تفسير سورة النّمل

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة النمل من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ النَّمْلِ
قوله تعالى: ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)﴾
ابن عرفة: لف ونشر، فمن حيث كونه قرآنا معجزا هو هدى، ومن حيث كونه كتابا مشتملا على البشارة والنذارة هو بشرى للمؤمنين.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١)﴾
من عطف الصفات.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ... (٦)﴾
وقال المفسرون: معناه تؤتى وتعطى.
قال ابن عرفة: بل هو أخص من ذلك، فإن التلقي فيه الإيماء لتقدم سبب له في ذلك.
قوله تعالى: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).
إشارة إلى كمال قربه منه قرب [منزلة ومكانة*]، فإن قلت: الحكمة تستلزم العلم بخلاف العكس، فهلا قال: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)، فيكون تأسيسا، ثم أجاب ابن عرفة: بأنه قصد التشبيه على وصفه بالعلم مرتين: بالمطابقة وباللزوم.
قوله تعالى: ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ... (٧)﴾
وقال تعالى في القصص (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، فإن كانت قصتان في موطنين [فلا سؤال*]، والظاهر أنها قصة واحدة، لكن الجواب: أن المخالفة بين الخبرين: تارة ترجع إلى نفس الخبر، وتارة ترجع إلى لازمه، مثال الأول: قد [قرئ*] في هذا البيت، ثم تقول: قرأ في البيت سورة يس، فهذا لَا تناقض فيها، لأنها مخالفة بالعموم والخصوص، وتارة تقول: قد [قرئ*] في هذا البيت لكن لَا يسمع، ويقول آخر: قد [قرئ*] في هذا البيت ليسمع، فهذا [تناقض*] ولا شك أن آية سورة النمل محققة لدخول [اليقين*]، وآية القصص [محققة لدخول الترجي*] بـ لعل.
قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)﴾
قال الزمخشري: [الهاء في إِنَّهُ يجوز أن يكون ضمير الشأن*]، والثاني، [وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعنى: أنّ مكلمك أنا، والله بيان لـ أنا*]، ورده أبو حيان: بأن الفعل إذا حذف لَا يصح عود الضمير عليه بوجه، ونودي لما بني للمفعول حذف فاعله، وأجاب بعض الطلبة: بقوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ)، وقوله تعالى: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) عائد على القائلين، وحذف الفاعل، في قوله تعالى: (قُتِلَ)، فقال ابن عرفة: هذا في جملة أخرى، فظاهر كلام أبي حيان جوازه، وقول الزمخشري: [يعنى: أنّ مكلمك أنا*]، أي المناسب لمذهبه، أن يقول: أنا مناديك أنا؛ لأنه ينفي الكلام القديم.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ... (١٠)﴾
الاهتزاز أوائل الحركة.
قوله تعالى: (كَأَنَّهَا جَانٌّ).
قال ابن عرفة: بهذه الآية يقع الجمع بين قوله تعالى: (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، وبين قوله تعالى: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ)، فشبهها بالثعبان في عظم جرمها، وبالحية، وإن كانت صغيرة الجرم في سرعة حركتها، فهو استعارة، أو يقال: إنها في أول حالها حية، ثم عظمت وصارت ثعبانا.
قوله تعالى: (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).
قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام يردد في هذا أن هذه قضية كلية، أي كل مرسل لَا يخاف، والقضية الأولى [موجبة جزئية*]، وهو قوله تعالى: (وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ)، فدل على أنه خاف، قال: وتقدم الجواب بوجهين:
إما أنه لم يكن حينئذ رسولا، وإنما أرسل بعد ذلك.
وإما أنه ليس المراد نفي الخوف؛ لأنه أمر [جِبلِّي*] لَا يقدر الإنسان على دفعه، وإنما المراد لازمه، أي كن آمنا مطمئنا، فإن رسلي يؤمَّنون من كل ما يخافون.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ... (١١)﴾
قيل: إن (إِلا) بمعنى الواو، وكما قالوا في قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).
قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ).
ثم بدل لظلمه حسنا، ويؤخذ من الآية، أن قاتل النفس في المشيئة، ورده ابن عرفة بأن هذه عامة، وآية القتل خاصة، والخاص يقضي على العام.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا... (١٥)﴾
[قال*] القاضي ابن عبد الرفيع: قال الفقيه أبو عبد الله محمد [**إنه كان مقصور القرى بالتنوين في الأصل].
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ... (١٨)﴾
ابن عرفة: قالوا: إذا قلت: مشيت حتى إذا لقيت زيدا يقتضي أول الملاقاة، بخلاف قولك: مشيت حتى لقيت زيدا، قيل له: فسره ابن عطية بوجهين:
أحدهما أنهم أتوا على جميع الوادي، وقطعوا مسافاته، فقال: هذا لَا يحمل على ظاهره ولا بد من تأويله؛ لأن النملة حذرت صواحباتها منه، فدل على أنهم حينئذ لم يكونوا قط مواشيا من الوادي، ولو أتوا عليه لما بقي للتحذير منهم فائدة.
قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ... (٢٠)﴾
هذا إما من الفقاد كما يتفقد السلطان حالة رعيته، وإما من الفقدان وهو عدم الوجدان، ونقل ابن عطية أن نافع بن الأزرق قد سمع ابن عباس يقول: إن الهدهد نظر إلى باطن الأرض ورأى الماء من كذا كذا إقامة، فقال له: كيف يشاهد باطن الأرض ولا يرى الفخ، فقال: [إذا جاء القدر عمي البصر*].
قال ابن عرفة: إنما جوابه يرى الفخ والحب الذي فيه، وجهل ما فيه من [الحيلة*] ولا يرى ما عاقبة أمره.
قال ابن عرفة: والظاهر أن المراد جميع جنس الهدهد؛ لأنه هدهد واحد بدليل ما حكوا أن أحد الهداهد كلم حبر بلقيس، وأعلم به نزل إليه [رئيس الهداهد*] وسلطانها، فأخبره بذلك أيضا لتحقق الخبر، فالظاهر أن جميع الهداهد مضت معه، فلذلك جلا موضعها، ودخلت منه الشمس انفرد يقول، وقالا: مصدر معطوف على علما، أي آتينا داود وسليمان علما، وقالا: الحمد له، قال: فقلت وقوله تعالى: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا)، أتى بالموجب ثم بالمانع.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨)﴾
يحتمل أن يكون من النظر أو من الانتظار.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو: هلا قال: فانظر ماذا يجيبون؟ فإن الجواب للكتاب أخص من الرجوع، قال: وعادتهم يجيبون: بأن [الكاتب*] إن كان له اعتناء بالمبعوث إليه، [وأراد*] بعين الكتاب [الاعتبار*]، ونزل منزلة [المساوي له*] في درجته، سمي ما يصدر عنه بعد قراءة كتابه جوابا، [وإن [أراد*] بعين [الصغار والاحتقار*] جعله في رتبة الرسول الحامل للكتاب، وكان جوابه إنما هو الرسول، فسمي ما يصدر منه له مراجعة، وكذا سليمان عليه السلام حال بلقيس وملكها بالنسبة إلى ملكه، فجعل جوابها [كأنه*] لرسوله؛ [لا له].
قوله تعالى: ﴿فِي أَمْرِي... (٣٢)﴾
أي في شأني.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ... (٣٤)﴾
جمعتهم إما باعتبار الملوك الماضية، وإمَّا باعتبار ما يأتي، وإمَّا باعتبار إنما لم يكن على تقدير أن لو كان كيف كان يكون.
قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ... (٣٥)﴾
جمعتهم إما لرجوع الضمير للملوك، وإمَّا تعظيما لسليمان، وإمَّا اعتبارا به وبخاصته.
قوله تعالى: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ... (٣٦)﴾
وقرئ (وما آتاني الله خير).
قال الزمخشري: والفرق بين العطف بالفاء والواو، أن الإنكار تارة يتسلط على السببية، كقولك: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن أردت تجهيله في الكتب عطفته بالفاء؛ لأنه تارة يكون يشرب اللبن ظانا أنه ماء، فإذا هو لبن فهذا جهل السبب، وتارة يعلم أنه لبن ويجهل أنه إذا اجتمع في البطن مع السمك يضر، فهذا جهل السببية، وكذلك تقول: تعطي زيدا الدراهم وهو غني، فإن كان المعطي يجهل أنه غني فهو جاهل للسببية، وإن علم أنه غني، وجهل أن الغنى مانع من إعطاء الزكاة له فهذا يجهل السببية.
ابن عرفة: قال: وإن كان السبب أقوى من إنكار السببية، فهذا كالجهل المركب بخلاف العكس فلذلك عطفه في الآية بالفاء دون الواو.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا... (٣٨)﴾
قال ابن عرفة: عبر بلفظ الملأ ولم يقل: يا أيها الجند؛ لأن الملأ هم الأشراف، وهو إنما خاطب بذلك من له قوة وعلم، ولفظ الملأ يشمل من جمع الأمرين ومن اتصف بأحدهما، ولم يتناول رعاع النَّاس بوجه.
قوله تعالى: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا).
إشارة إلى أنه علم أن فيهم من يأتيه بعرشها، وإنما طلب منهم تنبيه فقط، ولو قال: هل فيكم من يأتيني بعرشها لكان شاكا، هل فيهم من يقدر على الإتيان به أم لَا؟
قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)﴾
ابن عرفة: قالوا: هذا يقتضي ذم الدعوى، وكل مدع فدعواه توقع إلا إذا كان لدعواه موجب، كقول يوسف عليه السلام (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، فإن موجب ذلك القيام بالحكم الشرعي ليوصل كل ذي حق لما حقه.
قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ... (٤٠)﴾
قال الأصوليون من أهل الفقه: أفعال الله غير معللة، وما ورد من تعليلها، فإنما هو باعتبار الربط العادي، وأحكامه فيها قولان: هل هي معللة أم لَا؟ ولهذا قال ابن الحاجب: مسألتان على التنزيل، أي على النزل مع الخصم إلى مذهبه في قاعدة التحسين والتقبيح.
قوله تعالى: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا... (٤١)﴾
قال الأصوليون: إذا كان إسقاط بعض الألفاظ لَا يخل بالمعنى فإثباته حشو لا فائدة له، فحينئذ يقول: ما أفاد قوله لها؟ قلنا: أفاد أن تنكيره إنما هو لمن ينكر بعرف، ويحيط به بأنها نكرة لها لأنها أعرف النَّاس به.
قوله تعالى: (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ).
وليس هو بمعنى التفكر، وإنما المراد [نختبر أو نعلم أو ننتظر اهتداءها*]، وأم هنا متصلة، وهي التي يقع بعدها المفرد، أو ما هو في قوته، فإن قلت: قال ننظر أتهتدي أم لَا، كما تقدم السؤال، في قوله تعالى: (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، لكن
الجواب هنا عكس الجواب هناك، وهو أن تلك الآية خرجت مخرج التشديد على الهدهد، وهذه خرجت مخرج التلطف ببلقيس أنه هنا بمجرد كذبة واحدة يحصل في ملأ الكاذبين، والجواب هنا: أي في هذه العبارة رفق بها وتلطف، قال: لأن الحكم إذا كان موقوفا على أمرين متفاوتين، فإن كان جانب الذم فيها أشد وأرجح يحصل منها مطلق اهتداء ويتصف بأقبح ما يكون، فخرجت هذه الآية مخرج التلطف والتخفيف عليها.
قوله تعالى: ﴿قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ... (٤٢)﴾
ولم يقل: هذا عرشك.
قال الزمخشري: لئلا يكون تلقينا وتفهيما، وقال ابن عرفة: بل هو إشارة إلى أن السؤال عن مثل الشيء أخف على المسئول من السؤال عن ذات الشيء نفسه؛ لأنه أقرب إلى المعرفة، فيجد كثيرا من يقول: هذا مثل زيد، ولا يجد من يقول: هو زيد.
قوله تعالى: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ).
انظر هل المعنى كان هذا هو عرشي أو كان عرشي هو، هذا الظاهر الثاني لمشاكلة السؤال؛ لأن المعنى أعرشك مثل هذا؟ قالت: كان عرشي مثله.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ... (٤٦)﴾
قال ابن عرفة: السؤال بالهمزة عن ذات الفعل، والسؤال بقوله: لم عن علة الفعل وسببه، فما السر في العدول عن الهمزة إلى اللام؟ وأجاب بأنه تقدم.
قوله تعالى: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ).
ومن [نصب*] نفسه منصب المخاصمة، فهو عارف بالحجة، لذلك سألهم عن علة الاستعجال ودليله لَا عن نفسه.
قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤)﴾
أي تعلمون أنها فاحشة.
وقال الفخر؛ العالم لَا تصدر منه معصية أصلا، فإذا عصى فهو جاهل؛ لأنه يرجح المرجوح، وترجيح المرجوح جهل، فلذلك قال لهم لوط عليه السلام (بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون)، قال: والإطناب بـ بل إضراب انتقال، والانتقال في باب الذم، إنما يكون على أمر خفيف إلى ما هو أشد منه، وقدر بعضهم الأشدية هنا بأن الضرب عنه رافع
للقوة الحسية العملية، وهي منقطعة عن ذلك الفعل، والثاني: راجع للقوة العلمية، وهي دائمة؛ لأن العلم بالشيء دائم، والعمل به منقطع غير دائم.
قوله تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ... (٥٩)﴾
الأكثرون على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومثل هذا في القرآن، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم مأمور بتبليغ لفظه لأمته وبالعمل به، وعرف الحمد بالألف واللام لجنسيته.
قوله تعالى: (الَّذِينَ اصْطَفَى).
أي اصطفى خاصا؛ لأن عموم الاصطفاء يصدق على الطائع وعلى العاصي، قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ).
قوله تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ... (٦٠)﴾
قال ابن عرفة: كرر هذه اللفظة تنبيها لها على أن القدرة على الخلق فالاختراع صفة خاصة بالله تعالى بمنزلة تبيين الشيخ للتلميذ واختار أنها صفة معنوية، وأن الله تعالى ليست له صفة تخصه سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا).
أي ما يمكنكم وما ينبغي لكم ذلك، وهذا استدلال على وحدانية الله تعالى بالحدوث، وفيه أربعة مذاهب للأصوليين:
أحدها: أن دليلها لوحدانية الإمكان، الثاني: دليلها الحدوث، الثالث: بها والحدوث شرط، الرابع: هما والحدوث شرط.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا... (٦١)﴾
إن أريد أنها ذات قرار في نفسها فلا كلام، وإن أريد أنها قرار لغيرها أي محل الاستقرار عليها، فهي حال مقدرة؛ لأن الحكماء قالوا: إن المعمور البعض، لأن الاستقرار على أقلها وأكثرها غير معمور، فهي حياة الخلق حال مقدرة، أو يقال: إنها ليست حالا مقدرة، لأن الحكماء قالوا: إن المعمور منها أقلها وأكثرها يستحيل عمارته، فبعضه لشدة برده، وبعضه لشدة حره، إلا أن يجاب بما قال الفخر الرازي: إن الأرض على الماء، وفيها قولان: قيل: ساكنة، وقيل: إنها متحركة وليست بساكنة، فقد تبدل جهاتها فيصير غير المعمور فيها معمورا.
قوله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا).
قال ابن عرفة: بين إما ظرف وإلا مفعول، وهل البين بنفسه هو الحاجز، أو شيء آخر يحل فيه، وكان بعضهم يرجح الأول خوف التسلسل وتداخل الأجسام؛ لأنه إذا كان الحاجز بينهما شيئا آخر فما الحاجز بين ذلك الشيء وبينهما، فإِن كان شيء آخر فتسلسل الأمر، وإن لم يكن ثم حاجز لزم تداخل الأجسام وعدم الحاجز قرئ في كمال الفرد.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ... (٦٣)﴾ قال ابن عرفة: عادة الطلبة يقولون: لأي شيء أعاد المسند إليه هنا ولم يعده، في قوله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا).
ولم يقل: ومن جعل خلالها أنهارا، وقال: وتقدم الجواب بأن المعطوفات في الأولين منحصرة في نوع واحد؛ لأن الهداية راجعة إلى القوة العلمية، وإرسال الرياح راجع إلى أثر القدرة.
قوله تعالى: (عَمَّا يُشرِكُونَ).
إنما ذكر الإشراك هنا، بقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، فالإنسان في لجج البحار يستحضر مقام التوحيد، ويلقي اعتقاد التشريك، فناسب أن يعقب بتنزيه الله على نقيض ذلك.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ... (٦٤)﴾
ابن عرفة: هو على تقدير مضمر، أي ثم يميته ثم يعيده، وأورد الزمخشري: أنهم ينكرون الإعادة، فكيف ينكر عليهم عدم الإيمان ممن يعيدهم؟ وأجاب: بأن الدلائل الدالة على الإعادة قائمة عليهم.
قال ابن عرفة: وإذا بنينا على هذا الجواب يكون في الآية حجة على المعتزلة، لأنا أجمعنا نحن وهم على جواز الإعادة عقلا، واختلفنا في وجوب وقوعها، فهم قالوا: إنها واجبة عقلا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين عندهم، ونحن نقول: وقوعها واجب بالسمع، وهو إخبار الشارع بوقوعها لَا بالعقل.
قوله تعالى: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).
إنما تم تقدير ذلك مع ظهور الدلائل العقلية على وجوب الإعادة، قيل لابن عرفة: يلزمك أن يكون ابتداء الخلق واجبا عقلا، ولم يقل به أحد، فقال: قد تقرر أن الثاني من الشرطيات لازم للأول، ولا يلزم من وقوعه وقوع الأول.
قال ابن عرفة: إلا أن يجاب بالإعادة راجعة للأعراض على القول، بأن العرض لا يبقى زمانين إلا أن يقال: إنه لَا يعاد بعينه بل [يُعدم*] ويخلق مثله إلا على قول من يجيز [إعادة*] المعدوم بعينه، والخلق المراد به المخلوق.
قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ).
قال الزمخشري: برهانكم على نفي الإعادة، فإن قلت: لنا في الشيء لَا يطلب بإقامة الدليل على نفيه، قلت: النفي على قسمين:
نفي لما يثبت، فهذا لَا يطلب صاحبه بدليل.
ونفي لما قام الدليل على ثبوته، فهذا يطلب صاحبه بالدليل.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ... (٦٥)﴾
قالوا: سبب نزولها أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن وقت القيامة التي وعدهم بها.
قال ابن عرفة: الألف واللام في الغيب للعهد، أي الغيب المسئول عنه، أو هو عام المراد به الخصوص، فهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم المغيبات، ولا يخفى عليه منها شيء فأخبر الله تعالى أنه لَا يعلم إلا ما علمه الله، وإن هذا من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحد فيكون فيه حجة لأحد القولين، بأن الكرامة لَا تتعلق بعلم ذلك، ولا يطلع عليه ولي، ويحتمل أن يقال الغيب على نوعين: غيب ينصب عليه دليل وإمارة، وغيب لم ينصب عليه دليل، فالأول: كمن يمشي في طريق لَا يخبرها فيعلم مواضع الماء وقربه من بعد النبات. والثاني: كدفين في الأرض لَا يخبرها إلا الشق، فإنه لَا دليل له على موضعه، وهذا من الغيب الذي ينصب عليه دليل، وذكر ابن عرفة إعراب الزمخشري واستشكاله الآية، والسؤال الذي أورده وقرره، فإنه من المذهب الذي يؤتى فيه بالحكم مقرونا بدليل، قال: وحاصله أن المراد نفي علم ذلك عمن سوى الله، ولا يحتاج إلى إثبات العلم به لله تعالى، فإنهم لم يخالفوا به، قال: ويحتمل أن يكون من في السماوات والأرض مفعولا للعلم والغيب، إما حال منه بناء على القول بصحة إثبات الحال معرفة، وأما بدل منه بدل اشتمال؛ لأن الغيب مشتمل على من في السماوات والأرض
ومفعول بأن، ويعلم على بابه وعلى إعراب الزمخشري بمعنى المعرفة، والمعنى قل لا يعلم المخلوق في السماوات والأرض غيبه، أي الذي اشتمل عليه الغيب إلا الله، فإن قلت: بدل اشتمال لَا بد فيه من الضمير، قلنا: الألف واللام نابت مناب الضمير تقديره غيبه أو الغيب منه كما قدروه في صورة فالرجل الحسن الوجه، أي قل لَا يعلم غيب المخلوق في السماوات والأرض إلا الله، أي لَا يعلم المغيبات إلا الله من أمر المخلوقين إلا الله، وهذا أحسن من إعراب الزمخشري، وأبي حيان لما يلزم في إعرابها من المجاز، قلت: وذكرت هذا لصاحبنا الأستاذ أبي العباس ابن القصار فاستحسنه قال: لكن ظاهر اللفظ في حقيقته ولا يحتاج إليه؛ لأن سيبويه أجاز أن يقول: ما رأيت زيدا إلا عمرا، مع أن عمرا ليس خبر ومن زيد لكنه على نية طرح الأول، أي ما رأيت إلا عمراً، فالمعنى هنا: قل لَا يعلم الغيب إلا الله.
قوله تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).
الشعور هو مبادئ العلم، ثم أضرب عنه، بقوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ)، فالأول: اقتضى نفي النظر عنهم، والثاني: اقتضى أنهم نظروا نظرتهم إلى عدم معرفة وقتها، وإنَّمَا لهم ظنون كاذبة أو هم في شك منها، والشاك غير حاكم بشيء فهم جاهلون لها جهلا بسيطا.
قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (٦٦)﴾
حاكمون بترجيح المرجوح منها، جاهلون بها جهلا مركبا، لأن الناظر تارة ينظر نظرة إلى الشك واستواء الطرفين عنده، وتارة يحكم بترجيح الراجح وهذا عالم، وتارة يحكم نصهم على ترجيح المرجوح، فهذا وهم وجهل مركب، وأفاد الإضراب بـ بل أنهم أولا جاهلون، فليس بها شعور ألبتَّة، بل انتقلوا إلى النظر الموصل للعلم بها، ثم نظروا أو أداهم النظر إلى الشك فيها لم بعد ذلك قطعوا وصمموا على إنكار الإعادة، فكانوا بحيث تنفع فيهم الموعظة ويطمع في رجوعهم، ثم انتقلوا إلى حالة اليأس منهم والقطع بعدم رجوعهم، ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار الأنواع، فمنهم جاهل، ومنهم عالم معاند، ومنهم شاك، ومنهم مصمم على إنكار البعث والإعادة.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا... (٦٧)﴾
وهذا من إيقاع الظاهر موقع المضمر.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ... (٦٨)﴾
قال الزمخشري: لم قال في قد أفلح: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ)، وقال هنا: (هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ)، ثم أجاب بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الفرض المقصود، فهنا دل على إيجاد البعث هو المقصود في الآخر المقصود إيجاد المبعوث.
قال ابن عرفة: فإن قيل: لم خصصت تلك بتقديم نحن، وهذه بتقديم هذا؟ قال: فعادتهم يجيبون: بأن تلك ذكر أحوال الكفار؛ لأن قبلها: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، ثم قال (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)، وهذه تقدم فيها أوصاف البعث، لقوله تعالى: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، (أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا)، (أَمَّنْ يَهْدِيكُم فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ... (٧٣)﴾
إن أريد به العموم [فالأكثر عليه*]، والكافر على هذا منعم عليه باعتبار ما له في الدنيا، وإن أريد بالنَّاس الكفار والأكثر المراد به الجميع.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٤)﴾
إن قلت: هلا قال: ما تعلن ألسنتهم وما يسترون، فيكون تأسيسا؛ لأن العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بخلاف العكس، قال: والجواب: أنه قصد التنبيه على كمال إحاطة علم الله تعالى، وإن السماوات إن تعددت فعلمه بما فيها كلها كعلمه بما في السماء الواحدة ولا فرق بينهما.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٧٥)﴾
إما حقيقة فهي مكتوبة في اللوح المحفوظ، وهو عبارة عن كمال إحاطة علمه بذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦)﴾
لأنهم يختلفون في أمر جلي، أو أمر خفي، فهو يقص عليهم الأمر الخفي.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)﴾
إما أن يراد الصائر إلى الإيمان كما قال الزمخشري، في قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وهو هدى للمؤمنين حقيقة باعتبار انتقالهم به من مقام إلى مقام أعلى منه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ... (٧٨)﴾
قال الزمخشري: أي بعدله، وليس المراد الحكم؛ لأنه لَا يقال: يضرب بضربة.
قال ابن عرفة: الإضافة إلى الضمير يرفع هذا الإشكال، أي بمحكمه اللائق به، كما قال تعالى في (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، وكذلك (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا).
قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).
أي العزيز الذي لَا يمانع ولا يدرى وجه حكمه، العليم بخفيات الأمور.
قوله تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ... (٧٩)﴾
التوكل هو استحضار الحاضر ونسبة الحوادث كلها إلى الله عز وجل، ونقل بعض الطلبة عن بعضهم: أن التوكل هو الوثوق بالمظنون، وترك الحركة والأمثال على السكون.
ابن عرفة: والأول أصوب وهو قسمان: ابتدائي وانتهائي، فبدئه لَا ينافي الأسباب العادية، ومنتهاه وهو الطريق الموصوفة ينافي الاشتغال بالأسباب العادية.
ابن عرفة: وعطفه بالفاء لإفادة السببية، إشارة إلى أنه لما كان طريق الإيمان لا يمانع ولا يناط بحكمه أمر بالتوكل على الله والتفويض إليه في الأمور، ويحتمل أن يقال لما تقدم.
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ).
عقبه بما يفيد إفراده والاعتماد عليه في الأمور، فالذي يفيد انفراده بذلك، هو قوله تعالى: (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، وهذه تفيد الاعتماد عليه في الأمور، قال بعضهم: وحاسة السمع أشرف من حاسة البصر، بدليل أنها لم يسلبها نبي بخلاف البصر، فإن قيل: ما أفاد قوله تعالى: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، قلنا: الأصم إذا كان فبأولئك يشير إليه فيهم عنك بالإشارة، بخلاف ما إذا صيرك خلفه، فإنه لَا يسمع ولا يرى، فوصف الكفار بأقبح صفات المخالفة، وعدم الانقياد إلى الحق، فلا يلزم منه أن يقال: نهى
النبي عن الحض مقيد بصفة لَا تعم؛ إذ مفهومه ثبوته لامتثالها مما لم يقيد بتلك الصفات.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)﴾
ويحتمل أن يكون دليلا على أن الإيمان أخص من الإسلام؛ لأن معناه فالمؤمنون بآياتنا مسلمون، أي الحكم عليهم بالإيمان يستلزم عليهم الحكم بالإسلام.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ... (٨٢)﴾
المراد بالقول متعلقه، ومدلوله، وهو ما وعدوا به من أشراط الساعة، ومن ذلك خروج الدابة، فلا بد أن يكون المعنى وإذ وقت وقوع القول عليهم أخرجنا لهم الدابة، والقول يقع عليهم ولهم؛ لأن فيهم المؤمن والكافر لكن روعي مقام التخويف والإنذار قال: وعوائد الطلبة يقولون: لما عبر في الأول بالقول وبالثاني بالكلام، وهلا قيل: وإذا وقع الكلام عليهم، أو يقال: أخرجنا لهم دابة تقول لهم، قال: وتقدم الجواب بأن القول بسيط والكلام مركب؛ لأنه أخص، والقول أعم، والشرط بسيط، والمشروط مركب؛ لأنه يستلزم الشرط، والشرط لَا يستلزم المشروط، فناسبت أن يجعل القول البسيط شرطا، والكلام المركب شرطا.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا... (٨٦)﴾
ابن عرفة: فيها حذف التقابل وتقرير أن في سورة القصص (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، فجعل السماع من خاصية الليل، والإبصار من خاصية النهار، والتقدير: ألم يروا أنا جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتبتغوا فيه من فضله، فحذف من الأول نقيض ما ذكر في الثاني، ومن الثاني نقيض ما ذكره في الأول، وعبر عن السكون بالفعل، وعن الإبصار بالأصم؛ لأن الإبصار لازم النهار، والسكون غير لازم الليل، وليس من فعله، ألا ترى أن الصالحين لَا يسكنون بالليل، بل يقومونهم وهو نهارهم، ولذلك خرج الترمذي حديثا: "إن رجلا دخل على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنها فقدمت له طعاما، فقال: إني صائم، فقالت له: ألك زوجة؟ فقال: نعم، بل زوجتان سوداء وبيضاء، وانصرفت ثم وصفته للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: هو الخضر عليه الصلاة والسلام، والزوجتان: الليل والنهار"، قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
قوله تعالى: ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ... (٨٧)﴾
قال ابن خليل: وفيها دليل على إبطال القول بإثبات الجوهر المقارن، وهو موجود لَا متحيز ولا قائم بالمتحيز، وجعل من ذلك الملائكة والجن؛ لأن المفسرين قالوا: المراد بقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام، فهم من في السماوات والأرض فجعلها خبرا، فقال ابن عرفة: يلزمه هذا في العرض؛ لأنه ليس بمتحيز، مع أنك تقول: رأيت في هذا البعث وفيه الجوهر والعرض القائم به.
ابن عرفة: فإن قلت: ضل فيها على ابن عصفور؛ لأنه منع الاشتمال المحمول، فقال: لَا يجوز، فقال: رأيت القوم إلا رجالا، فشرط في المستثنى أن يكون معلوما، قال: والجواب: أن هذا معلوم عند المتكلم، وأما الممتنع الاستثناء بالجملة المتكلم، وأيضا فمن الموصولة معرفة، وفرق بين المعلوم والمعين، فاستثناء غير المعين جائزا إذا كان معلوما عند المتكلم.
قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ... (٨٨)﴾
قال: يحتمل أن يكون (وَهِيَ تَمُرُّ) حالا من فاعل تحسبها، أي تحسبها جامدة حال مرورها كالسحاب، فيكون الناظر إليها لَا يشعر بمرورها كالسحاب، ويحتمل أن يكون يشعر بذلك فيحسبها أولا جامدة، ثم يتأمل فيها فيجدها تمر مر السحاب فهو يعتقد الأمرين.
قوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ).
يؤخذ منه إطلاق هذه الصفة على الله تعالى، وقد أطبق المتكلمون على وصفه بها، فقالوا: باب الكلام في إثبات العلم بوجود الصانع.
قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا... (٨٩)﴾
أي فله خير من ثوابها، قلت: لفظ (خَيْرٌ) إما فعل أو أفعل من، أي فله ثواب أفضل من ثوابها، ومن إما سببية أو لابتداء الغاية فله ثواب سببها، أو ثواب ابتدائها منها، وهل هذا كقولك: زيد [خير من*] صديقه [... ]، أو كقولك: زيد [خير من*] عدوه [... ].
* * *
Icon