تفسير سورة التكوير

بيان المعاني
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

الحطب، فأيدلها الله سلسلة من حديد محماة في عنقها تعذب فيها في نار جهنم.
هذا وقد عيّر بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فرد عليه بقوله:
ماذا أردت بشتمي أو بمنقصي أم ما تعيّر من حمالة الحطب
غراء شادخة في المجد غرتها كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب
أي وقد وقع منها ما وقع من قومها فذمها الله لا غير، أي لم تنتقد في شيء تعاب به عند العرب إذ ذاك ولا بعد هذا والله أعلم. أستغفر الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تفسير سورة التكوير عدد ٧- ٨١ وتسمى كورت
نزلت بمكة بعد (المسد) وهي تسع وعشرون آية ومثلها في عد الآي الفتح والحديد ومائة وأربع كلمات، وخمسمائة وثلاثون حرفا، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بلفظ إذا: هذه، والواقعة، والمنافقون، والانفطار، والانشقاق، والزلزلة، والنصر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «إِذَا» ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه «الشَّمْسُ» الجرم المعهود أحد الكواكب السيارة السبع وقد أخبر الله بما تؤول إليه عند إرادته ابادة هذا الكون بقوله «كُوِّرَتْ ١» لغت وغورت واضحات وذهب نورها «وَإِذَا النُّجُومُ» يشمل بقية السيارات وغيرها كالثريا والشعرى وبنات نعش وغيرها «انْكَدَرَتْ ٢» اغبرّت وذهب ضوءها وانقضت من أماكنها وسقطت من مواقعها وفرط نظامها وتناثرت «وَإِذَا الْجِبالُ» الشامخات الرّواسي «سُيِّرَتْ ٣» من أماكنها فارتجت عن وجه الأرض وصارت هباء «وَإِذَا الْعِشارُ» الإبل العشر التي مر عليها عشرة أشهر وهي أنفس مال العرب وكذلك غيرها من الحيوانات «عُطِّلَتْ ٤» أهملت وتركت بلا راع لهول ما يشاهدون في ذلك اليوم وكانوا قبله يلازمونها «وَإِذَا الْوُحُوشُ» دواب البر والبحر «حُشِرَتْ ٥» جمعت في المحل الذي يريده الله بذلك اليوم ليقتص بعضها من بعض ومن القرناء للجلحاء ثم تكون ترابا فيتمنى الكافر إذ ذاك
123
لو كان مثلها تخلصا من العذاب الأليم، وفي هذه الآية إيذان بأن هول القيامة لا يقتصر على البشر وما يألفه من الحيوانات بل يتعدى إلى دواب البحر والبرّ وإلى الجمادات أيضا، وهذا يكون بعد النفخة الثانية. ثبتنا الله وعافانا ومن شره وقانا- راجع تفسير الآية الأخيرة من سورة النساء في ج ٢- «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ٦» التهبت بالنار وذهب ماؤها وصارت تضطرم، يؤيده قوله صلّى الله عليه وسلم: إن البحر غطاء جهنم أو طباقها. وقيل امتلأت أخذا من سجر التنور إذا امتلأ حطبا وعليه يكون المعنى تفجرت على بعضها فصارت بحرا واحدا إلا أنه لم يبق بحر إذ ذاك (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) راجع هذه الآية ٤٠ من سورة ابراهيم في ج ٢ «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ٧» قرنت أرواحها بأجسادها وكل نفس مع من يشاكلها الصالحة بالصالحة والعاصية بالعاصية وألحق كل امرئ بشيعته «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ» الطفلة المقبورة حية «سُئِلَتْ ٨» أي سئل وائدها فيقال له من قبل الملائكة «بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ٩» هذه الموءودة كبيرة كانت أو صغيرة وهكذا كل مقبور حيّ يسأل وائده عن سبب واده فيصمت إذ لا جواب له ولا عذر فيذبح الوائد في نار جهنم ذبحا زائدا على عذابه الذي يستحقه للقتل بلا ذنب وهذا الذبح لا يميته لأن النار لا موت فيها وإنما يذيقه عذاب الذبح ثم يبقيه حيا للعذاب الآخر. أو سئلت هي سؤال تلطف لتقول: وأدني فلان بلا ذنب، ويكون سؤال توبيخ لواندها بصرف الخطاب إليه، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية ١١٥ من المائدة في ج ٣ وقرىء قتّلت بالتشديد، وفي هذا دليل على أن أطفال المشركين لا يعذّبون وان التعذيب لا يكون بلا ذنب، وهو كذلك في الآخرة أما في الدنيا فقد يقع من بعض الناس جورا ومن الله عدلا قال:
وله أن يؤلم الأطفالا ووصفه بالظالم استحالا
قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية تحفر حفرة عند ولادتها فتتمخض فإن ولدت جارية دفنتها وإن ولدت غلاما حبسته، وكان الرجل في الجاهلية إذا أراد
124
بقاء ابنته حية ألبسها جبة صوف ورعاها بالمواشي فاذا أراد قتلها بعد قال لأمها زينيها لأذهب بها لا حمائها وكان قد هيأ لها قبرا فيأخذها اليه فيدفنها فيه ويهيل عليها التراب، يا ويلهم مما يعملون.
مطلب أول من سنّ الوأد ومن منعه:
أول من سنّ الوأد ربيعة، وذلك أنه أغير عليهم فنهبت بنت أميرهم وقيل زوجته وبعد الصلح أراد استردادها فخيرت بينه وبين من هي عنده فاختارت من هي عنده فغضب وسن الوأد ففعلوه غيرة وقلدهم غيرهم. أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت: سألت رسول الله في العزل (هو ان يجامع الرجل زوجته وينزل خارجا) فقال ذلك الوأد الخفي ومن هنا قال من قال بحرمته، الصحيح أنه مكروه لما فيه من قطع النسل وأذية الزوجة. وتسميته بالوأد الخفي لا يستلزم حرمته ولا يدل على أن حكمه حكم الوأد فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال (الربا شرك خفي) ولم يقل أحد أن حكمه حكم الشرك.
مطلب الاستمناء باليد والعلاج لمنع الحمل:
أما الاستمناء باليد فجائز إذا خشي الزنا وإلا فهو حرام لورود: (ناكح اليد ملعون) وإن الاقتران باللعن يدل على الحرمة كما ذكره الأصوليون وما يستعمله بعض الناس من العلاجات لعدم الحمل فلا يتعدى الكراهة، وهو دون العزل، لأنه لا يحمل على الاسقاط لعدم تكون الجنين. أما إذا كان استعمال الدواء لقطع النسل خوفا من عدم القدرة على تربيته كما يقوله بعض قليلي الإيمان ففيه عدم الاعتماد على الله والثّقة برزقه فهذا وليد الذين ذمهم الله بقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) الآية ١٥٢ من الأنعام في ج ٢ ونظيرتها (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) الآية ٣١ من الاسراء الآتية وهؤلاء الذين لا يتوكلون على الله ويسيئون الظن به وهو القائل (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) قد
125
يخشى على إيمانهم. أما استعمال الأدوية بعد تكون الجنين وقبل نفخ الروح فهو حرام لما فيه من معنى الإتلاف، أما بعد نفخ الروح فهو حرام قطعا وفعله جناية لما فيه من إتلاف النفس وأول من منع الوأد صعصعة بن ناجية فافتخر به الفرزدق بقوله:
ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوليد فلم يوءد
وفي رواية: وجدّي الذي إلخ، قال تعالى «وَإِذَا الصُّحُفُ» التي اثبتت فيها أعمال الخلق «نُشِرَتْ ١٠» للحساب والجزاء
«إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ١١» قلعت فطويت ونزعت «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ١٢» بالوقود فاشتد لهيبها للنكال والتنكيل بأعداء الله، ونقل ونكّل يخفف ويشدد ويتوب أحدهما عن الآخر في المعنى الا أن المشدد يدل على التكثير «وَإِذَا الْجَنَّةُ» التي وعدها الله للمتقين «أُزْلِفَتْ ١٣» قربت منهم ليدخلوها وحينذاك «عَلِمَتْ نَفْسٌ» أي كل نفس فالتنوين للعوض وهو جواب إذا المكررة من أول السورة إلى هنا «ما أَحْضَرَتْ ١٤» لذلك اليوم من خير أو شر فيفوز الطائع ويهلك العاصي.
مطلب علامات الساعة:
قال أبيّ بن كعب: ستّ آيات قبل القيامة: بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فتحركت الأرض واضطربت وفزعت الانس والجن، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماج بعضهم في بعض، فذلك قوله تعالى «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» «أي سجرت» فحينذ تقول الجن للانس نحن نأتيكم بالخبر فينطلقون إلى البحر فإذا هو نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السفلى وإلى السماء السابقة العليا إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقال ابن عباس هي اثنتا عشرة خصلة ست في الدنيا وست في الآخرة.
فالتي في الدنيا أي في آخر يوم من أيامها من أول السورة إلى (سُجِّرَتْ) والتي في الآخرة من (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) إلى (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)، وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الشمس والقمر يكوران يوم القيامة، وعن ابن
126
عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، (وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ)، (وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ» لا هنا للتأكيد وليست بزائدة كما قاله بعض المفسرين لأن كلام الله لا زيادة فيه كما أنه لا نقص فيه البتة كما نوهنا به في بحث القراءات في المقدمة وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة القيامة الآتية. وأعلم أنه لا يقال ما معنى القسم من الحضرة الإلهية لأن المؤمن يصدق دون قسم والكافر لا يفيده لأنه جاحد لكلامه سواء أكذّب القسم أم لا لأن عادة العرب توثيق أقوالها بالإيمان لكمال الحجة إقناعا للمحلوف لهم والقرآن نزل بلغتهم، ولأن الحكم لا يكون إلا بالشهادة واليمين والاعتراف فذكر الله القسمين الأولين بقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) الآية ١٨ من آل عمران في ج ٢ والأقسام الموجودة في القرآن على نوعين قسم بنفسه الكريمة وهي في سبعة مواضع فقط: ١ (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) الآية ٥٣ من سورة يونس، ٢ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) الآية ٩٢ من سورة الحجر، ٣ (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) من سورة المعارج، ٤ (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) الآية ٢٣ من سورة الذاريات في ج ٢، ٥ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية ٦٤ من سورة النساء، ٦ (قُلْ بَلى وَرَبِّي) الآية ٧ من سورة التغابن في ج ٣، ٧ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) الآية ٦٨ من سورة مريم الآتية وقسم بمخلوقاته وهو كثير مثل: (وَالضُّحى، وَالشَّمْسِ، وَاللَّيْلِ، وَالْعَصْرِ، وَالتِّينِ) وغيرها. واقسم الله «بِالْخُنَّسِ ١٥» ثم فسرها على طريق عطف البيان فقال «الْجَوارِ الْكُنَّسِ ١٦» وهي النجوم الجاريات الباديات ليلا المستترة نهارا.
شبه الله تعالى ظلام الليل بكناس الأسد لاجتماع الستر في كل فكأن النجوم حينما تغيب وتتأخر طيلة النهار مثل الأسد الذي يخنس في كناسه ثم يظهر وإنما أقسم فيها لما فيها من النفع للبشر وغيره، قال علي كرم الله وجهه هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإنها تخنس في مجاريها تحت ضوء الشمس والقمر وهي تتمة السيارات السبع الشمس والقمر وانها تجري في محورها بانتظام
127
لا يتغير ولا يتبدل إلى اليوم الذي نوّه به والخنس تأخر الأنف عن الشفة مع الارتفاع قليلا في الارنبة ويوصف به بقر الوحش والظباء «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ١٧» أقبل ظلامه وأدبر لأن عسعس من الأضداد يكون للاقبال والأدبار ومثله الصريم يطلق على الليل والصبح، والسدفة الظلمة والضياء، الجون الأسود والأبيض «وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ١٨» بدا واسفر واقبل ضوءه وقيل انه شبه الليل بالنسمة (المكروب) وهو الحيوان الصغير الذي قد لا يرى الا بالمكبرات لأنه مخزون فاذا تنفس الصبح وجد رائحته فكأنه تخلص من المخزن فعبر بالتنفس عنه فهو استعادة لطيفة وانما قال تنفس لأن في أقبال الصبح روحا ونسيما فيجعل ذلك نفسا على المجاز وجواب القسم قوله (انه) اي القرآن العظيم مطلب مكانة جبريل وقوته:
المنزل عليك يا حبيبي «لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ١٩» علينا هو جبريل عليه السلام لأنه تلقاه من ربه ونزل به على محمد صلّى الله عليه وسلم وهذا الرسول «ذِي قُوَّةٍ» قدرة عظيمة على ما يكلفه به ربه وله مقام عال «عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ» تعالت عظمته «مَكِينٍ ٢٠» في المنزلة والجاه مكانة ورفعة وشرفا
«مطاع» في السموات من قبل الملائكة أجمع ومن طاعتهم له امتثالهم أمره يفتح أبواب السموات ليلة المعراج ومن قوته وشدة بأسه اقتلاع قرى قوم لوط من الماء الأسود اي من أقصى تخوم الأرض المتصلة بالماء وحملها على جناحه ورفعها الى السماء ثم قلبها بأهلها اجمع فأنه أبصر إبليس يوما يكلم عيسى عليه السلام على عقاب الأرض المقدسة فنفحه بجناحه فالقاه إلى أقصى جبل بالهند وانه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وانه يهبط الى الأرض ثم يصعد الى السماء في اسرع من رد البصر «ثَمَّ أَمِينٍ ٢١» على الوحي الذي يتلقاه من ربه فيوصله الى الأنبياء كما أخذه «وَما صاحِبُكُمْ» يا اهل مكة المنزل عليه هذا القرآن المجيد «بِمَجْنُونٍ ٢٢» كما تزعمون وان ما يقوله ليس من نفسه بل هو من عند الله، أقسم جل شأنه بأن هذا القرآن نزل به جبريل من عنده وأخبرهم بأن جبريل أمين على وحيه وأقسم لهم بأن محمدا ليس
128
مجنونا كما يقولون ولم يؤثر ذلك فيهم لهذا قال تعالى (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الآية ٤٦ من سورة الحج في ج ٣ وقال جل قوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) من الآية ١١٥ من الأعراف الآتية، وهذا قسم آخر على تصديق ما اخبر به محمد ورقه بن نوفل الذي مر ذكره في مطلب الوحي في المقدمة بانه أي جبريل حقيقة وتلقى منه أوائل سورة العلق المارة بقوله «وَلَقَدْ رَآهُ» وعزتي وجلالي لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية «بِالْأُفُقِ» الشرقي على القول الصحيح وما قيل بالغربي ليس بشيء وهو قوله بالحديث المار في المقدمة في بحث نزول الوحي انه جالس على كرسي بين السماء والأرض «الْمُبِينِ ٢٣» الظاهر البين الذي لا خفاء عليه روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال رسول الله لجبريل إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها بالسماء، فقال لن تقوى على ذلك، قال بلى ان شاء الله، قال فأين تشاء ان اتخيل لك؟
قال بالأبطح، قال لا يسعني، قال فبمنى، قال لا تسعني، قال بعرفات، قال لا تسعني، قال بحراء، قال ان يسعني، فواعده، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فاذا هو بجبريل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض فلما رآه صلّى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه فتحول جبريل عن صورته وضمه الى صدره وقال يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت اسرافيل ورأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وان العرش لعلى كاهله، وانه ليتضائل أحيانا من مخافة الله جل جلاله وسما شأنه حتى يصير كأنه حصو (حيوان صغير كالعصفور) حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته وهذه الرؤية التي وقعت ليلة الاسراء غير التي اخبر الله عنها في هذه السورة بل التي ذكرها في بحث نزول الوحي وانما أتى بها هنا تأييدا لرؤيته الأولى التي أتت عليه من غير طلب منه ورجع يرجف بها فؤاده من شدة ما لحقه من الخوف كما تقدم مفصلا قال تعالى «وَما هُوَ» اي رسولكم محمد «عَلَى الْغَيْبِ» مما يخبر به من ت (٩)
129
الوحي واخبار السماء وما اطلع عليه مما كان غائبا في علمه لوحينا اليه «بضّنين» بخيل لا يبوح به إليكم وقرىء بظنين بالظاء، أي ليس بمثلهم لأنه أمين أرسل مبلغا ما يوحى اليه من ربه الى البشر كما تلقاه، اي انه لا يتهم بالبخل لأنه لا يريد أجرا على ما يبلغه كالكاهن ولا يظن به انه يزيد او ينقص من الوحي وأنتم تسمونه الأمين فإذا كان أمينا على ما عندكم أفلا يكون أمينا على ما عند الله؟
والقراءة بالظاء حسنة على التأويل الذي جرينا عليه لأن قومه لا يتهمونه بالبخل ويعرفون كرمه، ولو أريد البخل على القراءة بالضاد لقال (بالغيب) لأن فعله يتعدى به ويقال بخل به لا عليه فلا تجوز «وَما هُوَ» أي القرآن بقول «شَيْطانٍ رَجِيمٍ ٢٥» تتلقاه الكهنة والسحرة كما تزعم قريش ولا عن لسان الشيطان بل وحي إلهي من الله الى رسوله «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ٢٦» فيما تتقولون مذاهب شتى لا نصيب لها من الصحة، وهذا استفهام تضليل لهم كما يقال لتارك الجادة المستقيمة إذا ضل السبيل وسلك السبل العديدة المنشعبة عن الطريق يمينا وشمالا: اين تذهب فقد ضللت أي اي طريق تسلكونه، أبين من طريق محمد الذي فيه الهداية الى النجاة «إِنْ هُوَ» ما هذا القرآن المنزل عليه «إِلَّا ذِكْرٌ» عظة وعبرة «لِلْعالَمِينَ ٢٧» اجمع وهو تذكرة ايضا «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ» ايها الناس «أَنْ يَسْتَقِيمَ ٢٨» على الحق ويتمسك بطريق الاستقامة وذلك لان مشيئة العبد بسلوك ما يوصل المعبود موقوفة على مشيئته قال سلمان بن موسى لما نزلت هذه الآية قال ابو مهل، ذلك إلينا ان شئنا استقمنا وإلا فلا فأنزل الله بعدها «وَما تَشاؤُنَ» أيها الناس فعل شيء ولا تركه «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ٢٩» فعله لأنه مالك الخلق كلهم وأعمالهم فلا يقدر أحد ان يعمل خيرا الا بتوفيقه ولا شرا الا بخذلانه. وفقنا الله لما به سعادة الدارين آمين، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى صحبه أجمعين.
130
Icon