تفسير سورة التين

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة التين من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
( ٩٥ ) سورة التين مكية
وآياتها ثمان
كلماتها : ٣٤ ؛ حروفها : ١٥٧

﴿ التين والزيتون ﴾ الفاكهة والثمرة المعروفتان ؛ وقيل تجوز بها عن منبتيهما.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والتين والزيتون ( ١ ) وطور سنين ( ٢ ) وهذا البلد الأمين ( ٣ ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( ٤ ) ثم رددناه أسفل سافلين ( ٥ ) ﴾
أقسم الله تعالى بالفاكهة والثمرة المعروفتين، التين الذي نأكله غذاء وفاكهة ودواء، والزيتون الذي نتغذى بثمره، ونعتصر منه الزيت أدما ودواء وبركة، وكلتاهما مما يقتات به ويدخر ؛ وقيل : تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما اللذين عرفا قديما ؛ وهما- كما روى- جبلان قريبان من بيت المقدس ؛ وعلى هذا التجوز يمكن أن يشار بهما إلى كرامة موطن رسول الله عيسى –صلى الله عليه وسلم- ومحل مولده ؛ ثم القسم بالجبل الذي كلم الله تعالى به موسى عليه السلام جبل الطور الذي بسيناء ؛ ثم القسم بالبلد الأمين مكة الذي به المسجد الحرام، أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين ﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.. ﴾١.
والمقسم عليه :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ فما برأ الله جل علاه أقوم من بني البشر ؛ فتبارك ﴿ الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك ﴾٢، ﴿.. وصوركم فأحسن صوركم.. ﴾٣ كما منحنا – هبة منه وإحسانا- رفعة القدر، وعلو الذكر، وامتن علينا بما وهبنا، لكيلا يغفل عن فيضه الغافلون، يقول – تبارك اسمه- :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾٤ وملكنا وذلل لنا عوالم السماء والأرض :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾٥.
وهكذا سوى الله وقوم الآدمي أكرم تسوية حسا ومعنى ؛ ثم قد يتطاول بالبعض العمر، فيدركه خرف الهرم، وضعف المشيب حتى ليبلغ أن لا يعلم بعد علم شيئا ؛ والأكثرون على أن ﴿ أسفل سافلين ﴾ إنما هي دركات النار- أعاذنا منها العزيز الغفار- فمن لم يدرك من بني البشر كرامته، ومن كذب بآيات ربه وجحد نعمته، وانسلخ من عروة ربه الوثقى وهجر شريعته، فليس له إلا الهوان، والدرك الأسفل في السعير والنيران ؛ لقد وصفهم الله تعالى الحق وما ظلمهم :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ﴾٦ ؛ ﴿... ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾٧.
[ ﴿ وفي أحسن تقويم ﴾ في أحسن تعديل شكلا وانتصابا ؛ وقال الأصم : في أكمل عقل وفهم وبيان... وكان بعض الصالحين يقول : إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال، فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال، وهو العفو عن الذنوب، والتجاوز عن العيوب ]٨- وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل، مؤديا للأمر، مهديا بالتمييز... ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما ؛ وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله :( إن الله خلق آدم على صورته ) يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها ؛ وفي رواية :( على صورة الرحمان ) ومن أين تكون للرحمان صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني-٩.
عن ابن عباس ﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ يقول : يرد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله ؛ وهم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
عن عكرمة :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ قال : الشيخ الهرم لم يضره كبره إن ختم الله بأحسن ما كان يعمل ؛ وقال آخرون : بل معنى ذلك رددناه إلى النار في أقبح صورة... وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأن الله- تعالى ذكره- أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول بعد :﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ يعني بعد هذه الحجج ؛ ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكري معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ؛ إنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به وإن لم يكنوا له محسين، وإذ كان كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين، من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن، والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف، وفناء العمر وحدوث الخرف. اهـ.
وخالفه صاحب تفسير القرآن العظيم وقال : ولو كان هذا هو الرد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ؛ لأن الهرم قد يصيب بعضهم ؛ وإنما الرد ما ذكرناه، بقوله تعالى :﴿ والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ﴾١٠. اهـ.
﴿ طور سينين ﴾ الجبل الذي كلم الله تعالى به موسى.
﴿ والتين والزيتون ( ١ ) وطور سنين ( ٢ ) وهذا البلد الأمين ( ٣ ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( ٤ ) ثم رددناه أسفل سافلين ( ٥ ) ﴾
أقسم الله تعالى بالفاكهة والثمرة المعروفتين، التين الذي نأكله غذاء وفاكهة ودواء، والزيتون الذي نتغذى بثمره، ونعتصر منه الزيت أدما ودواء وبركة، وكلتاهما مما يقتات به ويدخر ؛ وقيل : تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما اللذين عرفا قديما ؛ وهما- كما روى- جبلان قريبان من بيت المقدس ؛ وعلى هذا التجوز يمكن أن يشار بهما إلى كرامة موطن رسول الله عيسى –صلى الله عليه وسلم- ومحل مولده ؛ ثم القسم بالجبل الذي كلم الله تعالى به موسى عليه السلام جبل الطور الذي بسيناء ؛ ثم القسم بالبلد الأمين مكة الذي به المسجد الحرام، أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين ﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.. ﴾١.
والمقسم عليه :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ فما برأ الله جل علاه أقوم من بني البشر ؛ فتبارك ﴿ الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك ﴾٢، ﴿.. وصوركم فأحسن صوركم.. ﴾٣ كما منحنا – هبة منه وإحسانا- رفعة القدر، وعلو الذكر، وامتن علينا بما وهبنا، لكيلا يغفل عن فيضه الغافلون، يقول – تبارك اسمه- :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾٤ وملكنا وذلل لنا عوالم السماء والأرض :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾٥.
وهكذا سوى الله وقوم الآدمي أكرم تسوية حسا ومعنى ؛ ثم قد يتطاول بالبعض العمر، فيدركه خرف الهرم، وضعف المشيب حتى ليبلغ أن لا يعلم بعد علم شيئا ؛ والأكثرون على أن ﴿ أسفل سافلين ﴾ إنما هي دركات النار- أعاذنا منها العزيز الغفار- فمن لم يدرك من بني البشر كرامته، ومن كذب بآيات ربه وجحد نعمته، وانسلخ من عروة ربه الوثقى وهجر شريعته، فليس له إلا الهوان، والدرك الأسفل في السعير والنيران ؛ لقد وصفهم الله تعالى الحق وما ظلمهم :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ﴾٦ ؛ ﴿... ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾٧.
[ ﴿ وفي أحسن تقويم ﴾ في أحسن تعديل شكلا وانتصابا ؛ وقال الأصم : في أكمل عقل وفهم وبيان... وكان بعض الصالحين يقول : إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال، فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال، وهو العفو عن الذنوب، والتجاوز عن العيوب ]٨- وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل، مؤديا للأمر، مهديا بالتمييز... ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما ؛ وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله :( إن الله خلق آدم على صورته ) يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها ؛ وفي رواية :( على صورة الرحمان ) ومن أين تكون للرحمان صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني-٩.
عن ابن عباس ﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ يقول : يرد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله ؛ وهم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
عن عكرمة :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ قال : الشيخ الهرم لم يضره كبره إن ختم الله بأحسن ما كان يعمل ؛ وقال آخرون : بل معنى ذلك رددناه إلى النار في أقبح صورة... وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأن الله- تعالى ذكره- أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول بعد :﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ يعني بعد هذه الحجج ؛ ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكري معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ؛ إنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به وإن لم يكنوا له محسين، وإذ كان كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين، من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن، والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف، وفناء العمر وحدوث الخرف. اهـ.
وخالفه صاحب تفسير القرآن العظيم وقال : ولو كان هذا هو الرد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ؛ لأن الهرم قد يصيب بعضهم ؛ وإنما الرد ما ذكرناه، بقوله تعالى :﴿ والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ﴾١٠. اهـ.
﴿ البلد الأمين ﴾ مكة.
﴿ والتين والزيتون ( ١ ) وطور سنين ( ٢ ) وهذا البلد الأمين ( ٣ ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( ٤ ) ثم رددناه أسفل سافلين ( ٥ ) ﴾
أقسم الله تعالى بالفاكهة والثمرة المعروفتين، التين الذي نأكله غذاء وفاكهة ودواء، والزيتون الذي نتغذى بثمره، ونعتصر منه الزيت أدما ودواء وبركة، وكلتاهما مما يقتات به ويدخر ؛ وقيل : تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما اللذين عرفا قديما ؛ وهما- كما روى- جبلان قريبان من بيت المقدس ؛ وعلى هذا التجوز يمكن أن يشار بهما إلى كرامة موطن رسول الله عيسى –صلى الله عليه وسلم- ومحل مولده ؛ ثم القسم بالجبل الذي كلم الله تعالى به موسى عليه السلام جبل الطور الذي بسيناء ؛ ثم القسم بالبلد الأمين مكة الذي به المسجد الحرام، أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين ﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.. ﴾١.
والمقسم عليه :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ فما برأ الله جل علاه أقوم من بني البشر ؛ فتبارك ﴿ الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك ﴾٢، ﴿.. وصوركم فأحسن صوركم.. ﴾٣ كما منحنا – هبة منه وإحسانا- رفعة القدر، وعلو الذكر، وامتن علينا بما وهبنا، لكيلا يغفل عن فيضه الغافلون، يقول – تبارك اسمه- :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾٤ وملكنا وذلل لنا عوالم السماء والأرض :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾٥.
وهكذا سوى الله وقوم الآدمي أكرم تسوية حسا ومعنى ؛ ثم قد يتطاول بالبعض العمر، فيدركه خرف الهرم، وضعف المشيب حتى ليبلغ أن لا يعلم بعد علم شيئا ؛ والأكثرون على أن ﴿ أسفل سافلين ﴾ إنما هي دركات النار- أعاذنا منها العزيز الغفار- فمن لم يدرك من بني البشر كرامته، ومن كذب بآيات ربه وجحد نعمته، وانسلخ من عروة ربه الوثقى وهجر شريعته، فليس له إلا الهوان، والدرك الأسفل في السعير والنيران ؛ لقد وصفهم الله تعالى الحق وما ظلمهم :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ﴾٦ ؛ ﴿... ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾٧.
[ ﴿ وفي أحسن تقويم ﴾ في أحسن تعديل شكلا وانتصابا ؛ وقال الأصم : في أكمل عقل وفهم وبيان... وكان بعض الصالحين يقول : إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال، فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال، وهو العفو عن الذنوب، والتجاوز عن العيوب ]٨- وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل، مؤديا للأمر، مهديا بالتمييز... ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما ؛ وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله :( إن الله خلق آدم على صورته ) يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها ؛ وفي رواية :( على صورة الرحمان ) ومن أين تكون للرحمان صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني-٩.
عن ابن عباس ﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ يقول : يرد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله ؛ وهم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
عن عكرمة :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ قال : الشيخ الهرم لم يضره كبره إن ختم الله بأحسن ما كان يعمل ؛ وقال آخرون : بل معنى ذلك رددناه إلى النار في أقبح صورة... وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأن الله- تعالى ذكره- أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول بعد :﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ يعني بعد هذه الحجج ؛ ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكري معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ؛ إنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به وإن لم يكنوا له محسين، وإذ كان كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين، من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن، والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف، وفناء العمر وحدوث الخرف. اهـ.
وخالفه صاحب تفسير القرآن العظيم وقال : ولو كان هذا هو الرد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ؛ لأن الهرم قد يصيب بعضهم ؛ وإنما الرد ما ذكرناه، بقوله تعالى :﴿ والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ﴾١٠. اهـ.
﴿ أحسن تقويم ﴾ أفضل اعتدال واستواء وإبداع.
﴿ والتين والزيتون ( ١ ) وطور سنين ( ٢ ) وهذا البلد الأمين ( ٣ ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( ٤ ) ثم رددناه أسفل سافلين ( ٥ ) ﴾
أقسم الله تعالى بالفاكهة والثمرة المعروفتين، التين الذي نأكله غذاء وفاكهة ودواء، والزيتون الذي نتغذى بثمره، ونعتصر منه الزيت أدما ودواء وبركة، وكلتاهما مما يقتات به ويدخر ؛ وقيل : تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما اللذين عرفا قديما ؛ وهما- كما روى- جبلان قريبان من بيت المقدس ؛ وعلى هذا التجوز يمكن أن يشار بهما إلى كرامة موطن رسول الله عيسى –صلى الله عليه وسلم- ومحل مولده ؛ ثم القسم بالجبل الذي كلم الله تعالى به موسى عليه السلام جبل الطور الذي بسيناء ؛ ثم القسم بالبلد الأمين مكة الذي به المسجد الحرام، أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين ﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.. ﴾١.
والمقسم عليه :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ فما برأ الله جل علاه أقوم من بني البشر ؛ فتبارك ﴿ الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك ﴾٢، ﴿.. وصوركم فأحسن صوركم.. ﴾٣ كما منحنا – هبة منه وإحسانا- رفعة القدر، وعلو الذكر، وامتن علينا بما وهبنا، لكيلا يغفل عن فيضه الغافلون، يقول – تبارك اسمه- :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾٤ وملكنا وذلل لنا عوالم السماء والأرض :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾٥.
وهكذا سوى الله وقوم الآدمي أكرم تسوية حسا ومعنى ؛ ثم قد يتطاول بالبعض العمر، فيدركه خرف الهرم، وضعف المشيب حتى ليبلغ أن لا يعلم بعد علم شيئا ؛ والأكثرون على أن ﴿ أسفل سافلين ﴾ إنما هي دركات النار- أعاذنا منها العزيز الغفار- فمن لم يدرك من بني البشر كرامته، ومن كذب بآيات ربه وجحد نعمته، وانسلخ من عروة ربه الوثقى وهجر شريعته، فليس له إلا الهوان، والدرك الأسفل في السعير والنيران ؛ لقد وصفهم الله تعالى الحق وما ظلمهم :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ﴾٦ ؛ ﴿... ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾٧.
[ ﴿ وفي أحسن تقويم ﴾ في أحسن تعديل شكلا وانتصابا ؛ وقال الأصم : في أكمل عقل وفهم وبيان... وكان بعض الصالحين يقول : إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال، فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال، وهو العفو عن الذنوب، والتجاوز عن العيوب ]٨- وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل، مؤديا للأمر، مهديا بالتمييز... ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما ؛ وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله :( إن الله خلق آدم على صورته ) يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها ؛ وفي رواية :( على صورة الرحمان ) ومن أين تكون للرحمان صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني-٩.
عن ابن عباس ﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ يقول : يرد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله ؛ وهم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
عن عكرمة :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ قال : الشيخ الهرم لم يضره كبره إن ختم الله بأحسن ما كان يعمل ؛ وقال آخرون : بل معنى ذلك رددناه إلى النار في أقبح صورة... وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأن الله- تعالى ذكره- أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول بعد :﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ يعني بعد هذه الحجج ؛ ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكري معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ؛ إنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به وإن لم يكنوا له محسين، وإذ كان كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين، من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن، والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف، وفناء العمر وحدوث الخرف. اهـ.
وخالفه صاحب تفسير القرآن العظيم وقال : ولو كان هذا هو الرد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ؛ لأن الهرم قد يصيب بعضهم ؛ وإنما الرد ما ذكرناه، بقوله تعالى :﴿ والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ﴾١٠. اهـ.
﴿ رددنا أسفل سافلين ﴾ نرده إلينا يوم القيامة كالحا مقبحا، يهوي إلى الدرك الأسفل ؛ أو يرد بعضهم إلى أرذل العمر، فيدركه خرف الهرم، وضعف المشيب.
﴿ والتين والزيتون ( ١ ) وطور سنين ( ٢ ) وهذا البلد الأمين ( ٣ ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( ٤ ) ثم رددناه أسفل سافلين ( ٥ ) ﴾
أقسم الله تعالى بالفاكهة والثمرة المعروفتين، التين الذي نأكله غذاء وفاكهة ودواء، والزيتون الذي نتغذى بثمره، ونعتصر منه الزيت أدما ودواء وبركة، وكلتاهما مما يقتات به ويدخر ؛ وقيل : تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما اللذين عرفا قديما ؛ وهما- كما روى- جبلان قريبان من بيت المقدس ؛ وعلى هذا التجوز يمكن أن يشار بهما إلى كرامة موطن رسول الله عيسى –صلى الله عليه وسلم- ومحل مولده ؛ ثم القسم بالجبل الذي كلم الله تعالى به موسى عليه السلام جبل الطور الذي بسيناء ؛ ثم القسم بالبلد الأمين مكة الذي به المسجد الحرام، أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين ﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.. ﴾١.
والمقسم عليه :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ فما برأ الله جل علاه أقوم من بني البشر ؛ فتبارك ﴿ الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك ﴾٢، ﴿.. وصوركم فأحسن صوركم.. ﴾٣ كما منحنا – هبة منه وإحسانا- رفعة القدر، وعلو الذكر، وامتن علينا بما وهبنا، لكيلا يغفل عن فيضه الغافلون، يقول – تبارك اسمه- :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾٤ وملكنا وذلل لنا عوالم السماء والأرض :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾٥.
وهكذا سوى الله وقوم الآدمي أكرم تسوية حسا ومعنى ؛ ثم قد يتطاول بالبعض العمر، فيدركه خرف الهرم، وضعف المشيب حتى ليبلغ أن لا يعلم بعد علم شيئا ؛ والأكثرون على أن ﴿ أسفل سافلين ﴾ إنما هي دركات النار- أعاذنا منها العزيز الغفار- فمن لم يدرك من بني البشر كرامته، ومن كذب بآيات ربه وجحد نعمته، وانسلخ من عروة ربه الوثقى وهجر شريعته، فليس له إلا الهوان، والدرك الأسفل في السعير والنيران ؛ لقد وصفهم الله تعالى الحق وما ظلمهم :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ﴾٦ ؛ ﴿... ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾٧.
[ ﴿ وفي أحسن تقويم ﴾ في أحسن تعديل شكلا وانتصابا ؛ وقال الأصم : في أكمل عقل وفهم وبيان... وكان بعض الصالحين يقول : إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال، فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال، وهو العفو عن الذنوب، والتجاوز عن العيوب ]٨- وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل، مؤديا للأمر، مهديا بالتمييز... ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما ؛ وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله :( إن الله خلق آدم على صورته ) يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها ؛ وفي رواية :( على صورة الرحمان ) ومن أين تكون للرحمان صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني-٩.
عن ابن عباس ﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ يقول : يرد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله ؛ وهم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
عن عكرمة :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ قال : الشيخ الهرم لم يضره كبره إن ختم الله بأحسن ما كان يعمل ؛ وقال آخرون : بل معنى ذلك رددناه إلى النار في أقبح صورة... وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأن الله- تعالى ذكره- أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول بعد :﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ يعني بعد هذه الحجج ؛ ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكري معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ؛ إنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به وإن لم يكنوا له محسين، وإذ كان كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين، من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن، والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف، وفناء العمر وحدوث الخرف. اهـ.
وخالفه صاحب تفسير القرآن العظيم وقال : ولو كان هذا هو الرد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ؛ لأن الهرم قد يصيب بعضهم ؛ وإنما الرد ما ذكرناه، بقوله تعالى :﴿ والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ﴾١٠. اهـ.
﴿ آمنوا ﴾ صدقوا واستيقنوا بالله وبما أوجب الإيمان به.
﴿ الصالحات ﴾ الطاعات والبر والقربات، والانتهاء عما نهى الله عنه.
﴿ ممنون ﴾ مقطوع منقوص.
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ( ٦ ) فما يكذبك بعد بالدين ( ٧ ) أليس الله بأحكم الحاكمين( ٨ ) ﴾
نرد من كفر وفجر من جنس الإنسان إلى عذاب غليظ يوم القيامة، وهم يومئذ في دركات النار السفلى كالحين مقبوحين ؛ أما الذين استيقنوا وصدقوا بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به، وعملوا الطاعات والبر والقربات، وانتهوا عما نهى ربنا عنه فلهم ثواب جزيل، وأجر جميل، لا ينقطع ولا يضعف ولا ينقص ؛ ﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ على ما تقدم استثناء متصل من ضمير ﴿ رددناه ﴾ العائد على ﴿ الإنسان ﴾ فإنه في معنى الجمع، فالمؤمنون لا يردون إلى ﴿ أسفل سافلين ﴾ يوم القيامة، ولا تقبح صورهم، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم، وحسنا إلى حسنهم.
وقوله تعالى :﴿ فلهم أجر غير ممنون ﴾ أي غير مقطوع، أو غير ممنون به عليهم، مقرر لما يفيده الاستثناء من خروجهم عن حكم الرد، ومبين لكيفية حالهم ؛ وعلى الأخير- الذي يقول أصحابه : الرد إلى أسفل سافلين : هو الرد إلى أرذل العمر- الاستثناء منقطع... وحمل غير واحد هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمى، كأنه قيل : لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع، أو غير ممنون به عليهم لصبرهم على ما ابتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين إياهم عن النهوض لأداء وظائفهم من العبادة. أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما )، وفي رواية عنه : ثم قرأ صلى الله عليه وسلم :( فلهم أجر غير ممنون ). أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله تبارك وتعالى يقول : إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب عز وجل : إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك ) وهو صحيح١.
﴿ بالدين ﴾ بالجزاء والبعث لملاقاته ؛ أو بالملة التي بعثت بها.
﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ معنى ﴿ ما ﴾ ههنا معنى : من ؛ فمن يكذبك يا محمد بعد هذا الذي جاءك من رب العالمين بطاعة الله تعالى، والكف عن محارمه، ومجازاته العباد على ما عملوا ؟ ! أو : فمن الذي يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له عجيب صنع الله تعالى وبديع خلقه للإنسان، وتصريفه أحواله ؟ !
﴿ بأحكم الحاكمين ﴾ بأقضى من يقضي بالحق ؟ !
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ( ٦ ) فما يكذبك بعد بالدين ( ٧ ) أليس الله بأحكم الحاكمين( ٨ ) ﴾
نرد من كفر وفجر من جنس الإنسان إلى عذاب غليظ يوم القيامة، وهم يومئذ في دركات النار السفلى كالحين مقبوحين ؛ أما الذين استيقنوا وصدقوا بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به، وعملوا الطاعات والبر والقربات، وانتهوا عما نهى ربنا عنه فلهم ثواب جزيل، وأجر جميل، لا ينقطع ولا يضعف ولا ينقص ؛ ﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ على ما تقدم استثناء متصل من ضمير ﴿ رددناه ﴾ العائد على ﴿ الإنسان ﴾ فإنه في معنى الجمع، فالمؤمنون لا يردون إلى ﴿ أسفل سافلين ﴾ يوم القيامة، ولا تقبح صورهم، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم، وحسنا إلى حسنهم.
وقوله تعالى :﴿ فلهم أجر غير ممنون ﴾ أي غير مقطوع، أو غير ممنون به عليهم، مقرر لما يفيده الاستثناء من خروجهم عن حكم الرد، ومبين لكيفية حالهم ؛ وعلى الأخير- الذي يقول أصحابه : الرد إلى أسفل سافلين : هو الرد إلى أرذل العمر- الاستثناء منقطع... وحمل غير واحد هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمى، كأنه قيل : لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع، أو غير ممنون به عليهم لصبرهم على ما ابتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين إياهم عن النهوض لأداء وظائفهم من العبادة. أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما )، وفي رواية عنه : ثم قرأ صلى الله عليه وسلم :( فلهم أجر غير ممنون ). أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله تبارك وتعالى يقول : إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب عز وجل : إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك ) وهو صحيح١.
﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ أما الله أقضى من يقضي بين عباده ؟ ! بلى ! ومن القضاء الحق أن لا يسوي بين المؤمنين والكفار، ولا بين المتقين والفجار ؛ وهنا عمل ولا حساب، وهناك حساب ولا عمل، فمن عدْله سبحانه بين الخلق أن جعل الآخرة للفصل والجزاء ؛ وألف الاستفهام إذا دخلت على النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا ؛ - ﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ أي : أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء ؟ وحيث استحال عدم كونه سبحانه أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء، ... وقيل : الحكم بمعنى القضاء، فهي وعيد للكفار، وأنه عز وجل يحكم عليهم بما هم أهله من العذاب.
وأيا ما كان فالاستفهام على ما قيل : تقرير بما بعد النفي، ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ منكم ﴿ والتين والزيتون ﴾ فانتهى إلى قوله تعالى :﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ فليقل : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين }١. ونقل الطبري- بسنده- عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عباس إذا قرأ :﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ قال : سبحانك اللهم، وبلى... وعن معمر قال : كان قتادة إذا تلا :﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ قال : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ؛ أحسبه كان يرفع ذلك.
١ - من روح المعاني؛ بتصرف..
Icon