تفسير سورة الأحقاف

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الأحقاف
هذه السورة مكية.
وعن ابن عباس وقتادة، أن :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله ﴾.
و ﴿ فاصبر كما صبر ﴾، الآيتين مدنيتان.
ومناسبة أولها لما قبلها، أن في آخر ما قبلها :﴿ ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً ﴾ وقلتم : إنه عليه الصلاة والسلام اختلقها، فقال تعالى :﴿ حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾.
وهاتان الصفتان هما آخر تلك، وهما أول هذه.

ﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ
سورة الأحقاف
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٣٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)
قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
428
الْحِقْفُ: رَمْلٌ مُسْتَطِيلٌ مُرْتَفِعٌ فِيهِ اعْوِجَاجٌ وَانْحِنَاءٌ، وَمِنْهُ احْقَوْقَفَ الشَّيْءُ: اعْوَجَّ.
قَالَ امرؤ القيس:
فلما أجرنا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ ذِي رُكَامٍ عقنقل
عنى بِالْأَمْرِ: إِذَا لَمْ تَعْرِفْ جِهَتَهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْإِدْغَامُ فَتَقُولُ: عَيَّ، كَمَا قُلْتَ فِي حَيِيَ:
حَيَّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
430
حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ، وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، أَنَّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وفَاصْبِرْ كَما صَبَرَ، الْآيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَانِ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا:
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً «١»، وَقُلْتُمْ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَلَقَهَا، فَقَالَ تَعَالَى: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُمَا آخَرُ تِلْكَ، وَهُمَا أَوَّلُ هَذِهِ. وَأَجَلٍ مُسَمًّى: أَيْ مَوْعِدٍ لِفَسَادِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقِيَامَةُ وَقَالَ غَيْرُهُ: أي أجل كل ملخوق. عَمَّا أُنْذِرُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي. قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ: مَعْنَاهُ أَخْبِرُونِي عَنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ. أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ، وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ الْأَوَّلُ هُوَ مَا تَدْعُونَ. وَمَاذَا خَلَقُوا: جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ يَطْلُبُهَا أَرَأَيْتُمْ، لِأَنَّ مَفْعُولَهَا الثَّانِيَ يَكُونُ اسْتِفْهَامًا، وَيَطْلُبُهَا أَرُونِي عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيقِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، أُعْمِلُ الثَّانِي وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ الثَّانِي. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرُونِي تَوْكِيدًا لأرأيتم، بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَأَرُونِي:
أَخْبِرُونِي، كَأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَرَأَيْتُمْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً، وَمَا مَفْعُولَةً بِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَرَأَيْتُمْ مُنَبِّهَةً لَا تَتَعَدَّى، وَتَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ، وَتَدْعُونَ مَعْنَاهُ: تَعْبُدُونَ. انْتَهَى. وَكَوْنُ أَرَأَيْتُمْ لَا تَتَعَدَّى، وَأَنَّهَا مُنَبِّهَةٌ، فِيهِ شَيْءٌ قَالَهُ الْأَخْفَشُ فِي
(١) سورة الجاثية: ٤٥/ ٣٥. [.....]
431
قَوْلِهِ: قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ «١». وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ «٢» فِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهَا. وَقَدْ أُمْضِيَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ فِي سُورَةِ الأنعام، فيطالع هناك:
ومِنَ الْأَرْضِ، تَفْسِيرٌ لِلْمُبْهَمِ فِي: مَاذَا خَلَقُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، أَيْ خَلْقُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنَ الْعَالِي عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِ. ثُمَّ وَقَفَهُمْ عَلَى عِبَارَتِهِمْ فَقَالَ: أَمْ لَهُمْ: أَيْ: بَلْ.
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا: أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِالتَّوْحِيدِ وَبِإِبْطَالِ الشِّرْكِ، وَكُلَّ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ وَاحِدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ، أَيْ بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ، أَيْ مِنْ عُلُومِ الْأَوَّلِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: سَمِنَتِ النَّاقَةُ عَلَى أَثَارَةٍ مِنْ شَحْمٍ، أَوْ عَلَى بَقِيَّةِ شَحْمٍ كَانَتْ بِهَا مِنْ شَحْمٍ ذَاهِبٍ. وَالْأَثَارَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي بَقِيَّةِ الشَّرَفِ يُقَالُ: لِبَنِي فُلَانٍ أَثَارَةٌ مِنْ شَرَفٍ، إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ شَوَاهِدُ قَدِيمَةٌ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الرَّاعِي:
عَيُّوا بِأَمْرِهِمُ كَمَا عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَهْ
وَذَاتُ أَثَارَةٍ أَكَلَتْ عَلَيْنَا نَبَاتًا فِي أَكِمَّتِهِ قِفَارَا
أَيْ: بَقِيَّةٍ مِنْ شَحْمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ أَثَارَةٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، كَالشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ، وَهِيَ الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ، كَأَنَّهَا أَثَرَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: مِنْ عِلْمٍ اسْتَخْرَجْتُمُوهُ فَتُثِيرُونَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى: هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَأْثِرُ عِلْمًا فِي ذَلِكَ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ الْإِسْنَادُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
إِنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالْآثِرِ
أَيْ: وَلِلْمُسْتَدْعِينَ غَيْرَهُ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَمَا خَلَّفْتُ بِهِ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةَ: الْمَعْنَى: أَوْ خَاصَّةٍ مِنْ عِلْمٍ، فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْأَثَرَةِ، فَكَأَنَّهَا قَدْ آثَرَ اللَّهُ بِهَا مَنْ هِيَ عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالْأَثَارَةِ: الْخَطُّ فِي التُّرَابِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ وَتَتَكَهَّنُ بِهِ وَتَزْجُرُ تَفْسِيرَهُ. الْأَثَارَةُ بِالْخَطِّ يَقْتَضِي تَقْوِيَةَ أَمْرِ الْخَطِّ فِي التُّرَابِ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ لَيْسَ لَهُ وَجْهُ إِذَايَةِ وَقْفِ أَحَدٍ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَثَارَةَ بِالْخَطِّ فِي التُّرَابِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَبِأَقْوَالِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ.
وَقَرَأَ
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٦٣.
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٤٠.
432
عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا
، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: أَوْ أَثَرَةٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، جَمْعُهَا أُثُرٌ كَقَتَرَةٍ وَقُتُرٍ
وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا: بِإِسْكَانِ الثَّاءِ
، وَهِيَ الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِمَّا يُؤْثَرُ، أَيْ قَدْ قَنِعْتُ لَكُمْ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ وَأَثَرٍ وَاحِدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ قَوْلِكُمْ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانُ الثَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ عَلَى لُغَةٍ أُخْرَى: إِثْرَةٌ وَأُثْرَةٌ يَعْنِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَهِيَ جَمَادٌ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ مَا دَامَتِ الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ أبدا، ولذلك غيا انْتِفَاءُ اسْتِجَابَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَعْدَاءٌ لَهُمْ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِهِمْ نَفْعٌ، وَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ ضَرَرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «١». وَجَاءَ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ مَا يُسْنَدُ لِأُولِي الْعِلْمِ من الاستجابة والغفلة أو كأن مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، يُرَادَ بِهِ مَنْ عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَغَيْرِهِمَا، وَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ، وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي: وَهُمْ مِنْ مَا بَعْدَهُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي: وَهُمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي: مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، كَمَا فَسَّرْنَاهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي: وَمَنْ أَضَلُّ، أَيْ وَالْكُفَّارُ عَنْ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ.
غافِلُونَ: لَا يَتَأَمَّلُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي دُعَائِهِمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ: جَمْعُ بَيِّنَةٍ، وَهِيَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. وَاللَّامُ فِي لِلْحَقِّ، لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الْحَقِّ. وَأَتَى بِالظَّاهِرَيْنِ بَدَلَ الْمُضْمَرَيْنِ فِي قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: قَالُوا لَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى الْوَصْفَيْنِ: وَصْفِ الْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، وَوَصْفِ الْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ، وَلَوْ جَاءَ بِهِمَا الْوَصْفَيْنِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَصْفَيْنِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَإِنْ كَانَ مَنْ سَمَّى الْآيَاتِ سِحْرًا هُوَ كَافِرٌ، وَالْآيَاتُ فِي نَفْسِهَا حَقٌّ، فَفِي ذِكْرِهِمَا ظَاهِرَيْنِ، يَسْتَحِيلُ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْكُفْرِ، وَعَلَى الْمَتْلُوِّ بِالْحَقِّ. وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُوا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، بَلْ بَادَرُوا أَوَّلَ سَمَاعِهِ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى السِّحْرِ عِنَادًا وَظُلْمًا، وَوَصَفُوهُ بِمُبِينٍ، أَيْ ظَاهِرٍ، إِنَّهُ سِحْرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
(١) سورة مريم: ١٩/ ٨٢.
433
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ: أَيْ بَلْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، أَيْ بَلْ أَيَقُولُونَ اخْتَلَقَهُ؟ انْتَقَلُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْأُخْرَى. وَالضَّمِيرُ فِي افْتَرَاهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْآيَاتُ. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ، عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، فَاللَّهُ حَسْبِي فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يُعَاقِبُنِي عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْهِلُنِي فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً رَدِّ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِي شَيْئًا. فَكَيْفَ أَفْتَرِيهِ وَأَتَعَرَّضُ لِعِقَابِهِ؟ يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ إِذَا غَضِبَ، وَلَا يَمْلِكُ عِنَانَهُ إِذَا صُمَّ وَمِثْلُهُ: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ «١» ؟ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً «٢». وَمِنْهُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».
ثُمَّ اسْتَسْلَمَ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَنْصَرَ بِهِ فَقَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ: أَيْ تَنْدَفِعُونَ فِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمُرَادُهُ الْحَقُّ، وَتَسْمِيَتِهِ تَارَةً سِحْرًا وَتَارَةً فِرْيَةً. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا، أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ، وَبِهِ فِي مَوْضِعِ الْفَاعِلِ يَكْفِي عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ.
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ: شهيد إليّ بالتبليغ والدعاء إليه، وشهيد عَلَيْكُمْ بِالتَّكْذِيبِ. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ: عِدَةٌ لَهُمْ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ إِنْ رَجَعُوا عَنِ الْكُفْرِ، وَإِشْعَارٌ بِحِلْمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، إِذْ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعِقَابِ، إِذْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ تَهْدِيدًا لَهُمْ فِي أَنْ يُعَاجِلَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ: أَيْ جَاءَ قَبْلِي غَيْرِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْبِدْعُ وَالْبَدِيعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ، أَنْشَدَهُ قُطْرُبٌ:
فَمَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي رِجَالًا عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسِي فَأَسْعَدَ
وَالْبِدْعُ وَالْبَدِيعُ: كَالْخِفِّ وَالْخَفِيفِ، وَالْبِدْعَةُ: مَا اخْتُرِعَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَأَبْدَعَ الشَّاعِرُ: جَاءَ بِالْبَدِيعِ، وَشَيْءٌ بِدْعٌ، بِالْكَسْرِ: أَيْ مُبْتَدَعٌ، وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ: أَيْ بَدِيعٌ، وَقَوْمٌ أَبْدَاعٌ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عبلة: بِفَتْحِ الدَّالِ، جَمْعُ بِدْعَةٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا بِدَعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً عَلَى فِعَلٍ، كَقَوْلِهِمْ: دِينٌ قِيَمٌ وَلَحْمٌ زِيَمٌ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ، إِنْ لَمْ يُنْقَلِ اسْتِعْمَالُهُ عَنِ الْعَرَبِ، لَمْ نُجِزْهُ، لِأَنَّ فِعَلَ فِي الصِّفَاتِ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ سِيبَوَيْهِ إِلَّا عِدَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ:
وَلَا نَعْلَمُهُ جَاءَ صِفَةً إِلَّا فِي حَرْفٍ مُعْتَلٍّ يُوصَفُ بِهِ الْجَمْعُ، وَهُوَ قَوْمٌ عِدَى، وَقَدِ اسْتَدْرَكَ، وَاسْتِدْرَاكُهُ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قِيَمٌ، فَأَصْلُهُ قِيَامٌ وَقِيَمٌ، مَقْصُورٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ اعْتَلَّتِ الْوَاوُ فِيهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا لَصَحَّتْ، كَمَا صَحَّتْ فِي حِوَلٍ وَعِوَضٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: مَكَانٌ
(١) سورة المائدة: ٥/ ١٧.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٤١.
434
سِوَى، وَمَاءٌ رِوَى، وَرَجُلٌ رِضَى، وَمَاءٌ صِرَى، وَسَبْيٌ طِيَبَةٌ، فَمُتَأَوَّلَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُثْبِتُونَ بِهَا فِعَلًا فِي الصِّفَاتِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ: بَدِعًا، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، كَحَذِرٍ.
وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ: أَيْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، أَيْ لَا أَعْلَمُ مَا لِي بِالْغَيْبِ، فَأَفْعَالُهُ تَعَالَى، وما يقدره لِي وَلَكُمْ مِنْ قَضَايَاهُ، لَا أَعْلَمُهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ:
وَمَا أَدْرِي مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ الْغَالِبُ مِنَّا وَالْمَغْلُوبُ؟
وَعَنِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَدْ ضَجِرُوا مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ: حَتَّى مَتَى نَكُونُ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ! أَأَنْزِلُ بِمَكَّةَ؟ أَمْ أُومَرُ بِالْخُرُوجِ إِلَى أَرْضٍ قَدْ رُفِعَتْ وَرَأَيْتُهَا، يَعْنِي فِي مَنَامِهِ، ذَاتَ نَخْلٍ وَشَجَرٍ؟
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ بْنُ مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ: مَعْنَاهُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَبِأَنَّ الْكَافِرِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ قَدْ أَعْلَمَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَوَّلِ الرِّسَالَةِ حَالَ الْكَافِرِ وَحَالَ الْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَا يَلْزَمُ الشَّرِيعَةَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُهُ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ: اسْتِسْلَامٌ وَتَبَرُّؤٌ مِنْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَوُقُوفٌ مَعَ النِّذَارَةِ إِلَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يُفْعَلُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَأَدْرِي مُعَلَّقَةٌ فَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَوْصُولَةٌ مَنْصُوبَةٌ. انْتَهَى. وَالْفَصِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ دَرَى يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَلِذَلِكَ حِينَ عُدِّيَ بِهَمْزَةِ النَّقْلِ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ «١»، فَجَعْلُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَجْوَدُ، وَكَثِيرًا مَا عُلِّقَتْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ، ويفعل مُثْبَتٌ غَيْرُ مَنْفِيٍّ، لَكِنَّهُ قَدِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ النَّفْيُ، لاشتماله على ما ويفعل فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا بِكُمْ. وَلَوْلَا اعْتِبَارُ النَّفْيِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ. أَلَا تَرَى زِيَادَةَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «٢» ؟ لا نسحاب قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «٣» عَلَى يَوَدُّ وَعَلَى مُتَعَلِّقِ يَوَدُّ، وَهُوَ أَنْ يُنَزَّلَ، فَإِذَا انْتَفَتْ وِدَادَةُ التَّنْزِيلِ انْتَفَى التَّنْزِيلُ. وَقَرَأَ ابْنُ عُمَيْرٍ: مَا يُوحِي، بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ: مَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ
(١) سورة يونس: ١٠/ ١٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٠٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٠٥.
435
حَالَكُمْ إِنْ كَانَ كَذَا؟ أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ؟ فَالْأَوَّلُ حَالُكُمْ، وَالثَّانِي أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ فَقَدْ ظَلَمْتُمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ؟
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. انْتَهَى. وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَا تَكُونُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِلَّا بِالْفَاءِ. فَإِنْ كَانَتِ الْأَدَاةُ الْهَمْزَةَ، تَقَدَّمَتِ الْفَاءُ نَحْوُ: إِنْ تَزُرْنَا، أَفَمَا نُحْسِنُ إِلَيْكَ؟ أَوْ غَيْرَهَا تَقَدَّمَتِ الْفَاءُ نَحْوُ: إِنْ تَزُرْنَا، فَهَلْ تَرَى إِلَّا خَيْرًا؟ فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ؟ بِغَيْرِ فَاءٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ الشَّرْطِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَأَرَأَيْتُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُنَبِّهَةً، فَهِيَ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلسُّؤَالِ لَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ: كَانَ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، تَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهَا. انْتَهَى. وَهَذَا خِلَافُ مَا قَرَّرَهُ مُحَقِّقُو النُّحَاةِ فِي أَرَأَيْتُمْ. وَقِيلَ: جَوَابُ الشَّرْطِ.
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ: أَيْ فَقَدْ آمَنَ مُحَمَّدٌ بِهِ، أَوِ الشَّاهِدُ، وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَنْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَقْدِيرُهُ فَمَنْ أَضَلُّ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: فَمَنِ الْمُحِقُّ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَمَنِ الْمُبْطِلُ؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا تَهْلِكُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ اسْمُ كَانَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَعُودُ عَلَى الرَّسُولِ، وَالشَّاهِدُ عَبَدُ لله بْنُ سَلَامٍ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: نَزَلَتْ فِيَّ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، نَزَلَتْ فِيَّ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: الشَّاهِدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا ابْنُ سَلَامٍ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَالْخِطَابُ فِي وَكَفَرْتُمْ بِهِ لِقُرَيْشٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
الشَّاهِدُ مَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، لِأَنَّ ابْنَ سَلَامٍ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص، وَمُجَاهِدٌ، وَفِرْقَةٌ: الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، والشاهد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ غَيْبًا أَبْرَزَهُ الْوُجُودُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مَذْكُورٌ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ بُهْتٌ لِلْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَمِنْ كَذِبِ الْيَهُودِ وَجَهْلِهِمْ بِالتَّارِيخِ، مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ لِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، اجْتَمَعَ بِأَحْبَارِ الْيَهُودِ وَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَحْلَامَهُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ صَاحِبُ دَوْلَةٍ، وَعَمُوا، فَأَصْحَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَقَرَأَ عُلُومَ التَّوْرَاةِ وَفِقْهَهَا مُدَّةً، زَعَمُوا وَأَفْرَطُوا فِي كَذِبِهِمْ، إِلَى أَنْ نَسَبُوا الْفَصَاحَةَ الْمُعْجِزَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ
436
إِلَى تَأْلِيفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا لَمْ تُعْلَمْ لَهُ إِقَامَةٌ بِمَكَّةَ وَلَا تَرَدَّدَ إِلَيْهَا. فَمَا أَكْذَبَ الْيَهُودَ وَأَبْهَتَهُمْ! لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَنَاهِيكَ مِنْ طَائِفَةٍ، مَا ذُمَّ فِي الْقُرْآنِ طَائِفَةٌ مِثْلُهَا.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ، إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ، وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَقَالَةُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ لِأَجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ.
ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا سَبَقُونا، وَلَوْ لَمْ يَنْتَقِلُوا لَكَانَ الْكَلَامُ مَا سُبِقْتُمْ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّ جَمَاعَةً آمَنُوا خَاطَبُوا جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ قَالُوا: لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَغَنَا إِيمَانُهُمْ يُرِيدُونَ عَمَّارًا وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَآمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ: هِيَ مَقَالَةُ كِنَانَةَ وَعَامِرٍ وَسَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرَةِ. قَالَتْ ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَتْ غِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ، أَيْ لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا، مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ الرُّعَاةُ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هِيَ مَقَالَةُ الْيَهُودِ حِينَ أَسْلَمَ ابْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ: أَسْلَمَ أَبُو ذَرٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ غِفَارٌ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ. وَقِيلَ:
أَسْلَمَتْ أَمَةٌ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَضْرِبُهَا، حَتَّى يَفْتُرَ وَيَقُولَ: لَوْلَا أَنِّي فَتَرْتُ لَزِدْتُكِ ضَرْبًا فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: لَوْ كَانَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا، مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ فُلَانَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ كَانَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَلَيْهِ يَعُودُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى. وَقِيلَ: بِهِ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، ظَهَرَ عِنَادُهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ، مُسَبَّبٌ عَنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ ناشىء عَنِ الْعِنَادِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ
437
فِي: إِذْ فَسَيَقُولُونَ، لِحَيْلُولَةِ الفاء، وليعاند زَمَانِ إِذْ وَزَمَانِ سَيَقُولُونَ. إِفْكٌ قَدِيمٌ، كَمَا قَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقِدَمُهُ بِمُرُورِ الْأَعْصَارِ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا طَعَنُوا فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ، قِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِهِ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَأَنْتُمْ لَا تُنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُنَازَعُ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ. إِماماً أَيْ يُهْتَدَى بِهِ، إِنَّ فِيهِ الْبِشَارَةَ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وإرساله، فليزم اتِّبَاعُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَانْتَصَبَ إِمَامًا عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي: وَمِنْ قَبْلِهِ، أَيْ وَكِتَابُ مُوسَى كَانَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ فِي حَالِ كَوْنِهِ إِمَامًا. وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ: كِتَابَ مُوسَى، نَصَبَ وَفَتَحَ مِيمَ مَنْ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وَآتَيْنَا الَّذِي قَبْلَهُ كِتَابَ مُوسَى، وَقِيلَ: انْتَصَبَ إِمَامًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ إِمَامًا، أَيْ قُدْوَةً يُؤْتَمُّ بِهِ، وَرَحْمَةً لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ. كِتابٌ مُصَدِّقٌ لَهُ، أَيْ لِكِتَابِ مُوسَى، وَهِيَ التَّوْرَاةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْ خَبَرَهُ وَخَبَرَ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ. فَجَاءَ هُوَ مُصَدِّقًا لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ، أَوْ مُصَدِّقًا للكتب الإلهية. ولسانا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُصَدِّقٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مُصَدِّقٌ، أَوْ مِنْ كِتَابٌ، إِذْ قَدْ وَصَفَ الْعَامِلُ فِيهِ اسْمَ الْإِشَارَةِ. أَوْ لِسَانًا: حَالُ مَوْطِئِهِ، وَالْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَرَبِيًّا، أَوْ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ ذَا الشَّأْنِ عَرَبِيٌّ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بمصدق أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ مَنْ جَاءَ بِهِ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَذَلِكَ بِإِعْجَازِهِ وَأَحْوَالِهِ الْبَارِعَةِ.
وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ الخافص، أَيْ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ: لِتُنْذِرَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ لِلرَّسُولِ وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ لِيُنْذِرَنَا الْقُرْآنُ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا الْكُفَّارُ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، حَيْثُ وَضَعُوا الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ.
وَبُشْرى، قِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مُصَدِّقٌ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ.
وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلَى لِيُنْذِرَ، أَيْ وَيُبَشِّرَ بُشْرَى. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ وَلِبُشْرَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: وَبُشْرَى فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ لِيُنْذِرَ، لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْمَحَلِّ أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْمَوْضِعِ مَحْرَزٌ. وَالْمَحَلُّ هُنَا لَيْسَ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَرُّ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وإنما النصب ناشىء عَنْ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّحْوِ، وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ فَنَصَبَهُ. وَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْكُفَّارِ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا، عَبَّرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحْسِنِينَ، لِيُقَابِلَ بِلَفْظِ الْإِحْسَانِ لَفْظَ الظُّلْمِ.
438
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ: وَوَصَّيْنَا، إِذْ كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ثَانِيًا أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ، إِذْ
فِي الصَّحِيحِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا قَالَ:
ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ
، وَإِنْ كَانَ عُقُوقُهُمَا ثَانِيَ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، إِذْ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ؟ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»
، وَالْوَارِدُ فِي بَرِّهِمَا كَثِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُسْنًا، بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ
وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعِيسَى:
بِفَتْحِهِمَا
وَعَنْ عِيسَى: بِضَمِّهِمَا وَالْكُوفِيُّونَ: إِحْسَانًا، فَقِيلَ: ضَمَّنَ وَوَصَّيْنَا مَعْنَى أَلْزَمْنَا، فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَانْتَصَبَ حُسْنًا وَإِحْسَانًا عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَصَّيْنَا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ:
إِيصَاءٌ ذَا حُسْنٍ، أَوْ ذَا إِحْسَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُسْنًا بِمَعْنَى إِحْسَانٍ، فَيَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ وَوَصَّيْنَاهُ بِهِمَا لِإِحْسَانِنَا إِلَيْهِمَا، فَيَكُونَ الْإِحْسَانُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَضْمِينِ وَصَّيْنَا مَعْنَى أَحْسَنَّا بِالْوَصِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَنَصَبَ هَذَا يَعْنِي إِحْسَانًا عَلَى الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَالْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي الْمَجْرُورِ وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصَّيْنَا، أَوْ بِقَوْلِهِ: إِحْسَانًا. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِحْسَانًا، لِأَنَّهُ مُصَدَّرٌ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ أَحْسَنَ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِاللَّامِ تَقُولُ: أَحْسَنْتُ لِزَيْدٍ، وَلَا تَقُولُ: أَحْسَنْتُ بِزَيْدٍ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْإِحْسَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «١» فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَانْجَرَّ هُنَا بِالْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ مَزِيدًا لِلْفَائِدَةِ.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً: لبس الْكُرْهُ فِي أَوَّلِ عُلُوقِهَا، بَلْ فِي ثَانِي اسْتِمْرَارِ الْحَمْلِ، إِذْ لَا تَدْبِيرَ لَهَا فِي حَمْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ. انْتَهَى. وَلَا يَلْحَقُهَا كُرْهٌ إِذْ ذَاكَ، فَهَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْمَعْنَى: حَمَلَتْهُ مَشَقَّةً، وَوَضَعَتْهُ مَشَقَّةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْكَافِ وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْفَتْحِ وَبِهِمَا مَعًا: أَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِيسَى وَالضَّمُّ وَالْفَتْحُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالْعَقْرِ وَالْعُقْرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
بِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ، وَبِالْفَتْحِ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ، وَضَعَّفُوا قِرَاءَةَ الْفَتْحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانَ بِالْفَتْحِ، لَرَمَتْ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا إِذْ مَعْنَاهُ: الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ فِي السَّبْعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ لَا تَحْسُنُ، لِأَنَّ الْكَرْهَ بِالْفَتْحِ، النَّصَبُ وَالْغَلَبَةُ. انْتَهَى. وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٨.
439
جَسَارَةً مِنْهُ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَمَلَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوف، أي حملا ذاكره.
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً: أَيْ وَمُدَّةُ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ نَاقِصًا إِمَّا بِأَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتُرْضِعَ عَامَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ تَلِدَ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الْعُرْفِ وَتُرْضِعَ عَامَيْنِ غَيْرَ رُبْعِ عَامٍ. فَإِنْ زَادَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ، نَقَصَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ. فَمُدَّةُ الرَّضَاعِ عَامٌ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِكْمَالُ الْعَامَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ. وَقَدْ كَشَفَتِ التَّجْرِبَةُ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، كَنَصِّ الْقُرْآنِ. وَقَالَ جَالِينُوسُ: كُنْتُ شَدِيدَ الْفَحْصِ عن مقدار زَمَنِ الْحَمْلِ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِمِائَةٍ وَأَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ لَيْلَةً. وَزَعَمَ ابْنُ سِينَا أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ وَأَمَّا أَكْثَرُ الْحَمْلِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ سِينَا فِي الشِّفَاءِ: بَلَغَنِي مِنْ جِهَةِ مَنْ أَثِقُ بِهِ كُلَّ الثِّقَةِ، أَنَّ امْرَأَةً وَضَعَتْ بَعْدَ الرَّابِعِ مِنْ سِنِي الْحَمْلِ، وَلَدَتْ وَلَدًا نَبَتَتْ أَسْنَانُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ لِكُلِّ الْحَيَوَانِ مَضْبُوطَةٌ سِوَى الْإِنْسَانِ، فَرُبَّمَا وَضَعَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَلِثَمَانِيَةٍ، وَقَلَّ مَا يَعِيشُ الْوَلَدُ فِي الثَّامِنِ، إِلَّا فِي بِلَادٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ مِصْرَ. انْتَهَى. وَعَبَّرَ عَنِ الرَّضَاعِ بِالْفِصَالِ، لَمَّا كَانَ الرَّضَاعُ يَلِي الْفِصَالَ وَيُلَابِسُهُ، لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ وَيَتِمُّ، سُمِّيَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَفِصَالُهُ، وَهُوَ مَصْدَرُ فَاصَلَ، كَأَنَّهُ مِنِ اثْنَيْنِ: فَاصَلَ أُمَّهُ وَفَاصَلَتْهُ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَفَصْلُهُ، قِيلَ: وَالْفَصْلُ وَالْفِصَالُ مَصْدَرَانِ، كَالْفَطْمِ وَالْفِطَامِ. وَهُنَا لَطِيفَةٌ:
ذَكَرَ تَعَالَى الْأُمَّ فِي ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ فِي قَوْلِهِ: بِوَالِدَيْهِ وَحَمْلُهُ وَإِرْضَاعُهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِصَالِ، وَذَكَرَ الْوَالِدَ فِي وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: بِوَالِدَيْهِ فَنَاسَبَ مَا قَالَ الرَّسُولُ مِنْ جَعْلِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْبِرِّ لِلْأُمِّ وَالرُّبُعِ لِلْأَبِ
فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ»
.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تكون حتى غاية له، تَقْدِيرُهُ: فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوِ اسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي بَلَغَ أَشُدَّهُ «١» فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالظَّاهِرُ ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: بُلُوغُ الْأَشُدِّ أَرْبَعُونَ، لِعَطْفِ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ، إِلَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيدٌ لِبُلُوغِ الْأَشُدِّ فَيُمْكِنُ وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ وَبُلُوغُ الْأَرْبَعِينَ اكْتِمَالُ الْعَقْلِ لِظُهُورِ الْفَلَاحِ. قِيلَ: وَلَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجُرُّ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَتُبْ وَيَقُولُ: بِأَبِي وجه
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٢.
440
لَا يُفْلِحُ.
قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي: سَأَلَ أَنْ يَجْعَلَ ذُرِّيَّتَهُ مَوْقِعًا لِلصَّلَاحِ وَمَظِنَّةً لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: هَبْ لِيَ الصَّلَاحَ فِي ذُرِّيَّتِي، فَأَوْقَعَهُ فِيهِمْ، أَوْ ضَمَّنَ: وَأَصْلِحْ لِي مَعْنَى: وَالْطُفْ بِي فِي ذُرِّيَّتِي، لِأَنَّ أَصْلِحْ يَقْتَدِي بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ:
وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ «١»، فلذلك احتج قَوْلُهُ: فِي ذُرِّيَّتِي إِلَى التَّأْوِيلِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَتَنَاوَلُ مَنْ بَعْدَهُ، وَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَأَبُوهُ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ. وَلِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا: فَلَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَلَا غَيْرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، وَلِذَلِكَ أشار يقوله: أُولئِكَ جَمْعًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يُتَقَبَّلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَحْسَنُ رَفْعًا، وَكَذَا وَيُتَجَاوَزُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْمَشُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: نَتَقَبَّلُ أَحْسَنَ نَصْبًا، وَنَتَجَاوَزُ بِالنُّونِ فِيهِمَا وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَعِيسَى: بِالْيَاءِ فِيهِمَا مَفْتُوحَةً وَنَصْبِ أَحْسَنَ.
فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ، قِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ وَقِيلَ: هُوَ نَحْوُ قَوْلِكَ: أَكْرَمَنِي الْأَمِيرُ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى كَائِنِينَ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ الصِّدْقِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ، وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالتَّقَبُّلِ وَالتَّجَاوُزِ، لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْسَانَ الْبَارَّ بِوَالِدَيْهِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، ذَكَرَ الْعَاقَّ بِوَالِدَيْهِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِي: الْجِنْسُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ مَجْمُوعًا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْكَافِرُ الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ الْمُنْكِرُ الْبَعْثَ. وَقَوْلُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَاتَّبَعَهُ قَتَادَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَوْلٌ خطأ ناشىء عَنْ جَوْرٍ، حِينَ دَعَا مَرْوَانُ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، إِلَى مُبَايَعَةِ يَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: جَعَلْتُمُوهَا هِرَقْلِيَّةً؟ كُلَّمَا مَاتَ هِرَقْلُ وَلِيَ ابْنُهُ، وَكُلَّمَا مَاتَ قَيْصَرُ وَلِيَ ابْنُهُ؟ فَقَالَ مَرْوَانُ: خُذُوهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ أُخْتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ، وَهِيَ الْمَصْدُوقَةُ: لَمْ يَنْزِلْ فِي آلِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ بَرَاءَتِي وَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ.
وَصَدَّتْ مَرْوَانَ وَقَالَتْ: وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ، فَأَنْتَ فَضَضٌ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَهَذِهِ
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٠.
441
صِفَاتُ الْكُفَّارِ أَهْلِ النَّارِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَسَرَاتِهِمْ وَأَبْطَالِهِمْ، وَمِمَّنْ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ غَنَاءٌ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ.
أُفٍّ لَكُما: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أُفٍّ مَدْلُولًا وَلُغَاتٍ وَقِرَاءَةً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَاللَّامُ فِي لَكُمَا لِلْبَيَانِ، أَيْ لَكُمَا، أَعْنِي: التَّأْفِيفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَتَعِدانِنِي، بِنُونَيْنِ، الْأُولَى مَكْسُورَةٌ وَالْحَسَنُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَفِي رِوَايَةٍ وَهِشَامٌ: بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ، وَجَمَاعَةٌ: بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ:
بِخِلَافٍ عَنْهُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْجَحْدَرِيِّ، وَسَامٌ، عَنْ هِشَامٍ: بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى، كَأَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْكَسْرَتَيْنِ، وَالْيَاءِ إِلَى الْفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ فَفَتَحُوا، كَمَا فَرَّ مَنْ أَدْغَمَ وَمَنْ حَذَفَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَتْحُ النُّونِ بَاطِلٌ غَلَطٌ. أَنْ أُخْرَجَ: أَيْ أُخْرَجَ مِنْ قَبْرِي لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ أُخْرَجَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَالضَّحَّاكُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي: أَيْ مَضَتْ، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا بُعِثَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي مُكَذِّبَةً بِالْبَعْثِ. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ، يُقَالُ: اسْتَغَثْتُ اللَّهَ وَاسْتَغَثْتُ بِاللَّهِ، وَالِاسْتِعْمَالَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَى ابْنِ مَالِكٍ إِنْكَارَ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ، وَذَكَرْنَا شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ، أَيْ يَقُولَانِ: الْغِيَاثُ بِاللَّهِ مِنْكَ وَمِنْ قَوْلِكَ، وَهُوَ اسْتِعْظَامٌ لِقَوْلِهِ: وَيْلَكَ، دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالثُّبُورِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَةُ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: وَيْلَكَ لِمَنْ يُحَقِّرُ وَيُحَرِّكُ لِأَمْرٍ يَسْتَعْجِلُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدَةَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: آمِنْ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا، فَيَقُولُ مَا هَذَا: أَيْ مَا هَذَا الَّذِي يَقُولُ؟ أَيْ مِنَ الْوَعْدِ بِالْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، إِلَّا شَيْءٌ سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشَارٍ إِلَيْهِ قَالَ وَقِيلَ لَهُ، فَنَفَى اللَّهُ أَقْوَالَهُ تَحْذِيرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا.
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسٍ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِي قالَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي مُشَارٍ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي أُولَئِكَ بِمَعْنَى صِنْفِ هَذَا الْمَذْكُورِ وَجِنْسِهِ هُمْ: الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ قَوْلُ اللَّهِ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ فِي أُمَمٍ، أَيْ جُمْلَةِ:
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، يَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ يَمُوتُونَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَالْإِنْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي بَعْضِ مَجَالِسِهِ: الْجِنُّ لَا يَمُوتُونَ، فَاعْتَرَضَهُ قَتَادَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَسَكَتَ.
442
وَقَرَأَ الْعَبَّاسُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّهُمْ كَانُوا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ. وَلِكُلٍّ:
أَيْ مِنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، دَرَجاتٌ غَلَبَ دَرَجَاتٌ، إِذِ الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ، وَالْمَعْنَى: مَنَازِلُ وَمَرَاتِبُ مِنْ جَزَاءِ مَا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمِنْ أَجْلِ مَا عَمِلُوا مِنْهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دَرَجَاتُ الْمُحْسِنِينَ تَذْهَبُ عُلُوًّا، وَدَرَجَاتُ الْمُسِيئِينَ تَذْهَبُ سُفْلًا. انْتَهَى.
وَالْمُعَلِّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ قَدْرَ جَزَائِهِمْ، فَجُعِلَ الثَّوَابُ دَرَجَاتٍ وَالْعِقَابُ دَرَكَاتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلِيُوَفِّيَهُمْ بِالْيَاءِ، أَيْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَعْمَشُ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَخَوَانِ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَنَافِعٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالنُّونِ وَالسُّلَمِيُّ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ، أَيْ وَلِنُوَفِّيَهُمُ الدَّرَجَاتِ، أَسْنَدَ التَّوْفِيَةَ إِلَيْهَا مَجَازًا.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ: أَيْ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ، كَمَا يُقَالُ: عُرِضَ عَلَى السَّيْفِ، إِذَا قُتِلَ بِهِ.
وَالْعَرْضُ: الْمُبَاشَرَةُ، كَمَا تَقُولُ: عَرَضْتُ الْعُودَ عَلَى النَّارِ: أَيْ بَاشَرْتُ بِهِ النَّارَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ عَرْضُ النَّارِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ، يُرِيدُونَ عَرَضَ الْحَوْضَ عَلَيْهَا، فَقَلَبُوا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُجَاءُ بِهِمْ إِلَيْهَا فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنْهَا. انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَلْبِ، إِذِ الصَّحِيحُ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ فِي الشِّعْرِ. وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَاضِحًا مَعَ عَدَمِ الْقَلْبِ، فأي ضرورة ندعو إِلَيْهِ؟ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ، وَلَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَلْبِ، لِأَنَّ عَرْضَ النَّاقَةِ عَلَى الْحَوْضِ، وَعَرْضَ الْحَوْضِ عَلَى النَّاقَةِ، كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ إِذِ الْعَرْضُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَصِحُّ إِسْنَادُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاقَةِ وَالْحَوْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
443
أَذْهَبْتُمْ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَذْهَبْتُمْ، وَلِذَلِكَ حَسُنَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ كَثِيرٍ: بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا مَدَّةٌ مُطَوَّلَةٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، بِهَمْزَتَيْنِ حَقَّقَهُمَا ابْنُ ذَكْوَانَ، وَلَيَّنَ الثَّانِيَةَ هِشَامٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ. وَعَنْ هِشَامٍ: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُلَيَّنَةِ بِأَلِفٍ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيرِ، فَهُوَ خَبَرٌ فِي الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ حَسُنَتِ الْفَاءُ، وَلَوْ كَانَ اسْتِفْهَامًا مَحْضًا لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا: الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمَوَاطِئِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِهِ أَهْلُ الرَّفَاهِيَةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحَرِّضَةٌ عَلَى التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ التَّنَعُّمِ فِيهَا، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي بِهِ رَمَقُ الْحَيَاةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي التَّأَسِّيَ بِهِ. وَعَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ، وَعِزَّةِ نَفْسِهِ الْفَاضِلَةِ عَنْهَا. أَتَظُنُّونَ أَنَّا لَا نَعْرِفُ خَفْضَ الْعَيْشِ؟ وَلَوْ شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا وَصَلَاءً وَصَلَائِقَ، وَلَكِنْ أَسْتَبْقِي حَسَنَاتِي فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ أَقْوَامًا فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ. وَالصِّلَاءُ الشِّوَاءُ وَالصِّفَارُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْخَرْدَلِ وَالزَّبِيبِ، وَالصَّلَائِقُ: الْخُبْزُ الرِّقَاقُ الْعَرِيضُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَذَا مِنْ بَابِ الزُّهْدِ، وَإِلَّا فَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَتْ تَكُونُ لَكُمْ طَيِّبَاتُ الْآخِرَةِ لَوْ آمَنْتُمْ، لَكِنَّكُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا، فَاسْتَعْجَلْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ وَلَوْ أُرِيدَ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يَكُنْ كِنَايَةً عَنْ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بالعذاب. وقرىء: الْهَوَانُ، وَهُوَ وَالْهُونُ بِمَعْنًى واحدة. ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ الْكِنَايَةَ بِقَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ: أَيْ تَتَرَفَّعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ: أَيْ بِمَعَاصِي الْجَوَارِحِ وَقَدَّمَ ذَنْبَ الْقَلْبِ، وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى ذَنْبِ الْجَوَارِحِ إِذْ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ نَاشِئَةٌ عَنْ مُرَادِ الْقَلْبِ.
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ مُسْتَغْرِقِينَ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا، مُعْرِضِينَ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا جَرَى لِلْعَرَبِ الْأُولَى، وَهُمْ قَوْمُ عَادٍ، وكانوا أكثر أموالا رأشد قُوَّةً وَأَعْظَمَ جَاهًا فِيهِمْ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ. وَقَصَصُ مَنْ تَقَدَّمَ تُعْرَفُ بِقُبْحِ الشَّيْءِ وَتَحْسِينِهِ، فَقَالَ لِرَسُولِهِ: وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ، أَهْلِ مَكَّةَ، هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ عَادًا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالْأَحْقافِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مِنْ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رِمَالٌ مُشْرِقَةٌ بِالشِّحْرِ مِنَ الْيَمَنِ. وَقِيلَ: بَيْنَ مَهْرَةَ وَعَدَنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ بِلَادُ الشِّحْرِ الْمُوَاصِلَةِ لِلْبَحْرِ الْيَمَانِيِّ.
444
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ جَبَلٌ بِالشَّامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِلَادَ عَادٍ كَانَتْ بِالْيَمَنِ، وَلَهُمْ كَانَتْ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ «١»، وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ اعْتِبَارٌ لِقُرَيْشٍ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ، إِذْ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، كَمَا كَذَّبَتْ عَادٌ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ:
وَهُوَ جَمْعُ نَذِيرٍ، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي:
النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَهُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا زَمَانَهُ، وَمِنْ خَلْفِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَعْنَى وَمِنْ خَلْفِهِ: أَيْ مِنْ بَعْدِ إِنْذَارِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ إِنْذَارِ قَوْمِهِ وَأَنْ لَا تَعْبُدُوا. وَالْمَعْنَى: وَقَدْ أَنْذَرَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَاذْكُرْهُمْ.
قالُوا أَجِئْتَنا: اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَتَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ لَهُ فِيمَا أَنْذَرَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ عَلَى تَرْكِ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. لِتَأْفِكَنا: لِتَصْرِفَنَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَوْ لِتُزِيلَنَا عَنْ آلِهَتِنَا بِالْإِفْكِ، وَهُوَ الْكَذِبُ، أَيْ عَنْ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا: اسْتِعْجَالٌ مِنْهُمْ بِحُلُولِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ؟ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ: أَيْ عِلْمُ وَقْتِ حُلُولِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ وَقْتِهِ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ اللَّهُ إِلَيْكُمْ. وَلَمَّا تَحَقَّقَ عِنْدَهُ وَعْدُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ حَالٌّ بِهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَتَكْذِيبٍ، قَالَ: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ: أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ لَا شُعُورَ لَكُمْ بِهَا، وَذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَكَانَتْ عَادٌ قَدْ حَبَسَ اللَّهُ عَنْهَا الْمَطَرَ أَيَّامًا، فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَحَابَةً سَوْدَاءَ خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ، فَاسْتَبْشَرُوا. وَالضَّمِيرُ فِي رَأَوْهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: بِما تَعِدُنا، وَهُوَ الْعَذَابُ، وَانْتَصَبَ عَارِضًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الشَّيْءِ الْمَرْئِيِّ الطَّالِعِ عَلَيْهِمُ، الَّذِي فَسَّرَهُ قَوْلُهُ: عارِضاً.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمَّا رَأَوْهُ، فِي الضَّمِيرِ وَجْهَانِ: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا تَعِدُنَا، وَأَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا، قَدْ وَضَحَ أَمْرُهُ بِقَوْلِهِ: عارِضاً، إِمَّا تَمْيِيزٌ وَإِمَّا حَالٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ، لِأَنَّ الْمُبْهَمَ الَّذِي يُفَسِّرُهُ وَيُوَضِّحُهُ التَّمْيِيزُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي بَابِ رُبَّ، نَحْوُ: رُبَّ رَجُلًا لَقِيتُهُ، وَفِي بَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، نَحْوَ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَبِئْسَ غُلَامًا عَمْرٌو. وَأَمَّا أَنَّ الْحَالَ يُوَضِّحُ الْمُبْهَمَ وَيُفَسِّرُهُ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ حَصَرَ النُّحَاةُ المضمر الذي
(١) سورة الفجر: ٨٩/ ٧.
445
يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ مَفْعُولَ رَأَى إِذَا كَانَ ضَمِيرًا، وَلَا أَنَّ الْحَالَ يُفَسِّرُ الضَّمِيرَ وَيُوَضِّحُهُ. وَالْعَارِضُ: الْمُعْتَرِضُ فِي الْجَوِّ مِنَ السَّحَابِ الْمُمْطِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا مَنْ رَأَى عَارِضًا أَرِقْتَ لَهُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
يَا مَنْ رَأَى عَارِضًا قَدْ بث أَرْمُقُهُ كَأَنَّهَا الْبَرْقُ فِي حَافَاتِهَا الشُّعَلُ
مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ: هُوَ جَمْعُ وَادٍ، وَأَفْعِلَةٌ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ. الِاسْمُ شَاذٌّ نَحْوُ: نَادٍ وَأَنْدِيَةٍ، وَجَائِزٍ وَأَجْوِزَةٍ. وَالْجَائِزُ: الْخَشَبَةُ الْمُمْتَدَّةُ فِي أَعْلَى السَّقْفِ، وإضافة مستقبل وممطر إِضَافَةٌ لَا تُعَرِّفُ، فَلِذَلِكَ نُعِتَ بِهِمَا النَّكِرَةُ. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ: أَيْ قَالَ لَهُمْ هُوَ ذَلِكَ، أَيْ بَلْ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ: عارِضٌ مُمْطِرُنا، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ الْعَذَابَ فَاجَأَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: رِيحٌ: أَيْ هِيَ رِيحٌ بَدَلٌ مِنْ هُوَ. وَقَرَأَ: مَا اسْتَعْجَلْتُمْ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَصٌ فِي الرِّيحِ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا هُنَا.
تُدَمِّرُ: أَيْ تُهْلِكُ، وَالدَّمَارُ: الْهَلَاكُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَدْمُرُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ وضم الميم. وقرىء كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ كُلُّ، أَيْ يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَيْ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ مَنْ أُمِرَتْ بِتَدْمِيرِهِ. وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى الرِّيحِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا وَتَصْرِيفَهَا مِمَّا يَشْهَدُ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا مِنْ أَعَاجِيبِ خَلْقِهِ وَأَكَابِرِ جُنُودِهِ. وَذَكَرَ الْأَمْرَ لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَرَى بِتَاءِ الْخِطَابِ، إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ، بِالنَّصْبِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُجَاهِدٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ:
لَا يُرَى بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ مَضْمُومَةٍ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ بِالرَّفْعِ. وَأَبُو رَجَاءٍ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا. وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالسُّلَمِيُّ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَضْمُومَةً مَسَاكِنُهُمْ بِالرَّفْعِ، وَهَذَا لَا يُجِيزُهُ أَصْحَابُنَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَبَعْضُهُمْ يُجِيزُهُ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
كَأَنَّهُ جَمَلٌ هَمٌّ وَمَا بَقِيَتْ إِلَّا النخيرة وَالْأَلْوَاحُ وَالْعَصَبُ
وَقَالَ آخَرُ:
فَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ وَقَرَأَ عِيسَى الْهَمْدَانِيُّ: لَا يُرَى بِضَمِّ الْيَاءِ إِلَّا مَسْكَنُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ
446
الْأَعْمَشِ، وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ. وقرىء: لَا تَرَى، بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ لِلْخِطَابِ، إِلَّا مَسْكَنَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ مُفْرَدًا مَنْصُوبًا، وَاجْتُزِئَ بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ تَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا هَلَكُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ قَوْمِ عَادٍ، خَاطَبَ قُرَيْشًا عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ، وَإِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ فِي الذي ما مكانهم فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْغِنَى وَالْبَسْطِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَمْوَالِ وَلَمْ يَكُنِ النَّفْيُ بِلَفْظِ مَا، كَرَاهَةً لِتَكْرِيرِ اللَّفْظِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: إِنْ شَرْطِيَّةٌ مَحْذُوفَةُ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ طَغَيْتُمْ. وَقِيلَ: إِنْ زَائِدَةٌ بَعْدَ مَا الْمَوْصُولَةِ تَشْبِيهًا بِمَا النَّافِيَةِ وَمَا التَّوْقِيتِيَّةِ، فَهِيَ فِي الْآيَةِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ:
يَرْجَى الْمَرْءُ مَا إِنْ لَا يَرَاهُ وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الْخُطُوبُ
أَيْ مَكَّنَّاهُمْ فِي مِثْلِ الَّذِي مَكَّنَّاكُمْ، فِيهِ، وَكَوْنُهَا نَافِيَةً هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً «١»، وَقَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً «٢»، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّوْبِيخِ وَأَدْخَلُ فِي الْحَثِّ فِي الِاعْتِبَارِ. ثُمَّ عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، حَيْثُ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ.
وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، وَهُوَ بَعِيدٌ كَقَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ أَغْنَى عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَتَكُونُ مِنْ زِيدَتْ فِي الْمُوجَبِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ أَغْنَى. وَيَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لَوْ قُلْتَ: أَكْرَمْتُ زَيْدًا لِإِحْسَانِهِ إِلَيَّ، أَوْ إِذْ أَحْسَنَ إِلَيَّ. اسْتَوَيَا فِي الْوَقْتِ، وَفُهِمَ مِنْ إِذْ مَا فُهِمَ مِنْ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّ إِكْرَامَكَ إِيَّاهُ فِي وَقْتِ إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ، إِنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ إِحْسَانِهِ لَكَ فِيهِ.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ، وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٨٢.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٧٤. [.....]
447
كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى: خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَهُمْ، وَالَّذِي حَوْلَهُمْ مِنَ الْقُرَى: مَأْرِبُ، وَحِجْرُ، ثَمُودُ، وَسَدُومُ. وَيُرِيدُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى:
وَصَرَّفْنَا الْآياتِ، أي الحجج والدلائل والعظات لِأَهْلِ تِلْكَ الْقُرَى، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ: أَيْ فَهَلَّا نَصَرَهُمْ حِينَ جَاءَهُمُ الْهَلَاكُ؟ الَّذِينَ اتَّخَذُوا: أَيِ اتَّخَذُوهُمْ، مِنْ دُونِ اللَّهِ، قُرْباناً: أَيْ فِي حَالِ التَّقَرُّبِ وَجَعْلِهِمْ شُفَعَاءَ. آلِهَةً: وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثاني لا تخذوا، وَالْأَوَّلُ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانًا مَفْعُولًا ثانيا لاتخذوا آلهة بدل مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرْبَانًا حَالٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانًا مَفْعُولًا ثَانِيًا وآلهة بدل مِنْهُ، لِفَسَادِ الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنِ الزَّمَخْشَرِيُّ كَيْفَ يَفْسُدُ الْمَعْنَى، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْرَابِ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قُرْبَانًا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ.
بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ: أَيْ غَابُوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِفْكُهُمْ، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وَضَمِّ الْكَافِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَالْإِفْكُ مَصْدَرٌ أَنْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالصَّبَّاحُ بْنُ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو عِيَاضٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ، وَمُجَاهِدٌ: أَفَكَهُمْ، بِثَلَاثِ فَتَحَاتٍ: أَيْ صَرَفَهُمْ وَأَبُو عِيَاضٍ، وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمَا شَدَّدَا الْفَاءَ لِلتَّكْثِيرِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: آفَكَهُمْ بِالْمَدِّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فَاعَلَ. فَالْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ، فَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَعَلَهُمْ يَأْفِكُونَ، وَيَكُونُ أَفْعَلُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أنه قرىء:
أَفَكُهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْإِفْكِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَى قُطْرُبٌ، وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: آفِكُهُمُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفَكَ، أَيْ صَارَفَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ قَرَأَ: إِفْكُهُمْ مَصْدَرًا إِلَى اتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ آلِهَةً، أَيْ ذَلِكَ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ نُصْرَةِ آلِهَتِهِمْ لَهُمْ وَضَلَالِهِمْ عَنْهُمْ، أَيْ وَذَلِكَ أَثَرُ إِفْكِهِمُ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهَا آلِهَةً، وَثَمَرَةُ شِرْكِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ كَوْنِهِ ذَا شُرَكَاءَ. انْتَهَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ فِعْلًا مَعْنَاهُ: وَذَلِكَ الِاتِّخَاذُ صَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ،
448
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ صَارَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَفْتَرُونَهُ.
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ: وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا:
أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسِيَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، وَذَكَرَ أَنَّ الْجِنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِأَثَرِ قِصَّةِ هُودٍ وَقَوْمِهِ، لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ. وَالْجِنُّ تُوصَفُ أَيْضًا بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ «١». وَإِنَّ مَا أُهْلِكَ بِهِ قَوْمُ هُودٍ هُوَ الرِّيحُ، وَهُوَ مِنَ الْعَالَمِ الَّذِي لَا يُشَاهَدُ، وَإِنَّمَا يُحَسُّ بِهُبُوبِهِ. وَالْجِنُّ أَيْضًا مِنَ الْعَالَمِ الَّذِي لَا يُشَاهَدُ. وَإِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ، فَهَذِهِ تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُنَاسَبَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. وَفِيهَا أَيْضًا تَوْبِيخٌ لِقُرَيْشٍ وَكُفَّارِ الْعَرَبِ، حَيْثُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ، فَكَفَرُوا بِهِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي أُنْزِلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمِنْ جِنْسِ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ جِنٌّ، فَلَيْسُوا مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِمْ سَمَاعُ الْقُرْآنِ وَآمَنُوا بِهِ وَبِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِخِلَافِ قُرَيْشٍ وَأَمْثَالِهَا، فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ.
وَإِذْ صَرَفْنا: وَجَّهْنَا إِلَيْكَ. وَقَرَأَ: صَرَّفْنَا، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَالتَّكْثِيرُ بِحَسْبِ الْحَالِ. نَفَراً مِنَ الْجِنِّ، وَالنَّفَرُ دُونَ الْعَشَرَةِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَنْفَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا سَبْعَةً، مِنْهُمْ زَوْبَعَةُ. وَالَّذِي يَجْمَعُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ، أَنَّ قِصَّةَ الْجِنِّ كَانَتْ مَرَّتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ يَسْتَنْصِرُهُمْ فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا أَصْحَابُ السِّيَرِ.
فَرُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَلَمَّا بُعِثَ الرَّسُولُ، حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُمِيَ الْجِنُّ بِالشُّهُبِ، قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا أَمْرٌ حَدَثَ. وَطَافُوا الْأَرْضَ، فَوَافَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي نَخْلَةَ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَاسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِاسْتِمَاعِهِمْ.
وَالْمَرَّةُ الْأُخْرَى:
أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ الْجِنَّ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَمَنْ يَتْبَعُنِي»، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَأَطْرَقُوا إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمْ يَحْضُرْهُ أَحَدٌ لَيْلَةَ الْجِنِّ غَيْرِي. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي شِعْبِ الْحَجُونِ، خَطَّ لِي خَطًّا وقال:
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٣٩.
449
«لَا تَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ»، ثُمَّ افْتَتَحَ الْقُرْآنَ. وَسَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا حَتَّى خِفْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا أَسْمَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ تَقَطَّعُوا تَقَطُّعَ السَّحَابِ، فَقَالَ لِي: «هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا» ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، رِجَالًا سُودًا مُسْتَثْفِرِي ثِيَابٍ بِيضٍ، فَقَالَ: «أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ». وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَالسُّورَةُ الَّتِي قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وَفِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ لَهُمْ لغطا، فقال: «إنهم تدارؤا فِي قَتِيلٍ لَهُمْ فَحَكَمْتُ بِالْحَقِّ». وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ لَيْلَةَ الْجِنِّ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
فَلَمَّا حَضَرُوهُ: أَيِ الْقُرْآنَ، أَيْ كَانُوا بِمَسْمَعٍ مِنْهُ، وَقِيلَ: حَضَرُوا الرَّسُولَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ إِلَيْكَ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبِ. قالُوا أَنْصِتُوا: أَيِ اسْكُتُوا لِلِاسْتِمَاعِ، وَفِيهِ تَأْدِيبٌ مَعَ الْعِلْمِ وَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلَمَّا قُضِيَ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: قَضَى، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ قَضَى مُحَمَّدٌ مَا قَرَأَ، أَيْ أَتَمَّهُ وَفَرَغَ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَكَانَ إِذَا قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، قَالُوا: لَا شَيْءَ مِنْ آيَاتِ رَبِّنَا نُكَذِّبُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ: تَفَرَّقُوا عَلَى الْبِلَادِ يُنْذِرُونَ الْجِنَّ. قَالَ قَتَادَةُ: مَا أَسْرَعَ مَا عَقَلَ الْقَوْمُ.
انْتَهَى. وَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعَتْ قِصَّةُ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ، وَخُنَافِرَ وأمثالها، حِينَ جَاءَهُمَا رَيَّاهُمَا مِنَ الْجِنِّ، وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِهِمَا.
مِنْ بَعْدِ مُوسى: أَيْ مِنْ بَعْدِ كِتَابِ مُوسَى. قَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا عَلَى مِلَّةِ الْيَهُودِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ تَسْمَعِ الْجِنُّ بِأَمْرِ عِيسَى، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. كَيْفَ لَا تَسْمَعُ بِأَمْرِ عِيسَى وَلَهُ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَنْحَصِرُ عَلَى مِلَّتِهِ؟ فَيَبْعُدُ عَنِ الْجِنِّ كَوْنُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَالُوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى تَنْبِيهًا لِقَوْمِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ مُوسَى، فَقَالُوا: ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، إِذْ كَانَتْ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَالْأَمْرُ بِتَطْهِيرِ الْأَخْلَاقِ. يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ: أَيْ إِلَى مَا هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ صِدْقٌ، يُعْلَمُ ذَلِكَ بِصَرِيحِ العقل. وإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ: غَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا فِي مَوْضِعٍ لَا يُسْتَعْمَلُ الْآخَرُ فِيهِ، فَجَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا وَحَسُنَ التَّكْرَارُ. أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ: هُوَ الرَّسُولُ، وَالْوَاسِطَةُ الْمُبَلِّغَةُ عَنْهُ، وَآمِنُوا بِهِ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ.
450
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ بِالْإِيمَانِ ذُنُوبَ الْمَظَالِمِ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ تَبِعَةٌ.
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ: وَهَذَا كُلُّهُ وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهُمْ ثَوَابٌ وَعَلَيْهِمْ عِقَابٌ، يَلْتَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَزْدَحِمُونَ عَلَى أَبْوَابِهَا. وَقِيلَ:
لَا ثَوَابَ لَهَا إِلَّا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ أَبُو حَنِيفَةَ. فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ:
أَيْ بِفَائِتٍ مِنْ عِقَابِهِ، إِذْ لَا مَنْجَا مِنْهُ، وَلَا مَهْرَبَ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً «١». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: وَلَيْسَ لَهُمْ بِزِيَادَةِ مِيمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَلَمْ يَعْيَ، مُضَارِعَ عَيِيَ، عَلَى وَزْنِ فَعِلَ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْحَسَنُ: وَلَمْ يَعِي، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ فِي الْمَاضِي فُتِحَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَالُوا فِي بَقِيَ: بقا، وهي لغة لطيئ. وَلَمَّا بُنِيَ الْمَاضِي عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، بُنِيَ مُضَارِعُهُ عَلَى يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فجاء يعني. فَلَمَّا دَخَلَ الْجَازِمُ، حَذَفَ الْيَاءَ، فَبَقِيَ يَعْيَ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ، فَسَكَنَتِ الْيَاءُ وَبَقِيَ يَعِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقادِرٍ: اسْمَ فَاعِلٍ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ أَنَّ، وَحَسَّنَ زِيَادَتِهَا كَوْنُ مَا قَبْلَهَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ. وَقَدْ أَجَازَ الزَّجَّاجُ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا بِقَائِمٍ، قِيَاسًا عَلَى هَذَا، وَالصَّحِيحُ قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ، فَكَأَنَّهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ؟
أَلَا تَرَى كَيْفَ جَاءَ بِبَلَى مُقَرِّرًا لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لَا لِرُؤْيَتِهِمْ؟ وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعِيسَى، وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَيَعْقُوبُ: يُقَدِّرُ مُضَارِعًا.
أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْعَذَابِ. أَيْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِأَنَّكُمْ تُعَذَّبُونَ، وَالْمَعْنَى: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَقَوْلِهِمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «٢». قالُوا بَلى وَرَبِّنا، تَصْدِيقٌ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ الْعَدْلُ، فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُجَاوِبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ ذَلِكَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ أَخْبَارِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى بَيْنَهُمَا مُرْتَبِطٌ: أَيْ هَذِهِ حَالُهُمْ مَعَ اللَّهِ. فَلَا تَسْتَعْجِلْ أَنْتَ وَاصْبِرْ، وَلَا تَخَفْ إِلَّا اللَّهَ. وَأُولُو الْعَزْمِ: أَيْ أُولُو الْجِدِّ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ مَنْ حُفِظَ لَهُ شِدَّةٌ مَعَ قَوْمِهِ وَمُجَاهَدَةٌ. فَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ للبيان، أي الذين هم الرُّسُلُ، وَيَكُونُ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ أولي
(١) سورة الجن: ٧٢/ ١٢.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٣٨، وسورة سبأ: ٣٤/ ٣٥، وسورة الصافات: ٣٧/ ٥٩.
451
العزم وأولوا الْعَزْمِ عَلَى التَّبْعِيضِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ رُسُلٌ وَغَيْرُ رُسُلٍ وَعَلَى الْبَيَانِ يَقْتَضِي أَنَّهُمُ الرُّسُلُ، وَكَوْنُهَا لِلتَّبْعِيضِ قَوْلُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالْكَلْبِيِّ، وَلِلْبَيَانِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُمُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ ذِكْرِهِمْ:
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «١». وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ طَوِيلًا، وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ، وَإِسْحَاقُ صَبَرَ نَفْسَهُ عَلَى الذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى الْفَقْدِ لِوَلَدِهِ وَعَمَى بَصَرِهِ وَقَالَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى السِّجْنِ وَالْبِئْرِ، وَأَيُّوبُ عَلَى الْبَلَاءِ. وَزَادَ غَيْرُهُ:
وَمُوسَى قَالَ قَوْمُهُ: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «٢»، وَدَاوُدُ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعِيسَى لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ: إِنَّهَا مَعْبَرٌ، فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمَرُوهَا.
وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ: أَيْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ بِالْعَذَابِ، أَيْ لَا تَدْعُ لَهُمْ بِتَعْجِيلِهِ، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ، وَإِنَّهُمْ مستقصرن حِينَئِذٍ مُدَّةَ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مِنَ النَّهَارِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ نَهَارٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلَاغٌ، بِالرَّفْعِ، وَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى الْمُدَّةَ الَّتِي لَبِثُوا فِيهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ السَّاعَةُ بَلَاغُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَتاعٌ قَلِيلٌ «٣»، فَبَلَاغٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَلَاغٌ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ وَالشَّرْعَ، أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، أَيْ تَبْلِيغٌ وَإِنْذَارٌ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: بَلَاغٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَهُمْ وَيَقِفُ عَلَى فَلَا تَسْتَعْجِلْ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْكِيكَ الْكَلَامِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، إِذْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَهُمْ، أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، وَالْحَيْلُولَةُ الْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُبْتَدَأِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعِيسَى: بَلَاغًا بِالنَّصْبِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ: بَلَاغًا فِي الْقُرْآنِ، أَيْ بُلِّغُوا بَلَاغًا، أَوْ بَلَّغْنَا بَلَاغًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: بَلَاغٍ بِالْجَرِّ، نَعْتًا لِنَهَارٍ.
وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ، وَأَبُو سَرَاحٍ الْهُذَلِيُّ: بَلَّغَ عَلِيٌّ الْأَمْرَ، لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ حَمْلَ بَلَاغٌ رَفْعًا وَنَصْبًا عَلَى أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ تَبْلِيغَ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ. وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَيْضًا: بَلَّغَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُهْلَكُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَعَنْهُ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ، وَمَاضِيهِ هَلِكَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةٌ.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هِيَ مَرْغُوبٌ عَنْهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يُهْلِكُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ.
إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ: بِالنَّصْبِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ وإنذار.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٩٠.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٦١- ٦٢.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ١١٧.
452
Icon