قال مالك، عن الزهري، عن محمد بن جُبَير بن مطعم، عن أبيه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتا - أو قراءة - منه.
أخرجاه من طريق مالك ١ وقال البخاري :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفَل، عن عُرْوَةَ، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال :" طُوفي من وراء الناس وأنت راكبة "، فطفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور ٢.
٢ - (٢) صحيح البخاري برقم (٤٨٥٣) وصحيح مسلم برقم (١٢٧٦)..
ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
قَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا -أَوْ قِرَاءَةً-مِنْهُ.
أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ (١) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَل، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: "طُوفي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ"، فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) ﴾(٢) صحيح البخاري برقم (٤٨٥٣) وصحيح مسلم برقم (١٢٧٦).
وقيل : الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا ؛ ولهذا قال :﴿ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ﴾.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا روح بن جناح، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" في السماء السابعة بيت يقال له :" المعمور " ؛ بحيال الكعبة، وفي السماء الرابعة نهر يقال له :" الحيوان " يدخله جبريل كل يوم، فينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور، فيصلوا ٢ فيه فيفعلون، ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا، ويولي عليهم أحدهم، يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة ".
هذا حديث غريب جدا، تفرد به روح بن جناح هذا، وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي، وقد أنكر هذا الحديث عليه جماعة من الحفاظ منهم : الجوزجاني، والعقيلي، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وغيرهم.
قال الحاكم : لا أصل له من حديث أبي هريرة، ولا سعيد، ولا الزهري ٣
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد بن السُّريّ، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن ٤ عرعرة، أن رجلا قال لعلي : ما البيت المعمور ؟ قال : بيت في السماء يقال له :" الضُّراح " وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، لا٥ يعودون فيه أبدا٦
وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري، عن سِمَاك وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك، ثم رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب، عن طَلْق بن غنام، عن زائدة، عن عاصم، عن علي بن ربيعة قال : سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور، قال : مسجد في السماء يقال له :" الضُّراح "، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم لا يعودون فيه أبدا. ورواه من حديث أبي الطُّفَيْل، عن علي بمثله.
وقال العَوْفي عن ابن عباس : هو بيت حذاء العرش، تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه، وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والربيع بن أنس، والسدي، وغير واحد من السلف.
وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه :" هل تدرون ما البيت المعمور ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم. قال :" فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة، لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم ".
وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم : الحِن ٧، من قبيلة إبليس ٨، فالله أعلم.
٢ - (١) في م: "فيصلون"..
٣ - (٢) ورواه ابن عدي في الكامل (٣/١٤٤) من طريق هشام بن عمار به، وقال: "سمعت ابن حماد يقول: قال السعدي: روح بن جناح ذكر عن الزهري حديثا معضلا في البيت المعمور" ثم ساقه بإسناده وتعقبه بقوله: "ولا يعرف هذا الحديث إلا بروح بن جناح عن الزهري"..
٤ - (٣) في م: "عن"..
٥ - (٤) في م: "ثم لا"..
٦ - (٥) تفسير الطبري (٢٧/١٠).
٧ - (١) في م، أ: "الجن"..
٨ - (٢) تفسير الطبري (٢٧/١١)..
وقال الربيع بن أنس : هو العرش يعني : أنه سقف لجميع المخلوقات، وله اتجاه، وهو يُراد مع غيره كما قاله الجمهور.
وقال العلاء بن بدر : إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يُشرب منه ماء، ولا يسقى به زرع، وكذلك البحار يوم القيامة. كذا رواه عنه ابن أبي حاتم.
وعن سعيد بن جُبير :﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾ يعني : المرسل. وقال قتادة :﴿ [ وَالْبَحْرِ ] الْمَسْجُورِ ﴾ ٤ المملوء. واختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء.
وقيل : المراد به الفارغ، قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، عن ذي الرمة، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾ قال : الفارغ ؛ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت :" إن الحوض مسجور "، تعني : فارغا. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء.
وقيل : المراد بالمسجور : الممنوع المكفوف عن الأرض ؛ لئلا ٥ يغمرها فيغرق أهلها. قاله ٦ علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه يقول السدي وغيره، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد، رحمه الله، في مسنده، فإنه قال :
حدثنا يزيد، حدثنا ٧ العوام، حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال : لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال : حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات، يستأذن الله أن ينفضخ ٨ عليهم، فيكفه الله عز وجل " ٩.
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا الحسن بن سفيان، عن إسحاق بن راهويه، عن يزيد - وهو ابن هارون - عن العوام بن حوشب، حدثني شيخ مرابط قال : خرجت ليلة لحرسي١٠ لم يخرج أحد من الحرس غيري، فأتيت الميناء فصعدت، فجعل يخيل إليَّ أن البحر يشرف يحاذي رءوس الجبال، فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ، فلقيت أبا صالح فقال : حدثنا عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات، يستأذن الله أن ينفضخ عليهم، فيكفه الله عز وجل ". فيه رجل مبهم لم يسم ١١.
٢ - (٤) في م: "فصيرت"..
٣ - (٥) في م: "وعبيد الله بن عمير"..
٤ - (٦) زيادة من م..
٥ - (١) في م: "لا"..
٦ - (٢) في م: "وقال"..
٧ - (٣) في م: "بن"..
٨ - (٤) في م: "ينفضح"..
٩ - (٥) المسند (١/٤٣) ورواه من طريق ابن الجوزي في العلل المتناهية (١/٥٢) وقال: "العوام ضعيف، والشيخ مجهول"..
١٠ - (٦) في م: "لمحرثي"..
١١ - (٧) وذكره المؤلف في مسند عمر (٢/٦٠٨) من رواية الإسماعيلي، وقال: "فيه رجل مبهم لم يسم، والله أعلم بحاله"..
قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا أبي، حدثنا موسى بن داود، عن صالح المري، عن جعفر بن ١ زيد العبدي قال : خرج عمر يَعِسّ المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ :﴿ والطور ﴾ حتى بلغ ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ قال : قسم - ورب الكعبة - حق. فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث مليا، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، رضي الله عنه ٢.
وقال الإمام أبو عبيد في " فضائل القرآن " : حدثنا محمد بن صالح، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن : أن عمر قرأ :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ ٣، فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوما ٤.
٢ - (١٠) وذكره المؤلف في مسند عمر (٢/٦٠٨) من رواية ابن أبي الدنيا وفي إسناده صالح المري، ووقع في مسند عمر "المدني" فإن كان المري فهو ضعيف..
٣ - (١١) زيادة من م..
٤ - (١٢) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص ٦٤)..
كأن مشْيَتَها من بيتِ جَارتها | مَورُ السحابة لا رَيْثٌ ولا عجل ٢ |
٢ - (٢) البيت في تفسير الطبري (٢٧/١٣)..
يُقْسِمُ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ: أَنَّ عَذَابَهُ وَاقِعٌ بِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لَهُ عَنْهُمْ. فَالطُّورُ هُوَ: الْجَبَلُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَشْجَارٌ، مِثْلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَأُرْسِلَ مِنْهُ عِيسَى، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَجَرٌ لَا يُسَمَّى طُورًا، إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: جَبَلٌ.
﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾ قِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ جِهَارًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾. ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ -بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ-: "ثُمَّ رُفِعَ بِي (١) إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ" يَعْنِي: يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ويطوفون، كما
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ: "الْمَعْمُورُ"؛ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ نَهْرٌ يُقَالُ لَهُ: "الْحَيَوَانُ" يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلَّ يَوْمٍ، فَيَنْغَمِسُ فِيهِ انْغِمَاسَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً يَخِرُّ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكَا يُؤْمَرُونَ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، فَيُصَلُّوا (١) فِيهِ فَيَفْعَلُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَيُوَلِّي عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ، يُؤْمَرُ أَنْ يَقِفَ بِهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَوْقِفًا يُسَبِّحُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، تَفَرَّدَ بِهِ رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ هَذَا، وَهُوَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو سَعْدٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ مِنْهُمُ: الْجَوْزَجَانِيُّ، وَالْعُقَيْلِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَصِلَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا سَعِيدٍ، وَلَا الزُّهْرِيِّ (٢)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّاد بْنُ السُّريّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ (٣) عُرْعُرَةَ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَعَلِيٍّ: مَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؟ قَالَ: بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ: "الضُّراح" وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِهَا، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ فِي الْأَرْضِ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَا (٤) يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا (٥)
وَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سِمَاك وَعِنْدَهُمَا أَنَّ ابْنَ الْكُوَّاءِ هُوَ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيب، عَنْ طَلْق بْنِ غَنَّامٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ الْكُوَّاءِ عَلِيًّا عَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، قَالَ: مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ: "الضُّراح"، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْل، عَنْ عَلِيٍّ بِمِثْلِهِ.
وَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ بَيْتٌ حِذَاءَ الْعَرْشِ، تُعَمِّرُهُ الْمَلَائِكَةُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سبعون
(٢) ورواه ابن عدي في الكامل (٣/١٤٤) من طريق هشام بن عمار به، وقال: "سمعت ابن حماد يقول: قال السعدي: روح بن جناح ذكر عنالزهري حديثا معضلا في البيت المعمور" ثم ساقه بإسناده وتعقبه بقوله: "ولا يعرف هذا الحديث إلا بروح بن جناح عن الزهري".
(٣) في م: "عن".
(٤) في م: "ثم لا".
(٥) تفسير الطبري (٢٧/١٠)
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، لَوْ خَرَّ لَخَرَّ عَلَيْهَا، يُصَلَّى فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ".
وَزَعَمَ الضَّحَّاكُ أَنَّهُ يُعَمِّرُهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمْ: الحِن (١)، مِنْ قَبِيلَةِ إِبْلِيسَ (٢)، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ : قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاك، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَة، عَنْ عَلِيٍّ: ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ يَعْنِي: السَّمَاءَ، قَالَ سُفْيَانُ: ثُمَّ تَلَا ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٢]. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْج، وَابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الْعَرْشُ يَعْنِي: أَنَّهُ سَقْفٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ، وَهُوَ يُراد مَعَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ : قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، الَّذِي يُنْزِلُ [اللَّهُ] (٣) مِنْهُ الْمَطَرَ الَّذِي يُحْيِي بِهِ الْأَجْسَادَ فِي قُبُورِهَا يَوْمَ مَعَادِهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ هَذَا الْبَحْرُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الْمَسْجُورِ﴾، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يُوقَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [التَّكْوِيرِ: ٦] أَيْ: أُضْرِمَتْ فَتَصِيرُ (٤) نَارًا تَتَأَجَّجُ، مُحِيطَةً بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ’ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ورُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمير (٥) وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ بَدْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَحْرَ الْمَسْجُورَ لِأَنَّهُ لَا يُشرب مِنْهُ مَاءٌ، وَلَا يُسْقَى بِهِ زَرْعٌ، وَكَذَلِكَ الْبِحَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَذَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ يَعْنِي: الْمُرْسَلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿ [وَالْبَحْرِ] الْمَسْجُورِ﴾ (٦) الْمَمْلُوءُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُوقَدًا الْيَوْمَ فَهُوَ مَمْلُوءٌ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْفَارِغُ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ ذِي الرُّمَّةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ قَالَ: الْفَارِغُ؛ خَرَجَتْ أُمَّةٌ تَسْتَسْقِي فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: "إِنَّ الْحَوْضَ مَسْجُورٌ"، تَعْنِي: فَارِغًا. رَوَاهُ ابْنُ مردويه في مسانيد الشعراء.
(٢) تفسير الطبري (٢٧/١١).
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في م: "فصيرت".
(٥) في م: "وعبيد الله بن عمير".
(٦) زيادة من م.
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا (٣) الْعَوَّامُ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ كَانَ مُرَابِطًا بِالسَّاحِلِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَضِخَ (٤) عَلَيْهِمْ، فَيَكُفُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" (٥).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ-عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مُرَابِطٌ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً لِحَرَسِي (٦) لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ الْحَرَسِ غَيْرِي، فَأَتَيْتُ الْمِينَاءَ فَصَعِدْتُ، فَجَعَلَ يُخَيَّلُ إليَّ أَنَّ الْبَحْرَ يُشْرِفُ يُحَاذِي رُءُوسَ الْجِبَالِ، فُعِلَ ذَلِكَ مِرَارًا وَأَنَا مُسْتَيْقِظٌ، فَلَقِيتُ أَبَا صَالِحٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَضِخَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُفُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ : هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، أَيِ: الْوَاقِعُ (٨) بِالْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، عَنْ صَالِحٌ الْمُرْيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ (٩) زَيْدٍ الْعَبْدِيِّ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ يَعِسّ الْمَدِينَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَمَرَّ بِدَارِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَوَافَقَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَوَقَفَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَقَرَأَ: ﴿وَالطُّورِ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ قَالَ: قَسَمٌ -وَرَبِّ الْكَعْبَةِ-حَقٌّ. فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ وَاسْتَنَدَ إِلَى حَائِطٍ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنْزِلِهِ، فَمَكَثَ شَهْرًا يَعُودُهُ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ مَا مَرَضُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (١٠).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي "فَضَائِلِ الْقُرْآنِ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ (١١)، فَرَبَا لَهَا رَبْوَةً عِيدَ مِنْهَا عِشْرِينَ يَوْمًا (١٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا﴾ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ: تَتَحَرَّكُ تَحْرِيكًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ تَشَقُّقُهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَدُورُ دَوْرًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتِدَارَتُهَا وتحريكها لأمر الله، وموج بعضها في
(٢) في م: "وقال".
(٣) في م: "بن".
(٤) في م: "ينفضح".
(٥) المسند (١/٤٣) ورواه من طريق ابن الجوزي في العلل المتناهية (١/٥٢) وقال: "العوام ضعيف، والشيخ مجهول".
(٦) في م: "لمحرثي".
(٧) وذكره المؤلف في مسند عمر (٢/٦٠٨) من رواية الإسماعيلي، وقال: "فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بحاله".
(٨) في م: "واقع".
(٩) في أ: "عن".
(١٠) وذكره المؤلف في مسند عمر (٢/٦٠٨) من رواية ابن أبي الدنيا وفي إسناده صالح المري، ووقع في مسند عمر "المدني" فإن كان المري فهو ضعيف.
(١١) زيادة من م.
(١٢) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص ٦٤).
كَأَنَّ مشْيَتَها مِنْ بيتِ جَارتها | مَورُ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ (٢) |
﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَيْ: وَيْلٌ لَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَنَكَالِهِ بِهِمْ، وَعِقَابِهِ لَهُمْ.
﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ أَيْ: هُمْ فِي الدُّنْيَا يَخُوضُونَ فِي الْبَاطِلِ، وَيَتَّخِذُونَ دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا.
﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ﴾ أَيْ: يُدْفَعُونَ وَيُسَاقُونَ، ﴿إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ : وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: يُدْفَعُونَ فِيهَا دَفْعًا.
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.
﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا﴾ أَيِ: ادْخُلُوهَا دُخُولَ مَنْ تَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: سَوَاءٌ صَبَرْتُمْ عَلَى عَذَابِهَا وَنَكَالِهَا أَمْ لَمْ تَصْبِرُوا، لَا مَحِيدَ لَكُمْ عَنْهَا وَلَا خَلَاصَ لَكُمْ مِنْهَا (٣)، ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ أَحَدًا، بَلْ يُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ فَقَالَ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾، وَذَلِكَ بِضِدِّ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ.
﴿فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أَيْ: يَتَفَكَّهُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّعِيمِ، مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ، مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ وَمَرَاكِبَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ: وَقَدْ نَجَّاهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلِّةٌ بِذَاتِهَا عَلَى حِدَتِهَا مَعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، الَّتِي فِيهَا مِنَ السُّرُورِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الْحَاقَّةِ: ٢٤]. أَيْ هَذَا بِذَاكَ، تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ﴾ قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو؛ أنه سمع الهيثم بن
(٢) البيت في تفسير الطبري (٢٧/١٣).
(٣) في أ: "فيها".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو ؛ أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه ".
وحدثنا أبي، حدثنا هُدْبَة بن خالد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال : بلغنا أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة، عنده من أزواجه وخدمه وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم، فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك، فيقلن : قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيبا.
ومعنى ﴿ مصفوفة ﴾ أي : وجوه بعضهم إلى بعض، كقوله :﴿ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [ الصافات : ٤٤ ]. ﴿ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ﴾ أي : وجعلناهم قرينات صالحات، وزوجات حسانا من الحور العين.
وقال مجاهد :﴿ وزوجناهم ﴾ : أنكحناهم بحور عين، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هُدْبَة بْنُ خَالِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الرَّجُلَ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً، عِنْدَهُ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ وَمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ، فَإِذَا حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ فَإِذَا أَزْوَاجٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ رَآهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَقُلْنَ: قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ نَصِيبًا.
وَمَعْنَى ﴿مَصْفُوفَةٌ﴾ أَيْ: وُجُوهُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٤٤]. ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ أَيْ: وَجَعَلْنَاهُمْ قَرِينَاتٍ صَالِحَاتٍ، وَزَوْجَاتٍ حِسَانًا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ﴾ : أَنَكَحْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُنَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَامْتِنَانِهِ وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ يُلحقهم بِآبَائِهِمْ فِي الْمَنْزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا عَمَلَهُمْ، لِتَقَرَّ أَعْيُنُ الْآبَاءِ بِالْأَبْنَاءِ عِنْدَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، بِأَنْ يَرْفَعَ النَّاقِصَ الْعَمَلِ، بِكَامِلِ الْعَمَلِ، وَلَا يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَاكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي دَرَجَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة بِهِ (١). وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ بَحْرٍ (٢)، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، فذكره، ثم قال: وقد رواه
(٢) في أ: "يحيى".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزِيدٍ (٢) الْبَيْرُوتِيُّ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ (٣) أَخْبَرَنِي شَيْبَانُ، أَخْبَرَنِي لَيْثٌ، عَنْ حَبِيبٍ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ الْأَسَدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ قَالَ: هُمْ ذُرِّيَّةُ الْمُؤْمِنِ، يَمُوتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ: فَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُ آبَائِهِمْ، أَرْفَعَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ أُلْحِقُوا بِآبَائِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوا شَيْئًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوان، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -أَظُنُّهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ سَأَلَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ. فَيُؤْمَرُ بِإِلْحَاقِهِمْ بِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾ الْآيَةَ (٤).
وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ: وَالَّذِينَ أَدْرَكَ ذُرِّيَّتَهُمُ الْإِيمَانُ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِي، أَلْحَقْتُهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْلَادُهُمُ الصِّغَارُ تَلْحَقُ بِهِمْ.
وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَاكَ مُفَسَّرٌ أَصْرَحَ مِنْ هَذَا. وَهَكَذَا يَقُولُ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَمَدُ بْنُ فُضَيْل، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سألتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ وَلَدَيْنِ مَاتَا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُمَا فِي النَّارِ". فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهَا قَالَ: "لَوْ رَأَيْتِ مَكَانَهُمَا لَأَبْغَضْتِهِمَا". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَلَدِي مِنْكَ. قَالَ: " فِي الْجَنَّةِ". قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي النَّارِ". ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الْآيَةَ] (٥) (٦).
هَذَا فَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبْنَاءِ بِبَرَكَةِ عَمَلِ الْآبَاءِ، وَأَمَّا فَضْلُهُ عَلَى الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ الأبناء، فقد
(٢) في م، أ: "يزيد".
(٣) في م: "شعبة".
(٤) رواه الطبراني في المجمع الكبير (١١/٤٤٠) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ حَدَّثَنَا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به. ورواه في المعجم الصغير برقم (٦٤٠) حدثنا عبد الله بن يزيد الدقيقي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ به. ولم أجد رواية الحسين بن إبراهيم التستري.
(٥) زيادة من م.
(٦) زوائد عبد الله على المسند (١/١٣٤) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢١٧) :"فيه محمد بن عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح".
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ" (١).
إِسْنَادُهُ (٢) صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (٣)
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْفَضْلِ، وَهُوَ رَفْعُ دَرَجَةِ الذُّرِّيَّةِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْعَدْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ، بَلْ ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ أَيْ: مُرَّتُهُنَّ بِعَمَلِهِ، لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ أَبَا أَوِ ابْنًا، كَمَا قَالَ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٣٨ -٤١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أَيْ: وَأَلْحَقْنَاهُمْ بِفَوَاكِهَ وَلُحُومٍ مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى، مِمَّا يُسْتَطَابُ وَيُشْتَهَى.
وَقَوْلُهُ ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا﴾ أَيْ: يَتَعَاطَوْنَ فِيهَا كَأْسًا، أَيْ: مِنَ الْخَمْرِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ﴾ أَيْ: لَا يَتَكَلَّمُونَ عَنْهَا (٤) بِكَلَامٍ لَاغٍ أَيْ: هَذَيَان وَلَا إِثْمٍ أَيْ: فُحْش، كَمَا تَتَكَلَّمُ بِهِ الشَّرَبَةُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّغْوُ: الْبَاطِلُ. وَالتَّأْثِيمُ: الْكَذِبُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْتَبُّونَ وَلَا يُؤَثَّمُونَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشَّيْطَانِ.
فَنَزَّهَ اللَّهُ خَمْرَ الْآخِرَةِ عَنْ قَاذُورَاتِ خَمْرِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا، فَنَفَى عَنْهَا -كَمَا تَقَدَّمَ-صُدَاعَ الرَّأْسِ، وَوَجَعَ الْبَطْنِ، وَإِزَالَةَ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ السَّيِّئِ الْفَارِغِ عَنِ الْفَائِدَةِ الْمُتَضَمِّنِ هَذَيَانا وفُحشا، وَأَخْبَرَ بِحُسْنِ مَنْظَرِهَا، وَطِيبِ طَعْمِهَا وَمَخْبَرِهَا فَقَالَ: ﴿بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٤٦، ٤٧]، وَقَالَ ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ١٩]، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ﴾
(٢) في م: "إسناد".
(٣) صحيح مسلم برقم (١٦٣١).
(٤) في م: "فيها".
وقال ابن عباس : اللغو : الباطل. والتأثيم : الكذب.
وقال مجاهد : لا يستبون ولا يؤثمون.
وقال قتادة : كان ذلك في الدنيا مع الشيطان.
فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها - كما تقدم - صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هَذَيَانا وفُحشا، وأخبر بحسن منظرها، وطيب طعمها ومخبرها فقال :﴿ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ ﴾ [ الصافات : ٤٦، ٤٧ ]، وقال ﴿ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٩ ]، وقال هاهنا :﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ﴾
أي : فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف.
وقد ورد في هذا المقام حديث، رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال : حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن دينار، حدثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان، فيتكئ هذا ويتكئ هذا، فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه : يا فلان، تدري أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله - عز وجل - فغفر لنا ".
ثم قال البزار : لا نعرفه يُرْوَى إلا بهذا الإسناد ٢.
قلت : وسعيد بن دينار الدمشقي قال أبو حاتم : هو مجهول، وشيخه الربيع بن صبيح قد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه، وهو رجل صالح ثقة في نفسه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ، حدثنا وَكيع، عن الأعمش، عن أبي الضحَى، عن مسروق، عن عائشة ؛ أنها قرأت هذه الآية :﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ فقالت : اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش : في الصلاة ؟ قال : نعم٣.
٢ - (٣) مسند البزار برقم (٣٥٥٣) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٤٢١): "رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن دينار والربيع بن صبيح وهما ضعيفان وقد وثقا"..
٣ - (٤) ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في شعيب الإيمان كما في الدر المنثور للسيوطي (٧/٦٣٤)..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ أَيْ: أَقْبَلُوا يَتَحَادَثُونَ وَيَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا كَمَا يَتَحَادَثُ أَهْلُ الشَّرَابِ عَلَى شَرَابِهِمْ إِذَا أَخَذَ فِيهِمُ الشَّرَابُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ.
﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ أَيْ: قَدْ كُنَّا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا وَنَحْنُ بَيْنَ أَهْلِنَا خَائِفِينَ مِنْ رَبِّنَا مُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ أَيْ: فَتَصَدَّقَ عَلَيْنَا وَأَجَارَنَا مِمَّا نَخَافُ.
﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ أَيْ: نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ فَاسْتَجَابَ [اللَّهُ] (٢) لَنَا وَأَعْطَانَا سُؤْلَنَا، ﴿إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَدِيثٌ، رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ اشْتَاقُوا إِلَى الْإِخْوَانِ، فَيَجِيءُ سَرِيرُ هَذَا حَتَّى يُحَاذِيَ سَرِيرَ هَذَا، فَيَتَحَدَّثَانِ، فَيَتَّكِئُ هَذَا وَيَتَّكِئُ هَذَا، فَيَتَحَدَّثَانِ بِمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: يَا فُلَانُ، تَدْرِي أَيَّ يَوْمٍ غَفَرَ اللَّهُ لَنَا؟ يَوْمَ كُنَّا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَدَعَوْنَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-فَغَفَرَ لَنَا".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْرِفُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ (٣).
قُلْتُ: وَسَعِيدُ بْنُ دِينَارٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مَجْهُولٌ، وَشَيْخُهُ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةِ حِفْظِهِ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ ثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأوْدِيّ، حَدَّثَنَا وَكيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّكَ أَنْتَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ. قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ (٤).
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) ﴾
(٢) زيادة من أ.
(٣) مسند البزار برقم (٣٥٥٣) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٤٢١) :"رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن دينار والربيع بن صبيح وهما ضعيفان وقد وثقا".
(٤) ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في شعيب الإيمان كما في الدر المنثور للسيوطي (٧/٦٣٤).
قال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس : إن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم : احتبسوه ١ في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، كما هلك من هلك قبله من الشعراء : زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم. فأنزل الله في ذلك من قولهم :﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ ٢.
٢ - (٤) رواه الطبري في تفسيره (٢٧/١٩) من طريق ابن إسحاق به.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ أَيْ: قَوَارِعُ الدَّهْرِ. وَالْمَنُونُ: الْمَوْتُ: يَقُولُونَ: نُنْظِرُهُ وَنَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ وَمِنْ شَأْنِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ أَيِ: انْتَظِرُوا فَإِنِّي مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ محمد بن إسحاق، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْتَبِسُوهُ (٣) فِي وِثَاقٍ، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلَكَ، كَمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةٌ، إِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ (٤).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا﴾ أَيْ: عُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِهَذَا الَّذِي يَقُولُونَهُ فِيكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَعْلَمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا كَذِبٌ وَزُورٌ؟ ﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أَيْ: وَلَكِنْ هُمْ قَوْمٌ ضُلَّالٌ مُعَانِدُونَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى مَا قَالُوهُ فِيكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ أَيِ: اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، يَعْنُونَ الْقُرْآنَ: قَالَ اللَّهُ: ﴿بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: كُفْرُهُمْ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ (٥) عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ. ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ أَيْ: إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: "تَقوَّله وَافْتَرَاهُ" فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٦) مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مَا جَاءُوا بِمِثْلِهِ، وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ [مِنْ] (٧) مِثْلِهِ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
(٢) في م: "يقوله".
(٣) في أ: "احبسوه".
(٤) رواه الطبري في تفسيره (٢٧/١٩) من طريق ابن إسحاق به
(٥) في م: "حملهم"
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من م.
٢ - (٧) زيادة من م..
هَذَا الْمَقَامُ فِي إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ أَيْ: أَوُجِدُوا مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ؟ أَمْ هُمْ أَوْجَدُوا أَنْفُسَهُمْ؟ أَيْ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الحُمَيديّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثُونِي عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جبير ابن مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في المغرب بالطور، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ (١).
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٢). وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا، وَكَانَ سَمَاعُهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَمَلَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ﴾ أَيْ: أَهُمْ خَلَقُوا السموات وَالْأَرْضَ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلَكِنَّ عَدَمَ إِيقَانِهِمْ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ أَيْ: أَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمُلْكِ وَبِيَدِهِمْ مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ، ﴿أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ أَيُ: الْمُحَاسِبُونَ لِلْخَلَائِقِ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ﴾ أَيْ: مَرْقَاةٌ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ أَيْ: فَلْيَأْتِ الَّذِي يَسْتَمِعُ لَهُمْ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ.
عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، أَيْ: وَلَيْسَ لَهُمْ سَبِيلٌ إِلَى ذَلِكَ، فَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَلَا لَهُمْ دَلِيلٌ.
ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَجَعْلِهِمُ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَاخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ، بِحَيْثُ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. هَذَا وَقَدْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، وَعَبَدُوهُمْ مَعَ اللَّهِ، فَقَالَ: ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا﴾ أَيْ: أُجْرَةٌ عَلَى إِبْلَاغِكَ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ؟ أَيْ: لَسْتَ تَسْأَلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، ﴿فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ أَيْ: فَهُمْ (٣) مِنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَتَبَرَّمُونَ مِنْهُ، وَيُثْقِلُهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ، ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ من أهل السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: أَمْ يريد هؤلاء بقولهم
(٢) صحيح البخاري برقم (٧٦٥)، (٤٠٢٣) وصحيح مسلم برقم (٤٦٣).
(٣) في م، أ: "فإنهم".
﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (٤٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ لِلْمَحْسُوسِ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا﴾ أَيْ: عَلَيْهِمْ يُعَذَّبُونَ بِهِ، لَمَّا صَدَقُوا وَلَمَّا (١) أَيْقَنُوا، بَلْ يَقُولُونَ: هَذَا ﴿سَحَابٌ مَرْكُومٌ﴾ أَيْ: مُتَرَاكِمٌ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الْحِجْرِ: ١٤، ١٥]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ أَيْ: دَعْهُمْ -يَا مُحَمَّدُ- ﴿حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ أَيْ: لَا يَنْفَعُهُمْ كَيْدُهُمْ وَمَكْرُهُمُ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِي الدُّنْيَا، لَا يُجدي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا، ﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ﴾ أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السَّجْدَةِ: ٢١]، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: نُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَبْتَلِيهِمْ فِيهَا بِالْمَصَائِبِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَيُنِيبُونَ (٢)، فَلَا يَفْهَمُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ، بَلْ إِذَا جُلِّيَ عَنْهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ، عَادُوا إِلَى أَسْوَأِ (٣) مَا كَانُوا عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: "إِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ وَعُوفِيَ مَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ الْبَعِيرِ، لَا يَدْرِي فِيمَا عَقَلُوهُ وَلَا فِيمَا أَرْسَلُوهُ" (٤). وَفِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: كَمْ أَعْصِيكَ وَلَا تُعَاقِبُنِي؟ قَالَ اللَّهُ: يَا عَبْدِي، كَمْ أُعَافِيكَ (٥) وَأَنْتَ لَا تَدْرِي؟
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أَيِ: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَلَا تُبَالِهِمْ، فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا وَتَحْتَ كَلَاءَتِنَا، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ إلى الصلاة: سبحانك اللهم
(٢) في أ: "ينسون"
(٣) في أ: "أشر".
(٤) رواه أبو داود في السنن برقم (٣٠٨٩) من حديث عامر الرام رضي الله عنه.
(٥) في م، أ: "أعاقبك".
وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِمَا.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ (١). وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ (٢).
وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ أَيْ: مِنْ نَوْمِكَ مِنْ فِرَاشِكَ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيَتَأَيَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَير (٣) بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي -أَوْ قَالَ: ثُمَّ دَعَا-اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ عَزَمَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى تُقِبِّلَتْ صِلَاتُهُ".
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، بِهِ (٤).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ قَالَ: مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ قَالَ: إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، حدثنا محمد ابن شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرِو الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ؛ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ يَقُولُ: حِينَ تَقُومُ مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ، إِنْ كُنْتَ أَحْسَنْتَ ازْدَدْتَ خَيْرًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا كَفَّارَةً لَهُ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي جَامِعِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَرِي، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْفَقِيرِ؛ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ مَجْلِسِهِ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ غَيْرَهُ يَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ كَفَّارَةُ الْمَجَالِسِ (٥)
وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ مِنْ طُرُقٍ -يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا-بِذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ سُهَيْل بْنِ (٦) أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(٢) المسند (٣/٥٠) وسنن أبي داود برقم (٧٧٥) وسنن الترمذي برقم (٢٤٢) وسنن النسائي (٢/١٣٢) وسنن ابن ماجة برقم (٨٠٤).
(٣) في أ: "عمر".
(٤) المسند (٥/٣١٣) وصحيح البخاري برقم (١١٥٤) وسنن أبي داود برقم (٥٠٦٠) وسنن الترمذي برقم (٣٤١٤) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٦٩٧) وسنن ابن ماجة برقم (٣٨٧٨).
(٥) المصنف برقم (١٩٧٩٦).
(٦) في م: "عن".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ-وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ وَقَالَ: إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ عَلَّلَهُ (٣).
قُلْتُ: عَلَّلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرَعة، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَنَسَبُوا الْوَهْمَ فِيهِ إِلَى ابْنِ جُرَيْج. عَلَى أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ (٤) ابْنِ جُرَيْجٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ (٥) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَاللَّفْظُ لَهُ-وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ هَاشِمٍ (٦) عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي بَرْزَة الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِأُخْرَةٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلًا مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيمَا مَضَى؟! قَالَ: "كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ" (٧).
وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَاللَّهُ (٨) أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيج، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ سَوَاءً (٩) وَرُوِيَ مُرْسَلًا أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ أَنَّهُ قَالَ: "كَلِمَاتُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ أَحَدٌ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ قِيَامِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِلَّا كُفِّرَ بِهِنَّ عَنْهُ، وَلَا يَقُولُهُنَّ فِي مَجْلِسِ خَيْرٍ وَمَجْلِسِ ذِكْرٍ، إِلَّا خُتِمَ لَهُ بِهِنَّ كَمَا يُخْتَمُ بِالْخَاتَمِ عَلَى الصَّحِيفَةِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ" (١٠) وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، وَصَحَّحَهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ (١١) وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِذَلِكَ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ بِذِكْرِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَعِلَلِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ (١٢)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ أَيِ: اذْكُرْهُ وَاعْبُدْهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٧٩].
(٢) في م، أ: "إلا غفر الله له".
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٤٣٣) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٣٠) والمستدرك (١/٥٣٦).
(٤) في أ: "عن".
(٥) سنن أبي داود برقم (٤٨٥٨).
(٦) في أ: "عن أبي هاشم".
(٧) سنن أبي داود برقم (٤٨٥٩) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٥٩) والمستدرك (١/٥٣٧).
(٨) في م: "فالله".
(٩) النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٦٠) والمستدرك (١/٥٣٧).
(١٠) سنن أبي داود برقم (٤٨٥٧).
(١١) المستدرك (١/٥٣٧).
(١٢) وقد ذكرت أحاديث كفارة المجلس عند تفسير الصافات في خاتمتها.
آخر تفسير سورة الطور [والله أعلم] (٨)
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) رواه أبو داود في السنن برقم (١٢٥٨).
(٤) في أ: "غيرهن".
(٥) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٦) ومسلم في صحيحه برقم (١١) من حديث طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٦) صحيح البخاري برقم (١١٦٩) وصحيح مسلم برقم (٧٢٤).
(٧) صحيح مسلم برقم (٧٢٥).
(٨) زيادة من أ.
٢ - (٣) في أ: "أشر"..
٣ - (٤) رواه أبو داود في السنن برقم (٣٠٨٩) من حديث عامر الرام رضي الله عنه..
٤ - (٥) في م، أ: "أعاقبك"..
وقوله :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ قال الضحاك : أي إلى الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهما.
وروى مسلم في صحيحه، عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة١. ورواه أحمد وأهل السنن، عن أبي سعيد وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك٢.
وقال أبو الجوزاء :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ أي : من نومك من فراشك. واختاره ابن جرير : ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد :
حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني عُمَير٣ بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال : رب اغفر لي - أو قال : ثم دعا - استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى تقبلت صلاته ".
وأخرجه البخاري في صحيحه، وأهل السنن، من حديث الوليد بن مسلم، به ٤.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ قال : من كل مجلس.
وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ قال : إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا محمد ابن شعيب، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح ؛ أنه حدثه عن قول الله :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ يقول : حين تقوم من كل مجلس، إن كنت أحسنت ازددت خيرا، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارة له.
وقد قال عبد الرزاق في جامعه : أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجَزَرِي، عن أبي عثمان الفقير ؛ أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. قال معمر : وسمعت غيره يقول : هذا القول كفارة المجالس٥ وهذا مرسل، وقد وردت أحاديث مسندة من طرق - يقوي بعضها بعضا - بذلك، فمن ذلك حديث ابن جُرَيْج، عن سُهَيْل بن٦ أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
من جلس في مجلس فكثر٧ فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر٨ له ما كان في مجلسه ذلك ".
رواه الترمذي - وهذا لفظه - والنسائي في اليوم والليلة، من حديث ابن جريج. وقال الترمذي : حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال : إسناد على شرط مسلم، إلا أن البخاري علله ٩.
قلت : علله الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو حاتم، وأبو زُرَعة، والدارقطني، وغيرهم. ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جُرَيْج. على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ١٠ ابن جريج إلى أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه١١ ورواه أبو داود - واللفظ له - والنسائي، والحاكم في المستدرك، من طريق الحجاج بن دينار، عن هاشم١٢ عن أبي العالية، عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس :" سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ". فقال رجل : يا رسول الله، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ؟ ! قال :" كفارة لما يكون في المجلس " ١٣.
وقد روي مرسلا عن أبي العالية، والله١٤ أعلم. وهكذا رواه النسائي والحاكم، من حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن رافع بن خَدِيج، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء١٥ وروي مرسلا أيضا، والله أعلم. وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو ؛ أنه قال :" كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات، إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر، إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة : سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك " ١٦ وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة، وصححه، ومن رواية جُبَير بن مطعم١٧ ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله، وما يتعلق به، ولله الحمد والمنة١٨
٢ - (٢) المسند (٣/٥٠) وسنن أبي داود برقم (٧٧٥) وسنن الترمذي برقم (٢٤٢) وسنن النسائي (٢/١٣٢) وسنن ابن ماجة برقم (٨٠٤)..
٣ - (٣) في أ: "عمر"..
٤ - (٤) المسند (٥/٣١٣) وصحيح البخاري برقم (١١٥٤) وسنن أبي داود برقم (٥٠٦٠) وسنن الترمذي برقم (٣٤١٤) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٦٩٧) وسنن ابن ماجة برقم (٣٨٧٨)..
٥ - (٥) المصنف برقم (١٩٧٩٦)..
٦ - (٦) في م: "عن"..
٧ - (١) في: "فأكثر"..
٨ - (٢) في م، أ: "إلا غفر الله له"..
٩ - (٣) سنن الترمذي برقم (٣٤٣٣) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٣٠) والمستدرك (١/٥٣٦)..
١٠ - (٤) في أ: "عن"..
١١ - (٥) سنن أبي داود برقم (٤٨٥٨)..
١٢ - (٦) في أ: "عن أبي هاشم"..
١٣ - (٧) سنن أبي داود برقم (٤٨٥٩) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٥٩) والمستدرك (١/٥٣٧)..
١٤ - (٨) في م: "فالله"..
١٥ - (٩) النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٦٠) والمستدرك (١/٥٣٧)..
١٦ - (١٠) سنن أبي داود برقم (٤٨٥٧)..
١٧ - (١١) المستدرك (١/٥٣٧)..
١٨ - (١٢) وقد ذكرت أحاديث كفارة المجلس عند تفسير الصافات في خاتمتها..
وقوله :﴿ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴾ قد تقدم في حديث ابن عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم، أي : عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى١ [ في حديث ]٢ ابن سيلان، عن أبي هريرة مرفوعا :" لا تَدَعُوهما، وإن طردتكم الخيل ". يعني : ركعتي الفجر٣ رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب الإمام أحمد القول بوجوبهما، وهو ضعيف لحديث :" خمس صلوات في اليوم والليلة ". قال : هل علي غيرها٤ ؟ قال :" لا إلا أن تطوع " ٥ وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر٦ وفي لفظ لمسلم :" ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " ٧
آخر تفسير سورة الطور [ والله أعلم ] ٨
٢ - (٢) زيادة من م، أ..
٣ - (٣) رواه أبو داود في السنن برقم (١٢٥٨)..
٤ - (٤) في أ: "غيرهن"..
٥ - (٥) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٦) ومسلم في صحيحه برقم (١١) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه..
٦ - (٦) صحيح البخاري برقم (١١٦٩) وصحيح مسلم برقم (٧٢٤)..
٧ - (٧) صحيح مسلم برقم (٧٢٥)..
٨ - (٨) زيادة من أ..