تفسير سورة الإنفطار

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الإنفطار من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة انفطرت مكية حروفها ثلاثمائة وسبعة وعشرون كلماتها ثمانون آياتها ١٩ ).

(سورة انفطرت)
(مكية حروفها ثلاثمائة وسبعة وعشرون كلماتها ثمانون آياتها ١٩)
[سورة الانفطار (٨٢) : الآيات ١ الى ١٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)
القراآت
فجرت بالتخفيف: ابن شنبوذ عن أهل مكة فَعَدَلَكَ مخففا: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل رَكَّبَكَ كَلَّا مدغما: أبو عمرو وقتيبة عنه يكذبون على الغيبة: يزيد يوم لا بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب.
الآخرون: بالفتح.
الوقوف
انْفَطَرَتْ هـ ك انْتَثَرَتْ هـ ك فُجِّرَتْ هـ ك بُعْثِرَتْ هـ ك وَأَخَّرَتْ هـ ط الْكَرِيمِ هـ لا فَعَدَلَكَ هـ ط بناء على أن الظرف بعده متعلق ب رَكَّبَكَ ومن خفف فَعَدَلَكَ لم يقف بناء على أنه جعل «في» بمعنى «إلى» أي فعدلك إلى أي صورة ما شاء رَكَّبَكَ هـ ط بناء على أن «كلا» توكيد لتحقيق بل ومن جعله ردعا عن الاعتراف لم يقف بِالدِّينِ هـ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف والوصل أجوز إلا من قرأ يكذبون على الغيبة فإنه يقف مطلقا للعدول لَحافِظِينَ هـ لا كاتِبِينَ هـ ك تَفْعَلُونَ هـ نَعِيمٍ هـ ج جَحِيمٍ هـ ج لاحتمال أن ما بعده مستأنف أو صفة جحيم بِغائِبِينَ هـ ط لابتداء النفي أو الاستفهام الدِّينِ هـ يَوْمُ الدِّينِ هـ لا لمن قرأ يوم بالنصب أي ذلك في يوم ومن رفعه على أنه بدل من يوم الدين فلا وقف.
شَيْئاً ط لِلَّهِ هـ ط.
التفسير:
إنه سبحانه يذكر طرفا آخر من أشراط الساعة في هذه السورة. فأوّلها انفطار السماء أي انشقاقها كقوله في الفرقان وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: ٢٥] وكما
457
يجيء في قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] وفيه كذا في قوله وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ إبطال قول من زعم أن الفلكيات لا تنخرق. أما الدليل المعقول الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وهو أن الأجسام متماثلة في الجسمية فيصح على كل واحد منها ما يصح على الباقي لكن السفليات يصح عليها الانخراق فيصح على العلويات أيضا فغير مفيد ولا مقنع، لأن الخصم لو سلم الصحة فله أن ينازع فى الوقوع لمانع كالصورة الفلكية وغيرها. وأما تفجير البحار فقد فسروها بفتح بعضها إلى بعض حتى تصير البحار كلها بحرا واحدا وذلك لتزلزل الأرض وتصدعها حتى يرتفع الحاجز الذي بين البحار الشرقية وبين البحار الغربية. وقد فسره في الكشاف بزوال البرزخ بين العذب والمالح حتى يختلطا وهو تصوّر فاسد نشأ من مجرّد سماع لفظ ارتفاع البرزخ. وعن الحسن: إن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عنده كما مر في السورة المتقدّمة. قال جار الله: بعثر وبحثر بمعنى وهما من البعث والبحث زيد فيهما الراء والمعنى بحثت القبور وأخرج موتاها. ولأهل التأويل أن يحملوا بعثرة القبور على كشف الأسرار والأحوال الخفية، ومعنى التقديم والتأخير قد سبق في القيامة في قوله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: ١٣] والمراد جميع أعمالها وإنما يحصل بها العلم الإجمالي عند الموت أو في أوائل أشراطه ثم يزيد شيئا فشيئا إلى حين مطالعة صحيفة العمل. ولما أخبر عن وقوع الساعة والحشر بين ما يدل عليه عقلا فقال يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ هو الكافر المنكر للبعث عند طائفة لقوله بعد ذلك كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ وقد يخص ببعضهم فروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وعن الكلبي ومقاتل في الأشد بن كلدة. وذلك أنه ضرب النبي ﷺ فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل الآية. والأقرب أنها تتناول جميع العصاة وخصوص السبب لا يقدح في العموم، وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى وصف نفسه في هذا المقام بالكرم وهذا الوصف يقتضي الاغترار به حتى قالت العقلاء: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. وسمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الخدم فقال: أما يهاب هؤلاء الغلمان. فقال:
إنما يهابنا أعداؤنا.
وعن علي رضي الله عنه أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنطر فإذا هو بالباب فقال لم لم تجبني؟ فقال: لثقتي بتحملك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه فأعتقه.
«قال مؤلف الكتاب» : إني في عنفوان الشباب رأيت فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت وقد دار في خلدي أن الله تعالى لو خاطبني بقوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فمادّا أقول؟ ألهمني الله في المنام أن أقول: غرني كرمك يا رب. ثم إني وجدت هذا المعنى قد ذكر في بعض التفاسير. وعن الفضيل بن عياض أنه قال: أقول في الجواب غرتني ستورك المرخاة. وإذا ثبت أن الكرم يقتضي أن يغتر بصاحبه فكيف وقع الإنكار عليه؟
458
والجواب من وجهين: الأول أن كل كريم فهو حكيم لأن إيصال النعم إلى الغير لو لم يكن مبنيا على داعية الحكمة كان تبذيرا لا كرما فكأنه سبحانه قال: كيف اغتررت بكرمي وكرمي حقيقي صادر عن الحكمة وهي تقتضي أن لا يهمل وإن أمهل، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين، وأن يعيد الناس لأجل المجازاة حتى يظهر المحسن من المسيء والبر من الفاجر لا يضيع حقوق الناس؟.
والحاصل أن الكرم بالخلق والتسوية وهي انتصاب القامة أو سلامة الأعضاء، وبالتعديل وهو تناسبها أو جعله مستعدّا لقبول الكمالات لا يقتضي أن لا يعيده إلى الحالة الأولى لأجل المجازاة، بل يجب أن يعيده تتميما للنعمة وإظهارا للحكمة. الثاني أن كرمه السابق بالخلق وغيره لا يوجب كرما لا حقا بالعفو والغفران لجميع المعاصي لأن غاية الكرم هو أن يبتدئ بالنعم من غير عوض ولا غرض، أما الكريم إذا أمر المنعم عليه بشيء وإنه يتلقاه بالعصيان فليس من الكرم أن يغمض عن جرمه بل قد يعدّ ذلك ضعفا وذلة ولا سيما إذا كان المأمور به هو معرفة المنعم ولهذا روي عن عمر مرفوعا «غره جهله». وعن الحسن: غره والله شيطانه الخبيث حتى طمع في الكرم اللاحق لأجل الكرم السابق.
خصوصا إذا لم يكن ممن حصل له معرفة ربه في الدنيا. قال النحويون: «ما» في ما شاءَ مزيدة قلت: وذلك بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فهي مفيدة للتأكيد أي في كل صورة من الصور شاء كقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: ٦] وإنما لم يقل «ففي أي صورة» بالفاء العاطفة على نسق ما تقدّمها لأنها كالبيان بعد ذلك. والجارّ متعلق بركب أي ركبك في أي صورة اقتضتها حكمته أو بمحذوف أي حاصلا في بعض الصور المرادة. وجوّز جار الله أن يتعلق ب فَعَدَلَكَ ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدّلك في صورة عجيبة ثم قال ما شاء أي ركبك ما شاء من التركيب. قال الحسن: منهم من صوّره ليستخلصه له، ومنهم من صوّره ليشغله بغيره. قلت: الأوّلون مظاهر اللطف والجمال، والآخرون مظاهر القهر والجلال. ثم زجرهم عن الاغترار بقوله كَلَّا وهي حرف وضع في اللغة لنفي ما تقدم وتحقيق غيره أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور، ولئن فرض فالله كريم غفار للذنوب، ولئن قدّر أنه معاقب فلعله غير عالم بالجزئيات فكيف يحاسب فنبههم الله تعالى على خطئهم بأن تكذيبهم بالجزاء إنما وقع في حال تسليط الحفظة عليهم، وهذا التكذيب أيضا من جملة ما يكتبونه. أو نقول: لما ردعهم عن الطمع الفارغ والأمل المنكر أضرب عنه إلى ما هو شر منه وهو إنكار الجزاء أصلا. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم إشارة إلى أن أمر الجزاء عند الله تعالى من عظائم الأمور
459
والاشغال. قال بعضهم: من لم يزجره عن المعاصي مراقبة الله إياه كيف يردّه عنها الكرام الكاتبون؟ قلت: لا ريب أن الأول أصل والثاني فرع إلا أن المكلف لإلفه بالمحسوسات يزجره ما هو أقرب إلى عالم الحس أكثر ما يزجره ما هو أقرب إلى عالم الأرواح ولهذا تقع الزواجر والروادع في المدينة الفاضلة. ثم ذكر فائدة كتابة الحفظة وغايتها فقال إِنَّ الْأَبْرارَ إلى آخره. يحكى أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم:
كيف القدوم على الله غدا؟ فقال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. قال: فبكى ثم قال: ليت شعري مالنا عند الله فقال أبو حازم:
اعرض عملك على كتاب الله قال: في أي مكان؟ قال في قوله إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
قال جعفر الصادق: النعيم المعرفة والمشاهدة، والجحيم ظلمات الشهوات.
وقال آخرون: النعيم القناعة والتوكل، والجحيم الطمع والحرص، وقال العارفون: النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بما سواه. وقوله وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ كقوله وما هم بخارجين منها أو أراد ما كانوا يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم فيكون قد بين حال البرزخ كما شرح حال المبدأ والمنتهى. ثم نبه بقوله وَما أَدْراكَ مرتين أن يوم الدين مما لا يكتنه كنه شدته، والخطاب للنبي ﷺ لأنه لم يعرفه إلا بالوحي. وقيل:
للكافر. ثم وصفه مجملا بقوله يَوْمَ لا تَمْلِكُ إلى آخره أي لا ملك ولا تصرف في ذلك بظاهر وحقيقة الإله تعالى.
460
Icon