تفسير سورة التكوير

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة التكوير مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون كلمها مائة وتسع وثلاثون آياتها تسع وعشرون ).

(سورة التكوير)
(مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون كلها مائة وتسع وثلاثون آياتها تسع وعشرون)
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١ الى ٢٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤)
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
القراآت
سُجِّرَتْ بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. قتلت بالتشديد: يزيد ونُشِرَتْ مخففا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم غير يحيى وحماد الْجَوارِ ممالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو في رواية بظنين بالظاء: ابن كثير وعلي وأبو عمر ويعقوب. الباقون: بالضاد.
الوقوف
كُوِّرَتْ هـ ص انْكَدَرَتْ هـ ص سُيِّرَتْ هـ ك عُطِّلَتْ هـ ك حُشِرَتْ هـ ك سُجِّرَتْ هـ ك زُوِّجَتْ هـ ك سُئِلَتْ هـ ك قُتِلَتْ هـ ج لاعتراض الاستفهام بين النسق نُشِرَتْ هـ ص كُشِطَتْ هـ ك سُعِّرَتْ هـ ك أُزْلِفَتْ هـ ك أَحْضَرَتْ هـ ط لتمام الشرط والجزاء والتقدير إذا كورت الشمس كورت ارتفعت الشمس بفعل مضمر تفسيره الظاهر وكذلك ما بعدها. وقوله عَلِمَتْ جواب عن الكل وهو العامل في «إذا» وما عطف عليها بِالْخُنَّسِ هـ لا الْكُنَّسِ هـ لا عَسْعَسَ هـ ك تَنَفَّسَ هـ ك كَرِيمٍ هـ ك مَكِينٍ هـ ك أَمِينٍ هـ ط بناء على أن ما بعده مستأنف ومن جعل
451
وَما صاحِبُكُمْ وما بعدها معطوف على جواب القسم لم يقف على أَمِينٍ إلى قوله فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. بِمَجْنُونٍ هـ ج الْمُبِينِ هـ ج بِضَنِينٍ هـ ج رَجِيمٍ هـ ج تَذْهَبُونَ هـ ط لِلْعالَمِينَ هـ لا لأن ما بعده بدل البعض يَسْتَقِيمَ هـ الْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء. أما هذه ففيها اثنا عشر شيئا أوّلها تكوير الشمس وفيه وجهان: أحدهما إزالة النور لأن التكوير هو التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة.
وفي الحديث «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» «١»
أي من التشتت بعد الألفة والاجتماع، ومنه كارة القصار وهي ثوب واحد يجمع ثيابه فيه. ولا يخفى أن الشيء الذي يلف يصير مخفيا عن الأعين فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وصيرورتها غائبة عن الأعين بالتكوير. الثاني أن يكون من قولهم طعنه فحوره وكوره إذا ألقاه أي ألقيت ورميت عن الفلك. وثانيها انكدار النجوم أي تساقطها وتناثرها والأصل في الانكدار الانصباب وكل متراكب ففيه كدورة فلهذا يقال للجيش الكثير دهماء. قال الخليل:
انكدر عليهم القوم إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم. قال الكلبي: تمطر السماء يومئذ نجوما فقال عطاء: وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور وتلك السلاسل في أيدي الملائكة، فإذا مات من في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة.
ويروى في الشمس والنجوم أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها.
وثالثها تسيير الجبال وقد مر في سورة «عم». ورابعها تعطيل العشار وهي جمع عشراء كالنفاس في نفساء. والعشراء الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع الحمل لتمام السنة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها وهم العرب فخوطبوا بما هو مركوز في أذهانهم مصوّر في خزانة خيالهم، والغرض بيان شدّة الاشتغال بأنفسهم حتى يعطلوا ويهملوا ما هو أهم شيء عندهم. وقيل: العشار هي السحاب تعطلت عما فيها من الماء، ولعله مجاز من حيث إن العرب تشبه السحاب بالحامل. قال الله تعالى فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذاريات: ٢] وخامسها حشر الوحوش والوحش ضد ما يستأنس به من دواب البر.
قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، وفيه أنه سبحانه إذا كان لا يهمل أمر الوحوش فكيف يهمل أمر المكلفين. قال الإمام فخر الدين: وفيه دليل على أن هول ذلك
(١) رواه مسلم في كتاب الحج حديث ٤٢٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٤١. النسائي في كتاب الاستعاذة باب ٤١، ٤٢. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ٤٢. ابن ماجه في كتب الدعاء باب ٢٠.
أحمد في مسنده (٥/ ٨٢، ٨٣). [.....]
452
اليوم بلغ مبلغا لا يفرغ الوحوش للنفار عن الإنسان ولا بعضها للاحتراز عن بعض مع العداوة الطبيعية بين بعض الأصناف حتى صار بعضها غذاء بعض. قلت: هذا الاستدلال ضعيف فإن الوحوش في الدنيا أيضا مجتمعة مع الناس ومع أضدادها لكن في أمكنة مختلفة، فلم لا يجوز أن تكون في القيامة أيضا كذلك. وعن ابن عباس في رواية إن حشر الوحوش عبارة عن موتها وذلك إذا قضى بينها فردّت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. يقال: إذا اجتاحت السنة الناس وأموالهم حشرتهم السنة أي أماتتهم. السادس تسجير البحار أي تنشيف ما فيها من الرطوبة حتى لا يبقى فيها شيء من المياه وقد سبق في «الطور». السابع تزويج النفوس وهو اقتران الأرواح بالأجساد. وقال الحسن: هو كقوله وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: ٧] أي صنفتم أصنافا ثلاثة وقريب منه قول من قال: هو أن يضم كل واحد إلى من يجانسه ويكون في طبقته من خير أو شر. وقول من قال: هو أن يقرن بين الرجل وبين من كان يلازمه في الدنيا من ملك أو سلطان. وقال ابن عباس: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين، ويقرب منه قول الزجاج هو أن تقرن النفوس بأعمالها. الثامن سؤال الموؤدة. قال جار الله: وأد يئد مقلوب آد يؤد إذا أثقل لأنه إثقال بالتراب، وكانوا يدفنون بناتهم في الأرض أحياء خوفا من الفقر ولخوف العار كما مر في «النحل» وغيره. ومعنى هذا السؤال تبكيت قاتلها كما يخاطب عيسى بقوله أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: ١١٦] والغرض تبكيت النصارى. وقيل: الموؤدة هي التي تسأل نفسها فهي السائلة والمسئول عنها. وإنما قيل قُتِلَتْ ماضيا مجهولا غائبا بناء على أن الكلام إخبار عنها، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل قتلت مجهولا مخاطبا، ولو حكى كلامها حين سألت لقيل قتلت متكلما مجهولا وبه قرأ ابن عباس. قالت المعتزلة وبه يحتج صاحب الكشاف: إن في الآية دلالة على أن أطفال المشركين لا يعذبون لأنه تعالى إذا بكت الكافر بسببها فلأن لا يعذبها أولى. ويمكن أن يجاب بأن تعذيب الوائد للوأد من جهة أنه تصرف في ملك الله تعالى بغير حق لا ينافي تعذيب الموؤدة من جهة أخرى وهي أن حكمها في الإسلام والكفر حكم أبيها. التاسع نشر صحف الأعمال. عن قتادة: هي صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك حين موتك ثم تنشر يوم القيامة فلينظر رجل يملى في صحيفته. ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال قاله في الشكاف. العاشر كشط السماء كما يكشط
453
الإهاب عن الذبيحة. والغطاء عن الشيء أي كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الله تعالى. الحادي عشر والثاني عشر تسعير الجحيم أي إيقادها وإزلاف الجنة أي إدناؤها. استدل بعضهم بالآية على أن النار غير مخلوقة الآن لأنه علق تسعيرها بيوم القيامة، ويمكن المعارضة بأنها تدل على أن الجنة مخلوقة وإلا لم يمكن إزلافها على أن تعليق تسعير الجحيم بيوم القيامة لا ينافي وجودها قبل ذلك غير موقدة إيقادا شديدا. وقيل: يسعرها غضب الله عز وجل وخطايا بني آدم.
وقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ كقوله يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: ٣٠] والتنوين في نَفْسٌ للتقليل على أنه مفيد للتكثير بحسب المقام نحو قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ [النور: ٦٣] رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر: ٢] ويجوز عندي أن يكون للتعظيم أو للنوع يعني النفس الإنسانية لا النباتية ولا الحيوانية ولا الفلكية عند القائلين بها. وإسناد الإحضار إلى الأنفس مجاز لأن الملائكة أحضروها في الصحف أو في الموازين إلا أنها لما تسبب منها ذلك أسند إليها على أن آثار أعمالها إنما تلوح عليها.
قال أهل التأويل: هذه الأحوال يمكن اعتبارها في وقت القيامة الصغرى وهي حالة الموت، فالشمس النفس الناطقة، وتكويرها قطع تعلقها، وانكدار النجوم تساقط القوى، وتسيير الجبال انعزال الأعضاء الرئيسة عن أفعالها، والعشار البدن يهمل أمرها، وحشر الوحوش ظهور نتائج الأفعال البهيمية والسبعية على الشخص، وتسجير البحار نفاد الأوهام الباطلة والأماني الفارغة فإنها بحر لا ساحل له دون الموت الاختياري أو الاضطراري، وتزويج النفوس انضمام كل ملكة إلى جنسها الظلمة إلى الظلمة والنور إلى النور، والموؤدة القوّة التي ضيعها المكلف في غير ما خلقت لأجله. وسمعت بعض المحققين من أساتذتي أنها كل مسألة سنحت للخاطر ولم تقيد بالكتابة حتى غابت. والسماء سماء الأرواح والباقي ظاهر. وحين أثبت المعاد شرع في النبوّات فأكدها بالحلف. والخنس جمع خانس، والكنس جمع كانس. والأكثرون على أنها السيارات الخمسة الجاريات مع النيرين في أفلاكها بالارتباطات المعلومة من الهيئة وقد ذكرنا طرفا منها في البقرة بقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: ١٦٤] وفي قوله فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: ٢٩] فخنوسها رجوعها ومنه الخناس للشيطان، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ومنه كنس الوحش إذا دخل كناسه. والمنجمون يسمون زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد متحيرة لمشاهدة الوقوف والرجوع منها بعد الاستقامة وهي حركتها الخاصة من المغرب إلى المشرق على توالي البروج أي من الحمل إلى الثور ثم إلى الجوزاء وهكذا على الترتيب.
454
فإذا تحركت القهقري بعكس هذا الترتيب شبه الحركة اليومية. يقال: إنها راجعة أقسم الله بها إذ أحوالها أغرب ورباطاتها مع الشمس أعجب كما بين في ذلك العلم.
وعن علي رضي الله عنه وهو قول عطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها غيبتها عن البصر بالنهار وكنوسها ظهورها للبصر في الليل كما يظهر الوحش من كناسه.
وعن ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش وخنوسها صفة لأنوفها ومنه «رجل أخنس وامرأة خنساء» وفي هذا القول بعد عن الخنس المقسم بها لأنه لا يناسب ما بعده. وقال أهل التأويل: هي الحواس الخمس تظهر آثارها تارة وتغيب أخرى. ثم أقسم بالليل والنهار. ومعنى عسعس أقبل وأدبر فهو من الأضداد، وتنفس الصبح مجاز عن تخلصه من ظلمة الليل كنفس المكروب إذا وجد راحة أو مجاز عما يكون عنده من روح ونسيم. والضمير في إِنَّهُ للقرآن، والرسول الكريم جبرائيل، وكرمه على ربه أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء، وكرمه في نفسه أنه لا يدل إلا على الخير والكمال. ومعنى كون القرآن قول جبرائيل أنه وصل منه إلى النبي ﷺ وذلك أن النزاع وقع من الكفرة في أنه قول محمد أو هو من السماء فأثبت الثاني ليلزم نفي الأول. وفي لفظ رسوله دلالة على أنه ليس قوله بالاستقلال. وقوله ذِي قُوَّةٍ كقوله ذي مرة [النجم:
٦] وقد مر بالنجم. وقوله عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أي عند ربه بالقرب كقوله وَمَنْ عِنْدَهُ [الرعد: ٤٣] والمكين ذو الجاه الذي يعطى ما يسأل يقال مكن فلان بضم الكاف مكانة.
وقوله ثَمَّ إشارة إلى الظرف المذكور أي مطاع عند الله في الملائكة المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه أَمِينٍ على الوحي والسفارة وقد عصمه الله من الخيانة والزلل.
استدل في الكشاف بالآيات على تفضيل الملك على الأنبياء وقال: لأنه وصف جبرائيل بصفات الكرامة، ثم وصف النبي ﷺ بقوله وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وشتان بين الوصفين.
قلت: أمثال هذا التغليط من باب الجنون وهذا نشأ من سماع لفظ المجنون. والتحقيق أن ذكر جبرائيل ومدحه وقع استطرادا لبيان مدح النبي ﷺ والمبالغة في صدقه فإن الكفرة زعموا أن القرآن إفك افتراه مجنون به وأعانه عليه قوم آخرون فلم يكن بد من نفي الجنون عنه. ووصف جبرائيل بالأمانة والمكانة وغيرهما فإن شرف الرسول يدل على شرف المرسل إليه وصدقه، فالعجب من الزمخشري أنه كيف سمع لفظ المجنون فاعتراه حتى استدل به على مفضولية أشرف المخلوقات، ولم يعلم أن ذكر جبرائيل ووصفه بأوصاف الكمال اتفق لغرض تزكية النبي صلى الله عليه وسلم. والعجب من الإمام فخر الدين الرازي أيضا أنه كيف أورد حجته الواهية في تفسيره ولم يتعرض للجواب عنه مع كمال حرصه على تزييف أدلتهم. ثم حكى أنه قد رأى جبرائيل على صورته الأصلية بحيث حصل عنده علم ضروري بأنه ملك مقرب لا
455
شيطان رجيم فقال وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وهو أفق الشمس كما مر في «النجم». ثم أخبر عن صدقه وإشفاقه فقال وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ومن قرأ بالظاء الذي مخرجه من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا كالذال والثاء فهو من الظنة التهمة أي ليس بمتهم بل هو ثقة فيما يؤدي عن الله بواسطة جبرائيل. ومن قرأ بالضاد الذي مخرجه من أصل حافة اللسان وما بينها من الأضراس ومن يمين اللسان أو يساره وإخراجه من الجانب الأيسر الأسهل، وقد يسهل على بعض الناس كلاهما فمعناه أنه لا يضن بالوحي أي لا يبخل به من الضن وهو البخل، وفيه أنه لا يكتم شيئا من الوحي مما أمر بإظهاره وأنه لا يمنع المستعدّين من الإرشاد والكمال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ بعد هذه البيانات وفيه استضلال لهم كقولك لتارك لجادّة اعتسافا أين تذهب، مثلت حالهم في ترك الحق والعدول عنه إلى الباطل براكب التعاسيف الذي يستأهل أن يقال له أين تذهب. قوله لِمَنْ شاءَ فائدة هذا الإبدال أن نفع التذكير يعود إليهم فكأن غيرهم لم يوعظ والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. ولا يخفى ما بينها وبين قوله فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ من التناسب والطباق وفيه دليل القدرية إلا أن قوله وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فيه دليل الجبرية كما مر في آخر هَلْ أَتى وغيره والله الموفق.
456
Icon