تفسير سورة الفاتحة

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم

هي أول سورة من سور١ كتاب الله العزيز، ولها أسماء كثيرة منها : أم القرآن، فاتحة الكتاب، السبع أي المثاني، الكافية، الشافية، سورة الحمد.
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد ابن المعلى قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال : " ألم يقل الله :(.. استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم.. )٢ " ؟ ثم قال لي : لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ( ثم أخد يدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ).
١ سورة القرآن الكريم مائة و أربع عشرة سورة..
٢ سورة الأنفال من الآية ٢٤..
﴿ بسم الله ﴾
أستعين وأبدأ دائما بالله الذي لا يعبد بحق سواه، وهو المتصف بكل جلال. ولعله اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
وقيل : كانت أمرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أتباعه. فالباء : إما متعلقة بفعل تقديره أبدأ باسم، وبمثله جاءت الآية الكريمة :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾١
وإما متعلقة باسم تقديره ابدأ باسم الله ابتدائي. منه قوله تعالى :﴿ وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ﴾٢.
والاسم غير الذات بدليل قوله تعالى :﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.. ﴾ ٣. وقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إن لله تسعة وتسعين اسما )٤، فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله عز وجل ؛ وقوله تعالى ﴿ .. فادعوه بها.. ﴾ أي فادعوا الله بأسمائه، وذلك دليل على أنها غيره.
والله علم على الرب تبارك وتعالى، ويقال : أنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال الله عز وجل :﴿ هو الله الخالق البارئ المصور.. ﴾٥، وهو اسم لم يسم به غير الله عز شأنه.
وإلى هذا اتجه أبو الفداء إسماعيل بن كثير. ونحا نحوه صاحب تفسير روح المعاني حيث قال ما ملخصه : الباء للاستعانة أو المصاحبة.. متعلقة بفعل تقديره أبدأ يفيد التجدد الاستمراري. واسم من السمو " العلو " أو من السمة العلامة ويطلق على الذات والحقيقة ؛ ومنه قوله تعالى ﴿ سبح اسم ربك.. ﴾٦ إذ التسبيح، إنما يتوجه إلى الذات الأقدس ؛ وإنما يغاير الاسم المسمى في المعلومات التي تغيب عنا فتكون الأسماء دليلا عليها. وليس من الأسماء الحسنى – التسعة والتسعين – ما لفظه اسم فلا يحسن إلا أن يراد به الذات.
( الله ) يفرق بينه وبين الإله بأنه لا يطلق على غير المولى جل شأنه. وهو للذات الجامعة لسائر الصفات.
بينما ذهب أبو عبد الله محمد القرطبي إلى أن معنى ( بسم الله ) قسم بالاسم الذي يدل على الذات والصفات. أو : بخلق الله وتقديره يوصل إلى ما وصل إليه.
وقيل : الباء للأمر أي : ابدأ باسم الله. أو على معنى الخبر أي : ابتدأت باسم الله.
وقيل في معنى اسم : لما علا على الأحرف والفعل سمى اسما.
( الله ) الاسم الأعظم : لا يثنى ولا يجمع.
ومن قبلهم ذهب أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري إلى ما اقتبسوا بعضه٧ وتفرد بما أورده عن ابن عباس رضي الله عنهما في تأويلهما : اقرأ بذكر ربك.. وقم واقعد بذكر الله. ١ه. و( الله ) هو الذي يؤلهه كل شيء ويعبده كل شيء.
﴿ الرحمن الرحيم ﴾
اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة٨.
و( الرحمان ) ربما كان المقصود به مفيض الرحمة في الدنيا والآخرة يختص بها أهل الإيمان، مصداقا لوعده الحق :﴿ .. وكان بالمؤمنين رحيما. تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ﴾٩.
قال أبو جعفر١٠ : إن الله تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه، أدب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليم تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله.. وجعل ما أدبه به من ذلك وعمله إياه منه لجميع خلقه سنة يستنون بها، وسبيلا يتبعونه عليها في افتتاح أوائل منطقتهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم. اه.
نقول : ومن هذا ما علم الله نوحا عليه السلام من ذكر اسمه سبحانه في بداية ارتحاله ﴿ وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها.. ﴾١١ وكذا ما علم الله سليمان النبي الملك من تصدير رسالته إلى ملكة سبأ بذكر الله العظيم ﴿ قالت يأيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم. إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم. أن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين ﴾١٢ ؛ كما وجهنا القرآن الكريم إلى ذكر الله على ما نطعم :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه.. ﴾ ١٣. وأرشدنا النبي الكريم إلى ذكر البسملة في أول كل فعل من أكل أو شرب أو ارتحال أو استشفاء أو استمتاع.. إلى غير ذلك من الأفعال. روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه ). كما روى عمر بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يا غلام سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك ). وكذا روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا ). وروى مسلم بسنده أن عثمان ابن أبي العاص شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم :( ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل باسم الله ثلاثا وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله من شر ما أجد وأحاذر ).
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين )١٤.
١ سورة العلق الآية ١..
٢ سورة هود الآية ٤١..
٣ سورة الأعراف من الآية ١٨٠..
٤ من حديث في الصحيحين؛ صحيحي البخاري ومسلم رواه أبو هريرة..
٥ سورة الحشر من الآية ٢٤..
٦ سورة الأعلى من الآية ١..
٧ في كتاب جامع البيان في تفسير القرآن الذي قال فيه الإمام جلال الدين السيوطي وكاتبه أي الطبري أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض والإعراب والاستنباط وقال النوري أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري و عن أبي حامد الاسفرانييني أنه قال لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير بان جرير لم يكن ذلك كثيرا.( المطبعة الأميرية من ص ٣٨ إلى ص ٤٦)..
٨ إذ سمى الفاعل في رحم راحم هذا والرحمة الرفق وقد جاء في الحديث (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على اللطف ما لا يعطي على العنف).
٩ سورة الأحزاب من الآية ٤٣ والآية ٤٤..
١٠ هو محمد ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠هـ.
١١ سورة هود من الآية ٤١..
١٢ سورة النمل الآيات ٢٩. ٣٠. ٣١..
١٣ سورة الأنعام من الآية ١١٨..
١٤ روى أحمد في مسنده عن عاصم قال سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه و سلم قال: عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقلت تعس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته وإذا قلت باسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب)..
﴿ الحمد لله ﴾
الحمد : هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية١. وأما المدح فهو أعم من الحمد إذ قد يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك. هذا من وجهة نظر اللغويين.
أما أئمة التفسير فقالوا في معنى ﴿ الحمد لله ﴾ : الثناء على الله بصفاته خالصا له دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمطين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا.
ونقل ابن جرير عن ابن عباس : قل يا محمد : الحمد لله ؛ و( ال ) للاستغراق. ويرى أن ( الحمد لله ) ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا الحمد لله.
وأورد ابن كثير : أن الألف واللام في ( الحمد ) لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى. ٢
وفرق الحسن النيسابوري صاحب تفسير " غرائب القرآن ورغائب الفرقان " فرق بين الحمد والمدح فقال :( الحمد ) للحي ؛ والمدح للحي ولغير الحي كاللؤلؤة والياقوتة، والمدح قد يكون قبل الإحسان ؛ والحمد إنما يكون بعد الإحسان. والحمد مأمور به مطلقا٣. وذهب إلى أن المعنى : المحامد التي أتى بها الأولون والآخرون من الملائكة والثقلين٤ لله تعالى، وكذا المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى :﴿ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾٥ وإلى أبد الآبدين.
ويرى أبو عبد الله محمد ابن أحمد الأنصاري القرطبي أن ﴿ الحمد لله ﴾ توحيد وحمد ؛ و( الحمد ) أعم من الشطر ؛ إذ ( الحمد ) ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من إحسان.
وأورد الألوسي صاحب " روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني " أن ( الحمد ) يشترط له –شرعا - أن يكون الحامد معظما بثنائه للمحمود ظاهرا وباطنا. كما روى : أن الشكر يكون -غالبا- بالعمل كما جاء في الآية الكريمة :﴿ .. اعملوا آل داود شكرا.. ﴾٦.
و( الله ) علم على الرب تبارك وتعالى، ويقال : إنه الاسم الأعظم ؛ لأنه يوصف بجميع الصفات. كما قال جل ثناؤه :﴿ هو الله الخالق البارئ المصور.. ﴾٧ وهو اسم لم يسم به غير الله عز وجل٨.
﴿ رب ﴾
سيد مطاع ومصلح مرب، ومالك ؛ فربنا جل ثناؤه المعبود الذي لا مثل له ولا ند في عظمته وهيمنته، والمصلح أمر خلقه بما تولاهم به وأسبغه عليهم من رعايته ونعمته وهداه، والمالك الذي له الخلق والأمر.
﴿ العالمين ﴾
جمع عالم، وهو الصنف من الأمم، فالإنس عالم، وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان، والجن عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منها عالم زمانه٩.
وأما عن منزلة الحمد وفضل الحامدين فإن الحمد كلمة كل شاكر، وذكر رددته أنبياء الله ورسله، وتعبدهم به المولى سبحانه ؛ قال الله –عز شأنه- لنوح عليه السلام ﴿ .. فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ﴾١٠ ؛ كما قال جل ثناؤه- حكاية عن إبراهيم عليه السلام - :﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق... ﴾١١ ؛ وقال في قصة داود وسليمان ﴿ .. وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ﴾١٢ ؛ وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا.. ﴾ ١٣ وأهل الجنة يقولون – كما علمنا القرآن العظيم ﴿ .. الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ﴾١٤. ﴿ .. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾١٥.
ولقد كان خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم –وهو خير قدوة وأكرم أسوة – حامدا لله تعالى على كل حال١٦.
وروى مسلم في صحيحه عن أنس ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها ).
وروى البخاري والترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رفعت مائدته قال :( الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، الحمد لله الذي كفانا وآوانا غير مكفئ ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ).
وروى مسلم عن أنس أنه كان إذا أوى إلى فراشه قال ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كَافِيَ لَهُ كفا له ولا مُؤْوِيَ مؤوى له ).
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول ( اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد.. ).
ومما روى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان ).
١ تقول حمدته لفروسيته و هي من الصفات اللازمة كما تقول حمدته لكرمه و الكرم من الصفات المتعدية يتعدى أثرها إلى غير الموصوف..
٢ و أورد هذا المقام حديثا جاء فيه " اللهم لك الحمد كله"..
٣ ساق حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم " من لم يحمد الناس لم يحمد الله"..
٤ الثقلين أي الإنس والجن..
٥ سورة يونس الآية ١٠..
٦ سورة سبأ من الآية ١٣..
٧ سورة الحشر من الآية ٢٤..
٨ ذكر لفظ الجلالة الله في القرآن الحكيم قريبا من ألفين وسبعمائة مرة..
٩ روى أبو جعفر الطبري في تفسيره بسنده عن سعيد بن جبير قال ابن آدم والجن والطير كل منهم أمة على حدة..
١٠ سورة المؤمنين من الآية ٢٨..
١١ سورة إبراهيم الآية ٣٩..
١٢ سورة النمل من الآية ١٥..
١٣ سورة الإسراء من الآية ١١١..
١٤ سورة فاطر من الآية ٣٤..
١٥ سورة يونس من الآية ١٠..
١٦ عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأى ما يعجبه قال " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الحمد لله على كل حال" صححه صاحب مجمع الزوائد..
﴿ الرحمن الرحيم ﴾
ذو الرحمة الواسعة الدائمة.
أورد ابن جرير الطبري في تفسيره وفي الأثر ( الرحمن ) : رحمان الآخرة والدنيا، و( الرحيم ) رحيم الآخرة.
ومما أورد الألوسي :.. والمراد إيصال الخير. و( الرحمن ) أبلغ من ( الرحيم ) لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ؛ فهو رحمان الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ؛ ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن ؛ وهما صفتان مشبهتان بنيتا لإفادة المبالغة١.
أما الحسن النيسابوي فقد أورد نقولا كثيرة٢ ومنها ( الرحمان ) بالنعماء وهي ما أعطى وحبا. و( الرحيم ) باللأواء وهي ما صرف وزوى.
بينما نقل أبو عبد الله القرطبي٣ عن ( الجمهور من الناس ).. أن ( الرحمان ) مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ؛ ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير فيها، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى ( الرحيم ) ويجمع. ثم نقل عن القرطبي : يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد.. والفائدة في ذلك ما قاله محمد ابن يزيد : إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطالع الراغبين ؛ ووعد لا يخيب أمله.. إلى أن قال : و( الرحمان ) خاص الاسم عام الفعل. و( الرحيم ) عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور.
١ إذ اسم الفاعل من رحم راحم و جمهور اللغويين على أن كل اسم من فعل عدل به عن أصله تكون التسمية به مدحا و يكون الموصوف به مفضلا على الموصوف بالاسم الذي صيغ على وزن فاعل.
٢ يراجع الجزء الأول هامش الطبري ص ٢٧ طبع المطبعة الأميرية..
٣ يراجع الجزء الأول ص ١٠٤- ١٠٥. الطبعة الثالثة دار الكتب المصرية..
﴿ مالك يوم الدين ﴾
المالك : المسيطر، فهو ملك وزيادة ؛ لأنه يملك الناس وغيرهم، ولأنه لا ينازع هذا السلطان.
واليوم : يراد به الوقت ؛ إذ اليوم من أيام الدنيا محدود بليل ونهار، ومقيس بطلوع الشمس وغروبها، وهناك لا شمس ولا شيء من الكواكب المعهودة.
و( الدين ) الحساب والجزاء بالخير والشر.
فيكون المعنى – والله أعلم بمراده - : ربنا- وحده- مالك يوم القيامة ومن فيه من إنس وجن وملائكة، وما فيه من جنة ونار وصراط وميزان وكتب، وهو سبحانه – دون سواه- يقضي بين عباده وقد حشروا عليه جميعا ويوفيهم جزاؤهم الحق.
﴿ إياك نعبد ﴾
نفردك يا ربنا بالعبادة، ونختصك بها دون سواك، ونؤديها لك لا نشرك فيها أحدا معك ؛ تقدس اسمك، وعز شأنك، وعمت رحمتك، وتعين حمدك، وتباركت ربوبيتك، وعظم في الدارين سلطانك فلا تليق العبادة بكل معانيها إلا لك.
وكلمة عبد وما تصرف منها تعني في اللغة : خشع وتمهد، يقال : عبدت الطريق والفرس إذا ذللتهما للسير والركوب ؛ وتعني في الشرع : كمال المحبة والتقديس لله تعالى والخضوع لأمره، والخوف من بأسه ومقته١.
والعبادة بهذا المعنى أصل الرسالات جميعا : يقص القرآن الكريم علينا من نبإ نوح عليه السلام :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره... ﴾٢. ومن نبأ هود عليه السلام ﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ﴾٣
ومن نبإ صالح عليه السلام :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ﴾٤.
ومن نبإ شعيب –عليه وعلى جميع المرسلين الصلوات من الله والتسليم- :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ﴾٥.
ومن نبإ إبراهيم عليه السلام :﴿ وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله.. ﴾٦.
ومن نبإ يعقوب عليه السلام :﴿ .. إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا... ﴾٧.
ومن نبإ يوسف عليه السلام :﴿ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم.. ﴾٨
ومن نبإ موسى عليه السلام ﴿ فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى.. ﴾٩
ومن نبإ عيسى عليه السلام ﴿ وإن الله ربي وربكم فاعبدوه.. ﴾١٠
وروى ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ إياك نعبد ﴾ يعني إياك نوحد ونخاف، ونرجوك يا ربنا لا غيرك. اه
و﴿ إياك ﴾ أصلها كاف ( المفعول ) ثم قرنت بها ( إيا ) لتقدمها على الفعل ؛ وقدمت لإفادة الاختصاص، أي : لا نعبد أحدا سواك.
يقول أبو عبد الله الأنصاري القرطبي : قوله تعالى ﴿ إياك نعبد ﴾ رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين١١. لأن من أول السورة إلى هاهنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه، كقوله ﴿ .. وسقاهم ربهم شرابا طهورا ﴾١٢ ثم قال ﴿ إن هذا كان لكم جزاء.. ﴾١٣.. و( نعبد ) معناه نطيع ؛ والعبادة الطاعة والتذلل.
وأورد الحسن النيسابوري : واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام، وهو الله تعالى ؛ وذلك أن للعبد أحوالا ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فقد كان معدودا فأوجده ﴿ .. وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ﴾١٤ ﴿ .. وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يوميتكم ثم يحييكم.. ﴾١٥ وكان جاهلا فعلمه.. أسمعه وأبصره وأعقله :﴿ .. وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ﴾١٦ فهو إله بهذه المعاني.
وأما الحاضر فحاجاته كثيرة : ووجوه افتقاره غير محصورة، من أول عمره إلى آخره، مع انفتاح أبواب المعصية، وانخلاع ربقة الطاعة ؛ هو رب رحمان رحيم من هذه الوجوه.
وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت، وإنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية.
فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو... فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه.. وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين.. قال عز من قائل :﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ﴾١٧.
.. النون في قوله :( نعبد ) فيه وجوه من الحكمة منها :
أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظا ينبئ عن التعظيم والتكريم.
ومنها أن يكون المراد : أعبدك والملا ئكة معا والحاضرون، بل جميع عبادك الصالحين.
ومنها أن جميع المؤمنين إخوة، فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت علي بقولك : الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. ارتفعت منزلتك عندنا، فلا تقتصر على إصلاح حالك، بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : إياك نعبد.. ا ه.
﴿ وإياك نستعين ﴾
أنت وحدك المستعان، ومنك – دون سواك- نستمد العون، إذ الخلق جميعا مفتقرون إلى المتفرد بالخلق والإيجاد والغنى، ونحن نقر بضعف قوتنا وقلة حيلتنا إلا بك.
يقول إسماعيل بن كثير : وقدم المفعول وهو : إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي : لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة. والدين كله يرجع إلى هذين.. فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويض إلى الله عز وجل ؛ وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى ﴿ .. فاعبده وتوكل عليه.. ﴾١٨ ﴿ قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا.. ﴾١٩ ﴿ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ﴾٢٠.. وإنما قدم ﴿ إياك نعبد ﴾ على ﴿ وإياك نستعين ﴾ لأن العبادة هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها ؛ والاهتمام والحزم تقديم ما هو أهم فالأهم – والله أعلم –فإن قيل : فما معنى النون في قوله تعالى :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ ؟ فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام ؟
وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فرد منهم ولاسيما إذا كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها، وتوسط لهم بخير.. اه.
هذا ويمكن أن يراد : بك نستعين على العبادة الخالصة لوجهك، ويراد بالعبادة معناها الأعم الذي هو فعل كل خير والسعي في كل صلاح، ورعاية حق الخلافة عن الله في الأرض بتقديم كل نفع، ودرء كل فساد أو شر ؛ وهي عظائم، ما يعين على النهوض بها والوفاء بحقها والصبر على تكاليفها إلا الله المستعان على كل عظيمة.
وإن الله الحكيم العليم ليثني على خاصة رسله صلوات الله عليهم يصفهم حين يهبهم أجزل الفضل بوصف العبودية ﴿ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ﴾٢١ فحين كانت الآية الكبرى – إنجاء الله من آمن مع نوح وإغراق المكذبين – قرنها المولى سبحانه بوصفه نبيه العظيم بالعبودية الحقة. كما أمر خاتم رسله ومن اتبعه أن يذكروا فضله – جل علاه- على الرسل المكرمين ﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار٢٢. ولما امتن الله- تباركت أسماؤه- على خاتم النبيين بنزول القرآن المجيد قرنه بالعبودية ﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ﴾٢٣، ﴿ تبارك الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾٢٤. ويوم أسرى به ليريه من عجائب صنعه في أرضه وسمائه نسبه إلى العبودية ﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. ﴾٢٥.
١ و العبادة في عرف الفقهاء تشتمل ما تعبدنا الله تعالى من أقوال وأفعال تؤدي بطرائقها المشروعة كالذكر والتلاوة والطهارة والصلاة والحج وسائر العبادات وتقابلها في اصطلاح الفقهاء المعاملات..
٢ سورة الأعراف من الآية ٥٩..
٣ سورة الأعراف من الآية ٦٥..
٤ سورة الأعراف من الآية ٧٣..
٥ سورة الأعراف من الآية ٨٥..
٦ سورة العنكبوت من الآية ١٦..
٧ سورة البقرة من الآية ١٣٣..
٨ سورة يوسف من الآية ٤٠..
٩ سورة النازعات الآيتان ١٨-١٩..
١٠ سورة مريم من الآية ٣٦..
١١ و يطلق عليه عند البلاغيين وعلماء البيان : الالتفات..
١٢ سورة الإنسان من الآية ٢١..
١٣ سورة الإنسان من الآية ٢٢..
١٤ سورة مريم من الآية ٩..
١٥ سورة البقرة من الآية ٢٨..
١٦ سورة النحل من الآية ٧٨..
١٧ سورة الحجر الآيات ٩٧-٩٨-٩٩..
١٨ سورة هود من الآية ١٢٣..
١٩ سورة الملك من الآية ٢٩..
٢٠ سورة المزمل الآية ٩..
٢١ سورة الإسراء الآية ٣..
٢٢ سورة ص الآية ٤٥..
٢٣ سورة الكهف الآية ١..
٢٤ سورة الفرقان الآية ١..
٢٥ سورة الإسراء من الآية ١..
﴿ اهدنا ﴾
وفقنا ودلنا وأرشدنا رشدا لا غي بعده.
يقول النيسابوري :( اهدنا ) طلب هداية للجميع فهي إذن متحققة ومستجابة.. اه
والقرطبي يقول : دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه. وقيل الأصل فيه الإمالة، فإن الفعل ( يتهادى ) يعني يتمايل ؛ أي مل بقلوبنا إلى الحق.
بينما الطبري يورد فيها : مسألة العبد ربه التوفيق لأداء ما كلف به من فرائض فيما يستقبل من عمره.
بينما الألوسي ينقل معاني عدة منها : الهداية بلطف ؛ ولذلك أطلق على المشي برفق( تهاد ).
وهل يعتبر في الدلالة الإيصال ؟ فريق ذهب إلى ذلك.
أو بمعنى : ثبتنا على الدين. أو بمعنى : أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى.. ﴾١
أو الهداية : الثواب لقوله تعالى﴿ .. يهديهم ربهم بإيمانهم.. ﴾٢ فالمعنى : إهدنا طريق الجنة ثوابا لنا ؛ وأيد بقوله تعالى﴿ .. الحمد لله الذي هدانا لهذا.. ﴾٣.
﴿ الصراط المستقيم ﴾
السبيل السوي الذي رضيته ودعوت إليه : وأنذرت الخارجين عليه، وعهدت به إلى الأولين والآخرين، كما بينت في كتابك الكريم، فقلت وأنت أصدق القائلين :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ﴾٤. وهو بهذا المعنى منسق مع ما تقدمه من قول الله تعالى :﴿ اهدنا ﴾ ومع الآية الكريمة التالية ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم.. ﴾.
ونقل الطبري أن ﴿ الصراط المستقيم ﴾ كتاب الله. وابن كثير له رأي مقارب٥.
١ سورة محمد من الآية ١٧..
٢ سورة يونس من الآية ٩ وبقية الآية ﴿تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم﴾.
٣ سورة الأعراف من الآية ٤٣. والآية مبدوءة بقوله تعالى ﴿ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار..﴾.
٤ سورة يس الآيتان ٦٠-٦١..
٥ أورد الحافظ إسماعيل بن كثير عن النواس بن سمعان أن رسول الله ص قال: (ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك، لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران : حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على باب الصراط: كتاب الله، وذلك الداعي الذي يدعو فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم)..
﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾
الإنعام يطلق ويراد به : نفع يساق إلى منعم عليه لغير عوض ؛ وعرفه الراغب بأنه : إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء ؛ فلا يقال : أنعمت على الفرس..
وأخرج بن جرير عن ابن عباس : المنعم عليهم من أشار إليهم قول الله تعالى ﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. ﴾١
﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾
من أنعم الله عليه فهداه فهو بعيد عمن غضب الله عليهم وهم اليهود بدليل قول المولى تبارك وتعالى ﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.. ﴾٢
والمنعم عليهم من لدن البر الرحيم الوهاب الكريم سبحانه بعيد عن الضالين وهم النصارى الذين حرفوا ونسوا ما ذكروا به لقوله عز شأنه ﴿ .. ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ﴾٣.
١ سورة النساء من الآية ٦٩..
٢ سورة المائدة من الآية ٦٠..
٣ سورة المائدة من الآية ٧٧..
Icon