظام بينها طرق، وأرسل الله عليها الريح –كما يقول المفسرون- فيبست كما أشار له تعالى بقوله :﴿ فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ﴾ [ طه : آية ٧٧ ] يزعم المفسرون أنه كانت في البحر اثنتي عشرة طريقا، وأن الأمواج ممسكة بين الطرق بقدرة الله وإرادته كأنها الجبال الشامخة، كما قال تعالى :﴿ فكان كل فرق كالطور العظيم ﴾ [ الشعراء : آية ٦٣ ] أي : كالجبل الشامخ المنيف، ويزعم المفسرون أن الله جعل بينها فرجا كالكوة التي تكون في البيوت حتى صار ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهم سلكوا في تلك الطرق قاطعين للبحر، وأن فرعون لما وجدهم دخلوا البحر يزعمون أنه كان على جواد ذكر من الخيل، وأن جبريل جاء أمامه على فرس وديق –وهي التي تحب الفحل، وإذا كانت تحب الفحل كان يشم فيها ريح ذلك –وأن الجواد شم فيها ريح ذلك واقتحم، فاقتحموا في البحر مع تلك الطرق، ولما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل أراد أن يضرب البحر بعصاه ليلتئم، فقال له :﴿ واترك البحر رهوا ﴾ [ الدخان : آية ٢٤ ] أي : خله ساكنا منفلقا. ليدخل فرعون وقومه فيغرقوا ؛ لأنه لو التطم لرجع إلى حالته ولرجعوا، فلما تكامل خروج بني إسرائيل ومجاوزتهم البحر، وتكامل دخول القبط –فرعون وقومه- أطبق الله عليهم البحر، وتلاطمت أمواجه، فلم يبق منهم داع ولا مجيب، كما أوضحناه سابقا في البقرة. وذلك معنى قوله :﴿ فانتقمنا منهم فاغرقناهم في اليم ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٦ ].
لما ماتوا كلهم وأنجى الله بني إسرائيل، ووقع الغرق بالقبط وهم ينظرون، كما تقدم في قوله :﴿ وأنتم تنظرون ﴾ [ البقرة : آية ٥٠ ] لما وقع هذا وجاوزوا البحر كانوا في الحقيقة قوما غير طيبين ؛ لأنهم لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعبدون الأصنام، أتوا على قوم يعكفون وراء البحر لما جاوزه، وهؤلاء القوم يقول بعض المؤرخين : أنهم من لخم قبيلة العرب المشهورة. وبعضهم يقول : من لخم وجذام. وبعضهم يقول : هم من الكنعانيين الذين أمروا بقتالهم في البلاد المقدسة. وكان ابن جرير يقول : أصنامهم أمثلة البقر، فلما رأوا أمثلة البقرة كأنهم من ذلك الوقت أحبوا عبادة البقر ؛ ولذلك أخرج لهم السامري العجل كما هو معروف، وكان بعض المؤرخين يقول : هم قوم كانوا نازلين بالرقة من مصر. ويقولون : أنها من الريف، قريب من الساحل، يوصل منها إلى الفيوم. هكذا يقولون –والله تعالى أعلم-.
وعلى كل حال فلما جاوز الله بهم البحر بعد هذه الآيات والعبر وهذه النعم العظيمة طلبوا من نبيهم عبادة الأوثان –والعياذ بالله- وهذا يذل على عدم الطيب ؛ ولذا قال :﴿ وجوزنا بني إسرائيل البحر فأتوا على قوم ﴾ ﴿ فأتوا على قوم ﴾ معناه : مروا على قوم.
﴿ يعكفون على أصنام لهم ﴾ قرأ هذا الحرف جمهور القراء منهم السبعة غير حمزة والكسائي :﴿ يعكفون على أصنام لهم ﴾ بضم الكاف. وقرأه من السبعة حمزة والكسائي :﴿ يعكفون على أصنام لهم ﴾ بكسر الكاف. وهما قراءتان سبعيتان صحيحتان، ولغتان عربيتان فصيحتان.
والعكوف : معناه الإقامة، أي : يقيمون ملازمين عبادة الأصنام.
﴿ على أصنام لهم ﴾ يعكفون مقيمين عليها دائما يعبدونها، ويقال : إنها تماثيل بقر كما قاله ابن جريج.
﴿ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها ﴾ صنما مثل أصنام هؤلاء نعبده ﴿ كما لهم آلهة ﴾ ( ما ) بقوله :﴿ كما لهم آلهة ) قيل : هي كافة للكاف ؛ ولذا جاءت بعدها جملة. وبعضهم يقول : هي مصدرية. وبعضهم يقول : موصولة. والخطب في ذلك سهل. والمعنى : كما أن هؤلاء لهم آلهة فاجعل لنا إلها كآلهتهم نعبده –والعياذ بالله- وبعض العلماء يقول : هم كفروا بهذا القول ؛ لأن من طلب عبادة غير الله فقد كفر. وقال بعض العلماء : كانوا قوما يتمكن منهم الجهل، يظنون أن من تقرب إلى الله بعبادة غيره أن ذلك يقربه إلى الله ! ! ويعتقدون أن ذلك يصح ! وهذا غاية الجهل، كما قال لهم نبي الله موسى :{ إنكم قوم تجهلون ﴾ وصفهم بالجهل المطلق، وجاء بصيغة المضارع يشير إلى أن الجهل كأنه معهم في الحال والمستقبل لا يفارقهم.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر :﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون ﴾ وقرأه ابن عامر وحده من السبعة :﴿ وإذ أنجاكم من آل فرعون ﴾ من غير ياء ولا نون. فعلى قراءة ابن عامر : اذكروا إذ أنجاكم الله. أناجكم هو، أي : الله. وعلى قراءة الجمهور :﴿ أنجيناكم ﴾ فالنون للتعظيم، والله هو المتكلم بذلك معظما لنفسه. وقوله : واذكروا ﴿ إذ أنجيناكم ﴾ حين أنجيناكم ﴿ من آل فرعون ﴾ أي : من فرعون وقومه.
﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ قال بعض العلماء :﴿ يسومونكم ﴾ يبغونكم سوء العذاب، كما تقول لمن طلب السلعة : سامها. والعلماء يقولون : سامه كذا. إذا أذاقه إياه، ومنه : سامه العذاب إذا أذاقه إياه، ومنه : سامه العذاب إذا أذاقه العذاب وكلفه إياه. وهو معنى مشهور في كلام العرب. ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
إذا ما الملك سام الناس خسفا | أبينا أن نقر الذل فينا |
﴿ يقتلون أبناءكم ﴾ قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع :﴿ يقتلون أبناءكم ﴾ وقرأه نافع وحده :﴿ يقتلون أبناءكم ﴾ بسكون القاف وضم التاء. وقرأ مع نافع ابن كثير :﴿ سنقتل أبناءهم ﴾ [ الأعراف : آية ١٢٧ ] والجمهور يقرؤون :﴿ سنقتل ﴾ و ﴿ يقتلون ﴾ بصيغة التضعيف ؛ لأن التضعيف يدل على التكثير، يقتل أولادهم كثيرا. وهذا معنى قوله :﴿ يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ أي : إناثكم يتركوهن حيات.
وفي هذه الآية الكريمة ونظائرها في القرآن سؤال معروف، وهو أن التحقيق في قوله :﴿ يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ كأنه بدل من قوله :﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ [ الأعراف : آية ١٤١ ] فتقتيل الأبناء واستحياء النساء هو من نفس سوء العذاب الذي كان يسومهم. ووجه السؤال هو أن يقال : أما تقتيل الأبناء فكونه من العذاب الذي يسومهم به [ فظاهر ] ( ما بين المعقوفتين [ ] زيادة بها الكلام )، وأما استحياء النساء فمن أين كان يعد من جملة العذاب الذي يسومهم ؛ لأن استحياءها قد يسبق إلى الذهن إنه خير من موتها، وأن بقاء أحد الولدين خير من موتهما جميعا، والإناث هبة من الله أيضا، كما قال تعالى :﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ [ الشورى : آية ٤٩ ] فوجه السؤال : كيف عد استحياء النساء من جملة العذاب الذي يسومهم، مع أن ترك قتلهم أهون، كما قال :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا | خراش وبعض الشر أهون من بعض |
وأجاب بعض العلماء عن هذا السؤال : بأن استحياء الأنثى قد يكون خيرا ( في هذا الموضوع ذهب التسجيل. وتجد جواب هذا السؤال فيما مضى عند تفسير الآية ( ٤٩ ) من سورة البقرة وما بين المعقوفين نقلته منه ( بتصرف ) ) [ من تذبيح الكل، كما قال الهذلي :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجي | خراش وبعض الشر أهون من بعض |
مودة تهوى عمر شيخ يسره | لها الموت قبل الليل لو أنها تدري |
يخاف عليها جفوة الناس بعده | ولا ختنا يرجى أود من القبر |
إني وإن سيق إلي المهر | ألف وعبدان وذود عشر |
وفي شعر الحماسة :
تهوي حياتي وأهوى موتها شفقا | والموت أكرم نزال على الحرم |
لقد زاد الحياة إلي حبا | بناتي، أنهن من الضعاف |
فأكره أن يرين البؤس بعدي | وأن يشربن كدرا بعد صافي |
أحدهما : أنها راجعة إلى الإنجاء : أنجيناكم وفي ذلك الإنجاء بلاء، أي : بلاء بالنعمة من الله عظيم عليكم.
القول الثاني : أن الإشارة في قوله :﴿ ذالكم ﴾ راجعة إلى ما يسومهم من سوء العذاب من تقتيل الأبناء، وعليه فقوله :﴿ بلاء ﴾ [ الأعراف : آية ١٤١ ] أي : بلاء بالشر –والعياذ بالله- عظيم من ربكم.
والبلاء يكون بالخير ويكون بالشر كما هو معروف، ﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٨ ].
قرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو :﴿ وواعدنا موسى ﴾ بألف بين الواو والعين من المواعدة. وقرأه أبو عمرو وحده :﴿ ووعدنا موسى ثلاثين ليلة ﴾ من غير ألف بين الواو والعين. ومعنى القراءتين واحد.
﴿ وواعدنا موسى ﴾ صيغة الجمع في قوله :﴿ وواعدنا ﴾ للتعظيم، كان الله وعد نبيه موسى أنه إن أهلك عدوه وأراح قومه من تعذيب فرعون وإهانته لهم أن الله ينزل عليه كتابا فيه شرع تام، وأوامر ونواهي، وشريعة كاملة ؛ وذلك الكتاب الموعود به هو التوراة، فلما جاوزوا البحر جاء وقت الميقات فذهب موسى إلى الميقات، وكان أولا ثلاثين، وقال لبني إسرائيل : إن الميقات ثلاثون فقط ؛ لأنه ما كان يدري عن العشرة التي صار بها أربعين. والمفسرون يقولون : إن سبب العشرة : أن الله وعد موسى ثلاثين ليلة –يقول جماهير من أهل التفسير : أنها هي شهر ذي القعدة، وأولها من ذي القعدة، وأن العشر الذي يتم بها أربعون : عشر ذي الحجة، وأن إعطاء التوراة كان يوم النحر في اليوم العاشر، انتهاء العشر. يقولون : إن الله لما أراد الميعاد مع موسى واعده ثلاثين ليلة- ليصوم فيها وينقطع للعبادة لمناجاة الله ؛ فلما صام ثلاثين يقول المفسرون : إنه لما صام ثلاثين يوما أحس بخلوف فمه –خلوف فم الصائم- فاستاك فغير السواك ريح خلوف الفم، وأن الملائكة قالوا : كنا نشم من فيك ريح المسك فأفسدته بالسواك، وأنه لما استاك بعد ثلاثين أمره الله أن يصوم عشرة أيام أخر لأجل أن يرجع له خلوف الفم، ويكون وقت المناجاة عند انتهاء الميقات وفمه فيه خلوف الصائم، وخلوف فم الصائم معروف، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :﴿ لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ﴾. وهذا معنى قوله :﴿ ووعدنا موسى ثلاثين ليلة ﴾ يصوم أيامها ويتعبد هذه المدة قبل المناجاة ؛ وذلك يدل أنه ينبغي العبادات والانقطاع إلى الله قبل مناجاته.
﴿ وأتممناها بعشر ﴾ كما ذكرنا.
﴿ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٢ ] بالعشر التي زيدت على الثلاثين، ومعلوم أن العشر إن زيدت على الثلاثين صارت أربعين كما قال :﴿ فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ﴾ [ البقرة : آية ١٩٦ ] وبعضهم يقول : نص على الأربعين لئلا يتوهم متوهم أن الثلاثين تممت بعشر من الثلاثين، بل بين أنها تممت بشيء زائد على الثلاثين، وهذا معنى قوله :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ﴾ ليصومها ويتعبد فيها فيناجيه الله وينزل عليه الكتاب المعروف التوراة ﴿ وأتممناها بعشر ﴾ للسبب الذي ذكرنا ﴿ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٢ ] يقولون : إن انتهاءها عاشر ذي الحجة، وأن الله أنزل عليه التوراة في عشر ذي الحجة.
قال بعض العلماء : هذه الآية الكريمة يؤخذ منها بعض الأحكام : وهي أن ضرب التأجيل وتحديد المدة للميعاد ونحوه أنه أمر معروف قديم، فيدل على ضرب الأجل، والتحديد بثلاثين أو أربعين لموعد ونحو ذلك كدين أو غيره مما يحتاج إلى الآجال.
وقال جماعة من العلماء : هذه الآية من سورة الأعراف دلت على أن التأريخ بالليالي لا بالأيام، وذلك هو المقرر في فن العربية كما دلت عليه هذه الآية أن التأريخ بالليالي لا بالأيام، فتقول : وقع هذا لكذا وكذا ليلة. ولا تقول : لكذا يوما. فالتأريخ بالليالي ؛ لأن الليالي أوائل الشهور وهي سابقة للأيام، فالتأريخ بها لا بالأيام، وهذه الآية نص صريح في ذلك ؛ لأن الله قال :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ﴾ ولم يقل : ثلاثين يوما. وقال :﴿ وأتتمناها بعشر ﴾ حذف منها التاء ولم يقل :( بعشرة ) ؛ لأن الليالي مؤنثة، ولو أراد الأيام لقال :( بعشرة ). بالتاء كما هو معروف في محله، وهذا معنى قوله :﴿ وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه ﴾ الميقات :( مفعال ) من الوقت، أي : الزمان المؤقت لهذه المناجاة وإعطاء هذا الكتاب العظيم الذي هو التوراة ﴿ فتم ميقات ربه أربعين ليلة [ الأعراف : آية ١٤٢ ] أي : ولما تم ذلك الميقات ناجاه الله وكلمه الله. وسيأتي تكليمه له قريبا في الآيات الآتية، وأعطاه التوراة كما سيأتي موضحا في هذه السورة الكريمة ؛ ولما أراد موسى أن يغيب عن قومه وكل أخاه هارون على قومه ؛ لأن موسى هو الذي نبئ وأرسل أولا، وهو الذي شفع لأخيه في الرسالة فكأنه هو الأصل في هذا كله، وهارون إنما نبأه الله لما سأله موسى ذلك كما في قوله :{ قال قد أوتيت سؤالك يا موسى ٣٦ ﴾ [ طه : آية ٣٦ ] لما أراد السفر إلى الميقات للمناجاة قال : يا هارون ﴿ اخلفني في قومي ﴾ معنى :﴿ اخلفني في قومي ﴾ أي : كن خليفتي فيهم ﴿ وأصلح ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٢ ] يعني : أصلح كل ما يحتاج إلى الإصلاح من أمرهم، وإذا رأيت من يريد الفساد كمن يريد عبادة العجل لا تتبع سبيله، بل كن على الإصلاح دائما، كن خليفتي فيهم وافعل فيهم ما كنت أفعل، وكن مصلحا كل ما يحتاج إلى الإصلاح، ولا تتبع سبيل من أراد الفساد. هذه وصية موسى لأخيه هارون لما أراد السفر، ولما عجل عن قومه، وجاء ربه للميقات، وسأله ربه عن سبب عجلته عنهم ﴿ وما أعجلك عن قومك يا موسى ٨٣ قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى ٨٤ ﴾ [ طه : الآيتان ٨٣، ٨٤ ].
( لما ) هذه هي التي تربط شرطا بجزاء، وقد قدمنا أن علماء العربية اختلفوا فيها : هل هي حرف أو اسم ؟.
﴿ ولما جاء موسى ﴾ نبي الله موسى بن عمران ﴿ لميقاتنا ﴾ أي : جاء للوقت الذي حددناه له للميعاد للمناجاة وإعطاء التوراة بعد انتهاء الأربعين يوما كما تقدم إيضاحه، كما تقول : جاءني فلان لستة خلون من شهر كذا، لما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه وسمع كلام الله ( جل وعلا ) اشتاق موسى إلى رؤية الله لما كلمه الله، قال موسى لربه :﴿ رب أرني أنظر إليك ﴾ ( رب ) أصله : يا ربي. حذفت أداة النداء، وحذفت ياء المتكلم اكتفاء عنها بالكسرة. وحذف ياء المتكلم إحدى اللغات الخمس المشهورة في المنادى إن كان صحيح الآخر، مضافا إلى ياء المتكلم كما هو معروف في محله.
وقوله :﴿ أرني ﴾ قرأ هذا الحرف جماهير القراء منهم السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو ﴿ أرني ﴾ بكسر الراء كسرة تامة. وقرأ هذا الحرف ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو :﴿ أرني أنظر إليك ﴾ بسكون الراء. وقرأه الدوري عن أبي عمرو بكسرة مختلسة. فتحصل أن جميع القراء غير ابن كثير، وأبي عمرو قرؤوا :﴿ أرني ﴾ بكسرة تامة، وأن ابن كثير قرأ بسكون الراء، وكذلك قرأه السوسي عن أبي عمرو، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بكسرة مختلسة -وقد قدمنا- بأن هذه القراءات في :﴿ أرني أنظر إليك ﴾ هي بعينها في قوله :﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ [ البقرة : آية ١٢٨ ].
وفي إسكان الراء في القراءة السبعية إشكال، فلطالب العلم أن يقول : ما وجه إسكان الراء ﴿ أرني أنظر إليك ﴾ في قراءة ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو ؟
والجواب عن هذا السؤال : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أنها ربما اعتبرت العين كأنها لام، وكانت العين وراءها حرف لين محذوف لأمر أو لجزم –مثلا- فتتخيل العرب العين كأنها اللام وتنزلها منزلة الحرف الأخير فتسكنها، ونظير هذا في القراءات : قراءة حفص في سورة النور : وقوله تعالى :﴿ ومن يطيع الله ورسوله ويخش الله ويتقه ﴾ [ النور : آية ٥٢ ] بسكون القاف، قوله :﴿ ويتقه ﴾ كقوله هنا :﴿ أرني ﴾ في قراءة ابن كثير والسوسي، وهذا معروف في كلام العرب، ومن أساليب اللغة أن العين المتحركة إذا كانت بعدها لام محذوفة حرف علة أنهم ربما اعتدوا بالعين فتخيلوا أنها اللام فسكنوها للأمر، وعليه قراءة :﴿ ويخش الله ويتقه ﴾ وقوله :﴿ أرنا مناسكنا ﴾ [ البقرة : آية ١٢٨ ] ﴿ أرني أنظر إليك ﴾ ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
أرنا إداوة عبد الله نملؤها | من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا |
ومن يتق فإن الله معه | فرزق الله مؤتاب وغاد |
قالت سليمي اشتر لنا سويقا | وهات خبز البر أو دقيقا |
لو كنت يا سلمى لذا مطيقا | ما كان عيشي عندكم طميقا |
قال بعض العلماء : مفعول ( أرني ) الثاني محذوف. أي : أرني نفسك أنظر إليك، والفعل المضارع مجزوم بجواب الطلب، فقد قدمنا أن علماء العربية يقول جماعة منهم : إن المضارع المجزوم في جواب الطلب إنه مجزوم بشرط محذوف. أي : إن ترني أنظر إليك.
ولما قال موسى هذا وسأل ربه أن يريه ينظر إليه، طلب الله النظر إليه ( جل وعلا )، قال الله مجيبا لموسى :﴿ لن تراني ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٣ ] ( لن ) هنا حرف نفي ﴿ لن تراني ﴾ يعني : لن تراني في هذه الدار الدنيا كما سنوضحه قريبا إن شاء الله، والمعنى : أنت أضعف يا موسى من أن تقدر على رؤية خالق السموات والأرض، لأن شأنه أعظم وأمره أكبر وأجل من أن يقدر على رؤيته أحد في الدنيا ؛ لأن الناس في الدنيا مركبون تركيبا لا يبلغ غاية القوة، معرضون للموت والهلاك، فأنت بهذه الدار لا تقدر أن ترى رب السموات والأرض، وهذا هو التحقيق في الآية كما سنوضحه إن شاء الله. ثم إن الله كأنه يقول له : هذا الجبل لا شك أنه أقوى منك وأصلب، فهو إذن سأتجلى له، فإن تحمل الجبل رؤيتي وتجلي له فأنت يمكن أن تقدر وستراني، وإن عجز الجبل عند ذلك –صار دكا وصار فتاتا ترابا- علمت أن الشيء الذي يدك الجبال لا يقدر عليه الدم واللحم منك يا موسى، وهذا معنى قوله :﴿ لن تراني ولاكن انظر إلى الجبل ﴾ مع قوته وصلابته ﴿ فإن استقر مكانه ﴾ وتحمل تجلي له فيمكن أن تراني، وإن صار الجبل فتاتا فالذي يدك الجبال لا تقدر عليه أنت يا موسى، فأنت أضعف من أن تتحمل ذلك، وهذا معنى قوله :﴿ فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل ﴾ جاء في حديث عند الحاكم أن الله كشف من نوره شيئا قليلا بقدر بعض الخنصر، فلما كشفه وظهر للجبل صار الجبل دكا، اندك الجبل حتى استوى بالتراب، وصار ترابا.
﴿ وخر موسى صعقا ﴾ الصحيح أن معنى قوله :﴿ صعقا ﴾ : مغشيا عليه، خلافا لقتادة القائل :( خر صعقا ) أي : ميتا. وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن معنى ( صعقا ) : مغشيا عليه، وهي قوله :﴿ فلما أفاق ﴾ لأن الإفاقة من الغشية والموت يقال : بعثه بعد الموت. لا أفاق بعد غشيته منها. وهذا معنى قوله :﴿ فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة والكسائي ﴿ جعله دكا ﴾ مصدر بمعنى اسم المفعول، وقراه حمزة والكسائي :﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاء وخر موسى صعقا ﴾.
أما على القراءة الجمهور : صار الجبل دكا، أي : مدكوكا، والدك : أصله طحن الجبال، فطحنه الله. قال بعضهم : حتى استوى بالتراب وصار فتاتا ترابا لعظمة رب العالمين ( جل وعلا ). فتبين لموسى أن الله لو تجلى له –يعني- لما أطاق ذلك ؛ ولأن ما فتت الجبال لا يقدر على حمله موسى، وهذا معنى الآية.
ومعلوم أن المعتزلة والخوارج وبعض الضلال يستدلون بهذه الآية من سورة الأعراف على أن رؤية الله مستحيلة بتاتا في الدنيا والآخرة، ويزعمون أن ( لن ) في قوله :﴿ لن تراني ﴾ أنها للنفي المؤبد في المستقبل وأنها تنفي الرؤية مستقبلا بتاتا في الدنيا والآخرة، وأن موسى تاب إلى الله من هذا الطلب، حيث قال :﴿ تبت إليك ﴾.
والتحقيق الذي لا شك فيه الذي يجب على كل مسلم اعتقاده في شأن رؤية الله ( جل وعلا ) أنها بدار الدنيا جائزة عقلا غير واقعة شرعا. أما جوازها عقلا فمن أعظم الأدلة عليه : أن نبي الله موسى طلبها من ربه، ولا يخفى على موسى الجائز عقلا من المستحيل عقلا، فمن المحال الباطل أن يكون نبي الله موسى يجهل المستحيل بحق الله ويعلمه أشياخ القدرية الجهلة الضلال ! ! أشياخ المعتزلة الجهلة الضلال ! ! هذا مما لا يكون ولا يقع ! ! فقول موسى :﴿ رب أرني أنظر إليك ﴾ يدل على أن رؤية الله في دار الدنيا جائزة عقلا، والذي منع منها عجز الآدميين عن تحملها ؛ لأن الله لما تجلى للجبل اندك الجبل، فما بالك باللحم والدم ؟ ! فهي في دار الدنيا جائزة عقلا، وأما في الآخرة فلا شك أنها واقعة، ومن أنكرها فهو ملحد في دين الله، ضال مضل منابذ للسنة المتواترة والقرآن العظيم. فلا شك أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وقد جاءت آيات تدل على ذلك كقوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ١٣ ﴾ [ القيامة : الآيتان ٢٢، ٢٣ ] وقوله :﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ١٥ ﴾ [ المطففين : آية ١٥ ] يفهم من دليل خطابه –أعني مفهوم مخالفته- أن المؤمنين ليسوا يومئذ محجوبون عند ربهم، وقد استحسن العلماء استدلال الإمام الشافعي ( رحمه الله ) بهذه الآية على رؤية الله يوم القيامة، أما الأحاديث فحدث ولا حرج، فقد تواترت الأحاديث الصحاح في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد والأجزاء عن نحو من عشرين صحابيا كراما فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ولا يكاد ينازع من له إنصاف، في تواتر أحاديث رؤية الله يوم القيامة.
وجاء في الصحيحين وغيرهما [ أحاديث كثيرة تدل على ذلك، وقد ] ( في هذا الموضوع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) روى رؤية الله يوم القيامة عن النبي نحو من عشرين صحابيا والأحاديث في ذلك متواترة مشهورة منها :( إنكم ترون ربكم عيانا هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها حجاب ؟ هل تضارون في رؤية القمر ليس دونه حجاب ؟ إنكم ترون ربكم كذلك ) ( إنكم ترون الله كما ترون القمر ) وأحاديث الرؤية صحيحة متواترة لا يطعن فيها إلا ملحد، والمعتزلة يحاولون دفعها، وهي لا تدفع بالتأويلات الباطلة، والكلام الذي لا طائل تحته، فتحصل أن التحقيق أن رؤية المؤمنين لربهم أنها في دار الدنيا جائزة عقلا، وأنها في الآخرة واقعة شرعا، فهي في دار الدنيا جائزة عقلا غير واقعة شرعا، وفي الآخرة واقعة شرعا بلا نزاع ممن يعتد به لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث المتواترة.
وما استدل به المعتزلة على استحالة رؤية الله : أما الأدلة العقلية التي يزعمون فكلها فلسفات باطلة لا طائل تحتها، كزعمهم أن رؤية الله تستلزم الجهة، وأن ذلك محال، وتستلزم أنواعا من المقابلات، وأن كل ذلك محال، وأنهم يقولون : لو خيلنا أن بين العبد وربه حين يراه شكلا مثلثا، فشعاع العين الذي يمشي مع المستقيم يسبق إليه ( جل وعلا ) قبل الذي يمشي مع الزاوية المنفرجة فيسبق هذا هذا، وهذا محال. وهو كلام كله باطل وضلال لا طائل تحته ! !
وما استدلوا به من قوله :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ فقد أجاب العلماء عنه بأن المنفي بقوله :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ [ الأنعام : آية ١٠٣ ] الإدراك المشعر بالإحاطة، وأما مطلق الرؤية فليس هو المنفي في ذلك بدليل قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ٢٣ ﴾ [ القيامة : الآيتان ٢٢، ٢٣ ] فما يدعونه من الاستحالات العقلية لا طائل تحته.
وما تمسكوا به من النقل لا حجة لهم فيه، والتحقيق الذي لا شك فيه أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة لا يضارون في ذلك، كما صرح به الصادق المصدوق ورواه عنه نحو عشرين صحابيا من أصحابه ( رضي الله عنهم ). هذا هو التحقيق في هذا المقام.
وقول المعتزلة :( إن ( لن ) حرف نفي يدل على نفي الشيء للمستقبل نفيا باتا ) هو كذب أيضا، وتقول على اللغة العربية بما ليس منها ! ! والذي دلت عليه أدلة العربية الواردة في القرآن الذي هو في الطرف الأعلى من الفصاحة والإعجاز دل على أن قول المعتزلة هذا بأن ( لن ) إنها للنفي في المستقبل نفيا أبديا باتا هذا باطل كذب.
وقد دلت ثلاث آيات من كتاب الله على كذب هذا القول، وأنه ليس بصحيح :
إحداها : أن ( لن ) لو كانت نصا صريحا في النفي المستقبل البات الأبدي لما جاز تقييد نفيها في يوم ولا ظرف معين، وقد جاء بالقرآن تقييد نفيها بيوم معين، في قوله :﴿ فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾ [ مريم : آية ٢٦ ] لو كان نفي ( لن ) للكلام نفيا مؤبدا إلى يوم القيامة لكان قول مريم مناقضا لذلك التأبيد كما ترى.
الموضوع الثاني : أن ( لن ) لو كانت تقتضي التأبيد الأبدي
والاصطفاء معناه : الاختيار. أي : اخترتك على الناس ﴿ برسالتي ﴾.
قرأ هذا الحرف جمهور القراء غير نافع وابن كثير :﴿ برسالتي وبكلامي ﴾ بصيغة الجمع المؤنث السالم، وقرأه من السبعة نافع وابن كثير :﴿ إني اصطفيتك على الناس برسالتي ﴾ بالإفراد، ومعنى القراءتين واحد ؛ لأن الرسالة أضيفت إلى معرفة فهي تعم، وتكون بمعنى الجمع كما هو معروف.
﴿ برسالتي وبكلامي ﴾ الذي كلمتك به ﴿ فخذ ما آتيتك ﴾. ﴿ ما آتيتك ﴾ وهو التوراة. يعني : خذها كما يأتي :﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٥ ].
﴿ وكن من الشاكرين ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٤ ] لله على هذه النعم العظام حيث كلمك، وأهلك عدوك، وكتب لك هذا الكتاب العظيم الذي هو التوراة.
وقوله :﴿ من الشاكرين ﴾ الشاكرون جمع الشاكر، وهو اسم فاعل الشكر. وقد قدمنا مرارا أن الشكر في لغة العرب : الظهور، ومنه :( ناقة شكور ) يظهر عليها السمن، و( الشكير ) : الغصن الذي يظهر في الجذع الذي كان مقطوعا كما هو معروف.
والشكر في القرآن يطلق من الرب لعبده، ومن العبد لربه، كما قال في شكر الرب لعبده :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله ﴾ إلى قوله :﴿ ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ﴾ [ البقرة : آية ١٥٨ ]، وقوله :﴿ إن ربنا لغفور شكور ﴾ [ فاطر : آية ٣٤ ] ومعنى شكر الرب لعبده : هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل. ويطلق الشكر من العبد لربه كقوله :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ [ سبأ : آية ١٣ ] ﴿ أن اشكر لي ولوالديك ﴾ [ لقمان : آية ١٤ ] وضابط شكر العبد لربه : هو أن يصرف نعمته بما يرضيه.
اعلموا أيها الإخوان أن شكر خالقنا واجب علينا، فهذه العيون التي فتح الله في أوجهكم من أعظم نعمه عليكم، فمن شكرها : أن لا تنظروا بهذه العيون إلا ما يرضي من خلقها وتفضيل عليكم بها، أما النظر في المحرمات فلا ينبغي للعبد أن يستعمل نعمة الله فيما يغضب الله ويسخطه، فهذا أمر فضيع شنيع ! ! من الله عليكم بهذه الأيدي، وفرق أصابعها، وأبعد إبهامها من الأصابع ليمكنكم العقد والحل، وشد رؤوسها لكم بالأظفار، فشكر هذه الأيدي : ألا تبطشوا بها، ولا تتناولوا بها إلا ما يرضي من خلقها وامتن عليكم بها، وهكذا في سائر الأعضاء والجوارح، والجاه والمال، وغير ذلك، فلا تستعينوا على سخط الله بنعم الله، بل اشكروا الله نعمه، واصرفوا نعمه فيما يرضيه، واعلموا أن من أقبح القبائح وأرذل الرذائل أن يكون العبد الضعيف الحقير يمن عليه خالق السموات والأرض ( جل وعلا ) مع عظمته وجلاله بنعمه ثم إنه يصرف نعمه فيما يغضبه ويسخطه ! ! هذا من أقبح الأفعال وأخسها، ومن له عقل يستحي من أن يفعل ذلك.
واعلموا أن مادة ( الشكر ) تتعدى إلى النعمة بنفسها بالإجماع، كقوله :﴿ اوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ﴾ [ النمل : آية ١٩ ] أما تعدي مادة ( الشكر ) إلى المنعم فاللغة الفصحى أنها تتعدى باللام، وبالغ قوم من علماء العربية فقالوا : لا يجوز تعديها بنفسها، وهذا إفراط شديد ! ! فمثلا لو قلت : نحمد الله ونشكره. هذا لا ينبغي أن يقال ! ! وليس هو الأولى. وزعم بعضهم أنه لا يجوز. فيقول : نحمد الله ونشكر له. ولا يقول : ونشكره. ومن دواعي أن :( ونشكره )، وأن تعدي مادة الشكر إلى المفعول الذي هو المنعم بنفسها لا يجوز ؛ خلاف التحقيق.
والحق الفصل الذي لا شك فيه في هذا المقام : أن اللغة الفصحى أن تتعدى إليه باللام لا بنفسها، وأن تقول : نحمد الله ونشكر له. هذه اللغة الفصحى بلا نزاع. وهي لغة القرآن، يقول :﴿ أن اشكر لي ولوالديك ﴾ [ لقمان : آية ١٤ ] و لم يقل : أن اشكرني. يقول :﴿ واشكر لي ولا تكفرون ﴾ [ البقرة : آية ١٥٢ ] ولم يقل : واشكروني. أما قولهم : إن مثل قوله :( أحمده وأشكره ) أنه لحن لا يجوز. فليس بصواب، بل ( أشكره ) لغة مفضولة، و( أشكر له ) هي اللغة الفصحى، وقد جاء عن العرب أنهم يعدون –مثلا- الشكر إلى المنعم بلا واسطة الحرف، وهو متبوع في كلامهم، ومن أمثلته في كلامهم قول أبي نخيلة :
شكرتك إن الشكر حبل من التقي | ومن كل من أوليته نعمة يقضي |
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما | على عذبة النياب طيبة النشر |
فإنكما إن عجتما لي ساعة | شكرتكما حتى أغيب في قبري |
وقول الله في هذه الآية :﴿ إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٤ ] صفة الكلام هي التي جاء بها الذين يبحثون عن الكلام، وجاؤوا ببلايا، وجاؤوا بعلم الكلام، وغيروا عقائد الناس، وجاءت البلايا من ذلك الوقت لما دخل علم الكلام في المسلمين، وصاروا يحكمون العقل في صفات الله تعالى، وينفون الصفات بالتأويلات، بزعمهم أن العقل يمنعها، جاء من ذلك شر كبير، ومصدر هذا الشر الكبير، عسى الله أن يعفو عن المأمور فيه ؛ هو أول من ترجم الكتب اليونانية، وكان منها هذه المقاييس المنطقية، وقد قدمنا لكم مرارا أن الطريق الأحوط الذي ينجي المسلم ويخلصه من القيل والقال والبلايا كلها حتى يلقى الله سالما على أساس صحيح في نور القرآن العظيم هو أن يلتزم الأسس الثلاثة التي أكثرنا من تكرارها في هذه الدروس، ونحن كررناها قصدا لشدة الحاجة إليها، وكثرة من غفل عنها من المتعلمين، وقد بينا لكم مرارا أن من أراد منكم أن يلقى الله سالما ويتخلص من هذا المأزق في آيات الصفات، كصفة الكلام، وصفة اليد، والاستواء وجميع الصفات أن يبنيه على ثلاثة أسس :
أولها : هو أساس العقيدة الصحيحة : تنزيه خالق السموات والأرض عن مشابهة خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم. والخلق صنعة، وهو ( جل وعلا ) صانعها، والصنعة لا تشبه صانعها لا في ذاته، ولا في فعله، ولا في صفته. فإذا استقر هذا الأساس الأعظم في القلوب وطهرت من أقذار التشبيه، وغلب عليها تنزيه خالق السموات والأرض عن مشابهة خلقه سهل عليها :
الأساس الثاني : وهو أن نؤمن بصفات الله الثابتة في كتابه وسنة رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم إيمانا مبنيا على أساسا ذلك التنزيه. ونحن نكرر لكم مرارا أن هذا التعليم ما قلناه من تلقاء أنفسنا، لا والله وكلا، ولكنا نقوله في ضوء المحكم المنزل، كلام رب العالمين، لأنه أوضح هذا إيضاحا شافيا لا يترك في الحق لبسا، وذلك أنه لما قال :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ أتبعه بقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ فجميع الحيوانات تبصر – ولله المثل الأعلى- فكأن الله يقول لك في هذه الآية : يا عبدي لا تتنطع وكن عاقلا، ولا تذهب بصفتي إلى صفة خلقي فتكون مشبها، وتضطر إلى التأويلات والبلايا، بل لاحظ في إثبات الصفات أني لا مثيل لي ولا نظير، وأثبت لي صفاتي على ذلك الشرط المعين ؛ ولذا جاء بقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] أي : أثبت لي سمعي وبصري، ولا تذهب بهما إلى مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم، بل أثبتهما على أساس ما ذكرت قبلهما، وهو :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فتثبت له سمعه وبصره على أساس التنزيه والتقديس والتكريم عن مشابهة صفات المخلوقين، فتكون أولا منزها، وثانيا مثبتا على أساس التنزيه، وإن جئت يوم القيامة لا يأتيك لوم ولا توبيخ من أنك نزهت الله، والله لا يقول لك الله : لم كنت تنزهني في دار الدنيا عن مشابهة خلقي ؟ لا أبدا. هذا طريق سلامة محقق. ولا يقول لك : لم كنت تصدقني في صفاتي التي مدحت بها نفسي وأثني علي بها رسولي صلى الله عليه وسلم ؟ وعليك أن تقف عند حدك ( لم يذكر الأساس الثالث وقد ذكره في الوضع السابق عند الكلام على هذا الموضوع، وهو قطع الطمع عن إدراك كيفيات الصفات ).
هذا ذكرناه مرارا مطولا ومختصرا، فعلينا أن ننزه خالقنا عملا بقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ﴿ ولم يكن له كفوا أحد ٤ ﴾ [ الإخلاص : آية ٤ ] ﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾ [ النحل : آية ٧٤ ] وعلينا أن نصدقه بما وصف به نفسه، ولا نقول : هذا نص يوهم غير اللائق ! ! فنثبت :﴿ وهو السميع البصير ﴾ على أساس :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] ولا نقول : هذا نص يوهم غير اللائق ؛ لأن الحيوانات تسمع وتبصر فنؤوله ! ! لا نفعل ذلك، ونقف عند حدنا ﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ١١٠ ﴾ [ طه : آية ١١٠ ] ونعلم أن الله وصف نفسه بأن كلم موسى، وأكد ذلك التكليم في سورة النساء بالمصدر في قوله :﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ [ النساء : آية ١٦٤ ] يجب علينا أن نعلم أن الكلام صفة الله الأزلية، وأنه لم يتجرد يوما ما عن أنه يتلكم، وانه في كل يوم يتكلم بما شاء، كيف شاء، على الوجه اللائق بكلامه وجلاله المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين من جميع الجهات، ونمره كما جاء مع تنزيه الله وتعظيمه، ولا نأتي بشيء من المحالات والبلايا.
وهنا للمتكلمين ضلالات طويلة، وكلام باطل طويل في الكلام لا يسعه هذا المقام.
﴿ قوم موسى ﴾ هم بنوا إسرائيل، أي : واتخذ بنو إسرائيل ﴿ من حليهم ﴾ أصل هذا الحلي للقبط استعاره منهم الإسرائيليون لعرس أو ليوم زينة عندهم كانوا يتزينون فيه، وأمر موسى أن يسري ببني إسرائيل قبل أن يردوا الحلي للقبط، فسافروا به، وأهلك الله فرعون وقومه، وبقي ذلك الحلي المستعار منهم عند الإسرائيليين، فاتخذ السامري العجل من ذلك الحلي. وهنا قال :﴿ من حليهم ﴾ قال بعض العلماء : لأن الله أورثهم أموالهم بعدهم كما في قوله :﴿ كذلك وأورثناها بني إسرائيل ٥٩ ﴾ [ الشعراء : آية ٥٩ ] ولذا أضافه إليهم بعد هلاك فرعون وقومه. وقال بعض العلماء : الإضافة تقع بأدنى ملابسة، فلما كان تحت أيديهم عارية عندهم أضافه إليهم بهذه الملابسة، وقد بين في ( طه ) أنه من زينة قوم آخرين كما ذكر عن الإسرائيليين أنهم قالوا :﴿ ما اخلفنا موعدك بملكنا ولاكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ﴾ [ طه : آية ٨٧ ] وهي حلي القبط. هذا وضابط ذلك أن السامري –قبحه الله- موسى بن ظفر رأى جبريل لما جاء على فرس ليأخذ موسى إلى الميعاد، أو ليمشي أمام فرعون وقومه، والأكثرون يقولون : إن موسى لما أراد الله إتيانه للميعاد أرسل إليه جبريل. قالوا : وكان جبريل راكبا على فرس فلاحظها السامري، كل شيء مسه حافر تلك الفرس ينبت فيه النبات، فعرف السامري أن الله ( جل وعلا ) جعل في أثر تلك الفرس خاصة الحياة، فجاء وقبض قبضة من التراب الذي مسه حافر ذلك الفرس ثم أمسك ذلك التراب عنده، وكان السامري –قبحه الله- صائغا فصاغ ذلك العجل. يقول بعض المؤرخين : إنه بعد غيبة موسى قال لهارون : هذا الحل صار غنيمة، والغنائم لا تحل لكم فاجعلوه في النار ليكون قطعة واحدة ليكون ذلك أيسر لأمره حتى يأتي نبي الله موسى فيرى رأيه فيه، وأنهم لما جعلوه في النار صاغه السامري على صورة عجل، ولما صاغ ذلك الحلي على صورة عجل جعل فيه ذلك التراب الذي كان مدخرا له – الذي مسه حافر فرس جبريل وجعل فيه خاصة الحياة - فصار ذلك العجل جسدا له خوار. وقد أشار الله إلى هذا في سورة ( طه ) في قوله عن موسى والسامري :﴿ قال فما خطبك يا سامري ٩٥ قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول ﴾ يعني من أثر حافر فرس الرسول، يعني جبريل :﴿ فنبذتها ﴾ [ طه : الآيتان ٩٥، ٩٦ ] أي : على العجل. فجعله الله جسدا له خورا، فلما ألقى السامري ذلك التراب على العجل وصار ذلك العجل المصوغ من الحلي جسدا له خوار. الخوار في لغة العرب : هو أصوات البقر خاصة، تقول العرب : خارت البقر تخور وتخاورت البقر. أي : صوت بعضها إلى بعض، وهذا معروف في كلامهم، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي في غزوة حنين في معرض مدحه لسليم :
لا يغرسون فسيل النخل حولهم | ولا تخاور في مشتاهم البقر |
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي :﴿ من حليهم ﴾ بضم الحاء وتشديد الياء. والحلي أصله :( حلوي ) جمع حلي ( فعل ) مجموع على ( فعول ) وجمعه ( حلوي ) كفلس وفلوس، وظهر وظهور، وحلي وحلوي، اجتمعت فيه الواو والياء، أولاهما ساكنة غير عارضة ولا عارضة السكون، فوجب إبدال الواو ياء، وقلبت ضمة اللام كسرة لمجانسة الياء فقيل : من حليهم.
وقراه حمزة والكسائي :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم ﴾ بكسر الحاء إتباعا للام، وأصل الحاء مضمومة.
وقوله :﴿ عجلا ﴾ العجل ولد البقرة، ويجمع على عجاجل على غير قياس.
وقوله :﴿ عجلا جسدا ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٨ ] قال بعض العلماء : الجسد هو البدن الذي فيه اللحم والدم، ويدل لهذا قوله :﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ٨ ﴾ [ الأنبياء : آية ٨ ] واختلف العلماء في هذا العجل هل جعل الله فيه لحما ودما وجعله حيا، أو هو عجل باق في صورة الذهب والفضة إلا أن الرياح إذا دخلت في منافذه كان يسمع في داخله صوت يشبه أصوات البقر ؟ قال بكل منهما بعض العلماء.
وظاهر قوله :﴿ جسدا ﴾ أن الله جعله عجلا، والله ( جل وعلا ) قادر على كل شيء لا يتعاصى على قدرته شيء. وقوله الآتي :﴿ وانظر إلى إلاهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ﴾ [ طه : آية ٥٧ ] على أن التحريق معناه التحريق كما قاله جماعة من العلماء، فيظهر أن العجل صار جسدا لحما ودما ؛ لأن اللحم والدم إذا أحرق بالنار يبس وأمكن دقه ونسفه في البحر ؛ لأن الذهب والفضة لا يمكن دقهما ونسفهما في البحر، وأما على أن المعنى لنحرقنه : نبردنه بالمبارد كما تشهد له القراءة الأخرى :﴿ لنحرقنه ﴾ [ طه : آية ٩٧ ] فعلى هذا المعنى فالأليق أن يكون بقي ذهبا وفضة إلا أنه يصوت صوت البقر إذا دخلت الريح في داخله.
وقوله :﴿ عجلا جسدا له خوار ﴾ مفعول ( اتخذ ) الثاني محذوف لدلالة المقام عليه، أي : اتخذوا عجلا جسدا إلها معبودا من دون الله. فحذف المفعول الثاني لدلالة المقام عليه، وهذا هو التحقيق، والنكتة في حذفه : أنه لا ينبغي أن يتلفظ بأن عجلا مصطنعا إلها فحذف لهذه النكتة كما قاله بعضهم.
﴿ عجلا جسدا له خوار ﴾ قال في سورة طه : إن السامري لما اصطنعه لهم قال لهم :﴿ هذا إلاهكم وإلله موسى فنسي ﴾[ طه : آية ٨٨ ] فنسي موسى أن هذا إلهه، وذهب يطلبه في موضع آخر. وقال هنا :﴿ ألم يروا أنه لا يكلمكم ولا يهديهم سبيلا ﴾ قرر علماء التفسير أن كل فعل مضارع مجزوم ب( لم ) إذا جاءت همزة الاستفهام قبل لن ففيه في جميع القرآن وجهان معروفان لعلماء التفسير :
أحدهما : أن المضارع تنقلب مضارعته ماضوية، وينقلب نفيه إثباتا، فيصير قوله هنا :﴿ ألم يروا ﴾ يتقلب المضارع ماضيا، والنفي إثباتا، فيصير المعنى :﴿ ألم يروا أنه ﴾ أي : رأوا أنه لا يكلمهم، أي : علموا بذلك، وعليه فيكون معنى :﴿ ألم نشرح لك ﴾ [ الشرح : آية ١ ] شرحنا لك. ﴿ ألم أقل لك ﴾ [ الكهف : آية ٧٥ ] قلت لك، ﴿ ألم نجعل له عينين ٨ ﴾ [ البلد : آية ٨ ] جعلت له عينين، وهكذا.
أما انقلاب المضارعة ماضوبة فلا إشكال فيه ؛ لأن ( لم ) حرف قلب، تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى الماضي، كما هو معروف لا إشكال في.
أما وجه قلب النفي إثباتا : فالهمزة الداخلة على ( لم ) مضمنة معنى الإنكار، ففيها معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في ( لم ) فينفيه، ونفي النفي إثبات.
الوجه الثاني : أن الاستفهام في ( ألم ) في جميع القرآن هو استفهام تقرير، والمقرر في فن المعاني أن المراد باستفهام التقرير : هو حمل المخاطب على أن يقر ويقول : بلى. وعلى هذا فالمراد بالاستفهام : حمل المخاطبين على أن يقروا ويقولوا : بلى هو لا يكلم، ولا يهدي سبيلا، وليس بشيء يستحق ان يعبد. وهذا معنى قوله :﴿ ألم يروا أنه لا يكلمهم ﴾ ألم يروا أن هذا المعبود الذي افتروه واختلقوه لا يكلمهم ؟. والمعبود الحق لا بد أن يكون يكلم، ومعبود أهل السموات والأرض بالحق يقول عن كلام نفسه :﴿ لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ﴾ [ الكهف : آية ١٠٩ ] وفي الآية الأخرى :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ﴾ [ لقمان : آية ٢٧ ] هذه صفة المعبود حقا، أما الذي لا يقدر على أن يتكلم كلمة واحدة فهذا ليس بمعبود.
وقوله :﴿ ولا يهديهم سبيلا ﴾ المعبود هو الذي يهدي كما قال تعالى :﴿ قل الله يهدي أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي ﴾ [ يونس : آية ٣٥ ] أما الذي لا يهدي سبيلا أي : طريقا كائنا ما كان فلا يمكن أن يكون برب ولا بمعبود. فلما قرر ( جل وعلا ) أن هذا العجل الذي اتخذوه إلها تنتفي عنه الصفات التي يجب أن تكون للإله صرح بأنهم عبدوه وهم ظالمون في ذلك فقال :﴿ اتخذوه ﴾ اتخذوه إلها ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ ظالمين في ذلك.
وقد فسرنا الظلم مرارا، وبينا أن أصله في لغة العرب : وضع الشيء في غير موضعه، وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه : وضع العبادة في عجل مصطنع جماد ! ! من عبد هذا وأعطاه حق الله فقد وضع العبادة في غير موضعها، وأكبر أنواع الظلم : وضع العبادة في غير موضعها كظلم هؤلاء بعبادة هذا العجل ؛ ولأجل ذلك كثر في القرآن إطلاق الظلم على الشرك بالله كقوله :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ] وقوله :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٣ ] وقوله :﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ١٠٢ ﴾ [ يونس : آية ١٠٢ ] أي : من يعبد عجلا مصطنعا فهو من الظالمين الواضعين العبادة في غير موضعها كما هو ظاهر.
وتظن سلمى أنني أبغي بها | بدلا أراها في الضلال تهيم |
الاستعمال الثالث : هو استعمال العرب الضلال في الغيبة والاضمحلال، يقولون لكل شيء غاب واضمحل يقولون فيه : ضل، كقولهم : ضل السمن في الطعام. إذا غاب واضمحل فيه، ومنه بهذا المعنى قوله :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ [ الأنعام : ٢٤ ] وقوله :﴿ أءذا ضللنا في الأرض ﴾ [ السجدة : آية ١٠ ] يعنون : إذا ضلت عظامهم في الأرض ؛ أي : أكلها التراب واختلطت به وغابت واضمحلت فيه. ومن اجل هذا كانت العرب تسمي الدفن ( إضلالا ) لأن من دفن يضل في التراب، وتأكل الأرض عظامه، ويختلط بها ؛ ولذا كانوا يسمون الدفن إضلالا، ومنه قول نابغة ذبيان :
فجاء مضلوه بعين جلية | وغودر بالجولان حزم ونائل |
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها | وفارسها في الدهر قيس بن عاصم |
كنت القذى في موج أكدر مزبد | قذف الأتي به فضل ضلالا |
ألم تسأل فتخبرك الديار | عن الحي المضلل أين ساروا |
زاد بعض العلماء : أن العرب تطلق الضلال على الحب، وهذا إطلاق غير مشهور معروف كهذه الإطلاقات الثلاثة التي ذكرنا.
﴿ ورأوا أنهم قد ضلوا ﴾ أي : علموا أنهم قد ضلوا عن طريق الإيمان إلى طريق الكفر، وأنابوا إلى الله وتابوا ملتجئين إلى الله.
﴿ قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٩ ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي :﴿ قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا ﴾ ب( ياء الغيبة ) و﴿ ربنا ﴾ مرفوع فاعل :﴿ يرحمنا ﴾.
وقرأه حمزة والكسائي من السبعة :﴿ قالوا لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾.
فمعنى قراءة حمزة والكسائي : لئن لم ترحمنا يا ربنا، وتغفر لنا يا ربنا لنكونن من الخاسرين.
أما على قراءة الجمهور : فالمعنى :﴿ لئن لم يرحمنا ربنا ﴾ أي : يتداركنا برحمته ﴿ ويغفر لنا ﴾ الغفران : هو محو الذنوب حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها بعد ذلك.
﴿ ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾ والله لنكونن من الخاسرين. وأصل الخسران : نقصان مال التاجر من ربح أو رأس مال، وهو قد يطلق في الشرع وفي القرآن على غبن الإنسان في حظوظه من ربه، وأكبر الخسارة غبن الإنسان بحظوظه من خالفه جل وعلا.
وقد بينا في هذه الدروس مرارا وكررنا أن هذا الخسران أقسم الله في سورة عظيمة من كتابه أنه لا ينجو منه أحد إلا بشروط معينة منصوصة في كتاب الله، كما أوضح الله ذلك في قوله :﴿ والعصر ١ إن الإنسان لفي خسر ﴾ ﴿ إن الإنسان ﴾ الألف واللام للاستغراق، فهو بمعنى : أن كل إنسان كائنا من كان ﴿ لفي خسر ٢ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ٣ ﴾ [ العصر : الآيات ١- ٣ ].
وقد كررنا في هذه السور الماضية مرارا أن العلماء ضربوا لهذا الخسران مثلين، في كل منهما موعظة يتعظ بها المؤمن في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، كررناها مرارا، ولا نزال نكررهما لعل الله أن يرسل موعظة لقلوب إخواننا تهديهم إلى ما يرضي الله، وتنهاهم عما يكرهه خالقهم، فمن ذلك :
أن العلماء قال بعضهم : إن الله ( جل وعلا ) أعطى كل إنسان رأس مال، وأمره بالتجارة فيه مع خالقه، ورأس هذا المال المعطى لكل إنسان هو الجواهر النفسية، والأعلاق العظيمة التي لا مثيل لها في الدنيا، ألا وهي : ساعات العمر ودقائقه وثوانيه. فليعلم كل منا أن رأس ماله الذي أعطاه خالقه جواهر لا مثيل لها في الدنيا، ولا نظير لها، ولا يوجد شيء أكبر منها فائدة إذا أعملت على الوجه الأتم، ألا وهي : ساعات عمره ودقائق حياته وثوانيها.
هذا رأس مالك أيها الإنسان، وأنت مأمور بتحريكه والتجارة فيه مع خالق السموات والأرض، فإن كنت رجلا عاقلا يقدر الأمور ويخاف العواقب السيئة حركت عمرك وتاجرت فيه مع خالق السموات والأرض تجارة، وذلك أن تصرف ساعات العمر وأوقاته ودقائقه وثوانيه فيما يرض ربك، وتحذر أن تصرف شيئا منه فيما يسخط خالقك ( جل وعلا ) فتنظر في أوقات عمرك الوقت الذي يتوجه إليك فيه أمر من السماء – كأوقات الصلوات وأوقات الصوم وأوقات الحج وما جرى مجرى ذلك - فتبادر إلى امتثال أمرك بنفس طيبة مسارعة راغبة فيما عند الله، والأوقات الذي لم يتوجه عليك طلب مخصوص تستزيد من الخير بالنصوص العامة التي تحثك على طلب الخير ومرضاة من خلقك ( جل وعلا ) وتحذر كل الحذر من أن ترتكب شيئا يغضب خالقك ويسخطه، فإذا اتجرت مع الله هذه التجارة في رأس هذا المال فحركته فيما يرضيه ربحت أيها الأخ ربحا عظيما، ربحت الحور العين والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، وسكنى الجنة ﴿ فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بنا كانوا يعملون ١٧ ﴾ [ السجدة : آية ١٧ ] وقد سمى الله هذه المعاملة معه من عبده سماها :( تجارة ) وسماها :( بيعا ) وسماها :( شراء ) وسماها :( قرضا ) قال تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ [ البقرة : آية ٢٤٥ ] وقال :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ وقال :﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾ [ التوبة : آية ١١١ ] وقال :﴿ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ١٠ تؤمنون بالله ﴾ الآية [ الصف : الآيتان : ١٠، ١١ ].
أما إذا كان الإنسان المسكين أحمق أهوج لا يبالي بالعواقب السيئة، ولا يعرف حقيقة الأمر فإنه يزدري الجواهر التي أعطاه الله وهي أيام عمره، كصاحب المزبلة تكون عنده اليواقيت وهو يظنها حجارة عادية لا يعرف قيمتها، فيضيع رأس ماله وأيام عمره في قال وقيل، وفيما لا يجدي، حتى تضيع، وربما أعملها فيما لا يرضي خالقه ( جل وعلا ) حتى ينتهي العمر المحدد له، وينفذ رأس ماله، فيذهب به إلى القبر وهو مفلس لا رأس مال عنده، فإذا عدم رأس المال فالربح معدوم ! ! والآخرة – أيها الإخوان - دار لا تصلح للمفاليس ؛ لأنها ليس فيها إرفاق وليس فيها بيع ولا شراء ولا هبة، ليس فيها للإنسان إلا ما قدم أيام حياته.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها | إلا التي كان قبل الموت يبنيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه | وإن بناها بشر خاب بانيها |
المثل الثاني الذي ضربه العلماء لهذا الخسران : هو حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أطلع أهل الجنة على مساكنهم في النار لو أنهم كفروا وعصوا ؛ لتزداد غبطتهم وسرورهم بما هم فيه، وعند ذلك يقول الواحد منهم :﴿ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ [ الأعراف : آية ٤٣ ] ثم يطلع أهل النار على منازلهم في الجنة لو أنهم آمنوا وأطاعوا ؛ لتزداد ندامتهم وحسرتهم وعند ذلك يقول الواحد منهم :﴿ لو أن الله هداني لكنت من المتقين ﴾ [ الزمر : آية ٥٧ ] ثم إن الله يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، ومن عوض منزل غيره في النار بمنزله في الجنة فصفقته صفقة خاسرة، وهو من الخاسرين كما لا يخفى.
﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ﴾ لما رجع موسى إلى قومه من الميقات، عندما انتهى الميقات، وكلم ربه وناجاه، وكتب له التوراة في الألواح، ورجع إلى قومه ﴿ ولما رجع موسى إلى قومه ﴾ رجع في حال كونه ﴿ غضبنا أسفا ﴾ ( غضبنا ) حال من فاعل ( رجع ) رجع في حال كونه غضبان. وقوله :﴿ أسفا ﴾ حال أخرى. والأسف : شدة الغضب، فمعنى :﴿ غضبان ﴾ شديد الغضب. والتحقيق : أن ﴿ أسفا ﴾ هنا معناه : شديد الغضب، فهو كالتوكيد لغضبان. ومنه قوله تعالى :﴿ فلما آسفونا انتقمنا منهم ﴾ أي : فلما أغضبونا انتقمنا منهم وأغرقناهم.
قوله :﴿ غضبنا أسفا ﴾ هذان حالان من قوله :﴿ رجع موسى ﴾ أي : في حال كونه غضبان أسفا. وجمهور علماء العربية : أن الحال تتعدد وعاملها واحد وصاحبها واحد، خلافا لجماعة من علماء العربية منهم أبو الحسن ابن عصفور ومن وافقه قالوا : لا يجوز تعدد الحال، وإنما تتداخل، فزعموا أن ﴿ أسفا ﴾ حال من الضمير المستكين في ﴿ غضبان ﴾ وأن العامل فيها هو ﴿ غضبان ﴾ فقالوا : الأحوال متداخلة، والجمهور يقولون : إنها متعددة لا متداخلة، وأن الحال تتعدد من غير تداخل مع العطف وبدون العطف. ومن أمثلتها بدون العطف قوله هنا :﴿ غضبان أسفا ﴾ وقول الشاعر :
علي إذا ما زرت ليلي بخفية *** زيارة بيت الله رجلان حافيا
أي : في حال كوني ماشيا على رجلي غير منتعل. وتأتي أيضا مع العطف كقوله :﴿ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا ﴾ [ آل عمران : آية ٣٩ ] فهي أحوال متعددة متعاطفة.
والأسف : شديد الغضب : وشذ بعض العلماء هنا فقال : الأسف : الحزين، أي : غضبان حزينا. والأول هو الأظهر، وغضبه وشدة أسفه مما فعله قومه من عبادة العجل.
﴿ غضبان أسفا بئسما خلقتموني من بعدي ﴾ قرأ هذا الحرف جمهور القراء :﴿ بئسما خلفتموني ﴾ بتحقيق الهمزة، وقراه ورش عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو :﴿ بيسما خلقتموني ﴾ بإبدال الهمزة ياء.
ومعروف أن ( بئس ) في العربية فعل جامد لإنشاء الذم، وإذا جاءت بعدها ( ما ) فالخلاف فيها مشهور : هل فاعل ( بئس ) ضمير محذوف و( ما ) نكرة مميزة لذلك الضمير ؟ أو ( ما ) هو الفاعل ؟ خلاف معروف، وأقوال لأهل العلم فيها، أظهرها : أن الفاعل ضمير محذوف، وأن ( ما ) نكرة ميزت ذلك الفاعل المحذوف، بئس هو ما. أي : شيئا خلفتموني به.
ومعنى ﴿ خلفتموني ﴾ قمتم مقامي في غيبتي فيه، وكنتم خليفتي فيه، وهو عبادة العجل، على أن هذا راجع للسامري ومن عبد معه العجل. وعلى أنه راجع للوجهاء من بني إسرائيل -هارون ومن معه- فتكون خلافتهم التي ذمها : أنهم لم يمنعوا من عبد العجل عن عبادة العجل، يعني : لم تخلفني يا هارون في قومي خلافة حسنة حيث لم تكفف هؤلاء عن عبادة العجل. وهذا اظهر ؛ لأنه قال لهارون :﴿ اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٢ ] ولم يقل للسامري وعبدة العجل إنهم يخلفونه في قومه، وهذا معنى قوله :﴿ بئسما خلفتموني من بعدي ﴾.
﴿ خلفتموني ﴾ تدل على أنه غير موجود، فهي قد تغني عن قوله :﴿ من بعدي ﴾ قال بعض العلماء : وإنما زاد من بعدي مع أن ﴿ خلفتموني ﴾ تدل عليها ليشير إلى أنه ما دام موجودا كان معروفا بالتوحيد، والقمع عن الشرك، والحمل على ما يرضي الله جل وعلا.
ثم قال منكرا عليهم :﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ للعلماء في هذه الآية أقوال متقاربة، وخير ما يفسر به القرآن : القرآن ؛ لأن أية طه كالتفسير لآية الأعراف هذه، وعلى ذلك فالمعنى : أن الله أمركم بأمر، ووعدكم وعدا، وقال لكم على لسان نبيه : إن موسى يذهب إلى الموعد، وأن الله يناجيه وينزل عليه كتابا وفيه كل خير، وكل هدى ونور، يصلح الله لكم له دنياكم ودينكم وآخرتكم، وهذا وعد عظيم من الله، كما أشار له في قوله :﴿ ووعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى ﴾ [ طه : آية ٨٠ ] على أحد التفسرين. فلما وعدكم الله هذا الوعد العظيم الذي فيه كل هذا من الخير عجلتم أمر ربكم بذلك الوعد، أي : عجلتم عنه، وسبقتموه، وعبدتم العجل، ولم تنتظروا الخير الذي وعدكم الله به، وجئتم قبله بكل شر وسوء وخبث. والدليل على أن هذا هو تفسير الآية الصحيح : أن الله قال في سورة طه :﴿ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ﴾ [ طه : آية ٨٦ ] هذا هو الأظهر في معنى الآية الكريمة :﴿ بئسما خلقتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم ﴾ أعجلتم عن أمر ربكم بانتظار موسى، وانتهاء الوعد، وإتيانكم بكل خير تصلح به دنياكم وآخرتكم عجلتم عن هذا كله، وعبدتم العجل، وكفرتم بالله والعياذ بالله.
﴿ وألقى الألواح ﴾ جاء في حديث رواه ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ليس الخبر كالمعاينة ) واستدل لهذا بان موسى لما قال له ربه :﴿ قال فإنا فتنا قومك من بعدك ﴾ هذا خبر يقين من الله، لم ينفعل موسى، ولم يلق الألواح، فلما جاء حاملا ألواح التوراة، ونظر إليهم يعبدون العجل، ويعكفون حوله، لم يتمالك حتى ألقى الألواح، وانفعل عند المعاينة انفعالا لم ينفعله عند الخبر اليقين، ومن هنا عرف أن الخبر ليس كالمعاينة. وهذا معنى قوله :﴿ قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح ﴾ يعني : طرح ألواح التوراة التي هي مكتوبة فيها من شدة غضبه لانتهاك حرمة الله، وعبادة العجل فيه. وكثير من المفسرين يقولون : إنه ألقاها إلقاء قويا حتى تكسرت، وأنه رفع شيء منها مع المكسر منها. وكل هذا لا دليل عليه، ولم يقم عليه دليل صحيح لا من كتاب ولا من سنة، وظاهر القرآن أنها لم تتكسر، ولم يضع منها شيء ؛ لأنه قال :﴿ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٤ ] و( ال ) هنا عهدية، وهي الألواح المعهودة التي ألقاها.
يقول الله جل وعلا :﴿ قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٠ ] لما غضب موسى، وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، استعطفه أخوه وقال له :﴿ ابن أم ﴾، معناه : يا ابن أمي ﴿ إن القوم استضعفوني ﴾ يعني : أن القوم الذين عبدوا العجل لما نهاهم كما شهد الله له بذلك في سورة طه في قوله :﴿ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني وأطيعوا أمري ٩٠ قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ٩١ ﴾ [ طه : الآيتان ٩٠، ٩١ ] فلما ناصبوه وقالوا له علنا :( لن نبرح عاكفين على عبادة هذا العجل حتى يرجع موسى ). دل ذلك على أنهم استضعفوه، أي : تقووا عليه واستذلوه، ورأوه ضعيفا عاجزا عن مقومتهم.
﴿ وكادوا يقتلونني ﴾ قاربوا قتلي وما قصرت، ثم إنه بين عذره في طه ؛ لأن موسى قال له :﴿ ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري ٩٣ ﴾ استعطفه واعتذر له أيضا وقال :﴿ إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ﴾ [ طه : الآيتان ٩٣، ٩٤ ] قال له هنا :﴿ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ﴾ يعني : لا تفعل بي فعل سيئا يفرح به أعدائي. فالشماتة هي سرور العدو بما ينال عدوه الآخر من مكروه أو سوء. فإذا أتى الله إنسانا بمكروه أو سوء ومصائب نزلت به وفرح عدوه بما أصابه فذلك الفرح يسمى : الشماتة، والذي تسبب فيه يقال : أشمته به يشمته، ونفس العدو : شامت أي : فرح مسرور بما يصب عدوه من الأذى. وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى أو غيره :
كم شامت بي إن هلكت *** وقائل لله دره
وفي شعر الحماسة :
إذا ما الدهر جر على أناس *** كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا
يعني : لا تشمت بي الأعداء، لا تفعل لي فعلا سيئا يفرح به أعدائي، لا تفعل لي بذلك :﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ لا تجعلني مع عبدة العجل كأني ممالئ لهم وموافقهم على ذلك، فأنا برئ من ذلك، وقد نصحتهم غاية طاقتي وجهدي. وهذا معنى قوله :﴿ فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾.
﴿ وذلة في الحياة الدنيا ﴾ الذلة : الصغار والهوان.
قال جماعة من العلماء : هذه الآية من سورة الأعراف في طائفة من بني إسرائيل أشربت قلبوهم حب العجل، ولم يتوبوا فيمن تاب، بل بقوا غير تائبين، وعدهم الله هذا الوعيد، وهددهم هذا التهديد، وهذا هو الأظهر ؛ لأن المعروف أن أكثر الإسرائيليين تاب من عبادة العجل تلك التوبة العظيمة التي بيناها مفصلة في سورة البقرة، حيث قدموا أنفسهم للقتل تائبين إلى الله، الواحد منهم يجود بنفسه فيقتل مرضاة لله وإنابة إليه، كما تقدم إيضاحه في قوله :﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ﴾ [ البقرة : آية ٥ ] فمن تاب هذه التوبة النصوح العظيمة لا يعقل أن الله يهدده هذا التهديد، ويتوعده هذا الوعيد ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيظهر هنا ما ذكره جماعة أنها في طائفة أشربت قلوبهم حب العجل ولم يتوبوا – والعياذ بالله- ووعدهم الله هذا الوعيد :﴿ سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك ﴾ الجزاء الذي جزينا به هؤلاء الذين عبدوا العجل :﴿ نجزي المفترين ﴾ كان العلماء يقولون كل من افترى في الدين وابتدع في الدين سلط الله عليه الذلة، وكان الحسن يقول في المبتدعين المفترين في دين الله : والله إن الذلة على أكتافهم ولو هملجت بهم البغلاة، وطقطقت بهم البراذين. وقال هذا غير واحد من العلماء، أن كل مبتدع في الدين مفتر فيه آت بنحلة ليست بحق لا بد أن يسلط الله عليه الذلة ولو بلغ ما بلغ، كما صرح بذلك في قوله :﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ فعلى المسلم أن يخاف من الذلة والغضب، ولا يفتري في دين الله، ولا ينتحل ولا يبتدع، بل يبقى على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وهذا معنى قوله :﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن من ارتكب السيئات العظام ثم تاب إلى الله تاب الله عليه، والله يقول :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ﴾ [ طه : آية ٨٢ ] ويقول للذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة –يستعطفهم ليتوب عليهم مع شناعة كفرهم حيث يقول لهم- :﴿ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ٧٤ ﴾ [ المائدة : آية ٧٤ ] والتوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة من كل ذنب كائنا من كان، ولا يجوز تأخيرها، فإذا اقترف ذنبا وأخر التوبة منه كان تأخير التوبة ذنبا يستوجب توبة أخرى.
وقد أجمع العلماء على أن التوبة من ثلاثة أركان :
أحدها : الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به.
والثاني : الندم على ما صدر منه من الذنب ( الندم الشديد ).
والثالث : النية ألا يعود إلى الذنب أبدا.
هذه أركان التوبة التي أجمع عليها العلماء. وفي اثنين من أركانها في كل واحد منهما إشكال معروف :
أحدهما : الندم، فالندم أجمع العلماء على أنه ركن التوبة، والتوبة واجبة بالإجماع، كما أوجبها الله بقوله :﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ﴾ [ النور : آية ٣١ ] وركن الواجب واجب إجماعا، فلا خلاف بين العلماء أن الندم ركن من أركان التوبة واجب. وفي هذا إشكال معروف شديد، وهو أن الندم من الانفعالات والتأثيرات النفسية لا من الأفعال الاختيارية كما هو معروف، فترى البائع المغبون يندم وهو يحاول أن يطرد عنه الندم فلا يستطيع ؛ لأن الندم انفعال وتوتر نفساني لا فعل اختياري، ومعروف أن الانفعالات والتأثيرات النفسانية ليست تحت قدرة العبد، وقد أجمع العلماء أن الله لا يكلف عبده إلا بفعل اختياري هو في طاقة العبد، ولذلك كان في التكليف بالندم هنا الإشكال المعروف. هذا السؤال الأول في الندم، وأجاب بعض العلماء عن هذا، قالوا : نعم إن الندم انفعال وتأثر نفساني ليس تحت طاقة العبد، لأنا نرى الإنسان يحاول أن يندم فلا يندم، ويحاول أن يطرد الندم فلا يطرده، يشاهد البائع المغبون يحاول أن يطرد الندم عن نفسه، وكذلك بعض عوام المسلمين قد ينال الواحد منهم قبلة – مثلا- من امرأة بارعة في الجمال يعشقها غاية العشق، فإذا أراد أن يندم على ذلك دعاه خيال ذلك الجمال ولذة ذلك الشيء القبيح فلا يستطيع أن يندم كما هو مشاهد، وإذا كان انفعالا لا قدرة للعبد عليه فما وجه التكليف به ؟ !
أجيب عن هذا : بان المراد بالتكليف بالندم : التكليف بأسبابه الموصلة إليه، ومن تعاطي أسبابه الموصلة إليه تعاطيا حقا لم يحاب فيه نفسه لا بد أن يندم، وضرب العلماء لذلك مثلا، قالوا : كل العقلاء إذا قدمت إلى واحد منهم شرابا لذيذا ولكنه فيه السم القاتل الفتاك، فجميع العقلاء لا يستلذون ذلك الشراب ولا يعدون لذته لذة ؛ لأن السم القاتل الذي هو فيه يبطل لذته وينفر منها. ولا شك أن حلاوات المعاصي – قبحها الله- ولذاتها تتضمن سما قاتلا فتاكا هو سخط رب العالمين، وغضبه والخوف من عقابه العاجل والآجل، فإذا أخذ الإنسان نفسه أخذا حقا، وعرف أن حلاوة المعاصي يضاف فيها السم القاتل الفتاك من سخط رب العالمين فلا بد أن يندم، والذي لا يندم إنما جاءه ذلك من أنه يحابي نفسه، وينجرف معها بالمعاصي، فلا يأخذها بالأسباب أخذا حقا، ولما كان الندم أسبابه متيسرة ومن تعاطاها حقا حصل عليه ؛ صار كأنه فعل في طاقة المخلوق فكلف به.
وأما الإشكال الثاني : فهو في الإقلاع ؛ لأن بعض الناس قد يتوب ويندم ولا يقدر على إكمال الإقلاع، كالذي بث بدعة وعمل بها الناس في مشارق الأرض ومغاربها، والنبي يقول :( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ) إذا تاب هذا الإنسان وبدعته متمادية يعمل بها في مشارق الأرض ومغاربها، هل نقول : هو مقلع ؛ لأنه فعل طاقته وما يقدر عليه ؟ أو نقول : ركن التوبة هنا معدوم ؛ لأن الإقلاع معدوم ؛ لأن ذنبه متماد جار في أقطار الدنيا ؟ ! أو نقول : ركن التوبة هنا معدوم ؛ لأن الإقلاع معدوم ؛ لأن ذنبه متماد جار في أقطار الدنيا ؟ ! وكذلك الإنسان إذا رمي إنسانا من بعيد بسهم أو رصاصة ثم بعد أن يزيل السهم تاب ذلك الإنسان قبل أن يصل السهم إلى المرمى، هل نقول : هو تائب ؛ لأنه فعل قدر طاقته ؟ أو نقول : لا تقبل توبته ؛ لأن الإقلاع ركن في التوبة، ولم يحصل ؛ لأن فساده متمادي، وسهمه رائح إلى المسلم ليقتله ؟ وكذلك من غصب – مثلا- أرضا عشرين كيلا، ثم إنه ندم وخرج منها، هل هو في أثناء الخروج قبل أن ينفصل عن الأرض لو أدركه الموت نقول : أدركه الموت تائبا ؛ لأنه فعل قدر طاقته ؟ أو نقول : لم تحصل توبته ؛ لأن الإقلاع لم يكن ؛ لأنه ما زال يشغل فراغا مغصوبا بجسمه استولي عليه بغير حق شرعي ؟.
والصحيح عن الأصوليين أن هذا الأخير تقبل توبته وإن كان الإقلاع لم يصح منه ؛ لأنه عاجز عنه، وقد جاء في توبته بما يستطيع، والله لا يكلف إلا بما يستطيعه عبده ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ [ البقرة : آية ٢٨٦ ] وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :﴿ إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ﴾ الحديث. وهذان السؤالان في التوبة. وهذا معنى قوله :﴿ ثم تابوا من بعدها وآمنوا ﴾.
﴿ من بعدها ﴾ أي : السيئات، ﴿ وآمنوا ﴾ داموا على إيمانهم ؛ أي : أخلصوا في إيمانهم وتوبتهم ﴿ إن ربك من بعدها ﴾ أي : التوبة ﴿ لغفور رحيم ﴾ أو ﴿ من بعدها ﴾ أي : من بعد السيئات التي تاب العبد منها ﴿ لغفور رحيم ﴾ كثير الغفران والرحمة لعباده.
﴿ أخذ الألواح ﴾ طرح الألواح من اجل الغضب، ولما سكن الغضب اخذها. و( أل ) في الألواح عهدية، وظاهر هذه الآية أن الألواح لم تتكسر، وأن التوراة لم يرفع منها شيء، ومعلوم كثرة أقوال المفسرين أنها تكسرت، وأن رضاضها لم يزل عند الملوك الإسرائيليين، وأنها رفع منها كل التفاصيل، وبقي منها الهدى والرحمة، ولكن هذا لم يقم عليه دليل يجب الرجوع إليه، وهذا معنى قوله :﴿ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح ﴾ أي : أخذها ليعمل بما فيها ؛ لأن ربه قال له : خذها بقوة.
﴿ وفي نسختها ﴾ النسخة هنا ( فعلة ) بمنى ( مفعول )، أي : المنسوخ فيها، أي : المكتوب فيها من التوراة من كلام رب العالمين، وفيه ﴿ هدى ﴾ أي : دلالة وإرشاد إلى الخير، ورحمة تقي عذاب الله وسخطه لمن عمل به.
﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ الذين هم يخافون الله، وخصهم لأنهم هم المنتفعون به، وجرت العادة في القرآن أن الله يخص المنتفعين، كما قال :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر ﴾ [ يس : آية ١١ ] وهو منذر للأسود والأحمر، ﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ٤٥ ﴾ [ النازعات : آية ٤٥ ] وهو منذر للجميع، ﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : آية ٤٥ ] وهو مذكر لمن يخاف ومن لا يخاف كما هو معلوم.
واللام في قوله :﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ ففيها أوجه، وأظهرها أن المعمول إذا قدم على عامله ضعفت تعديته إليه، فإذا جيء باللام تقوت التعدية، ونظيره قوله :﴿ إن كنتم للرءيا تعبرون ﴾ [ يوسف : آية ٤٣ ]. وقال بعض العلماء : هي اللام الأجلية التعليلية، يرهبون يخافون لأجل ربهم، لا للسمعة ولا الرياء، كما قاله بعضهم، ومعنى :﴿ يرهبون ﴾ : يخافون، والرهب : الخوف، والمعنى : أن في المنسوخ المكتوب في تلك الألواح هدى ورحمة لمن يخاف الله ؛ لأنه هو الذي يعمل به وينتفع به، وهذا معنى قوله :﴿ هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ﴾ أي : يرهبون ربهم، أي : يخافونه، ولما قدم المعمول ضعف تعدي الفعل إليه فأكد باللام كقوله :﴿ إن كنتم للرءيا تعبرون ﴾.
منا الذي اختير الرجال سماحة | وجودا إذا هب الرياح الزعازع |
اخترتك الناس إذا رثت خلائقهم | واختل من كان يرجى عنده السول |
واختار موسى من قومه سبعين رجلا. اعلم أن هذه السبعين لا شك أن الله أمر موسى أن يختارها، ووقت لها وقتا معينا يأتيه بها في محل معين، إلا أنه مختلف في ميقات هذه السبعين ما هو ؟ وما سببه ؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب بعض العلماء إلى أن ميقات السبعين هذه المذكورة هنا في قوله :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ﴾ زعم بعضهم أنه الميقات الأول الذي قال فيه :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٣ ] وأن الله لما أمر موسى بذلك الميقات أمره أن يأتيه في سبعين رجلا من قومه يختارها، وتكون من خيارهم، وأنه جاءه بسبعين منهم، وسأل الله أن يسمعهم كلام الله، فسمعوا كلام الله يكلم موسى، يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، وأنه لما انقضت المناجاة، وارتفع عمود الغمام الذي كانوا فيه قالوا له : يا موسى :﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ [ البقرة : آية ٥٥ ] وأنهم أخذتهم الصاعقة، كما سيأتي تفصيله، وعلى هذا القول فالميقات ميقات السبعين هو ميقات موسى للمناجاة وإنزال التوراة. وهذا القول ليس بظاهر ؛ لأن ما وقع في الميقاتين والقصتين كله مختلف، فيظهر أنه ميقات آخر وقصة أخرى، وللعلماء فيه أقوال :
قال بعض العلماء : لما عبدوا العجل أمره الله أن يأتي إلى الطور بسبعين يختارها من خيارهم ليعتذروا إلى ربهم من عبادة قومهم للعجل حتى يتوب عليهم، وأن هذا هو ميقات السبعين التي اختيرت من أجله.
وقال بعض العلماء : ذهب موسى وهارون ومع هارون ابنه شبر وابنه شبير، جاؤوا على جبل فوجدوا عند ذلك الجبل كرسيا فاضطجع عليه هارون وقبض الله روحه، فلما رجع موسى لبني إسرائيل قالوا : أين هارون ؟ قال : مات. قالوا : بل قتلته وحسدتنا على لين خلقه، وأنت الذي قتلته ! ! وأنه قال : كيف أقتله ومعي ابناه ؟ وأن الله أعطاه وعدا يختار منهم سبعين حتى يحي لهم هارون ويسألوه، وأن السبعين ذهبت حتى جاء هارون وقال : من قتلك ؟ قال : ما قتلني أحد ولكن الله توفاني. إلى أقوال كثيرة من هذا النمط لا دليل عليها.
هذه هي الأقوال في الميقات، وعلى كل حال فهم سبعون رجلا من خيار الإسرائيليين اختارها موسى لميقات وقته الله له، ولما جاؤوا ذلك الميقات أخذتهم الرجفة، والرجفة : الزلزلة الشديدة، والهزة العظيمة.
واختلف العلماء في سبب هذه الرجفة وهذه الهزة اختلافا مبنيا على الميقات الذي كنا نقول، فقال بعضهم : إنه ذهب بهم ليعتذروا من عبادة العجل، وأن الله أسمعهم كلامه لنبيه، وأنهم قالوا له : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فامتنعوا من الإيمان والتصديق حتى يروا الله، فأخذتهم الصاعقة، وتلك الصاعقة هي التي أرجفتهم، وقال هنا :﴿ أخذتهم الرجفة ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٥ ].
وقال بعض العلماء : هؤلاء الطائفة لم يفعلوا ذنبا لكنهم لما ذهبوا مع موسى وسمعوا كلام الله داخلتهم هيبة شديدة وخوف عظيم حتى كادت مفاصلهم يبين بعضها من بعض. وهذا القول لا يتجه ؛ لأنه يقول :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء ﴾ وهذا يدل على أن هنالك بعض الشيء.
وقال بعض العلماء : إن الله لما أمر موسى أن يأتي الميقات بسبعين، اختار السبعين وهم في نظره أفضل بني إسرائيل، وما كان يظن أنهم قد عبدوا العجل مع من عبده، وهم قد عبدوه، وموسى لا يدري عن ذلك، فلما جاؤوا الميقات جاءتهم الرجفة والهزة العنيفة بسبب عبادتهم للعجل.
وقال بعض العلماء : لم يعبدوا العجل ولكنهم داهنوا من عبده فلم يزجروه زجرا قويا، فجاءتهم الرجفة لعدم زجرهم كما ينبغي.
هذه أقوال المفسرين، وفيها غير هذا، ولا شيء يقوم عليه الدليل القاطع منها، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة ﴾ الهزة الشديدة، سواء قلنا أنها بسبب قولهم :﴿ أرنا الله جهرة ﴾ [ البقرة : آية ٥٥ ] أو بسبب أنهم عبدوا العجل، أو أنهم لم ينهوا من عبد العجل، أو غير ذلك من الأسباب، ضاق الأمر بموسى، وعلم أنهم إن ماتوا وقعت بنو إسرائيل في بلية لا مخرج منها ؛ لأنه لو ماتت تلك السبعون من خيارهم وجاءهم فقالوا : أين السبعون ؟ فقال : ماتوا. يقولون : أنت الذي قتلتهم ! ! ويقع فيهم الخلاف والشقاق والفساد الذي لا حد له، ومن هنا كان نبي الله موسى حريصا جدا على أن يحييهم – على القول بأنهم ماتوا- أو يرفع عنهم الرجفة –على القول بأنهم سقطوا مغشيا عليهم غير ميتين- كما هو معروف. وهذا معنى قوله :﴿ فلما أخذتهم الرجفة ﴾ قال موسى متضرعا لربه ألا يقتلهم في ذلك الوقت الحرج، وذلك الظرف العصيب الذي له عواقب سيئة في قومه :﴿ قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل ﴾ يا رب لو شئت إهلاكهم أهلكتهم من قبل هذا الوقت ؛ لأنه مرت أوقات لو هلكوا فيها ما كان في إهلاكهم عاقبة سيئة، فلو قتلهم بمحضر قومهم وهم ينظرون لما كانوا يتهمونني ولا نشأ عن ذلك فساد ولا بلايا ﴿ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ﴾ أي : وأهلكتني معهم في غير هذا الظرف كان ذلك أهون علي وأقل أذية لي.
ثم إنه قال مناجيا ربه، وهذا الاستفهام –على التحقيق- استفهام استعلام مع تذلل واستعطاف ﴿ أتهلكنا ﴾ تهلكني أنا وإياهم. وقال بعض العلماء : تهلك جميع بني إسرائيل ؛ لأنهم إن ماتوا في ذلك اتهموا نبيهم ووقع فيهم الخلاف والقيل والقال الذي لا يرتفع.
﴿ بما فعل السفهاء منا ﴾ السفهاء : جمع سفيه. والمراد بهم هنا : الذين فعلوا الموجب الذي أخذتهم الرجفة بسببه، سواء قلنا : إنه قولهم :﴿ أرنا الله جهرة ﴾ [ البقرة : آية ٥٥ ] ولا سفه أكبر من ذلك، أو عبادتهم العجل، أو عدم نهيهم من عبد العجل، إلى غير ذلك.
والسفهاء : جمع سفيه، والسفه في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه : الخفة والطيش، تقول العرب :( تسفهت الريح الريشة ) إذا استخفتها فطارت بها كل مطار.
وهو في الاصطلاح : خفة العقل وعدم رجاحة الحلم، حتى يفعل الأشياء التي تضره وهو لا يدري أنها تضره.
والسفه في اصطلاح الفقهاء الذي يحجر به على المال اختلف علماء الفقه في تحقيق مناطه، فذهب مالك بن أنس ومن وافقه من العلماء أن مناطه على حفظ المال وحسن النظر فيه، فلو كان الإنسان يحفظ ماله ويحسن النظر فيه لم يكن سفيها عند مالك، وأعطي له ماله ولو كان فاسقا شريبا سكيرا عاصيا لله.
وذهب الشافعي في طائفة من العلماء إلى أنه كان يعصي الله فهو أسفه السفهاء، وأنه لا يستحق ماله إلا وهو مطيع لله ؛ لأن من عصى الله سفيه خفيف العقل طائشه لا يعلم مصلحته.
وشارب الخمر إذا ما ثمرا | لما يلي من ماله لم يحجرا |
ثم قال موسى :﴿ إن هي إلا فتنتك ﴾ الذي جرأ موسى على أن يضيف الفتنة إلى الله هو أن الله قال له :﴿ قال فإنا قد فتنا قومك ومن بعدك وأضلهم السامري ٨٥ ﴾ [ طه : آية ٨٥ ] فأسند الله هذه الفتنة لنفسه بقوله :﴿ فإنا قد فتنا قومك من بعدك ﴾ فجرأ ذلك موسى على أن يقول :﴿ إن هي إلا فتنتك ﴾ سواء قلنا : إن الرجفة أخذتهم بسبب قولهم :﴿ أرنا الله جهرة ﴾ فهذا امتحان وابتلاء من الله، أو بسبب أنهم عبدوا العجل فذلك ابتلاء وامتحان من الله، أو بسبب أنهم لم ينهوا من عبدوا العجل فذلك ابتلاء وامتحان من الله. وهذا معنى قوله :﴿ إن هي ﴾ أي : الفتنة التي فتنوا بها، وما هي إلا :﴿ فتنتك تضل بها من تشاء ﴾.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن ( الفتنة ) أطلقت في القرآن إطلاقات معروفة مشهورة، فمن أشهر إطلاقاتها : الاختبار والامتحان، ومنه قوله :﴿ لأسقيناهم ماء غدقا ١٦ لنفتهم فيه ﴾ [ الجن : الآيتان ١٧ ] ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : آية ٣٥ ] فأشهر إطلاقاتها : الامتحان والابتلاء.
ومن إطلاقات الفتنة هو : الإحراق بالنار كقوله :﴿ يوم هم على النار يفتنون ١٣ ﴾ [ النازعات : آية ١٣ ] أي : يحرقون، وقوله :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ﴾ [ البروج : آية ١٠ ] أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك.
ومن إطلاقات الفتنة : نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة، كقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ أي : لا يبقى شرك على وجه الأرض، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم :﴿ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ﴾ وتدل على ذلك الآيتان في سورة البقرة وسورة الأنفال، لأن الله قال في البقرة :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الذين لله ﴾ [ البقرة : آية ١٩٣ ] فقوله :﴿ ويكون الدين لله ﴾ معناه : أنه لا يبقى شرك في الأرض ؛ لأن الشرك ما دام في الأرض فالدين بعضه للشركاء، وآية الأنفال قوله :﴿ ويكون الدين كله لله ﴾ [ الأنفال : آية ٣٩ ] كما هو ظاهر.
وأطلقت الفتنة في سورة الأنعام على الحجة في قوله :﴿ ثم لم تكن فتنتهم ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ فتنتهم ﴾ أي : حجتهم ﴿ إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : آية ٢٣ ].
﴿ تضل بها من تشاء ﴾ كما أضللت الذين عبدوا العجل والذين قالوا :﴿ أرنا الله جهرة ﴾ [ البقرة : آية ٥٥ ] ﴿ وتهدي ﴾ بها ﴿ من تشاء ﴾ فلا تفتنه.
﴿ أنت ولينا ﴾ الولي في لغة العرب التي نزل بها القرآن : هو من انعقد بينك وبينه سبب يجعلك تواليه ويواليك، والله ولي المؤمنين ﴿ إنما وليكم الله ورسوله ﴾ [ المائدة : ٥٥ ] والمؤمنون أولياء الله ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٦٢ الذين آمنوا وكانوا يتقون ٦٣ ﴾ [ يونس : الآيتان ٦٢، ٦٣ ] فهم يوالونه بطاعة وهو يواليهم بالثواب الجزيل والرحمة والغفران. وهذا معنى قوله :﴿ أنت ولينا ﴾.
﴿ فاغفر لنا ﴾ الغفر في لغة العرب : معناه الستر، ومنه سمي المغفر مغفرا لأنه يستر الرأس، والمراد به ستر الذنوب ومحوها حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها.
وارحمنا } الرحمة صفة معروفة من صفات الله تظهر آثارها في خلقه، وهي على التحقيق صفة معنى قائمة بالذات، غلط كثير من المتكلمين زعم أنها من صفات الأفعال – كما هو معلوم في محله-.
﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ الذين يغفرون الذنوب ؛ لأن من غفر في الدنيا قد يغفر لتحسن سمعته (... ) ( في هذا الموضع انقطع التسجيل ).
وقوله :﴿ إنا هدنا إليك ﴾ العرب تقول : هاد يهود. إذا تاب ورجع، وهذا هو المعنى المشهور الصحيح في هذه الآية ﴿ إنا هدنا إليك ﴾ أي : تبنا ورجعنا إليك. وهذا كالتعليل لما قبله ؛ لأن التوبة والإنابة والرجوع إليه من الأسباب التي يكتب الله بها حسنة الدنيا وحسنة الآخرة العرب تقول : هد أيها الرجل. تب إلى الله من ذنوبك وارجع. هاد : أي : تاب. والهود : جمع هائد وهو التائب. وقد قال بعضهم :
يا راكب الذنب هدهد *** واسجد كأنك هدهد
معنى :﴿ هدنا إليك ﴾ أي : تبنا ورجعنا منيبين إليك.
قال الله جل وعلا :﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ قرأ هذا الحرف جماهير القرء :﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ بإسكان ياء المتكلم. وقرأه نافع :﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ وهما لغتان فصيحتان وقراءتان صحيحتان.
﴿ عذابي أصيب به ﴾ أعذب به وأهين به ﴿ من أشاء ﴾ أي : من أشاء إهانته به. والقراءة الصحيحة التي قرأ بها الجمهور :﴿ من أشاء ﴾ بالشين المعجمة المثلثة وضم الهمزة.
أما القراءة التي تذكر عن الحسن وغيره أنه قرأ :( قال عذابي أصيب به من أساء ورحمتي وسعت كل شيء ) فهي قراءة شاذة لا تجوز القراءة بها. ومعلوم أن أهل الأهواء والبدع من قدرية وغيرهم يستدلون بتلك القراءة :( أصيب به من أساء ) يستدلون بها لشيء من مذاهبهم، ولما كانت قراءة شاذة لا تجوز القراءة بها فلا معول عليها ولا طائل لما أخذوه منها واستدلوا به لمذاهبهم الباطلة.
وقوله :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ الرحمة صفة من صفات الله اشتق منها لنفسه اسمه ( الرحمن ) واسمه ( الرحيم )، وهي على التحقيق من صفات المعاني القائمة بذاته ( جل وعلا )، وكثير من المتكلمين الذين يؤولون صفات الله ويحملونها أولا على محامل غير طيبة ثم يلجؤهم ذلك إلى تأويلها يزعمون أنها صفة فعل. وذلك ليس بحق، والحق أنها صفة ذات من صفات المعاني القائمة بذات الله، ولا تشبه شيئا من صفات المخلوقين، ليس فيها رقة مخلوقية، ولا انعطاف مخلوقي، لا وكلا، بل هي صفة كمال وجلال لائقة برب العالمين، منزهة كل التنزيه، مقدسة كل التقديس، لم تشبه شيئا من صفات الخلق.
وقوله :﴿ وسعت كل شيء ﴾ رحمة الله واسعة لا تضيق عن شيء، فهي تسع كل شيء كائنا ما كان. و( الشيء ) عند أهل السنة والجماعة يطلق على الموجود، ولا يطلق على المعدوم، فكل موجود يطلق عليه اسم ( الشيء ) عند أهل السنة والجماعة، ولا يطلق ( الشيء ) على [ المعدوم ] ( في الأصل :( الموجود ) وهو سبق لسان ). وجاز إطلاقه على الله كما قال تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ [ القصص : آية ٨٨ ] وقال :﴿ قل أي شيء اكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ﴾ [ الأنعام : آية ١٩ ]، ولا يطلق على المعدوم بدليل أن الله صرح بان المعدوم ليس بشيء كقوله :﴿ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ﴾ [ مريم : آية ٩ ] فصرح بان المعدوم ليس بشيء.
والمعتزلة يقولون : إن المعدوم يصدق عليه اسم ( الشيء ) ويتعسفون الاستدلال لذلك من آية من كتاب الله، قالوا : إن الله قال :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه ﴾ فسماه ( شيئا ) قبل أن يريده، وقبل أن يقول له :( كن ) وهو في ذلك الحين معدوم. وهذا لا دليل فيه ؛ لأنه لما تعلقت إرادة الله به صار كأنه موجود بالفعل ؛ لأن المتوقع وجوده كالموجود بالفعل. هذا معنى قوله :﴿ وسعت كل شيء ﴾.
يقول بعض المفسرين : إنه لما عمم سعة رحمته لكل شيء أن إبليس طمع ومد عنقه، وأنه لما قال :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾ أنه يئس ورجع. هكذا يقولون، والله أعلم بصحته. ويزعمون أن أهل الكتابين قالوا : نحن ممن يتقي. فلما جاء بعض الصفات علموا أنها لا تنطبق كل الانطباق إلا على هذه الأمة الكريمة المرحومة ؛ ولذا قال :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾.
﴿ فسأكتبها ﴾ أجعلها مكتوبة مقدرة مقضية لهم، والعرب كل شيء لازم محتوم تسميه مكتوبا، وهو معروف في لغتهم، ومنه :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ [ البقرة : آية ١٨٣ ] ﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ [ البقرة : آية ١٧٨ ] لأن ( كتب الشيء ) معناه : جعله لازما، وهذا معروف في لغة العرب، ومنه قول الشاعر :
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني *** عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا
قوله ( كتاب الله ) أي : ما كتبه وقضاه وحكمه. ومنه بهذا المعنى قول ابن أبي ربيعة :
كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول
وهذا معنى قوله :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾ أي : يجعلون بينهم وبين غضب خالقهم وعقابه وقاية تقيهم سخط ربهم وعذابه. وتلك الوقاية هي امتثال أمره واجتناب نهيه ( جل وعلا ) كما بيناه مرارا. أي : يتقون الشرك والمعاصي، ويمتثلون أوامر الله، وهذا معنى قوله :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ﴾.
أكثر العلماء على أن معنى :﴿ ويؤتون الزكاة ﴾ يعطون الحقوق الواجبة في المال المقررة المفصلة في السنة في المواشي والزروع والثمار والمعادن والذهب والفضة والتجارة وما جرى مجرى ذلك مما تجب فيه الزكاة، وأن هذا هو المراد بالزكاة الحقوق الواجبة في المال.
وقال بعض العلماء : هي زكاة الأبدان وتطهيرها من أدران الذنوب والمعاصي والشرك بطاعة الله ( جل وعلا ) ؛ لأن من أطاع الله زكى، أي : طهر من أدناس الذنوب وأرجاسها كما قال :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولاكن الله يزكي من يشاء ﴾ [ النور : آية ٢١ ] هذا معنى قوله :﴿ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا ﴾ الشرعية التي أنزلنا على رسلنا ﴿ يؤمنون ﴾ أي : يصدقون الرسل فيها، ويشمل ذلك عند بعضهم :﴿ بآياتنا ﴾ : الكونية القدرية، كما نصبنا من العلامات على قدرتنا، وأني أنا المستحق العبادة وحده، يؤمنون بذلك فيعلمون أنها دالة على ربوبية من نصبها، واستحقاقه للعبادة وحده.
ويفهم من هذه الآية من مفهوم مخالفتها : أن الذين لا يتقون الشرك ولا المعاصي، ولا يؤتون الزكاة لا يكتب لهم هذه الرحمة، وقد بين تعالى ذلك في قوله :﴿ وويل للمشركين ٦ الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ الآية [ فصلت : الآيتان ٦، ٧ ] وهذا معنى قوله :﴿ والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٦ ].
الأمي : هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم لا يعرف الكتابة ولا يعرف قراءة الكتب. وقد عرفتم في السيرة والتاريخ في صلح الحديبية أنه لما كتب علي ( رضي الله عنه ) وثيقة الصلح التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مع سهل بن عمرو العامري قال : هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش. قال له : امح عنا هذا، لو كنا نقر بأنك رسول الله لما صددناك عن البيت الحرام وأنت محرم. فقال لعلي : امحها. فامتنع علي أن يمحوها، فطلب منهم أن يروه محلها – لا يعرفها- حتى محاها. هذا يذكر في الأخبار والسيرة ولكن الله نص على ما يدل على هذا في سورة العنكبوت حيث قال تعالى :﴿ وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ٤٨ ﴾ [ العنكبوت : آية ٤٨ ] وهذا معنى ( الأمي ) : الذي لا يقرأ ولا يكتب.
واختلف العلماء في منشأ النسبة إلى الأمي هذه، فقال بعض العلماء : منسوب إلى أمة العرب ؛ لأنهم أمة أميون لا يكتبون ولا يحسبون ؛ ولذا كانوا يعدون بالحصى ؛ لأنهم لا يكتبون ولا يحسبون. ( والأمي ) أي : من أمة ( منسوب إلى أمة- لا تحسب ولا تكتب ولا تقرأ.
قال بعض العلماء : منسوب إلى أم القرى وهي مكة المكرمة حرسها الله.
وجماعة من العلماء يقولون : الأمي : الذي لا يقرأ ولا يكتب، منسوب إلى امة، لأنه كأنه على الحالة التي ولدته بها أمه لم يتعلم بعدها كتابة ولا قراءة. هكذا زعمه بعضهم والله تعالى أعلم.
﴿ يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٧ ].
قوله :﴿ يجدونه ﴾ معناه يجدون صفته الكاشفة ونعوته الواضحة مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل ؛ لأن الله بين صفات هذا النبي الكريم ونعوته الكاشفة التي لا تترك في النبي لبسا، وبينها في التوراة، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى وبينها في الإنجيل، وهو الكتاب الذي انزل على عيسى ( عليهم وعلى نبينا صلاة الله وسلامه )، فصفاته موجودة عندهم، حتى إن الله قال عنهم :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ [ البقرة : آية ١٤٦ ] لشدة إيضاحه بالصفات الكاشفة التي لا لبس فيها بينت لهم صفاته موضحة، وأخذت عليهم المواثيق إن بعثه الله ليؤمنن به ولينصرنه، وأخذ الله ذلك الوعد على جميع الرسل، وعلى جميع أمم الرسل على ألسنة الرسل، كما أوضحه الله ( تعالى ) في سورة ( آل عمران ) وهو قوله :﴿ وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم على أصح التفسيرين، وهو الحق الذي لا شك فيه – إن شاء الله- وجزم به غير واحد. ﴿ لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذالكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ٨١ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ٨٢ ﴾ [ آل عمران : الآيتان ٨١، ٨٢ ] أخذ عليهم هذه العهود المؤكدة العظيمة بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبين لهم صفاته الكاشفة ونعوته الواضحة، كما قال هنا :﴿ الذي يجدونه مكتوبا ﴾ أي : صفته ونعته الذي يوضحه ولا يترك فيه لبسا.
﴿ مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٧ ] قرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو :﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ وروي عن الدوري أنه اختلس الضمة، وقرأه أبو عمرو :﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ بسكون الراء. وجزم الفعل المضارع بلا جازم للتخفيف لغة موجودة في كلام العرب، جاءت بها قراءات صحيحة في كتاب الله ولا لإشكال فيها، وأنشد بعض علماء العربية لجزم المضارع من غير جازم تخفيفا قول امرئ القيس :
اليوم أشرب غير مستحقب *** إثما من الله ولا واغل
ومعروف أن بعضهم كورش يبدل الهمزة ألفا، تقول :﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ ﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ ﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾.
( المعروف ) : هو كل ما عرفه الشرع وكان منه، كعبادة الله وحده، وصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق، وغير ذلك مما جاء به صلى الله عليه وسلم.
﴿ وينهاهم عن المنكر ﴾ المنكر : اسم مفعول ( أنكره ) وهو ما أنكره الشرع ولم يكن منه، ولم يأمر به، كعبادة الأوثان، وادعاء الأولاد لله، وكالخصال السيئة، وارتكاب المعاصي.
﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ اختلف العلماء في معنى الطيب والخبيث في هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات في كتاب الله، واختلافهم هذا من الاختلاف الذي ينبني عليه بعض الأحكام الشرعية، فذهب جماعة من العلماء إلى أن الطيبات هنا طيبها على نوعين : طيب شرعي، وهو أن يكون الله أباحها وجعلها حلا لخلقه، فالله لا يحل إلا الطيب، ولا يبيح إلا الطيب. ومعنى هذا – أنها طيبات - أن الله أباحها لخلقه واستطابها لهم، أي : يحل لهم الأشياء التي لا تحريم فيها.
وقال بعض العلماء : الطيبات لأنها مستلذة يستطيبها من يستعملها.
وكذلك يحرم عليهم الخبائث، قال بعض العلماء : هي التي دل الشرع على خبثها بنهيه عنها، كالميتة والدم ولحم الخنزير وما جرى مجرى ذلك.
وقال بعض العلماء : كل ما استخبثه الطبع العربي الذي صاحبه ليس ببالغ من الجوع غاية تجعله يستطيب غير الطيب أنه يحرم ذلك.
فالذين قالوا : إن المراد بالطيبات هو الطيب الشرعي، وأن الله أباحها لخلقه مما يستلذه خلقه، وأن الخبائث هي ما خبث شرعا مما منعه الله ( جل وعلا ) على خلقه كمالك بن أنس – وهو ممن قال هذا القول- فإنه لا يجعل استخباث الطبع العربي علة للتحريم ؛ ولذا جاز عند مالك أكل المستخبثات التي يستخبثها الطبع العربي السليم، فإنه يجيز أكل الحيات، إذا أمن سمها، والعقارب والحشرات، وما جرى مجرى ذلك. ولا شك أن هذه الأشياء مما يستخبثه الطبع العربي السليم. وكانت جماعة من العلماء منهم الإمام الشافعي ( رحمه الله ) يقول : دل قوله :﴿ ويحرم عليهم الخبائث ﴾ أن كل ما استخبثه الطبع العربي السليم الذي لم يتضرر بالجوع – لأن من آذاه الجوع جدا قد يستطيب الخبيث لشدة جوعه كما قال بعض شعراء العرب :
أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن *** لديكم غريبا يأكل الحشرات
أي : لشدة جوعه، وسئل أعرابي عن جماعته من البدو : ما تأكلون ؟ قال : نأكل كل ما دب ودرج إلا أم حبين. فقال : لتهن أم حبين العافية. وأم حبين دويبة معروفة، يفر الإنسان ويستقذرها إذا رآها. فعلى هذا القول فالاستخباث الطبعي من العرب الذين لم تلجئهم ضرورة الجوع – قد يكون عنوانا للتحريم عند بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي ( رحمه الله ) ومن وافقه. قال : دلت هذه الآية وأمثالها في القرآن على أن كل ما يستخبثه الطبع العربي السليم الذي لم يشتد جوعه أنه لا يجوز ؛ لأنه يصدق عليه اسم الخبيث في لغة العرب التي نزل بها القرآن. والخبائث حرمها الله في كتابه على لسان رسوله، وتحريم هذا النبي الكريم للخبائث من أعلام نبوته ( صلوات الله وسلامه عليه ) لأنه مكتوب في الكتب السابقة أنه إذا بعث : من صفاته أنه يحرم الخبائث، فإذا جاء محرما لها كان ذلك من معجزاته ومصدقا لنبوته صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الذي يستخبثه الطبع السليم العربي كأشياء كثيرة كالخنفساء والحشرات، وما جرى مجرى ذلك، والعقارب والحيات : بعض العلماء يقول : هو حرام لهذه الآية الكريمة، كالشافعي، وأن الذين أجازوا ذلك كمالك وأصحابه قالوا : ليس المراد بالخبث استخباث الطبع، وإنما المراد به ما دل على خبثه كما هو مقرر في مذهب الأئمة، وهذا معنى قوله :﴿ ويحرم عليهم الخبائث ﴾.
﴿ ويضع عنهم إصرهم ﴾ قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر :﴿ ويضع عنهم إصرهم ﴾ بكسر الهمزة وإسكان الصاد. وقرأه ابن عامر وحده :﴿ ويضع عنهم آصارهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ فالآصار جمع إصر ( فعل ) مجموع على ( أفعال ) والإصر في اللغة العربية التي نزل بها القرآن : الثقل الذي كان من التكليف على من قبلهم ؛ لأن من قبلنا كانت عليهم من التكليف آصار وأغلال. الآصار : الأثقال التي تثقل صاحبها، منها ما قدمنا أن توبة الذين عبدوا العجل لم يقبلها الله إلا بتقديمهم أنفسهم للموت، فهذا ثقل عظيم ؛ لأنه لا حادث في الدنيا أعظم من الموت.
والموت أعظم حادث *** فيما يمر على الجبلة
فرفع هذا الثقل عن هذه الأمة صلى الله على نبيها فصار من ارتكب أعظم كفر وأشنع ذنب يكفيه أن يتوب إلى الله، وأن يقلع عن الذنب، ويندم على ارتكابه، وينوي ألا يعود، فيتوب عليه ربه بذلك، فهذا من رفع الآصار. والإصر : هو الثقل المعروف، ومنه قول الشاعر :
....................... *** وحامل الإصر عنهم بعدما غرقوا
وقوله :﴿ والأغلال ﴾ الأغلال جمع غل، والغل هو القيد المعروف ؛ لأن التكاليف القوية الشديدة كأنها أغلال يغلون بها، مثل أن الواحد منهم كان لا يصلي إلا بالماء، ولا يصلي إلا في الكنيسة، وإذا مست النجاسة شيئا من ثوبه لزم أن يقرضه بمقراض، إلى غير ذلك من التشديدات ؛ بخلاف هذه الأمة فقد رفع عنها ذلك، فجعلت لها الأرض كلها مسجدا وطهورا، وأجيز لها إزالة النجاسة بالماء، وسهل لها كل شيء كان مصعبا على من قبلها. وهذا معنى قوله :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾.
وهنا عبر عن التكاليف الشاقة بالأغلال ؛ لأن الأغلال كأنها تقيد صاحبها وتمنعه، وكذلك التكاليف الشاقة والأغلال التي كانت عليهم جاء النبي بوضعها كلها، وجاء بحنيفية سمحة، فالأرض فيها طهور، والأرض كلها مسجد، والماء يطهر كل شيء، وكل من استعصى عليه شيء وشق عليه رخص له فيه ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ [ الحج : آية ٧٨ ] أي : من ضيق ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ [ الب
﴿ يأيها الناس إني رسول الله ﴾ أي : مرسل من الله ﴿ إليكم جميعا ﴾ ولم يرسل قبله نبي لعامة الخلق، إنما كان يرسل النبي لقومه ونحو ذلك، وهو صلى الله عليه وسلم أرسل للأسود والأحمر، وهذه من الأشياء التي فضله الله بها على جميع الرسل. ﴿ إني رسول الله ﴾ مرسل من الله إليكم أبين لكم ما يأمركم به ربكم من عقائد وحلال وحرام وغير ذلك.
وقوله :﴿ جميعا ﴾ يعرب حالا، ويفسر بأنه توكيد، أي : إني رسول الله إليكم في حال كونكم جميعا مجتمعين لم يتخلف منكم أحدا ﴿ إني رسول الله إليكم جميعا ﴾.
﴿ الذي له ملك السموات والأرض ﴾ قال بعض العلماء : هو في محل خفض نعت لله، إني رسول الله الذي. وهذا على هذا القول لم يمنع من تبعيته له الفصل بينهما بقوله :﴿ إني رسول الله إليكم جميعا ﴾.
وقال بعض العلماء : الفصل بينهما بقوله :﴿ إليكم جميعا ﴾ يمنع من الإتباع و ﴿ الذي ﴾ في محل نصب منصوبا على المدح، أو محل رفع خبر مبتدأ محذوف : كما لا يخفى، وهذا معنى قوله :﴿ الذي له ملك السموات والأرض ﴾ هذا الذي جئتكم مرسلا منه ينبغي أن يهاب، وأن يخاف منه، وأن تحترم رسله، وتطاع أوامره، وتجتنب نواهيه لشدة عظمته، وشدة الخوف من بأسه، وشدة الرغبة فيما عنده، فلا ينبغي أن يعصى، فهذا الذي أرسلني ؛ لأن هذه صفاته ﴿ الذي له ملك السموات والأرض ﴾ هو ملك السموات والأرض وهو المعبود وحده.
﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي : لا معبود يعبد بحق لا في السماء ولا في الأرض ولا في غيرهما إلا هو وحده جل وعلا.
﴿ يحي ويميت ﴾ هو الذي يحييكم ويميتكم. والكفار كانوا يقرون بإماتتين وإحياءة وينكرون إحياءة، ويوم القيامة أقروا بالإحياءتين والإماتتين فقالوا :﴿ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ﴾ [ غافر : آية ١١ ] فالإماتتان : الأولى منهما : هي أطوارك أيها الإنسان قبل أن تحيا، فالذي تمكث وأنت نطفة كأنك ميت، والذي تمكثه في بطن أمك وأنت علقة كأنك ميت، والذي تمكثه وأنت مضغة كذلك، فإذا نفخ الله فيك الروح فقد أحياك الإحياءة الأولى بعد الإماتة الأولى. ثم إذا أماتك المرة الثانية وصرت إلى القبر فقد مت الموتة الثانية، ثم يحييك حياة البعث، وهي الإحياءة الثانية التي كانوا ينكرون ؛ ولذا قالوا لما أحياهم الإحياءة الثانية وعاينوها وبعثوا :﴿ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ﴾ [ غافر : آية ١١ ] وقد أوضح الله هاتين الإحياءتين والإماتنين في سورة البقرة في قوله :﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ﴾ الآية [ البقرة : آية ٢٨ ] هذا معنى قوله :﴿ له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت ﴾ ومن كان يحيي ويميت فهو الذي يخاف منه غاية الخوف ؛ لأنه لا يقع على الإنسان في هذه الدار الدنيا حادث أعظم من الموت الذي يقطعه عن كل شيء.
والموت أعظم حادث *** فيما يمر على الجبلة
ولا شيء أعظم – من التصرفات - من إحياء الإنسان بعد موته والإتيان به حيا بعد أن صار عظاما رميما- سبحان ربنا وخالقنا ما أعظمه، وما أعظم قدرته ( جل وعلا ) وما أظهر براهين توحيده – وهذا معنى قوله :﴿ يحي ويميت فآمنوا بالله ﴾ أي : صدقوا به وبكل ما يجب له، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ النبي الأمي ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٨ ] قرأ نافع هنا في الموضعين وفي جميع القرآن ( النبيء ) بالهمزة إلا في موضعين من سورة الأحزاب قرأ في رواية قالون بالإدغام موافقة للجمهور.
وعلى قراءة نافع فالنبيء من ( النبأ )، والنبأ : هو الخبر الذي له الشأن، فكل نبا خبر، وليس كل خبر نبأ.
وعلى قراءة الجمهور : فقيل هي كقراءة نافع، أصلها من ( النبأ ) إلا أن الهمزة أبدلت ياء، وأدغمت فيها الياء التي بعد الباء. وقال بعض العلماء :( النبي ) في قراءة الجمهور من النبوة وهي الارتفاع ؛ لارتفاع شان الأنبياء ومكانتهم بالوحي الذي فضلهم الله به. وهذا معنى قوله :﴿ ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله ﴾ ويؤمن بكلمات الله، ومن كلمات الله : كتبه المنزلة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يؤمن بكتب الله كما شهد الله له بذلك في قوله :﴿ آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ [ البقرة : آية ٢٨٥ ] وقراءة الجمهور :﴿ وكلمته ﴾ وفي بعض القراءات الشاذة :﴿ يؤمن بالله وكلمته ﴾، قال بعض العلماء : كلمته هي عيسى ؛ لأن الله قال لمريم :﴿ إن الله يبشركم بكلمة منه ﴾ [ آل عمران : آية ٤٥ ] كما قال عن زكريا :﴿ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾ [ آل عمران : آية ٣٩ ] هذا معنى قوله :{ يؤمن بالله وكلمته.
﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٨ ] أمر الله هذه الأمة أن تتبع سيد الخلق ( صلوات الله وسلامه عليه ) ومعنى اتباعه : هو الاقتداء به فيما جاء به من عقائد وأفعال وأقوال، هذا هو معنى الاتباع. ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ أي : لأجل أن تهتدوا، أو على رجائكم الهداية باتباعه صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله :﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾.
يقول الله جل وعلا :﴿ قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون ١٥٨ ﴾.
أمر الله ( جل وعلا ) نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف أن يقول لجميع الناس أسودهم وأحمرهم : إنه رسول إليهم من رب السموات والأرض، وهذه من المسائل التي فضله الله بها ( صلوات الله وسلامه عليه ) على جميع الرسل ؛ لأنه فضل بخصال لم يعطها أحد قبله من الرسل ( صلوات الله وسلامه عليهم )، كما جاء مبينا في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، فقد أحلت له الغنائم ولم تحل لأحد قبله، وكانوا يحرقونها بالنار، وقد جعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وقد نصره الله بالرعب مسيرة شهر، وأرسله إلى كافة الناس ( صلوات الله وسلامه عليه ) فهم ( صلوات الله وسلامه عليه ) أفضل الرسل، وخير العالمين صلى الله عليه وسلم، ومنذ بعثه الله لم تبلغ دعوته أحدا من الخلق، ولم يؤمن به إلا دخل النار، فالذين يقولون : إن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى العرب ولم يرسل إلى غيرهم كفرة ملاحدة، كفرة بالله، مكذبون كتاب الله، مخالفون الضروري في دين الإسلام، فهو صلى الله عليه وسلم مرسل إلى جميع الخلائق كما صرحت به هذه الآية الكريمة ﴿ قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾ وجاء في آيات أخر من كتاب الله وأحاديث صحيحة معروفة، فمن الآيات الدالة على ذلك : قوله تعالى :﴿ تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ١ ﴾ [ الفرقان : آية ١ ] فصرح بأنه نذير للعالمين، وكقوله تعالى :﴿ قل أي شيء اكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ [ الأنعام : آية ١٩ ] فكل من بلغه هذا القرآن فهو منذر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس ﴾ [ سبأ : آية ٢٨ ] أي : إلا للناس كافة على التحقيق، خلافا لمن زعم من علماء العربية أن صاحب الحال إذا كان مجرورا باللام أنه لا تتقدم عليه الحال. والمتأخرون من علماء العربية قالوا : إن ذلك جائز وتدل عليه الآية التي ذكرنا، وهي قوله :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس ﴾ [ سبأ : آية ٢٨ ]. ﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ﴾ [ هود : آية ١٧ ] وكل من سمع برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغته ولم يؤمن به دخل النار ؛ لأنه رسول الله إلى الأسود والأحمر، وإلى الخلق كافة ( صلوات الله وسلامه عليه )، مرسل إلى الجن والأنس، عام الرسالة، باقيها إلى يوم القيامة ؛ لأن الله لما أرسله رسالة عامة وجعلها باقية على مر العصور جعل معجزته – وهي هذا القرآن العظيم- قائمة باقية تتردد في آذان الخلق إلى يوم القيامة، محفوظة من رب العالمين، لو أراد إنسان أن يزيد حرفا او ينقصه، أو نقطا أو ينقص لرد عليه الآلاف من صبيان المسلمين في أقطار الدنيا ؛ لأن الله تولى حفظ هذا المنزل المحكم الذي هو أساس هذه الرسالة العامة الخالدة ( صلوات الله وسلامه على من جاء بها ). وهذا معنى قوله :﴿ قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾.
الرسول هنا ( فعول ) بمعنى ( مفعل ) إني مرسل من الله إليكم جميعا.
وقد قدمنا مرارا أن علماء العربية يقولون : إن أصل الرسول أصله مصدر وصف به فجيء به بمعنى اسم مفعول، وإتيان المصادر على وزن ( فعول ) مسموع في أوزان قليلة كالقبول والولوع والرسول، في أوزان قليلة. وفائدة ذكرنا أن أصل الرسول مصدر وصف به وجيء به بمعنى اسم المفعول : لنزيل بذلك إشكالا في كتاب الله، وإيضاح ذلك : أن المعروف عند علماء العربية أن المصادر إذا نعت بها – أعني أجريت مجاري الأوصاف- أنها تلزم الإفراد والتذكير باللغة الفصحى، فتقول : هذا رجل عدل، وهذه نساء عدل، وهذه امرأة عدل، وهؤلاء رجال عدل. وهذا في اللغة الفصحى، وربما تنوسي أصل المصدر وعومل معاملة الأوصاف نظرا إلى وصيفته الطارئة، فالرسول على هذا تارة في القرآن يلاحظ فيه أصله الذي هو المصدر، وتارة يلاحظ فيه الوصفية العارضة التي جعل بمعناها. وإيضاح هذا : أن الرسول على أن أصله مصدر يفرد عند حالة التثنية والجمع، تقول : هذان رسول، وهؤلاء رسول. وربما جمع الرسول نظرا إلى الوصفية وتناسيا لأصل المصدرية، فمن جمع الرسول اعتبارا بالوصيفة :﴿ تلك الرسل ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٣ ] ﴿ رسلا مبشرين ﴾ [ النساء : آية ١٦٥ ] ومن تثنيته : قوله في سورة طه :﴿ إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ﴾ [ طه : آية ٤٧ ] فقد ثنى الرسول اعتبارا بوصفيته، وفي سورة الشعراء أفرد الرسول مع أن المراد به اثنان نظرا إلى أصله الذي هو المصدر، وذلك في قوله :﴿ إنا رسول رب العالمين ﴾ [ الشعراء : آية ١٦ ] ولم يقل : إنا رسولا. فنطقت العرب بلفظ الرسول مفردا مرادا به الجمع، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
ألكني إليها وخير الرسول *** أعلمهم بنواحي الخبر
فجمع الضمير في قوله :( أعلمهم ) وهو عائد إلى الرسول المفرد نظر إلى أصل مصدريته. والرسول مسموع في كلام العرب بمعنى المصدر، ومنه قول الشاعر :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم *** بقول ولا أرسلتهم برسول
أي : برسالة. وقول الآخر :
ألا من مبلغ عمرا رسولا *** بأني عن فتاحتكم غني
أي : رسالة. وهذا معنى قوله :﴿ إني رسول الله إليكم جميعا ﴾ أي : مرسل من الله إليكم أيها الناس جميعا. فقوله :﴿ جميعا ﴾ يعرب حالا ويفسر توكيدا. ﴿ إني رسول الله إليكم ﴾ في حال كونكم مجتمعين لم يشذ أحد منكم، بل رسالتي عامة لجميعكم في حال كونها شاملة لكم مجتمعين فيها. هذا معنى قوله :﴿ إني رسول الله إليكم جميعا ﴾.
ولما بين أنه مرسل من الله ذكر الله ( جل وعلا ) من صفات هذا الرب المرسل ما يدعو خلقه إلى القبول والامتثال، فبين أن هذه
وأصل ( القوم ) في لغة العرب : اسم جمع لا واحد له في لفظه، وضع للذكور دون الإناث، وربما دخلت الإناث فيه بحكم التبع. والدليل على أن لفظ القوم يختص بالوضع بالذكور دون الإناث قوله تعالى :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ﴾ ثم قال :﴿ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ﴾ فلو دخل النساء في اسم القوم لما كان لقوله :( ولا نساء من نساء ) [ الحجرات : آية ١١ ] فائدة، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
وما أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
وقوله :﴿ أمة ﴾ مبتدأ سوغ الابتداء به وهو نكرة اعتماده على المجرور قبله. والأمة : الطائفة الكثيرة المتفقة في دين ونحوه، وقد جاء في القرآن العظيم إطلاق الأمة على أربعة معان كلها صحيح موجود في كتاب الله، ومنه إطلاق الأمة على الطائفة المتفقة في دين ونحوه، وهذا أكثر إطلاقات الأمة، كقوله هنا :﴿ ومن قوم موسى أمة ﴾ ﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾ [ البقرة : آية ١٢٣ ] ونحو ذلك من الآيات.
الإطلاق الثاني : إطلاق الأمة على الرجل المقتدى به، كقوله في إبراهيم :﴿ إن إبراهيم كان أمة ﴾ [ النحل : آية ١٢٠ ].
الإطلاق الثالث : إطلاق الأمة على القطعة والبرهة من الزمان، ومنه قوله تعالى :﴿ وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة ﴾ [ يوسف : آية ٣٥ ] أي : تذكر بعد برهة من الزمان وقطعة من الدهر. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة ﴾ [ هود : آية ٨ ] أي : إلى مدة معينة في علمنا.
الإطلاق الرابع : إطلاق الأمة على الشريعة والدين، وهذا إطلاق مشهور في القرآن، كقوله ﴿ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة ﴾ [ الزخرف : آية ٢٣ ] أي : على شريعة وملة ودين، ومنه بهذا المعنى قوله :﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة ﴾ [ الأنبياء : آية ٩٢ ] أي : دينكم وشريعتكم شريعة واحدة. وهذا الإطلاق معروف مشهور في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة | وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع |
﴿ يهدون بالحق ﴾ أي : يهدون الناس بالحق، والمراد بالحق الذي يهدون به الناس : هو شرع الله ودينه الذي أنزله على رسله. ﴿ وله ﴾ أي : بالحق المذكور ﴿ يعدلون ﴾ يصيبون العدالة المتجافية عن طرفي الإفراط والتفريط. فالعدالة : المشي على الصواب وطريق القصد المتجافي عن طرف الإفراط والتفريط.
وهذه الآية الكريمة دلت على أن من قوم موسى أمة طيبة على الحق، وهذا المعنى جاء مصرحا به في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون ١١٣ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ١١٤ ﴾ [ آل عمران : الآيتان ١١٣، ١١٤ ] وكقوله جل وعلا :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ١٩٩ ﴾ [ أل عمران : آية ١٩٩ ] وكقوله تعالى :﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ١٠٧ ويقولون سبحان ربنا... ﴾ الآية [ الإسراء : الآيتان ١٠٧، ١٠٨ ] وكقوله :﴿ يفرحون بما انزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾ [ الرعد : آية ٣٢ ] في أهل الكتاب الذين يفرحون بما انزل إليه صلى الله عليه وسلم، وقد بين القرآن أن هذه الطائفة من أهل الكتاب –التي كانت متمسكة بشريعة موسى وبما في التوراة إذا كانت على ذلك حتى آمنت بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم- أنها تؤتى أجرها مرتين، أجر إيمانها الأول بموسى وكتابه، وإيمانها بمحمد وكتابه، نص الله على هذا في سورة القصص في قوله :﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ٥١ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون ٥٢ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ٥٣ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ الآية [ القصص : الآيات ٥١- ٥٤ ]. وهذا معنى قوله :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ١٥٩ ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٩ ].
وقد قدمنا في سورة المائدة أن ظاهر القرآن أن هذه الأمة هي الأمة المقتصدة المذكورة في قوله :﴿ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعلمون ﴾ [ المائدة : آية ٦٦ ] وهذه الأمة غاية ما نوه الله به عنها أنها مقتصدة، وهذه الأمة الكريمة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما نوه عنها وعن كتابها جعل فيها مرتبة أعظم من المقتصدة، وذلك في قوله :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ٣٢ ﴾ [ فاطر : آية ٣٢ ] فجعل فيهم سابقا بالخيرات فوق المقتصد، ووعد الجميع ممن أورثوا هذا الكتاب بقوله :﴿ جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ﴾ الآية [ فاطر : آية ٣٣ ]. فآية فاطر هذه تدل دلالة عظيمة واضحة على عظيم هذه الآمة المحمدية، وعلى عظيم نعمة هذا الكتاب والرحمة والنور الذي أنزل الله إليها من السماء على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله لما قال :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ بين أن إيراث هذا الكتاب علامة الاصطفاء – وهو الاختبار من الله- ثم قسم هذه الأمة التي اصطفاها الله بإيراث هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام : قال :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ﴾ ثم نوه عن أن إيراث هذا الكتاب فضل عظيم من الله قال :﴿ ذالك ﴾ أي : إيراثه إياكم ذلك الكتاب ﴿ هو الفضل الكبير ﴾ من الله عليكم. ثم وعد الجميع والأول منهم الظالم لنفسه بوعده الصادق إن الله لا يخالف الميعاد ﴿ جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ٣٣ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ٣٤ الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ٣٥ ﴾ [ فاطر : الآيات ٣٣- ٣٥ ] ولم يبق عن الطوائف الثلاثة الموعودة بالجنة – ممن لا يخلف الميعاد- إلا الكفار ؛ لأن الله ذكر في مقابلتهم الكفار في قوله :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ٣٦ ﴾ [ فاطر : آية ٣٦ ].
وكان بعض العلماء يقول :( حق لهذه الواو – في سورة فاطر- أن تكتب بماء العنين ) يعني واو ﴿ يدخلونها ﴾ لأنها واو شاملة بالوعد الصادق من الله بجنات عدن لجميع هذه الأمة التي أورثت هذا الكتاب، وعلى رأسهم الظالم لنفسه.
وأصح التفسيرات في ( الظالم، والمقتصد، والسابق بالخيرات ) في آية فاطر هذه : أن الظالم : هو الذي يطيع الله تارة ويعصيه أخرى، وهو من الذين قال الله فيهم :﴿ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ [ التوبة : آية ١٠٢ ] والمقتصد : هو الذي ينتهي عن المحرمات، ويأتي بالواجبات، ولا يتقرب بالنوافل التي هي غير ترك الحرام أو أداء الواجب. والسابق بالخيرات : هو الذي يمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويتقرب إلى الله بالنوافل.
وقد ذكرنا مرارا أن العلماء اختلفوا في السبب الذي قدم من أجله الظالم لنفسه في هذا الوعد العظيم من الله – الذي لا يخلف الميعاد- بجنات عدن وما فيها من النعيم، فمن أين للظالم لنفسه أن يقدم على السابق بالخيرات والمقتصد ؟.
فقال بعض العلماء : هذه الآية من سورة فاطر مقام إظهار كرم رب العالمين، وشدة رحمته ولطفه بعباده، فقدم الظالم لئلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط.
وقال بعض العلماء : قدم الظالم لنفسه لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ؛ لأن السابقين قليل، والمقتصدين أقل من الظالمين، وهذا معنى قوله :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ١٥٩ ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٩ ] وسيأتي حديث عند قوله :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ١٨١ ﴾ [ الأعراف : آية ١٨١ ] فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( هذه لكم وقد أعطي القوم مثلها ) يعني قوم موسى في قوله هنا :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ ولكن آية فاطر هذه التي ذكرناها زادت بالسابق بالخيرات، وبالوعد بالجنات للجميع، ففيها من إظهار فضل هذه الأمة ما لم تتناوله إحدى الآيتين هنا في سورة الأعراف.
وقال بعض العلماء :﴿ وقطعناهم ﴾ معناه : فرقناهم وميزنا بعضهم عن بعض ؛ لأنهم أبناء اثني عشر رجلا، وكل رجل صار من نسله قبيلة، والسبط في أولاد إسحاق بمعنى القبائل في أولاد إسماعيل، ويعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ) كان له اثنا عشرة ابنا كل ابن منهم ولد له نسل، فصار كل ابن منهم قبيلة، والقبائل عندهم تسمى ( أسباطا ). والمفسرون يذكرون أسماء هؤلاء الأسباط الذين تفرعت منهم القبائل، وذكرها إنما هو عن طريق الإسرائيليات ؛ ولذا اختلفوا فيها، فمنهم من يقول : هم روبيل، وشمعون، ويهوذا، وربالون، ويشجر، ودان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ويوسف، وشقيقه بنيامين. ومنهم من يذكر غير ذلك، ولا طريق صحيحة تثبت ذلك، إلا أن الأظهر أن هؤلاء الاثنتي عشرة أن كل واحدة منهم من سبط من أولاد يعقوب كما تقدم في قوله :﴿ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ﴾ [ المائدة : آية ١٢ ] لأن كل سبط من هذه الأسباط بعث الله موسى فيه نقيبا سيدا يتفقد شؤونه وأحواله ؛ لتكون تلك الرجال الإثني عشر يطلعون موسى على سرائر قومهم فيهون عليه الإصلاح من شؤونهم ؛ ولذا قال هنا :﴿ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٠ ] فعلى أن ( قطعنا ) بمعنى ( صيرنا ) ف( اثنتي عشرة ) هو المفعول الثاني، وعلى أن ( قطعنا ) بمعنى ( ميزنا ) بعضهم عن بعض، وفرقنا بعضهم عن بعض ؛ لنجعل على كل فرقة منهم نقيبا، فقوله هنا :﴿ اثنتي عشرة ﴾ هي حال جامدة مؤولة، أي : ميزناهم وفرقناهم في حال كونهم بالغين هذا العدد الذي هو اثنتي عشرة، واختلف العلماء في مميز ﴿ اثنتي عشرة ﴾ وظاهر القرآن أن مميزه ﴿ أسباطا ﴾ ولكن المعروف في لغة العرب أن العدد كله من الثلاثة إلى العشرة يميز بالجمع مضافا إليه العدد، أما غيره من الأعداد فإنه يميز بالمفرد التمييز المطابق للعربية المعروفة لو قيل : قطعناهم اثنتي عشرة سبطا. وذهب بعض العلماء في الجواب عن هذا إلى أن الأسباط هنا جمع سبط مضمن معنى القبيلة، وأن الأسباط : القبيلة تكون فيها أسباط كثيرة، وعليه فالمعنى : قطعناهم اثنتي عشرة قبيلة. فالأسباط بمعنى القبيلة. وهذا مردود لما ذكرنا من أن الأسباط في ذرية إسحاق بمعنى القبائل في ذرية إسماعيل. والذي اختاره غير واحد من المحققين : أن المميز محذوف دل المقام عليه : وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة. وقوله :﴿ أسباطا ﴾ بدل من ﴿ اثنتي عشرة ﴾ و ﴿ أمما ﴾ بدل بعد بدل على الصواب، ولا مانع من إتيان البدل بعد البدل كما هو معروف في علم العربية، فقد وجد في كلام العرب. وهذا معنى قوله :﴿ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ﴾ كل سبط منهم أمة، أي : خلق وقبيلة كثيرة كثيفة العدد.
﴿ وأوحينا إلى موسى ﴾ ذكر ( جل وعلا ) هنا بعض ما أنعم الله به على الإسرائيليين في التيه يذكر الموجودين منهم زمان نبينا نعمه عليهم، ويذكرهم أيضا كثرة ما هم فيه من الخلاف وعدم طاعة الله ورسله ؛ لأن سبب هذا التيه : أن الله لما أنجا موسى وقومه من فرعون، وفلق لهم البحر، وأمرهم بقتال الجبارين، أصابهم الجبن الذي قدمنا شرحه في سورة المائدة، وقالوا لنبيهم موسى :﴿ لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾ فأصابهم الجبن والخوف، فقال موسى :﴿ رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾ فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة ﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ﴾ [ المائدة : الآيات ٢٤- ٢٦ ] يصبحون حيث أمسوا، فإذا مشوا النهار كله أصبحوا من حيث كانوا أمس ! ! الله ضرب عليهم هذا التيه. وأصحاب الأخبار والتاريخ يطبقون على أن موسى وهارون ( عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ) توفيا في التيه، ثم صار الخليفة بعد موسى يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف ( عليهم السلام ) وهو الذي فتح الله على يديه كما سيأتي هنا وتقدم في سورة البقرة. ولما كان بنو إسرائيل في التيه هذه الأربعين سنة أصابهم العطش وشكوا إلى موسى فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك الحجر، فضربه فانبجست منه اثنتا عشرة عينا. وشكوا له من حر الشمس فظلل الله عليهم الغمام يقيهم حر الشمس، وشكوا له من الجوع فانزل الله عليهم المن والسلوى كما تقدم في سورة البقرة وكما هو مذكور هنا في سورة الأعراف.
﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٠ ] أوحى الله إلى نبيه موسى حين استسقاه قومه. الإيحاء في لغة العرب : هو كل إلقاء بشيء في سرعة وخفاء فهو إيحاء. فهذا معناه اللغوي، والوحي له معنى لغوي ومعنى شرعي كغيره من المعاني. فالوحي الشرعي معروف، وهو : ما يوحي الله لنبيه بواسطة الملك مثلا، وربما أوحي إلى النبي بغير واسطة كما أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، فظاهر حديث ابن مسعود عند مسلم أنه من غير واسطة الملك. وقد يكون الوحي بواسطة الملك وهو على أنحاء كثيرة معروفة. وأصل الإيحاء في لغة العرب : هو كل إلقاء جامع بين الخفاء والسرعة تسميه العرب ( وحيا )، فكل من ألقى شيئا بخفاء وسرعة فهو وحي في كلام العرب ؛ ولأجل ذلك كانت العرب تطلق اسم الوحي على الكتابة، وعلى الإشارة، وعلى الإلهام ؛ لأن كلا من هذه إلقاء في سرعة وخفاء. ويطلقون الوحي على الإلهام، ومنه قوله تعالى :﴿ وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ﴾ [ النحل : آية ٦٨ ] أي : ألهمها. ويطلق الوحي على الإشارة، وهو أصح القولين في قوله عن زكريا :﴿ فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ﴾ [ مريم : آية ١١ ] أي : إشارة إليهم. وتطلق العرب الوحي على الكتابة ؛ لأنها معان تلقى بأفعال سريعة خفية، وإطلاق الوحي على الكتابة إطلاق كثير مشهور في كلام العرب، وكان بعض المفسرين يقول : منه قوله في زكريا :﴿ فأوحى إليهم ﴾ أي : كتب لهم، والأظهر : الإشارة، كما يدل عليه قوله :﴿ إلا رمزا واذكر ربك كثيرا ﴾ [ أل عمران : آية ٤١ ] وإطلاق العرب الوحي على الكتابة مشهور جدا في كلامها، كثير جدا في أشعارها، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :
فمدافع الريان عري رسمها | خلقا كما ضمن الوحي سلامها |
كوحي الصحائف من عهد كسرى | فأهداها لأعجم طمطمي |
دار لأسماء بالغمرين ماثلة | كالوحي ليس بها من أهلها أرم |
لمن الديار غشيتها بالفدفد | كالوحي في حجر المسيل المخلد |
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها | بقية وحي في بطون الصحائف |
كأن أخا الكتاب يخط وحيا | بكاف في منازلها ولام |
﴿ إذ استسقاه قومه ﴾ طلبوا منه الساق، أن يسأل الله لهم فيسقيهم.
وقوله :﴿ أن اضرب بعصاك ﴾ ( أن ) هذه هي التي يسميها علماء العربية :( ان المفسرة ) وضابطها : أن يتقدمها معنى القول ولا يكون فيه حروف القول ؛ لأن ﴿ وأوحينا إلى موسى ﴾ يتضمن معنى ( قلنا لموسى ) وليس فيه [ حروف ] ( في الأصل :( معنى ) وهو سبق لسان ) القول، ومعنى كونها تفسيرية : أن ذلك الذي أوحي إلى موسى يفسره ما بعد ( أن ) وهو الأمر بضرب الحجر لتنبجس منه اثنتا عشرة عينا. وبعض علماء العربية يقولون : لا مانع من دخول أن المصدرية على الأفعال الطلبية، وعليه فتكون مصدرية على هذا القول.
قوله :﴿ أن اضرب بعصاك ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٠ ] العصا معروفة، يعرفها كل أحد، وألفها مبدلة من واو، فلو ثنيت لقيل فيها :( عصوان ) ومنه قول ذي الرمة - غيلان بن عقبة - :
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه | على عصويها سابري مشبرق |
قال في سورة البقرة :﴿ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ﴾ [ البقرة : آية ٦٠ ] وقال في سورة الأعراف هنا :﴿ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ﴾ وأكثر علماء العربية على أن معنى ( الانبجاس ) و( الانفجار ) أن معناهما واحد واللفظ مختلف، فكل من الانبجاس والانفجار انشقاق واسع ينحدر منه الماء بقوة. وزعم قوم أن الانبجاس أنه يكون أولا قليلا ثم لم يزل يكثر حتى يكون انفجارا. وعلى هذا فقد ذكر في سورة الأعراف بدء انفجار الماء، وفي سورة البقرة منتهاه، والأظهر أنهما سواء، وهو معروف في كلام العرب، وقد قال العجاج :
وانحلبت عيناه من فرط الأسى | وكيف غربي دالج تبجسا |
وقوله :﴿ اثتنا عشرة عينا ﴾ العين معروفة، وهو كل ماء كثير تسميه العرب عينا.
﴿ قد علم كل أناس ﴾ ( الأناس ) اسم جمع لا واحد له من لفظه، والمعنى : أن كل أمة من أمم بني إسرائيل علموا مشربهم، أي : عينهم التي يشربون منها ؛ لأنهم اثنتا عشرة أسباطا أمما،
واذكر يا نبي الله خسائس هؤلاء اليهود العريقة في أسلافهم ؛ ليعلم بذلك أن تكذيبهم لك وإنكارهم لما عندهم من صفاتك أنه أمر أصله فيهم وفي أسلافهم. واذكر ﴿ إذ قيل لهم ﴾ حين قال لهم الله على ألسنة أنبيائه ﴿ اسكنوا هذه القرية ﴾ قوله :﴿ اسكنوا ﴾ أمر من السكنى لا بد من السكون الذي هو ضد الحركة ؛ لأن الأمر بالسكون الذي هو ضد الحركة سجن وحبس، فهو أمر بالسكنى، وأن يتخذ ذلك البلد مسكنا، وكون البلد مسكنا له لا ينافي أن يتجول في أنحائه ويتنعم فيها، كما قال هنا بعد الأمر بقوله :﴿ اسكنوا ﴾ ﴿ وكلوا منها حيث شئتم ﴾ هذا معنى قوله :﴿ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية ﴾.
وأكثر المفسرين على أن هذه القرية هي بيت المقدس. وبعض المفسرين يقول : هي أريحا. وبعضهم يقول غير ذلك. فهي قرية في فلسطين من قرى الشام ؛ لأن الشام كان يطلق أولا على ما يضم دمشق وفلسطين والأردن وغير ذلك من نواحيه، وهذا معنى قوله :﴿ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية ﴾. القرية : هي المحل الذي يجتمع فيه السكان، من : قريت الماء في الحوض، إذا جمعته.
﴿ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها ﴾ أي : كلوا من ثمارها وحبوبها وزروعها حيث شئتم ؛ لأنهم كانوا في التيه يتمنون الأكل من ذلك كما قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله :﴿ فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصله ﴾ وقد قال لهم :﴿ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ﴾ [ البقرة : آية ٦١ ] ولما أمروا بدخول هذه القرية وبسكناها أمروا بالأكل من ذلك أمر إباحة وتكريم ﴿ وكلوا منها ﴾ أي : من ثمارها وحبوبها وزروعها وغير ذلك.
وقوله :﴿ حيث شئتم ﴾ أصل ( حيث ) في لغة العرب كلمة تدل على المكان كما تدل ( حين ) على الزمان، ورما ضمنت معنى الشرط، ويجوز في العربية لا في القراءة تثليت فائها وإبدال يائها واوا كما هو معروف في علم العربية.
وقوله :﴿ شئتم ﴾ أي : من أي مكان من هذه القرية أردتم أن تأكلوا من ثمارها وحبوبها، وهذا معنى قوله :﴿ كلوا منها حيث شئتم ﴾ وهذا الأكل رغدا بدليل ما تقدم في سورة البقرة :﴿ كلوا منها حيث شئتم رغدا ﴾ [ البقرة : آية ٥٨ ].
وقوله :﴿ وقولوا حطة ﴾ لما كان في التيه مات نبي الله هارون أولا، ثم مات موسى في التيه كما أطبق عليه المؤرخون. ثم إن خليفة موسى كان يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف، وهو الذي فتح الله عليه هذه القرية قرية الجبارين بيت المقدس أو أريحا، وقيل غير ذلك. لما فتح الله عليهم أمرهم أن يشكروا لله نعتمه التي أنعمها عليهم فأمرهم بقول، وأمرهم بفعل، أما الفعل : فقد أمرهم بان يدخلوا الباب سجدا، أي : يدخلوا من باب القرية التي فتحها الله لهم سجدا. قال بعض العلماء : المراد بالسجود هنا : الركوع تواضعا وانحناء وتعظيما لله، وشكرا له على نعمة الفتح. وقال بعض العلماء : هو السجود على الجبهة، يسجدون. ثم أنهم أمروا أيضا بقول، وهو أن يدخلوا الباب وهم يقولون :( حطة ) وأكثر المفسرين – وهو ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة- أنهم تعبدوا بهذه اللفظة ( حطة ). وقراءة الجمهور التي لا يجوز العدول عنها :﴿ حطة ﴾ بالرفع، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي : مسألتنا حطة، والحطة فعلة من الحط الذي هو الوضع. والمعنى : مسألتنا لربنا هي حطة لذنوبنا وأوزارنا. معناه : مسألتنا لك أن تحط عنا ذنوبنا وأوزارنا. فهي كلمة استغفار تؤذن بحط الذنوب ووضع الأوزار، وهي خبر مبتدأ محذوف، ( فعلة ) من الحط، بمعنى الوضع، هذا معناه. وقال بعض العلماء : الحطة : الكلمة التي تحط الذنوب، وهي لا إله إلا الله، والقول الأول أظهر. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أنهم أمروا بقول وأمروا بفعل، وأمرهم بالقول والفعل كلاهما مذكور في القرآن ؛ لأن الله أمرهم بأن يدخلوا الباب سجدا، وهو الفعل الذي أمروا به، وأمرهم أن يقولوا : حطة، وهو القول الذي أمروا به، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره أنهم بدلوا القول الذي قيل لهم بقول غيره، وبدلوا الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره ؛ ولذا قال تعالى :﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٢ ] قال بعض العلماء : في الكلام حذفان، أي : فبدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم، وبالفعل الذي قيل لهم فعلا غير الذي قيل لهم ؟، فالفعل الذي قيل لهم – وهو دخولهم الباب سجدا- بدلوه فدخلوا يزحفون على أستاههم، كما ثبت في حديث البخاري المذكور، وبدلوا القول الذي قيل لهم فقالوا مكان حطة : حبة في شعرة. وفي بعض روايات الحديث في غير البخاري : حنطة في شعره. فبدلوا القول وبدلوا الفعل، وقابلوا نعم الله بالكفران والمعصية في الأقوال والأفعال –عياذا بالله- وهذا معنى قوله :﴿ وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطياتكم ﴾ [ الأعراف : آية ١٢١ ].
في هاتين الكلمتين بضميمة إحداهما إلى الأخرى أربع قراءات سبعيات كلها صحيحة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأه نافع وحده من السبعة ﴿ وادخلوا الباب سجدا تغفر لكم خطيئاتكم ﴾ بضم تاء ( تغفر ) وفتح الفاء مبنيا للمفعول. و( خطيئاتكم ) هو جمع مؤنث سالم، هو سالم نائب فاعل ( تغفر ) فهذه قراءة نافع وحده.
وقرأه الشامي –أعني ابن عامر- وحده من السبعة :﴿ وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا تغفر لكم خطيئتكم ﴾ فقراءة ابن عامر كقراءة نافع إلا أن نافعا قال :﴿ خطيئاتكم ﴾ بالجمع، وابن عامر قرأ ﴿ خطيئتكم ﴾ بالإفراد، واكتسب العموم من إضافتها إلى الضمير.
وقرأ أبو عمرو وحده :﴿ وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم ﴾ ب( نغفر ) بنون العظمة، و( خطاياكم ) جمع تكسير.
وقرأ الباقون من السبعة وهم : ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي :﴿ وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئتكم ﴾ بكسر التاء جميعا مؤنثا سالما، والكسرة علامة النصب. هذه القراءة –في الآية- الصحيحة، ومعناها شيء واحد كما ترون.
الغفران في لغة العرب : هو الستر والتغطية.
والخطايا والخطيئات : جمع خطيئة وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال يقال لها :( خطيئة ) و ( خطء ) ومنه قوله :﴿ إن قتلهم كان خطأ كبيرا ﴾ [ الإسراء : آية ٣١ ] ويقال لمرتكبها عمدا :( خاطئ ) ومنه قوله :﴿ ناصية كاذبة خاطئة ١٦ ﴾ [ العلق : آية ١٦ ] وقوله :﴿ ولا طعام إلا من غسلين ٣٦ لا يأكله إلا الخاطئون ٣٧ ﴾ [ الحاقة : الآيتان ٦٣، ٦٧ ] فالخاطئ بصورة الفاعل إنما هو على مرتكب الخطيئة عمدا، أما مرتكب الذنب غير عامد فهو المسمى بالمخطئ، فلا يقال له : خاطئ كما هو معلوم.
وعلى قراءة ( نغفر ) فصيغة الجمع للتعظيم، عظم الله ( جل وعلا ) نفسه. هذا معنى قوله :﴿ نغفر لكم خطيئتكم ﴾.
﴿ سنزيد المحسنين ﴾ [ الأعراف : آية ١٦١ ] هذا استئناف، فكأن قائلا قال : وماذا بعد غفران الخطايا ؟ قال : سنزيد المحسنين. السين للتنفيس، وهو وعد صادق من الله.
واختلفت عبارات المفسرين في المراد بالمحسنين، ولا ينبغي أن يختلف فيه ؛ لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد فسر المحسنين تفسيرا ثابتا في الصحيح فلا ينبغي العدول عنه لغيره وذلك ما هو مشهور في حديث جبريل لما جاء في صورة الأعرابي وقال للنبي صلى الله عليه وسلم :( يا محمد أخبرني عن الإحسان ). فقال صلى الله عليه وسلم :( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ). وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن سؤال جبريل هذا ليعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإحسان أنه سؤال عظيم محتاج إليه غاية الحاجة، وذلك أن الله ( جل وعلا ) بين في آيات من كتابه أن الحكمة التي خلق من أجلها خلقه وسماواته وأرضه هي أن يبتلي الخلق، أي : يختبرهم في شيء واحد هو إحسانهم العمل ليظهر من يحسن منهم عمله ومن لا يحسنه، كما قال تعالى في أول سورة هود :﴿ خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ﴾ ثم بين الحكمة فقال :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ هود : آية ٧ ] ولم يقل : أيكم أكثر عملا. وقال في أول سورة الكهف :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ﴾ ثم بين الحكمة بقوله :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ الملك : آية ٢ ] فاتضح في هذه الآيات أن الإحسان هو الذي خلقتم من أجل الابتلاء فيه –ولا ينافي هذا القول :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ﴾ [ الذاريات : آية ٥٦ ] أي : إلا آمرهم بالعبادة على ألسنة رسلي فأبتلي محسنهم من غير محسنهم، كما لا يخفى –صار الإحسان محتاجا إلى معرفته ؛ ولذا سأل جبريل عنه وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم أنه :﴿ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ﴾. والإحسان مصدر أحسن العمل يحسنه إحسانا إذا جاء حسنا متقنا لا نقص فيه ولا وصم. وإحسان العمل لا يمكن إلا بمراقبة خالق هذا الكون ( جل وعلا ).
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن العلماء أجمعوا على أنه لم ينزل الله واعظا من السماء إلى الأرض ولا زاجرا أكبر من واعظ المراقبة المعبر عنه هنا بالإحسان، وقد ضرب العلماء لهذا مثلا قالوا : لو فرضنا أن في هذا البرج من الأرض ملكا عظيم البطش، شديد النكال، وسيافه قائم على رأسه، و النطع مبسوط، والسيف يقطر منه الدم –ولله المثل الأعلى- وهذا الملك الذي هذا بطشه وشدته ينظر، أترى أن أحدا من الحاضرين يهتم بريبة مع بناته أو زوجاته أو نسائه ؟ ! لا، كلهم خاشع الطرف، ساكن الجوارح، أمنيته السلامة –ولله المثل الأعلى- فرب العالمين أعظم اطلاعا وأشد بطشا، وحماه في أرضه محارمه، فمن لا حظ أن رب السماوات والأرض مطلع عليه، وأنه يرى كل ما يفعل إن كان عاقلا لا بد أن يحاسب.
ولو علم أهل بلد أن أمير ذلك البلد بات مطلعا على كل ما يفعلون من القبائح والخسائس لكفوا عن كل ما لا ينبغي، ولم يرتكبوا إلا ما يجمل القلوب –ولله المثل الأعلى- فكيف بخالق السموات والأرض الذي يعلم خطرات القلوب، وكيف يجهل القلوب خالق خطرات القلوب ؟ ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾ [ الملك : آية ١٤ ] ﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ١٦ ﴾ [ ق : آية ١٦ ] معناه : أن المحسنين الذين يراقبون الله ويعبدونه كأنهم يرون أن الله يزيدهم على هذه المراقبة وهذه النية وهذا الإحسان للعمل يزيدهم أجرا على أجرهم. وقد جاءت آية في سورة يونس تدل على أن إحسان العمل يزيد الله صاحبه النظر إلى وجهه الكريم كما يأتي في تفسير قوله :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ [ يونس : آية ٢٦ ] فقد جاء في الصحيح أن المراد بالحسنى : الجنة، والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم. وبذلك فسر بعض العلماء قوله تعالى في ( ق ) :﴿ لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ٣٥ ﴾ [ ق : آية ٣٥ ] ومعنى الآية : أن المحسنين الذين يراقبون الله عند الأعمال ويعبدونه كأنهم يرونه يزيدهم أجرا، ولا مانع من أن يكون مما يزيدهم : النظر إلى وجهه الكريم كما فسرت به آية يونس المذكورة آنفا. وهذا معنى قوله :﴿ سنزيد المحسنين ﴾ [ الأعراف : آية ١٦١ ].
وقائلة ظلمت لكم سقائي | وهل يخفى على العكد الظليم |
وصاحب صدق لم تردني شكاته | ظلمت وفي ظلمتي له عامدا أجر |
إلا الأواري لأيا ما أبينها | والنؤي كالحوض في المظلومة الجلد |
فأصبح في غبراء بعد إشاحة | من العيش مردود عليها ظليمها |
وقوله :﴿ فأرسلنا عليهم ﴾ هو معنى :﴿ فأنزلنا ﴾ [ البقرة : آية ٥٩ ] عليهم في سورة البقرة.
﴿ رجزا من السماء ﴾ الرجز بكسر الراء : العذاب. قال المفسرون : هو طاعون أنزله الله فأهلك منهم سبعين ألفا في مدة قليلة.
وقوله :﴿ بما كانوا يظلمون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٢ ] الباء سببية و( ما ) مصدرية. أي : بسبب كونهم ظالمين واضعين الأمر في غير موضعه حيث يعصون الله ويطيعون الشيطان، ويقابلون النعم بالمعاصي. وهذا معنى قوله :﴿ فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٢ ].
قصة هذه القرية كان يخفيها اليهود لأنها سبة عليهم، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بها وسؤالهم عنها مع أنه نبي أمي من معجزاته وأدلة نبوته ؛ لأنه ما علمها إلا عن طريق الوحي.
وسنذكرها ملخصة موجزة ثم نذكرها مفصلة في الآيات التي شرحتها. وقد ألممنا بهذه القصة في هذه الدروس في سورة البقرة في الكلام على قوله :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ٦٥ ﴾ [ البقرة : آية ٦٥ ] فآيات سورة الأعراف هنا بسط وشرح لقوله في البقرة :﴿ ولقد علمتهم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ٦٥ ﴾.
هذه القرية يزعم المفسرون – أغلبهم وأكثرهم- أنها قرية تسمى ( أيلة ) قريب من العقبة، على ذلك الشاطئ، بين الطور ومدين، وأنها في زمن داود ( عليه السلام ) كان محرم عليهم الاصطياد في السبت كما تقدم في قوله :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ﴾ [ المائدة : آية ٧٨ ] وكان يشتد قرمهم إلى لحم السمك – والقرم بفتحتين : شهوة اللحم- وكان الله افتتنهم فتنة، كان إذا كان يوم السبت جاءهم السمك على وجه البحر أفواجا أفواجا كالكباش البيض حتى يتمكن كل إنسان من اخذ ما شاء منه في أحسن حال وأسمنها، فإذا غربت شمس يوم السبت تمنع في البحر فلا يقدرون على شيء منه ! ! وهذا ابتلاء وامتحان لهم، فمكثوا من الزمن بهذا ما شاء الله، ثم بعد ذلك اشتدت شهوتهم إلى اللحم فصاروا يحتالون على السمك يوم الجمعة –مثلا- فيحفون فيجرون في الماء أخاديد يسيل فيها الماء، فإذا انتهت حفروا حفرا عميقة، فإذا جاء الحوت مع تلك الأخاديد المائية نزل في الحفرة فلا يقدر على الرجوع فأخذوه يوم [ الأحد ] ! ! وكان بعضهم –فيما يقولون- يجعل في ذنب الحوت خيطا ويدق وتدا على الشاطئ، ويمسك رأس الخيط فيه، ويبقى الحوت في الماء ممسكا بالخيط، فإذا غربت شمس يوم السبت جاء وأخذه، فلما فعلوا هذه الحيل ولم يعاجلهم العذاب كأنهم تجرؤوا وتشجعوا وقالوا : لعل حرمة صيد السمك رفعها الله ؛ لأنه لم يفعل بنا بأسا، فلم يزالوا يتدرجون في الحيل حتى صار بضعهم يصطاده علنا ويملحونه ويبيعونه في الأسواق، وكانوا ثلاث طوائف :
طائفة باشرت العدوان يوم السبت واصطياد السمك، وطائفة نهتهم عنه وقالوا :﴿ معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٤ ] وطائفة قالوا للذين نهيتهم :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾. والله بين أن الذين اعتدوا في السبت عذبهم عذابا بئيسا وهو مسخهم قردة، وقيل : بعضهم خنازير، كما يأتي تفصيله، كما ذكره في قوله :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ١٦٦ ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٦ ] وفي قوله :﴿ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٥ ].
والطائفة الذين نهت أنجاهم الله كما ذكره بقوله :﴿ أنجينا الذين ينهون عن السوء ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٥ ] وبقيت الطائفة التي قالت :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم ﴾ فبعض العلماء يقول : هم مع الهالكين، والمحققون يقولون : هم ناجون ؛ لأنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا لقومهم :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٤ ] وذكروا عن عكرمة أنه كان يقول : إن ابن عباس ما كان يدري هل نجوا أو أهلكوا حتى أقنعه عكرمة بأنهم نجوا فكساه حلة. ومن أظهر الأدلة في أنهم نجوا قوله تعالى :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة ﴾ [ البقرة : آية ٦٥ ] فرتب بالفاء قوله :﴿ قردة ﴾ لخصوص الذين اعتدوا، وهؤلاء لم يعتدوا بل إنما لم يذكر عنهم أنهم نهوا. ولما كانوا يفعلون هذا، وصاروا يصطادون السمك علنا، ونهاهم قومهم قال لهم قومهم : والله لا نساكنكم ؛ لأنا نخاف أن ينالنا العذاب الذي سينزل عليكم. فيذكر المفسرون في قصتهم أنهم قسموا القرية، ويزعمون أن الذين اصطادوا قربا من سبعين ألفا، وأن الذين نهوا قربا من اثني عشر ألفا، والله أعلم. فهي إسرائيليات لم يثبت فيها شيء. قالوا : فجعلوا بينهم حائطا، وقسموا القرية بينهم نصفين، لكل منهم مدخل ومخرج غير مدخل الثاني ومخرجه، فمكثوا على ذلك ما شاء الله، ثم لما كان ذات يوم فإذا قرية المعتدين لم يفتح بابها، ولم يخرج منها أحد، فتسوروا عليهم الحائط فوجدوهم –والعياذ بالله- مسخوا قردة، يذكر المفسرون أن الواحد من القردة يعرف نسبه من الآدميين الذين لم يمسخوا فيجيئه ويتمسح به ويبكي، وأن الآدميين يقولون : ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله ؟ وأنهم يشيرون برؤوسهم أن نعم –هكذا- وسيأتي هذا مفصلا بحسب الآيات التي ذكره الله فيها من سورة الأعراف هذه. وهذا معنى قوله :﴿ وسألهم ﴾ يا نبي الله.
قرأه أكثر السبعة :﴿ وسألهم ﴾ وخفف بعضهم بنقل الحركة ﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾.
﴿ حاضرة البحر ﴾ معناها : مبنية على شاطئه بحضرته قريبا منه، وهو على ما يقوله أكثر المفسرين قرية تسمى ( أيلة ) خلافا لمن زعم أنها ( مدين )، ومن زعم أنها ( طبرية )، ومن زعم أنها تسمى معنى، ومن زعم أنها تسمى ( مقنات ) فكل هذا إسرائيليات، ولكن أكثر الأخبار والروايات أنها ( أيلة ) كما ذكرنا. وهذا معنى قوله :﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٣ ] اسألهم عنهم حين ﴿ يعدون في السبت ﴾.
﴿ يعدون ﴾ معناه : يجاوزون حدود الله، وينتهكون أوامره باصطياد السمك يوم السبت ﴿ إذ تأتيهم ﴾ حين يأتيهم ﴿ حيتانهم ﴾ الحيتان : جمع حوت، وياؤه مبدلة من واو ؛ لأن أصل الحوت ثلاثي واوي العين، زيدت في جمعه الألف والنون وأبدلت الواو ياء لسكونه بعد كسرة، كما في ( الميزان ) من الوزن، و( الميعاد ) من الوعد، و( الميقات ) من الوقت، و ( الحيتان ) ياؤه مبدلة من واو جمع حوت.
﴿ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم ﴾ السبت مصدر سبت اليهود سبتا إذا عظموا يوم السبت بالانقطاع للعبادة فيه وترك صيد السمك. وهذا معنى قوله :﴿ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٣ ] ﴿ شرعا ﴾ جمع شارع. قال بعض العلماء : تأتيهم مقبلة، وتأتيهم الحيتان مقبلة ظاهرة على وجه الماء كأنهم صفوف كثيرة حتى تستر وجه الماء من كثرتها، فالشرع على هذا بمعنى الظاهرة المقبلة على وجه الماء، والعرب تقول : شرعت على فلان فوجدته يفعل كذا. معناه : أقبلت عليه حتى قربت منه فوجدته يفعل كذا.
﴿ ويوم لا يسبتون ﴾ أي يوم لا يعظمون السبت ؛ لأنه يوم آخر من أيام الأسبوع ﴿ لا تأتيهم ﴾ فتنة لهم وامتحانا ﴿ كذلك نبلوهم ﴾ ﴿ كذلك ﴾ البلاء العظيم ﴿ نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾. ﴿ نبلوهم ﴾ معناه : نختبرهم بسبب كونهم فاسقين، فقد ابتلوا بالطمع ولم ينجحوا، وقد ابتلوا بالخوف ولم ينجحوا، لأن الابتلاء الذي يميز ذهب الرجال من زائفهم هو الطمع والخوف، فإن المحن الذي يظهر بها ذهب الرجال وإبريزهم إنما هي محن الخوف والطمع، وقد ابتلى الله أمة موسى بالخوف والطمع، وابتلى أمة محمد بالخوف والطمع، فنجح أمة محمد ولم تنجح أمة موسى ؛ لأن الطمع الذي ابتلى الله به بني إسرائيل هو هذه القرية التي ذكرنا، وسيأتي أنهم اصطادوا السمك في السبت فمسخوا قردة كما يأتي في قوله :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٦ ] والعياذ بالله ؛ لأنهم لم يصمدوا أمام الطمع، ولم تقو شكائمهم أمام الطمع، بل ذابوا وانماعوا أمام طمع شهوة اللحم. وكذلك لما ابتلاهم بالخوف في جهاد الجبارين وقال لهم :﴿ ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ﴾ [ المائدة : آية ٢١ ] فجبنوا ولم يشجعوا. وقال تعالى عنهم إنهم قالوا :﴿ إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ﴾ [ المائدة : آية ٢٢ ] وقد قالوا لنبيهم :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ٢٤ ﴾ [ المائدة : آية ٢٤ ] فلم يثبتوا أمام عواصف الطمع، ولم يثبتوا أمام عواصف الخوف، بخلاف هذه الأمة الكريمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلاهم بالطمع بنفس الصيد، وذلك في غزوة الحديبية في ذي القعدة من عام ست، ابتلاهم الله وهم في سفر وشدة قرم - يعني شدة شهوة إلى اللحم- ابتلاهم بأن يسر لهم جميع أنواع الصيد وهم محرمون، كبير صيد وصغيره من أنواع الوحوش والطير وغير ذلك فلم يمد رجل منهم يده إلى شيء من ذلك، فنجحوا ولم تزعزعهم عواصف الطمع، بل ثبتوا أمامه ثبوت الرجال، وهنا قد تقدم في قوله :﴿ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ٩٤ ﴾ [ المائدة : ٩٤ ] فثبتوا ولم تزعزعهم عواصف الطمع، وكذلك ابتلاهم بالخوف لما سافر النبي صلى الله عليه وسلم سفره في غزوة بدر الكبرى كما سيأتي تفاصيله في سورة الأنفال –إن شاء الله تعالى- وقد خرج لأجل عير في ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا يريدون عيرا ليأخذوها، فجاءهم جيش عرمرم، نفير مسلح، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش وذكر أمرهم لقومه –وهو أمر مخيف ؛ لأنه جيش عظيم في عدده وعدده وهم قليلون كما قال تعالى :﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ﴾ [ آل عمران : آية ١٢٣ ] هم قليل عددهم وعددهم بالنسبة إلى عدوهم فلما عرض ذلك عليهم –قال له المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود من بني بهراء من قبائل اليمن، حليف قريش، قال له : والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا من دونه معك، ولو خضت بنا البحر لخضناه، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى. فلما أعاد الكلام قال له سعد بن معاذ ( رضي الله عنه وأرضاه ) : كأنك تعنينا معشر الأنصار ؟ قال : نعم. لأن الأنصار اشترطوا عليه ليلة العقبة أنهم يحمونه مما يحمون منه أبناءهم ونساءهم في نفس المدينة، ولم يشترطوا له الخارج عن بلادهم، فكان صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا يكونوا معه في الخارج عن ديارهم، فلما قال له سعد بن معاذ ( رضي الله عنه ) : كأنك تعنينا معشر الأنصار ؟ قال له : نعم. قال كلامه المعروف المشهور في المغازي والتاريخ –العظيم الدال على عظيم الثبات- الذي يقول فيه : والله إنا لقوم صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ووالله ما نكره أن تلقى بنا عدوك حتى ترى منا ما يقر عينك، والله لقد تخلف عنك بالمدينة أقوام لو علموا أنك تلقى كيدا ما تخلف عنك منهم أحد. ونحو هذا من الكلام ؛ فثبتوا وصمدوا عند هذا الخوف العظيم، وثبتوا أمام هذا الطمع العظيم، بخلاف الإسرائيليين –كما بينا وكما جاء هنا في الأعراف- من سقوطهم أمام الطمع، وكما قدمنا في سورة المائدة من سقوطهم أمام الخوف. وهذا معنى قوله :﴿ إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٣ ] البلاء معناه الاختبار، وهو يقع بالخير والشر، كما قال :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٨ ] ولم ينجحوا في هذا البلاء إلا الذ
قرأ هذه الحرف عامة القراء منهم السبعة غير عاصم في رواية حفص خاصة :﴿ معذرة إلى ربكم ﴾ بضم التاء، وقرأه عاصم وحده في رواية حفص :﴿ معذرة إلى ربكم ﴾ بنصب التاء.
أما على قراءة الجمهور ف﴿ معذرة ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي : موعظتنا لهؤلاء معذرة عند الله. أو هذه الموعظة معذرة.
أما على رواية حفص عن عاصم :﴿ معذرة إلى ربكم ﴾ ففي إعرابه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول من أجله، أي : وعظناهم لأجل المعذرة. أي : لنقيم عذرنا عند الله.
الثاني : أنه مفعول مطلق، أي : نعتذر معذرة عند الله جل وعلا.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وإذ قالت أمة منهم ﴾ واذكر يا نبي الله ﴿ وإذ قالت ﴾ حين قالت أمة منهم :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم ﴾ الميم في قوله :﴿ لم تعظون ﴾ هي ما الاستفهامية. والمقرر في علم العربية أن ما الاستفهامية إذا جرت حذف ألفها كما هو معروف، والمعنى : لأي موجب تعظون ؟ ( تعظون ) مصدر وعظه يعظه إذا كلمه كلاما يلين له قلبه لينتهي عما لا يرضي الله. ﴿ لم تعظون ﴾ لأي موجب وأي حكمة تعظون قوما متمردين متمادين على العصيان وعدم الانفكاك ﴿ الله مهلكهم ﴾ إهلاك استئصال ﴿ أو معذبهم عذابا شديدا ﴾ لجراءتهم عليه وانتهاكهم حرماته.
وهذه الطائفة قال بعض العلماء : هي أشد الذين نهوا، وإنما قالت :﴿ لم تعظون ﴾ لأنها جربت وعظهم وعلمت أنهم لا فائدة فيهم ولا ينزعون ولا يقلعون. وقال بعض العلماء : هذه الطائفة الثالثة التي لم تباشر الاعتداء في السبت ولم تنه الذين اعتدوا في السبت. وقد ذكرنا بالأمس أن العلماء ( رضي الله عنهم )، كما يدل عليه ترتيبه بالفاء في قوله :﴿ فقلنا لهم كونوا قردة ﴾ [ البقرة :]ة ٦٥ ] في سورة البقرة على خصوص الاعتداء في السبت خاصة في قوله :﴿ ولقد علمتهم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة ﴾ فرتب قوله :﴿ كونوا قردة ﴾ على خصوص الاعتداء في السبت. وهذا معنى قوله :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم ﴾ إهلاكا مستئصلا ﴿ أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ﴾ نعتذر بموعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. أو وعظناهم لأجل المعذرة عند ربكم ﴿ ولعلهم يتقون ﴾ ولرجائنا أيضا أن تؤثر فيهم الموعظة فيتقوا الله ويكفوا عن ما هم مصرون عليه من ارتكاب هذا الذنب العظيم الذي هو صيد السمك يوم السبت.
وهذا الآية الكريمة جاء فيها بيان حكمتين من حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأن استقراء القرآن دل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له حكم ثلاث تضمنت هذه الآية من سورة الأعراف من تلك الحكم الثلاث اثنتين، أما الحكم الثلاث :
فالأولى منها : أن يقيم الإنسان عذره أمام ربه، ويخرج بذلك الأمر من عهدة التقصير في الآمر بالمعروف ؛ لئلا يدخل في قوله :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ٧٩ ﴾ [ المائدة : آية ٧٩ ] وهذه الحكمة أشاروا لها بقوله :﴿ معذرة إلى ربكم ﴾.
الحكمة الثانية : هي رجاء انتفاع المذكر، كما قال هنا عنهم :﴿ ولعلهم يتقون ﴾ وذكر الله هذه الحكمة في قوله :﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ٥٥ ﴾ [ الذاريات : آية ٥٥ ].
الحكمة الثالثة : من حكم الأمر بالمعروف التي لم تذكر في هده الآية الكريمة : هي إقامة الحجة لله على خلقه في أرضه نيابة عن رسله ؛ لأن الله يقول :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ [ النساء : آية ١٦٥ ] فأهل العلم يقيمون حجة الله على خلقه بإقامة الحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن الرسل في ذلك، وهذا معنى قوله :﴿ معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٤ ].
أحدهما : نسيان الشيء بأن ينساه الناسي ويزول علمه منه فيكون ناسيا له غير ذاكر.
والثاني : يطلق النسيان على ترك العمل عمدا وهو المقصود هنا، منه قوله تعالى : نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : آية ٦٧ ] أي : تركوه فتركهم ؛ لأن الله لا ينسى، كما قال تعالى :﴿ وما كان ربك نسيا ﴾ [ مريم : آية ٦٤ ] ﴿ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ٥٢ ﴾ [ طه : آية ٥٢ ] فالنسيان هنا معناه الترك عمدا، وهو أسلوب عربي معروف، تقول العرب : نسي الأمر وتناساه. إذا صد عنه وأعرض وتركه عمدا، ومنه على أصح التفسيرين قوله عن آدم :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ﴾ [ طه : آية ١١٥ ] أي : ترك ذلك الأمر لما قاسمه الشيطان، كما تقدم إيضاحه، وهذا معنى قوله :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ﴾ المراد بالسوء هنا هو معصية الله ( جل وعلا ) وانتهاك حرمته باصطياد السمك في السبت، وكل معصية من معاصي الله فهي من السوء ؛ لأنها تسوء صاحبها إذا نظرها في صحيفته يوم القيامة.
﴿ وأخذنا الذين ظلموا ﴾ أي : ارتكبوا الجريمة وعصوا الله واصطادوا السمك في السبت.
﴿ بعذاب بئيس ﴾ في هذا الحرف أربع قراءات سبعيات : قرأ هذا الحرف ابن كثير والكوفيون – أعني عاصما وحمزة والكسائي- :﴿ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ﴾ على وزن ( فعيل ). والعذاب البئيس : هو العذاب الشديد العظيم الذي وقعه شديد على صاحبه.
وقرأه نافع في روايتي ورش وقالون :﴿ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيس بما كانوا يفسقون ﴾ بباء مكسورة بعدها ياء ولا همزة فيه. وأصل هذه القراءة كما قاله بعض العلماء :( بئس ) وزن ( فعل ) فخففت، كما تقول في ( كبد ) :( كبد ) فقيل :( بئس ) وخففت الهمزة أيضا فقيل :( بيس ) ومعناه عائد إلى الأول.
وقرأه ابن عامر :﴿ بعذاب بئس بما كانوا يفسقون ﴾ كقراءة نافع إلا أن ابن عامر همز الياء فقال :﴿ بعذاب بئس بما كانوا يفسقون ﴾.
أما أبو بكر –أعني شعبة عن عاصم- فله روايتان : أحدهما توافق قراءة الجمهور، وهي قوله :﴿ بعذاب بئيس ﴾ وروى أبو بكر شعبة رواية أخرى عن عاصم :﴿ بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ﴾ ( بيئس ) على وزن ( ضيغم ) والعذاب البيئس : هو الشديد أيضا، ورجل بيئس : شديد البأس، ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي :
كلاهما كان رئيسا بيئسا | يضرب في يوم الهياج القونسا |
يهوين في نجد وغورا غائرا | فواسقا عن قصدها جوائرا |
والحاصل أن فيها خلافا معروفا بين علماء العربية : هل هي حرف أو ظرف ؟ وهذا معنى قوله :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه ﴾ والعرب تقول :( عتا يعتو ) إذا تمرد وتكبر. أي : فلما تمردوا وتكبروا.
وقوله :﴿ عن ما نهوا عنه ﴾ في الكلام حذف مضاف دل المقام عليه، وحذف المضاف إذا دل المقام عليه وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي معروف مشهور، وتقدير المضاف المذكور :﴿ فلما عتوا ﴾ أي : فلما تمردوا وتكبروا عن ترك ما نهوا عنه وهو صيد السمك يوم السبت ﴿ قلنا لهم ﴾ صيغة الجمع التعظيم، والقائل هو الله ( جل وعلا ). وصيغة الأمر في قوله :﴿ كونوا ﴾ هي المعروفة بأنها للتكوين.
والقردة : جمع قرد، والقرد هو الحيوان المعروف الذي يعرفه كل الناس.
وقوله :﴿ خاسئين ﴾ جمع تصحيح للخاسئ، والخاسئ في لغة العرب معناه : الحقير الذليل الخسيس ؛ ولذا كانت ( اخسأ ) خطابا للكلاب، كما قال تعالى لأهل النار مخاطبا لهم بالخطاب الذي يؤذن بالخسة والصغار :﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ [ المؤمنين : آية ١٠٨ ]
ومعلوم أن الله إذا قال لهم :﴿ كونوا قردة ﴾ لا بد أن يكونوا قردة ؛ لأنه يقول :﴿ إنما قولنا لشيء إذا ٍأردناه أن نقول له كن فيكون ٤٠ ﴾ [ النحل : آية ٤٠ ] { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ٨٢ ] [ يس : آية ٨٢ ] يذكرون في قصتهم أن المعتدين في السبت لما تمادوا في عتوهم وظلمهم ولم يسمعوا نصيحة قومهم خاف قومهم من البلاء والهلاك الذي سينزل بهم فقسموا القرية بينهم، وجعلوا بينهم حائطا، وصار لهؤلاء باب ولهؤلاء باب، ، فبينما هم ذات يوم إذا أصبحوا والمعتدون لم يخرج منهم أحد، وبابهم مقفول، فتسوروا الحائط عليهم فوجدوهم –والعياذ بالله- قردة، فلما فتحوا الباب ودخلوا عليهم يذكرون في القصة أن القردة تعرف أنسابها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسابهم من القردة، وأن القردة تأتي إلى أنسابهم فتشمها وتبكي، وأنهم يقولون لهم : ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله ؟ فيشيرون برؤوسهم أن نعم، والعياذ بالله تعالى.
واعلموا أن العلماء اختلفوا في الممسوخين هل يمكن أن يكون لهم نسل وعقب ؟ اختلف العلماء في هذا، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا مانع من أن يكون الممسوخون لهم نسل وأعقاب، وأن يكون بعض الحيوانات من نسلهم. وممن انتصر لهذا القول : ابن العربي المالكي.
واستدل أهل هذا القول ببعض الأحاديث الثابتة في الصحيح، منها حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ( رحمهما الله ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ). وفي رواية :( ولا أدري إلا أنها الفأر، ألا ترون أنها إذا وضعت لها ألبان الإبل لم تشرب، وإذا وضعت لها ألبان الشاء شربت ) هذا حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة ( رضي الله عنه ) ذكر فيه صلى الله عليه وسلم أن أمة من بني إسرائيل فقدت، وأنه يظن أنها الفأر. والفأر هو الحيوان المعروف. واستدل على ذلك بأن أصل الإسرائيليين لا يشربون ألبان الإبل، ولا يأكلون لحومها، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في تفسير قوله :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ﴾ [ آل عمران : آية ٩٣ ] فقد ذكرنا سابقا في تفسير هذه الآية أن المفسرين يقولون : إن نبي الله يعقوب –وهو إسرائيل- أصابه مرض عرق النسا فنذر لله إن شفاه الله ليتركن لله أحب الطعام والشراب إليه، فكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فحرمهما على نفسه. ويقولون : إن هذا النوع من النذر كان جائزا في شرعه، وأن اليهود صارت لا تشرب ألبان الإبل ولا تأكل لحومهما. وأن الفأر لا يشرب لبن الإبل ولكنه يشرب لبن الشاء، أي : الغنم ! ! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنه مسخ. وعلى أن الفأر مسخ فالفأر يتناسل. ومما استدل به أهل هذا القول : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بضب فأبى أن يأكله وقال :( لعله من القرون الأولى التي مسخت ) وهذا الحديث الذي رواه مسلم عن جابر روي مسلم أيضا نحوه عن أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنهم ). فهذا الحديث المتفق عليه، وحديث مسلم هذا كأن النبي صلى الله عليه وسلم جوز فيه أن يتناسل الممسوخ.
وذهب آخرون من العلماء إلى أن الممسوخ لا يعيش فوق ثلاثة أيام، ولا يشرب ولا يأكل، ولا يكون له نسل ولا عقب. واستدل أهل هذا القول بما أخرجه مسلم في صحيحه من رواية عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا ) هذا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود، نفى عنه النسل والعقب، وكان أبو عبد الله القرطبي ( رحمه الله ) في تفسير سورة البقرة في الكلام على قوله :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ﴾ [ البقرة : آية ٦٥ ] يقول : إن الصحيح أن التحقيق أن الممسوخ لا يولد له، ولا يكون له نسل ولا عقب، ولا يعيش، وأن هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود، الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يظن بعض الشيء، وأن الله علمه فجزم بأنه لا يكون له نسل ولا عقب. وهذا أظهر وأقرب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم هذا الأخير المذكور من حديث ابن مسعود أن القردة والخنازير كانوا موجودين قبل مسخ إسرائيل، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ١٦٦ ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٦ ].
القردة : جمع القرد، وهو الحيوان المعروف، وهو من أخس الحيوانات، والدليل على أنه من أخس الحيوانات أن الله مسخ في صورته من أراد إذلالهم وإهانتهم وصغارهم، وهذا معروف أن القرد من أخس الحيوانات. وقد قال الشاعر :
قد يكرم القرد إعجابا بخسته | وقد يهان لفرط النخوة الأسد |
( تأذن ) تفعل من الأذان، والأذان في لغة العرب : الإعلام، ومنه أذان الصلاة ؛ لأنه الإعلام بدخول وقتها مع الدعاء لها، وقد قال تعالى :﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ [ التوبة : آية ٣ ] والعرب تقول : آذنني : أعلمني. ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكري :
آذنتنا ببينها أسماء *** رب ثاو يمل منه الثواء
فتأذن معناه تفعل من الأذان بمعنى الإعلام، أي : أعلم الله الخلق. وقال بعض العلماء :( تأذن ) بناء هذا الفعل على ( تفعل ) يجعله كأفعال القسم ؛ ولذا جاء اللام في قوله :﴿ ليبعثن ﴾ معناه أعلم الله جل وعلا. وهذا الإعلام في معنى القسم، أو كأنه مؤكد بالقسم بدليل اللام في قوله :﴿ ليبعثن ﴾.
﴿ ليبعثن عليهم ﴾ أي : ليسلطن عليهم، أي : اليهود ﴿ من يسومهم سوء العذاب ﴾ يسومهم معناه : يذيقهم سوء العذاب. العرب تقول :( سامه العذاب ) إذا أذاقه إياه وعذبه به، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الذل فينا
﴿ إلى يوم القيامة ﴾ يوم القيامة إنما سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون فيه لخالق السموات والأرض، كما قال جل وعلا :﴿ يوم يقوم الناس لرب العالمين ٦ ﴾ [ المطففين : آية ٦ ] وقيل له ( القيامة ) كما قيل الحيازة والصيانة وغير ذلك من الحوز والصون، وهذا معنى قوله :﴿ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٧ ].
وهذه الآية الكريمة من سورة الأعراف فيها التنصيص الصريح من رب العالمين أنه يسلط على اليهود في دار الدنيا حتى تقوم الساعة من يذيقهم سوء العذاب، ويعذبهم أشد التعذيب وأتمه، وهذا قد بينا بعضه مرارا ؛ لأن الله سلط عليهم سابقا بختنصر وأهانهم تلك الإهانة الشديدة، وملك الرومان، وسلط عليهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لما كفروا وتمردوا، فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وذبح مقاتلة بني قريظة، وأجلى خبير، وربنا يقول :﴿ وإن عدتم عدنا ﴾ [ الإسراء : آية ٨ ] وقد بينا في سورة إسرائيل طرفا من هذا ؛ لأن الله يقول :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ٤ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار ﴾ [ الإسراء : الآيتان ٤، ٥ ] يعني : أنهم يجوسون –يمشون- في الأزقة خلال ديارهم محتليها يهينونهم ويعذبونهم، ثم قال في الثانية :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ﴾ [ الإسراء : آية ٧ ] المفسرون والمؤرخون يقولون : إن إحدى المرتين تسليط بختنصر عليهم، والثانية : تسليط ملك الرومان، وأن كلا منهما قتلهم وسبى نساءهم وذراريهم. والله بعد ذلك قال :﴿ وإن عدتم عدنا ﴾ [ الإسراء : آية ٨ ] فعادوا لأكبر الفساد والمنكر زمان النبي صلى الله عليه وسلم فعاد الله لقهرهم وإذلالهم بأن سلط عليهم رسوله ومنع إقامتهم في جزيرة العرب، فكان عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) إذا جاء منهم تاجر أجل له ثلاثة أيام يبيع ويشتري ثم يخرج، ولا يرضى بجلوسهم في جزيرة العرب.
وفي هذه الآية من سورة الأعراف تأذن الله وأعلم أنه سلط عليهم من يسومهم سوء العذاب، إلا أنهم يرد الله لهم الكرة حتى يجتمعوا ويكونوا أمة ؛ لأنهم لو بقوا مقطعين في الأرض لن تقوم لهم قائمة –كما قال :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٨- ولم يكن العذاب والهلاك، ولم يجد موقعا يقع عليه، فصار من عادة الله أن يرد لهم الكرة ويجعلهم أمة حتى يكونوا أمة فيسلط عليهم من يعذبهم ليكون العذاب واقعا موقعه، والله ( جل وعلا ) أصدق من يقول، وهذا معنى قوله :﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾.
﴿ إن ربك لسريع العقاب ﴾ السرعة ضد البطء ؛ لأنه سريع العقاب ؛ لأنه يقول للشيء :( كن ) فيكون، وما أمره إلا واحدة كلمح بالبصر. والعقاب : هو التنكيل بسبب الذنب ؛ لأنه يأتي عقب الذنب ؛ والعرب تقول :( عاقبه معاقبة وعقابا ) إذا نكله بسبب ذنب ارتكبه، وهو معنى مشهور في كلامهم، ومنه قول نابغة ذبيان :
ومن عصاك فعاقبه *** تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد
﴿ وإنه ﴾ جل وعلا } ﴿ لغفور رحيم ﴾ أي : كثير المغفرة لعباده المؤمنين التائبين ؛ الرحيم بهم.
وقد جرت العادة في القرآن أن الله ( تعالى ) يجمع فيه بين الوعد والوعيد ؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين : هما جلب المصلحة، ودفع المضرة، والله ( جل وعلا ) يأتي بالوعد والوعيد ليستحث الناس بذلك إلى طاعته كما قال هنا :﴿ إن ربك لسريع العقاب ﴾ لمن عصاه ﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ لمن أطاعه. كما قال تعالى :﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ٤٩ وأن عذابي هو العذاب الأليم ٥٠ ﴾ [ الحجر : الآيتان ٣٩، ٤٠ ] وكما قال تعالى :﴿ حم١ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ٢ غافر الذنب وقابل التواب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ٣ ﴾ [ غافر : الآيات ١-٣ ] والآيات في مثل هذا كثيرة، وهذا معنى قوله :﴿ إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٧ ].
وبعضهم يقول : من هؤلاء الأمم الصالحة ذلك السبط الذين ساروا في النفق في الأرض سنة ونص السنة حتى خرجوا من وراء الصين. وعلى كل حال فقد كان في اليهود قوم هم على دين موسى حتى ماتوا على ذلك، وقوم كانوا على دين موسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الذين كانوا على دين موسى وأدركوا محمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا به هم الذين ذكر الله في سورة القصص أن لهم أجرهم مرتين : أجر إيمانهم الأول، وأجر إيمانهم الثاني، كما نص الله على ذلك في قوله :﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ٥١ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ٥٢ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ٥٣ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ الآية [ القصص : الآيات ٥١- ٥٤ ]. وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ ومنهم دون ذلك ﴾ أي : ومنهم أمة وناس آخرون دون ذلك الصلاح. أي : منحطون عن مرتبة الصلاح، قاصرون عنها ؛ لارتطامهم في المعاصي أو الكفر بالله جل وعلا.
وهذا الحرف قرأه عامة القراء :﴿ دون ذلك ﴾ بفتح النون ظرفا غير متصرف، ولم يقرأه أحد اسما. وكونه اسما يجوز لغة لا قراءة ؛ لأن العرب تطلق ( دون ) إطلاقين : تطلقها ظرفا جامدا غير متصرف، وتطلقها اسما بمعنى الشيء الردي، ومن إطلاقها اسما : قول الشاعر :
إذا ما علا المرء رام العلاء | ويقنع بالدون من كان دونا |
وقوله :﴿ وبلوناهم ﴾ البلاء : الاختبار. والحسنات جمع الحسنة، والحسنة المراد بها هنا الخصلة الطيبة كالخصب والعافية ؛ لأن الله يبتلي بالطيبات ويبتلي بالبلايا. يبتلي الناس بان يغدق عليهم نعمه ويرزقهم العافية والأموال والأمطار ليبتليهم أيشكروا نعمة الله ؟ وكذلك يبتلي بالسيئات كالجدب والمرض وغير ذلك من البلايا هل ينيبوا إلى الله ؟ فالله ( جل وعلا ) ذكر هنا أنه ابتلى اليهود بالحسنات كسعة الرزق والخصب والصحة والعافية، والسيئات كالأمراض والجدب والزلازل والبلايا ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي : لأجل أن يرجعوا فينيبوا عند أحد الابتلاءين. ودلت الآية على أن منهم طائفة كانوا صالحين كما بيناه مرارا. كقوله :﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء اليل وهم يسجدون ١١٣ ﴾ [ آل عمران : آية ١١٣ ] وقوله :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما انزل إليهم ﴾ الآية [ آل عمران : آية ١٩٩ ]. وهذا معنى قوله :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾.
السيئات : جمع سيئة، وعلماء العربية يقولون : إن أصل السيئة :( سيوئة )، فهي على وزن :( فعلية )، ووزنها بالميزان الصرفي :( فعلية )، والزائد فيها : ياء ( الفعلية )، وحروفها الأصلية هي : السين في مكان الفاء، والواو في مكان العين، والهمزة في مكان اللام. أصل حروفها الصحيحة :( سوء ) بسين، وواو، وهمزة. وياء ( الفعلية ) زائدة، أصلها :( سيوئة ) فاجتمعت الياء والواو، وسكنت أولاهما غير عارضة ولا عارضة السكون، فوجب قلب الواو ياء، وإدغام الياء في الياء، على القاعدة التصريفية المشهورة. فقوله :( السيئة ) هذه الياء المشددة فيها حرفان : أولاهما : ياء ( الفعلية ) الزائدة، والثانية : الواو الواقعة عين الكلمة المبدلة ياء. وإنما سميت السيئة ( سيئة ) لأنها تسوء صاحبها يوم القيامة إذا نظر إليها في صحيفته. وهذا معنى قوله :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٨ ] أي : يرجعون إلى ما يرضي ربهم من طاعته جل وعلا.
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا | لأولنا في طاعة الله تابع |
﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾ والعياذ بالله إذا عرض لهم عرض من حطام الدنيا. العرض : المراد به الشيء الزائل ؛ لأنه عارض زائل مضمحل.
وقوله :﴿ هذا الأدنى ﴾ إشارة إلى متاع الدنيا وحطامها الزائل القليل الذي لا جدوى فيه ﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾ يستعيضونه عما في كتاب الله ؛ لأنهم يأكلون الرشا ويغيرون الأحكام.
وبعض العلماء يقول : الخلف المذكرون هم اليهود الذين كانوا موجودين في زمن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، عندهم التوراة فيها صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ العهود المواثيق عليهم باتباعه فكتموه وغيروا صفاته وبدلوها، حتى أنهم يجدون في التوراة عنهم أنه ( ربعة ) يعني : متوسط القامة، فيكتبون : طويلا مشذبا. وكل وصف يحرفونه ويغيرونه، يأخذون قراطيس يكتبونها عندهم محرفة كما تقدم في الأنعام في قوله :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتحفون كثيرا ﴾ [ الأنعام : آية ٩١ ] يقولون : إنهم كان إذا تخاصم إليهم اثنان وأعطاهم صاحب الحق رشوة حكموا له بكتاب الله التوراة، فإذا أعطاهم المبطل الرشوة تركوا التوراة وجاؤوا بالكتب التي كتبوها بأيديهم، التي قال الله عنها :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ٧٩ ﴾ [ البقرة : آية ٧٩ ] يأتون بالكتاب الذي كتبوه ويحكمون له به بدل الرشوة. ومما ذكر العلماء أنهم كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم لعرض زائل من أعراض الدنيا ؛ لأنهم كانوا يأكلون بالرئاسة الدينية، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم لو أخبروا بأنه نبي الله لزالت عنهم الرئاسة الدنية فضاع المأكل الذي كانوا يأكلون بها، فكتموا وغيروا صفاته حرصا على ما كانوا يتعاطونه برئاستهم الدينية –قبحهم الله- هذا معنى قوله :﴿ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾.
العرض : حطام الدنيا الزائل، سمي عرضا لأنه شيء عارض لا بقاء له. والإشارة في قوله :﴿ هذا ﴾ إلى متاع الدنيا وحطامها الزائل. و﴿ الأدنى ﴾ لدنوه أو لدناءته ورذالته وعدم أهميته. يعني : يأخذون هذا العرض معتاضين منه العمل بكتاب الله وتحقيق ما أنزل الله، فهم يأكلون الرشا ليغيروا أحكام الله ولا يقيموا حكمه في كتابه والعياذ بالله.
وهذه الآية وإن كانت في اليهود فكل من فعل فعلهم فهو أخوهم يناله من وعيدها وعذابها ما نالهم. فيجب على المسلم إذا كان في منصب يوصل فيه الحق لصاحبه بإنابة من بسط الله يده ألا يغير أحكام الله ويأخذ الرشا بدلا منها، فإنه إن أخذ الرشوة وغير وبدل فهو أخو اليهود، وهو من هذا الخلف السيء القبيح. وأقبح شيء يأكله الإنسان هو الرشا وما جرى مجراها من أنواع السحت ؛ لأن السارق خير من المرتشي، لا شك أن السارق أخف شرا من المرتشي ؛ لأن السارق يأخذ مال الناس بغير حق مع أنه عالم أن فعله خسيس وأنه خبيث، ولا يدعي أبدا أن فعله طيب، بخلاف المرتشي –قبحه الله- فإنه يأكل مال الناس بالباطل وهو يزعم أن هذا دين الله وشرعه الذي أنزل به رسله –والعياذ بالله- فمن أقبح المآكل وأخسها الرشا.
وأعظم أنواع الرشا خطرا ارتشاء القاضي الذي هو منصوب ليحكم بين الناس بما أنزل الله، فإذا ترك ما أنزل الله وتعوض عنه عرض هذا الأدنى –والعياذ بالله- فهو أخس خلق الله، والسارق قد يكون أخف شرا منه ؛ لأن السارق هو سارق، ولا يدعي سرقته، ولا يجعلها على الله، ولا على رسوله، ولا يقول : الله أمرني أن أسرق. بخلاف القاضي المرتشي فإنه يزعم أن الله أمره بهذا القضاء، وأن هذا حكم الله، وهو سارق شر سرقة.
وكذلك كل من كان في مصلحة –ولو غير قضاء- جعله فيها ولي أمر المسلمين، وأعطاه ماهية شهرية يتقاضاها، فإنه لا يحوز له أن يعطل حقوق الناس ويقول لهم : بكرة، وبعد بكرة، إلى ألف بكرة ! ! ليرتشي منهم. فإن هذا أمر خسيس قبيح، وفاعله أخو اليهود، لا خير فيه ألبتة، فلا دين له ولا مروءة.
فيجب على المسلمين أن ينزهوا ضمائرهم، وأن يكونوا أمة -ناسا- كالرجال، ولا ينحطوا أمام هذه المطامع الخسيسة المدنسة المحزنة، لأنه رب أكلة قبيحة أعقبت صاحبها شرا عظيما. ألا ترون إلى هؤلاء القوم من اليهود أكلوا سمكا فانظروا ما أعقبتهم هذه الأكلة من الوبال، صاروا قردة –والعياذ بالله- فهذه الآية وإن كانت في اليهود فكل من أخذ بشيء منها فهو أخو اليهود بقدر ما أخذ منها، وسيناله من الوعيد بقدر ما أخذ منه. وهذا معنى قوله :﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾ أي : هذا المتاع والحطام الزائل الأدنى القريب العاجل. أو ( الأدنى ) لدناءته ورذالته، ومع هذا هم يأكلون الرشا ويغيرون أحكام الله، ويدعون على الله أنه يغفر لهم هذه الذنوب ! ! فهذا من الجراءة والجهل وطمس البصائر لا يعلمه إلا الله.
﴿ ويقولون سيغفر لنا ﴾ سيغفر الله لنا أكلنا لهذه الرشا وتبديلنا لهذه الأحكام. وهذا هو الذي جاء فيه :( والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) أتبع نفسه هواها فأكل الرشا، وتمنى على الله أن يغفر له وهو مصر على أكله الرشا وتعوضه حطام هذه الدنيا وعرضها الزائل من أحاكم الله ؛ ولذا قال :﴿ وإن يأتيهم عرض مثله يأخذونه ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٩ ] وإن أصابوا عرضا آخر زائلا من الدنيا أخذوه وأكلوه، ومع هذا يزعمون أن الله يغفر لهم ! ! وهذا هو الغرور، فإذا رأيت المسلم أو من يدعي أنه مسلم ينتهك حرمات الله ويصر ويثق بالمغفرة فاعلم أنه مغرور، وأنه أخو اليهود، ولا يغفر الله له. وهذا معنى قوله :﴿ وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه ﴾.
﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ﴾ الميثاق : معناه العهد المؤكد، فكل ميثاق عهد، وليس كل عهد ميثاقا ؛ لأن العهد لا يسمى ميثاقا إلا إذا كان مؤكدا خاصة. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن كل فعل مضارع مجزوم ب( لم ) إذا تقدمته همزة الاستفهام قبلها ( لم ) كقوله هنا :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ﴾ أن فيه وجهين معروفين من التفسير في جميع القرآن :
أحدهما : أنه تنقلب مضارعته ماضوية، وينقلب نفيه إثباتا. فيكون معنى هذا المضارع المنفي ب( لم ) ماضيا مثبتا، فيكون معنى ﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ﴾ : أخذ عليهم ميثاق الكتاب. ﴿ ألم نجعل له عينين ٨ ﴾ [ البلد : آية ٨ ] : جعلنا له عينين ﴿ ألم نشرح لك صدرك ١ ﴾ [ الشرح : آية ١ ] : شرحنا لك صدرك. وهكذا. ووجه هذا :
أما وجه قلب مضارعته ماضوية فلا إشكالا فيه ؛ لأن ( لم ) حرف قلب يقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى الماضي، وهذا لا إشكال فيه.
أما قلب نفيه إثباتا فهو يحتاج إلى نظر. وقال بعض العلماء : وجه صيرورة نفيه إثباتا : أن ( لم ) حرف نفي صريح، وأن الهمزة التي قبلها همزة استفهام إنكار، والإنكار مضمن معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن في الهمزة على النفي الصريح في لم ) فينفيه، ونفي إثبات، فيؤول إلى معنى الإثبات. وهذا وجه في التفسير في جميع القرآن في كل ما جاء فيه ( ألم ).
الوجه الثاني : أن الاستفهام لا يردا به أصل الاستفهام وإنما يراد به حمل المخاطب على أن يقر فيقول : بلى. وهو المعروف في فن المعاني باستفهام التقرير. والمعنى : أن المراد :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ﴾ أن يقولوا : بلى أخذ علينا ميثاق الكتاب.
وقوله :﴿ أن لا يقولوا على الله ﴾ أخذ عليهم العهد المؤكد أن لا يقولوا على الله شيئا إلا الشيء الحق، فلا يقولون : إن الحكم هكذا. وهو باطل ليتعوضوا الرشا ويأخذوا عرض هذا الأدنى.
﴿ ودرسوا ما فيه ﴾ أي : في الكتاب الذي هو التوراة، درسوه : معناه تعلموه، وفهموا معانيه وعلموا أنه لا يجوز تغير أحكام الله واستعاضة الرشا منها.
ثم قال تعالى :﴿ والدار الآخرة ﴾ هي دار القيامة خير من حطام الدنيا وعرض هذا الأدنى الذي أخذوه ﴿ خير للذين يتقون ﴾ يتقون الله جل وعلا :﴿ أفلا تعقلون ﴾ وقرئ :﴿ أفلا يعقلون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٩ ].
وما تمسك بالعهد الذي زعمت | إلا كما يمسك الماء الغرابيل |
الظرف في قوله :﴿ وإذ ﴾ يقول المفسرون : هو منصوب ب( اذكر ) مقدرا. والدليل على أن العامل في هذا الظرف المحذوف هو ( اذكر ) كثيرة ورود لفظة ( اذكر ) عاملة في ( إذ ) في القرآن، نحو قوله :﴿ واذكروا أخا عاد إذ أنذر ﴾ [ الأحقاف : آية ٢١ ] ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل ﴾ [ الأنفال : آية ٢٦ ] ﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا ﴾ [ الأعراف : آية ٨٦ ] ونحو ذلك من الآيات. واذكر يا نبي الله عناد اليهود ولجاجهم القديم في أسلافهم، ومن جملة ذلك العناد واللجاج والكذب العريق في أسلافهم تكذيبهم برسالتك وإنكارهم لصفاتك الموجودة في كتبهم عندهم.
وقوله :﴿ نتقنا ﴾ العرب تقول :( نتق الشيء ) إذا رفعه. وبعض العلماء يقول : النتق أخص من مطلق الرفع ؛ لأن النتق رفع مع حركة قوية، تقول العرب :( نتقت السقاء ) إذا رفعته وهززته هزا قويا ليخرج زبده.
والجبل هنا هو الطور. وقد ذكرنا رفع الطور عليهم في سورة البقرة وفي سورة النساء. وبعض العلماء يقول : كل جبل طور. وبعض العلماء يقول : الطور أخص من مطلق الجبل، فالطور هو خصوص الجبل الذي تحف به أشجار مثمرة. وعلى هذا القول فكل طور جبل، وليس كل جبل طورا.
والنتق في هذه الآية من سورة الأعراف هو الرفع المصرح به في البقرة والنساء.
والجبل المذكور في الأعراف هو الطور المصرح به في سورة البقرة وفي سورة النساء ؛ لأن الله ذكر رفع هذا الجبل عليهم في سورة البقرة فقال جل وعلا :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ [ البقرة : آية ٦٣ ] وقال في سورة النساء :﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ﴾ الآية [ النساء : آية ١٥٤ ]. ورفع الطور عليهم لأن نبي الله موسى ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ) لما كتب الله له كتابه التوراة بين فيه الحلال والحرام والعقائد وتفصيل كل شيء يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة، كانت فيه أوامر ونواهي زعم اليهود أنها شاقة عليهم فامتنعوا من قبولها، فلما عرض عليهم نبي الله موسى التوراة قالوا : لا نقبل هذا الكتاب، ولا نتحمل هذه الأمور والنواهي التي هي فيه ؛ لأن فيها مشقة علينا. فأمر الله الملك فهز الطور فاقتلعه ورفعه فوقهم قدر معسكرهم. والمؤرخون يقولون : هم قدر فرسخ في فرسخ، فصار الجبل فوقهم بقدرة الله كأنه ظلة، كأنه غمامة تظلهم فوق رؤوسهم، وقيل لهم : إنما هي واحدة من اثنين :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ [ البقرة : الآية ٦٣ ] التزموا ما في التوراة من الأحكام بقوة، أي : بجد واجتهاد بالعمل بما فيه والمحافظة عليه، وإلا سقط عليكم هذا الجبل. فلما نظروا الجبل فوقهم كأنه ظلة خروا ساجدين، كل واحد منهم خر ساجدا على شق جبهته الأيسر، فسجود الواحد منهم بحاجبه الأيسر وعينه اليمنى ناظرة إلى الجبل خوفا من سقوطه إليه، والتزموا العمل بما في التوراة، فرفع الله عنهم الجبل. وكان سجود اليهود على شق الجبهة الأيسر يقولون : هذا السجود هو الذي رفع الله عنا بسببه العقوبة، وهذا معنى قوله :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم ﴾ أي : رفعنا فوقهم الطور لما امتنعوا أن يقبلوا ما في التوراة ﴿ كأنه ﴾ أي : الجبل الذي هو الطور ﴿ ظلة ﴾ كأنه غمامة أو مزنة تظلهم من فوق رؤوسهم، فخافوا أن يسقط عليهم فالتزموا ما في التوراة.
وقوله :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ محكي قول محذوف، والمقرر في علم العربية : أن حذف القول وبقاء مقوله قياسي مطرد معروف لا تكاد تحصيه في لغة العرب وفي القرآن العظيم، أما عكسه –وهو ثبوت القول وحذف المقول- فهو نادر يحفظ ولا يقاس عليه. قال بعض علماء العربية : ومنه قول الشاعر :
لنحن الألي قلتم فأنى ملئتم | برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا |
﴿ وما آتيناكم ﴾ معناه : أعطيناكم في هذا الكتاب المشتمل على خير الدنيا والآخرة، وصيغة الجمع في قوله :﴿ آتيناكم ﴾ للتعظيم ﴿ بقوة ﴾ أي : بعزم وجد واجتهاد.
ويفهم من هذه الآية أنه يجب على من خوطب بأوامر الله في كتبه المنزلة أن يلتزمها بقوة ونشاط واجتهاد، فلا يضعف فيها، ولا يفرط فيها ؛ لأنها لا تمتثل على الوجه الأكمل إلا بالقوة والجد والاجتهاد –أعاننا الله على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والقيام بما في كتابه- وهذا معنى قوله :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ﴾ وهو هذا الذي آتيناكم، يعني : التوراة اذكروا ما فيه من العقائد والأوامر والنواهي، اذكروه ذكر مدارسة وعمل، فتعلموا ما فيه، واعلموا بما فيه ﴿ لعلكم تتقون ﴾ أي : لأجل أن تتقوا بذلك سخط الله وعذابه ؛ لأن ما يتقى به سخط وعذابه هو معرفة أوامره ونواهيه، واجتناب النواهي وامتثال الأوامر كما هو معروف. وهذا معنى قوله :﴿ واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾.
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي | وقبلك ربتني فضعت ربوب |
وقوله :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ﴾ من أولاد أبينا آدم. وقوله :﴿ من ظهورهم ﴾ بدل من ﴿ بني آدم ﴾ بدل بعض من كل.
وقوله :﴿ ذريتهم ﴾ قرأ هذا الحرف ابن كثير والكوفيون –أعني عاصما، وحمزة، والكسائي- :﴿ وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ بصيغة الإفراد، والذرية بالإفراد تعم، وقرأه نافع، وأبو عمرو، وابن عامر :﴿ وإذ أخذ ربك من آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ بجمع السلامة. وكلتاهما قراءة صحيحة متواترة ومعناها صحيح.
﴿ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ﴾ اختلف العلماء في معنى هذا الأخذ –أخذ الذرية- من ظهور بني آدم على قولين : فذهبت جماعة من المفسرين إلى أن معنى أخذهم من ظهور بني آدم هو وجودهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، على طريق التناسل، والمعنى : أن الله خلق بني آدم وخلق من هؤلاء ذرية، فينقضي هذا القرن ويخلق من هذا القرن ذرية كما قال :﴿ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ﴾ [ الأنعام : آية ١٣٣ ] وعلى هذا القول فالأخذ من ظهورهم : هو استخراج النطف من أصلابهم على طريق التناسل قرنا بعد قرن. وعلى هذا القول فقوله :﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ الذين قالوا هذا القول قالوا : أشهدهم على أنفسهم بلسان الحال لا بلسان المقال ؛ لأن الله نصب لهم من الأدلة الواضحة الظاهرة على كمال قدرته وأنه المعبود وحده ما لا يحتاج معه إلى شيء ﴿ ألست بربكم ﴾ يعني : أثبت لهم ربوبيته واستحقاقه للعبادة بما ركز فيهم من الفطرة والعقول، وما نصب لهم من الأدلة، وعلى هذا القول فقوله :﴿ قالوا بلى ﴾ قالوا ذلك أيضا بلسان حالهم، والعرب قد تطلق المقال على مقال لسان الحال، قال بعض العلماء : منه قوله تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ [ التوبة : آية ١٧ ] أي : بلسان حالهم –على القول بذلك- ومنه قوله :﴿ وإنه على ذلك لشهيد ٧ ﴾ [ العاديات : آية ٧ ] أي : بلسان حاله عند من يقول ذلك. والذين قالوا هذا القول –واختاره غير واحد من المحققين المتأخرين- قالوا : الدليل على أن هذا هو المراد أن الله لم يخلق أحدا من بني آدم ذاكرا الميثاق ليلة الميثاق وهم كالذر، وما لا يذكره الإنسان لا يكون حجة عليه، وهذا كأنه جعل حجة مستقلة عليه، كما يدل عليه قوله :﴿ شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ١٧٢ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ﴾ [ الأعراف : الآيتان ١٧٢، ١٧٣ ] فعلى هذا القول فأخذ الذريات من ظهور التناسل المعروف. وعلى هذا القول فالإشهاد عليهم بلسان الحال بما نصب لهم من الأدلة، وما ركز فيهم من الفطرة. واختار هذا ابن كثير، والزمخشري، وغير واحد من المتأخرين.
والقول الثاني : وعليه أكثر المتقدمين من السلف، وهو الذي لا يدل له بعض الأحاديث الصحيحة، والقرآن قد يرشد إليه : إنه هو الأخذ يوم الميثاق المعروف، أن الله تبارك وتعالى أخذ من ظهر آدم ومن ظهور ذرياته كل نسمة يبق في علمه أنها مخلوقة يوم القيامة، فأخذهم بيده ( جل وعلا ) بعضهم للجنة وبعضهم للنار، وجعل فيهم إدراكا وقال لهم :﴿ ألست بربكم ﴾ فقالوا : بلى. إلا أن هذا العهد لا يولد أحد إلا وهو ناس له. والله ( جل وعلا ) أرسل الرسل يذكرون بهذا العهد، وما ثبت عن الرسل هو وما حضره الإنسان في التحقيق واحد ؛ لأن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن نجزم بوقوعه أشد مما نجزم بما شاهدناه ولاحظناه وتذكرناه.
وهذا القول قال به كثير من السلف، ودلت عليه أحاديث كثيرة من أصحها وأدلها عليه ما ثبت في الصحيحين –صحيح البخاري وصحيح مسلم- من حديث أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة ؟ أرأيت لو كان عندك كل شيء أكنت مفتديا به ؟ فيقول : نعم. فيقول الله : أردت منك أهون من ذلك، أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي فأبيت إلا أن أشرك بي ). فهذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث أنس، وقد ذكر فيه قوله صلى الله عليه وسلم أن عدم الإشراك أخذ عليهم وهم في ظهر آدم، فدل ذلك على أن قوله :﴿ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ﴾ أنه استخراج الله لهم، وإشهاده عليهم، ثم ردهم في ظهر أبيهم آدم. ومما يدل على هذا : أن الذين قالوا : إن معنى أخذهم من ظهورهم : هو تناسلهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، أنهم جعلوا ما ركب فيهم من الفطرة السليمة والعقول، وما نصب لهم من الأدلة القطعية كافيا في قيام الحجة لهم. والقرآن يدل على عدم صحة هذا القول ؛ لأن القرآن العظيم –وهو كلام رب العالمين- دل على أنه لا يقطع عذر أحد بنصب الأدلة، وتركيز الفطرة، وخلق العقول ؛ بل لا ينقطع عذر بني آدم إلا بإرسال الرسل في دار الدنيا، وإنذارهم مؤيدين بالمعجزات، ولذا قال تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ [ الإسراء : آية ١٥ ] ولم يقل : حتى نخلق عقولا ونركز أدلة وننصب فطرة. لم يقل شيئا من هذا، وقال جل وعلا :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ [ النساء : آية ١٦٥ ] فبين أن حجة الناس لا يقطعها إلا إعذار الرسل وإنذارهم له.
وهذه الحجة التي بين في سورة النساء أنه أرسل الرسل لقطعها بقول :﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ أوضحها في أخريات سورة طه وأشار لها في القصص، قال في سورة طه :﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ١٣٥ ﴾ [ طه : آية ١٣٤ ] ولم يقل : لولا خلقت لنا عقولا، ونصبت لنا أدلة، وكتبت فينا فطرا. لم يقل شيئا من هذا. وأشار لها في القصص بقوله :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ٤٧ ﴾ [ القصص : آية ٤٧ ] لأنه قال :﴿ لولا أرسلت إلينا رسولا ﴾ ولم يقل : لولا خلقت لنا عقولا، وركزت فينا فطرة، ورتبت لنا أدلة. لم يقل شيئا من هذا. وقد صرح ( جل وعلا ) بأن جميع أفواج النار الذين يدخلونها يوم القيامة أنهم جميعهم أنذرتهم الرسل في دار الدنيا، وقطعت أعذارهم قبل الموت، وذلك في قوله :﴿ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتيكم نذير ٨ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ظلال كبير ٩ ﴾ [ الملك : الآيتان ٨، ٩ ] فقوله :﴿ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ﴾ تدل على أن جميع الأفواج التي دخلت النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا. وقد صرح الله بذلك في سورة الزمر –التي ذكر فيها القيامة كأنك تنظر إليها- قال :﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزانتها ألم يأتيكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ٧١ ﴾ [ الزمر : آية ٧١ ] وكذلك لما قسم الله ( جل وعلا ) الخلائق قسمين في سورة فاطر جعل المسلمين ثلاث طوائف في قوله :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ﴾ [ فاطر آية ٣٢ ] ثم ذكر الكفار فقال :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل فكور ٣٦ وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ﴾ [ فاطر : الآيتان ٣٦، ٣٧ ] فقوله :﴿ وجاءكم النذير ﴾ هو محل الشاهد و﴿ الذين كفروا ﴾ عام لما تقرر في الأصول أن صيغ الموصولات أنها من صيغ العموم ؛ لأن الموصول من المعلوم أنه يعم كل ما تشمله صلته كما هو معروف في محله.
وهذا معنى قوله :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ﴾ على القول الأول : بلسان [ الحال ] ( وقع للشيخ ( رحمه الله ) في هذا الموضع سبق لسان، فالعبارة في الأصل :( على القول الأول : بلسان المقال، وعلى الثاني : خلق فيهمن عقولا أدركوا بها ﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ بلسان المقال :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ أنت ربنا ). وقد جرى تصويبه بين المعقوفين [ ] )، وعلى الثاني : بلسان [ الحال ] ﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ أنت ربنا.
واعلموا أن لفظة ( بلى ) تأتي في القرآن وفي اللغة العربية لمعنيين لا ثالث لهما : أحد معنيي ( بلى ) المشهورين في كلام العرب وفي القرآن العظيم : أن ( بلى ) يجاء بها لنفي نفي قبلها، فهي نقضية ( لا ) ؛ لأن ( لا ) لنفي الإثبات، و( بلى ) لنفي النفي، فيتقدم قبلها نفي فيؤتي ب( بلى ) لتنفي ذلك النفي فيصير ما بعدها إثباتا، لأن نفي النفي إثبات، وهذا الوجه كثير في القرآن ﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة ﴾ [ سبأ : آية ٣ ] نفوا إتيان الساعة فنفي الله نفيهم إياها وأثبته، قال :﴿ بلى وربي لتأتينكم ﴾ [ سبأ : آية ٣ ] ﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ﴾ [ التغابن : آية ٧ ] وهذا الوجه كثير في القرآن ﴿ فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾ [ النمل : آية ٢٨ ].
الوجه الثاني : أن تؤتي بلفظة ( بلى ) جوابا لاستفهام مقترن بالنفي خاصة، ولا يجاب ب( بلى ) استفهام إلا الاستفهام المقترن بالنفي خاصة، وإذا جاءت ( بلى ) أحالت ذلك الاستفهام المقترن بالنفي إلى طريق الإثبات أيضا، كقوله هنا :﴿ ألست بركم قالوا بلى ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٢ ] وإذا أجابت العرب استفهاما مقترنا بالنفي بغير ( بلى ) فإنه ليس على القواعد العربية، فهو يحفظ ولا يقاس عليه. قال بعض علماء العربية : ربما أجابت العرب ب( نعم ) سؤالا مقترنا بنفي، وهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. قالوا : ومنه قول الشاعر :
أليس الليل يجمع أم عمرو | وإيانا فذاك لنا تداني |
نعم، وترى الهلال كما أراه | ويعلوها النهار كما علاني |
ألا فاسأل الجحاف هل أنت ثائر | بقتلى أصيبت من نمير بن عامر |
ألا فاسأل الجحاف هل أنت ثائر | بقتلى أصيبت من نمير بن عامر |
بلى سوف نبكيهم بكل مهند | ونبكي نميرا بالرماح الخواطر |
وقوله :﴿ شهدنا ﴾ اختلف العلماء هو من كلام من ؟ !
فقال بعض العلماء : هو من كلام الملائكة.
وقال بعض العلماء : هو من كلام الله والملائكة. وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله :﴿ بلى ﴾ لما استخرجهم في صورة الذر ليلة الميثاق، وأخذ عليهم الميثاق، وقال لهم :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ أنت ربنا، قال الله والملائك
أحدهما : أن همزة الاستفهام تتعلق بمحذوف، والفاء عاطفة عليه. وهذا الذي مال إليه ابن مالك في الخلاصة حيث قال :
وحذف متبوع بدا هنا استبح | ...................... |
وقال بعض العلماء : همزة الاستفهام أصلها بعد الفاء، إلا أن للاستفهام صدر الكلام، فتزحلقت الهمزة قبل الفاء، والفاء قلب الهمزة في الرتبة، فتكون الفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها. والأول أظهر. وهذا معنى قوله :﴿ أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾.
المبطلون : هم الذين يأتون بالباطل وهو ضد الحق، الذين عبدوا غير الله ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٣ ].
واعلموا أن قول من قال من العلماء إن معنى :﴿ آتيناه آياتنا ﴾ : آتيناه النبوة. أنه قول باطل لا يشك في بطلانه، كما أوضحه الماوردي وغيره ؛ لأن الأنبياء لا يفعلون هذه الأفعال ولا ينسلخون من آيات الله ؛ لأن الله لم يجعل نبوته إلا في من يعلم أنه أهل لها، كما قدمنا إيضاحه في الأنعام في الكلام على قوله :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالاته ﴾ [ الأنعام : آية ١٢٤ ] على إحدى القراءتين، وهي أخبار إسرائيلية لم يدل شيء على صحة تعيين هذا ﴿ الذي آتيناه آياتنا ﴾ وأكثر المفسرين والمؤرخين يقولن : إنه رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعام بن باعوراء. وبعضهم يقول : بلعم بن باعر، وفيه غير ذلك.
ومعنى ﴿ آتيناه آياتنا ﴾ لا يقتضي النبوة، فكل من أعطي شيئا من كتاب الله بواسطة نبي من الأنبياء فقد أوتي الكتاب، وقد قال تعالى :﴿ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ﴾ [ البينة : آية ٤ ] وهم ليسوا أنبياء، وقال في هذه الأمة :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ [ فاطر : آية ٣٢ ] ﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ [ البقرة : آية ٦٣ ] فإن إيتاء الآيات قد يكون بالأخذ عن الرسل. والمفسرون يقولون : إن هذا الرجل الذي هو بلعام بن باعوراء –قبحه الله- ويقال : بلعم بن باعوراء، أو ابن باعر، أو غير ذلك أنه أعطاه الله الاسم الأعظم، وبعضهم يقول : علمه الله شيئا من كتبه المنزلة، فكان يعلم بعض كتب الله التي أنزلها. وهذا معنى ﴿ آتيناه آياتنا ﴾ سواء قلنا : إن الله علمه بعض الكتب المنزلة، أو أنه علمه الاسم الأعظم.
﴿ فانسلخ منها ﴾ –العياذ بالله- انسلخ منها : خرج منها –والعياذ بالله- ولم يعلق به شيء منها.
والمفسرين يقولون : إنه بلعام بن باعوراء، وأنه أغراه الكنعانيون الجبارون بالمال فقالوا له : ادع على نبي الله موسى وقومه –من أن نبي الله موسى الذي يذكر المفسرين أنه مات في التيه، وأن الذي دخل القرية وفتح الله على يديه يوشع بن نون، وهم يزعمون في قصته أنهم أمروه أن يدعو على موسى- فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ؟ ولم يزالوا به يغرونه بالمال حتى دعا على موسى.
وبعض العلماء يقول : إنه دعا على موسى فكان ذلك سبب التيه.
فعلى كل حال يقولون : إنه دعا على نبي الله موسى فلما أراد أن يدعو عليه حول الله دعاءه على القوم الذين يريدونه أن يدعو على موسى، فقالوا : دعوت علينا. فقال : ما أقدر على غير هذا.
وقال بعض العلماء : إنه كان له ثلاث دعوات مجابة أعطاه الله إياها، وأنه كان يعلم الاسم الأعظم فأعطاه الله ثلاث دعوات –وكل هذه إسرائيليات- يزعمون أن هذه الدعوات الثلاث المجابة أنه ضيعها في امرأته كانت من أقبح نساء بني إسرائيل فلم تزل به حتى دعا الله أن يجعلها أجمل امرأة، فدعا الله فصارت أجمل امرأة، فلما بلغت هذا الجمال تكبرت عنه وطلبت غيره، فدعا الله عليها فصارت كلبة نباحة، فآذى ذلك أولادها، ولم يزالوا به حتى دعا الله عليها أن يرجعها إلى حالتها الأولى، فذهبت الدعوات كلها. وهذه إسرائيليات لا معول عليها، يذكرها المفسرون.
وقال بضع العلماء : أغروا امرأته بالمال فلم تزل به حتى دعا على نبي الله موسى، وأنه لما دعا عليه اندلع لسانه فصار على صدره، وصار يلهث كما يلهث الكلب، وأنه قال لهم : إنه –والعياذ بالله خسر الدنيا والآخرة قال لهم- : لم يبق إلا المكر والحيلة ؛ إن الله يبغض الزنا، فأرسلوا النساء متزينات إلى بني إسرائيل فإن زنوا أهلكهم الله. فأرسلوا لهم النساء فيما يزعمون فوقع منهم الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون. وغير هذا من روايات كثيرة إسرائيلية يحكيها المفسرون في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف لا طائل تحتها ولا دليل على شيء منها.
وكان بعض العلماء يقول : هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقلد غير معصوم ويثق به كل الثقة ؛ لأن هذا الإنسان ذكر الله أنه آتاه آياته وبعد ذلك صار مآله إلى أخس مآل وأقبحه – والعياذ بالله- حيث قال :﴿ فانسلخ منها ﴾.
وقال بعض العلماء : هذه الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان يقرأ الكتاب الأول، ويتعلم من الكتب الأولى، وكان يعلم عن الله بعض كتبه، وكان يعلم بان جزيرة العرب سيبعث فيها نبي، وكان يرجو أن يكون هو ذلك النبي، فلما بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر. وقصة استنشاد النبي أخته الفارعة لشعره مشهورة في التاريخ معروفة، ويذكر المؤرخون أن النبي لما حكت عليه شعره قال : آمن شعره وكفر قلبه. والله تعالى أعلم.
وبعض العلماء يقول : نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب ابن صيفي ( قبحه الله ). وأبو عامر هذا رجل من الأنصار هو : والد حنظلة الغسيل ( رضي الله عنه وأرضاه )، الذي يذكر الأخباريون وأصحاب المغازي أن الملائكة غسلته يوم أحد ؛ لأنه كان قريب عرس بتزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وأنه كان يغتسل فاستخفه القتال فلم يكمل غسله، فمات شهيدا يوم أحد، وأن الملائكة غسلته. هكذا يقول أصحاب المغازي والأخباريون. فوالده هو أبو عامر هذا الخبيث الذي يقال له : أبو عامر الراهب، وهو الذي حفر الحفر في الميدان يوم احد التي جاء النبي في واحدة منها وانتشله منها علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله، كما هو مذكور في المغازي في غزوة أحد. كان هذا الخبيث أبو عامر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه على دين إبراهيم. فبين له النبي – فيما يذكرون- أنه على الحنيفية بعد التغيير. وأنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أمات الكاذب منا وحيدا طريدا. وسافر إلى الشام، وراح إلى بعض الملوك يريد جيشا يخرج به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وهو الذي أوعز للمنافقين أن يبنوا له مسجد الضرار بقباء ليدبروا الشؤون فيه. وهو المذكور في قوله :﴿ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ﴾ [ التوبة : آية ١٥٧ ] هو أبو عامر هذا.
وقول من قال : إن آية الأعراف هذه في أمية بن أبي الصلت أو أبي عامر الراهب كله لا دليل عليه، وأكثر المفسرين يقولون : إنها في رجل علمه الله علم الكتاب من بني إسرائيل. وشذ قوم فقالوا : من الكنعانيين وهذا معنى قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾.
﴿ آياتنا ﴾ هنا : آيات كتابه الشرعية.
﴿ فانسلخ منها ﴾ : خرج منها والعياذ بالله كما تنسلخ الحية من ثوبها، ولم يعلق به منها شيء.
﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ العرب تقول :( أتبعه وتبعه واتبعه ) بمعنى واحد ومعنى :( أتبعه الشيطان ) : اتبعه الشيطان حتى لحق به وأدركه وجعله قرينا له يذهب معه حيث يذهب. هذا معنى قوله :﴿ فأتبعه الشيطان ﴾.
والشيطان في لغة العرب : هو كل عات متمرد، فكل من كان عاتيا متمردا فهو شيطان في لسان العرب. سواء كان من الجن أو من الإنس، أو من غيرهما. وجاء في القرآن العظيم : إطلاق الشياطين على العتاة المتمردين من الإنس والجن، كما قال جل وعلا :﴿ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بضع زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : آية ١١٢ ] وقال تعالى :﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم ﴾ [ البقرة : آية ١٤ ] أي : رؤسائهم وعتاتهم المتمردين، وفي الحديث :( الكلب الأسود شيطان ) وقد قال جرير وهو عربي قح :
أيام يدعونني الشيطان من غزل | وكن يهوينني إذ كنت شيطانا |
نأت بسعاد عنك نوى شطون | فبانت والفؤاد بها حزين |
إيما شاطن عصاه عكاه | ثم يلقى في السجن والأكبال |
وقال قوم آخرون – وأشار له الشيخ عمرو أعني سيبويه في موضع من كتابه - : بأن وزن الشيطان ( فعلان ) وأن الألف والنون زائدتان، وعلى هذا فأصله من ( شاط ) فعلى هذا القول ففاء المادة شين، وعينها ياء، ولامها طاء. من ( شاط ) وأصله :( شيط ) والعرب تقول :( شاط يشيط ). إذا هلك ؛ لأن الشيطان هالك لبعده عن رحمة الله. ومن شاط بمعنى هلك قول الأعشى في شعره :
قد نخضب العير من مكنون فائله | وقد يشيط على أرماحنا البطل |
الظاهر أن ( كان ) هنا بمعنى ( صار ) وقد تقرر في علم العربية : أن ( كان ) تطلق ويراد بها صار. ومعنى قوله :﴿ فكان من الغاوين ﴾ صار من الكافرين. وإطلاق ( كان ) بمعنى ( صار ) إطلاق معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنه | قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها |
﴿ ولاكنه أخلد إلى الأرض ﴾ ﴿ أخلد إلى الأرض ﴾ معناه : ركن ومال إلى لذات الدنيا وحطامها وشهواتها فآثرها على آيات الله فسلخه الله من آياته ( والعياذ بالله ). والعرب تقول :( أخلد إلى الشيء ) إذا ركن ومال إليه، وأصل الإخلاد : هو ملازمة الشيء والدوام فيه. فالعرب تقول : أخلد بهذا المكان. إذا لازمه ودام فيه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
لمن الديار غشيتها بالفدفد | كالوحي في حجر المسيل المخلد |
ثم إن الله ضربه مثلا قال :﴿ فمثله ﴾ أي : فصفته ( والعياذ بالله ) في خساسته وقبحه وملازمته الخساسة في جميع الأحوال ﴿ كمثل الكلب ﴾ وهو الحيوان المعروف. وجملة :﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ جملة شرطية، وهي في محل نصب في موضع الحال على ما حققه بعض علماء العربية من أنه لا مانع من أن تأتي الجمل الشرطية أحولا. المعنى :﴿ فمثله كمثل الكلب ﴾ في حال كون الكلب متصفا بأخس حالاته وهو مداومته اللهث في جميع حالاته.
﴿ إن تحمل عليه يلهث ﴾ معنى ﴿ إن تحمل عليه ﴾ إن تشد عليه وتطرده وتجهده يلهث إن ﴿ تتركه ﴾ في رخاء ودعة ﴿ يلهث ﴾ والعرب تقول : لهث الكلب – فتح الهاء- يلهث. بفتحها ؛ لأنه حلقي العين، لهثا ولهاثا : إذا فتح فاه ومد لسانه وصار يلهث، يطلع النفس ويردها بقوة كفعل الذي أصابه إعياء وتعب شديد. وجميع الحيوانات لا يلهث شيء منها إلا إذا أصابه إعياء وتعب شديد. أو عطش شديد، إلا الكلب وحده فإنه يلهث دائما، في حالة الري يلهث، وفي حالة العطش يلهث، فهو يلازم اللهث في جميع حالاته. واللهث من أخس الحالات لأنه فاتح فاه، ماد لسانه، يطلع النفس وينزلها بقوة، وهذه من أخس الحالات وأقبحها، فضربه الله مثلا لهذا الكافر، إن وعظته وذكرته بآيات الله فهو كافر لا محالة، لا يسمع ولا يتعظ، كلهث ذلك الكلب في حالة الرخاء وعدم العطش. وإن ﴿ تتركه يلهث ﴾ إن وعظته لم يتعظ، وإن تركته لم يتعظ، فهو ملازم – والعياذ بالله- كفرانه وعصيانه على جميع الحالات. وهو في أخس تلك الحالات كالكلب الذي يلازم لهثه في جميع الأحوال، وهي حالة من أخس حالاته والعرب تسمي الذي أصابه شيء حتى بهظه تقول : هذا لاهث، وتقول : فلان ملجأ للاهث. معناه : ملجأ للمحزوب المحزون الذي فدحه الأمر، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الشاعر وهو بعض الأزديين :
فنعم فتى الجلى ومستنبط الندى | وملجأ محزوب ومفرع لاهث |
عياذ بن عمرو بن الحليس بن جابر | ابن زيد بن منظور بن زيد بن وارث |
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم | بعتيبة بن الحارث بن شهاب |
وأما قول من قال : إن بلعام بن باعوراء لما دعا على نبي الله موسى اندلع لسانه فصار على صدره، فصار لسانه متدليا – كلسان الكلب - يلهث كلهاث الكلب، وأن هذا معنى قوله :﴿ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ﴾ الآية. هذا التفسير غير صحيح، بل الصحيح أنه مثل مضروب كما بينا، ويدل عليه قوله :﴿ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ﴾ ﴿ مثل القوم ﴾ وصفتهم ﴿ الذين كذبوا بآياتنا ﴾ في ملازمتهم حالة الكفر والتكذيب القبيحة كمثل هذا الكلب في ملازمته حالة اللهث القبيحة في جميع أحواله.
﴿ فاقصص ﴾ ﴿ فاقصص ﴾ معناه : اقصص عليهم يا نبي الله ﴿ القصص ﴾ أي : هذا الخبر كخبر بلعام بن عاوراء وغيره ﴿ لعلهم يتفكرون ﴾ أي : لأجل أن يتفكروا ويعلموا أفكارهم فيتعظوا بمثلاث الله وما أوقعه بالذين عصوه في الزمن الماضي لينزجروا وينكفوا. وهذا معنى قوله :﴿ فاقصص القصص عليهم يتفكرون ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٢ ].
﴿ فهو المهتدي ﴾ والمهتدي هو السالك طريق الهدى التي تستلزم رضا الله ونيل ما عنده من الرضوان والجنات.
﴿ ومن يضلل ﴾ حذف المفعول أيضا و ( من ) شرطية في الموضعين، أي : ومن يضلله الله. مضارع أضله يضله إضلالا. ﴿ فأولئك هم الخاسرون ﴾.
وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن بكثرة حجة على القدرية الزاعمين أن الله لا يضل أحدا، فقد تكلمنا في هذه الدروس مرارا على مسألة القدر، وأن التحقيق أنه لا تقع في الكون تسكينة ولا تحريكة إلا بمشيئة خالق السموات والأرض –جل وعلا- والعباد لا يخلقون أعمالهم بل ما يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما صرح الله به، والقدرية على كثرتهم وكثرة حججهم وجدالهم يأتون بشبه فلسفية يزعمون أنهم ينزهون الله بها، وهم يقعون في أعظم مما فروا منه بأضعاف، يقولون : إن الله أعظم وأنزه وأجل وأكرم من أن يريد الإضلال والقبائح والمعاصي. قالوا : فهو اجل وأعظم وأكرم وأنزه من أن يكون الزنى بمشيئته، وأن تكون السرقة بمشيئته ونحو ذلك. فأرادوا أن ينزهوه عن أن يشاء السرقة والزنى والإضلال والقبائح، ووقعوا في الداهية الكبرى والطامة العظمى، هو أنهم جعلوا بعض خلق الله إلى غيره من خلقه، وجعلوا أن المكلف يخلق أعمال نفسه، فصارت عندهم أعمال المكلفين ليست بمشيئة الله، فسلبوه ملكه وقدره ومشيئته وكل شيء – قبحهم الله-.
والتحقيق في هذه المسألة : أن الله ( جل وعلا ) سبق في علمه وسابق أزله أن بعض من يخلقهم مجبولون على الخبث، وأنه سيشاء منهم أن يشاؤوا أعمال أهل النار حتى يدخلوها، وأن قوما آخرين قوم طيبون، وأنه يشاء منهم أن يعلموا أعمال أهل الجنة فيدخلوها، ثم إن الله ( جل وعلا ) يصرف بقدرته ومشيئته مشيئة العبد وقدرته حتى يأتي العبد ما سبق له في كتابه من شقاوة أو سعادة يأتيه طائعا مختارا ﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ﴾ [ الإنسان : آية ٣٠ ] فلو فرضنا أن قدريا قال لسني : هذه الأعمال كتبها الله في سابق الأزل وجفت الأقلام وطويت الصحف، أو هو شيء مستأنف ؟ فمذهب أهل السنة والجماعة –وهو الحق- هو إثبات القدر، وأن كل شيء قضاه الله وقدره، وأن الكائنات صائرة إلى ما شاءه الله وقدره ( جل وعلا )، وأنه خلق خلقا وقال : هؤلاء للنار ولا أبالي، وخلق للجنة خلقا، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) والله يقول :﴿ إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ [ الحج : آية ٤٧ ] مثلا لو قال القدري : هذه المعاصي والذنوب التي كانت سبب كونه في النار، قال البعيد : قدرها الله عليه، وسبق في علمه أنه مرتكبها، وأنه هو لو شاء لقلب العلم الأول السابق في ذلك جهلا لا يمكنه ذلك فما شاءه الله وعلمه وقدره في الأزل واقع لا محالة. فيقول البعيد : هو إذن مجبور. فإن السني يقول له : جميع الأسباب التي أعطاها الله للمهتدين أعطاك مثلها، فالعيون التي أبصروا بها آياته حتى اهتدوا أعطاك مثلها، والآذان التي سمعوا بها آيات الله واتعظوا بها حتى اهتدوا أعطاك مثلها، ولكن وقع التفاوت في شيء واحد : وهو أن الله ( جل وعلا ) وفق هؤلاء لما يرضيه، وصرف قدرتهم ومشيئتهم بقدرته وإرادته إلى عمل أهل الجنة، وأنت لم يوفقك لما يرضيه، وهذا التوفيق ليس واجبا لك عليه حتى تدعي عليه أنه ظلمك ! ! وقد ذكرنا مرارا أن هذا أوضحته مناظرة أبي إسحاق الإسفراييني مع عبد الجبار –من كبار المعتزلة القدريين القائلين بهذا المذهب- وأن عبد الجبار جاء يتقرب بهذا المذهب فقال عند أبي إسحاق : سبحان من تنزه عن الفحشاء. يعني أنه تنزه عن أن تكون السرقة والزنى ونحوها بمشيئته.
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل. ثم قال أبو إسحاق : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه ؟
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني للهدى وقضى علي بالردي، دعاني وسد الباب دوني أتراه أحسن إلي أم أساء ؟
قال أبو إسحاق : أرى هذا الذي منعكه إن كان حقا واجبا لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب ! ! ولذا قال تعالى :﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ١٤٩ ﴾ [ الأنعام : آية ١٤٩ ] منه بالتوفيق على قوم وعدم منه بالتوفيق على آخرين حجته البالغة.
وذكروا أن عمر بن عبيد – كبير المعتزلة، المشهور بالعبادة والنسك، وهو من كبار أهل هذا المذاهب الخبيث- جاءه بدوي أعرابي يقول له : إن دابته سرقت. يريد أن يدعوا الله ليردها عليه، فأراد عمرو بن عبيد التقرب بهذا المذهب الخبيث فقال : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه. فقال له الأعرابي البدوي الجاهل : ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث، إن كانت قد سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، فالذي يفعل الشيء دونه ولا بمشيئته فانا لست على ثقة منه أن بيده شيئا.
فالحاصل أنهم وقعوا في شر مما فروا منه. والدليل القاطع الذي لا يترك لهم شبهة هو دليل العلم، وإيضاح ذلك أنك تقول للمعتزلي القدري إذا ناظرته : هل أنت مقر بان الله ( جل وعلا ) يعلم ما يكون قبل أن يكون ؟ فلا بد أن يقول : نعم ؛ لأن كل من يقر بالإسلام يقر بهذا. فتقول له : إذن هذا العمل الذي زعمت أن العبد يخلقه بقدرته وإرادته من غير مشيئة لله آلله عالم أنه يقع من هذا العبد ؟ فيقول : نعم. فقل له : لو شاء العبد أن يعمل ذلك العمل ويستقل به مخالفا لما سبق به علم الله الأزلي [ فهل يمكنه ذلك ] ( ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق ) فقولك إنه مستقل به يقتضي أنه يمكنه أن يعمل عملا مستقلا غير ما سبق به العلم، فينقلب علم الله جهلا – سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون الفجرة علوا كبيرا- فإذن لا بد أن يكون العمل مطابقا لما سبق به علم خالق السموات والأرض في أزله.
فالحاصل أن الله ( تبارك وتعالى ) خلق للنار خلقا علم أنهم من أهل النار أنها أولى بهم، وخلق للجنة خلقا علم في أزله بأنهم أهل لها، ثم إن الله ( تبارك وتعالى ) ييسر كلا من الفريقين لما خلقه له، فيعمل هؤلاء بعمل أهل الجنة حتى يدخلوها، وهؤلاء بعمل أهل النار حتى يدخلوها، وقد جاءت أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا، منها حديث عمران بن حصين المتفق عليه المشهور أنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن الأمر قضي وفرغ منه قالوا له : ففيم العمل ؟ أفلا تنكل على كتابنا ؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم :( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فالله ( جل وعلا ) لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته، يصرف قدر قوم وإراداتهم إلى ما هو أليق بهم، ويصرف قدر قوم وإراداتهم إلى ما هو أليق بهم فيعمل هؤلاء بعمل أهل الجنة، وهؤلاء بعمل أهل النار، وإنما كان ذلك من حكمته ( جل وعلا ) لتظهر بذلك أسرار أسمائه وصفاته في خلقه ؛ لأنه لو لم يصرف قدرة قوم ومشيئتهم إلى ما لا يرضيه حتى يعذبهم لم يظهر بطشه وقوته وشدة نكاله التي تستوجب الخوف منه، فخلق قوما فصرف قدرهم وإراداتهم لما يستوجبون به النار ليظهر بذلك سر أسمائه وصفاته، من جبروته وقوته وبطشه وشدة عذابه ليخاف خلقه، وصرف قدر قوم وإراداتهم إلى ما يستوجبون به جنته ليظهر بذلك أسرار بعض أسمائه وصفاته من رحمته ولطفه وعدله ( جل وعلا ) وغير ذلك ؛ ولذا قال :﴿ من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ١٧٨ ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٨ ] من أضله الله فقد ضل ( والعياذ بالله )، وكل الناس ضال إلا من هداه الله، ولا مهتدي إلا من هداه الله.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن لفظ الضلال يطلق في القرآن العظيم وفي اللغلة العربية إطلاقات مشهورة معروفة، من أشهرها ثلاثة إطلاقات معروفة في القرآن وفي كلام العرب :
منها : إطلاق الضلال عن طريق الهدى إلى طريق الزيغ، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، كما في هذه الآية ﴿ ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ ومنه قوله تعالى :﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ [ الفاتحة : آية ٧ ] وقوله :﴿ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوء السبيل ﴾ [ المائدة : آية ٧٧ ] وهذا أغلب استعمال الضلال والعياذ بالله منه.
الاستعمال الثاني : هو إطلاق الضلال على الغيبة والاضمحلال، تقول العرب :( ضل هذا الشيء ). إذا غاب واضمحل ولم يبق له وجود. تقول العرب :( ضل السمن في الطعام ) إذا غاب فيه واضمحل ولم يبق له أثر. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأخطل :
كنت القذى في موج اكدر مزبد | قذف الأتي به فضل ضلال |
ألم تسأله فتخبرك الديار | عن الحي المضلل أين ساروا |
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها | وفارسها في الدهر قيس بن عاصم |
فإن تحيا لا املك حياتي وإن تمت | فما في حياتي بعد موتك طائل |
فآب مضلوه بعين جلية | وغودر بالجولان حزم ونائل |
وأما الإطلاق الثالث من إطلاقات الضلال : فإنه جاء في القرآن وفي لغة العرب إطلاق الضلال على الذهاب عن علم الشيء، فكل ما لم يهتد إلى علم شيء تقول العرب : ضل. أي : لم يهتد إلى علم هذا الشيء بعينه. وهو بهذا المعنى يكثر في القرآن وفي كلام العرب، فمنه ف
وقوله :﴿ لجهنم ﴾ بعض العلماء يقول : هي طبقة من طبقات جهنم، ولكنها تطلق على جميع طبقات النار، كما قال تعالى في جهنم :﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ٤٤ ﴾ [ الحجر : آية ٤٤ ] فجهنم تطلق على جميع طبقات النار، وإن كان بعض العلماء يزعم أنها طبقة من طبقاتها السبع.
واختلف العلماء في لفظة ( جهنم ) هل أصلها عربية أو معربة ؟ بناء على قول من يقول : إن في القرآن كلمات معربة. والتحقيق الذي هو الأشبه أن القرآن كله عربي إلا الأعلام. وما دمنا نقول : أخذ العرب هذه الكلمة من الجيل العجمي الفلاني فلم لا نقول : إن ذاك الجيل الأعجمي أخذها عن العرب ؟ الكل محتمل ولا دليل على أنه أخذها خصوص هؤلاء عن هؤلاء، فعلينا أن نتمسك بالعموم في قوله :﴿ بلسان عربي مبين ١٩٥ ﴾ [ الشعراء : آية ١٩٥ ] ﴿ إنا أنزلناه قرآنا عربيا ﴾ [ يوسف : آية ٢[ ولا خلاف في الأعلام أن فيه أعلاما عجمية. هذا لا نزاع فيه ؛ لأن العلم يحكي بلفظه في أي لغة كان كما هو معروف.
وقال بعض العلماء الذين يقولون إن في القرآن معربا : إن ( جهنم ) أصلها فارسية. والذين قالوا هذا القول يزعمون أن في الفارسية القديمة إطلاق ( كهنام ) على النار، وأنها عربتها العرب وأبدلت الكاف جيما، والله أعلم بصحة هذا.
وقال جماعة العلماء من علماء العربية : أصل الكلمة عربية، ووزنها بالميزان الصرفي ( فعنل ) فالنون المشددة زائدة، وأصل الحروف الأصلية : الجيم في مكان الفاء، والهاء في مكان العين، والميم في مكان اللام، من : جهمه يجهمه وتجهمه إذا عبس في وجهه وقطب وجهه وعقدة فيه. قالوا : سميت ( جهنم ) لأنها تلقى من يدخلها بوجه عابس مقطب متجهم، وأنهم تعبس وجوههم، وتجهم فيها من شدة ما يلاقون من عذابها والعياذ بالله. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني :
لا تجهمينا أم عمرو فإنما | بنا داء ظبي لم تخنه عوامله |
شكوت إليها حبها فتبسمت | ولم أر شمسا قبلها تتبسم |
فقلت لها جودي فأبدت تجهما | لتقتلني يا حسنها إذ تهجم |
ثم إنه تعالى ذكر صفات الكفار الأشقياء الذين سبق في علم الله أنه خلقهم للنار، وأنهم يعملون بعمل أهل النار، ذكر صفاتهم الكاشفة قال :﴿ لهم قلوب ﴾ بين أنه خلق لهم قلوبا، وخلق لهم أعينا، وخلق لهم آذنا، إلا أنهم لا يفقهون بقلوبهم الحق، ولا يبصرون بأعينهم الحق، ولا يسمعون بآذانهم الحق والعياذ بالله كما قال تعالى عنهم :﴿ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله ﴾ الآية [ الأحقاف : آية ٢٦ ]، ولذا قال :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٩ ] القلوب : جمع قلب، وهو عضو من الإنسان معروف يزعمون أنه على هيئة حب الصنوبر.
وقوله :﴿ لا يفقهون بها ﴾ الفقه في لغة العرب معناه : الفهم والإدراك، أي : لا يفهمون بهذه القلوب عن الله ؛ لأن الله لم ينفعهم بها ( والعياذ بالله )، كما قال :﴿ فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء ﴾ [ الأحقاف : آية ٢٦ ] ونفيه الفقه عن القلوب يدل كما ذكرنا مرارا على أن مركز العقل هو القلب لا الدماغ كما يقوله الإفرنج، ومما يؤسفنا أن عامة المسلمين لا يكاد في الوقت الحاضر – لجهلهم- لا يكاد يختلف من عامتهم اثنان في أن العقل في الدماغ. ويقولون : هذا ليس له مخ. يعنون : ليس له دماغ، قاطعين بان العقل في الدماغ، والله يصرح بان العقل في القلب. ولا شك أن الذي خلق نور العقل وجعله في العبد ونوره به هو أعلم بالموضع الذي وضعه فيه من كفرة الإفرنج – قبحهم الله- ومن فلسفتهم الكاذبة. فالذي يقول : ليس الفقه في القلوب كالذي يقول : ليس الإبصار بالعيون، وليس السماع بالآذان ؛ لأن الله قال :﴿ قلوب لا يفقهون بها ﴾ ﴿ أعين لا يبصرون بها ﴾ ﴿ آذان لا يسمعون بها ﴾ فدل على أن الإبصار بالعين، والسماع بالأذن، والفقه بالقلب.
وهذا أمر معروف لا تكاد تحصى الآيات الدالة عليه في القرآن ؛ ولذا قال تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ﴾ الله ( جل وعلا ) نفى عنهم الفقه بتاتا. أي : الفهم، ونفى عنهم الإبصار، ونفى عنهم السماع، والمراد بهذا كما دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله : أن الفقه المنفي هو الفقه عن الله النافع الذي يوصل لطاعة الله والإيمان به، والإبصار المنفي : هو إبصار الآيات النافع الذي يرشد صاحبه إلى الإيمان به، والسماع المنفي : هو السماع النافع الذي يسمع صاحبه به ما ينفعه. وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية ؛ لأن القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين، ومن أساليب اللغة العربية : أنهم يطلقون الصمم على السماع الذي لا جدوى فيه، فإذا كان الإنسان لا ينتفع بسمعه انتفاعا صحيحا يقولون :( هذا أصم ) وهو يسمع. وهذا أسلوب معروف في كلامهم، ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به | وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا |
أصم عن الأمر الذي لا أريده | وأسمع خلق الله حين أريد |
قل ما بدى لك من زور ومن كذب | حلمي أصم وأذني غير صماء |
فأصممت عمرا وأعميته | عن الجود والفخر يوم الفخار |
وقوله :﴿ آذان ﴾ أصله ( أأذن ) جمع ( أذن ) مجوعة على ( أفعال ) أبدلت الهمزة الثانية مدا للأولى على القاعدة التصريفية المجمع عليها. وهذا معنى قوله :﴿ ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾.
﴿ أولئك ﴾ المذكورون الذين ذرأهم الله للنار، ولم ينفعهم بقولهم، ولا بأسماعهم، ولا بأعينهم ﴿ كالأنعام ﴾ الأنعام : تقدم في سورة الأنعام أنها أصناف الإبل والبقر والغنم ؛ لأن الأنعام إذا صاح بها راعيها تسمع ما يقول ولكنها لا تنتفع به ؛ فلو صاح بإبله أو غنمه وقال : اذهبي إلى عدوة الوادي الفلانية فإن فيها خصبا، واحذري من عدوته الفلانية فإن فيها جدبا وسباعا. فإنها تسمع صوته ولكن لا تفهم هذا ولا تنتفع به، كما تقدم إيضاحه في قوله :﴿ كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ﴾ [ البقرة : آية ١٧١ ] ولذا قال هنا :﴿ أولئك كالأنعام ﴾ تسمع الأصوات ولا يفهمون عن الله فهما يجرهم إلى الإيمان. ثم أضرب، قال :﴿ بل هم أضل ﴾ من الأنعام ؛ لأن الأنعام ربما تهتدي لبعض مصالحها، تذهب إلى المحل الذي فيه المرعي فترعى فيه، وتروح عن محل الجدب، وإذا رأت صاحبها الذي يسقيها ويطعمها فرحت به وتبعته، وهؤلاء يعادون ربهم ولا يفعلون شيئا ينفعهم – والعياذ بالله - فهم أضل من الأنعام.
﴿ أوليك هم الغافلون ﴾ الذي استولت على قلوبهم الغفلة لا يفهمون عن الله شيئا –والعياذ بالله -. وهذا معنى قوله :﴿ بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٩ ].
قال بعض العلماء : سبب نزول هذه الآية : أن رجلا من المسلمين قال : يا الله، يا رحمن. فقال واحد من كفار مكة : كيف يقول محمد : إن الإله واحد، ثم إنه يدعو إلهين : أحدهما : الله، والثاني : الرحمن ؟ ! فأنزل الله :﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ وأنزل قوله :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ [ الإسراء : آية ١١٠ ].
﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ أسماء اله حسنى، أي : هي أحسن شيء ؛ لأن الحسنى صيغة تفضيل، هي أفضل من كل شيء في الحسن والجمال لما تدل عليه من صفات الكمال والجلال الموصوف بها خالقنا ( جل وعلا ) تقدس وتعاظم وتنزه ؛ لأن أسماءه تدل على صفات كماله وجلاله جل وعلا.
﴿ فادعوه بها ﴾ فادعوه بتلك الأسماء كأن تقول : يا رحمن ارحمنا، يا رحيم ارحمني. قال بعض العلماء : تقول : يا رحيم ارحمني، يا رازق ارزقني، يا حكيم احكم لي، ولا تقول : يا حكيم اغفر لي، أو : يا رزاق ارحمني. والتحقيق أن هذا كله جائز ؛ لأن أسماء الله متلازمة، كل صفة في واحد منها تستلزم جميع الصفات الأخرى لعظمة صفاته ( جل وعلا )، واستلزام كل واحدة منها غاية الكمال والجلال، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ) هذا حديث صحيح معروف، وقد جاء عد أسمائه عن بعض الناس، ذكره الترمذي، وذكر غيره روايات فيها بعض الأسماء، والرواية التي ذكرها الترمذي تقريبا مائة وواحد تزيد باثنين، وهي معروفة، وجاءت روايات في السنن وأخرج الحاكم بعضها وصححه تذكر بعض أسماء الله جل وعلا.
والمحققون من العلماء يقولون : إن أسماء الله لا تحصر في ذلك، كما دل عليه الحديث المشهور حديث ابن مسعود الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن كل من أصابه حزن – مثلا- أو غم إذا دعا به أذهب الله حزنه وأبدله له سرورا، وهو حديث معروف مشهور :( اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وشفاء صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي ). ومحل الشاهد منه : قوله صلى الله عليه وسلم فيه :( أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) فدل أن له أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده. وهذا هو الأصح ؛ لأن صفاته ( جل وعلا ) الحسنى لا تحصى، وأسماءه لا يحصيها غيره ( جل وعلا ). وقد جاء في رواية الترمذي أنه لما ذكر الحديث الذي أصله في الصحيحين :( إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو جل وعلا وتر يحب الوتر – أنه سردها كما يلي- هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور ). هكذا ذكره، وذكر بعضهم في السنن وغيره زيادات على هذا ونقصا. وبعض المحققين يقولون : إن هذا مدرج في الحديث الصحيح جمعه العلماء من القرآن. وكان ابن العربي يقول : إنه جمع حوالي ألف اسم من القرآن والأحاديث الصحيحة.
وقوله تعالى :﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٠ ] ( ذروا ) معناه اتركوا : وصيغة الأمر هنا للتهديد على التحقيق، وقد تقرر في فن الأصول في مباحث الأمر، وفي فن المعاني : أن من الصيغ التي تأتي لها ( افعل ) أنها تأتي للتهديد. والتحقيق أن الصورة هنا للتهديد، وهو قوله :﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ بدليل قوله :﴿ سيجزون ما كانوا يعلمون ﴾.
والعرب تقول : ألحد يلحد، ولحد يلحد. إذا مال عن الحق، أصل ( اللحد ) في لغة العرب والإلحاد : الميل عن القصد والجور عنه، ومنه اللحد في القبر ؛ لأنه حفر أميل به عن وضعه الأول إلى جهة القبلة ولم يكن على سمت الحفر الأول.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة :﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ وقرأه حمزة من السبعة :﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ بفتح الياء والحاء. وهما قراءتان صحيحتان، ولغتان عربيتان فصيحتان.
ومعنى إلحادهم بالأسماء : قال بعض العلماء : يلحدون فيها : يميلون فيها عن الحق، كاشتقاقهم اللات من اسم الله، واشتقاقهم العزى من اسم العزيز، واشتقاقهم مناة من اسم المنان. وقال بعض العلماء : إلحادهم في أسماء الله : إنكارها، ومن أمثلة ذلك أن الله يقول :﴿ إن إلهكم لواحد ٤ ﴾ [ الصافات : آية ٤ ] وهم يلحدون في اسمه الواحد، ويقولون :﴿ أجعل الألهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ٥ ﴾ [ ص : آية ٥ ] وهذا من أعظم الإلحاد وأكبره. وقوله :﴿ سيجزون ما كانوا يعملون ﴾ سيجزيهم الله يوم القيامة جزاء ما كانوا يعملونه في الدنيا، ويدخل في ذلك دخولا أوليا إلحادهم في أسمائه ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ سيجزيهم ما كانوا يعملون ﴾.
﴿ يهدون بالحق ﴾ معناها : يهدون الناس بالحق، وهو اتباعه صلى الله عليه وسلم والعمل بهذا القرآن ﴿ وبه يعدلون ﴾ يعملون هم في أنفسهم ؛ لأن من عمل به عدل وأصاب العدالة وتنحى عن طرف الإفراط والتفريط ؛ لأن العدالة هي التوسط بين الأمرين، والتجافي عن طرف الإفراط وطرف التفريط. وهذا معنى قوله :﴿ وبه يعدلون ﴾.
بين الله ( جل وعلا ) في هذه الآية أنه سيستدرج الكافرين فيغذق عليهم نعمه وهم يصرون على الكفر به، حتى تبطرهم النعم وتتزايد غفلتهم، فيستمروا على ذلك حتى تنتهي آجالهم فيأخذهم الله ( جل وعلا ) في غفلتهم بعذابه وإهلاكهم ثم يصيرون إلى النار.
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ : في محل مبتدأ والخبر جملة ﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ والتكذيب : الجحود والإنكار.
والآيات : جمع آية وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا : أن للآية في لغة العرب إطلاقين عربيين مشهورين، وأن لها في القرآن إطلاقين أيضا.
قال علماء التصريف : التحقيق في الآية أن أصلها :( أيية )، ووزنها :( فعلة ) فهمزتها : فاء، وعينها : ياء، ولامها : ياء، والياءان المفتوحتان بعد الهمزة قد اجتمع فيهما موجبا إعلال، والمقرر في فن التصريف : أنه إن اجتمع موجبا إعلال كان الاعلال في الأخير، إلا أنه ربما وقع الإعلال في الأول كما هنا، فأعلوا الياء الأولى وأبدلوها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ؛ ولو جرى على الأغلب في اللغة، لكان الإعلال في الياء الأخيرة وقيل فيها :( أياه ) ؛ وهنا أعلت الياء الأولى فأبدلت ألفا فقيل : آية.
والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين، أشهر إطلاقيها : أن تطلق الآية على العلامة، تقول العرب : آية كذا، أي : علامته، ﴿ إن آية ملكه ﴾ أي : علامة ملكه ﴿ أن يأتيكم التابوت ﴾ [ البقرة : آية ٢٤٨ ] فالآية : العلامة ؛ وقد جاء في شعر نابغة ذبيان –وهو جاهلي- تفسير الآية بالعلامة حيث قال :
توهمت آيات لها فعرفتها | لستة أعوام وذا العام سابع |
رماد ككحل العين لأيا أبينه | ونؤي كجذم الحوض أثله خاشع |
الإطلاق الثاني : وهو أن العرب تطلق الآية وتريد بها الجماعة، يقولون :( جاء بنو فلان بآيتهم ) أي : بجماعتهم جميعا وهو إطلاق معروف في كلام العرب، ومنه قول برج بن مسه : ر
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا | بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا |
والآية في القرآن تطلق إطلاقين : تطلق الآية على الآية الكونية القدرية، وهي من الآية معنى : العلامة، وهي ما نصبه الله ( جل وعلا ) من آياته جاعلا لها علامات على كمال قدرته، وأنه الرب وحده، المعبود وحده، كقوله :﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات... ﴾ [ آل عمران : آية ١٩٠ ] أي : لعلامات ودلالات واضحات على أنه الرب المستحق أن يعبد وحده.
الإطلاق الثاني : تطلق الآية في القرآن على الآية الشرعية الدينية، كآيات هذا القرآن العظيم، وهو المراد هنا.
والآية الشرعية الدينية قال بعض العلماء : هي من العلامة أيضا ؛ لأنها علامة على صدق من جاء بها، لما تضمنته من الإعجاز، أو لأن فيها علامات تعرف بها مبادئها ومقاطعها.
وقال بعض أهل العلم : الآية الشرعية من الآية بمعنى الجماعة، لأنها جماعة من كلمات القرآن مشتملة على بعض ما اشتمل عليه القرآن من الإعجاز والحلال والحرام والعقائد، وهذا معنى قوله :﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ ككفار مكة وكل من كذب بآيات الله ﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ هذا وعيد الله. والسين حرف تنفيس، وقوله :﴿ سنستدرجهم ﴾ أصله، ( نستفعلهم ) ومنه : الاستدراج، والاستدراج : استفعال من الدرجة، والدرجة : واحدة طبقات السلم على أصح الأقوال. والمعنى : أنه يستنزلهم درجة درجة ومرتبة مرتبة، حتى يدنيهم إلى ما يشاء من إهلاكهم. فالعرب تقول :( استدرجه ) إذا أنزله درجة درجة إلى أن وصل إلى ما قصده منه، أو استعلاه درجة درجة ؛ وهذا معروف في كلام العرب أن الاستدراج هو الاستنزال درجة بعد درجة حتى يصل الإنسان إلى السوء الذي يراد منه ؛ لأن الكفار أراد الله ( جل وعلا ) أن يهلكهم بعذابه المستأصل ويدخلهم النار لما كذبوا بآياته. فمعنى استدراجه لهم : أنه يرسل عليهم هذه النعمة فيكثر خصب بلادهم وأرزاقهم وعافيتهم، وتلد نساؤهم ذكورا، وتتزايد عليهم وتتواتر، فعند ذلك يزدادون بطرا وكفرا فيقربون من الهلاك درجة، ثم إن الله ( جل وعلا ) يغدق عليهم نعما أخرى فتزيدهم بطرا إلى بطرهم، وكفرا إلى كفرهم، وغفلة إلى غفلتهم، فيقربون درجة أخرى إلى هلاكهم، حتى إذا انتهت تلك الدرجات التي يستدنيهم الله فيها لما يريد منهم : جاءهم عذاب الله فأهلكم وصاروا منه إلى الخلود في النار، كما قال ( جل وعلا ) :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مسلمون ٤٤ ﴾ [ الأنعام : آية ٤٤ ] والعرب تعرف الاستدراج في لغتها وأنه تقريب الشيء درجة درجة إلى ما يراد منه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
لئن كنت في جب ثمانين قامة | ورقيت أسباب السماء بسلم |
ليستدرجنك القول حتى تهره | وتعلم أني عنكم غير مفحم |
وتشرق بالأمر الذي قد أذعته | كما شرقت صدر لقناة من الدم |
﴿ من حيث لا يعلمون ﴾ وقد قدمنا أن ( حيث ) كلمة تدل على المكان كما تدل ( حين ) على الزمان، وربما ضمنت معنى الشرط، يجوز في اللغة لا في القراءة تثليت فائها وإبدال ( يائها ) واوا كما هو معروف في محله.
﴿ من حيث لا يعلمون ﴾ أي : من المكان الذي لا يعلمون أنا سنستدرجهم، بل هم يظنون أن تلك النعم مسابقة لهم في الخيرات، وأنهم ينالون بعد ذلك أحسن منه، كما قال جل وعلا :﴿ أيسحبون أنما نمدهم به من مال وبنين ٥٥ نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ٥٦ ﴾ [ المؤمنين : الآيتان ٥٥، ٥٦ ].
فتصدعن صم الجبال لفقده | وبكت عليه المرملات مليا |
ومن هنا كانت العرب تقول لليل والنهار : الملوان، ومنه قول تميم بن مقبل :
ألا يا ديار الحي بالسبعان | أمل عليها بالبلي الملوان |
نهار وليل دائم ملواهما | على كل حال المرء يختلفان |
ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر | ومن يتمل العيش يرأى ويسمع |
قوله :﴿ إن كيدي ﴾ الكيد : في لغة العرب معناه : المكر، وهو أن يكون الفاعل يبطن غير ما يظهر، وسمى الله هذا الاستدراج كيدا لأن ظاهره إنعام وإغداق نعم وباطنه استدراج يستدنيهم به ويستدرجهم إلى الموت والعذاب الدائم الذي يخلدون فيه ؛ ولذا قال :﴿ إن كيدي متين ﴾ أي : استدراجي لهم بالنعم التي تبطرهم وتزيدهم غفلة وبطرا وتكبرا عن قبول آيات الله، حتى يهلكوا وهم في أشد حالة من الحالات كفرا ؛ هذا الكيد كيد الله ( جل وعلا ) ووصفه بأنه متين، والمتين من كل شيء : القوي الشديد القوة، وكيد الله ( جل وعلا ) : متين، وكيد الله ( جل وعلا ) من أحسن ما يكون، واقع موقعه، تصرف حكيم خبير، حيث أغدق النعم على هذا الكافر فغفل فأخذه في غرة وغفلة، وعامله بما يستحقه من كفره، وهذا معنى قوله :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ١٨٣ ﴾.
﴿ ما بصاحبهم من جنة ﴾ المراد ب( صاحبهم ) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم و( الجنة ) معناه : إصابة الجنون، معناه : أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون، فإنهم لو تفكروا وأعملوا أفكارهم وعقولهم أنه( صلوات الله وسلامه عليه ) بعيد غاية البعد من الجنون، وأنه تام العقل، رصين العقل، يدعو إلى أحسن الطرق وأعظمها وأبينها، فليس به جنة، وهذا معنى قوله :﴿ أولم يتفكروا ﴾ أولم يتفكر هؤلاء الكفار المكذبون الزاعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنون. ﴿ أولم يتفكروا ﴾ ويعملوا أفكارهم ويرجعوا إلى عقولهم فيتحققوا أن صاحبهم ما به من جنة، ليس به جنون، بل هو ( صلوات الله وسلامه عليه ) بعيد من الجنون تام العقل، رؤوف رحيم بهم، يدعوهم إلى السعادة الأبدية، وصلاح الدنيا والآخرة.
قال بعض العلماء : صعد صلى الله عليه وسلم على الصفا ودعا قبائل قريش، فدعاهم فخذا فخذا، وحذرهم عذاب الله ونقم الله، وقال واحد منهم : إن هذا لمجنون. فأنزل الله ﴿ أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾. وهذا الجنون الذي رموه به نفاه الله عنه في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ ما أنت بنعمة ربك بمجنون ٢ ﴾ [ القلم : آية ٢ ] ﴿ فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون ﴾ [ الطور : الآية ٢٩ ] ﴿ قل إنما أعظم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ٤٦ ﴾ [ سبأ : آية ٤٦ ] فهذا معنى قوله :﴿ أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ١٨٤ ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٤ ] ليس بمجنون صلوات الله وسلامه عليه ﴿ إن هو إلا نذير مبين ﴾ ما هو صلى الله عليه وسلم إلا نذير مبين. النذير : فعيل بمعنى ( مفعل ) من الإنذار، والإنذار هو : الإعلام المقترن بتهديد خاصة، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارا، والنذير بمعنى المنذر، اسم فاعل : أنذره ينذره إذا أعلمه إعلاما مقترنا بتهديد وتخويف من الله إذا لم يطع أوامره ( جل وعلا ). والتحقيق : أن ( الفعيل ) في لغة العرب يأتي بمعنى ( المفعل ) وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، فما يحكيه بعض علماء العربية عن الاصمعي من أن ( الفعيل ) لا يأتي في اللغة بمعنى ( المفعل ) إن كان ثابتا عنه فهو غير صحيح. و ( الفعيل ) في اللغة والقرآن يأتي بمعنى ( المفعل ) منه : النذير بمعنى المنذر، والأليم بمعنى المؤلم ﴿ عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم يؤلم وقعه صاحبه – والعياذ بالله- ومنه قول ذي الرمة :
ويرفع من صدور شمردلات | يصك وجوهها وهج أليم |
وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي في مطلع عينيته المشهورة :
أمن ريحانة الداعي السميع | يؤرقني وأصحابي هجوع |
وخيل قد دلفت لها بخيل | تحية بينهم ضرب وجيع |
وقوله :﴿ مبين ﴾ المبين : اسم فاعل أبان يبين، قال بعض العلماء : هو من ( أبان ) المعتدية. وعليه فالمفعول محذوف لعمومه، والمعنى : مبين نذارته، مصرح لكم في غاية البيان بما ينذركم الله به ويحذركم منه. وأكثر العلماء على أن قوله :﴿ مبين ﴾ صفة مشبهة هي الوصف من :( أبان ) اللازمة، والعرب تقول : أبان الأمر يبين فهو مبين. لازمه بمعنى : وضح واتضح، وقد قدمنا هذا مرارا أن ( أبان ) بصيغة ( أفعل )، و( بين ) بصيغة ( فعل ) كلتاهما تأتي متعدية للمفعول وتأتي لازمة، فإتيان ( أبان ) متعدية معروف مشهور كقوله :( أبان له هذا الأمر، وأبان له حقيقة أمره ) كما هو معروف، والعرب تقول :( أبان الشيء يبين ). إذا ظهر واتضح، غير متعد للمفعول، وهو معنى معروف في كلامهم، والصفة المشبهة منه ( مبين )، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
لو دب ذر فوق ظاهر جلدها | لأبان من آثارهن حدور |
إذا آباؤنا وأبوك عدوا | أبان المفرقات من العراب |
قنواء في حرتيها للبصير بها | عتق مبين وفي الخدين تسهيل |
وقد قدمنا هذا مرارا. فعلى القول الأول ( مبين ) : أي : مبين ما ينذركم ويحذركم به، موضح له بالتفصيل.
وعلى الثاني أنه الصفة المشبهة من :( أبان ) اللازمة، فمعنى :( مبين ) : نذير بين الإنذار واضحه، لا إشكال في إنذاره، وهذا معنى قوله :﴿ إن هو إلا نذير مبين ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٤ ].
والملكوت : مصدر ملك ملكا وملكوتا. والواو والتاء زيدتا للمبالغة، فالملكوت : الملك العظيم الهائل، كما يدل على عظمه : زيادة الواو والتاء. ومعروف أن ( الفعلوت ) بزيادة الواو والتاء في المصادر معروف في كلام العرب، كالرحموت، والرغبوت، والرهبوت، والملكوت. فالملكوت معناه : الملك العظيم ﴿ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ﴾ أي : في ملك الله العظيم في السموات والأرض حيث رفع السماء بغير عمد ترونها وجعلها لا تتشقق ولا تتفطر ولا تحتاج إلى ترميم. والكفرة الفجرة أبناء الكلاب والخنازير الذين يدعون أنه ليس فوقنا سماء، وإنما هو فضاء ولا سماء فيه يكذبون خالق السموات والأرض لجهلهم وظلام قلوبهم بالكفر، فهي سبع سماوات مبنية وصفها الله بالشدة في قوله :﴿ وبنينا فوقكم سبعا شداد ١٢ ﴾ [ النبأ : آية ١٢ ] وبين أنه بناها بقوة هائلة ﴿ والسماء بيناها بأييد وإنا لموسعون ٤٧ ﴾ [ الذاريات : آية ٤٧ ] وأبعد سمكها ﴿ رفع سمكها فسواها ٢٨ ﴾ [ النازعات : آية ٢٨ ]، ﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ٦ والأرض *** مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ٧ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ٨ ﴾ [ ق : الآيات ٦- ٨ ] وهذا معنى قوله :﴿ في ملكوت السموات والأرض ﴾.
﴿ وما خلق الله من شيء ﴾ لفظة ( ما ) في محل خفض معطوف على المجرور ﴿ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ﴾ وينظروا في ﴿ ما خلق الله من شيء ﴾ في السموات والنجوم والشمس والقمر، وفي الأرض من البحار والجبال والثمار والمعادن والدواب ونحو ذلك مما يدل على كمال قدرة خالقه ( جل وعلا ). وأنه الرب المعبود وحده.
ثم قال : وينظروا أيضا في ﴿ أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ﴾ ( أن ) هذه هي المخففة من الثقيلة، وإذا كان الفعل بعدها غير متصرف لا يحتاج إلى فصل بينها وبينه. إلى أنه – أي : الأمر والشأن- ﴿ عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ﴾ وربما استغنى بالمصدر في ( أن ) وصلتها وصار فاعل ( عسى ) واستغنى به عن غيره.
قوله :﴿ قد اقترب أجلهم ﴾ أي : قد دنا وقت موتهم فيبادروا إلى تدارك ما يرضي الله لئلا يهلكوا.
وهذه الآية قد استدل بها علماء الأصول على أن صيغة الأمر تدل على الفور لا على التراخي، كما روي عن الشافعي ( رحمه الله ) ؛ لأن الله أمرهم بالنظر في ملكوته ليستدلوا على أن صانع هذا الكون واحد ( جل وعلا )، وأنه المعبود وحده، وأنه يجب أن يطاع وتصدق رسله وتمتثل أوامره. قال :﴿ قل انظروا ماذا في السموات والأرض ﴾ [ يونس : الآية ١٠١ ] ثم قال :﴿ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٥ ] وهددهم باحتمال اقتراب آجالهم خوف أن يفاجئهم الموت قبل أن ينظروا فيصيروا إلى النار. ولا شك أن هذه الآية تدل على أن أوامر الله ينبغي أن تكون على الفور وتمتثل بسرعة ؛ لأن الإنسان عسى أن يكون قد اقترب أجله فيخترمه الموت قبل أن يمتثل. فاستدلال علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على اقتضاء الأمر الفور استدلال صحيح وواقع موقعه، وقد دلت على ذلك اللغة أيضا قال علماء العربية : لو قال السيد لعبده :( اسقني ماء ). ثم إن العبد توانى وأبطأ فأدبه سيده فليس للعبد أن يقول : صيغة الأمر في قولك :( اسقني ماء ) لا تقتضي الفور، وإنما هي على التراخي، وكنت متراخيا في الامتثال ؛ لأن الصيغة كذلك أفادت ! ! بل اللغة العربية تقتضي الفور كما دلت عليه هذه الآية. وهذا معنى قوله :﴿ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ﴾.
ثم قال :﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن العظيم مع وضوح أدلته، واتضاح معجزته، وكرامة ما يدعوا إليه من توحيد الله ومكارم الأخلاق والأفعال الحسنة، إذا كانوا لم يؤمنوا بهذا ﴿ فبأي حديث بعده ﴾ أي : بأي حديث غيره ﴿ يؤمنون ﴾ إذا لم يؤمنوا بأحق الأحاديث بأن يؤمن به، وأن يصدق، وأن يعظم، وأن يعمل به، إذا لم يؤمنوا به فبأي حديث آخر يؤمنون ؟ ! والمعنى : أن من ترك الإيمان بما هو أحق شيء بأن يؤمن به لا يؤمن بشيء أبدا، إذ لو كانوا يؤمنون بشيء لآمنوا بهذا القرآن. فهو أسلوب عربي معروف، إذا كان الشيء أولى من غيره بالمسألة يقال : فبأي شيء بعد هذا تفعل ؟ إذا لم تفعله بأحق شيء فبأي شيء غيره تفعل ؟ ! كما هو معروف في كلام العرب، ومن هذا المعنى قول الأعشى :
صدت هريرة عنا ما تكلمنا | جهلا بأم خليد حبل من تصل |
والله ( جل وعلا ) قد سمى كتابه حديثا ؛ لأنه كلام رب العالمين ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ﴾ [ الزمر : آية ٢٣ ] ولذا قال هنا :﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٥ ].
﴿ فلا هادي له ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٦ ] ليس أحد يهديه بعد الله ﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم ﴾ [ المائدة : آية ٤١ ] ﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾ [ النحل : آية ٤٧ ] ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولاكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص : الآية ٥٦ ] فمن هداه الله لا مضل له، ومن أضله الله لا هادي له. وهذا معنى قوله :﴿ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ١٨٦ ﴾.
في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها صحيح لا نزاع فيها : قرأه نافع وابن كثير وابن عامر :﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ ( بالنون ) وصيغة الجمع يراد بها التعظيم، عظم الله بها نفسه. وقراه من السبعة : أبو عمرو، وعاصم في روية حفص وشعبة :﴿ ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ بياء الغيبة وضم الراء. وقرأه حمزة، والكسائي من الكوفيين :﴿ ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾.
وهذا الفعل المضارع معطوف على جزاء الشرط الذي هو قوله :﴿ فلا هادي له ﴾ ؛ والمقرر في علم العربية – كما هو مشهور في العربية - أن كل فعل عطف على جزاء الشرط بفاء أو واو ففيه ثلاث لغات : يجوز فيه : الرفع، ويجوز فيه : الجزم، ويجوز فيه : النصب. فكله جائز، ولغات عربية معروفة، وقراءات صحيحة معروفة ؛ لأن ﴿ فلا هادي له ﴾ جزاء الشرط، وجزاء الشرط في محل جزم، فقراءة حمزة والكسائي جزموا ﴿ ويذرهم ﴾ لأنه معطوف على جزاء الشرط وأصله مجزوم ؛ والذين رفعوه لغة فصيحة وقراءة صحيحة. وأما النصب : فهو لغة صحيحة، ولكنه لم يقرأ به أحد من السبعة مع أنه لغة.
و( الطغيان ) في لغة العرب : مجاوزة الحد ؛ وهو مصدر : طغى يطغى إذا جاوز حده، زيدت في مصدره الألف والنون كما زيدتا في :( الكفران ) و( الرجحان ) وطغى الشيء إذا جاوز حده، ومنه قوله :﴿ إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ١١ ﴾ [ الحاقة : آية ١١ ] أي : جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة.
وقوله :﴿ يعمهون ﴾ قال بعض علماء العربية :( العمى ) بالألف يطلق على عمى العين وعمى القلب، أما ( العمه ) بالهاء فلا يطلق إلا على عمى القلب خاصة. فمعنى ﴿ يعمهون ﴾ : يترددون حائرين لا يعرفون حقا من باطل، ولا حسنا من قبيح، ولا ضلال من هدى لعمى قلوبهم – والعياذ بالله - وهذا معنى قوله :﴿ ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٦ ].
والذين سألوه : قال بعض العلماء : هم كفار مكة. وقال بعض العلماء : نفر من اليهود. ولا مانع من أن يكون كل منهم سألوه عنها. ولا شك أن كفار مكة كانوا يسألونه عن الساعة وينكرون مجيئها ويزعمون أنها لا تأتي، كما في قوله :﴿ يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ٦٣ ﴾ [ الأحزاب : آية ٦٣ ] وبين أن كفار مكة يستعجلون بها إنكارا منهم لها. كما في قوله :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ١٨ ﴾ [ الشورى : آية ١٨ ] سواء قلنا : إن السائلين عنها كفار مكة أو اليهود.
﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ﴾ ( أيان ) : ظرف زمان بمعنى ( متى ). قال ابن جني : وزنه ( فعلان ) أصله من ( أي ) أي وقت يكون فيه هذا ؟ فزيد فيه الألف والنون وبني على الفتح لشبهه بالحرف الشبه المعنوي، كما هو معروف في محله.
وعلى كل حال ف( أيان ) سؤال عن زمن، فهي من ظروف الزمان بمعنى ( متى ) وربما ضمنت معنى الشرط فجزمت فعلين.
وقوله :﴿ مرساها ﴾ المرسى : اسم زمان، والمعنى : في أي وقت يكون زمان رسوها، أي : وجودها وثبوتها. وقد تقرر في علم التصريف : أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة حروف من الرباعي فصاعدا أنه يستوي وزن مصدره الميمي، واسم مكانه، واسم زمانه، وكلها بصيغة اسم المفعول، كما هو مقرر في محله مشهور.
فالمرسى هنا وزنه :( مفعل ) بصيغة المفعول، والألف في آخره أصلها مبدلة من واو، والمقرر في علم التصريف : أن كل ألف مبدلة من واو إذا كانت متطرفة رابعة فصاعدا أنها تقلب ياء بقياس مطرد في جميع اللغة العربية. فالمرسى وزنه :( مفعل ) بصيغة اسم المفعول، وهو اسم زمان، والفعل إذا زاد ماضيه على ثلاثة كان اسم زمانه واسم مكانه ومصدره الميمي كلها بوزن اسم المفعول كما هو معروف مقرر في محله.
ومعنى :﴿ أيان مرساها ﴾ في أي وقت يكون رسوها ؟ أي : ثبوتها ووجودها بالفعل قائمة. وهذا سؤال منهم عن الوقت الذي يتحقق فيه وجود الساعة. ﴿ قل ﴾ لهم يا نبي الله :﴿ إنما علمها عند ربي ﴾ قد تقرر في فن الأصول في مباحث دليل الخطاب – أعني مفهوم المخالفة - وفي فن المعاني - في مبحث القصر- أن ( إنما ) من صيغ [ الحصر فهي كالنفي ] ( في الأصل :( العموم، فهي كالحصر ) وهو سبق لسان ) والإثبات. وهو الصحيح – إن شاء الله - من كلام العلماء، والدليل عليه : أن ( إنما ) توضع مكان النفي والإثبات، فدل ذلك على أنها صيغة حصر ؛ لأن أعظم صيغ الحصر : النفي والإثبات، كقوله :﴿ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ٣٩ ﴾ [ الصافات : آية ٣٩ ] ووضع موضعه في محل آخر :﴿ إنما تجزون ما كنتم تعملون ﴾[ الطور : آية ١٦ ] ﴿ وما من إله إلا أله واحد ﴾ [ المائدة : آية ٧٣ ] ﴿ إنما الله إله واحد ﴾ [ لنساء : آية ١٧١ ] وهذا يدل على أن ( إنما ) أداة حصر، وهو التحقيق إن شاء الله.
﴿ إنما علمها عند ربي ﴾ يحصر علمها في خالق السموات والأرض، لا يعلم وقت مجيئها لا رسول مرسل ولا ملك مقرب، ولا يعلمه إلا الله. وهذا معنى :﴿ قل إنما علمها عند ربي ﴾ أي : خالقي ومدبر شؤوني استأثر به عن خلقه. وقد قدمنا أنه ثبت في صحيح البخاري وغيره تفسير النبي صلى الله عليه وسلم قوله :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ [ الأنعام : آية ٥٩ ] بأنها الخمس المذكورة في قوله :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ﴾ الآية [ لقمان : آية ٣٤ ].
﴿ قل إنما علمها عند ربي ﴾ أي : علم وقت رسوها ومجيئها وثبوتها عند ربي وحده لا يعلمه أحد من خلقه ؛ لأنه لم يطلع عليه أحدا من خلقه.
﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾ يجليها مضارع جلاها. والعرب تقول : جلى الأمر يجليه إذا أظهره وأبرزه وبينه. ﴿ لا يجليها ﴾ أي : لا يظهرها ويبرزها ويوجدها بالفعل في وقتها إلا هو. قال بعض العلماء : اللام للتوقيت، فهي بمعنى الفاء. أي : لا يظهرها في وقتها المقدر لها إلا هو وحده، فلا يعلم غيره وقتها. والعرب ربما جاءت باللام بمعنى في. يقولون :( وقع هذا الأمر لثلاث من الشهر الفلاني ). أ : في تاريخ ثلاث.
وقال بضع العلماء :﴿ لا يجليها لوقتها ﴾ أي : لا يظهر حقيقة خبرها ويكشف عن مكان وقتها بالتحقيق إلا هو جل وعلا.
ثم قال :﴿ ثقلت في السموات والأرض ﴾ اختلف العلماء في معنى ثقلها في السموات والأرض على قولين : قال بعض العلماء :﴿ ثقلت في السموات والأرض ﴾ خفيت عليهم فثقل عليهم خفاؤها ؛ لأن كل شيء خفي على الإنسان ولم يعلمه ثقل عليه. وهذا الوجه وإن كان ليس قريبا من الظاهر هو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري ( رحمه الله )، واستدل على اختياره له بأن ما بعده من الكلام وما قبله ﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾ فاختار أن المراد بقوله :﴿ ثقلت ﴾ أي : خفي علمها وثقل على الناس جهلها.
وقال بعض العلماء :﴿ ثقلت في السموات والأرض ﴾ أي : كبرت الساعة وعظمت على أهل السموات والأرض ؛ لأن ما فيها من الأهوال والأوجال يصعب على جميع الخلائق. وهذا أقرب.
وقال بعض العلماء : لا تطيقها السموات والأرض ؛ لأن السماوات تعجز عن حملها فتتشقق، وتتناثر النجوم، وتلف الشمس، ويخسف القمر، وأن الأرض ترفع جبالها، وتبدل الأرض غير الأرض فلا تطيقها السماوات والأرض وأنها تعظم وتثقل وتكبر على أهلها لشدة ما فيها من عظم الأهوال والأوجال. ولا شك أن الشيء الذي يدك الجبال ؛ تنزع الجبال من أماكنها، وتسير بين السماء والأرض، ثم تفتت وتطحن ؛ لأن الله ( جل وعلا ) ذكر تغيير نظام هذا العالم، فبين في ذلك اليوم إن الجبال تنزع من الأرض وتطير بين السماء والأرض، وهو قوله :﴿ وسيرت الجبال ﴾ [ النبأ : آية ٢٠ ] وقوله :﴿ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ﴾ [ الكهف : آية ٤٧ ] وقوله :﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ﴾ أي : في ذلك اليوم بعد أن تنزع من الأرض وتسير بين السماء والأرض.
وما يزعمه بعض من لا علم له بأن ذلك في دار الدنيا، وأن الجبال سائرة في دورة الأرض، فهو تحريف لكتاب الله وتفسير له بغير معناه. وصاحبه سلخ آخر الآية من أولها ؛ لأن أول الآية :﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات والأرض ﴾ ثم قال :﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة ﴾ [ النمل : الآيتان ٨٧، ٨٨ ] أي : ويوم ينفخ في الصور فيفزع من في السموات والأرض ﴿ وترى الجبال ﴾ في ذلك اليوم ﴿ تحسبها جامدة وهي تمر ﴾ [ النمل : آية ٨٨ ] ومرورها ذلك اليوم هو سيرها المعبر عنه قوله :﴿ وسيرت لجبال فكانت سرابا ٢٠ ﴾ [ النبأ : آية ٢٠ ] وقوله :﴿ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ﴾ [ الكهف : آية ٤٧ ] ثم إن رب السماوات والأرض يطحن تلك الجبال بقوته، فقساوة الجبال وشدتها عنده لا شيء لعظمته وكمال قدرته فيطحنها ( جل وعلا ) ويفتتها ؛ وبعد تفتيتها : مرة شبهت بالبسيسة –والبسيسة : دقيق ملتوت بسمن- وهو قوله :﴿ وبست الجبال بسا ٥ ﴾ [ الواقعة : آية ٥ ] أي : فتت حتى صارت كالبسيسة. وتارة شبهها في لينها وانتزاع القسوة منها بالعهن المنفوش، كقوله :﴿ وتكون الجبال كالعهن ٩ ﴾ [ القارعة : آية ٩ ]. وتارة شبهها بالرمال اللين المتهايل في قوله :﴿ وكانت الجبال كثيبا مهيلا ﴾ [ الزمر : آية ١٤ ]. ثم إن الله ( جل وعلا ) يصيرها في آخر أمرها سرابا كما قال :﴿ وسيرت الجبال فكانت سرابا ٢٠ ﴾ والسراب يقرب معناه من الهباء المنبت، فهذا معنى قوله :﴿ ثقلت في السموات والأرض ﴾ وما كان هكذا : يفتت الجبال، ويزعزع الأرض لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وتتشقق فيه السماء، وتتناثر النجوم، ويسقط الشمس والقمر، وتفجر البحار بعضها مع بعض فلا يخفى ثقل هذا اليوم على أهل السموات والأرض لشدة أهواله وأوجاله.
وقوله :﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾ حكم الله ( حل وعلا ) أن القيامة لا تقوم على الناس إلا بغتة، أي : في حال كونها باغتة لهم، أي : مفاجئة لهم، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الساعة تقوم على الناس وهم في أشغالهم، الرجل منصرف بلبن لقحته فتقوم الساعة قبل أن يشربه، والرجلان يتبايعان ثوبهما فتقوم الساعة قبل أن يتبايعا، والرجل يصلح حوضه ليسقي فيه فتقوم الساعة قبل أن يصلحه، وهكذا. وقد يذهب الرجل ليأتي أهله بحاجة من السوق فتقوم الساعة ولا يقدر على أن يوادعهم ولا أن يوادعوه، كما قال جل وعلا :﴿ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ٥٠ ﴾ [ يس : آية ٥٠ ] فهي تفاجئ الناس وهم في أشد غفلة، فتأتيهم فتهلكهم جميعا، وهذا معنى قوله :﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾.
﴿ يسألونك كأنك حفي عنها ﴾ في قوله :﴿ كأنك حفي عنها ﴾ وجهان من التفسير :
أحدهما : أن الحفي هو من الحفاوة، والحفاوة : الكرامة، تقول : فلان حفي بي. أي : أنا كريم عليه، ولقيت منه حفاوة. أي : كرامة ولطفا. ومنه قول إبراهيم :﴿ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ﴾ [ مريم : آية ٤٧ ] والذين ذكروا هذا القول زعموا أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا فخذ إلا بينك وبينها قرابة ؛ فلأجل القرابة التي بيننا وبينك أسر لنا الوقت الذي تقوم فيه القيامة، أسره إلينا عن الناس. فأنزل الله الآية. وعلى هذا القول ففي الآية تقديم وتأخير ﴿ يسألونك ﴾ عنها، عن وقت رسوها { كأنك حفي ؛ كأنك صديق لهم وقريب لهم لتخبرهم بما لم تخبر به الناس. هذا القول قاله جماعة من العلماء. وأظهر القولين : أن المراد بالحفي هنا : الذي يستحفي السؤال ويتقصيه ( هكذا في الأصل، وهو من سبق اللسان، وصوابه : ويتقصاه )، العرب تقول :( فلان يستحفي السؤال ). ومعناها : يبالغ في السؤال عن الأمر ويتقصاه حتى يعلم حقيقته. يعني :﴿ يسألونك كأنك حفي عنها ﴾ أي : مبالغ في تقصي أخبارها ممن عنده خبرها حتى تحققت جميع أخبارها والأمر بخلاف ذلك. والعرب تقول :( فلان حفي ) أي : كثير السؤال عن هذا الشيء، يتقصى السؤال عنه حتى يعرفه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى :
فإن تسألي عني فيا رب سائل | حفي عن الأعشى به حيث أصعدا |
وقال بعض العلماء : العلمان ليسا شيئا واحدا – أعني قوله :﴿ قل علمها عند ربي ﴾ وقوله :﴿ قل إنما علمها عند الله ﴾ - قال بعض العلماء : أحد العلمين : علم عظمها وفظاعتها، فلا يعلم قدرها إلا من يجليها لوقتها. الوقت الثاني : علم وقت مجيئها بالتعيين. والظاهر أنه توكيد، والتوكيد أسلوب عربي معروف ﴿ كلا سيعلمون ٤ ثم كلا سيعلمون ٥ ﴾ [ النبأ : الآيتان ٤، ٥ ] وما جرى مجرى ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أن الله ( جل وعلا ) استأثر بعلمها فهو ( تعالى ) مستأثر بعلمها كما صرح به في آيات متعددة كقوله هنا :﴿ قل إنما علمها عند ربي ﴾ ﴿ فل إنما علمها عند الله ﴾ وقول
أمر الله ( جل وعلا ) نبيه في هذه الآية الكريمة أن يقول معلنا لجميع الناس إنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) – وهو أفضل خلق الله وأكرمهم على الله أنه لا يملك لنفسه نفعا يجلبه إليها، ولا ضرا يدفعه عنها. فالكلام على حذف مضاف دل المقام عليه ﴿ نفعا ﴾ أي : جلب نفع لنفسي أنتفع به. وقوله :﴿ ولا ضرا ﴾ أي : دفع ضر عن نفسي.
﴿ إلا ما شاء الله ﴾ خالقي ( جل وعلا ) أن يملكني إياه ويعينني عليه ويقويني عليه فإني أملكه بمعونة الله وقدرته ومشيئته. وهذه عادة الرسل الكرام ( صلوات الله وسلامه عليه )، يبينون للخلق أن النافع والضار هو خالق السموات والأرض ( جل وعلا ) ليوجه الخلق إليه جميع رغباتهم ورهباتهم، وأولى الناس بهذا الرسل ( صلوات الله وسلامه عليه ) وأتباعهم فإنهم يوجهون جميع رغباتهم ورهباتهم إلى ما بيده النفع والضر لينفعهم ويدفع عنه الضر، وهذا معنى قوله :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ﴾ أي : ولا أعلم الغيب أيضا. كما أمره أن يعلن ذلك ويقوله في سورة الأنعام في قوله مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلي ﴾ الآية [ الأنعام : آية ٥٠ ]. فأول رسول بعثه الله لأهل الأرض بعد أن كفروا هو نوح ( عليه وعلى نبينا الصلاة السلام )، أمره الله أن يقول هذا :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا ﴾ [ هود : آية ٣١ ] وآخر رسول بعثه الله وختم به الأنبياء : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أيضا بذلك حيث قال له في الأنعام :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلي ﴾ [ الأنعام : آية ٥٠ ] وقوله هنا، كأنه قال : ولا أعلم الغيب ﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرث من الخير ﴾ اعلموا أولا أن قول جماعة من المفسرين أن معنى :﴿ لاستكثرت من الخير ﴾ أي : من العمل الصالح قول لا شك في أنه ليس بصحيح ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مستكثر من العمل الصالح على كل حال، وعمله ديمة ( صلوات الله عليه وسلامه ). وفي الآية للمفسرين أقوال معروفة، التحقيق إن شاء الله فيها أن معنى قوله :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٨ ] من المال ومن غير المال ؛ لأن من يعلم ما يكون يعلم الأسباب الذي تستوجب الأمراض فيتقيها فيبقى صحيحا، ويعلم أوقات الغيب التي يأتي الله فيها بالربح والغلاء والرخص فيدخر للغلاء عدته وللرخص عدته، ويعلم الغيب فيما إذا باع هذا أنه يربح وإذا اشترى هذا أنه يخسر، إلى غير ذلك، فهو دائما يستكثر من الخير ؛ لأن الناس إنما يغبنون فيشترون شيئا يخسرون فيه، أو يفعلون فعلا يضرهم، أو يكون سببا لمرضهم إنما ذلك من عدم علمهم بالغيب. أما من يعلم الغيب ويعلم ما يكون فإنه إذا اشترى هذه السلعة هو عالم هل يربح منها أو يخسر فيها، فلا يخسر أبدا، وكذلك يعلم إذا اشترى المواشي والرقيق أن هذا يموت بسرعة وهذا يعيش كثيرا، وأنه إن فعل كذا أصابه المرض، فتجنب أسباب الغبن، وأسباب الأمراض، وصار لا يعمل إلا ما فيه خير له لاطلاعه على عواقب الأمور، وهذا معنى قوله :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ﴾.
وقوله :﴿ وما مسني السوء ﴾ معطوف على جواب ( لو ) فهو في معنى جواب ( لو ) أي : ولو كنت أعلم الغيب ما مسني السوء ؛ لأن من يعلم الغيب ويعلم متى يأتيه السوء وما سببه يجتنب أسباب السوء من أول، فلا يصل إليه السوء، وهذا معنى قوله :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ﴾ فهو أعم من المال كما بينا.
﴿ وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير ﴾ يعني : ما أنا مالك لنفسي النفع ولا الضر، ولا أنا عالم بالغيب، كل ذلك إلى ربي، ولكني رسول من رب العالمين أنذر من عصى الله بعقابه، وأبشر من أطاع الله برضوانه وجنته، كما قال هنا :﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٨ ] ( إن ) هنا هي النافية، والمعنى : ما أنا. وهذا القصر قصر إضافي ﴿ إلا نذير ﴾ قد قدمنا بالأمس أن النذير بمعنى المنذر، وأن الإنذار هو الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذارا، ومعنى :( نذير ) أي : منذر لمن عصى ربي وكفر به بالنار ﴿ وبشير ﴾ أي : مبشر للمؤمنين بالجنة، كما قال تعالى :﴿ فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ٩٧ ﴾ [ مريم : الآية ٩٧ ] ونحو ذلك من الآيات.
والبشارة في لغة العرب أكثر ما تطلق على الإخبار بما يسر، فبشره وبشره معناه : أخبره بما يسره. قال بعض العلماء : قيل لها بشارة لأن السرور تظهر به حركة الدم فيظهر على بشرة الوجه آثار السرور. وربما أطلقت العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، والظاهر أن إطلاق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء أسلوب عربي معروف، فما هو مقرر في علم البلاغة : أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء أنه من نوع الاستعارة التي يسمونها بالعنادية –ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية - الظاهر أن كل ذلك لا حاجة إليه وإن أطبق عليه المتأخرون ؛ لأنها أساليب عربية نطقت بها العرب و نزل بها القرآن.
والعرب تطلق البشارة على الإخبار بما يسوء، ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ ويل لكل أفاك أثيم ٧ يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم ٧ ﴾ [ الجاثية : الآيتان ٧، ٨ ] وإطلاق البشارة على ما يسوء إطلاق معروف، وأسلوب عربي معروف تكلمت به العرب في لغتها، ونزل به القرآن، ومنه في كلام العرب قوله :
يبشرني الغراب ببين أهلي | فقلت له ثكلتك من بشير |
وبشرتني يا سعد أن أحبتي *** جفوني وقالوا : الود موعده الحشر
هذا إخبار بما يسوء، وهذا معنى قوله :﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٨ ].
الظاهر أنه ( جل وعلا ) في هذه الآية خص النذارة والبشارة بخصوص المؤمنين ؛ لأنهم هم المنتفعون بها، [ لأن غير المنتفع بها هي في شأنه كلا شيء. ونظير الآية من القرآن :﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : آية ٤٥ ] مع أنه تذكير للأسود والأحمر، ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر ﴾ [ يس : آية ١١ ] وهو منذر للأسود والأحمر، ﴿ إنما تنذر الذين يخشون ﴾ [ فاطر : آية ١٨ ] وهو منذر للأسود والأحمر. أي : بأنهم هم المنتفعون.
الأول :( جعل ) بمعنى اعتقد. وهي تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. ومنه قوله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ﴾ أي : اعتقدوا الملائكة إناثا.
الثاني :( جعل ) بمعنى ( صير ) ومنه قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ﴾... أي : صيرنا شياطين الإنس والجن عدوا لكل نبي. وهي أيضا... ] ( في هذا الموضع انقطع التسجيل. وقد تم استدراك النقص المتعلق بتفسير الآية ( ١٨٨ ) من كلام الشيخ ( رحمه الله ) عند تفسير الآية ( ٥١ ) من سورة الأنعام. كما تم استدراك النقص الواقع في تفسير الآية ( ١٨٩ ) من كلام للشيخ ( رحمه الله ) عند تفسير الآية ( ١١٢ ) من سورة الأنعام. وجعلت ذلك كله بين معقوفين ) تنصب المبتدأ والخبر أيضا.
الثالث : جعل بمعنى ( خلق ) ومنه قوله :﴿ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظالمات والنور ﴾ [ الأنعام : آية ١ ] أي : خلق الظلمات والنور، بدليل قوله :﴿ خلق ﴾ قبله.
والظاهر أن هذا المعنى هو الذي منه قوله :﴿ خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٩ ] أي : وخلق منها زوجها. وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وقد بينت آية النساء أن ( جعل ) هنا في سورة الأعراف وفي سورة الزمر معناها ( خلق ) لأن الله قال في أول سورة النساء :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ﴾ [ النساء : آية ١ ] فقوله في النساء :﴿ وخلق منها زوجها ﴾ دليل قرآني على أن قوله في الأعراف :﴿ وجعل منها زوجها ﴾ وقوله في الزمر :﴿ ثم جعل منها زوجها ﴾ [ الزمر : آية ٦ ] أن ( جعل ) فيهما بمعنى ( خلق ) وهذا هو الأظهر لدلالة القرآن عليه.
وقوله :﴿ زوجها ﴾ يعني : حواء، وقد قدمنا امرأة الرجل يقال لها :( زوجه ) بلا تاء، وهذه هي اللغة الفصحى، وهي لغة القرآن، وشذ قوم من علماء العربية فزعموا أن الزوجة بالتاء لحن، وأنها من كلام الفقهاء الملحون، والتحقيق أن ( الزوجة ) بالتاء – لامرأة الرجل - أنها لغة لا لحن، إلا أن اللغة المشهورة الفصحى أن تقول لامرأة الرجل :( هذه زوجه ). ولو قلت :( هذه زوجته ) لكانت لغة، ولم يكن لحنا، خلافا لما ذكره بعض علماء العربية. ومن إطلاق الزوجة بالتاء على امرأة الرجل في كلام العرب : قول الفرزدق، وهو عربي فصيح :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي | كساع إلى أسد الشرى يستبيلها |
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي | والظاعنون إلي ثم تصدعوا |
اعلموا أن الله في هذه الآيات الثلاث من كتابه في سورة النساء، وفي سورة الأعراف، وفي سورة الزمر بين أنه خلق المرأة الأولى – التي هي مبدأ نشأة إيجاد النساء خلقها - من ضلع الرجل الأول ؛ لتعلموا بذلك أن ابتداء نشأة الأنثى ومبدأ خلقها أنها لم تخلق مستقلة في الوجود عن الرجل، بل خلقت في أصل نشأتها الأولى التي أنشأها الله عليها وجودها تابع لوجود الرجل، ومستندة في وجودها على وجوده. وهذا اٍلأمر أمر كوني قدري جبل الله عليه إيجاد الأنثى حيث أوجدها، وهذا الأمر الكوني القدري تحته لوازم عظيمة من عدم مساواة الرجل والأنثى في عشرات الميادين لعدم مساواتهما في النشأة الأولى والإيجاد الأول، فالرجل وجد ونشأ أولا مستقلا بوجوده عنها، لم يتوقف وجوده على وجودها، وهي في نشأتها الأولى وإيجادها الأول أنشئت جزءا منه، وجودها تابع لوجوده مستند إليه.
ولوازم هذه المسألة الكونية القدرية لم يهملها رب السموات والأرض لأنه الحكيم الخبير، فتحت هذه الإيجاد الأول لوازم تابعة له كثيرة قد جاءت مبينة في الحس والعقل والشرع الكريم، نلم بشيء منها، وبهذا تعلمون أن ملاحدة الإفرنج الكفرة وأتباعهم من الخفافيش الذين يزعمون أنهم مسلمون، الذين يقولون :( إن الأنثى كالرجل في جميع الميادين ) يكذبون أولا في النشأة الأولى والإيجاد الأول، فإنهما عندما أراد الله إيجادهما لم يبدأ إيجادهما بالتسوية، بل جعله إيجادا متفاوتا ومتباينا، فجعل إيجاد هذا مستقلا عن هذا، وجعل إيجاد هذا تابع لإيجاد هذا ومستندا إليه، وهذا التبع الذي هو منشأ الأمر وأصله له لوازم رعاها الشرع ( جل وعلا )، ورعاها الحس والعادة، وهي أمور سنبين أطرافا منها ليعلم الناس أن ما قدره الله في كونه وأزله أنه قد يراعه في شرعه، وأن من يريد أن يغالب قدر الله هو المغلوب فالله ( جل وعلا ) هو خالق هذا الكون، وهو المتصرف فيه بما شاء، وهو المميز بين أجزائه، والمخالف بين أنواعه، وما خالف الله بينه منها لا يمكن أحدا أن يماثله، ومن أردا أن يماثله فإنه مغلوب عاجز لا محالة، كما قال كعب بن مالك في قريش :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها | فليغلبن مغالب الغلاب |
خفافيش أعماها النهار بضوئه | ووافقها قطع من الليل مظلم |
ونحن نقول : إن كون الطلاق بيد الرجل هو الأمر المعقول الذي يشهد له الحس والفطرة والشرع، والنشأة الأولى ؛ لأن من خلق الرجل وخلق المرأة – هو خالق هذا الكون، وهو أعلم بحقائقه وما يصلح كلا منه - صرح في محكم كتابه - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – أن النساء حروث ومزارع، قال تعالى في محكم كتابه :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ [ البقرة : آية ٢٢٣ ] ولو حاول الإفرنج ما حاولوا أن يكذبوا قوله :﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ لم يقدروا على كل حال ؛ لأنه قول من خلق الجميع وفعله وكونه وقدره لا يمكن أحد أن ينفيه ؛ لأن الرجل لم يكن في بطنه رحم يتربى فيها الولد، والنطفة المشاهدة أن تبذر في بطن المرأة، وأن تتربى فيها كما يتربى البذر في الأرض حتى يحصد تاما، هذا أمر مشاهد يشهده الحس والعقل، لا يمكن المكابر أن ينكره :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ ومعلوم أن الحارث المزدرع فاعل، وأن الحقل المزروع مفعول به بطبيعة الحال وحقيقة الأمر الواقع المحسوس الذي لا يمكن أن ينكره المكابر. ومما يوضح هذا : أن آلة الازدراع – آلة التناسل- هي من الرجل، فلو قلنا كما يقول الإفرنج : إنه لا يتركها إلا برضاها، وأن ترضى مفارقته إياها، وصار مكرها عليها لا يريدها، فهو زارع مرغم على حقل لا يريد الزراعة فيه، فإنها لو أرادت أن تجامعه لتحصل منه على ولد فأنا أؤكد لكم أنها لا تقدر، ولا ينتشر ذكره، ولا يقوم إليها، ولا تقدر أن تأخذ البذر منه بحال من الأحوال، بخلاف الرجل الذي هو بطبيعة الحال فاعل، والذي هو زارع ﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ [ البقرة : آية ٢٢٣ ] فإنه قد يحبلها وهي كارهة، فتكون في أشد التمنع والكراهة ويرغمها ويقهرها فتحمل. وقد كان العرب يقولون : إن المرأة التي حملت وهي مكرهة على الغشيان أن ولدها لا يطاق أبدا، وهو أمر معروف عندهم مشاهد، ومنه قول أبي كبير الهذلي يصف رجلا لا يطاق ؛ لأن أمه حملته شادة حزامها ونطاقها غير راضية بالمسيس :
ممن حملن به وهن عواقد | حبك النطاق فشب غير مهبل |
حملت به في ليلة مزؤودة | كرها وعقد نطاقها لم يحلل |
وكذلك زعمهم أن تفضيل الرجل على الأنثى في الميراث أنه ظلم من الشرع ؛ لأن الرجل والمرأة يدليان للميت بقرابة واحدة، فكيف تكون المرأة والرجل يمتان للموروث بقرابة واحدة ونصيب الرجل أكثر من نصيب الأنثى ؟ ! وهذا قولهم وفلسفتهم الشيطانية، والله ( جل وعلا ) في آية الصيف – أعنى الآية الأخيرة النازلة في المواريث من آخر سورة النساء - بين ( جل وعلا ) فيها أن من سوى بين الذكر والأنثى في الميراث أنه ضال ولا شك في ذلك الضلال ؛ لأن الله يقول :﴿ وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ [ النساء : آية ١٧٦ ] ﴿ يبين الله لكم ﴾ تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ﴿ أن تضلوا ﴾ كراهة أن تضلوا عن الطريق المستقيم، أو لأجل أن لا تضلوا. فالمسوي بينهما ضال بنص المحكم المنزل لا شك في ذلك، وإيضاح هذا بالمحسوس المعقول الذي لا يماري فيه إلا مكابر : أن الله ( تبارك وتعالى ) جعل الذكورة بطبيعتها جمالا وكمالا وقوة خلقية، فنفس الذكورة جمال طبيعي، وكمال خلقي، وقوة طبيعة، كما أن الله ( جل وعلا ) أوجد الرجل – إيجاده الأول- إيجادا مستقلا، والأنوثة هي بحقيقة ذاتها وطبيعتها نقص جبلي خلقي، وضعف خلقي لا ينكره إلا مكابر، والله ( جل وعلا ) بين في كتابه أن الأنوثة أنها بطبيعة حالها ضعف جبلي ونقص خلقي منحط عن درجة الذكورة حيث قال :﴿ أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ﴾ [ الزخرف : آية ١٧ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ أومن ينشوا في الحلية وهو الخصام غير مبين ﴾ أي أتجعلون لله ولدا وب
﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ قرأ هذا الحرف جميع القراء منهم ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص خاصة :﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ وكلاهما لغة فصيحة وقراءة سبعية صحيحة لا كلام فيها.
والضمير في قوله :﴿ جعلا ﴾ لآدم وحواء. وفي هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف وجهان معروفان من التفسير للعلماء، أحدهما جاءت به أحاديث وآثار، والتحقيق أنها لا يثبت شيء من تلك الأحاديث والآثار، وإن صحح بعض العلماء بعضها. والثاني دل عليه القرآن، وما دل عليه القرآن أرجح من غيره.
أحد الوجهين في هذا : أن إبليس – لعنه الله - لما عظم الجنين في بطن حواء جاءها وقال لها : إنه إذا خرج قد يشق بطنك، وقد يكون بهيمة، فهل أدلك على شيء إذا فعلته خرج منك بسلام، وخرج بشرا سويا ؟ وهو أن تسميه عبد الحارث. ويزعمون أن الحارث من أسماء الشيطان، وأنها سمته عبد الحرث، وأنها جعلت لله شركا حيث نسبت ذلك الولد الصالح الذي أعطاها الله نسبت عبوديته للشيطان، هذا معنى جاء عن بعض الصحابة، وجاء في بعض الأحاديث المرفوعة، وصحح الحاكم بعضها وغيره.
والتحقيق أنها لم يثبت في الحقيقة شيء منها والأغلب أن من رويت عنه من الصحابة أخذوها عن بعض الإسرائيليين.
الوجه الثاني : أن الآية الكريمة على أسلوب عربي معروف، وهو أنه جرت العادة في القرآن أن يسند فعل الآباء إلى الأولاد، وربما أسند فعل الأولاد إلى الآباء، وأن الفعل هنا أسند لآدم وحواء ( جعلا ) بألف التثنية الواقعة على آدم وحواء، والمراد ذريتهما التي أعطاها الله التناسل يخرج هذا بشرا سويا، ويخرج بسلام، ومع ذلك يكفرون بالله ( جل وعلا ) ويعبدون غيره، والدليل على أنه أطلق آدم وحواء وأراد ذريتهما من القرآن أنه قال بعده :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾ [ الأعراف : آية ١٩٠ ] ثم قال :﴿ أيشركون ﴾ بصيغة الجمع ﴿ ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾ [ الأعراف : آية ١٩١ ] ثم ذكر علامات الأصنام التي يشرك بها أولادهم كما هو واضح. وهذا القول أرجح، واختاره غير واحد من المحققين لدلالة القرآن عليه، ونظيره من القرآن :﴿ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ [ الأعراف : آية ١١ ] لأن معنى ﴿ صورناكم ﴾ هنا : صورنا أباكم آدم. فنسب التصوير إليهم والمصور أبوهم آدم، بدليل أنه قال :﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا ﴾ وأمر الملائكة بالسجود قبل تصوير بني آدم الآخرين كما لا يخفى.
وهذا معنى قوله :﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ القول الأول : سميا الولد عبد الحارث، وعلى الثاني : المراد : ذريتهما جعلت لله شركاء، فأشركت بالله ( جل وعلا ) الأصنام، وشاركوه في جميع ما أعطاهم من النعم والأولاد حتى قال الله للشيطان :﴿ وشاركهم في الأموال والأولاد ﴾ [ الإسراء : آية ٦٤ ] وقال تعالى :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ﴾ [ الأنعام : آية ١٣٦ ] وكونه أسند الفعل لآدم وحواء وأراد ذريتهما وهو الذي دل عليه القرآن ؛ ومثل هذا كثر في القرآن ؛ لأنه يقول لبني إسرائيل في زمن النبي :﴿ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ﴾ [ البقرة : آية ٥٧ ] ﴿ ورفعنا فوقكم الطور ﴾ [ البقرة : آية ٦٣ ] والمفعول بهم هذا أسلاف أسلاف أسلافهم لا هؤلاء الموجودين كما هو معروف. وهذا معنى قوله :﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله ﴾ أي : تقدس وتعاظم وتنزه ﴿ عما يشركون ﴾ به، وهو ( جل وعلا ) منزه عن الشريك، وهو الواحد الأحد في عبادته وأسمائه وصفاته وأفعاله لا شريك له في شيء من ذلك.
ثم قال منكرا عليهم :﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا ﴾ ﴿ أيشركون ﴾ بالله وهو خالق كل شيء ﴿ ما لا يخلق شيئا ﴾ [ الأعراف : آية ١٩١ ] هذا ليس بإنصاف، وقد جرت العادة في القرآن في آيات كثيرة أنه يجعل سبب العبادة التي تستحق به هو الخلق والإبراز من العدم إلى الوجود، فمن يبرزكم من العدم إلى الوجود، ويوجدكم بعد أن كنتم عدما هذا هو ربكم الذي يستحق أن يعبدوه وحده، أما الذي يحتاج إلى ما يخلقه فهو عبد مربوب فقير مثلكم، عليه أن يعبد من خلقه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ﴾ [ البقرة : آية ٢١ ] وقال :﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشبه الخلق عليهم قل الله خلاق كل شيء ﴾ [ الرعد : آية ١٦ ] أي : وخالق كل شيء هو المعبود وحده جل وعلا :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ﴾ [ الحج : آية ٧٣ ] ومن لم يخلق شيئا لا يمكن أن يكون معبودا ؛ ولذا قال :
﴿ وإن تدعوهم ﴾ أي : تعدوا هؤلاء المعبودين الأوثان التي تعبدونها من دون الله التي لا تخلق شيئا وهي تخلق ﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى ﴾ معناها : تدعوهم إلى طريق الهدى ﴿ لا يتبعوكم ﴾ لأنهم جماد. ومن إذا دعي إلى الهدى لا يتبع كيف يطلب منه الهدى ؟ ﴿ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ﴾ [ يونس : آية ٣٥ ] وهؤلاء إن هدوا لا يهتدون ! ! وهذا معنى قوله :﴿ لا يتبعوكم ﴾.
﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ هذه الهمزة التي هي قوله :﴿ أدعوتموهم ﴾ هي التي تسميها علماء العربية : همزة التسوية، وهي وما بعدها ينسبك منهما مصدر من غير حرف سابك. وأجود الإعرابين في ذلك، أن المعنى : دعاؤكم لهم وصمتكم عنهم سواء، أي : مستويان. ف( سواء ) خبر مقدم، وهو اسم مصدر بمعنى الوصف، وقوله :﴿ أدعوتموهم ﴾ في محل مبتدأ مصدر مسبوك بلا سابك، وما بعده معطوف عليه. والمعنى : دعاؤكم إياهم إلى الهدى، وصماتكم إليهم عن ذلك سواء. أي : مستويان، لا يتبعوكم في حالة من الحالتين، لا في حالة دعاؤكم لهم، ولا في حالة صمتكم عنهم، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ونظيره في القرآن :﴿ سواء عليهم ءأنذرتهم أن لم تنذرهم ﴾ [ البقرة : آية ٦ ] أي : إنذارك لهم وعدمه سواء. أي : مستويان، وهذا معنى معروف في كلام العرب، والأجود فيه أن ( سواء ) خبر مقدم، ونظيره من كلام العرب قول ابن قيس الرقيات :
تخطت بي الشهباء نحو ابن جعفر | سواء عليها ليلها ونهارها |
وليل يقول المرء من ظلماته | سواء صحيحات العيون وعورها |
في هذه الآيات الكريمة من سورة الأعراف بين الله ( جل وعلا ) سخافة عقول المشركين حيث عبدوا من هو دونهم وهم أكمل منه، قال أولا :﴿ إن الذين تدعون من دون الله ﴾ أي : هذه الأصنام والأوثان التي تعبدونها من دون الله. سواها أولا بهم في هذه الآية، قال :﴿ عباد أمثالكم ﴾ إنما أطلق على الأصنام اسم العباد وعبر عنها بضمائر العقلاء لأن الكفار يصفونها بصفات من هو خير من مطلق العقلاء، أنها معبودات، وأنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى، فبهذا الاعتبار أجرى عليها ضمائر العقلاء، وعبر عنها بالعباد. ووجه مماثلتهم هنا : أن الكفار العابدين، والأصنام المعبودات كلهم مخلوقات لله لا تقدر أن تجلب لنفسها نفعا ولا أن تدفع عنها ضرا. فهم من قبيل تسخير الله لهم، وخلقه للجميع، وقدرته على الجميع، بهذا الاعتبار هم سواء ؛ ولذا قال :﴿ عباد أمثالكم ﴾ بهذا الاعتبار، وفي الآية التي بعدها سيبين انحطاط درجة المعبودين عن العابدين، كما سيأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله.
وقوله :﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم ﴾ يعني : ادعوا هذه الأصنام واطلبوا منها النفع، أو ادعوها إلى الهدى ﴿ فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ أنها معبودات من دون الله، وأنها تنفع وتقرب إلى الله زلفى وتشفع ﴿ فليستجيبوا لكم ﴾ إذا دعوتموهم إلى الهدى تبعوكم أو نفعوكم بشيء ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ جمهور علماء العربية على أن جزاء الشرط لا يتقدم عليه، إلا أن ما تقدم دليل الجزاء، أي : إن كنتم صادقين في أنها تعبد وتنفع فادعوها فلتستجب لكم، ولا تستجيب لكم أبدا، كما صرح الله بذلك وأوضحه في آيات من كتابه كقوله :﴿ ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ١٣ إن تدعوهم لا يسمعون دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ١٤ ﴾ [ فاطر : الآيتان ١٣، ١٤ ] وكقوله تعالى :﴿ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ٥ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ٦ ﴾ [ الأحقاف : الآيتان ٥، ٦ ] وقال :﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ﴾ [ العنكبوت : آية ٢٥ ] وقال جل وعلا :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ٨١ كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونوا عليهم ضدا ٨٢ ﴾ [ مريم : الآيتان ٨١، ٨٢ ] ولذا قال هنا :﴿ فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ ولن يستجيبوا لكم أبدا، ومن يدع من دون الله من لا يستجيب له أضل منه، كما صرح الله به في قوله :﴿ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة ﴾ [ الأحقاف : آية ٥ ] وهذا معنى قوله :﴿ فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ [ الأعراف : آية ١٩٤ ].
الأيدي جمع يد، ووزنه ( أفعل ) لأن الرجل هنا واليد والعين كلها مجموعة على ( أفعل ) أرجل، أعين، أيدي، أصله :( أيدي ) على وزن ( أفعل ) إلا أن الضمة قلبت كسرة للياء المتطرفة بعدها ؛ لأن الأيدي منقوص، والمنقوص إذا نكر نون على العين كما هو معروف في محله، ويرفع بضم مقدر، ويخفض بكسر مقدر، ويظهر نصبه كما هو معروف في محله. والأيدي جمع تكسير لليد، واحده يد. وأصل اليد ( يدي ) ففاؤها ياء، وعينها دال، ولامها ياء، فحرفها الأول : ياء، وحرفها الأخير : ياء، وبين الياءين دال، إلا أن العرب حذفت الياء الأخيرة التي في محل اللام ولم تعوض منها شيئا، وأعربت ( اليد ) على العين ولم تعوض من اللام المحذوفة شيئا. وهذا فعلته في كلمات معدودة، ك( يد ) و( دم )، و( هن ) و( غد ) و( دب ) ونحو ذلك، إلا أن اليد أصلها تعرب على العين، تقول :( قطع يده، وأعطاه هذا بيده، ومدته له يده ) بحذف الياء، إلا أن العرب إذا صغرت اليد أو جمعتها جمع تكسير رجعت الياء المحذوفة ؛ لأن المقرر في فن التصريف : أن جمع التكسير والتصغير كلاهما يرد الأمر إلى أصله، فصغرت العرب اليد على يدية، وجمعت اليد على أيدي. يظهر نصبه كقوله :﴿ فاقطعوا أيديهما ﴾ [ المائدة : آية ٣٨ ] فرجعت في جمع التكسير الياء المحذوفة، وسمع عن العرب نادرا ذكر الياء في المفرد، وهو نادر، وإذا ذكرت فيها الياء كانت المقصور على الألف، فتقول العرب :( اليدي ) كالفتى ؛ لأن أصل الفتى ( فتي ) وأصل اليد :( يدي ) وهذا سمع قليلا في كلام العرب – وجود الياء من أصلها، وإبدالها ألفا، وجعل اليد من المقصور- ومنه بهذا المعنى قول الراجز :
يا رب سار بات ما توسدا | إلا ذراع العنس أو كف اليدا |
وقوله :﴿ أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ﴾ قرأه بعض السبعة :﴿ قل أدعو ﴾ بكسر اللام على الأصل في التخلص من الساكنين بكسر أولهما، وقرأه بعض السبعة :﴿ قل ادعوا ﴾ بضم اللام إتباعا للضمة كما لا يخفى. وهذا معنى قوله :﴿ أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ [ الأعراف : آية ١٩٥ ]. أجرى الله العادة أنه إذا أرسل الأنبياء وعابوا الأصنام وقالوا : إنها لا تنفع ولا تضر، وأن عبادتها كفر بالله مخلد في النار، أن أصحاب الأصنام الذين يعبدونها يقولون للرسل : ستضركم هذه الآلهة، ستخبلكم وتخرب عقولكم، ويأتيكم منها الضر ؛ لأنكم عبتموها ! ! والرسل ( صلوات الله وسلامه عليهم ) لا يخافون هذا ؛ لأن الخوف من الأصنام كفر بالله وعدم توكل عليه، فقد خافوا النبي صلى الله عليه وسلم بأن أصنامهم تضره ؛ لأنه عابها، كما سيأتي إيضاحه في الزمر في قوله :﴿ أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ﴾ [ الزمر : آية ٣٦ ] وقد خوفوا بها نبي الله إبراهيم كما قال الله عنه أنه قال :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون ألكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن ﴾ [ الأنعام : آية ٨١ ] وقد قالوا لنبي الله هود : إن آلهتهم اعترته بسوء فخبلته وجننته، فزعموا أنه مجنون، وأن الذي أضر عقله آلهتهم، كما في قولهم لهود :﴿ إن تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون ٥٤ من دونه فكيدوني جميعا ثم لا ينظرون ٥٥ ﴾ [ هود : الآيتان ٤٥، ٥٥ ] هذا الذي قال لهم نبي الله هود هو الذي قال لهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ادعوا شركاءكم ﴾ وتعاونوا معهم وكل من قدرتم عليه ﴿ ثم كيدون ﴾ يعني : امكروا بي وافعلوا بي ما تستطيعون من الكيد والمكر ثم لا تنظرون، لا تمهلون ؛ إلا أن نبي الله هود قال :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو اخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ٥٦ ﴾ [ هود : آية ٥٦ ] ونبينا ( صلوات الله وسلامه عليه ) قال :
ثم قال ( صلوات الله وسلامه عليه ) :﴿ إن ولي الله ﴾ الولي في لغة العرب : وهو المولي، وهو الذي انعقد بينك وبينه سبب ولاية يجعلك تواليه ويواليك. والله ( جل وعلا ) انعقد بينه وبين رسوله موجب الولاية، الرسول يوالي ربه بالطاعات، والله يوالي نبيه بالإعانة والنصر والثواب الجزيل، والرسول ولي المؤمنين، والمؤمنون أولياءه ﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾ [ الأحزاب : آية ٦ ] والله ولي المؤمنين، والرسول ولي المؤمنين ﴿ إنما وليكم الله ورسوله ﴾ [ المائدة : آية ٥٥ ] والمؤمنون المتقون أولياء الله ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٦٢ الذين آمنوا وكانوا يتقون ٦٣ ﴾ [ يونس : الآيتان ٦٢، ٦٣ ].
قوله :﴿ نزل الكتاب ﴾ [ الأعراف : آية ١٩٦ ] هو هذا القرآن العظيم. وقال بعض العلماء : المراد جنس الكتاب. فالمعنى : أنه نزل جميع الكتب المنزلة، فيها هذا الكتاب الذي هو الأخير منها، الذي جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وهذا القرآن سمي كتابا، وهو ( فعال ) بمعنى ( فعال ) بمعنى ( مفعول ) أي : مكتوب ؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى :﴿ بل هو قرآن مجيد ٢١ في لوح محفوظ ٢٢ ﴾ [ البروج : الآيتان ٢١، ٢٢ ] ومكتوب في صحف عند الملائكة، كما قال تعالى :﴿ في صحف مكرمة ١٣ مرفوعة مطهرة ١٤ بأيدي سفرة ١٥ كرام بررة ١٦ ﴾ [ عبس : الآيات ١٣-١٦ ] وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن مادة الكاف، والتاء، والباء. ( كتب ) معناها في لغة العرب : الضم والجمع، فكل شيء ضممت بعضه إلى بعض وجمعته فقد كتبته. ومنه سميت الكتيبة كتيبة، وهي القطعة العظيمة من الجيش ؛ لأنها انضم بعضها إلى بعض واجتمع بعضها على بعض، ومنه قول نابغة دبيان :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
وكاتبين وما خطت أناملهم | حرفا ولا قرؤوا ما خط في الكتب |
ما بال عينيك منها الماء ينسكب | كأنه من كلي مفرية سرب |
وفراء غرفية أثأى خوارزها | مشلشل ضيعته بينها الكتب |
لا تأمنن فزاريا خلوت به | على قلوصك واكتبها بأسيار |
﴿ وهو يتولى الصالحين ﴾ وهو ( جل وعلا ) يتولى الصالحين، وسيدهم وخيرهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تولاه، ولا يضره شيء مع كلاءة الله وحفظه له ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة : آية ٦٧ ] ومعنى كونه يتولاهم أي : يتولاهم بالنصر والحفظ والكلاءة والجزاء ونحو ذلك.
والصالحون جمع صالح، وهو ضد الطالح، وهو الذي يطيع الله ( جل وعلا ) فيما أمره به ونهاه عنه. وهذا معنى قوله :﴿ الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ﴾.
﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ [ الأعراف : آية ١٩٨ ] في هذه الآية الكريمة أوجه معروفة من التفسير : قال بعض العلماء : الضمير في ﴿ وتراهم ﴾ عائد إلى الكفار الذي يعبدون الأصنام. يعني : تراهم ينظرون إليك وتظن أن عيونهم مبصرة وهم لا يبصرون شيئا ؛ لأنهم عمي، إذ لو كانوا يبصرون شيئا لما عبدوا حجارة لا تنفع ولا تضر ! !
وقال بعض العلماء : الضمير في قوله :﴿ وتراهم ﴾ عائد إلى الأصنام. والذين قالوا هذا اختلفوا إلى قولين :
أحد القولين : أنهم كانوا يمثلون تماثيل ويجعلون لها أعينا تشبه عيون الناس، حتى إنه إذا قابلك الصنم كأنه إنسان ينظر إليك. قالوا : وعلى هذا تراهم فيما يتراءى للناظر ينظرون إليك وهم لا يبصرون ؛ لأنهم في الحقيقة جمادات. وذكر ابن جرير وغير واحد أن العرب تقول لكل مقابل شيء إنه ناظر إليه، تقول : دار فلان تنظر إلى داري. معناه : أنها مقابلة لها. وقالوا : إن هذا أسلوب عربي معروف، نزل به القرآن. وعلى هذا القول :﴿ وتراهم ينظرون إليك ﴾ مقابلين لك ليس بينك وبينهما حاجز ﴿ وهم لا يبصرون ﴾ لأنها جمادات لا تنفع ولا تضر. هذه الأقوال الثلاثة هي حاصل كلام أهل العلم في الآية. وهذا معنى قوله :﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم يبصرون ﴾ [ الأعراف : آية ١٩٨ ].
هذه الآية الكريمة من أخريات سورة الأعراف إحدى ثلاث آيات في كتاب الله بين الله ( جل وعلا ) فيها آدابا اجتماعية يجب على كل مسلم أن يتفهمها ويتدبرها ويعمل بها ؛ لأنه ينتفع بها في طول حياته انتفاعا تاما، وهي من تعاليم خالق السموات والأرض، وسنلم بهذه الآيات ونذر هذه الأدب الاجتماعية التي دلت عليها التي يحتاج إلى تعليمها كل إنسان، ثم نرجع إلى الآية فنفسر مفرداتها.
اعلموا أولا أن الله أجرى العادة بأنه لا يخلو أحد كائنا من كان من عدو مناوئ له من بني آدم ومن الشيطان، لا بد للإنسان من عدو يناوئه من بني جنسه ومن الشياطين. وهذا أمر غالبا، وخبر الناس الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم- والله يقول :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ﴾ [ الأنعام : آية ١١٢ ] فلا يخلو إنسان من عدو من بني جنسه وعدو من الشياطين.
ليس يخلو المرء من ضد ولو | حاول العزلة في رأس جبل |
وأما إذا كان العدو من الشياطين فإن الملاينة لا تفيد فيه، وأنت لا تراه ولا لك فيه حيلة إلا الاستغاثة بخالق السموات والأرض والاستعاذة به منه. قال هنا فيمن يتسلط عليك من الإنس :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ١٩٩ ﴾ [ الأعراف : آية ١٩٩ ] وقال في صاحبه الآخر من شياطين الجن :﴿ وإما ينزغنك من الشياطين نزغ فاستعذ بالله ﴾ لا دواء له إلا ذلك ﴿ إنه سميع عليم ﴾ [ الأعراف : آية ٢٠٠ ].
الموضع الثاني : في سورة ( قد أفلح المؤمنون ) قال تعالى في عدوك من بني جنسك :﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾ يعني : ادفع سيئات المسيئين بمقابلتها بالتي هي أحسن ﴿ نحن أعلم بما يصفون ﴾ ثم قال في العدو الثاني من شياطين الجن :﴿ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ٩٧ وأعوذ بك رب أن يحضرون ٩٨ ﴾ [ المؤمنون : الآيات ٩٦، ٩٨ ].
الموضع الثالث : في ( حم. السجدة ) زاد فيه تعالى أن هذا الدواء السماوي والعلاج القرآني الذي يكسر عداوة هذين العدوين لا يعطيه الله لكل أحد، وإنما يخص به من شاء ممن له عنده الحظ الأعظم، وزاد أن هذا دواء نافع وعلاج عظيم حيث قال في العدو من الإنس :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ﴾ [ فصلت : آية ٣٤ ] في غاية الصداقة ؛ لأن مقابلة إساءته بالإحسان تخجله وتقضي على عداوته حتى يضطر إلى أن يرجع صديقا. وقال :﴿ وما يلقاها إلا الذين صبروا ﴾ [ فصلت : آية ٣٥ ] هذه الخصلة وهذا التعليم القرآني لا يعطاه كل الناس، لا يعطيه الله إلا لصاحب الحظ والبخت العظيم عنده من الصابرين ؛ ولذا قال :﴿ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ٣٥ ﴾ ثم قال في رفيقه الآخر :﴿ وإما ينزغنك من الشياطين نزاغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ٣٦ ﴾ [ فصلت : الآيتان ٣٥، ٣٦ ] فهذا علاج قرآني ودواء سماوي نافع يحتاج إليه كل مسلم، ومحل هذا في غير الكفار المناصبين الناس بالعداوة، فالملاينة لهم لا تجوز ؛ لأن الكفار يجب عليهم الغلظة والقوة والعزة، ولا يلاينون، ولا تقابل سيئاتهم بالحسنات، كما وصف الله بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾ [ الفتح : آية ٢٩ ] ﴿ يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ﴾ [ التوبة : آية ٧٣ ] مع أنه يقول :﴿ واخفض جناحك للمؤمنين ﴾ [ الحجر : آية ٨٨ ] ﴿ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ٢١٥ ﴾ [ الشعراء : آية ٢١٥ ] ويقول في غيرهم :﴿ واغلط عليهم ﴾ [ التوبة : آية ٧٣ ] وقد مدح الله قوما بلين جانبهم لإخوانهم المسلمين وقوتهم على الكفرة ﴿ فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ﴾ [ المائدة : آية ٥٤ ] وقد قال الشاعر في نبينا صلى الله عليه وسلم :
وما حملت من ناقة فوق رحلها | أشد على أعدائه من محمد |
وما حملت من ناقة فوق رحلها | أبر وأوفى ذمة من محمد |
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه | وأمضى بحد المشرفي المهند |
إذا قيل حلم فقل للحلم موضع | وحلم الفتى في غير موضعه جهل |
قال بعض العلماء :( العفو ) هو ما تسهل لك من أخلاق الناس، خذ ما وجدته سهلا من أخلاق الناس، وما وجدت منهم من طيب خذه، وما جاءك منهم من غير ذلك تجاوز عنه واصفح عنه.
والعفو في لغة العرب يطلق على ضد الجهد، فكل شيء متيسر لا مجهود فيه تسميه العرب عفوا. وقد قدمنا إيضاحه في تفسير قوله :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ [ البقرة : آية ٢١٩ ] أي : الشيء الزائد الذي لا يجهد الزائد على قدر الخلة الضرورية على أصح التفسيرين. وهو معنى معروف في كلام العرب، تقول لك :( خذ العفو مني ) خذ ما تسهل لك مني، وما تعصي عليك لا تكلمني فيه. ومنه قول أسماء بن خارجة وقيل حاتم الطائي :
خذي العفو مني تستديمي مودتي | ولا تنطقي في سورتي حين أغضب |
خذ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا | ولا يكن همك الأمر الذي منعوا |
إذا ما بلغة جاءتك عفوا | فخذها فالغنى مرعى وشرب |
وقوله :﴿ وأمر بالعرف ﴾ العرب تطلق لفظة العرف والمعروف والعارفة على كل خصلة جميلة تستحسنها العقول وتطمئن إليها النفوس. معناه : وأمر بكل معروف تطمئن إليه النفوس. وهذا معنى قوله :﴿ وأمر بالعرف ﴾ وهذا المعنى معروف في كلام العرب. ومنه قول الحطيئة :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه | لا يذهب العرف بين الله والناس |
أولها :( الضرر يزال ) هذه قاعدة عظيمة من قواعد التشريع الإسلامي ( إزالة الضرر )، ويشهد لها حديث :( لا ضرر ولا ضرار ).
الثانية :( المشقة تجلب التيسير ) هذه من قواعد الفقه الإسلامي التي أسس عليها، ومن فروع هذه القواعد : التسهيلات والرخص، كقصر المسافر للصلاة، وفطره في رمضان، وغير ذلك من الرخص والتسهيلات المنتشرة في الشرع.
الثالثة :( لا يرفع يقين بشك ) وهذه من أمثلتها : أن الذمة تحمل على براءتها حتى يتحقق بالبينة شغلها. وكذلك إذا ثبت أن الذمة شغلت بدين وجب استصحاب ذلك الشغل حتى تقوم البينة على أنه قضاه. وهكذا في مسائل كثيرة.
الرابعة : قولهم ( العرف محكم ) وهو أن الناس في معاملاتهم وما يجري بينها في بيوعها ونكاحها وإجاراتها وطلاقها وغير ذلك من العقود أنها يرجع بها إلى عرفها وما تعتاده في مخاطبتها وتقصده، ولا تحمل بمطلق ألفاظ اللغة التي يخالفها عرفها.
القاعدة الخامسة :( الأمور تبع المقاصد ) وهذه قادة عظيمة يشير إليها قوله صلى الله عليه وسلم :( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) وهذا معنى قوله :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف ﴾.
﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ الإعراض عن الجاهلين خلق سماوي أمر الله به نبيه ليعلم خلقه هذا الخلق الكريم، والأدب السماوي العظيم، أنه إذا جهل عليك جاهل فأساء إليك أن تعرض عنه ولا تأخذه بزلته، كما قال جل وعلا :﴿ وإذا مروا باللغو مروا كرما ﴾ [ الفرقان : آية ٧٢ ] ﴿ سلام عليكم لا نبغي الجاهلين ﴾ [ القصص : آية ٥٥ ] ونحو ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾.
فإما تريني ولي لمة *** فإن الحوادث أودى بها
قال :( تريني ) ولم يأت بنون التوكيد. ومنه قول الحماسي :
زعمت تماضر أنني إما أمت *** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
ومنه قول الشنفري :
فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا *** على رقة أحفى ولا أتنعل
وقول لبيد بن ربيعة :
فإما تريني اليوم أصبحت سالما *** فلست بأحيا من كلاب وجعفر
وهو كثير في كلام العرب. وزعم قوم ان حذف نون التوكيد لضرورة الشعر. وقال جماعة من علماء العربية : إنه لغة صحيحة لا ضرورة، كما هو معروف في محله. وهذا معنى قوله :﴿ وإما ينزغنك من الشياطين نزغ ﴾ [ الأعراف : آية ٢٠٠ ] أسند الفعل هنا إلى مصدره، كقول العرب إذا جد الأمر :" جد جد هذا الأمر ". والأصل يعنون : جد الناس في ذلك الأمر. وإسناد الفعل إلى مصدره أسلوب عربي معروف، منه قول أبي فراس الحمدان وإن كان شعره لا يصلح إلا مثالا لا شاهدا :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
قال بعض العلماء : النزغ والنغر معناه : النخس. وإما ينخسنك الشيطان. ونخس الشيطان كأنه يأتي بشيء محدد ينخس في الإنسان ويغرزه فيه ليثيره إلى ما لا يرضي الله من المعاصي. وهذا النزغ هو فساد الشيطان على الإنسان إما بالوساوس، وإما بشدة الغضب، ونحو ذلك مما يحمله عليه الشيطان من انتهاك حرمات الله وتضييعها. إذا نزغك هذا النزغ من الشيطان بأن وسوس لك حتى زين لك أن تعصيه، أو أغضبك حتى خرجت عن حدود الطاعة، وكان هذا النزغ سيؤديك إلى أن تفعل ما لا ينبغي ﴿ فاستعذ بالله ﴾ من الشيطان. ( استعذ ) معناه : اطلبه أن يعيذك منه. والإعاذة : هي الحفظ والتمنع والتوقي، عكس اللياذ ؛ لأن اللياذ بالإنسان لاذ به يلوذ إذا كان يريد أن يجلب له مصالحه. واستعاذ به يستعيذ ليمنعه ويقيه مما يخاف، كما قال :
يا من أعوذ به فيما أحاذره *** ومن ألوذ به فيما أحواله
﴿ فاستعذ بالله ﴾ أي : اطلب أن يعيذك، أي : يمنعك ويقيك من هذا الشيطان الرجيم ﴿ إنه ﴾ جل وعلا ﴿ سميع ﴾ لدعائك، سميع لما يوسوس لك من الشيطان ﴿ عليم ﴾ بوسوسة الشيطان لك، وبالتجائك إليه، وبكل ما يقوله ويفعله خلقه، فهو الذي بيده إنجاؤك منه، وهذا معنى قوله :﴿ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ﴾ [ الأعراف : آية ٢٠٠ ].
وقوله :﴿ تذكروا ﴾ أي : تذكروا عقاب الله وثوابه ففاجأهم الإبصار. والإبصار هنا معناه : الإبصار بالقلب الذي يحمل الإنسان على الرجوع إلى ما يرضي الله ﴿ فإنها لا تعمي الأبصار ولاكن تعمي القلوب التي في الصدور ﴾ [ الحج : آية ٤٦ ].
وقد قدمنا أن ( إذا ) الفجائية فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها حرف
والثاني : أنها ظرف زمان.
والثالث : أنها ظرف مكان. كما هو معروف في محله.
وهذا معنى قوله :﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ وهذا معنى قوله :﴿ وإذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ [ الأعراف : آية ٢٠١ ].
﴿ وإخوانهم ﴾ الآخرين، إخوانهم في النسب لا في الدين، الذين لا يبصرون ﴿ يمدهم ﴾ يمدهم الشياطين. فالإخوان الأولون من الإنس. وقوله :﴿ يمدهم ﴾ يعني : تمدهم الشياطين. ﴿ وإخوانهم ﴾ الآخرين من عتاة الإنس ﴿ يمدونهم ﴾ أي : تمدهم الشياطين. هذا الذي ذكره غير واحد، أن المراد بالإخوان : العتاة من الآدميين، والذين يمدونهم : هم إخوانهم من الشياطين.
وقال بعض العلماء : إن الإخوان الأولين : الشياطين يمدون إخوانهم من عتاة الإنس. وعلى كل الأحوال فالمعنى : أن المتمردين من بني آدم، العصاة والكفرة لهم إخوان من الشياطين يمدونهم في الغي. ﴿ يمدونهم ﴾ معناه يكونون لهم مددا في الغي، ويزيدونهم فيه، فيزيدونهم طغيانا إلى طغيانهم، وكفرا إلى كفرهم بما يزينون لهم من الكفر والمعاصي ويعينونهم عليه.
سما بك شوق بعد ما كان أقصرا | وحلت سليمي بطن قو فعرعرا |
إذا وجدت أوار النار في كبدي | ذهبت نحو سقاء القوم أبترد |
هبني بردت ببرد الماء ظاهره | فمن لنار على الأحشاء تتقد |
وقوله :﴿ وإذا لم تأتيهم ﴾ كانت عادة الكفار اقتراح الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تارة يقترحون عليه آيات قرآنية تتلى غير هذا القرآن، كما سيأتي في سورة يونس، وفي تفسير قوله :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائي نفسي إن أتبع إلا ما يوحي إلي ﴾ [ يونس : آية ١٥ ] وتارة تكون الآيات المقترحات آيات كونية قدرية كما في قوله :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ٩٠ ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ٩٠ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ﴾ [ الإسراء : الآيتان ٩٠، ٩١ ] إلى آخر الآيات المقترحات، وهي كثيرة في كلام العرب.
ومن العلماء ما ظاهر كلامه أن الآية المقترحة هنا آيات أخر من جنس القرآن غير ما أنزل، وعلى هذا القول فلا إشكال في الكلام ؛ لأن معنى :﴿ وإذا لم تأتيهم بآية ﴾ تقرأ عليهم آيات أخر غير ما انزل عليك ﴿ قالوا لولا اجتبينها ﴾ ( لولا ) هنا حرف تحضيض، والتحضيض : الطلب بحث. معناه : أطلب منك طلبا حثيثا شديدا أن تجتبيها.
و﴿ اجتبيتها ﴾ أصل الاجتباء معناه المشهور في لغة العرب : الاختبار والاصطفاء. هذا أشهر معانيه المعروفة، ومنه قوله :﴿ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ١٢٢ ﴾ [ طه : آية ١٢٢ ] قال بعض العلماء : لولا اخترتها واصطفيتها وجئت بها. وقالت جماعة من المفسرين : العرب تقول : اجتبيت الكلام. إذا اختلقته واخترعته من وقته، ولم يكن عندك فيما سبق، بل جئت به اختلاقا واختراعا في وقته. ﴿ لولا اجتبيتها ﴾ هلا جئت بها مخترعة مختلفة في عجلة ؛ لأنهم يزعمون أن كل القرآن اختلاق ﴿ إن هذا إلا اختلاق ﴾ [ ص : آية ٧ ] ﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ [ الأنعام : آية ٢٥ ] كما أن هذا الذي تقرأ مختلق في زعمهم فاقرأ الآية المطلوبة منك مختلفة أيضا كهذا الذي تقرأ. وهذا تكذيب منهم – قبحهم الله - بالقرآن. وعلى هذا القول فلا إشكال في قوله :﴿ لولا اجتبيتها ﴾ أي : هلا اخترعتها واختلقتها وقرأتها علينا كما طلبناك، كما اختلقت هذا القرآن كله ونسبته إلى الله بغير حق. هذا قولهم لعنهم الله.
وذهبت جماعة أخرى من أهل التأويل إلى أن الآية المطلوبة هنا آية كونية قدرية، كما قال :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ [ الإسراء : آية ٩٠ ] وقد قالوا له صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا الصفا ذهبا، وباعد عنا بين جبال مكة لنزدرعها، وهاتنا بالرياح لنركبها إلى الشام كما كان يفعل سليمان، وأحيي لنا قصيا نسأله عنك هل أنت رسولا أو لا ؟ إلى غير ذلك من الآيات المقترحات.
وعلى أن الآية المطلوبة هنا كونية قدرية قال بعض العلماء : معنى ﴿ لولا اجتبيتها ﴾ هلا اقترحتها وتلقيتها من تلقاء ربك ؛ لأنك تزعم أن كل ما سألت منه يعطيك إياه. يعني فتقلب لنا الصفا ذهبا، وتحيي لنا قصيا نسأله عنك، إلى غير ذلك من الآيات المقترحات. وعلى هذا القول فالاجتباء هنا بمعنى تلقيها من الله مقترحة، وإجابة الله إلى ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ لولا اجتبيتها ﴾ قل لهم يا نبي الله : ليس من شأني اختلاق الآيات التي تقرأ وتتلى، وليس من شأني اقتراح الآيات الكونية القدرية، وإنما أنا عبد مأمور أفعل كما أمرني ربي ولا أتجاوزه إلى شيء آخر.
﴿ إنما اتبع ﴾ ما أتبع إلا ﴿ ما يوحي إلى ﴾ فهذا الذي أتلوه عليكم أوحاه ربي إلي، وهو الذي أقرأه عليكم، أما شيء آخر لم يوح إلي فلا أقوله لكم ولا أقترح على ربي شيئا. والله ( جل وعلا ) قد بين في سورة بني إسرائيل أنه إنما لم يرسله بخارق مثل خارق الرسل المتقدمة كناقة صالح ونحو ذلك أنه إن فعل ذلك كذبوا فأهلكم، كما قال :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ﴾ [ الإسراء : آية ٥٩ ] لأن الله تبارك وتعالى لما اقترحوا هذه الآيات بين لهم هنا وفي سورة العنكبوت أنه أنزل لهم آية هي أعظم من جميع الآيات وأكبر، وهي هذا القرآن العظيم، فهذا القرآن العظيم أعظم آية من ناقة صالح، ويد موسى البيضاء، وعصاه التي تكون ثعبانا. ومما يدل على أنها أعظم الآيات : أنها تتردد في أسماع الخلائق إلى يوم القيامة، وأنها كلام رب العالمين الذي يعجز عن الإتيان بمثله جميع الخلائق، وقد تحدى الله العرب بسورة من هذا القرآن العظيم في سورة البقرة قال :﴿ فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ [ البقرة : آية ٢٣ ] وتحداهم بسورة منه في سورة يونس قال :﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ٣٨ ﴾ [ يونس : آية ٣٨ ] وتحداهم بعشر سور في سورة هود ﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ١٣ ﴾ [ هود : آية ١٣ ] وتحداهم به كله في سورة الطور :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ٣٤ ﴾ [ الطور : آية ٣٤ ] ثم بين في سورة بني إسرائيل أن عامة الخلائق لو تعاونوا واجتمعوا لا يقدرون على الإتيان بمثل هذا القرآن :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ٨٨ ﴾ [ الإسراء : آية ٨٨ ] فلما كان معجزة يعجز عن مضاهاتها جميع الإنس والجن، وهي معجزة باقية تتردد في آذان الخلائق إلى يوم القيامة، محفوظة، تولى رب العالمين حفظها، لو أراد أحد أن يزيد في هذا القرآن العظيم نقطة واحدة، أو يغير شكل حرف لرد عليه الآلاف من صغار أطفال المسلمين في أقطار الدنيا :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ٩ ﴾ [ الحجر : آية ٩ ] ولأجل عظم هذه الآية وكبرها وأنها أعظم الآيات وأكبرها أنكر ( جل وعلا ) على من طلب آية غيرها إنكارا شديدا في سورة العنكبوت حيث قال تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ٥٠ ﴾ ثم أنكر عليهم طلب آية غيره قال :﴿ أولم يكفيهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة ﴾ الآية [ العنكبوت : الآيتان ٥٠- ٥١ ]. فمن لم يكتف بهذه الآية العظمى عن جميع الآيات فهو جدير بأن ينكر عليه ؛ ولذلك قال هنا في أخريات الأعراف لما قال عنهم إنهم قالوا :﴿ لولا اجتبيتها ﴾ بين لهم أن هذا القرآن العظيم أعظم آية، لا ينبغي للإنسان أن يطلب آية غيره حيث قال :﴿ هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ [ الأعراف : آية ٢٠٣ ] فمن لم تهده هذه البصائر، والأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، والمعجزة العظمى، والهدى والرحمة فلا آية تهديه ألبتة. وهذا معنى قوله :﴿ قل إنما أتبع ما يوحي إلي من ربي ﴾ لا أختلق آية ولا أقترح أخرى.
ثم قال :﴿ هذا بصائر من ربكم ﴾ الإشارة في ( هذا ) إلى هذا القرآن العظيم. أي : هذا القرآن الذي هو أعظم آية وأنتم تقترحون آيات غيره ﴿ بصائر من ربكم ﴾ البصائر جمع البصيرة، والبصيرة المراد بها : البرهان القاطع والدليل الساطع الذي يبصر في ضوئه الحق واضحا لا لبس فيه. فالبصائر : الحجج القاطعات، والبينات الواضحات التي لا تترك في الحق لبسا، وواحدها ( بصيرة )، ومنه قوله تعالى في أخريات يوسف :﴿ قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ [ يوسف : آية ١٠٨ ] وإنما كان المبتدأ الذي هو ( هذا ) إشارة إلى مذكر، والخبر جمع تكثير جمع تكسير ( بصائر ) ؛ لأن ( هذا ) وهو إشارة إلى القرآن، والقرآن يتضمن حججا كثيرة، وبراهين قاطعة بكثرة ؛ ولذا عبر عنه ب( هذا ) وأخبر عنه بقوله :﴿ بصائر ﴾ و ﴿ وهدى ﴾ أي : بيان ودلالة ؛ لأن القرآن العظيم يطلق هداه الهدى العام، ويطلق هداه الهدى الخاص، والقرآن العظيم قد بين تعالى أن له هدى عاما للأسود والأحمر، وهدى خاصا لمن وفقه الله.
أما الهدى العام : فمعناه بيان الطريق، وإيضاح المحجة البيضاء، وبيان الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن والقبيح، تقول العرب :( هديته ) إذا أرشدته إلى الخير، سواء تبعه أم لا. ومنه بمعناه العام :﴿ وأما ثمود فهديناهم ﴾ أي : بينا لهم الحق على لسان نبينا صالح، وهو هداية إرشاد وبيان لا هداية توفيق ؛ لأن الله قال :﴿ فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ﴾ الآية [ فصلت : آية ١٧ ].
ومن إطلاق الهدى بمعناه العام الذي هو البيان والإيضاح والإرشاد قوله تعالى :﴿ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ٢ إنا هديناه السبيل ﴾ أي : بينا له طريق الحق وطريق الباطل، بدليل قوله :﴿ إما شاكرا وإما كفورا ﴾ [ الإنسان : الآيتان ٢، ٣ ] لأن الهداية في قوله :﴿ هديناه السبيل ﴾ لو كانت هداية توفيق لما قسم من هداه الله بها إلى شاكر وإلى كفور.
المعنى الثاني : هو إطلاق الهدى بمعناه الخاص، والهدى بمعناه الخاص : معناه توفيق الله ( جل وعلا ) لعبده حتى يهتدي إلى ما يرضي ربه، ويكون سبب دخوله الجنة. ومنه بهذا المعنى :﴿ من يهد الله فهو المتهدي ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : آية ٩٠ ].
وكون الهدى يطلق إطلاقا عاما وإطلاقا خاصا إذا فهم الإنسان ذلك زالت عنه إشكالات في كتاب الله، ومناقضات يظنها الجاهل ببعض آيات الله، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ وإنك لتهدي من أحببت ﴾ [ القصص : آية ٥٦ ] مع قوله فيه :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ الشورى : آية ٥٢ ] فنفى عنه الهدى في آية وأثبته له في آية، فالهدى المثبت له في قوله :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط المستقيم ﴾ هو الهدى بمعناه العام، وهو البيان والإيضاح. وقد بين صلى الله عليه وسلم هذه المحجة البيضاء حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وسلامه عليه.
أما الهدى المنفي عنه في قوله :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [ القصص : آية ٥٦ ] فهو التفضل بالتوفيق وسعادة المرء ؛ لأن هذا بيد ال
قال بعض العلماء : هو أمر للكافرين أن يكفوا عما يفعلون في قولهم :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ وقد أجرى الله العادة أن الكفرة يكرهون كل الكراهة سماع كلام رب العالمين – والعياذ بالله - هذا أول الأنبياء الذين أرسلوا لأهل الأرض بعد أن كفروا، نوح ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ) فانظروا كيف يكره قومه سماع كلامه ؛ لأنه يقول عنهم :﴿ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذناهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ٧ ﴾ [ نوح : آية ٧ ] كراهة أن يسمعوا الحق الذي يقوله لهم ذلك النبي الكريم. وهؤلاء الذين بعث فيهم خاتم الرسل ( صلوات الله وسلامه عليه ) يقولون :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ [ فصلت : آية ٢٦ ] فقد بين – جل وعلا - في أخريات سورة الحج شدة كراهتهم لتلاوة القرآن عليهم :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آيتانا ﴾ [ الحج : آية ٧٢ ] أي : لشدة كراهتهم وبغضهم لتلاوتها ؛ ولذا قال هنا :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له ﴾.
وكثير من علماء السلف يقولون : هذه في الصلاة خاصة إذا كان الإمام يقرأ صلاة جهرية، فإذا قرأ الإمام قراءة جهرية فعلى المأمومين أن يستمعوا وينصتوا. وكان بعض العلماء من هذا المعنى يقول : ليس على المأموم قراءة ؛ لأن قراءة الإمام تكفيه في الجهرية. وبعضهم يقول : تكفيه مطلقا، وفي الحديث الصحيح :( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا ) فجماعات كثيرة من علماء السلف يقولون : هي في الصلاة إذا كان الإمام يقرأ جهرا. إذا قرأ الإمام القرآن في الصلاة ﴿ فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ الاستماع : هو أن تتفهم هذا الذي يقال حتى تفهم معانيه، والإنصات : هو السكوت وترك الكلام لأجل استماع الكلام. هذا معنى :﴿ فاستمعوا له وأنصتوا ﴾.
وكان بعض العلماء يقول : هي في خطبة الجمعة.
وبعضهم يقول : هي في الفطر، والأضحى، وخطبة الجمعة، وكل ما يجهر فيه الإمام.
وكونها في خطبة الجمعة وإن قال به جماعة كثيرة من السلف فإنه لا يخلو من بعد لمسائل منها : أن القرآن غير كثير فيها. ومنها : أن الجمعة ما شرعت إلا بالمدينة، وهذه الآيات من سورة الأعراف مكية ؛ لأن سورة الأعراف من القرآن النازل قبل الهجرة كما هو معلوم.
وهنا كان خلاف بين العلماء : هل إذا قرأ الإمام يسكت المأموم ويكتفي بقراءة الإمام، أو لابد أن يقرأ الفاتحة ؟ في هذا خلاف مشهور بين العلماء. فبعض العلماء يقول : أما في الجهرية فإن المأموم يسكت ؛ لأن الله أمره في قوله :﴿ فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ والله يقول :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ [ النور : آية ٦٣ ].
ومن العلماء من لا يرى الفاتحة واجبة على المأموم ؛ لأن الإمام يحملها عنه. وهذا مذهب مالك، وروي عن أبي حنيفة مثله، وقال بعض العلماء. قالوا : دل القرآن على أن الذي يسمع ويؤمن أنه كالذي كان يتكلم. قالوا : والدليل على ذلك أن الله قال في محكم كتابه :﴿ وإذ قال موسى ﴾ موسى وحده لم يكن معه هارون ﴿ ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ ثم قال :﴿ قال قد أجيبت دعواتكما ﴾ [ يونس : الآيتان ٨٨، ٨٩ ] قالوا : كيف الداعي واحدا – وهو موسى- وتكون الدعوة المجابة من اثنين ؟ ! قالوا : لأن هارون كان ينصت لدعاء موسى ويؤمن عليه، فصار أحد الداعيين لإنصاته وتأمينه، فدل ذلك على أن المنصت المؤمن كالذي كان يقرأ. هذا قال به جماعة من العلماء.
وقالت طائفة أخرى : ينبغي للمأموم أن لا يترك قراءة الفاتحة، فلو سكت الإمام وأعطاه الفرصة بالسكوت لبادر أن يقرأ الفاتحة في سكتة الإمام، وإن لم يعطه فترة في ذلك قرأها. قالوا : نعم ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له ﴾ هذا نص عام في قراءة القرآن، إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم :( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب ) أخص منه، فهو تخصيص عموم القرآن بحديث نبوي، فتخصيصات عمومات القرآن بالأحاديث كثيرة جدا. وقد روي حديث في خصوصه أنه يقرأ وراء الإمام في الجهرية. فإن كان ثابتا محفوظا فلا كلام.
وعلى كل حال فقوم من العلماء منعوا القراءة في حال جهر الإمام، وقوم أوجبوا قراءة الفاتحة خصوصا. والأحوط في هذا ألا يترك الفاتحة ؛ لأن الصلاة دعيمة عظيمة من دعائم الإسلام، وهي أعظمها بعد الشهادتين، فلا ينبغي للإنسان أن يفعل صلاة يقول بعض الناس : إنها غير مجزئة، فينبغي أن يعمل عملا يتفق الناس فيه على أن صلاته مجزئة، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾.
الاستماع : هو التدبر في الشيء والإصغاء إليه، الإصغاء إلى الشيء بتدبر.
والإنصات : هو السكوت وترك الكلام ؛ لأجل سماع ما يقال. هذا معنى قوله :﴿ فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ﴾ [ الأعراف : آية ٢٠٤ ].
وقوله :﴿ تضرعا وخيفة ﴾ قيل هما مفعولان لأجلهما. أي : لأجل التضرع. والتضرع معناه : التذلل والتخشع والتواضع. أي : لأجل التذلل والتخشع والتواضع لرب العالمين. وقال بعض العلماء :﴿ تضرعا وخيفة ﴾ مصدران منكران بمعنى الحال. أي : في حال كونك متضرعا خائفا. والكل محتمل.
وقوله :﴿ خيفة ﴾ ياؤه مبدلة من واو، أصله :( خوفة ) لأنها ( فعلة ) من الخوف ؛ لأن المادة من الأجوف الذي هو واوي العين، والقاعدة المقررة في التصريف : أن الواو إذا سكنت بعد الكسر أبدلت ياء بقياس مطرد. ف( الخيفة ) هي ( فعلة ) من الخوف، فالياء مبدلة من واو، وتجمع على ( خيف ) لأن الإعلال الذي في المفرد هو موجود أيضا في الجمع، وشذ بعض العلماء فقال : تجمع على ( خوف ).
والفرق في لغة العرب بين الخوف والحزن : أن الخوف هو غم من أمر مستقبل، والحزن غم من أمر فائت. هذا أكثر ما يستعمل فيه الخوف والحزن، إلا أنهما ربما استعمل أحدهما في موضع الآخر. فقوله :﴿ خيفة ﴾ أي : غما من أمر مستقبل، وهو سخط رب العالمين وعقابه ؛ لأنه الخائف من سخطه وعقابه المغموم مما يقع من ذلك في المستقبل يطيع الله ( جل وعلا ) في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة. وربما أطلقت العرب اسم الخوف على العلم، تقول العرب :( خفت كذا ). أي : علمته. وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف، قال بعض العلماء : منه قوله تعالى :﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ﴾ [ البقرة : آية ٢٢٩ ] أي : علمتم ألا يقيما حدود الله ﴿ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ﴾ [ البقرة : آية ٢٢٩ ] إلا أن يعلما ألا يقيما حدود الله، على القول بذلك. ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم قول أبي محجن الثقفي في أبياته المشهورة :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة | تروي عظامي بالممات عروقها |
ولا تدفني بالفلاة فإنني | أخاف إذا ما مت ألا أذوقها |
﴿ واذكر ربك ﴾ ذكرين، أما الذكر النفساني فهذا الذي يكون في نفسك لا يعلمه منك إلا ربك، من أن تتفكر في عظمته وسلطانه وجبروته وصفاته وعقابه وثوابه، متضرعا خائفا منه ( جل وعلا ). وهذا النوع من الذكر القلبي عظيم جدا.
الثاني : ذكر لساني، وقد علمهم ( جل وعلا ) آداب الذكر اللساني، وأنهم لا يرفعوا صوته جدا ولا يخافتوا به جدا، كما قال :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾ [ الإسراء : آية ١١٠ ] والمخافتة : الإسرار الشديد. وقال هنا :﴿ ودون الجهر ﴾ أي : واذكر ربك بالقول دون الجهر، ولا تجهر به وترفع صوتك جدا ؛ لأن رفع الصوت الكثير بالدعاء وبالأذكار لا ينبغي. والله ( جل وعلا ) يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يرفع صوته به جدا ﴿ ودون الجهر من القول ﴾ يعني : دون الجهر وفوق الإسرار : المخافتة. لا تجعله سرا جدا كالمخافتة، ولا تجعله جهرا جدا بل سبيلا بين ذلك كما قال :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾ [ الإسراء : آية ١١٠ ].
وقوله :﴿ بالغدو ﴾ الغدو : قال بعض العلماء : هو مفرد مصدر غدا غدوا. وقال بعض العلماء : هو جمع ( غدوة ).
والآصال : جمع ( أصيل ). وقيل جمع ( أصل ). وبعضهم يقول :( الأصل ) جمع ( أصيل )، و( الآصال ) جمع الجمع، ولا داعي إليه ؛ لأن ( الأصيل ) يجمع على ( آصال )، كما تجمع اليمين على الأيمان، والأصل أيضا يجمع على الآصال. والأصل يطلق مفردا وجمعا.
والغدو : أوائل النهار، والآصال : أواخره. فالآصال : من العصر فما وراءه إلى الليل. والغدو : من أول النهار.
قال بعض العلماء : كان قبل فرض الصلاة ليلة المعراج يصلون صلاتين : آخر النهار، وأوله، وأنه هو المراد هنا.
وقال بضعهم : خص هذين الوقتين من النهار – أول النهار وآخره - لفضلهما.
قال بعض العلماء : الذكر بالغدو : صلاة الصبح، وبالآصال : صلاة العصر. والله تعالى أعلم، وهذا معنى قوله :﴿ بالغدو والآصال ﴾.
﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يغفل عن ذكر ربه ولكنه يؤمر وينهى ليشرع لأمته على لسانه. وفي هذه الآية الكريمة نهي للمسلمين عن الغفلة عن ذكر الله ( جل وعلا )، فعلينا معاشر المسلمين ألا نغفل عن ذكر الله، وأن نذكر الله في أنفسنا تضرعا وخيفة، وأن نذكره بقولنا دون الجهر من القول، أول النهار وآخره، وفي كل وقت، لأن الله أثنى على عباده بالذكر عليه في كل حال، ﴿ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ﴾ [ آل عمران : آية ١٩١ ] هذا التفكر في خلق السموات والأرض من ذكرك ربك في نفسك تضرعا وخيفة كما لا يخفى. وهذا معنى قوله :﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ [ الأعراف : آية ٢٠٥ ].
ثم إن الله لما أمر عباده المؤمنين بهذه الآداب السماوية وهذه الأوامر الكريمة بين لهم أن ملائكته المقربين يطيعونه ويعبدونه ولا يستكبرون عن عبادته فقال :
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت | وظيفا وظيفا فوق مور معبد |
﴿ ويسبحون ﴾ جل وعلا. التسبيح في لغة العرب : معناه الإبعاد عن السوء، فسبحت الشيء معناه : أبعدته عن السوء.
وهو في اصطلاح الشرع : تنزيه رب العالمين ( جل وعلا ) عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ﴿ وله يسجدون ﴾ سجود تواضع وتذلل وخضوع سبحانه وتعالى.
فإذا كان ملائكته المقربون مع عظمهم ومكانتهم عنده لا يستكبرون عن عبادته وينزهونه ويخضعون ويتذللون له فكيف بنا معاشر بني آدم ؟ !