تفسير سورة الكوثر

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الكوثر من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الكوثر
وتسمى سورة النحر، مكية، ثلاث آيات، عشر كلمات، اثنان وأربعون حرفا
إِنَّا أَعْطَيْناكَ. وقرئ «أنطيناك» يا أشرف الخلق: الْكَوْثَرَ (١) أي الخير المفرط في الكثرة من شرف النبوة الجامعة لخيري الدارين، فإن كتاب محمد هو الكتاب المهيمن على كتاب آدم وصحف إبراهيم وموسى، وتحديه بالقرآن، وذلك أعلاه كما تحدى آدم بالأسماء.
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال: لئن كنت صادقا، فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار الرسول إليه، فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه وعام حتى صار بين يدي الرسول وسلم عليه، وشهد له بالرسالة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يكفيك هذا؟» قال: حتى يرجع إلى مكانه، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فرجع إلى مكانه، وهذا أعظم من إمساك سفينة نوح على الماء
. وعن محمد بن حاطب قال: كنت طفلا، فانصب القدر علي من النار، فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقالت: هذا ابن حاطب احترق كما ترى، فتفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال:
أذهب البأس رب الناس، فصرت صحيحا لا بأس بي، وذلك أعظم من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، وأكرم الله محمدا، ففلق له القمر فوق السماء، وفجر له أصابعه عيونا وكان الغمام يظله، وأعطاه الله القرآن الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفه ثعبانين، فانصرف مرعوبا كما
أكرم الله موسى، ففلق له البحر في الأرض، وفجر له الماء من الحجر، وظلل عليه الغمام وأكرمه باليد البيضاء، وقلب عصا موسى ثعبانا وسبحت الأحجار في يد الرسول وأصحابه، وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت وأكرمه الله بالبراق، كما سبحت الجبال مع داود، وإذا مسح الحديد لان وأكرمه الله بالطير المحشورة، وأضاف الرسول اليهود بالشاة المسمومة، فلما وضع اللقمة في فيه أخبرته، وروي أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء، وشكت ذلك إلى الرسول فمسح عليها رسول الله بغصن، فأذهب الله عنها البرص، وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى الرسول فردها إلى مكانها، وعرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل، فأخبره، فأسلم العباس لذلك، كما أكرم الله
669
عيسى عليه السلام بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ومعرفة ما يخفيه الناس في بيوتهم وحين نام رسول الله ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس فردها وصلى وردها مرة أخرى لعلي، فصلى العصر في وقته.
وروي أن طيرا فجع بولده، فجعل يرفرف على رأسه صلّى الله عليه وسلّم ويكلمه فقال: «أيكم فجع هذه بولدها؟» فقال رجل: أنا، فقال: «اردد إليها ولدها»
«١». وأكرمه الله بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة، وكان يرسل حماره يعفورا إلى من يريده، فيجيء به وأرسل معاذا إلى بعض النواحي، فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجز أن يرجع، فتقدم وقال: أنا رسول رسول الله، فانصرف وانقاد الجن له صلّى الله عليه وسلّم، وحين جاء الأعرابي بالضب وقال: لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب، فتكلم الضب معترفا برسالته، وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة، كما رد الله لسليمان الشمس مرة، وعلم منطق الطير، وأكرمه الله بمسيره غدوة مسيرة شهر، وانقاد الجن له، فلما كانت رسالته صلّى الله عليه وسلّم كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثرا فقال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
قال: عطاء الكوثر حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموقف والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج»
. وفي رواية أنس أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر، لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير، وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن، وأحلى من العسل، وحافتاه خيام الدر، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا الثرى مسك أذفر فقلت لجبريل: ما هذا؟ قال: الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى»
«٢». فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي فدم على الصلاة خالصا لوجه ربك الذي أفاض عليك
(١) رواه أحمد في (م ٣/ ص ١٠٣)، والحاكم في المستدرك (١: ٨٠) وابن أبي شيبة في المصنف (١١: ٤٣٧)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠: ٤٩٨)، والآجري في الشريعة (٣٩٦)، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٩١٥٣)، وابن كثير في التفسير (٨:
٥٢٠)، والسيوطي في الدر المنثور (٦: ٤٠٣)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١١:
٤٥).
(٢) رواه مسلم في الجهاد باب: ٣١، وأبو داود في الخراج باب: ٢٥، وأحمد (م ٢/ ص ٢٩٢)، والبيهقي في السنن الكبرى (٦: ٣٤)، والطبراني في المعجم الكبير (٨: ٩)، والهيثمي في مجمع الزوائد (٦: ١٦٩)، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤:
٤٧٥)، والبغوي في شرح السنة (١١: ١٥٢)، وعبد الرزاق في المصنف (٩٧٣٩)، -
670
هذه النعمة الجليلة خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها، فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، وَانْحَرْ (٢) أي استقبل القبلة بنحرك كما قاله ابن عباس، والفراء، والكلبي، وأبو الأحوص كأنه تعالى يقول: الكعبة بيتي، وهي قبلة صلاتك، وقلبك قبلة رحمتي، ونظر عنايتي، فلتكن القبلتان متناحرتين أي متقابلتين، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣) أي إن مبغضك هو المنقطع عن كل خير، وهو أبو جهل كما قاله ابن عباس.
روي أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم، ثم إنه وصف رسول الله بالأبتر، ثم قال: قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا، فلما وصلوا إلى دار خديجة، وتوافقوا على ذلك، أخرجت خديجة بساطا، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه وبقي صلّى الله عليه وسلّم واقفا كالجبل، ثم بعد ذلك رماه النبي صلّى الله عليه وسلّم على أقبح وجه، فلما رجع أخذه باليد اليسرى، فصرعه على الأرض مرة أخرى، ووضع قدمه على صدره، أو هو أبو لهب كما قاله عطاء فإنه صلّى الله عليه وسلّم لما شافهه بقوله: تبا لك، كان أبو لهب يقول في غيبته أنه صلّى الله عليه وسلّم أبتر، فنزلت هذه الآية أو هو العاص بن وائل السهمي، كما قاله عكرمة.
روي أن العاص بن وائل كان يقول: إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي، وعامة أهل التفسير، أو هو عقبة بن أبي معيط، كما قاله شمر بن عطية، فإنه هو الذي كان يقول ذلك، ووصف الله تعالى العدو بكونه شانئا، إشارة إلى وعده تعالى لرسوله بقهر العدو كأنه تعالى يقول: هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك، فيحترق قلبه غيظا وحسدا.
- والزيلعي في نصب الراية (٣: ٤٣٩)، والدارقطني في السنن (٣: ٦٠)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٦٢١٠).
671
Icon