تفسير سورة النّور

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة النور من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة النور مدنية وهي أربع وستون آية.

(٢٤) سورة النور
مدينة وهي أربع وستون آية
[سورة النور (٢٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
سُورَةٌ أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة. أَنْزَلْناها صفتها ومن نصبها جعله مفسراً لناصبها فلا يكون له محل إلا إذا قدر اتل أو دونك نحوه وَفَرَضْناها وفرضنا ما فيها من الأحكام، وشدده ابن كثير وأبو عمرو لكثرة فرائضها أو المفروض عليهم، أو للمبالغة في إيجابها. وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتتقون المحارم وقرئ بتخفيف الذال.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أو فيما فرضنا أو أنزلنا حكمهما وهو الجلد، ويجوز أن يرفعا بالإِبتداء والخبر:
فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام بمعنى الّذي، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سورة لأجل الأمر والزان بلا ياء، وإنما قدم الزَّانِيَةُ لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ولأن مفسدته تتحقق بالإِضافة إليها، والجلد ضرب الجلد وهو حكم يخص بمن ليس بمحصن لما دل على أن حد المحصن هو الرجم، وزاد الشافعي عليه تغريب الحر سنة
لقوله عليه الصلاة والسلام «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»
، وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الآخر نسخاً مقبولاً أو مردوداً، وله في العبد ثلاثة أقوال. والإِحصان: بالحرية والبلوغ والعقل والإِصابة في نكاح صحيح، واعتبرت الحنفية الإِسلام أيضاً وهو مردود برجمه عليه الصلاة والسلام يهوديين، ولا يعارضه «من أشرك بالله فليس بمحصن» إذ المراد بالمحصن الذي يقتص له من المسلم. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ رحمة. فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوا فيه، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها».
وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة وقرئت بالمد على فعالة.
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِن الإِيمان يقتضي الجد في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه، وهو من باب التهييج. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب، وال طائِفَةٌ فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة وقيل واحداً واثنان، والمراد جمع يحصل به التشهير.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣]
الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ إذ الغالب أن المائل إلى الزنا
لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة للألفة والتضام، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق. وكان حق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من هو زان أو مشرك. لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن، لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية ولذلك قدم الزاني. وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لأنه تشبه بالفساق وتعرض للتهمة وتسبب لسوء القالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة. وقيل النفي بمعنى النهي، وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها والحكم مخصوص بالسبب الذي ورد فيه، أو منسوخ بقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فإنه يتناول المسافحات، ويؤيده
أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال»
، وقيل المراد بالنكاح الوطء فيؤول إلى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يقذفونهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإِحصان، وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً والقذف بغيره مثل يا فاسق ويا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن، والإِحصان ها هنا بالحرية والبلوغ والعقل والإِسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى، وتخصيص الْمُحْصَناتِ لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الآداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافاً لأبي حنيفة، وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده. وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أي شهادة كانت لأنه مفتر، وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافاً لأبي حنيفة فَإِنْ الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جواباً للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده. أَبَداً ما لم يتب، وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره. وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ المحكوم بفسقهم.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن القذف. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف، والاستثناء راجع إلى أصل الحكم وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل، لأن من تمام التوبة الاستسلام له أو الاستحلال ومحل المستثنى النصب على الاستثناء، وقيل إلى النهي ومحله الجر على البدل من هم في لهم، وقيل إلى الأخيرة ومحله النصب لأنه من موجب وقيل منقطع متصل بما بعده. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علة للاستثناء.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ٧]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ نزلت في هلال بن أمية رأى رجلاً على فراشه، وأنفسهم بدل من شهداء أو صفة لهم على أن إلا بمعنى غير. فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة أحدهم، وأَرْبَعُ نصب على المصدر وقد رفعه حمزة والكسائي وحفص على أنه خبر «شهادة». بِاللَّهِ متعلق بشهادات لأنها أقرب وقيل بشهادة لتقدمها. إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما رماها به من الزنا، وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنه باللام تأكيداً.
وَالْخامِسَةُ والشهادة الخامسة. أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ في الرمي هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف عنه، وحصول الفرقة بينهما بنفسه فرقة فسخ عندنا
لقوله عليه الصلاة والسلام «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً»
. وتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد أن تعرض له فيه وثبوت حد الزنا على المرأة لقوله.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي الحد. أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماني به.
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ في ذلك ورفع الخامسة بالإِبتداء وما بعدها الخبر أو بالعطف على أن تشهد، ونصبها حفص عطفاً على أَرْبَعَ. وقرأ نافع ويعقوب أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ بتخفيف النون فيهما وكسر الضاد وفتح الباء من غَضَبَ ورفع الهاء من اسم اللَّهِ، والباقون بتشديد النون فيهما ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ متروك الجواب للتعظيم أي لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة.
[سورة النور (٢٤) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ بأبلغ ما يكون من الكذب، من الإِفك، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جرع ظفار قد انقطع، فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحداً فجلست كي يرجع إليها منشد، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به. عُصْبَةٌ مِنْكُمْ جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة، يريد عبد الله بن أبي، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم، وهي خبر إن وقوله: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ مستأنف والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والهاء للإِفك. بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصاً به. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه. مِنْهُمْ من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به وَالَّذِي بمعنى الذين. لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطروداً مشهوراً بالنفاق، وحسان أعمى أشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٢ الى ١٣]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣)
لَوْلا هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ. وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغة في التوبيخ وإشعاراً بأن الإِيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم.
وإنما جاز الفصل بين لَوْلا وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله. وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ كما يقول المستيقن المطلع على الحال.
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ من جملة المقول تقريراً لكونه كذباً فإن ما لا حجة عليه كذب عند الله أي في حكمه، ولذلك رتب الحد عليه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لولا هذه لامتناع الشيء لوجود غيره، والمعنى لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإِمهال للتوبة وَرَحْمَتُهُ في الآخرة بالعفو والمغفرة المقدران لكم. لَمَسَّكُمْ عاجلاً. فِيما أَفَضْتُمْ خضتم. فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه اللوم والجلد.
إِذْ ظرف لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ. تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه يقال تلقى القول كتلقفه وتلقنه، قرئ «تتلقونه» على الأصل وتَلَقَّوْنَهُ من لقيه إذا لقفه وتَلَقَّوْنَهُ بكسر حرف المضارعة وتَلَقَّوْنَهُ من إلقائه بعضهم على بعض، وتَلَقَّوْنَهُ و «تألقونه» من الألق والألق وهو الكذب، و «تثقفونه» من ثقفته إذا طلبته فوجدته و «تقفونه» أي تتبعونه. وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ أي وتقولون كلاماً مختصاً بالأفواه بلا مساعدة من القلوب. مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لأنه ليس تعبيراً عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً سهلاً لا تبعة له. وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر واستجرار العذاب، فهذه ثلاثة آثام مترتبة علق بها مس العذاب العظيم، تلقي الإِفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنا ما ينبغي وما يصح لنا. أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا يجوز أن تكون الإِشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه، فإن قذف آحاد الناس محرم شرعاً فضلاً عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. سُبْحانَكَ تعجب من ذلك الإِفك أو ممن يقول ذلك، وأصله أن يذكر عند كل متعجب تنزيهاً لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لكل متعجب، أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريراً لما قبله وتمهيداً لقوله: هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا. أَبَداً ما دمتم أحياء مكلفين. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإِن الإِيمان يمنع عنه وفيه تهييج وتقريع.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالأحوال كلها. حَكِيمٌ في تدابيره ولا يجوز الكشخنة على نبيه ولا يقرره عليها.

[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ يريدون أَنْ تَشِيعَ أن تنشر الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بالحد والسعير إلى غير ذلك. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى الضمائر. وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فعاقبوا في الدنيا على ما دل عليه الظاهر والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب الإِشاعة.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة ولذا عطف قوله: وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ على حصول فضله ورحمته عليهم وحذف الجواب وهو مستغنى عنه بذكره مرة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بإشاعة الفاحشة، وقرئ بفتح الطاء وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة بسكونها. وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ بيان لعلة النهي عن اتباعه، و «الفحشاء» ما أفرط قبحه، و «المنكر» ما أنكره الشرع. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها مَا زَكى ما طهر من دنسها. مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً آخر الدهر. وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بحمله على التوبة وقبولها. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهم. عَلِيمٌ بنياتهم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
وَلا يَأْتَلِ ولا يحلف افتعال من الألية، أو ولا يقصر من الألو، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا «يتأل».
وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين. أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين. وَالسَّعَةِ في المال. وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه. أَنْ يُؤْتُوا على أن لا يُؤْتُوا، أو في أَنْ يُؤْتُوا. وقرئ بالتاء على الالتفات. أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صفات لموصوف واحد، أي ناساً جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك، أو لموصوفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود. وَلْيَعْفُوا عما فرط منهم. وَلْيَصْفَحُوا بالإِغماض عنه. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه.
روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ العفائف. الْغافِلاتِ عما قذفن به. الْمُؤْمِناتِ بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعناً في الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين كابن أبي. لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لما طعنوا فيهن. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا توبة له، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها.
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف، وقرأ حمزة والكسائي بالياء للتقدم والفصل. أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها بغير اختيارهم، أو بظهور آثاره عليها وفي ذلك مزيد تهويل للعذاب.
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ جزاءهم المستحق. وَيَعْلَمُونَ لمعاينتهم الأمر. أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الثابت بذاته الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه، أو ذو الحق البين أي العادل الظاهر عدله ومن كان هذا شأنه ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أي الخبائث يتزوجن الخباث وبالعكس وكذلك أهل الطيب فيكون كالدليل على قوله: أُولئِكَ يعني أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الرسول وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه السلام ولم يقرر عليها، وقيل الْخَبِيثاتُ وَالطَّيِّباتُ من الأقوال والإِشارة إلى «الطيبين» والضمير في يَقُولُونَ للآفكين، أي مبرؤون مما يقولون فيهم أو لِلْخَبِيثِينَ والْخَبِيثاتُ أي مبرؤون من أن يقولوا مثل قولهم. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة، ولقد برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآيات الكريمة مع هذه المبالغة، وما ذلك إلا لإِظهار منصب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإعلاء منزلته.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ التي لا تسكنونها فإن الآجر والمعير أيضاً لا يدخلان إلا بإذن. حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا تستأذنوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له، أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا له استأنس، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الإنس. وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل.
وعنه عليه الصلاة والسلام «التسليم أن يقول السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا رجع».
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حييتم صباحاً أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف.
وروي أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم «أأستأذن على أمي، قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت، قال: أتحب أن تراها عريانة، قالا:
لا، قال: فاستأذن»
.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا
وتعملوا بما هو أصلح لكم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً يأذن لكم. فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ولا تلحوا. هُوَ أَزْكى لَكُمْ الرجوع أطهر لكم عما لا يخلو الإِلحاح والوقوف على الباب عنه من الكراهة وترك المروءة، أو أنفع لدينكم ودنياكم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالربط والحوانيت والخانات والخانقات. فِيها مَتاعٌ استمتاع. لَكُمْ كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لمن دخل مدخلاً لفساد أو تطلع على عورات.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٠]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي ما يكون نحو محرم. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إِلاَّ على أزواجهم أَوْ ما ملكت أيمانهم، ولما كان المستثنى منه كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه وقيد الغض بحرف التبعيض، وقيل حفظ الفروج ها هنا خاصة سترها. ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أنفع لهم أو أطهر لما فيه من البعد عن الريبة.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣١]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال.
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتستر أو التحفظ عن الزنا، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له. إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجاً، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة
وتَحَمُّلِ الشهادة. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ستراً لأعناقهن. وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كرره لبيان من يحل له الإِبداء ومن لا يحل له. إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره. أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإخوان أو لأن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم أَوْ نِسائِهِنَّ يعني المؤمنات فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف. أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ يعم الإِماء والعبيد، لما
روي «أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك».
وقيل المراد بها.
الإِماء وعبد المرأة كالأجنبي منها. أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون، وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئاً من أمور النساء، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إذ لا يكاد يخلوا أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه، في الجاهلية فإنه وإن جب بالإِسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقرأ ابن عامر «أيه المؤمنون» وفي «الزخرف» يا أَيُّهَ الساحر وفي «الرحمن» أَيُّهَ الثقلان بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف، ووقف الباقون بغير الألف. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بسعادة الدارين.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٢]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ لما نهى عما عسى أن يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى، و «أيامى» مقلوب أيايم كيتامى، جمع أيم وهو العزب ذكراً كان أو أنثى بكراً كان أو ثيباً قال:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكح وَإِنْ تَتَأْيَّمِي وَإِنْ كُنْت أَفْتى مِنْكُم أَتَأَيَّم
وتخصيص الصَّالِحِينَ لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ رد لما عسى أن يمنع من النكاح، والمعنى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح، أو وعد من الله بالإِغناء
لقوله صلّى الله عليه وسلّم «اطلبوا الغنى في هذه الآية».
لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ. وَاللَّهُ واسِعٌ ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته. عَلِيمٌ يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته.

[سورة النور (٢٤) : آية ٣٣]

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
وَلْيَسْتَعْفِفِ وليجتهد في العفة وقمع الشهوة. الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكاحاً أسبابه، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه. حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيجدوا ما يتزوجون به. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجماً بنجوم بضم بعضها إلى بعض. مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عبداً كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره فَكاتِبُوهُمْ أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الارفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف، وقد روي مثله مرفوعاً. وقيل صلاحاً في الدين. وقيل مالاً وضعفه ظاهر لفظ ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئاً من أموالهم، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول.
وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع
، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنياً، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري، ويدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية».
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ إماءكم. عَلَى الْبِغاءِ على الزنا، كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت. إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً تعففاً شرط للإِكراه فإنه لا يوجد دونه، وإن جعل شرطاً للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإِكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإِماء كالشاذ النادر. لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لهن أوله إن تاب، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإِكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ يعني الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر في هذا وفي «الطلاق» لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين، أو لأنها بينت الأحكام والحدود. وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أو ومثلاً من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم، وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يعني ما وعظ به في تلك الآيات، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
106
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك: زيد كرم بمعنى ذو كرم، أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء. أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه. أو الذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإِدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكاً فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل، ثم إن هذه الإِدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى إبتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنواراً، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالها على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإِدراكات عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما. مَثَلُ نُورِهِ صفة نوره العجيبة الشأن، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره. كَمِشْكاةٍ كصفة مشكاة، وهي الكوة الغير النافذة. وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإِمالة. فِيها مِصْباحٌ سراج ضخم ثاقب، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ في قنديل من الزجاج. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدرء وفعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه، أو بعض ضوئه بعضاً من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل، وقراءة أبي عمرو والكسائي «درىء» كشريب وقد قرئ به مقلوباً. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ أي إبتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى الزُّجاجَةُ بحذف المضاف، وقرئ «توقد» من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب. لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ تقع الشمس عليها حيناً بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائماً فتحرقها أو في مقيأة تغيب عنها دائماً فتتركها نيئاً
وفي الحديث «لا خير في شجرة ولا نبات في مقيأة ولا خير فيهما في مضحى».
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه. نُورٌ عَلى نُورٍ نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه، الأول: أنه تمثيل للهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها، ويؤيده قراءة أبي: «مثل نور المؤمن»، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة التي منوط بها المعاش والمعاد وهي: الحساسة التي تدرك بها المحسوسات
107
بالحواس الخمس، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى:
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي: «المشكاة»، و «الزجاجة»، و «المصباح»، و «الشجرة»، و «الزيت»، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشمل عليه من المعقولات، والعاقلة كالمصباح لإِضاءتها بالإِدراكات الكلية والمعارف الإِلهية، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإِلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نوراً على نور. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ لهذا النور الثاقب. مَنْ يَشاءُ فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها.
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ إدناء للمعقول من المحسوس توضيحاً وبياناً. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ولمن لم يكترث بها.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
فِي بُيُوتٍ متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بعض بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيراً ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم، أو تمثيلاً لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن لا فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها. وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم. أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ بالبناء أو التعظيم. وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه. يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وقرئ «والابصال» وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر «يسبح» بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه، وقرئ تسبح بالتاء مكسوراً لتأنيث الجمع ومفتوحاً على إسناده إلى أوقات الغدو.
رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ لا تشغلهم معاملة رابحة. وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال
تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار. وَإِقامِ الصَّلاةِ عوض فيه الإِضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإِعلال كقوله:
وَأَخْلَفُوكَ عد الأَمرِ الَّذِي وَعَدُوا وَإِيتاءِ الزَّكاةِ ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. يَخافُونَ يَوْماً مع ما هم عليه من الذكر والطاعة. تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ تضطرب وتتغير من الهول، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتابهم.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون. أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة. وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإِحسان.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ «بقيعات» كديمات في ديمة. يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة. حَتَّى إِذا جاءَهُ جاء ما توهمه ماء أو موضعه. لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مما ظنه. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ عقابه أو زبانيته أو وجده محاسباً إياه. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ استعراضاً أو مجازاة. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب.
روي أنها نزلت في عتبة ابن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإِسلام كفر.
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٠]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كَسَرابٍ وأَوْ للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة. فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء.
يَغْشاهُ يغشى البحر. مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي أمواج مترادفة متراكمة. مِنْ فَوْقِهِ من فوق الموج الثاني.
سَحابٌ غطى النجوم وحجب أنوارها، والجملة صفة أخرى لل بَحْرٍ. ظُلُماتٌ أي هذه ظلمات.
بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وقرأ ابن كثير ظُلُماتٌ بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة ال سَحابٌ إليها في رواية البزي. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ وهي أقرب ما يرى إليه. لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب أن يراها فضلاً أن يراها كقول ذي الرمة:
إِذَا غَيَّرَ النَّأَي المُحِبِّينَ لَمْ يَكد رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً ومن لم
يقدر له الهداية ولم يوفقه لأسبابها. فَما لَهُ مِنْ نُورٍ بخلاف الموفق الذي له نور على نور.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
أَلَمْ تَرَ ألم تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال. أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السموات والأرض، ومَنْ لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال. وَالطَّيْرُ على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله: صَافَّاتٍ فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره.
كُلٌّ كل واحد مما ذكر أو من الطير. قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختياراً أو طبعاً لقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحاً كما ألهمها علوماً دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإنه الخالق لهما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ مرجع الجميع.
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بأن يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض، وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه، وقرأ نافع برواية ورش يُؤَلِّفُ غير مهموز. ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكماً بعضه فوق بعض. فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل، وقرئ من «خلله». وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ من الغمام وكل ما علاك فهو سماء. مِنْ جِبالٍ فِيها من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها. مِنْ بَرَدٍ بيان للجبال والمفعول محذوف أي يُنَزِّلُ مبتدأ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ برداً، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر، وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجاً وإِلا نزل برداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض وينعقد سحاباً. ينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ والضمير لل بَرَدٍ. يَكادُ سَنا بَرْقِهِ ضوء برقه، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين «وبرقه» بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع. يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بأبصار الناظرين إليه من فرط الإِضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد، وقرئ «يَذْهَبُ» على زيادة الباء.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك. إِنَّ فِي ذلِكَ فيما تقدم ذكره. لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ حيوان يدب على الأرض. وقرأ حمزة والكسائي «خالق كل دابة» بالإِضافة. مِنْ ماءٍ هو جزء مادته، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة، وقيل مِنْ ماءٍ متعلق ب دَابَّةٍ وليس بصلة ل خَلَقَ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية وإنما سمي الزحف مشياً على الاستعارة أو المشاكلة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإِنس والطير.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة. يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر بسيطاً ومركباً على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ للحقائق بأنواع الدلائل. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو دين الإِسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ نزلت في بشر المنافق خاصم يهودياً فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليّا رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَأَطَعْنا أي وأطعناهما. ثُمَّ يَتَوَلَّى بالامتناع عن قبول حكمه. فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ بعد قولهم هذا. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاماً من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإِيمان والثابتون عليه.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليحكم النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه الحاكم ظاهراً والمدعو إليه، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه صلّى الله عليه وسلّم في الحقيقة حكم الله تعالى إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فاجأ فريق منهم الإِعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم، وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ أي الحكم لا عليهم. يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، و
إِلَيْهِ صلة ل يَأْتُوا أو ل مُذْعِنِينَ وتقديمه للاختصاص.
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر أو ميل إلى الظلم. أَمِ ارْتابُوا بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك.
أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ في الحكومة. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً وكلاهما باطل، لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلّى الله عليه وسلّم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، وقرئ قَوْلَ بالرفع ولِيَحْكُمَ على البناء للمفعول وإسناده إلى ضمير مصدره على معنى ليفعل الحكم.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن. وَيَخْشَ اللَّهَ على ما صدر عنه من الذنوب. وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره، وقرأ يعقوب وقالون عن نافع بلا ياء وأبو بكر وأبو عمرو بسكون الهاء، وحفص بسكون القاف فشبه تقه بكتف وخفف والهاء ساكنة في الوقف بالاتفاق. فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
إنكار للامتناع عن حكمه. لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
بالخروج عن ديارهم وأموالهم.
لَيَخْرُجُنَ
جواب ل أَقْسَمُوا
على الحكاية. قُلْ لاَّ تُقْسِمُوا
على الكذب. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين على الطاعة النفاقية المنكرة. أو طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
أمثل منها أو لتكن طاعة، وقرئت بالنصب على أطيعوا طاعة. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
فلا يخفى عليه سرائركم.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به على الحكاية مبالغة في تبكيتهم. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على محمد صلّى الله عليه وسلّم. مَا حُمِّلَ من التبليغ. وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ من الامتثال. وَإِنْ تُطِيعُوهُ في حكمه. تَهْتَدُوا إلى الحق. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الموضح لما كلفتم به، وقد أدى وإنما بقي مَّا حُمِّلْتُمْ فإن أديتم فلكم وإن توليتم فعليكم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٥]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم، أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم. كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدءوا كسروا الألف. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وهو الإِسلام بالتقوية والتثبيت. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف. أَمْناً منهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب، وفيه دليل على صحة النبوة للإِخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإِجماع. وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة.
يَعْبُدُونَنِي حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن. لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين. وَمَنْ كَفَرَ ومن ارتد أو كفر هذه النعمة. بَعْدَ ذلِكَ كبعد الوعد أو حصول الخلافة. فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في سائر ما أمركم به ولا يبعد عطف ذلك على أطيعوا الله فإن الفاصل وعد على المأمور به، فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتأكيد وتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ كما علق به الهدى.
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم، وفِي الْأَرْضِ صلة مُعْجِزِينَ. وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحداً معجزاً لله، فيكون مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ مفعوليه أو لا يحسبونهم مُعْجِزِينَ فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين لشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث. وَمَأْواهُمُ النَّارُ عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل: الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار، لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإِعجاز.
وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ المأوى الّذي يصيرون إليه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإِلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإِعراض عنها، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت.
وقيل أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاماً وقت الظهيرة ليدعو عمر، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ
والصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله. ثَلاثَ مَرَّاتٍ في اليوم والليلة مرة. مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت القيام من
المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، ومحله النصب بدلاً من ثلاث مرات أو الرفع خبراً لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ أي ثيابكم لليقظة للقيلولة. مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها أعور المكان ورجل أعور. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي ثَلاثَ بالنصب بدلاً من ثَلاثَ مَرَّاتٍ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين. طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي هم طوافون استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض. كَذلِكَ مثل ذلك التبيين. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الأحكام.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم. حَكِيمٌ فيما شرع لكم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلها، واستدل به من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته، وجوابه أن المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيماً للمماليك فلا يندرجون فيهم. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان.
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل. اللَّاتِي لاَ يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن فيه لكبرهن. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي الثياب الظاهرة كالجلباب، والفاء فيه لأن اللام في الْقَواعِدُ بمعنى اللاتي أو لوصفها بها. غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائه في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم: سفينة بارجة لا غطاء عليها، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ من الوضع لأنه أبعد من التهمة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهن للرجال. عَلِيمٌ بمقصودهن.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذراً من استقذارهم، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب، أو من إجابة من دعوهم إلى
بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلاً عليهم، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإِسلام ثم نسخ بنحو قوله لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ. وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده. وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته
لقوله عليه السلام «أنت ومالك لأبيك»
وقوله عليه السلام «إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه».
أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظاً. وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرئ «مفتاحه». أَوْ صَدِيقِكُمْ أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم، أو كان ذلك في أول الإِسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث ابن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه. أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، ويجوز أن تكون صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم. مُبارَكَةً لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب. طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي «متى لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين».
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ كرره ثلاثاً لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي الحق والخير في الأمور.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون في الإيمان. الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ من صميم قلوبهم. وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ «أمر جميع». لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيأذن لهم، واعتباره في كمال الإِيمان لأنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل والفرار، ولتعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير إذنه ولذلك أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذهاب بغير إذن ليس كذلك. فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ما يعرض لهم من المهام، وفيه أيضاً مبالغة وتضييق الأمر. فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ تفويض للأمر إلى رأي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه فكأن المعنى: فائذن لمن علمت أن له عذراً. وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ بعد الإِذن فإن الاستئذان ولو لعذر قصور لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد.
رَحِيمٌ بالتيسير عليهم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٣]
لاَّ تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
لاَّ تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً في جواز الإِعراض والمساهلة في الإِجابة والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته عليه السلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة. وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت، أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب، أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ ينسلون قليلاً قليلاً من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل. لِواذاً ملاوذة بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتاً خلاف سمته، وعَنْ لتضمنه معنى الإِعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه، وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى، فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر. أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ محنة في الدنيا. أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة واستدل به على أن الأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين، فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٤]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها المكلفون من المخالفة والموافقة والنفاق والإِخلاص، وإنما أكد علمه ب قَدْ لتأكيد الوعيد. وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء، ويجوز أن يكون الخطاب أيضاً مخصوصاً بهم على طريق الإِلتفات، وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم.
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من سوء الأعمال بالتوبيخ والمجازاة عليه. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي».
Icon