تفسير سورة الإسراء

أحكام القرآن للكيا الهراسي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب أحكام القرآن للكيا الهراسي المعروف بـأحكام القرآن للكيا الهراسي .
لمؤلفه الكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

(بسم الله الرّحمن الرّحيم)

سورة الإسراء
قوله عز وجل: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، الآية/ ١٥.
يدل على صحة قول أهل الحق في أنه لا تكليف قبل السمع، وأنه لا وجوب قبل إرسال الرسل، ولا يقبح ولا يحسن بالعقل، خلافا لمن عدا أهل الحق، في كون العقل طريقا إلى معرفة وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، ثم الأكثرون منهم على أنه يجوز أن يقتصر ببعض المكلفين على دليل العقل دون السمع، إذا كانت مصلحته فيما دل عليه العقل، وأنه يقع في علم الله أنه ينهض بما كلفه دليل العقل، والغرض بالشرائع المصلحة، وإذا كان المعلوم من حال بعضهم نهوضه بالتكاليف العقلية تلقيا من دليل العقل، لم يكن لإرسال الرسل إليهم فائدة، وإنما يرسل الله تعالى عندهم الرسول إلى من وقع في المعلوم أن تمسك المتمسك بالشريعة داعي إلى المصلحة في التكاليف العقلية، فيرسل الرسول إليه بأمور سمعية يعلم الله تعالى كونها داعية إلى المستحسنات العقلية، ويحرم عليه من السمعيات ما يعلم كونه داعيا إلى المستقبحات العقلية.
249
فإذا لم يقع في المعلوم كون فعل من الأفعال داعيا إلى الواجب العقلي، ولا ناهيا عن القبيح العقلي، لم يكن للإرسال فائدة، وليس يجب أن يعلم الله تعالى ذلك من أحوال المكلفين جملة، وربما علم من أحوال بعضهم، فيجب إرسال الرسول إليه، وربما لا يعلم ذلك، فلا يجب إرسال الرسول إليه.
وفيهم من يقول: يجب على الله تعالى إرسال الرسل، لأن ذلك أقرب إلى مظاهرة الحجة وأقوى في معنى اللطف.
وهذا الإخفاء ببطلانه، إذ يلزم منه إبقاء الرسول أبدا أو توالي الرسل، لأن ذلك أقرب إلى اللطف، ولا شك أن إبقاء إبليس في الدنيا مع أعوانه أبعد عن اللطف من توالي الرسل، ومظاهرة الحجة بهم.
وربما قالوا: العبد لا يعرى من مصالح في دينه لا يعلمها إلا بالسمع، كما لا يعرى عن مصالح في الدنيا لا تعلم إلا بالخبر.
وهذا تحكم، ومن أين وجد ذلك؟
وإذا ثبت أن الأصح من قول المعتزلة المذهب الأول، فقال للمعتزلة:
فما معنى قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ؟
وعندكم يجوز في المعلوم أن ينهض العبد بالمصالح العقلية، من غير افتقار إلى أفعال تكون لطفا في تلك المصالح وتعلم بالسمع، وقد قال تعالى:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وعندكم في تلك الحال يجب أن لا يبعث رسولا ويعذب دون الرسول، فتقدير الكلام: وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله، دون أن نبعث رسولا لا يجوز لنا بعثه في بعض الأحوال.
وهم اختلفوا في الجواب عن الآية، فقال قائلون: المراد به عذاب
250
الاستئصال في الدنيا، كقوله: (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا) «١».
وهذا بعيد، فإن عذاب الاستئصال على حسب ما يقع في المعلوم كونه مصلحة، وإن كان الاستئصال مصلحة دون ابتعاث الرسل، وجب عندهم ذلك، فإن عذاب الاستئصال إنما استحقه من استحقه لمخالفة التكاليف، فإذا حصلت المخالفة قبل الرسل، فأي معنى لترك ذلك؟ وإن لم يكونوا مستحقين، فلا استئصال، لا بعد الرسل ولا قبلهم، وهذا بين حسن.
وأجابوا من وجه آخر فقالوا: وما كنا معذبين فيما طريقه السمع، حتى نبعث رسولا، فأما ما كان طريقه العقل فلا، وهذا بعيد، فإن التكاليف إذا كانت منقسمة، وأقوى القسمين التكاليف العقلية، والسمعية مبنية عليها، لكونها داعية إليها ولطفا بها، فلا يجوز أن يقول: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
وعندهم أنه يجب العذاب على ترك التكاليف العقلية، فتقدير الكلام:
وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله حتى نبعث رسولا، ولا شك أن ذلك من الله تعالى إبانة عن وجه العدل في أفعاله، أو القهر وإنفاذ المشيئة، وذلك عندهم على إطلاق قبيح، وهو على أصلهم مثل قول القائل: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، ويعني بذلك بعض السمعيات دون بعض، مع أن ذلك وغيره بمثابة.
واستدل به المعتزلة على رد قول بعض أصحابنا في أن الله سبحانه لا يعذب أطفال المشركين، لأنه إذا كان لا يعذب قبل إرسال الرسل، فهؤلاء الأطفال لم يعلموا الرسل ولا لهم مكنة في معرفتهم، فكيف يعذبون بذنوب آبائهم؟
(١) سورة القصص آية ٥٩
251
وهذا من المحتج به جهل، وذلك أن الله تعالى إنما عنى بقوله:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، من يجوز إنفاذ الرسل إليهم، فيعذب على ترك ما كلف، فأما الأطفال فلا يعذبون عندنا على ترك ما كلفوا، وإنما جعل الله تعالى ذلك العذاب حكما منه نافذا، وقضاء ماضيا، كما يؤلم الأطفال والبهائم في الدنيا، فسقط ما قالوه جملة.
واستدل قوم بهذا في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام فآمنوا، فلا تكليف عليهم فيما مضى، وهذا صحيح. ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق العذاب من جهة العقل عندنا. وهو مضمون على قائله عندنا.
ولأبي حنيفة في ذلك خلاف، وله مأخذ فيه يستقيم على نظر الفقهاء من غير استمداد من أقوال المعتزلة، حتى لا يتوهم متوهم أن أبا حنيفة بنى تلك المسألة على أصول المعتزلة، فإنه بعيد منها، وذكرنا ذلك المأخذ في مسائل الخلاف في الكتاب الذي أفردناه للروايا.
ثم أبان الله تعالى أنه إن لم يهلك القرى قبل انبعاث الرسل، فليس لأنه يقبح ذلك منه إن فعل، ولكنه وعيد منه ولا خلف في وعده، فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده، كان على ما قاله تعالى:
(أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)
«١».
ليعلم أن من هلك إنما هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها، ليحق القول السابق من الله تعالى:
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ- إلى قوله- فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الآية/ ١٨، ١٩.
(١) سورة الإسراء آية ١٦.
فيه دلالة على أمور، منها أن من يريد بما يتكلفه من الطاعات أحوال الدنيا، أو يريد تحصيل العاجلة بغير الطاعة فهو متوعد، مثل أن يتزهد مراءاة للناس، أو لاعتمادهم على أقواله وائتمانهم له على أموالهم، فهو متوعد بالنار، وأن من يريد الله تعالى بمساعيه فله الثواب بحكم وعد الله تعالى.
قوله تعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)، الآية/ ٢٣.
قرن ذكر الوالدين بعبادة الله سبحانه، فنبه به على عظيم إنعام الله تعالى المقتضي للشكر، ونبه بعد ذلك على عظيم نعم الوالدين، وبين إختلاف الوالدين، ليكون بره بهما وإحسانه إليهما على قدر حاجاتهما فقال:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) «١»، فخص هذه الحالة بالذكر، وهي حالة حاجتهما إلى بره لتغيير الحال عليهما بالضعف النازل والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزم من قبل، لأنهما قد صارا في هذه الحالة كلا عليه، فيحتاجان إلى أن يلي من أمرهما للضعف النازل منهما «٢»، ما كان يحتاجه هو في صغره أن يليان منه، فذلك معنى تخصيص هذه الحالة بالذكر، ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق.
ودل قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ)، على وجوب صبره عليهما حتى لا يتبرم ولا يضجر، فإن العادة جارية في المتضجر عند الأمر أن يقول أف أو تف في الأمور، فبين الله سبحانه تحريم هذا القدر من
(١) تابع للآية ٢٣ من سورة الإسراء.
(٢) الأصح (بهما).
التبرم على الولد عند ضعف الوالدين وحاجتهما إلى بره، ولم يقتصر تعالى على هذا القدر في بيان حقهما حتى قال: (وَلا تَنْهَرْهُما)، مؤكدا لما تقدم ودالا به على أن الواجب في بره لهما سلوك طريقة اللين في القول:
ثم قال: (وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً)، والكريم من القول ما يوافق مسرة النفس، ولا ينفر عنه الطبع.
ثم أمر بمزيد التواضع فقال: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) «١»، وهذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة والتعبير عن المقصود بلفظ المجاز، لأن الذل ليس له جناح، ولا يوصف بذلك، ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع، وهو كقول امرئ القيس في وصف الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
يصف الليل المتقدم على هذا البيت في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وليس لليل صلب ولا إعجاز ولا كلكل فهو مجاز، وأراد به تكامله واستواءه.
ثم بين الله تعالى أن الذي يلزمه لهما ليس مقصورا على منافع الدنيا، بل يلزمه مع ذلك ما يمكن في باب الآخرة من الدعاء، لأنه لا يقدر منهما على ما سواه، فقال: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) «٢».
بين العلة في لزوم الدعاء لهما، وبين أنه يلزم الولد من الدعاء للوالدين، أكثر مما يلزمه في غيرهما.
(١) سورة الإسراء آية ٢٤.
(٢) تابع الآية ٢٤ من سورة الإسراء
قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)، الآية/ ٢٦.
أبان الله تعالى أن على كل واحد منا مراعاة مراتب مستحقي الحقوق، فبدأ بحق الله تعالى فقال: (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقرنه بذكر الوالدين، وعقب ذلك بقوله: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)، وظاهر العطف أنه قريب الإنسان.
وقد قيل: عنى به قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام في جميع الناس، وكذلك ما عطف عليه من إيتاء ذي القربى.
قوله تعالى: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً).
والتبذير عند الشافعي إنفاق المال في غير حقه، فلا تبذير في عمل الخير.
وقال مجاهد: لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
وقد ثبت في سورة البقرة الحجر على المبذر، وما يتعلق به من الأحكام.
ثم أبان الله تعالى تحريم التبذير بقوله تعالى:
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ)، الآية/ ٢٧.
ثم قال تعالى في تخصيص نبيه صلّى الله عليه وسلم:
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً)، الآية/ ٢٨.
وهو تأديب عجيب، وقول لطيف بديع، فإنه تعالى قال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) : أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنا والقدرة فتحرمهم، وإنما يجوز له أن يعرض عنهم عند عجز يعرض، وعند عائق يعرض، وأنت عند ذلك ترجو من
الله فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال عن المواساة (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً)، يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة فتقول: الله يرزق، والله يفتح بالخير.
قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ)، الآية/ ٢٩:
هو مجاز عن البخل والجود ومراعاة الإقتصاد فيهما جميعا، فقال:
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) : فلا تعطي من مالك شيئا.
ولما كان العطاء في الأكثر باليد غير غل اليد عن الإمساك، فالذي لا يعطي شيئا جعله بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه، والعرب تصف البخيل بضيق اليد، فيقولون: فلان ضيق الكفين إذا كان بخيلا، وقصير الباع، وفي ضده رحب الذراع طويل الباع طويل اليدين.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لنسائه:
«أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا» «١».
وإنما أراد به كثرة الصدقة، فكانت زينب بنت جحش، لأنها كانت أكثرهن صدقة.
وقال الشاعر:
وما كان أكثرهم سواما ولكن كان أرحبهم ذراعا
قوله تعالى: (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)، فلا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك.
(فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)، يعني ذا حسرة على ما خرج من يدك.
(١) أخرجه مسلم بن الحجاج بسنده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
256
وهذا الخطاب لغير النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه.
وقد كان كثير من فضلاء أصحابه ينفقون في سبيل الله جميع أملاكهم، فلم يعنفهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم.
وإنما نهى الله تعالى عن الأفراط في الإنفاق، وإخراج جميع ما احتوت عليه يده من المال، من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله تعالى وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية.
وقد روي أن رجلا أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسلم إليه مثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله، أصبت هذه من معدن والله ما أملك غيرها، فأعرض عنه، فعاد ثانيا فأعرض عنه، فعاد ثالثا فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام ورماه بها لو أصابته لعقرته، وقال: «يأتيني أحدكم بجميع ما يملكه ثم يقعد ويتكفف وجوه الناس» «١».
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذا مال كثير، فأنفق جميع ماله على النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سبيل الله، حتى بقي في عباءة، فلم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه.
فكل ذلك يدل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما خوطب به غيره مثل قوله تعالى:
(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) «٢».
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) «٣».
(١) أخرجه الامام أحمد في مسنده والبيهقي في الشطب.
(٢) سورة الزمر آية ٦٥.
(٣) سورة يونس آية ٩٤. [.....]
257
فاقتضت هذه الآيات من قوله: (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، الأمر بالتوحيد، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية الله تعالى، والأمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط.
قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)، الآية ٣١.
وهو كلام يتضمن ذكر السبب الخارج عليه، فإنه كان من العرب من يقتل بناته خشية الفقر، لئلا يحتاج إلى الإنفاق عليهن، ويتوفر ما يريد إنفاقه عليهن على نفسه وعلى بيته، فكان ذلك شائعا فيهم وهي «الموعودة سئلت»، والموعودة هي المدفونة حية؟ وكانوا يدفنون بناتهم أحياء.
وقال ابن مسعود: سئل النبي عليه الصلاة والسلام فقيل: «ما أعظم الذنوب؟ فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خيفة أن يأكل معك، وأن تزني بحليلة جارك» «١».
قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً)، الآية/ ٣٢.
يدل على تحريم الزنا، وهو الذي تعرى عن نكاح وعن شبهة نكاح.
ووصف الله تعالى نكاح امرأة الأب بما وصف الزنا به، فقال تعالى:
(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) «٢».
وذلك يدل على مساواته في التحريم، وبينا ما يعترض به عليه.
واختلف العلماء في اللواط، وأنه هل يدخل تحت الزنا؟ والشروع فيه ليس من غرضنا «٣».
(١) أخرجه الامام أحمد في مسنده
(٢) سورة النساء آية ٢٢.
(٣) أنظر تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير الطبري لتفصيل القول في هذه المسألة.
قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) الآية/ ٣٣.
السلطان مجمل يحتمل: الحجة والدية والقود، ويحتمل الجمع لا جرم، الشافعي يخير بين القتل وغيره، لأن الكل بالإضافة إلى اللفظ سواء.
قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).
قال الحسن ومجاهد وسعيد بن هبير والضحاك.
لا يقتل غير قاتله، ولا يمثل به «١»، وذلك أن العرب كانت تتعدى إلى غير القليل من الحميم والغريب، فلما جعل الله تعالى له سلطانا نهاه عن التعدي، وعلى هذا المعنى قوله تعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) «٢».
فإن كان لبعض القبائل طول على الأخرى، فكان إذا قتل منهم العبد لا يرضون إلا بأن يقتل الحر منهم، وهذا في هذه الآية: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) بأن يتعدى إلى غير القاتل.
ذكر إسماعيل بن اسحق المالكي، في قوله: لوليه، ما يدل على خروج المرأة عن مطلق الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق القصاص، كذلك قال، ولا أثر لعفوها وليس لها الاستبقاء.
ولم يعلم أن المراد بالولي هاهنا الوارث، وقد قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ
(١) أنظر تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.
(٢) سورة البقرة آية ١٧٨.
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) «١».
وقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) «٢»، الآية.
وقال تعالى: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) «٣» :
فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة.
احتج إسماعيل في ذلك بوجوه ركيكة منها:
أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، ولم يعلم أن ما كان بمعنى الجنس استوى فيه المذكر والمؤنث.
ومما ذكره أن المرأة لا تستحق كل القصاص، والقصاص لا بعض له، فلزمه من ذلك إخراج الزوج من جملة الأولياء في القصاص، وعلى أنه لم يمتنع أن تكون المرأة بنفسها لا تستحق، ولكنها مع غيرها كالورثة، واعتذر عن ذلك بأن سبب الورثة واحد، وقد اختلف السبب هاهنا، فلزمه ألا يثبت القصاص بين الزوج والأخ ولا الأخ من الأم.
وذكر فيما ذكر أن المقصود من القصاص تقليل القتل، والمقصود بكثرة القتل الرجال دون النساء.
ولزم على هذا ألا يجب القصاص على المرأة بقتل الرجل، ولا على الرجل بقتل المرأة.
قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، الآية/ ٣٤.
(١) سورة التوبة آية ٧١
(٢) سورة الأنفال آية ٧٢.
(٣) سورة الأنفال آية ٧٥.
260
قال مجاهد: التي هي أحسن التجارة، خص اليتيم بذلك، لأنه إليه أحوج، وعن الاستقلال أبعد، وإلى المرحمة والشفقة أقرب.
ذكر الرازي «١» أن الله تعالى لما قال حتى يبلغ أشده، علم أن إيناس الرشد عند بلوغ الأشد لا يعتبر، ولو اعتبر لذكر كما قال:
(حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) «٢».
والأشد مذكور على وجوه مختلفة في القرآن، قال تعالى في موضع آخر:
(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) «٣».
وقال في موضع آخر:
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) «٤»، الآية.
وذكروا أنه بلوغ الحلم.
وذكروا أنه بلوغ أربعين سنة.
فليس للأشد مرد معلوم.
ويجوز أن يكون المراد ببلوغ الأشد قبل الأربعين سنة، وتختلف أحوال الناس فيه، والذي ذكره من أن إيناس الرشد ليس معتبرا مع الأشد فبعيد، فإن الله تعالى قال: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
(١) أنظر أحكام القرآن للجصاص.
(٢) سورة النساء آية ٦.
(٣) سورة الأحقاف آية ١٥
(٤) سورة القصص آية ١٤.
261
أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) «١»، فاقتضى ذلك جواز التصرف إلى بلوغ الأشد مطلقا، ولا يتحقق ذلك إلا عند جعل الأشد بمعنى البلوغ.
والولي لا يتصرف في مال اليتيم بعد البلوغ، ولا أنه يسمى يتيما إلى أربعين سنة.
قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) الآية/ ٧٨:
قيل: دلوكها: زوالها، وقيل: غروبها، وقد وردت فيها آيات.
فإن كان الدلوك الزوال، وقد دلت الآية على صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، لقوله: لدلوك الشمس إلى غسق الليل.
قال ابن عباس: غسق الليل اجتماع الليل وظلمته، وقيل غسق الليل انتصابه، ووقت الإختيار للعشاء يمتد إلى ذلك الوقت.
قوله تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)، مرتب على قوله: (أَقِمِ)، فتقديره، أقم قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.
وفيه دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر.
وقال قائلون: المراد بقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) : صلاة الفجر، فإنه يبعد تخصيص صلاة الفجر بالقراءة فيها، والصلاة كما تشتمل على القراءة تشتمل على ما عداها من الأذكار.
والأولون استدلوا على ذلك بقوله تعالى في آخر الآية: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ)، والتهجد بالقراءة لا بصلاة الفجر.
ويجاب عنه، بأن المراد به التهجد بالصلاة، مرتبا على قوله: أقم الصلاة «٢».
(١) سورة الأنعام آية ١٥٢.
(٢) أنظر القاسمي في تفسيره ج ٢٠ ص ٣٩٥٩. [.....]
قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا)، الآية/ ١١٠.
روي أن أبا بكر كان يخافت، وكان عمر يجهر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: لم لا تجهر؟ فقال: أناجي ربي وهو أعلم بحاجتي.
وقال لعمر: كيف تجهر؟ قال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أحسنتما، ثم نزلت هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: أرفع شيئا، وقال لعمر: اخفض شيئا «١».
وقالت عائشة في هذه الآية: أراد بها الدعاء والمسألة.
وروت عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى فقال:
«لقد أوتي أبو موسى من مزامر آل داود صلى الله عليه وسلّم» «٢».
(١) أنظر تفسير الطبري، وأسباب النزول للواحدي
(٢) أخرجه الامام أحمد وأبو داود في سننه.
Icon