تفسير سورة المائدة

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة المائدة
الوفاء بالعقود
من أهم وأخطر ما تميزت به شريعة القرآن: هو الوفاء بالعقود والعهود مع الناس ومع الله، وتعظيم شعائر الله وأحكامه وحرماته، فذلك دليل الأصالة والقوة والشجاعة والثقة بالنفس، ولم يسوغ الشّرع نقض عقد أو عهد حتى مع الأعداء، احتراما للالتزام والمعاهدة، وليكون المؤمنون قدوة حسنة للبشرية في صيانة المعاهدات واحترام العقود. قال الله تعالى في مطلع سورة المائدة المدنية النزول، أي النازلة بعد الهجرة في حجة الوداع، أو في عام فتح مكة:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [المائدة: ٥/ ١- ٢].
(١) بالعهود المؤكدة ومنها عقود المعاملات.
(٢) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(٣) غير مستحلّين.
(٤) محرمون بحج أو عمرة.
(٥) لا تنتهكوا مناسك الحج.
(٦) الأشهر الأربعة الحرم.
(٧) ما يهدى من الأنعام للحرم.
(٨) ما يقلّد به الهدي.
(٩) قاصدين.
(١٠) لا يحملنكم بغضهم.
425
نادى الله المؤمنين بصفة الإيمان ليحثّهم على امتثال ما يكلفهم به، قائلا: يا من اتّصفتم بالإيمان وتركتم دعاوى الشيطان أوفوا بالعقود، سواء عقود الشّرع من حلال وحرام وفرائض، وعقود الناس بعضهم مع بعض من عقود البيع والمعاملات وعقود الزواج وغير ذلك،
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم عن أنس وعائشة: «المسلمون عند شروطهم»
فيجب الوفاء بالعهود والعقود على حسب الشروط المتفق عليها ما لم تصادم أوامر الشرع، وتشمل العقود كل الارتباطات بقول موافق للحق والشرع.
ومن هذه العهود المأخوذة علينا من الله، وهي نعم من الله: إحلال جميع بهائم الأنعام من إبل وبقر وغنم إلا ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية، وغير سباع البهائم وكل ما له ناب يعتدي به على غيره، وكل ما له مخلب من الطيور، حال كونكم غير محلّي الصّيد البري في أثناء الإحرام بحج أو عمرة، فيحرم الصيد في الإحرام، ويحرم في الحرمين: المكّي والمدني، ولو في غير حالة الإحرام، إن الله يحكم ما يريد من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة.
وقد نزلت آية لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ حينما عزم نفر من المهاجرين والأنصار على الاعتداء على الحطم بن هند البكري الذي قدم المدينة، فبايع النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأسلم، ثم ارتدّ عن الإسلام لما قدم اليمامة.
ونزلت آية وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ.. عام فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة حينما كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية في السنة السادسة مع أصحابه، فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فمرّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة، فقال الصحابة: نصدّ هؤلاء، كما صدّوا أصحابنا.. فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان: لا يحملنّكم البغض من أجل أن صدّوكم على أن تعتدوا عليهم.
426
ومعنى الآية: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا تحلّوا معالم الله، ولا تتعدّوا حدود الله وطاعاته في أمر من الأمور، وبخاصة مناسك الحج ومشاعره، فلا تتهاونوا بحرمتها، ولا تخلّوا بأحكامها، ومكّنوا جميع المسلمين من أداء مناسك الحج. فالمراد بشعائر الله: مناسك الحج، وجميع ما أمر الله به أو نهى عنه، وما حدّ تحريمه في الإحرام.
ولا تنتهكوا بالقتال والعدوان حرمة الأشهر الحرم، وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، فلا تقاتلوا المشركين فيها، ولا تبدّلوها بغيرها، كما كان العرب يفعلون في الجاهلية من عملية النّسيء، أي تأخير حرمة شهر حرام إلى غيره، ولا تحدثوا في أشهر الحج ما تصدّون به الناس عن الحج. ولا تعترضوا الهدي (الشاة ونحوها) المهدي للحرم أو المسوق له، بالغصب أو الأخذ، أو المنع من بلوغ محلّه، حتى لا يصل إلى الكعبة. وسمي شهرا حراما لتحريم القتال فيه في الماضي.
ولا تنتهكوا حرمة ذوات القلائد: وهي ما قلّد به الهدي مما يعلق في عنق البعير ونحوه من قلادة ليعلم أنه هدي، فلا يتعرّض له، وذلك يشمل الهدي المقلّد والذي لم يقلّد. ولا تحلّوا حرمة قوم قاصدين المسجد الحرام فتغيروا عليهم، حالة كونهم يطلبون من الله الفضل، أي الرزق والثواب، والرضوان، أي رضا الله عنهم. وإذا فرغتم من إحرامكم وحللتم منه، وأنتم في غير أرض الحرم، جاز لكم ما كان محرّما عليكم في حال الإحرام وهو الصيد، فاصطادوا حينئذ كما تشاؤون. ولا يحملنكم بغض قوم وكراهيتهم، كانوا قد صدّوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تتعدوا حكم الله، فتعتدوا عليهم. وتعاونوا على البر: وهو كل ما أمر به الشّرع أو نهى عنه، ولا تتعاونوا على الإثم، أي الذنب والمعصية: وهي كل ما منعه الشرع، واتّقوا الله بفعل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه، إن الله شديد
427
العقاب لمن عصى وخالف. والبر والتّقوى كما قال قوم: هما لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة، إذ كل برّ تقوى، وكل تقوى برّ.
المحرّمات العشر من المطعومات
لم يشرع الله شيئا في القرآن الكريم إلا لمصلحة الناس، فلم يبح الشرع أو يوجب إلا النافع المفيد، ولم يحرم إلا الضّار الخبيث ضررا مادّيا محسوسا أو معنويا يمسّ العقيدة. وقد أحلّ الله لنا من المطعومات أكل بهيمة الأنعام (المواشي) وسائر الطيبات من الحيوان الذي يعيش في البر والبحر والجو، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
[المائدة: ٥/ ٨٧] وقال سبحانه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: ٥/ ١].
وحرّم الله علينا أربعة أنواع بالإجمال في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [النّحل: ١٦/ ١١٥] وفي سورة المائدة ذكر الله بالتفصيل عشرة أنواع من المحرمات، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» [المائدة: ٥/ ٣].
(١) ما ذكر عليه اسم غير الله.
(٢) الميتة بالخنق.
(٣) الميتة بالضرب. [.....]
(٤) الميتة بالسقوط من علو.
(٥) الميتة بالنّطح.
(٦) ما ذبحتم وهو في حال الحياة.
(٧) حجارة الأصنام حول الكعبة.
(٨) تطلبوا معرفة المقسوم لكم بالقداح المعلمة.
(٩) خروج عن طاعة الله إلى معصيته.
(١٠) ألجئ في مجاعة شديدة.
(١١) مائل إليه عمدا.
428
روى ابن منده في كتاب الصحابة عن حبّان قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة، فأنزل تحريم الميتة، فأكفأت القدر.
والمحرمات العشر المذكورة تفصيلا وتفسيرا لقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هي ما يأتي:
١- الميتة: وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه، من غير ذبح ولا اصطياد، وقد حرّم الشّرع أكلها، لما فيها من ضرر أو مرض، أو احتباس الدم فيها، وتعافها النفس وتنفر منها وتأنف من أكلها، فهي ضارّة للبدن والدين، ما عدا ميتة السمك والجراد لعدم وجود الدم فيهما.
٢- الدّم: وهو الدّم المسفوح السائل، لا الجامد كالكبد والطحال، وتحريم الدّم لأنه مباءة تفريخ وتكاثر الجراثيم الفتاكة والسموم الضّارة، كما أنه مستقذر طبعا، وعسر الهضم، ومن فضلات الجسم الضّارة كالبراز، ولاختلاف فصائل أو زمر الدّم، ولا تناسب فصيلة غيرها، فهو قذر يضرّ الأجسام.
٣- لحم الخنزير وشحمه وجلده وعظمه، وتحريمه لأنه حيوان قذر لا يأكل إلا القاذورات والفضلات العفنة، ولأنه يحتوي غالبا على الديدان كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية والدودة الشريطية، ولأنه عسير الهضم لكثرة شحم أليافه العضلية ومواده الدهنية، كما أنه ينقل طباعا سيئة مثل فقدان الغيرة على أنثاه. والكلب مثل الخنزير حرام أكله عند أكثر العلماء لما فيهما من الضّرر والخطر.
٤- ما أهلّ لغير الله به، أي ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله، والإهلال: رفع الصوت، وكان العرب في الجاهلية يرفعون صوتهم عند الذبح باسم اللات والعزى وهبل وغيرها من الأصنام، وقد حرّم الشرع أكله لمساسه بالعقيدة، وتعظيم غير الله، ومشاركة المشركين والكفار في عبادة غير الله، والتقرب لآلهتهم بالذبائح.
429
٥- المنخنقة: وهي التي تموت خنقا: وهو حبس النّفس في الحلقوم، فهي نوع من الميتة، وضررها ضرر الميتة لأنها لا تذبح، والتذكية الشرعية شرط لحلّ المذبوح.
٦- الموقوذة: وهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد كالعصا أو الحجر أو الحصاة حتى تموت بلا ذكاة شرعية، فهي ميتة وضررها كالميتة. والوقذ حرام لأنه تعذيب للحيوان. أما المقتول بالسلاح أو الرصاص فيجوز أكله شرعا على الصحيح.
٧- المتردّية: هي ما سقطت من مكان عال كجبل أو سطح، أو الهاوية، في بئر، فتموت بذلك، فلا تحل كالميتة إلا أن تذكى أي تذبح، فإن عقرت في البئر في أي مكان من جسمها، حلّ أكلها للضرورة.
٨- النّطيحة: وهي التي نطحتها بهيمة أخرى، فماتت، وهي حرام كالميتة.
٩- ما أكل السّبع: وهي التي افترسها حيوان كالذئب والنّمر والسّبع، فتموت، فلا تؤكل لأنها ميتة، وتأنفها الطّباع. لكن ما أدركتموه حيّا بطرف عين أو رفس رجل أو يد مما سبق من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنّطيحة وأكيلة السّبع، فذبحتموه، جاز أكله شرعا.
١٠- ما ذبح على النّصب، أي الحجارة التي كانت حول الكعبة، وكان عددها ٣٦٠ حجرا أي صنما، لا يؤكل، لأنه مما ذكر اسم غير الله عليه.
وحرم الله الاستقسام بالأزلام أي العيدان أو قداح الميسر على هيئة السهم الذي لا نصل فيه، وهو الذي يجرح الصيد، وهو محاولة معرفة الحظ أو القمار على بعير ونحوه، وهو حرام لأنه كسب يعتمد على المغامرة والمقامرة، لذا وصفه الشّرع بأنه فسق، كما أن كل هذه المحرّمات فسق أيضا، أي خروج عن منهج الدين. وعلى المؤمنين التّقيّد بحرمات الدين وخشية الله وترك خشية الكفار، فإنهم يئسوا من أن ترجعوا إلى دينهم.
430
والله سبحانه أكمل لنا الدين، وهو الإسلام، بإحلال الحلال وتحريم الحرام وبيان الشرائع والأحكام، ورضي الله بالإسلام دينا للبشرية، وأتم علينا النّعمة بالنّصر على المشركين، وقد نزلت هذه البشارات الثلاث يوم عرفة.
ومن اضطرّ إلى تناول شيء من المحرّمات المذكورة، فله أن يأكل منها إذا لم يوجد غيرها، وتعرّض لخطر الموت أو الهلاك جوعا بسبب المخمصة أي المجاعة، ولم يتجاوز قدر الضرورة، والله غفور له، رحيم بخلقه.
المطعومات الحلال وإباحة الزواج بالكتابيات
جعل الله الإسلام دينا سمحا سهلا غير معقّد ولا صعب، فأحلّ لنا كثيرا من الأشياء، ولم يحرّم علينا إلا القليل، فالأصل في الأشياء الإباحة، أحلّ الله الطّيبات النافعة غير المحرّمات العشر المتقدمة وغير المستخبثات، وأباح لنا ما تقتضيه الضرورة أو الحاجة في الاصطياد بالكلاب المعلّمة والطيور الجارحة المروّضة، وأقام جسورا من التلاقي وهمزة الوصل بين المسلمين وأهل الكتاب (اليهود والنّصارى) فأجاز لكل فريق تناول طعام الفريق الآخر، وأباح الزواج بالنّساء المؤمنات، والكتابيات الحرائر العفيفات بشرط دفع المهر.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤ الى ٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
«١» «٢» «٣»
(١) التي تجرح بأنيابها من السّباع، وبمخالبها من الطيور.
(٢) المكلب: معلّم الكلاب الصيد ومضريها، ويقال أيضا لمن يعلّم غير كلب.
(٣) هذا إشارة إلى الزمن والأوان، وهو إباحة ما تستطيبه النفس.
431
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [المائدة: ٥/ ٤- ٥].
نزلت الآية الأولى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ حينما سأل عاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعويم بن ساعدة، فقالوا: يا رسول الله، ماذا يحلّ لنا من هذه الكلاب؟ بعد أن أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، وكان أبو رافع هو المتولّي لقتلها.
وسأل عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا: يا رسول الله، قد حرّم الله الميتة، فماذا يحلّ لنا؟ فنزلت الآية. وسأل رجل عن صيد الكلاب، فنزلت هذه الآية: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ.
والمعنى: يسألك المؤمنون أيها الرسول عما أحلّ لهم من المطاعم واللحوم، قل لهم: أحلّ لكم ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة، وهي غير الخبائث، قال الإمام الشافعي: الطيّبات: الحلال المستلذّ، وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام.
وأحلّ لكم صيد الجوارح المعلّمة، كالكلاب والفهود، والبزاة والصقور والعقبان والنّسور ونحوها من الطيور، فكل ما صاد بعد تعليم فهو جارح، أي كاسب.
تعلّمونهن من الحيلة في الاصطياد والتّأني لتحصيل الحيوان، وهذا جزء مما علّمه الله الإنسان. ويجوز الأكل من الصيد الذي أمسكه الكلب ونحوه،
قال عدي بن حاتم: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صيد البازي فقال في الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين: «إذا أمسك عليك فكل».
وذلك بشرط أن تكون الكلاب الجوارح
(١) العفائف الحرائر.
(٢) مهورهن.
(٣) متعفّفين بالزواج غير مجاهرين بالزّنا. [.....]
(٤) أي صديقات أو خليلات للزّنا سرّا.
(٥) ينكر شرائع الإسلام.
(٦) بطل ثواب عمله.
432
والطيور معلّمة، ومرسلة من الصائد لا من نفسها، حتى يكون قتل الجارح للصيد ذكاة شرعية، بأن ترسل الكلب أو الطير فيرسل، وتزجره فينزجر، وأن يذكر الصياد اسم الله فيقول: (باسم الله، الله أكبر) وذلك شرط عند الجمهور غير الشافعية، وبشرط ألا يأكل الكلب المعلم شيئا من الصيد في رأي الجمهور غير المالكية.
ثم أمر الله تعالى بالتقوى في الجملة وهي التزام الأوامر، وذكّر سبحانه بسرعة الحساب لأنه تعالى قد أحاط بكل شيء علما، فلا يحتاج إلى محاولة عدّ، ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة.
أحلّ الله من لحظة نزول هذه الآية الطيبات المستطابات، وأحلّ للمسلمين أكل ذبائح أهل الكتاب، وللكتابيين ذبائح المسلمين، ولا تحل ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان، ولا ذبائح المجوس ونحوهم ممن لا يدين بدين سماوي، ولا التزوج بنسائهم.
وأباح الله لكم أيها المؤمنون التزوج بالحرائر المؤمنات، والكتابيات العفيفات من اليهود والنصارى، إذا آتيتموهن أجورهن، أي مهورهن، ويطلق لفظ الأجر في اللغة والشرع على المهر، فيشترط إيتاء مهورهن، وأن يقصد الإحصان والإعفاف، لا سفح الماء عن طريق الزنى العلني، ولا عن طريق الزنى السّري وهو اتّخاذ الأخدان. وقوله: مُحْصِنِينَ أي متزوّجين على السّنة بعقد زواج صحيح.
ثم حذّر الله من المخالفات، ورغّب فيما تقدم من أحكام الحلال، فذكر أن من يكفر وينكر شرائع الإسلام وتكاليفه، ويجحد أصول الإيمان وفروعه، فقد أبطل ثواب عمله، وخاب في الدنيا، وخسر في الآخرة، أما في الدنيا فتضيع أعماله ولا يستفيد منها، وأما في الآخرة فخسارته بالهلاك في نار جهنم. وقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ معناه من يكفر بالأمور التي حقّها أن يقع الإيمان بها.
433
فرائض الوضوء ومشروعية التّيمم
حرص الإسلام على نظافة الإنسان وطهارته، فجعل فريضة الوضوء أمرا متجدّدا في اليوم أكثر من مرة لغسل الأعضاء التي تتعرض للأوساخ والغبار، كلما أدى فرائض الصلوات الخمس، كما فرض القرآن الكريم الغسل من الجنابة باحتلام أو وقاع لتنظيف جميع البدن في مناسبات تتكرر في الأسبوع، وإذا لم يوجد الماء بسبب السفر، أو أضرّ الماء بالجسم بسبب المرض، جاز للمؤمن التيمم بالغبار عن الوضوء أو عن الغسل، أو عن الحدث الأصغر والأكبر، والتّيمم رخصة اضطرارية بضربتين على التراب: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، والمهم في ذلك: قصد الطهارة، لا أن ينقل التراب للأعضاء. قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦ الى ٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
«١» «٢» «٣» «٤» [المائدة: ٥/ ٦- ٧].
نزلت هذه الآية في التّيمم، وكان الوضوء مفروضا في مكة قبل الهجرة، فكأن الآية لم تزد المؤمنين فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التّيمم. نزلت في غزوة المريسيع،
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في هذه
(١) موضع قضاء الحاجة.
(٢) واقعتموهن أو لمستم بشرتهن.
(٣) ترابا طاهرا.
(٤) ضيق في دينه ومشقة.
434
الغزوة: «.. ثم إن النّبي صلّى الله عليه وسلّم استيقظ وحضرت الصبح، فالتمس الماء، فلم يوجد» فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ.. الآية.
وروى أحمد والبيهقي عن جابر- وهو حديث حسن- أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطّهور».
وكان كثير من الصحابة، منهم ابن عمر وغيره يتوضئون لكل صلاة، انتدابا إلى فضيلة. وكذلك كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد، وفي فتح مكة جمع بين الصلوات الخمس بوضوء واحد.
روى أبو داود والترمذي وابن ماجه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من توضّأ على طهر، كتب له عشر حسنات».
ومعنى الآيتين: يا أيها المؤمنون، إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأنتم محدثون، فعليكم بالوضوء، فإنه فرض أو شرط، إذ لا يقبل الله صلاة بغير طهور.
وإذا كان المرء متوضئا كان الوضوء مندوبا، لما
روى رزين من حديث: «الوضوء على الوضوء نور».
وفرائض الوضوء في الآية أربعة: هي غسل الوجه من أعلى منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن، وما بين الأذنين عرضا، وغسل اليدين من رؤوس الأصابع إلى المرفقين، والمرفق أعلى الذراع وأسفل العضد، ويجب غسل المرفق. ومسح بعض الرأس كالربع، أو كل الرأس، وهو المطلوب عند المالكية والحنابلة، وغسل الرجلين مع الكعبين: وهما العظمان الناتئان عند مفصل السّاق والقدم من الجانبين.
وتطلب النّية والترتيب والموالاة والدّلك والمضمضة والاستنشاق على خلاف في فرضيتها عند أئمة المذاهب.
وينتقض الوضوء بالغائط والبول والريح والنوم، ولمس المرأة بشهوة، ومسّ الفرج بباطن الكف عند الجمهور غير الحنفية.
435
فإن كنتم مرضى أو مسافرين أو أحدثتم أو واقعتم النساء، ولم تجدوا ماء، أو تضررتم باستعمال الماء، فعليكم بالتيمم بأن ينوي الشخص فرض التّيمم ويمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين، والتّيمم مشروع لكل من الحدث الأصغر والأكبر.
ويجب الغسل: وهو تعميم البدن والرأس بالماء الطاهر، في حال الجنابة باحتلام أو جماع أو ولادة أو حيض أو نفاس، وتجب النّية في الغسل، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا.
والمراد من تشريع الوضوء والتّيمم والغسل هو التيسير على الناس، وإتمام النعمة ببيان طريق العبادة الصحيح المفضل، وتطهير الأعضاء المعرضة عادة للتلوث بالوضوء، وغسل جميع الجسم حال الجنابة ونحوها وهو ما يسمى بالحدث الأكبر لأنه يعتري الجسم بعد هذا الحدث استرخاء وفتور يزولان، بالغسل، والنظافة من الإيمان، فبالغسل تنظّف، وتجديد الحيوية والنشاط.
وهذه الأحكام المشروعة نعمة عظمي من الله تعالى لصالح المؤمن، تستوجب الشكر والتقدير لأن فيها طهارة الأبدان وطهارة الأرواح معا، ونعم الله كثيرة علينا أن نذكرها، ومن أهمها التوفيق للإسلام وهداية القرآن وجمع الكلمة، وعزّة الحياة، كما علينا أن نذكر العهد المؤكد الذي أقررنا به أمام الله، حينما كنا في عالم الذّر، ومضمونه: الإيمان بالله والرسول، والسمع والطاعة، وتقوى الله بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، والله عليم بخفيات الأمور من الأسرار والنوايا التي في الصدور. وفي ذلك توجيه للإخلاص والبعد عن الرّياء في جميع الأعمال الدينية.
436
أداء الشهادات والحقوق بالعدل
الإسلام دين الحق والعدل في كل شيء، مع النفس والأهل والقرابة، وجميع الناس حتى الأعداء، والعدل قائم على الخشية من الله، وتقوى الله في السّر والعلن، والإيمان منبع كل فضيلة، وللمؤمنين الصلحاء جنان الخلد، وللكافرين المكذبين بآيات الله نيران الجحيم، والتقوى والتّوكل على الله حصن ودرع متين من كل شرّ أو سوء، وشكر النعمة الإلهية على العافية والأمن أمر واجب شرعا وعقلا وأدبا، وكتمان الشهادة وشهادة الزور من أكبر الكبائر.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
«١» «٢» «٣» [المائدة: ٥/ ٨- ١١].
نزلت الآية الأخيرة في رأي الجمهور حينما
ذهب النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يهود بني النّضير يستعينهم في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري ورجل آخر معه حينما أخبراهما أنهما من الأعداء رهط عامر بن الطفيل الذي جنى على المسلمين وقتلهم في بئر معونة، فنزل الرسول في ظل جدار، فتآمر بنو النضير بينهم على قتله بإلقاء الجدار عليه، فجاء جبريل عليه السّلام وأخبره بخطتهم، فقام من المكان وتوجّه إلى المدينة، ونزلت الآية في ذلك.
ومعنى الآيات: يا أيها المؤمنون، أتقنوا الأعمال وأخلصوا فيها لله ورسوله،
(١) شاهدين بالعدل.
(٢) أي لا يحملنكم بغض أو كراهية قوم.
(٣) يبطشوا بكم بالقتل.
437
وكونوا قائمين بالحق لله تعالى، لا لأجل الناس والرياء، وأدّوا الشهادة بالعدل التّام الذي لا محاباة فيه لقريب أو صديق، ولا جور لأن العدل ميزان الحقوق، وبه سعادة الأمم، وطمأنينة الناس، وبالظلم والجور تنتشر المفاسد ويختل النظام والأمن.
ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على ترك العدل فيهم، بل التزموا العدل مع كل الناس، الصديق أو العدو.
والعدل أقرب لاتّقاء الله والبعد عن المهالك والمعاصي، واحذروا عقاب الله إن وقع منكم الجور والمحاباة، فإن الله بصير بأعمالكم، ومجازيكم عليها خيرا أو شرّا.
ثم بيّن الله جزاء المستقيمين، وجزاء العصاة، أما جزاء الأولين، فإن الله وعد الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال التي أمروا بها مغفرة لذنوبهم، أي سترا لها، وأجرا عظيما وهو الجنة ذات الخلود الدائم في نعيمها. وأما العصاة الذين كفروا بالله وتوحيده، وكذّبوا بالآيات الكونية والآيات التنزيلية على الرّسل وأهمها آيات القرآن، فهم أصحاب النار الملازمون لها على الدوام.
والجمع بين هذا الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين هو من أسلوب القرآن الرائع، ليظل الإنسان على وعي وتذكر تامّ لمصير الفريقين، فيرغب في الإيمان والعمل الصالح، ويرهب الوقوع في الكفر وتكذيب آيات الله.
ثم ذكّر الله المؤمنين والنبي صلّى الله عليه وسلّم بنعمة مخصوصة تستوجب التّذكر الدائم على ممرّ الزمان وهي نعمة إنقاذ النّبي القائد ونجاته من مكر الأعداء وتآمرهم والتخطيط للفتك به، سواء من يهود بني النضير، أو من بني ثعلبة وبني محارب في بطن نخل، في الغزوة السابعة: غزوة ذات الرقاع، أو من غورث بن الحارث الذي شهر سيف النّبي الذي أخذه منه، وهمّ بقتله، وهو لا يخاف منه قائلا له: يمنعني الله منك وهو حديث صحيح.
438
فيا أيها المؤمنون، اذكروا نعم الله الكثيرة عليكم، بعد التزام التقوى، ومن أعظم تلك النعم أن الله تعالى حمى نبيّكم من فتك الأعداء، وصانكم من القتل حيث كنتم قلة، وأعداؤكم كثرة وقوة، فمدّوا إليكم وإلى نبيّكم أيديهم وألسنتهم بالسوء، ولكن الله أيّد رسوله ونصر دينه وأتم نوره، وكفاكم الشّر والعدوان في أمر بني النضير وفي هزيمة الأحزاب في غزوة الخندق وغيرها، فاتخذوا من تقوى الله وحده عدة وحصنا، تنفعكم وتحميكم من الفتن والشرور وعذاب الله، وتوكلوا على الله وحده حق التوكل، بعد اتّخاذ الأسباب الدنيوية الواقية من السوء، فمن اتّقى الله وتوكّل عليه، حماه من شر الناس وعصمه، وكفاه الله ما أهمه، ولا تخشوا الأعداء ولا يغرنكم كيدهم وتفننهم في أساليب الخراب والدمار، فالله معكم وناصركم إن كنتم مؤمنين.
نقض أهل الكتاب المواثيق والعهود الدينية
إن الوفاء بالعهود الدينية وتنفيذ الواجبات الإلهية سبب لتكفير السيئات ودخول الجنات، والظفر برضوان الله تعالى لأنه دليل الإيمان الصحيح وصدق التّدين وقوة الوازع الديني، والإخلال بهذه العهود مؤد للعنة الإلهية والطرد من رحمة الله، وقسوة القلوب وجمود النفوس، ونشوب الخصومات والعداوات وإيقاع البغضاء بين خائني العهد في الدنيا، والجزاء الأليم في نار جهنم في عالم الآخرة.
قال الله تعالى مبيّنا هذه الظواهر بين أهل الكتاب ليتّعظ بها المسلمون وغيرهم:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
«١» «٢»
(١) النقيب: كبير القوم المتكفل بالوفاء بالعهد والذي يعنى بشؤون قومه ورعاية مصالحهم.
(٢) عزرتموهم:
نصرتموهم ومنعتم عنهم الأعداء.
439
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المائدة: ٥/ ١٢- ١٤].
يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن نقض الإسرائيليين مواثيق الله تعالى، فلقد أخذ الله العهود والمواثيق على بني إسرائيل بواسطة نبيّهم موسى عليه السّلام، ليعملن بالتوراة، وأمرناه أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، يتولون شؤون الأسباط (ذرية يعقوب) ويرعونهم، ويتحسسون أخبار أعدائهم ليقاتلوهم، فخان عشرة منهم العهد، وبقي اثنان، وأخبر الله على لسان موسى: أني مؤيّدكم وناصركم على عدوكم، ومطّلع عليكم ومجازيكم على أعمالكم.
ومضمون الميثاق أو العهد الإلهي الشامل: لئن أقمتم الصلاة بشروطها وأدّيتموها أداء كاملا تامّا، وآتيتم الزكاة للمستحقّين وهو شيء من المال كان مفروضا عليهم، وآمنتم إيمانا صادقا برسلي وناصرتموهم، وأقرضتم القرض الحسن من غير ربا ولا فائدة، لأكفرن عنكم سيئاتكم، ولأدخلنكم جنات تجري من تحت غرفها وبساتينها الأنهار، فمن جحد منكم شيئا من هذه الأوامر، وخالف مقتضى الميثاق بعد عقده
(١) إقراضا بطيب النفس.
(٢) يغيرونه أو يؤولونه بالباطل. [.....]
(٣) تركوا نصيبا وافيا.
(٤) خيانة وغدر.
(٥) أوقعنا وهيّجنا.
440
وتوكيده، فقد أخطأ الطريق الواضح المستقيم الذي هو الدين المشروع من الله، وعدل عن الهدى إلى الضلال.
وبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذناه عليهم، أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ورحمة الله، وغضبنا عليهم، وجعلنا قلوبهم غليظة قاسية شديدة، لا تقبل الحق ولا تتعظ بموعظة، وفسدت أفهامهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأوّلوا كلام الله على غير وجهه الصحيح وحرّفوه وبدّلوه بالتقديم والتأخير والزيادة والنقص، ونسوا نصيبا مهمّا مما أمروا به في كتابهم، وهو الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء والمرسلين، وتركوا العمل به، رغبة عنه، مما يدلّ على سوء فعلهم بأنفسهم، ولا تزال أيها النّبي في مستقبل الزمان تطّلع على خيانات متكررة منهم، إلا قليلا منهم ممن آمن، وحسن إيمانه كعبد الله بن سلام وأصحابه.
فاعف واصفح عما صدر منهم من إساءات، وعاملهم بالإحسان، إن الله يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم، والعفو دليل النصر والظفر.
وأخذ الله أيضا من الذين قالوا: إنا نصارى ميثاقهم على مؤازرة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ومناصرته والإيمان برسالته، ففعلوا كما فعل اليهود قبلهم، وتركوا العمل بأصول دينهم، ونسوا نصيبا مهمّا من تعاليمهم، فكان جزاؤهم إيقاع العداوة والبغضاء بين صفوفهم، فصاروا فرقا متعادين وفئات مختلفين، وستظل العداوة بينهم مستمرة لازمة إلى يوم القيامة، وسوف يخبرهم الله بما صنعوا، ويجازيهم على ما اقترفوا بقدر ما يستحقون في عالم الآخرة.
وهذا وعيد واضح توعّدهم الله بعقاب الآخرة، وتوبيخ متقدم للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
441
والعبرة من هذه الأخبار: تحذير المؤمنين من التّشبه بهم وترك تعاليم دينهم، فإن الله بالمرصاد لكل من خالف أوامر الله وعصى أحكام ربّه.
مقاصد القرآن والرّسالة النّبوية
لكل كتاب إلهي أهداف عامّة ومقاصد تشريعية، ولكل رسول مهام وخصائص معينة، وقد أبان القرآن الكريم مقاصده وخصائص الرسول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بإيجاز، وحصر وصف الرسول بأمرين اثنين: هما البيان الإلهي، والعفو عن كثير مما يكتمه أهل الكتاب، ووصف القرآن بأنه نور وبأنه الهادي إلى الصّراط المستقيم، وبأنه يخرج الناس من الظّلمات إلى النّور.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
[المائدة: ٥/ ١٥- ١٦].
أخرج ابن جرير الطبري في بيان سبب النزول عن عكرمة قال: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرّجم، فقال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور، والمواثيق التي أخذت عليهم، حتى أخذته رعدة من الخوف، فقال: لما كثر فينا جلدنا مائة، وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرّجم، فأنزل الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا..
الآية.
والمعنى يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد جاءكم رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بالهدى
442
ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل.
ووصف الرسول هنا بصفتين:
الأولى- أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون من أحكام الكتاب الإلهي وهو التوراة، قال ابن عباس: «أخفوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأخفوا أمر الرّجم، وعفا عن كثير مما أخفوه، فلم يفضحهم ببيانه». والإخفاء أدب جمّ من القرآن، لأن المهم أن يؤمنوا بالقرآن، ولا داعي للإثارة المبعدة عن الإيمان وإعلان الحق.
الصفة الثانية- ويعفو عن كثير، أي يترك كثيرا ولا يظهر ما تكتمونه أنتم، إبقاء عليكم، وإنما لم يظهره لعدم الحاجة إليه في الدين. وهذا يدعوهم إلى أن يكونوا صرحاء جريئين في بيان أحكام الشرع الإلهي دون كتمان شيء، ولا تهرّب من إظهار الحقائق. وإذا كان العفو من النّبي عليه الصّلاة والسّلام فبأمر ربّه. وإذا كان من الله تبارك وتعالى فعلى لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. والمعنيان متقاربان.
وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وفي الآية الدلالة على صحة نبوّة محمد، لأن إعلامه أهل الكتاب بخفي ما في كتبهم، وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب دليل على أن ذلك إنما هو وحي يأتيه من عند الله تعالى.
ثم وصف الله تعالى ما جاء به من عنده بأن محمدا الرسول أو القرآن نور يضيء درب الحق، وأن القرآن كتاب واضح يهدي به الله من أقبل عليه، واتّبع الدين الذي يرضى به الله تعالى، يهدي إلى طريق النّجاة والسّلامة ومناهج الاستقامة، وينجّي الناس من المهالك، ويخرجهم من ظلمات الكفر والضّلال إلى نور الحق والإيمان، ويرشدهم إلى الطريق القويم وهو الدين الحق الذي يوصل الناس إلى خيري الدنيا والآخرة. وذلك لأن طريق الحق واحد لذاته، وطريقه مستقيم واحد، لا اعوجاج فيه ولا غموض، أما الباطل فله شعاب كثيرة، وكلها معوجّة.
443
يظهر مما تقدم أن مقاصد القرآن الكريم ثلاثة:
١- إن المتّبع لما يرضي الله والمقبل على مراده يهديه القرآن إلى طريق النّجاة والسّلامة من الشّقاء والعذاب في الدنيا والآخرة، باتّباع الإسلام، والإسلام دين الحق والعدل والإخلاص والإنقاذ.
٢- إن القرآن المجيد يخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والشّرك والوثنية، والوهم والخرافة، وانحراف التفكير، إلى نور التوحيد الخالص.
٣- إن القرآن العظيم يهدي الناس ويرشدهم إلى الطريق الصحيح الموصل إلى الهدف السديد من الدين، وإلى خيري الدنيا والآخرة.
وكل هذه المقاصد القرآنية الموجهة إلى العالم بأجمعه إكمال لرسالات الأنبياء المتقدمين، وبناء وتقدّم وحضارة ومسيرة في الطريق الصحيح، وخير للبشرية جمعاء، قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) [الإسراء: ١٧/ ٩- ١٠].
ادّعاء النّجاة في الآخرة
هذا العالم الكبير من ملكوت السماوات والأرض والوجود يشتمل على خالق قديم أزلي لم يتقدمه شيء، ومخلوق حادث أوجده الخالق، ومن المستحيل عقلا أن تكون صفات الخالق مثل صفات المخلوقات، وإلا كان مثلها واحتاج إلى من يوجده، فنقع في سلسلة من الافتراضات لا حصر لها، وهذا ممنوع في المنطق السليم. وحينئذ لا يتصور أن يكون أحد من المخلوقات له صفات الخالق المبدع أو حظّ من الألوهية،
444
ولا يقبل من بشر أن يدّعي أنه أقرب إلى الله إلا بعبادته وطاعته، فالقرب من الله قربا معنويا لا ماديا محسوسا يكون بمقدار الطاعة والتزام شرائع الله المشرّع.
ومن هنا وجدنا في القرآن إنكارا شديدا للشّرك أو وصف أحد من المخلوقات بالألوهية، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
«١» [المائدة:
٥/ ١٧- ١٩].
روى ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من اليهود، فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله، وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحبّاؤه، كقول النصارى، فأنزل الله فيهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الآية.
وروى ابن جرير أيضا وغيره عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود إلى الإسلام، فرغّبهم فيه وحذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وآخرون: يا معشر اليهود، اتّقوا الله، فو الله لتعلمن أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل
(١) فتور وانقطاع.
445
مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهودا: إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا.. الآية.
لقد دعا جميع الرّسل والأنبياء ومنهم المسيح إلى توحيد الله وتمجيده، فلا يصح أن يوصف أحد من الرّسل بأنه هو الله، والله قادر على أن يهلك أي بشر، فلا مالك ولا رادّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره، ومن تنفذ فيه الإرادة الإلهية تقضي العقول بأنه ليس بإله، والله هو مالك السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات، والمتصرّف في كل شيء، وجميع الموجودات ملكه وخلقه، والله صاحب القدرة التامة المطلقة على كل شيء، فكيف يكون المملوك المخلوق إلها خالقا؟ إن هذا لكفر صريح.
وإذا ادّعى أهل الكتاب أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، سئلوا: فلم يعذّبكم الله بذنوبكم في الدنيا والآخرة؟! وأنتم قد أقررتم أنه يعذّبكم. والتعذيب على الذنوب ينافي أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، فأنتم بشر كسائر الناس، وأكرم الناس عند الله أتقاهم.
والله هو المالك المطلق والمتصرّف في السماوات والأرض وما بينهما، وصاحب الملك يفعل في ملكه ما يشاء، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد يوم القيامة، وجميع العباد عبيد له، قال الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) [مريم: ١٩/ ٩٣].
وسيعذّب الله الكافر والعاصي بحق، ويثيب الطائع المؤمن والصالح بفضل منه ورحمة. وتكرار جملة وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ للتأكيد وتقرير المعنى في الأذهان وهو أن المالك قادر على إهلاك المملوك.
446
يا أهل الكتاب لا حجة لكم فيما تقولون وتدّعون من النجاة في الآخرة، فلقد جاءكم رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد فترة من انقطاع الرّسل والوحي، يبيّن لكم ما اندثر وضاع من الأحكام الشرعية، وقد بشّرت به كتبكم، وهو مصدّق لما معكم من التوراة والإنجيل، ومكمل للشرائع، وخاتم للرّسل، أرسله ربّه بالهدى، ودين الحق، لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير يبشّر بالجنة من أطاع، ولا نذير يحذّر ويخوّف من عصى بالنار، فقد جاءكم البشير والنذير، وقامت الحجة عليكم، والله على كل شيء تام القدرة، نافذ الإرادة والسلطان، فهو المنعم والمعذّب، والمحاسب والراحم، والمنتقم والغفار، لا ربّ غيره، ولا إله سواه، الكل في الدنيا والآخرة وجميع السماوات والأرض في قبضته وإرادته وتصرّفه، فليعقل الناس ما هم عليه من الحقائق البشرية، ولا يدّعي أحد أنه فوق منازل البشر، أو أنه إله، فالإله خالق، ولا خالق غيره.
ألوان من النّقاش بين موسى وقومه
أقام الله تعالى في قرآنه أدلة قاطعة من التاريخ على تحقق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بالإخبار بها، حيث لا يوجد مصدر علمي آخر موثوق به يدلّ عليها، ومن تلك الأدلة: إيراد تفصيلات دقيقة من النقاش والجدل بين موسى عليه السّلام وبين قومه، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
447
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ٢٠- ٢٦].
والمعنى: اذكر لهم يا محمد أخبار موسى مع قومه، ليصدّقوا بدعوتك ويتحققوا نبوّتك، إذ لا يوجد مصدر آخر لهذه الأخبار من غير طريق الوحي إليك. ومشتملات هذه الأخبار: تعداد أهم النّعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل في زمان موسى، وهي نعم ثلاث:
قال موسى لقومه: تذكروا نعمة الله عليكم بتتابع الأنبياء فيكم، من عهد إبراهيم إلى عيسى عليهم السّلام، وتذكروا أن الله جعلكم ملوكا أحرارا بعد أن كنتم مملوكين في أيدي القبط المصريين، والملوك شرف الدنيا، فعندكم ما يكفيكم من الأزواج والخدم والدور والأراضي المشجرة وغير المشجرة، وأمدكم الله في زمان أسلافكم الذي كانوا فيه بالخيرات وآيات موسى مثل المنّ والسلوى، والتّظليل بالغمام، وفلق البحر أو فرقه، وإنجاؤكم وغرق عدوكم فرعون وجنوده في البحر.
ويا قوم ادخلوا الأرض المطهرة من عبادة الأوثان، المباركة لأنها أرض الأنبياء الخالية من القحط والجوع ونحوه، لتجاهدوا أعداءكم في الطّور وما حوله كما قال مجاهد، وهي التي قسمها لكم وسماها، ولا تتراجعوا وتنهزموا من خوف أهلها الجبارين، ولا تتخلفوا عن الجهاد، فتصبحوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.
(١) فافصل بحكمك.
(٢) يسيرون فيها متحيّرين.
448
قالوا: يا موسى، إن في تلك الأرض قوما جبارين، أي طوالا عتاة، يجبرون الناس على ما أرادوا، وكانوا من الكنعانيين، وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها، فإن خرجوا منها، فإنا داخلون فيها. قالوا هذا على سبيل الاستبعاد والتّعنت والتخلف عن الجهاد، وهذه طبيعتهم الحالية لجبنهم وتقاعسهم.
لذا استنكر بعضهم هذا الموقف المتخاذل، فقال رجلان من الذين يخافون الله تعالى، وأنعم الله عليهما بالإيمان الصحيح وقوة البأس والعزيمة والثبوت في الحق، وهما من قوم موسى النّقباء الأشراف: ادخلوا عليهم باب المدينة، ففي ذلك إرهاب لهم وتخويف وذعر، فإذا دخلتم الباب، فإنكم غالبون منصورون، وعلى الله توكّلوا إن كنتم مصدّقين به بوعده بالنصر.
فأجابوا وقالوا مصرّين على الرّفض والعناد والتّمرد، ولم تنفعهم عظة الرجلين الصالحين شيئا: يا موسى، إنا لن ندخلها أبدا ما دام فيها هؤلاء الجبابرة، فاذهب أنت وربّك الذي أمرك بالجهاد، فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون عن الجهاد، منتظرون ما يحدث. وفي هذا غاية الجبن والتقاعس وقلة الأدب مع الله، والتّنكر لموسى عليه السّلام.
فقال موسى غاضبا حزينا: ربّي إني لا أملك إلا نفسي وأخي هارون فلا يطيعني أحد منهم، لامتثال أمر الجهاد، فافصل واقض بيني وبين هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين عن طاعتك.
قال الله تعالى: فإن تلك الأرض المقدسة محرّم عليهم دخولها مدة أربعين سنة، واتركهم خلالها يتيهون في الأرض، فلا تحزن يا موسى على القوم المتمرّدين فيما حكمت به عليهم، جزاء ما يستحقون، فتلك أفعالهم الخبيثة سجية موروثة عندهم.
449
أول جريمة قتل في الدنيا
الحق في الحياة حق مقدس، فلا يجوز سفك دم حرام، أو الاعتداء على إنسان بغير مسوغ ولا سبب مشروع لأن الإنسان صنيعة الله في هذا العالم، وكل اعتداء عليه اعتداء على فعل الله وتجاوز لحكمته وتحدّ لإرادته.
لذا استنكر القرآن العظيم أول جريمة قتل حدثت في الدنيا، وهي قتل قابيل لأخيه هابيل، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [المائدة: ٥/ ٢٧- ٣٢].
والمعنى: اقرأ واسرد على مسامع القوم خبر ابني آدم: قابيل وهابيل، ببيان صحيح واقعي لا زيادة فيه ولا نقص، حين قرّبا قربانا إلى الله تطوّعا وتعبّدا، وكان قابيل صاحب زرع، فعمد إلى أردأ ما عنده فقرّبه، وكان هابيل صاحب غنم، فقصد إلى
(١) أي قابيل وهابيل.
(٢) ترجع بإثم قتلي.
(٣) زيّنت له.
(٤) جثّته أو عورته.
450
أفضل كباشه فقرّبه، وكانت العادة أن يقرّب المقرّب قربانه، ويقوم يصلي ويسجد، فإذا نزلت نار وأكلت القربان، فذلك دليل القبول. فنزلت النار، فالتهمت كبش هابيل ورفعته وسترته عن العيون، وتركت زرع قابيل، فحقد قابيل على أخيه هابيل، وهدّده بالقتل، فقال هابيل: وما ذنبي في أن الله لم يتقبّل منك، فأصلح نفسك، فإنما يتقبّل الله من المتّقين أعمالهم.
يا أخي، لئن مددت إلي يدك بسوء لتقتلني ظلما وعدوانا، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أبدا لأني أخاف الله ربّ العالمين، الذي ربّانا وتعهّدنا بالعناية والرّعاية، فمن يقتل الآخر أو يعتدي عليه، استحقّ العذاب الشديد.
يا أخي، لا أريد مقابلة الجريمة بمثلها، فإنك إن قتلتني وابتعدت عن معاملتك بالمثل، أريد أن تتحمل إثمي بقتلي، وإثمك قبل الاعتداء علي، فتكون من أهل النار، وذلك جزاء الظالمين أنفسهم المعتدين على غيرهم، أي أنه حذّره من القتل بثلاث مواعظ: الخوف من الله، وتحمل الإثمين: إثم القتل وإثم نفسه، وكونه من الظالمين أصحاب النار.
فحسّنت وسوّلت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين أنفسهم في الدنيا والآخرة بسبب جريمة القتل هذه.
ثم حار القاتل قابيل وضاقت به الدنيا، ولم يدر كيف يفعل بجثة أخيه، فبعث الله غرابا حيّا إلى غراب ميت، فجعل يبحث ويحفر في الأرض حفرة، ويلقي التراب على الغراب الميت، ليعلّمه كيف يواري عورة أخيه أي جثّته، فقال: يا فضيحتي- وهذا اعتراف منه باستحقاق العذاب- أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! فأواري جثّة أخي، فأصبح نادما على ما فعل، لكنه لم تقبل توبته لأنه لم يندم ولم يتب من المعصية، وإنما كان ندمه على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه أبواه
451
وأختاه، فكان من الذين سنّوا سنّة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة.
وكان قابيل من العصاة لا من الكفار، روى البخاري ومسلم حديثا عن ابن مسعود: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل- أي نصيب- من دمها لأنه أول من سنّ القتل».
وبسبب هذه الجريمة النكراء كتب الله على بني إسرائيل في التوراة ومن بعدهم في ديانة عيسى وشريعة محمد عليهما الصلاة والسلام: أنه من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص، أو قتل بغير سبب فساد في الأرض بالإخلال بالأمن والطمأنينة كقطّاع الطرق أو المحاربين، فاستحلّ القتل بلا سبب، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحيا نفسا، أي امتنع من قتلها، فكأنما أحيا الناس جميعا بتوفير الأمن والطمأنينة لهم إذ كل نفس عضو في المجتمع الإنساني، وحق الحياة مقدس ومصون لجميع البشر. ولقد جاءت رسل الله الكرام بني إسرائيل بالبينات الواضحات كالشمس على الحلال والحرام، ولكن كثيرا من الناس بعد ذلك لمتجاوزون الحدود، يسرفون في القتل والمعاصي.
عقوبة المحاربين (قطّاع الطرق)
العقوبة في الإسلام والقوانين كلها حق وعدل، لإصلاح الجناة وزجر المجرمين وردعهم، والعقوبة تتفاوت بتفاوت الجريمة ومقدار خطرها، وإخلالها بأمن المجتمع وراحتهم، فإذا كانت عقوبة اللصوص السارقين قطع اليد لأن جريمتهم شخصية خاصة، فإن عقوبة المحاربين قطّاع الطرق أشدّ وأنكى، فهي إما النّفي من الأرض أو
452
قطع اليد والرجل من خلاف، أو القتل والصّلب، أو القتل فقط لأن جريمتهم تهدّد أمن المجتمع برمّته، وتنشر الذعر والإرهاب في جميع الأماكن.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ٣٣- ٣٤].
سبب نزول آية المحاربة: ما
روى البخاري ومسلم عن أنس: أن ناسا من عكل وعرينة «٣» قدموا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة «٤»، فأمر لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بزود من الإبل «٥» وراع، وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة «٦»، كفروا بعد إسلام، وقتلوا الراعي، ومثّلوا به، واستاقوا الزّود من الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث في طلبهم، فأتوا فأمر بهم، فسملوا أعينهم»
، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتركوا حتى ماتوا، فنزلت الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...
هذه الآية في المحاربين من أهل الإسلام: وهم الذين خرجوا على الناس بقصد أخذ أموالهم أو قتلهم أو لإرهابهم، فيختلّ الأمن والسّلم، وتنتشر الرهبة والذّعر في كل مكان، أو يعتدون على الحقوق الشرعية كمنع الزكاة مثلا، كما حدث في عهد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، حيث حارب المرتدّين المانعين للزّكاة بقوة وبأس.
أ- فإن أخافوا الطريق فقط، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا، كانت عقوبتهم
(١) يبعدوا أو يسجنوا.
(٢) ذلّ وعقوبة.
(٣) قبيلتان مشهورتان.
(٤) وجدوها رديئة المناخ. [.....]
(٥) الزّود:
من ثلاثة إلى تسعة.
(٦) الحرّة: أرض ذات حجارة سوداء نخرة كأنها أحرقت بالنار.
(٧) كحّلوها بمسامير الحديد المحماة.
453
النّفي من الأرض، أي الحبس في مكان عند الحنفية، أو الإبعاد إلى بلد آخر ليسجن فيه عند الجمهور.
ب- وإن أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي تقطع اليد اليمنى من الرّسغ والرّجل اليسرى من المفصل.
ج- وإن قتلوا المارّة قتّلوا، أي إن عقوبة القتل أمر محتوم لا يسقط، ولو عفا أولياء الدّم، أي أقارب المقتول، فهذه عقوبة لا تقبل العفو أو الإسقاط. وعلى المسلمين التعاون مع الدولة لقتال هؤلاء المحاربين وكفّهم عن أذى الناس.
د- وإن قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا بعد موتهم، نكالا لغيرهم، في قول الإمام الشافعي، ويكون صلبهم أحياء لمدة ثلاثة أيام ثم يقتلون بالطعن على الخشبة في رأي جمهور العلماء، وهذا هو الأنكى في النّكال والتّعذيب.
ذلك العقاب خذلان وذلّ وفضيحة، وخزي وعار في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم مع العقوبة لمن شاء الله تعذيبه، وهذا يختلف عن بقية الحدود على المعاصي المرتكبة
في حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه من قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «فمن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب به، فهو كفّارة له».
ثم استثنى الله من العقوبة التائبين الذين أقلعوا عن الجريمة وندموا على ما فعلوا، فإن تاب المحارب قبل القدرة عليه، أي قبل إلقاء القبض عليه من السلطة (الدولة) فقد سقط عنه حكم الحرابة، ولا عقاب عليه، لكن يطالب بحقوق الآدميين، أي بالحقوق الشخصية الخاصة، فيقتصّ منهم بسبب الاعتداء على النفس والجراح، وكان عليهم ضمان ما أتلفوه أو استهلكوه من مال، أو أراقوا من دم. ويجوز لولي الدّم حينئذ العفو عنه كسائر الجناة غير المحاربين، وهذا ما عبّرت عنه الآية في قوله
454
تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن توبتهم قبل القدرة عليهم دليل على أنها توبة خالصة لله تعالى.
أما إن تابوا بعد القدرة عليهم، فيقام عليهم حدّ الحرابة، ويكون تطبيق الحدّ عليهم أمرا حتميا واجبا بسبب العصيان والفساد، وعلى المسلمين وغيرهم إعانة الحكام في مطاردتهم وكفّهم عن عدوانهم لأنهم متّهمون بالكذب في توبتهم والتّصنع فيها إذا نالتهم يد الحاكم وألقي القبض عليهم أثناء عدوانهم، ولا يظلم ربّك أحدا.
أساس النّجاة في الآخرة
انزجار الناس وارتداعهم عن المعاصي والجرائم يكون بأحد أمور ثلاثة: إما بتطبيق العقوبة على الجاني، فينزجر ويرتدع، أو برؤية الجناة متلبسين بالمكاره وألوان التعذيب، فيرق الرائي والسامع ويخشع قلبه، أو بالوعظ والإرشاد والترهيب من أصناف العذاب في الدار الآخرة في نار جهنم.
والحال الثانية وهي رؤية التعذيب أبلغ من الوعظ لورودها على النفوس وهي خائفة وجلة، وقد اعتمد القرآن عليها إذ أورد آيات التخويف بين حدّين من الحدود المقررة شرعا وهما حدّ الحرابة وحدّ السّرقة، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
«١» [المائدة: ٥/ ٣٥- ٣٧].
(١) الزّلفى بفعل الطاعات وترك المخالفات.
455
تأمر الآية الأولى المؤمنين بأوامر ثلاثة: وهي تقوى الله، وهي إذا قرنت بالطاعة تعني الكفّ عن المحارم وترك المنهيات، والأمر الثاني: طلب القربة إلى الله وهي ابتغاء الوسيلة، والوسيلة: القربة أي ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود والنجاح، والأمر الثالث: الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ودينه، وخصّ هنا الأمر بالجهاد لأمرين: أولهما- رفعة شأنه بين أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام، والثاني- أنه الطريق إلى الجنة والعبادة التي هي بديل عن المحاربة أو قطع الطريق.
وأما الوسيلة المطلوبة للنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في دعائنا بعد الأذان بإيتاء الوسيلة والفضيلة، فمعناها درجة في الجنة، وأعلى منزلة في الجنة. والفضيلة: هي الشفاعة العظمى له في المقام المحمود بجميع الخلائق ليقدّم الناس إلى الحساب، تخلّصا من أهوال يوم القيامة.
ومعنى الآية: يا من آمنتم بالله ورسوله، اتّخذوا الوقاية لأنفسكم من عذاب الله، بامتثال أمره واجتناب نهيه، وتقرّبوا إلى الله بالطاعة والعمل بما يرضيه، وجاهدوا أعداء الإسلام حتى يكون الدين كله لله، ومن أجل نصرة الحق والخير والحرية للبشرية.
ثم أخبر الله عما أعدّ لأعدائه الكفار من العذاب الشديد يوم القيامة، وأوضح أن الذين كفروا أو جحدوا بالله ربّا واحدا لا شريك له، وأنكروا آياته الدّالة على وجوده ووحدانيته وقدرته الشاملة، وكذبوا رسله، لو جاؤوا بملء الأرض ذهبا، ومثله أو ضعفه معه، ليفتدوا بهذا الفداء من عذاب الله، على كفرهم وعنادهم، ما تقبّل منهم ذلك، ولهم عذاب ثابت دائم مستمر لا خروج لهم منه، كما قال الله تعالى في آية أخرى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: ٢٢/ ٢٢].
نعود إلى قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ لنحقق معنى التّوسل، فقد استدلّ
456
بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة والتّوسل بالصالحين، وجعلهم وسطاء ووسائل بينهم وبين الله تعالى. ولكن الله لا يحتاج إلى هذه الوسائل والوسائط لقوله سبحانه: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. [غافر: ٤٠/ ٦٠] وقوله عزّ وجلّ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) [البقرة: ٢/ ١٨٦] وقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) [ق: ٥٠/ ١٦].
وتحقيق القول في التّوسل ما ذكره الألوسي في تفسيره حيث قال: جاء لفظ التوسل بثلاثة معان:
أولا- التوسل بمعنى التّقرب إلى الله بطاعته وفعل ما يرضيه، وهو المراد بالآية وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. وقد توسّل أهل الصخرة الثلاثة إلى الله عزّ وجلّ بصالح الأعمال، أي طلبوا الفرج بصلاح أعمالهم، لا بالولي الفلاني أو الشيخ الفلاني.
ثانيا- التّوسّل بالمخلوق والاستغاثة، بمعنى طلب الدعاء منه، لا شك في جوازه، إن كان المطلوب منه حيّا، كالتّوسل بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم حال حياته، أو بعمّه العباس في صلاة الاستسقاء. أما إذا كان المطلوب منه الدعاء ميتا أو غائبا فغير جائز.
ثالثا- القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك، أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي. أجازه العزّ بن عبد السّلام في النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه سيّد ولد آدم، دون غيره من الأنبياء والملائكة والأولياء، ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف وابن تيمية التّوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه.
457
جزاء السّارق
السّرقة من الأموال الخاصة أو من الأموال العامة كأموال الدولة أو القطاع العام أو الخاص من أعظم الجرائم في الإسلام، فهي حرام حرمة شديدة، ومنكر عظيم، وأكل لأموال الناس بالباطل، لا يحل في شرع ولا دين ولا قانون في الدنيا لأن إباحة السرقة تخل بأمن الناس في أموالهم وتهز مبدأ الثقة والطمأنينة، وتزعزع استقرار الاقتصاد والتجارة وغيرها من موارد الرزق. والغصب والخيانة والنهب ونحو ذلك كالسرقة أخذ ملك الآخرين بغير حق.
لذا كانت جريمة السرقة مستوجبة الحدّ وهو قطع اليد في شريعة القرآن، وهذه العقوبة، وإن كانت قاسية، فهي العقوبة الوحيدة الزاجرة للاعتداء على الأموال وأخذها بغير حق. قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
[المائدة: ٥/ ٣٨- ٤٠].
نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له، يدعى قتادة بن النعمان في جراب دقيق به خرق، وخبّأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد هذا، فلما تنبّه قتادة للسرقة، التمسها- أي الدرع- عند طعمة، فلم يجدها، وحلف ما أخذها، وماله بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتبعوه حتى وصلوا إلى بيت زيد، فأخذوا الدرع منه، فقال: دفعها إلي طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة لأن الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
[النّساء: ٤/ ١٠٧] ثم نزلت آية السّرقة لبيان حكمها.
458
وروى أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
والمعنى: فيما فرض عليكم أو يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، فمن سرق من ذكر أو أنثى، فاقطعوا يا ولاة الأمور أيديهما أي من الرّسغ كما أوضحت السّنة النّبوية، جزاء لهما على سرقتهما وما كسبت أيديهما، ولانتهاك حرمة مال الآخرين، لأن السرقة قد تجرّ إلى الدفاع عن المال وإلى القتل، وتنكيلا وإهانة وتحقيرا لهما من الله لأن فعلهما خسيس ودنيء يستوجب الإذلال، والزجر عن العودة للسرقة، وإيقاع عبرة لغيرهما، والله قوي غالب في تنفيذ أوامره، حكيم في تدبيره وصنعه وتشريعه، لا يشرع إلا ما فيه الحكمة والمصلحة، واختيار الأنسب للجريمة.
أما من تاب من بعد ظلمه بالسرقة، وأناب إلى الله، ورجع عن السرقة، وردّ أموال الناس إليهم، وأصلح نفسه وزكّاها بعمل البر والتقوى، فإن الله يقبل توبته، فلا يعذّبه في الآخرة، وإن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم إذا صلحوا.
ألم تعلم أيها الرسول وكل مؤمن أن الله هو المالك لجميع السماوات والأرض ومن فيهما، يتصرف في ذلك بالعدل والحكمة والعلم الواسع والفضل العظيم، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده، ويرحم التائبين، ومن حكمته وعدله أنه وضع حدّا للسرقة لزجر اللصوص وردعهم، توفيرا للأمن والاستقرار، وتحقيقا لمصالح العباد، والله هو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة.
ومن خلال التجربة والتطبيق تبين أن الحدود الشرعية هي المحققة لمصلحة الناس العامة والخاصة، فلا مانع من الجريمة أحكم وأعدل وأصلح من حدود الله المقررة في القرآن المجيد.
459
لكن ينبغي أن نعلم أن حدّ السرقة لا يقام على السراق إلا بشروط كثيرة، فيشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا، لا صبيّا ولا مجنونا، وألا يكون مأذونا له في الدخول إلى مكان الأموال، لا ضيفا أو خادما، ولا قريبا ذا رحم محرم من المسروق منه، ولا مالكا للمسروق، وأن يكون المسروق مقدّرا بنصاب شرعي وهو دينار ذهبي فأكثر في رأي الحنفية، أو ربع دينار في مذهب الجمهور، وأن يكون المسروق مالا متقوما، أي يباح الانتفاع به شرعا، لا كنحو خمر أو خنزير أو كلب أو ميتة أو دم مثلا.
وهناك شرط عام في الحدود كلها وهو ألا توجد شبهة فالحدود تدرأ بالشبهات، وباب الشبهة واسع يجعل إمكان تطبيق الحدّ نادرا، وينتقل حينئذ إلى عقوبة تعزيرية أخرى غير الحدّ، كالحبس والضرب والتوبيخ. ومن تاب من فعله وأصلح نفسه، سقطت عقوبته، والله يحبّ التائبين.
المسارعة في الكفر
أنزل الله تعالى الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن متضمنة الشرائع الإلهية لتنظيم الحياة البشرية لأن الحياة التي لا يضبطها تشريع أو قانون هي حياة فوضوية تشبه حياة الغابة، لا سعادة ولا أمن ولا قرار فيها، القوي يأكل الضعيف، والكبير يستبدّ بالصغير، والمتنفّذ يظلم غيره ويجور في حكمه وتعامله معه بحسب أهوائه ونزواته ومطامعه وشهواته. لذا استنكر القرآن الكريم معاداة الشرائع والكتب الإلهية، ووصف المتجاوزين لأحكامها بأنهم يسارعون في الكفر ويبادرون إلى الضلال ويعملون بالأخلاق المرذولة، فقال الله تعالى مسرّيا ومقوّيا نفس نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل:
460

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤١ الى ٤٣]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [المائدة: ٥/ ٤١- ٤٣].
نزلت آية المسارعة في الكفر- كما
روى أبو داود- في رجل وامرأة من اليهود زنيا، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النّبي فإنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك قال. فأتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلما سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدارس «٨»، فجمع الأحبار هنالك، وسألهم عما في التوراة من حكم الزّناة المحصنين أي المتزوجين، فقالوا: يحمم وجه الزّاني، أي يطلى وجهه بالسّواد من فحم أو قار (زفت) ويجبّه الزانيان «٩»، وقالوا أيضا: إنا لا نجد الرّجم في التوراة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن فيها الرّجم، فانشروها، فنشرت، ووضع أحدهم يده على آية
(١) يغيّرونه أو يؤولونه بالباطل.
(٢) ضلاله وكفره.
(٣) ذلّ وعقاب.
(٤) السّحت: المال الحرام والخبيث من المكاسب.
(٥) بالعدل.
(٦) العادلين فيما حكموا به.
(٧) يعرضون عن حكمك.
(٨) المدارس: بيت الدراسة والتعليم عندهم.
(٩) أي يحملان على بعير أو حمار بحيث يجعل قفا أحدهما إلى قفا الآخر.
461
الرّجم، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا آية الرّجم، فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها بالرجم وأنفذه.
والآية تحذير عام وتذكير، وتثبيت وتقوية لنفس النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعناها: قد وعدناك أيها النّبي النصر والغلبة على هؤلاء المنافقين واليهود، فلا يحزنك ما يقع منهم خلال بقائهم، ولا يهمنك أمر الذين يسرعون بالوقوع في الكفر، فإنهم أحد فريقين: إما أنهم منافقون يظهرون الإيمان بألسنتهم، دون أن تؤمن قلوبهم، وإما أنهم يهود يبالغون في سماع الكذب من أحبارهم، الذين يلقون إليهم الأخبار الكاذبة في حقّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيما يتعلّق بأحكام دينهم، ويبالغون في سماع أقوام آخرين من اليهود هم يهود فدك لم يأتوا مجلسك يا محمد لشدة كراهيتك والحسد عليك، أو هم بمعنى كونهم جواسيس يتنصتون للكلام لينقلوه لقوم آخرين.
وهم أيضا يحرّفون كلام التوراة من بعد أن وضع الله مواضعه ببيان فروضه وإحلال حلاله وتحريم حرامه، يقولون لمن أرسلوهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم لسؤاله عن حكم الزانيين: إن أفتاكم بالتسخيم أو التحميم (تسويد الوجه) والجلد، فاقبلوا منه وارضوا به، وإن أفتاكم بالرّجم فاحذروا قبوله، ولا ترضوا به، ثم يقطع الله لنبيّه الرجاء منهم، قائلا له: لا تتبع نفسك أمرهم، فهم في مرصد الاختبار، والامتحان بالكفر والتعذيب في الآخرة، وقد اختاروا الضّلال، وسبق في علم الله ألا يطهّر قلوبهم من السّوء، وأن يكونوا مدنّسين بالكفر، فقرّر الله لهم الخزي في الدنيا، أي الذّل والمسكنة، وقرّر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
ثم أكّد الله تعالى اتّصافهم بصفة دائمة أنهم سماعون للكذب، أكّالون للسّحت أي المال الحرام من أخذ الرّشوة وغيرها، فإن جاؤوك أيها النّبي وكل حاكم بعدك للاحتكام أو التّقاضي، فأنت مخيّر بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم، وإن
462
أعرضت عنهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم لأن الله حافظك وعاصمك من الناس، وإن حكمت بينهم في قضية، فاحكم بينهم بالعدل الذي أمرك الله به، وهو شريعة القرآن، إن الله يحبّ العادلين ويرضى عنهم. وتخيير الحكام باق، وهو الأظهر إن شاء الله كما قال ابن عطية.
وكيف يحكّمونك أيها النّبي في قضية مثل الزّانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم الله، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين أبدا.
أجل! إن التّلاعب بأحكام الله وشرائعه ومحاولة التهرّب منها لا تفيد شيئا، فإن الحقائق ناصعة، ومن تنكّر للحقيقة تعرّض للخزي والهوان في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، وقانا الله تعالى من الانحراف وألهمنا الاستقامة على شرعه ودينه.
تشريع القصاص
تميّز القرآن الكريم بالحيدة والموضوعية وإظهار الحقائق في بيان الأحكام التشريعية فلا تعصّب فيه لشريعة أو اتّباعها على حساب شريعة أخرى لأن مصدر التشريع الإلهي واحد وهو الله عزّ وجلّ، فكما أن القرآن المجيد نور وهداية دائمة، كذلك التوراة والإنجيل هدى ونور، وكما أن القصاص أو عقوبة الإعدام أمر مقرر في الشريعة الإسلامية، فهو كذلك مقرر واجب في الشريعة الموسوية، وإنكار ذلك كفر وظلم وفسق.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
«١» «٢» «٣»
(١) انقادوا لحكم التوراة. [.....]
(٢) العلماء: الفقهاء والعبّاد.
(٣) علماء اليهود.
463
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ٤٤- ٤٧].
نزلت هذه الآيات في اليهود الذين بدّلوا حكم التوراة في الرجم، فجعلوا مكانه الجلد والتسخيم، أي تسويد الوجه وطلاءه.
والمعنى العام: إنا أنزلنا التوراة على موسى عليه السّلام، مشتملة على الهدى والنور، والهدى: الإرشاد في المعتقدات والشرائع، والنور: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها. وهي قانون يحكم بها الأنبياء المخلصون لله من عهد موسى بن عمران عليه السّلام إلى مدة مجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم، يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم، ويحكم بها أيضا الرّبانيّون، وهم العلماء الحكماء الذين يسوسون الناس بالعلم، ويحكم بها الأحبار: وهم العلماء رجال الدين، بسبب ما استحفظوا على كتاب الله شهداء ورقباء وحفاظا يحمونه من التغيير والتحريف.
وإذا كان الحال كما ذكر فلا تخافوا الناس أيها الأحبار، ولا تكتموا الحق، من صفة النّبي والبشارة به، طمعا في نفع دنيوي عاجل، وخافوا الله وحده، فلا تحرّفوا كتابه، خوفا من أحد أو مجاملة لأحد، فتسقطوا الحدود الواجبة عليهم، ولا تستبدلوا بآياتي وأحكامي منفعة قليلة عاجلة تأخذونها من الناس، من رشوة أو طمع
(١) أي في التوراة.
(٢) أتبعنا على آثار الأنبياء.
464
في مال أو جاه أو رضا الآخرين، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة سحت حرام لا بقاء لها ولا بركة فيها، واعلموا أيها العلماء أن من لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق.
واعلموا أيها الأحبار العلماء أننا أنزلنا التوراة، وفرضنا فيها على بني إسرائيل عقوبة القصاص من القتلة، على أساس المساواة والمماثلة، فتقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويجدع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، ويقلع السّن بالسّن، ويجري القصاص أي التماثل في الجروح والاعتداءات على الأعضاء. لكن من عفا عن الجاني وتصدق بحقه في القصاص، فالتّصدق كفارة له، يستر الله بها ذنوبه ويعفو عنه، والعفو أفضل، قال الله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: ٢/ ٢٣٧]. ومن أعرض عن تشريع القصاص القائم على العدل والمساواة بين الناس، ولم يحكم به في القضاء، فأولئك هم الظالمون أنفسهم وغيرهم، الذين يتعدون حدود الله، ويضعون الشيء في غير موضعه.
ثم ذكر الله تعالى في قرآنه أن التوراة شريعة أنبياء بني إسرائيل، فقال: وأتبعنا مجيء النّبيين وذهابهم والسّير على آثارهم بعيسى ابن مريم عليه السّلام، فهو آخر نبي لبني إسرائيل، مصدّقا للتّوراة التي تقدمته قولا وعملا، أي مقرّا بأنه كتاب من عند الله وأنه حق واجب العمل به، يعمل بها فيما لم يغاير الإنجيل، وأخبر الله تعالى أنه أعطى عيسى الإنجيل فيه الهدى، أي الإرشاد والدعوة إلى توحيد الله وإحياء أحكامه وشرائعه، وفيه النّور: وهو أن ما فيه مما يستضاء به، وأن الإنجيل مصدق ومؤيد لما جاء في التوراة، وهو أيضا سبب للاهتداء به وإرشاد الناس في المستقبل لما يأتي بعد الإنجيل وهو القرآن، ونبي الإسلام، والإنجيل كذلك موعظة حسنة للمتقين لاشتماله على النصائح والإرشادات البليغة، وخصّ المتقون بالذكر لأنهم المقصودون به في
465
علم الله، ولأنهم الذين ينتفعون بتلك المواعظ. ثم أمر الله تعالى بأن يعمل أهل الإنجيل بالأحكام التي أنزلها الله فيه، ومن لم يحكم بما جاء في الإنجيل فأولئك هم الفاسقون، أي المتمرّدون الخارجون عن حكم الله وشرعه.
شريعة القرآن
الشرائع الإلهية حلقة متصلة الروابط، متكاملة متساندة فيما بينها، يؤكد بعضها بعضا، ويكمل آخرها أولها، لتتآزر فيما بينها وبين أتباعها على تحقيق مراد الله تعالى فيما يحقق المصالح ويدفع المضارّ والمفاسد، وينقل الناس إلى ما هو الأفضل والأمثل بحسب مقتضيات الحاجة ومراعاة قانون التطور ومنجزات الحضارة والتقدم، لذا جاء القرآن الكريم مؤيدا ما سبقه من التوراة والإنجيل، فقال الله تعالى مخاطبا نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
«١» «٢» «٣» «٤» [المائدة: ٥/ ٤٨- ٥٠].
نزلت آية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.. في جماعة من اليهود، قال ابن
(١) رقيبا مؤتمنا عليها.
(٢) شريعة وطريقا واضحا في الدين.
(٣) ليختبركم.
(٤) يصرفوك.
466
عباس: قال كعب بن أسيد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فجاءوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتّبعناك اتّبعتنا يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك، فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ.. إلى آخر الآية وما بعدها وهي قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
ومعنى الآيات الكريمات: وأنزلنا إليك أيها النّبي القرآن الكريم الذي أكملنا به الدين، مشتملا أو متضمّنا الحقائق من الأمور، وهي تمثل الحق في نفسه، وصلاح العباد جميعا، والقرآن مصدق ومؤيد ما تقدمه من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور، وهو أيضا مهيمن عليها، أي حاكم عليها، وشاهد لها وعليها ومبيّنا حقيقة ما جاء فيها وما طرأ عليها، فهو أمين مؤتمن عليها.
وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته، فاحكم يا محمد ومن جاء بعدك بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام، دون ما أنزله إليهم، ولا تتبع أهواءهم، أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، ولا تعدل عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء وشهوات أولئك الذين يريدون الميل عما أنزل إليك، والعدول عن حكم الرجم والقصاص في القتلى.
فلكل أمة من الأمم جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، ومنهاجا وطريقا واضحا فرضنا عليهم سلوكه، بحسب مراعاة الأحوال والأوضاع والتطورات، وهذا كله في الأحكام الفرعية، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم، توحيد وإيمان بالبعث (اليوم الآخر) وتصديق للرّسل، والله قادر على جعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة بحسب عصره وزمانه، وأراد الله اختبار العالم فيما شرع لهم من الشرائع.
467
وإذا كان الأمر كذلك، فسارعوا أيها الناس إلى الخيرات، أي الطاعات وجدّوا في التسابق في الأعمال الصالحات، لخيركم وصلاحكم وإنقاذكم، ولإحراز الفضل والرضا الإلهي، والبدار البدار فإنه إلى الله معادكم ومصيركم، يوم القيامة، فيخبركم إخبار إيقاع بما كنتم تختلفون فيه من الحق، وسيجازيكم عليه كله، وحينئذ يظهر الله الثواب والعقاب. وقوله تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ آية بارعة الفصاحة، جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، كسائر كتاب الله تعالى.
ثم أكّد الله تعالى لنبيّه الأمر بالحكم بما أنزل الله، فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.. أي اقض بما أمر الله به، ولا تتبع أهواء المعاندين أو المعارضين فيما يخبرونك من أمور، ويقترحون من حلول، واحذر أيها النّبي أن يفتنك أعداؤك عن بعض ما أنزل الله إليك، أي يميلوا بك من الحق إلى الباطل، فإن تولوا وأعرضوا عما تحكم به من الحق، وخالفوا شرع الله، فلا تبال بهم، واعلم أن الله يريد أن يعذّبهم في الدنيا قبل الآخرة على ذنوبهم ومعاصيهم وتركهم أحكام الشريعة، ولا غرابة في ذلك فكثير من الناس لفاسقون، أي خارجون عن حدود الحق والدين والعقل الرشيد.
والعجب كل العجب من هؤلاء الذين يريدون إحياء فوضى الجاهلية والأخذ بالثأر وترك الدين الحق والحكم العادل في القصاص وعقاب الزّناة والتمييز الطبقي وإضاعة الحقوق وإشاعة الجور والظلم وحماية المجرمين، ولا حكم أعدل من حكم الله لقوم يدركون الحق، ويوقنون أنه لا أعدل من الله، ولا أحسن حكما من شرعه القويم.
468
موالاة غير المؤمنين
أوجب القرآن الكريم التعاون بين أبناء أمة الإيمان وحدهم، والاعتماد على أنفسهم، وإشاعة الثقة والمناصرة فيما بينهم، وتكوين أمة واحدة قوية متعاضدة متآزرة في السّراء والضّراء، لها شخصيتها المستقلة، وكيانها الذاتي المتين لأن تكامل الأمة يقتضي الاحتفاظ بأسرارها، ومنع تسرّبها إلى أعدائها، وبناء وجودها بناء حصينا يمنع اختراقه وتمكين الآخرين من إضعافه، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المائدة: ٥/ ٥١- ٥٣].
نزلت هذه الآيات في شأن رجلين أحدهما- عبادة بن الصامت الذي تبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وتولى الله ورسوله، والثاني- عبد الله بن أبي زعيم المنافقين الذي أصرّ على موالاة يهود قائلا: إني رجل أخاف الدوائر.
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآيات الشريفات عن اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء في النّصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. فإياكم أيها المؤمنون أن تتحالفوا معهم، أو تسرّوا إليهم بأسراركم، ولا تطمئنّوا إلى صداقتهم ومحبّتهم أو موادتهم، إذ لن يخلصوا أو ينفّذوا العهد لكم، فبعضهم أولياء أو أنصار بعض، ومن يناصرهم أو يعينهم أو يستنصر بهم، فإنه في الحقيقة من جملتهم وكأنه مثلهم، وليس من صف
(١) أي أنصارا وحلفاء توالونهم وتوادونهم.
(٢) نتعرض لنوائب الدهر.
(٣) بنصر رسوله.
(٤) آكد أيمانهم.
(٥) بطلت.
469
المؤمنين الصادقين، وإن الله لا يوفق إلى الحق والخير القوم الظالمين أنفسهم بموالاة أعدائهم والاعتماد عليهم أيّا كان السبب.
وهذا النهي متعلق في شأن تعميق الصّلات والرّوابط والأحلاف مع غير المؤمنين، أما مجرد المعاملة والمتاجرة من غير مخالطة عميقة الجذور، فلا تدخل في النّهي، فقد عامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهوديا، ورهنه درعا.
ثم ميّز الله تعالى بين الموالي لأمّته وبين المعادي لها، المنضمّ إلى صفّ الأعداء، فأخبر الله نبيّه بقوله: ترى يا محمد أولئك المنافقين الذين في قلوبهم شك ونفاق، وإيمانهم ضعيف غير صحيح، ترى هؤلاء يبادرون في موالاة الأعداء، ويرغبون فيها رغبة أكيدة خالصة للشيطان، ويتصادقون معهم صداقة حميمة، ويقولون معتذرين بسبب انهزام نفوسهم وضعفها: نخاف أن نتعرض لدائرة تدور علينا، من دوائر الدهر، وأن تكون لهم الغلبة والتّفوق، وأن تكون لنا الهزيمة والضعف، والدائرة معناها: النازلة من الزمان، والحادثة من الحوادث التي تحوجنا إلى موالينا وأنصارنا من اليهود الأعداء.
ولكن هؤلاء المنافقين الانهزاميين نسوا جانب الله وتركوا مقتضى الإيمان، فالله يعد المؤمنين وعدا جازما بالنصر والغلبة، والفصل بين أهل الإيمان وجند الشيطان، فيصبح المتواطئون مع الأعداء نادمين على ما أسرّوا في أنفسهم من مناصرة أهل الباطل وجند الشيطان وأعداء أهل الإيمان. وقوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وعد قاطع من الله لأن عسى من الله واجبة التحقيق.
وظاهرة الفتح في هذه الآية: علو كلمة الإسلام، وتغلّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أعدائه الذين يخططون للقضاء على دعوته وإضعاف أنصاره.
لذا يقول الذين آمنوا متعجّبين من فعل المنافقين ومخاطبين الأعداء: أهؤلاء الذين
470
أقسموا بالله وحلفوا الأيمان المغلّظة المؤكّدة: إنهم معكم، وإنهم مناصروكم على أعدائكم، ثم انكشفوا على حقيقتهم، وتبينت عداوتهم كما قال الله تعالى:
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) [التّوبة: ٩/ ٥٦].
أي إنهم جماعة خائفون يظهرون الإسلام تقية أو مناورة أو سياسة، لا حقيقة. ثم يضيف المؤمنون قائلين: هؤلاء المنافقون بطلت أعمالهم، التي يؤدّونها نفاقا من صلاة وصيام وحج وجهاد، فخسروا بذلك الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة.
وهكذا الزمن كفيل بإظهار الأمور على حقيقتها، فلا بد من أن ينهزم أهل الشّر والباطل، وينتصر أهل الحق وجند الإيمان بعد الاستعداد الصحيح والتفافهم مع بعضهم، وإعزاز إيمانهم ودينهم كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) [الصّافّات: ٣٧/ ١٧١- ١٧٣].
تهديد المرتدّين
إن الثّبات على الحق والإيمان بالله تعالى مهما حدث من الحوادث والكوارث هو شأن المؤمن العاقل، الصحيح العقيدة، فلا يتزحزح عن إيمانه مهما اختلفت المصالح، أو تعرّض للإغراءات والمصائب، ويظل ثابتا على العهد والدين كأنه الجبل الأشمّ والصخرة العاتية. أما ضعاف الإيمان، والانهزاميون والمتذبذبون الجبناء، فهم الذين لا يصمدون للمحنة أو الأزمة، وتراهم سريعي التّبدل والتّحول من ساحة الإيمان إلى بؤرة الكفرة ومستنقع الشيطان وأعوانه.
لذا هدّد المرتدّين بأنهم لن يضرّوا إلا أنفسهم، فقال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
471
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المائدة: ٥/ ٥٤- ٥٦].
من المعلوم أنه ارتدّ عن الدّين إحدى عشرة فئة، ثلاث قبائل أيام النّبي صلّى الله عليه وسلّم:
وهم بنو مدلج بزعامة الأسود العنسي، وبنو حنيفة بزعامة مسيلمة الكذاب، وبنو أسد بزعامة طليحة بن خويلد، وسبع قبائل في عهد أبي بكر الصّديق، وهم غطفان وفزارة وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض بني تميم بزعامة سجاح الكاهنة، وكندة، وبنو بكر. وارتدّ جبلة بن الأيهم من الغساسنة وتنصّر ولحق بالشام والروم.
فنزلت هذه الآيات السابقة خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، وأشارت إلى القوم الذين قاتلوا أهل الرّدة والذين يأتي الله بهم وهم: أبو بكر الصّديق وأصحابه رضوان الله عليهم.
ومعنى الآيات الكريمات: أن الله وعد هذه الأمة أن من ارتدّ منها، فإنه تعالى يجيء بقوم ينصرون الدين، ويستغنى بهم عن المرتدّين، فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر السابق في صدر الإسلام. فمن يرتد عن دينه في المستقبل، فسوف يأتي الله بقوم بديل عنهم، وصفهم القرآن الكريم بستّ صفات:
١- إنهم أناس يحبّهم الله تعالى، أي يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم، ويرضى عنهم.
(١) متواضعين رحماء بهم. [.....]
(٢) أشدّاء عليهم.
(٣) اعتراض معترض.
(٤) كثير الفضل والجود.
(٥) ناصركم.
472
٢- ويحبّون الله تعالى باتّباع أوامره واجتناب نواهيه.
٣- وهم أذلّة على المؤمنين، متواضعون لهم، متفاهمون معهم، متعاونون.
٤- وهم أعزّة على الكافرين، أي أشدّاء متعالون عليهم، معادون لهم كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين في آية أخرى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:
٤٨/ ٢٩].
٥- وشأنهم أنهم يجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ودينه، ومن أجل مناصرة الحق والخير والفضيلة وتوحيد الإله، ويدافعون عن الأوطان والأهل والديار والبلاد.
٦- وهم لا يخافون في الله لومة لائم، أي لا يخشون لوم أحد واعتراضه ونقده، لصلابتهم في دينهم، ولأنهم يعملون لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، على نقيض المنافقين الذين يخافون لوم حلفائهم وأنصارهم من الأعداء.
هذه الصفات السّت التي اتّصف بها هؤلاء المؤمنون المخلصون هي من فضل الله العظيم، والله سبحانه يؤتي فضله من يشاء، ويوفق إليه من يريد، والله واسع عليم، أي ذو سعة فيما يملك ويعطي، كثير الأفضال، عليم بمن هو أهلها، يمنح فضله وإحسانه ونعمه على من يجد فيهم الاستعداد الطيب لها.
وبعد أن نهى الله تعالى عن موالاة الأعداء، أمر بموالاة ومناصرة الله ورسوله والمؤمنين، فأنتم أيها المؤمنون إنما وليّكم وناصركم بحق هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة، أي يؤدّونها كاملة تامّة الأركان والشروط، ويؤتون الزّكاة، أي يعطونها بإخلاص وطيب نفس لمن يستحقّها، وهم خاضعون لأوامر الله، بلا ضجر ولا رياء. وإيتاء الزّكاة هنا لفظ عامّ يشمل الزّكاة المفروضة والتّطوع
473
بالصّدقات والقيام بكل أفعال البر إذ هي تنمية للحسنات، مطهرة للمرء من دنس الذنوب. وهذه الآية في جميع المؤمنين.
ثم أوضح القرآن المجيد مبدأ عامّا، مفاده: أن من يناصر دين الله بالإيمان به والتوكل عليه، ويؤازر رسول الله والمؤمنين دون أعدائهم، فإنه هو الفائز النّاجي، وهو الذي يحقق النّصر والغلبة على المناوئين، وحزب الله بحق، دائما هو غالب، كما قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: ٥٨/ ٢١] إلى قوله: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: ٥٨/ ٢٢].
العلاقة مع غير المؤمنين
من الطبيعي أن تحتفظ كل أمة أو جماعة بأسرارها فيما بينها، ولا تبيح بشيء منها لأعدائها، وإلا كانت جماعة حمقاء طائشة، سرعان ما يهدّد وجودها الضّياع والذّوبان وتسلّط الأعداء عليها، لهذا حذّر القرآن الكريم هذه الأمة من اتّخاذ الأنصار والأعوان من غيرها، منعا من التّشتّت والهزيمة، وحفاظا على العزّة والقوة والمجد، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
«١» «٢» »
«٤» «٥»
(١) أي أنصارا ومؤيدين.
(٢) سخرية.
(٣) تعيبون.
(٤) جزاء وعقوبة.
(٥) الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، أي أطيع، من وثن أو شيطان أو آدمي يرضى ذلك.
474
«١» «٢» «٣» «٤» [المائدة: ٥/ ٥٧- ٦٣].
قال ابن عباس مبيّنا سبب نزول هذه الآيات: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجل من المسلمين يوادّهما، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ إلى قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْتُمُونَ.
نهى الله تعالى المؤمنين عن اتّخاذ أعدائهم أولياء، أي حلفاء وأنصارا، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنّبهم، وذلك اتّخاذهم دين المؤمنين ومشاعرهم هزوا ولعبا، أي سخرية وازدراء، ومظهرا من مظاهر اللعب والعبث، حتى وإن تظاهروا بالمودة والمحبة والعطف، كما قال الله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) [البقرة: ٢/ ١٤].
وشدّد الله على قطع الموالاة، فأمر الناس المؤمنين بتقوى الله وخشية عذابه ووعيده على الموالاة مع الأعداء، إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده، وكل من الأمر بالتقوى والتذكير بالإيمان للتّنفير والتّحذير من أفاعيل الأعداء وشرورهم ومكرهم، وتنبيه النفوس إلى أن الإيمان الحق يقتضي البعد من العدو.
ومن أفاعيل الأعداء وسوء فعلهم ومظاهر شرّهم: أنكم أيها المؤمنون إذا ناديتم
(١) الطريق المعتدل وهو الإسلام.
(٢) المال الحرام كالرّشوة والربا.
(٣) العبّاد والعلماء.
(٤) علماء اليهود.
475
إلى الصلاة بالأذان، اتّخذوا النّداء والصلاة هزوا ولعبا، فقالوا: قد قاموا لا قاموا، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفّون بها في وقت الأذان وغيره. وفعلهم هذا لأنهم لا يعقلون معاني عبادة الله وشرائعه، وهم أشبه بالشيطان الذي يفرّ ويدبر إذا سمع الأذان.
ولكنهم مع الأسف لا يقدّرون تأثير الأذان في القلوب، وتطهير النفوس وتزكيتها وربطها بعظمة الله وكبريائه، وتذكيرها بضرورة الخوف من الله في السّر والعلن.
ثم أمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لأهل الكتاب: هل تعدّون ذنبا أو نقيصة إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب السابقة على الرّسل الكرام، والحق أنهم بهذا الهزء واللعب أكثرهم فاسقون، أي خارجون عن حدود الدين الصحيح والرأي السليم والعقل الرشيد. وليس لهم من الدّين إلا التّعصب والحقد، والمظاهر والتقاليد الجوفاء.
ثم أجابهم الله تعالى عن استهزائهم، فقل لهم يا محمد: هل أخبركم أيها المستهزئون بديننا، الواصفون ديننا بأنه شرّ، إنه لا شرّ ولا ضلال أشدّ من دين الملعونين الذين لعنهم الله وغضب عليهم بسبب سوء أفعالهم، وطردهم من رحمته، وغضب عليهم غضبا أبديا، وجعل منهم القردة والخنازير، وأطاع الشيطان، وعبد الأصنام والعجل، أولئك المتّصفون بتلك الصفات من الأجداد والأحفاد شرّ مكانا مما تظنون بنا لأن مكانهم النار، وهم أضلّ الناس عن طريق الاستقامة والاعتدال والحق الواضح.
وبلغ من سوء الأعداء وخاصة المنافقين منهم أن الكفر ملازم لهم، فإذا جاؤوا إلى الرسول والمؤمنين، قالوا: آمنّا بالرّسول وبما أنزل عليه، والحال أنهم دخلوا وهم كفار، وخرجوا كذلك، لم تنفعهم الموعظة، ولم يؤثر فيهم التذكير، والله أعلم بما
476
يكتمون حين الدخول من النفاق، وعند الخروج من العزم على الكيد والمكر، فهم جميعا أغبياء وشذاذ. وترى أيها النّبي كثيرا من هؤلاء المستهزئين بدينك، يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي، ويأكلون السّحت (المال الحرام) فبئس الاعتداء اعتداؤهم، وقبح الفعل سوء فعلهم. ثم عاتب الله علماءهم على تقصيرهم، ووبّخهم على سكوتهم على الباطل، فهلا نهوا أتباعهم عن قولهم الإثم والكذب، وأكلهم الأموال بالباطل، تالله لبئس ما كان يصنع أولئك الأحبار (العلماء) من ترك النّصح والرّضا بالمنكر.
بعض أوصاف اليهود
من المعلوم أن البشر جميعا هم عباد الله الذين خلقهم وأراد لهم الخير، ولا فرق بين إنسان وآخر، ولا فضل لأحد على آخر إلا بما يقتضي التفاضل ويستدعي التفريق. واليهود كسائر الناس ميزانهم بحسب أعمالهم وأفعالهم وما يظهرونه من طبائع قبيحة وخصال سيئة، والحكم عليهم بمقدار إساءتهم للخالق المعبود والمخلوقات البشرية.
قال الله تعالى مبيّنا بعض أوصاف اليهود الذميمة مع ربّهم ومع عباد الله:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
«١»
(١) مقبوضة عن العطاء. [.....]
477
«١» [المائدة: ٥/ ٦٤- ٦٦].
سبب نزول الآيات ما قال ابن عباس- فيما
أخرجه الطبراني وابن إسحاق- قال رجل من اليهود يقال له: النباش بن قيس للنّبي: إن ربّك بخيل لا ينفق، فأنزل الله:
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ
وفي رواية أخرى سمي الرجل بأنه فنحاص رأس يهود بني قينقاع.
هذه الآيات تعداد لألوان من الكبائر، ووصف لأقوال وأفعال في غاية القبح والإساءة، والخزي والجرأة على الله تعالى، وأشد هذه الأوصاف شناعة وسوءا وصفهم الله تعالى بما لا يتفق مع ميزان العقل، ويأباه الواقع المشاهد، إنهم وصفوا الله تعالى بأنه فقير وهم أغنياء، وأنه بخيل في تعبيرهم المجازي: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وهو مجاز عن البخل والإمساك، فردّ الله عليهم بالدّعاء عليهم بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا إنه دعاء عليهم بالبخل والنّكد والإمساك عن الخير، فكانوا أبخل خلق الله وأنكدهم، والرّد الواقعي: أن يدي الله مبسوطتان، أي هو الجواد الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء لأي مخلوق إلا عنده خزائنه ومنه الرزق وحده، فهو المنعم المتفضّل.
وتالله أيها النّبي ليزيدن ما أنزل إليك من آيات القرآن الواضحات طغيانا، أي تجاوزا للحدّ في الأشياء، وكفرا، أي تكذيبا، أي أن نعمة القرآن تكون نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم لأنها تكشف زيفهم وتفضح أوضاعهم، وكان من جزاء الله لهم على نكدهم وتمرّدهم إلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة، وإن تظاهروا بوحدة الصّف وتماسك الكلمة، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى، فلا يهمنّك
(١) معتدلة، وهم من أسلم منهم.
478
أمرهم وتآمرهم، ولا تغتر بما هم عليه الآن في فلسطين المحتلة، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله في الخارج والداخل بإثارة الفتنة ومحاولة التفرقة وإثارة العداوة، وهم في مساعيهم يسعون في الأرض فسادا، فمن سجيّتهم وطبعهم دائما الإفساد لا الإصلاح، والتّهديم لا البناء، والله لا يحبّ المفسدين، وإنما يبغضهم ويعاقبهم ويسخط عليهم.
ثم فتح الله تعالى باب الأمل والتوبة والإصلاح أمامهم، فهم لو آمنوا بالله ورسوله، واتّقوا ما يتعاطونه من المآثم والمعاصي، لكفّر الله عنهم سيئاتهم التي اقترفوها، وأدخلهم جنات النعيم التي ينعمون بها. وهذا دليل واضح للبشرية جمعاء على أن العمل الصالح مع الإيمان الكامل سبب لرضوان الله وتوسيع الرزق، وزيادة النعم وإفاضة الخيرات، والتوفيق لسعادة الدنيا والآخرة.
ولو أنّهم نفّذوا تعاليم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم، لكفّر الله عنهم سيّئاتهم، وغاصوا في نعم الله من فوقهم وجوانبهم وتحتهم.
لكن من اليهود أو غيرهم جماعة معتدلة، تؤمن بما أنزل الله، ويحبون الخير، ولكن الكثيرين منهم فاسقون خارجون عن الطاعة، فبئس ما عملوا وكذبوا وحرّفوا، وأكلوا الحرام، وظلموا العباد.
تبليغ رسالة الوحي الإلهي
الكتب الإلهية والوحي الرّبّاني نداء دائم من الله تعالى لعباده في أن يصلحوا أمرهم، ويوحّدوا ربّهم، ويقبلوا على الله بطاعته وعبادته، دون إهمال ولا تقصير، والرّسل الكرام الذين بعثهم الله تعالى مهمتهم تبليغ الرسالة الإلهية، وإقناع الناس بجدواها وضرورتها في حياتهم، وترغيب الناس بالعمل بها، وتحذيرهم من تعطيلها أو إهمالها.
والرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم الرّسل والأنبياء جميعا، أمره ربّه بمهمة التّبليغ والبيان والجهاد في سبيل دعوته، فقال الله تعالى له:
479

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ٦٧- ٦٩].
نزلت آية الأمر بالتبليغ كما ذكر الحسن البصري رحمه الله حين
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله بعثني برسالة، فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذّبي، فوعدني لأبلّغن أو ليعذّبني، فنزلت الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ...
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي آية من السماء أنزلت أشدّ عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس (أي لا يعلم ممن هم) فنزل علي جبريل فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية، فقمت عند العقبة، فقلت: أيها الناس، من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي، ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، تفلحوا، ولكم الجنة، قال صلّى الله عليه وسلّم: فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتّراب والحجارة، ويقول: كذاب صابئ، فعرض علي عارض، فقال:
اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه، فأنقذه منهم، وطردهم عنه.
يأمر الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالتّبليغ على وجه الاستيفاء والكمال، والاستمرار والدوام في ذلك لأنه كان قد بلّغ وبدأ بإبلاغ الرسالة الإلهية إلى قومه،
(١) فلا تحزن.
(٢) عبدة الكواكب أو الملائكة، وهو مبتدأ خبره (كذلك).
480
فقام بواجبه أتم القيام، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير الجزاء. والمعنى: أيها الرسول، بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربّك، لا تخش أحدا، ولا تخف من شيء، فإنك إن لم تبلّغ كل المنزل إليك، فما بلّغت رسالة الله، فالتّبليغ حتم لازم، وفوري لا يتأخر، ولا يجوز تأجيل شيء عن وقته. ولا داعي لأحد يحرسك، فالله يحميك ويحفظك من شرّ الناس، والله لا يوفق الكافرين للإساءة إليك، ولا يمكّنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.
قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ الآية.
وقال عبد الله بن شقيق: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعقبه أصحابه يحرسونه، فلما نزلت: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ خرج فقال: «يا أيها الناس، ألحقوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني».
ثم أمر الله تعالى محمدا عليه الصّلاة والسّلام أن يقول لأهل الكتاب المعاصرين له:
لستم على شيء مستقيم حتى تقيموا وتطبّقوا التوراة والإنجيل في الأمر بتوحيد الله الخالص والعمل الصالح، والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والعمل بالقرآن، المنزل إليكم من ربّكم، ونحن المسلمون من باب أولى: لسنا على شيء أبدا حتى نعمل بأحكام القرآن.
ثم أقسم الله قسما مفاده أنه ليزيدن القرآن المنزل إليك من ربّك طغيانا أو تجاوزا للحدّ في الظلم على طغيان، وكفرا على كفر، بسبب الحسد الكامن، فلا تحزن يا محمد ولا تتأسّف عليهم، لزيادة طغيانهم وجحودهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي نصرة المؤمنين بك غنى عنهم. والقليل منهم يزيدهم القرآن هدى ورشادا وتوفيقا للسعادة.
والقانون العام الإلهي: هو أن الله تعالى يغفر لكل مؤمن، فالذين صدقوا بالله
481
ورسوله وهم المسلمون، واليهود والصّابئون (فرقة من النصارى المحايدين) والنّصارى أتباع عيسى عليه السّلام، من آمن منهم بالله ربّا وإلها واحدا، وآمن برسله، وباليوم الآخر يوم القيامة، وعمل صالحا فأقام الطاعات، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب القيامة، ولا هم يحزنون أبدا على شيء من لذّات الدنيا ونعيمها، بل هم في جنّات النعيم، جعلنا الله منهم وألهمنا رشدنا وصوابنا.
علاقة أهل الكتاب برسلهم
الأنبياء والرّسل عليهم السّلام مندوبون موفدون مكلفون من الله تعالى بتبليغ رسالات ربّهم وكتبه ووصاياه، فما على البشر إلا الأخذ بتعاليمهم وتصديقهم في دعوتهم، واحترامهم وتأييدهم جميعا، دون تفرقة ولا تمييز، ولا اختيار لأحدهم أو بعضهم وترك البعض الآخر. غير أن أهل الكتاب لم يلتزموا هذا الموقف المحايد، وإنما صدّقوا بعض الرّسل، وكذّبوا بعضهم الآخر، بل قتلوا فريقا منهم، أو وصفوه بصفة مخالفة للحقيقة، ومغايرة للواقع. قال الله تعالى مبيّنا هذا الموقف:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٧٥]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
«١»
(١) ابتلاء وعذاب.
482
«١» «٢» «٣» [المائدة: ٥/ ٧٠- ٧٥].
تضمّنت هذه الآيات الكريمات أخبارا مثيرة ووقائع حدثت من أوائل الكتابيين، الخبر الأول- يقسم الله تعالى بذاته على أنه أخذ العهد المؤكد الموثق على بني إسرائيل في التوراة على السمع والطاعة لله ورسله: موسى وعيسى ومحمد عليهم الصّلاة والسّلام، فيؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ويتّبعوا أحكام الله وشرائعه، ولكنهم نقضوا العهد والميثاق وعاملوا الرّسل بحسب أهوائهم، فكذّبوا بعضهم وأعرضوا عن رسالته، وقتلوا بعضهم ظلما وعدوانا.
والخبر الثاني- أنهم ظنّوا وتيقّنوا ألا يترتب على ما صنعوا شرّ وضرر، وألا تقع بهم فتنة، أي اختبار وابتلاء لهم بما فعلوا من الفساد، لزعمهم أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، ولّجوا في شهواتهم، واختبروا بالشدائد، ولكنهم لم يتّعظوا ولم يعتبروا، وعموا عن الحق، ولم يتبصّروا طريق الهدى، فشبّهوا بالعمي، وصمّوا آذانهم عن استماع الحق وعن تدبر آيات الله، فشبّهوا بالصّمّ، فلم يهتدوا إلى الخير، وتسلط عليهم البابليّون ونهبوا أموالهم، وسبوا أولادهم ونساءهم، ثم تاب الله عليهم مما كانوا فيه، أي رجع بهم إلى الطاعة والحق، حين أنابوا لربّهم وتركوا الفساد والشّرّ وعبادة العجل، ثم أعادوا الكرة للانغماس في الشهوات، فعموا عن المواعظ، وصموا آذانهم عن آيات الله ولم يعتبروا بالإنذارات ولم يتّعظوا بالشدائد والحجج
(١) مضت.
(٢) كثيرة الصدق مع الله تعالى.
(٣) أي يصرفون عن الحق مع قيام البرهان.
483
والآيات البيّنات، وكان أكثرهم عصاة، عصوا أوامر الله والرّسل، فسلّط الله عليهم الفرس، ثم الرّومان، فدمّروا ملكهم وسلبوا استقلالهم. والله مطّلع على أحوالهم، عليم بمكائدهم ومكرهم برسلهم وبالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان أقلّهم مؤمنين صالحين.
والخبر الثالث- يقسم الله تعالى أيضا أنه كفر الذين ألّهوا المسيح، وضلّوا ضلالا شديدا خارجا عن حدود العقل والدين، مع أن المسيح حذّرهم عاقبة الشّرك والوثنية، وأعلمهم بأن من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار، وليس للظالمين أنفسهم من نصير ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم وينقذهم.
والخبر الرابع- قسم آخر مؤكد من الله تعالى كالذي قبله بأنه كفر الذين قالوا بالتّثليث، وأنه لا يوجد في هذا الكون والعالم إلا إله واحد، فرد صمد، وهو خبر صادق بالحق، وذلك الإله هو الله تعالى، وإن لم ينتهوا عما يزعمون، ليتعرضنّ لعذاب شديد مؤلم في الآخرة.
وفي أعقاب هذه الأخبار اقتضت رحمة الله وألطافه بعباده أن يحضّهم على الإيمان الصحيح، ويدعوهم إلى التّوبة والاستغفار مما وقعوا فيه من الكفر والعصيان، فالله غفور للتّائبين، رحيم بهم، ستّار للذنوب.
والخبر الخامس- عن حقيقة المسيح وأنه رسول بشر كالرّسل المتقدّمة قبله، وأن أمّه مريم صدّيقة، أي مؤمنة بحقيقة عيسى، ومصدّقة له، ومعترفة برسالته على الوجه الصحيح، ولها مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين. وهي وابنها مجرد بشرين كانا يشربان ويأكلان الطعام، للحفاظ على معيشتهما وحياتهما.
ثم أمر الله تعالى نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأمته من بعده بالنظر في ضلال هؤلاء القوم، وبعدهم عن سنن الحق، وأن الآيات والدلائل الواضحة تبيّن لهم، وتوضّح في غاية
484
الوضوح، ثم هم بعد ذلك يصرفون عن الحق، أي تصرفهم دواعيهم وأهواؤهم وحرصهم على تكسّبهم عن الحق الأبلج والطريق الإيماني الأقوم والأسلم.
أسباب الفساد والانحراف في غير المؤمنين
كان من رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن حذّرهم وأنذرهم وأبان أسباب انحرافهم وضلالهم، قبل أن يفاجئهم بالحساب العسير والعقاب الأليم على زيغهم، وكان هذا التحذير والإنذار شاملا جميع غير المؤمنين إيمانا صحيحا، وهم كل من عبد غير الله من الأصنام والأوثان، وخرج عن مقتضيات أوامر الله وتعاليمه في الكتب الإلهية السابقة، ولم يلتزم بمبدإ وحدة الأديان القائمة على توحيد الله عزّ وجلّ، والاستقامة على أوامره وطاعته، والعمل على وحدة الانتماء إلى أمة التوحيد، وترك موالاة غير المؤمنين ومناصرتهم.
وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في وصف أخطاء غير المؤمنين بقوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ٧٦- ٨١].
(١) لا تتجاوزوا الحدّ ولا تفرطوا.
(٢) غضب الله عليهم بما فعلوا.
485
أوضحت هذه الآيات الكريمة أسباب انحراف غير المؤمنين عن الإيمان الحق وحصرتها في خمسة أسباب: وهي عبادة غير الله تعالى، والغلو في الدين بغير حق، وعصيان الأوامر الإلهية، والسكوت عن المنكر أو الضلال والرّضا به، وموالاة غير المؤمنين بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم.
أما سبب الانحراف الأول وهو الأهم: فهو عبادة غير الله الذي لا يقدر على دفع ضرّ، ولا جلب نفع لأوليائه العابدين له، ولغير العابدين على السواء، فلم تستطع الأصنام والأوثان نفع المشركين ولا إضرارهم، ولم يستطع عيسى عليه السّلام إصابة أعدائه اليهود بضرّ، مع أنهم حاولوا قتله وصلبه، ولم يتمكّن عيسى أيضا من تقديم نفع لأتباعه وأنصاره، سواء في الدنيا أو في الآخرة، بالرغم مما تعرّضوا له من تعذيب وطرد. والله وحده هو السميع لكل صوت أو همسة، العليم بكل شيء، فهو الذي يستحق العبادة وحده دون سواه.
والسبب الثاني للانحراف والفساد هو المغالاة في الدين وتجاوز الحدود في وصف عيسى، واتّباع أهواء قوم وآرائهم الواهية من غير حجة ولا برهان، أولئك القوم المتّبعون الذين ضلّوا من قبل، وأضلّوا كثيرا من الناس، وضلّوا عن السّبيل الوسط، والرأي المعتدل.
وسبب الانحراف الثالث: هو عصيان أوامر الله واعتداؤهم على خلقه، وتماديهم في العصيان والمخالفة، فاستحقّوا اللعن، أي الطرد من رحمة الله، وما على من جاء بعدهم من الأجيال إلا الحذر من المعاصي والمنكرات، والحرص على الاستقامة على أوامر الله وترك منهياته ومخالفاته.
وسبب الانحراف الرابع: هو الرّضا بالجريمة والسكوت عن المنكر لأن الساكت راض عن الفعل، وهو شيطان أخرس، ولذا كان من أهم حصون الدين الحفاظ على
486
دائرة الحق والعدل فيه، وترك المنكر حتى لا يفشو كالنار في الهشيم أو الزرع اليابس، ومن الواجب تكتل الأفراد والجماعات والسّعي لاستئصال شأفة الفساد الديني، والخلقي والاجتماعي في مظلّة السلطة المؤمنة.
وسبب الانحراف الخامس: هو ترك موالاة ومناصرة الذين كفروا، فإن كثيرا من أهل الكتاب كانوا في صدر الإسلام يتولون مشركي مكّة، ويتآزرون معهم، ويتركون موالاة المؤمنين.
ولكنهم بهذه الموالاة لغير جند الإيمان أساؤوا لأنفسهم، وتعرّضوا لسخط الله وغضبه عليهم، وكانوا خالدين في النار وعذابها الشديد. ولو عقلوا وفكّروا جيدا، وآمنوا بالله تعالى الإله الواحد، وبالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النّبيين، وآمنوا بالقرآن الكريم المنزل إليه من ربّه، ما اتّخذوا المشركين والكفّار أولياء وأنصارا، وأصدقاء وأعوانا، ولكن كثيرا منهم في الواقع فاسقون، أي خارجون عن دائرة الدين الحق، وعن طاعة الله ورسوله، وأصول دينه، لأنهم أرادوا تحقيق زعامة كاذبة، والحصول على عرض دنيوي زائل، فأضاعوا الدنيا والآخرة.
علاقة أهل الكتاب بالمؤمنين
من الطبيعي أن يلتقي أهل الأديان وأن تتّحد كلمتهم لأنهم يؤمنون إيمانا متماثلا بوجود الخالق ووحدانيته، وبوجود البعث والجنة والنار، وأن تكون أخلاقهم ومعايير سلوكهم واحدة مقتبسة من تعاليم الله وإرشاداته، وليس من المنتظر الالتقاء مع المشركين والوثنيين أو الماديين الملحدين لأن هؤلاء لا يؤمنون بالدين الإلهي، وإنما يؤمنون بمبادئ وهمية، أوجدها الزعماء والقادة، وقلّدهم الأتباع والأدنياء من غير تأمل ولا تعقل.
487
لذا خاطب الله تعالى في القرآن الكريم اليهود والنصارى بصفة أهل الكتاب، وخاطب غير المؤمنين بالدين الإلهي أصلا بلفظ المشركين. وكانت علاقة المؤمنين ببعض أهل الكتاب علاقة ودّ وصداقة، وعلاقة المسلمين بالمشركين تتّسم بالعداوة والجفاء والبغضاء.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
«١» [المائدة: ٥/ ٨٢- ٨٦].
نزلت هذه الآيات في قوم من النصارى من الحبشة أو من نجران أو من غيرهم وصفهم القرآن بأنهم أهل ودّ لأهل الإيمان بالله ورسوله، وهم بالنسبة للمؤمنين أقرب من اليهود والمشركين المتباعدين عن ساحة الإيمان، وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن لأن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، ولازمهم العتو والمعاصي، وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب، وعبدة النّيران من المجوس عادوا الدين مطلقا عداء شديدا، وأنكروه وحاربوا أهله.
والمعنى: تالله إن أقرب الناس محبة ومودة للمؤمنين هم النصارى أتباع عيسى ابن مريم رسول الله، لما في نفوسهم من الرّقة والرّأفة والرحمة، والبعد عن التّعصب الديني إذا قورنوا باليهود والمشركين الذين دأبوا على الحسد وهضم الحقوق، وسبب
(١) تمتلئ به.
488
مودة النصارى للمؤمنين: وجود قسّيسين (علماء) ورهبان (عبّاد) يدعون للإيمان والفضيلة والتّواضع والزهد والتّقشف، ولا يستكبرون عن سماع الحق والإنصاف والانقياد له.
وإذا سمع هؤلاء النصارى شيئا من القرآن، بكوا بكاء حارّا تعاطفا مع كلام الله وتأثّرا به وبما عرفوا وعلموا من الحق، والبشارة ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتراهم يبادرون بصحة دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبوحدانية الله.
ثم أكّدوا قولهم فقالوا: ولا مانع يمنعنا من الإيمان بالله واتّباع الحق الذي نجده في القرآن، ونطمع أن يدخلنا ربّنا الجنّة، بصحبة الصالحين أتباع خاتم النّبيين الذين ثبت صلاحهم وصحة إيمانهم.
وكانت هذه المبادرة الطيبة منهم في الماضي والمتكررة أحيانا في كل عصر سببا لإثابة الله لهم ومجازاتهم بدخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلّها، وذلك جزاء المحسنين أعمالهم في أتّباعهم الحق وانقيادهم له، مهما كان مصدره. ونعيم الآخرة نعيم لا نتمكّن في دنيانا من معرفة حقيقته وأوصافه، لقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) [السّجدة:
٣٢/ ١٧].
أما الذين كفروا بوجود الله ووحدانيته وكذّبوا بآيات الله وخالفوها، وعادوا رسالة القرآن والتوحيد، فأولئك هم أهل النار الداخلون فيها، والمقيمون فيها إقامة دائمة.
يلاحظ كل إنسان بعيد النظر راجح العقل والفكر الفرق الواضح بين ثواب المؤمنين الصالحين وهو جنان الخلد، وجزاء الكافرين العصاة وهو الخلود في نار جهنم، وذلك الفرق وحده كفيل بالرّدع والرّهبة والخوف الذي يملأ النفوس خشية من سوء المصير الذي ينتظر كل من لم يؤمن بالقرآن العظيم وبرسالة الإسلام المجيدة.
489
إباحة الطيّبات
الإسلام دين الوسطية والاعتدال، فلا تهاون فيه في الأعمال الخيرية أو النافعة للإنسان والجماعة، ولا تشدّد ولا إرهاق في جميع الأعمال التكليفية التي أمر الله تعالى بها، وإنما الإسلام دين سمح سهل، قليل التكاليف والمطالب، يبيح الحلال الطيب، ويمنع الحرام الخبيث، ولا إفراط فيه ولا تفريط، ولا تجاوز للحدود المعقولة والضوابط والقيود الشرعية المشروعة لمراعاة مصالح الناس وتحقيق منافعهم، ودفع المفاسد والمضارّ والمؤذيات عنهم.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
[المائدة: ٥/ ٨٧- ٨٨].
نزلت الآيتان في حق جماعة أرادوا التشدّد في الدين والقيام بأعمال كثيرة بقصد مرضاة الله ودخول جناته،
أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة، منهم عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنّتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنّتي فليس مني».
والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تحرّموا على أنفسكم ولا تمنعوها من الطيبات وهي المستلذات المستطابات للنفس، لما فيها من المنافع، بأن تتركوا التمتع بها تقرّبا إلى الله تعالى، ولا تقولوا: حرمنا على أنفسنا كذا وكذا، مما هو حلال لكم ومباح. لا تفعلوا هذا تنسّكا وزهدا وتقرّبا إلى الله، فإن الله لا يرضى عن ذلك، بل ينهى عنه،
490
كما قال تعالى في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) [البقرة: ٢/ ١٧٢]. والرّزق: ما صح الانتفاع به.
ولا تتجاوزوا حدود ما أحلّ الله لكم إلى ما حرّم عليكم من الخبائث، ومن الإسراف والتقتير، وكلا الأمرين اعتداء، وهما تجاوز الحلال الطيب إلى الحرام الخبيث، والإسراف في تناول المباح، كما قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: ٧/ ٣١].
والتزام الوسط في الإنفاق دون إسراف ولا تقتير، ولا نهم مادي ولا ترفّع عن المادّيات والانشغال بالرّوحانيات هو الذي يحقق مبدأ وسطية الإسلام واعتداله.
وسبب النّهي عن تجاوز الحدود الشرعية: أن الله يبغض كل أولئك الذين يتعدون حدود الله، وأن من تجاوز الحدّ الشرعي، هان عليه اقتراف جميع المنكرات والوقوع في المعاصي والسّيئات، فمن سرق مثلا تجرّأ على القتل والفتك والإرهاب ونشر الرعب في كل مكان، وسهل عليه ارتكاب جميع المحرّمات. ولذا حصّن الشّرع سلوك المسلم وصانه من الانحراف بقوله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطّلاق: ٦٥/ ١]. وقوله سبحانه: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) [النّساء: ٤/ ١٤].
ثم وضع لنا القرآن الكريم قانون الانتفاع بالأشياء والأمور المعاشية المعتادة فقال:
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي تناولوا الحلال الذي لا إثم فيه كالرّبا والرّشوة وأكل مال الآخرين بالباطل، فإنه إثم وفسوق، وكلوا الطيب غير المستقذر في نفسه كالميتة والدم، أو الطارئ كالفاسد المتغير بطول المدة، أو المذبوح لغير الله من الأصنام والأوثان. واتّقوا الله بالتزام أوامره واجتناب نواهيه في الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تحرّموا ما أحلّ الله
491
ولا تحلّوا ما حرّم الله، ظنّا منكم أن هذا خير، فإن كل ما لم يشرعه الله هو شرّ لا خير فيه، وهو إما تشدّد في الدين من غير مسوّغ، أو تهاون وتقصير وتجاوز لشريعة الله. والأمر بالتقوى بعد بيان الحلال الطيب من المطاعم للإرشاد إلى أنه لا منافاة ولا تغاير بين الاستمتاع بطيبات الرزق وبين التقوى أو الوصول إلى أرقى درجات القرب المعنوي من الله تعالى والظفر برضوانه.
كفارة اليمين
على المؤمن أن يحترم عهد الله وميثاقه، ويعظّم ذات الله وجلاله، فيبتعد عن كل مظاهر الإخلال بهيبة الله وقدسيّته، وإذا حلف بالله تعالى وجب عليه صون يمينه إذا كان الأمر المحلوف عليه قربة أو طاعة، وجاز له مخالفة مقتضى اليمين بل يجب إذا كان المحلوف عليه معصية، ولا مؤاخذة في الأيمان التي تجري عفوا على اللسان دون قصد اليمين، مثل: لا والله وبلى والله لتأكل أو تشرب أو تجلس أو تزورنا، وإنما المؤاخذة الشرعية على الأيمان المتعمدة التي يقصدها الحالف مريدا التزامها، فإذا ندم عليها، فإن الشّرع يسّر عليه الأمر، ورخّص له عند الحنث بيمينه إخراج ما يسمى بكفارة اليمين.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ٨٩].
(١) ما يجري على لسان الحالف دون قصد اليمين أو الحلف على ما يعتقد صدقه وهو بخلافه.
(٢) قصدتم الحلف.
492
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: ٥/ ٨٧] في القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها، فأنزل الله تعالى ذكره: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.. الآية.
علّق الطبري على ذلك بقوله: فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا ما حرّموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم.
والمعنى: لا مؤخذة بالأيمان التي تحلف بلا قصد، ولا يتعلّق بها حكم، وهي اليمين اللغو: وهي التي تسبق على لسان الحالف من غير قصد،
قالت عائشة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هو كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله».
ولكن المؤاخذة باليمين المنعقدة: وهي التي يحدث الحلف فيها على أمر في المستقبل بتصميم وقصد أن يفعله أو لا يفعله. وتكون بالحلف فيها بالله أو بصفة من صفاته،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن ابن عمر: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».
ولا تنعقد اليمين بغير الله من المخلوقات كنبي أو ولي، بل إنه حرام.
ونوع المؤاخذة في اليمين المنعقدة: هو إيجاب الكفارة عند الحنث باليمين أي عدم البر ومخالفة مقتضى اليمين، وعلى الحانث الكفارة سواء كان عامدا أو ساهيا أو ناسيا أو مخطئا، أو نائما ومغمى عليه ومجنونا أو مكرها.
والكفارة على الموسر مخيّر فيها بين ثلاث خصال: إطعام عشرة مساكين مدّ طعام (قمح) أي ٦٧٥ غم من النوع المتوسط الغالب أكله على أهل البلد، ليس بالأجود الأعلى ولا بالأردإ الأدنى، وهو أكلة واحدة: خبز ولحم، وتقدير المدّ بالقيمة حوالي ٢٥ أو ٣٠ ل. س في عصرنا. هذه خصلة.
493
والخصلة الثانية: كسوة المساكين بحسب اختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، يعطى لكل فقير رداء متوسط كالجلابية والسروال ونحوهما.
والخصلة الثالثة: عتق رقبة حين كان الرّق موجودا، بشرط أن تكون الرقبة مؤمنة عند جمهور العلماء، مثل كفارة القتل الخطأ أو الظهار، ولم يشترط فقهاء الحنفية كون الرقبة مؤمنة، فيجزئ إعتاق الكافرة، عملا بإطلاق النّص القرآني أي رَقَبَةٍ.
هذه كفارة الموسر الذي يملك ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة.
أما كفارة المعسر الذي لم يستطع إطعاما أو كسوة أو عتق رقبة، فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعة في رأي الحنفية والحنابلة، ولا يشترط التتابع عند غيرهم.
ولا وقت للكفارة، وإنما يستحب تعجيلها، فإن مرض صام عند القدرة، وإن استمرّ العجز يرجى له عفو الله ورحمته، وللوارث أن يتبرع بالكفارة.
هذه كفارة الأيمان إذا حلفتم بالله أو بأحد أسمائه الحسنى أو صفاته العليا، وحنثتم، ويطلب منكم حفظ أيمانكم: وهو البر بها وترك الحنث، أي المخالفة، ومثل ذلك اليمين يبين الله لكم أحكام شريعته ودينه، لتقوموا بشكر النعمة فيما يعلّمكم القرآن، ويسهل عليكم المخرج من إثم الحنث في اليمين. ويحرم الحنث في اليمين إذا كانت على فعل واجب وترك حرام، ويندب الوفاء ويكره الحنث إذا تم الحلف على فعل مندوب أو مباح، ويجب الحنث في اليمين والكفارة إذا كانت اليمين على معصية أو حرام.
أما اليمين الغموس: وهي اليمين الكاذبة قصدا، التي تكون لتضييع حق مسلم أو غش أو خيانة، فلا كفارة لها في رأي جمهور العلماء، وإنما فيها الإثم وتغمس صاحبها في النار، وأجاز الإمام الشافعي رحمه الله تفكير هذه اليمين، وتيسيرا على الناس، وإنقاذا لهم من الوقوع في نار جهنم، والله المستعان.
494
تحريم الخمر والميسر ونحوهما
إن دائرة الحرام في الإسلام ضيقة، ودائرة الحلال أوسع منها بكثير، والمحرّمات في الإسلام هي التي تؤدي إلى الضرر بالنفس أو المال أو الناحية الأدبية، أو تكون مستقذرة في نفسها، ومن هذه المحرمات المنكرات بالنص القطعي اليقيني في القرآن الكريم: الخمر والميسر (القمار)، والأنصاب، أي الحجارة التي كانت حول الكعبة المشرفة التي يذبحون عندها قرابينهم، والأزلام: وهي قطع رقيقة من الخشب كالسهم كانوا يستقسمون بها في الجاهلية، تفاؤلا أو تشاؤما، وكانت إما عند الكهان وإما عند الأصنام، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
«١» «٢» «٣» «٤» [المائدة: ٥/ ٩٠- ٩٣].
نزلت هذه الآيات فيما
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ..
الآية، فقال الناس: ما حرّم علينا إنما قال: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام، أمّ رجل من المهاجرين أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أشدّ منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النّساء: ٤/ ٤٣].
(١) الأصنام حول الكعبة.
(٢) قداح الاستقسام في الجاهلية. [.....]
(٣) خبيث نجس.
(٤) إثم وحرج.
495
ثم نزلت آية أشدّ في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا: انتهينا ربّنا، فقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا.. إلى آخر الآية.
وقال أبو ميسرة: نزلت هذه الآيات بسبب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه ذكر للنّبي صلّى الله عليه وسلّم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا إلى الله في تحريمها، وقال: اللهم بيّن لنا فيها- أي في الخمر- بيانا شافيا، فنزلت هذه الآيات فقال عمر: انتهينا انتهينا.
وقد مرّ تحريم الخمر للتّرويض وبالتدريج في مراحل أربع، وهذه الآيات في سورة المائدة تحرّم تحريما قاطعا الخمر وهو المتّخذ من ماء العنب النّيء، وتشمل كل شراب مسكر خامر العقل وغطّاه، وتحرّم أيضا الميسر (القمار) والأنصاب وهي كما تقدم حجارة حول الكعبة كان العرب في الجاهلية يعظّمونها، ويذبحون القرابين عندها. وتحرّم أيضا الأزلام وهي كما تقدّم أعواد ثلاثة كالسهام، كتب على أحدها: لا، وعلى الآخر: نعم، والثالث:
غفل لا شيء مكتوبا عليه، وقد دلّت الآيات على تحريم هذه الأشياء الأربعة من نواح أربع:
وهي أولا وصفت بكونها رجسا أي قذرا، حسّا ومعنى، عقلا وشرعا، ووصفت ثانيا بأنها من عمل الشيطان وذلك غاية القبح، وأمر الله ثالثا باجتنابها، والأمر بالاجتناب أشدّ تنفيرا من مجرد النّهي عنها أو القول بأنها حرام، فهو يفيد الحرمة وزيادة وهو التنفير ورابعا جعل الله اجتنابها سببا للفرح والفوز والنجاة في الآخرة.
ثم بيّن الله تعالى مضارّ الخمر والقمار المعنوية: الشخصية والاجتماعية، فهما سبب إيقاع الناس في العداوة والبغضاء، وسبب الصّدّ والإعراض عن ذكر الله وعن
496
أداء الصلاة، ثم حرّض الله تعالى على الانتهاء عن الخمر والميسر بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هذا فضلا عن أن الخمر والميسر يؤدّيان إلى إتلاف الأموال وتبديدها في الوجوه الضارّة غير النافعة، ولهما مخاطر مؤكدة على أعصاب الإنسان وإيقاعه في القلق والاضطراب.
ثم أمر الله سبحانه بطاعته وبطاعة رسوله، وحذّر من مخالفتهما، فإن أعرضتم أيها الناس، فإن رسولنا عليه مجرد الإبلاغ الواضح، ومن أنذر فقد أعذر. ثم أوضح الله تعالى حكم الذين شربوا الخمر وماتوا قبل تحريمها، وهو أنه لا حرج ولا إثم عليهم ما داموا قد آمنوا واتّقوا عذاب النار وعملوا صالح الأعمال التي أمر الله بها، ثم داوموا على التزام جانب التقوى والإيمان، ثم لازموا التقوى وأحسنوا أعمالهم، والله يثيب المحسنين المتقنين أعمالهم، ويرضى عنهم، ويتجاوز عن سيئاتهم السابقة فضلا منه ورحمة، والله مع المحسنين المتّقين بالعون والرضوان.
وتكرار كلمة اتَّقَوْا في الآية يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها، وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم.
حكم الصّيد في حال الإحرام
الإنسان العربي ميّال بطبعه إلى الصيد، ومحتاج إليه بحكم قلة موارد الحياة في الماضي، وهو لا يكاد يستغني عن الاصطياد في كل زمان ومكان لأن الصيد طعام لذيذ، إلا أن الشّرع تجاوب مع هذا الميل الطبيعي للصيد، فأباح منه صيد البحر في حال الإحرام بحج أو عمرة، وحرّم منه صيد البر في تلك الحالة أو الآونة. وأوجب الشّرع على الحاج أو المعتمر المخالف هذا التحريم فدية مماثلة للحيوان المصيد، أو إطعام مساكين، أو صياما معادلا أو مساويا للمصيد حجما أو قيمة.
497
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [المائدة: ٥/ ٩٤- ٩٦].
أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل: أنها نزلت في عمرة الحديبية، حيث ابتلاهم الله بالصيد، وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها، أخذا بأيديهم، وطعنا برماحهم، وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهمّوا بأخذها، فنزلت هذه الآية.
والمعنى: يا من اتّصفتم بالإيمان، وصدّقتم بالله ورسوله، وآمنتم بالقرآن، ليختبرنكم الله بإرسال كثير من الصيد، تأخذونه بالأيدي أو تصطادونه بالرماح، وسبب الاختبار لإظهار ما علمه الله أزلا من أهل طاعته ومعصيته أنه حاصل منهم في حال الحياة، فيعلم الله علم ظهور وانكشاف من يخافه بالغيب حيث لا يراه الناس، ومن يخافه أمام الناس فقط، فمن اعتدى، أي تجاوز حدود الله بعد هذا البيان الشافي في الصيد، فله عذاب شديد الألم في الآخرة لأنه لم يبال باختبار الله له في الدنيا.
ثم حرّم الله تعالى صيد البر حال الإحرام بحج أو عمرة، سواء في داخل الحرم المكي وخارجه، ليتفرّغ النّسّاك والعبّاد للعبادة، فإن قتل المحرم عمدا أو خطأ شيئا
(١) ليختبرنكم.
(٢) محرمون بحج أو عمرة.
(٣) واصل الحرم لذبحه فيه.
(٤) معادله.
(٥) سوء عاقبة ذنبه.
(٦) للمسافرين.
498
من الصيد البري، فعليه جزاء من الأنعام، يماثل ما قتله في الهيئة والصورة إن وجد، وإن لم يوجد المثيل، فتجب القيمة.
فمن قتل نعامة مثلا فعليه بدنة (جمل أو ناقة)، ومن قتل حمارا وحشيّا فعليه بقرة، ومن قتل ظبيا فعليه شاة، ومن قتل طائرا، فعليه قيمته إلا حمام مكة ففيه شاة.
ويتم تقدير الجزاء من قبل شخصين مؤمنين عدلين. ويذبح الشيء المماثل في حرم مكة دون سواه، ويوزع لحمه على مساكين الحرم، لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ.
ويخير قاتل الأنعام (الإبل والبقر والغنم ونحوها) بين تقديم مماثل من النّعم، وبين إخراج كفارة: هي طعام مساكين لكل مسكين مدّ (٦٧٥ غم) بقدر قيمة الصيد، بأن يقوّم الصيد الذي أصابه، وينظر كم ثمنه من الطعام (الحنطة) فيطعم لكل مسكين مدّا، أو يصوم مكان كل مدّ يوما. والسبب في تشريع الجزاء على قتل الصيد:
أن يذوق القاتل وبال أمره، أي ثقل فعله، وسوء عاقبة أمره، وهتكه لحرمة الإحرام. وأما الماضي قبل هذا التحريم فهو معفو عنه، لقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي لا إثم فيما وقع منكم في زمن الجاهلية، أو قبل هذا التحريم من قتل الصيد في حال الإحرام، ولم يؤاخذكم عليه. ومن عاد إلى قتل الصيد البري وهو محرم بعد هذا النهي والتحريم، فإن الله ينتقم منه في الآخرة لإصراره على المخالفة والذنب، والله عزيز، أي قوي غالب على أمره فلا يغلبه العاصي، والله جبّار منتقم بحق وعدل، يعاقب من اقترف الذنب بعد النهي عنه.
والآية دليل واضح على أن الجزاء الدنيوي يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر استحق المذنب جزاء الدنيا (الكفارة) وجزاء الآخرة وهو نار جهنم.
499
وأباح الله للمحرم بحج أو عمرة اصطياد البحر، وطعامه الذي يلقيه البحر، فيجوز للمحرم تناول ما صيد من البحر، سواء كان حيّا أو ميتا، قذفه البحر أو طفا على وجه الماء، أو انحسر عنه الماء، وحكمة إباحة صيد البحر: هي أن ينتفع به المؤمنون المقيمون والمسافرون على السواء، لقوله تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ.
وأما صيد البحر من الوحش والطير: وهو ما يكون توالده ومثواه في البر، فيحرم تناوله من المحرم بحج أو عمرة إذا صاده بنفسه، ولا مانع ما صاده غير المحرم، أو اصطاده الشخص في غير الإحرام، واتّقوا الله أيها الناس فيما نهاكم عنه من الصيد أو الخمر والميسر ونحوهما، فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر، ومصيركم ومرجعكم إليه، فيحاسبكم حسابا عسيرا على القليل والكثير، يعاقب العاصي، ويثيب الطائع.
مكانة البيت الحرام والشهر الحرام
للبيت الحرام، أي الكعبة المشرفة مكانة عظيمة عند الله تعالى في شريعة إبراهيم الخليل عليه السّلام، وفي شريعة الإسلام، لاعتبارات معنوية سامية، ولكونها مقرّا لتوحيد الله تعالى من قبل جميع الناس، وكذلك عظّم الله الشهر الحرام كالمحرّم ورجب، وكل ما يهدى لأهل الكعبة من أنعام أو مواش، وعظّم الله ذوات القلائد من الهدي، وهي الأنعام التي كانوا يضعون القلادة على أعناقها إذا ساقوها هديا مقدّما لذبحه وتوزيعه على فقراء الحرم. قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
«١» «٢» »
«٤» [المائدة: ٥/ ٩٧].
(١) الكعبة، والمراد جميع الحرم.
(٢) قواما لمصالحهم الدينية والدنيوية.
(٣) ما يهدى من الأنعام للحرم.
(٤) ما يقلد به الهدي علامة له.
500
الكعبة: بيت مكة، وهو أول بيت وضع للعبادة في الأرض، وسمي كعبة لتربيعه، قال أهل اللغة: كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة، وقال قوم: سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض. وقد بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام بمكّة المكرمة.
والله سبحانه عظّم الكعبة وجعلها مقرّا موحّدا للعبادة، وصيّرها محطة يقوم بها أمر الناس وإصلاح شأنهم في أمر دينهم بالحج إليها، وفي أمر دنياهم بتوفير الأمن فيه لداخله، وتحقيق المنافع وجباية الثمرات المختلفة من كل شيء إليها، وهي تشبه الملك الذي هو قوام الرّعية وقيامهم، ورمز تفوقهم وعزّتهم، وأساس قوتهم ومنعتهم.
وجعل الله الكعبة مثابة للناس وأمنا، فيه يأمن الخائف، وينجو اللاجئ كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٢٩/ ٦٧].
وصيّر الله الكعبة مهوى الأفئدة والقلوب، فهي في كل مكان وزمان تهوي القلوب إليها. وهي أيضا سبب لزيادة الرزق والثمرات، فيقوم أمر العباد ويصلح شأنهم في الدنيا والآخرة، وهكذا يجد كل من حج حاجته أو مطلبه، إجابة لدعاء إبراهيم عليه السّلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) [إبراهيم: ١٤/ ٣٧].
والله سبحانه جعل الكعبة أيضا مقرّا لالتفاف المسلمين حولها، والقيام بأداء المناسك والتّعبدات، وتهذيب الأخلاق وضبط النفوس وتزكيتها، وتوحيد وجهات نظر المسلمين في شؤونهم العامة والخاصة، وتأكيد رابطة الأخوة الإيمانية، وبعث القوة في النفوس، وإحياء روح الجهاد، وتذكير الوحي الإلهي، وتجديد الإسلام في الأعماق.
501
وجعل الله الأشهر الحرم فترة سلام وأمان، وتلك الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي هو شهر مضر، وهو رجب الأصم لأنه لا يسمع فيه صوت السلاح، فيأمن الناس على أنفسهم وأموالهم ومعايشهم وتجاراتهم، وتهدأ النفوس، وتخمد نار الحروب، وينصرفون إلى العبادة والحج وصلة القرابة، وتحصيل الأقوات كفاية العام.
وكذلك الهدي (وهو كل ما يقدم من الأنعام حين زيارة البيت الحرام) والقلائد أي الإبل المقلّدة المعلمة بلحاء الشجر، جعلها الله قياما للناس أي أمانا، فالهدي أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة، لم يأت لحرب، وكذلك القلائد من الإبل التي تقلّد بلحاء الشجر أو غيره، فتكون أمانا لمن قلّدها، وكان هذا التقليد أو العادة المتّبعة محلّ تعظيم شديد في نفوس العرب، حتى إن من ليس بمحرم لا يقدر أن يتقلّد شيئا خوفا من الله، وكان هؤلاء الزّوار للكعبة إذا انصرفوا، تقلّدوا من شجر الحرم.
قال سعيد بن جبير رحمه الله: جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون نارا، ثم شدّد ذلك بالإسلام.
فعل الله وجعل هذه الأمور معالم أمن ونفع، لتعلموا أيها الناس أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم. والله تعالى علّام بكل شيء صغير أو كبير، سرّ أو علن، باطن أو ظاهر. وعلمه تعالى علم تامّ بالجزئيات ودقائق الموجودات، كما قال عزّ وجلّ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٦/ ٥٩].
502
أسباب التّرغيب والتّرهيب
يحرص القرآن الكريم على اتّباع منهج الجمع بين الترغيب والترهيب، ليكون الترغيب دافعا إلى البناء والعمل الإيجابي، ويكون الترهيب والتخويف سببا في البعد عن الهدم والانهزام وسلبيات الأمور والأوضاع.
ويفهم الإنسان المؤمن العاقل حين اقتران الترغيب بالترهيب ضرورة الموازنة والتفكير الجدي والعمل الحاسم بتوجيه نفسه وغيره نحو الخير، واجتناب الشّر والمنكر. وسرعان ما تظهر نتيجة الموازنة والمقارنة سواء في الدنيا أو في الآخرة، ففي الدنيا يظفر فاعل الخير بالسعادة وتحقيق السمعة الطيبة، ويسقط الشرير من أعين الناس، ويحذرونه وينأون عنه، وفي الآخرة يحظى المؤمن الصالح بالخلود في جنّات النعيم، والنجاة والفلاح في الحساب بين يدي الله تعالى، ويتلقى الكافر والفاسق والعاصي في الآخرة صفعة موجعة مؤلمة، ويتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
[المائدة: ٥/ ٩٨- ١٠٠].
وسبب نزول آية: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.. فيما
أخرج الواحدي والأصفهاني عن جابر رضي الله عنه: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر تحريم الخمر، فقام أعرابي فقال: إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي، فاعتقبت منها مالا، فهل ينفع ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا يقبل إلا الطيب، فأنزل الله تعالى تصديقا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠).
503
خوّف الله تعالى عباده ورجّاهم، وأرهبهم ورغّبهم في قوله سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨). وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه حال الناس، فجدير بالإنسان أن يكون خائفا، عاملا بحسب الخوف، متّقيا متأنسا بحسب الرجاء لأن الله لم يخلقنا عبثا، ولم يتركنا هملا، بل لا بد من جزاء العاصي، وإثابة الطائع، والله سبحانه شديد العقاب لمن خالف أوامره، فأشرك بالله وفسق وعصى ربّه، وهو تعالى غفار رحيم (كثير المغفرة والرحمة) لمن أطاعه، ونفّذ أوامره، واجتنب نواهيه، يرحم التّائبين المصلحين أعمالهم من وقت قريب قبل أن يدركهم الموت، وهذه الآية تقتضي أن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف. وأن الاعتدال هو بخشية العذاب، وحسن الظن بالله تعالى معا. وفي تقديم العقاب على المغفرة دليل على أن جانب الرحمة أغلب لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث النّبوي، وكما قال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: ٥/ ١٥].
وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان، وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة، ثم يتولى الله إثابة المطيع، ومعاقبة العاصي، لأنه سبحانه يعلم ما ينطوي عليه صدر العبد، ويعلم ما تبدون وما تكتمون، ويعلم السّر وأخفى، وإلى الله المرجع والمآب.
ثم أمر الله نبيّه بأن يعلم الناس: أنه لا يستوي الخبيث والطيب، والكافر والمؤمن، والضّار والنافع، والفاسد والصالح، والظالم والعادل، والحرام والحلال، ولو أعجبك أيها المشاهد كثرة الخبيث من الناس أو كثرة المفسدين أو الأموال الحرام عند شخص ما كالرّبا والرّشوة والخيانة، أو ولو تعجبت من قلّة الطيب من الصالحين الأبرار. قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) [ص: ٣٨/ ٢٨].
504
فاتّقوا الله يا أهل العقول، واحذروا تسلّط الشيطان عليكم، فتغتروا بكثرة أهل الباطل والفساد، أو كثرة المال الحرام، لعلكم تنجون من العذاب، ولأن العاقل هو الذي يتذكر ويعي ويحذر، وتقوى الله: هي سبيل الفلاح والفوز والنجاة وإحراز خيري الدنيا والآخرة. والأمر بالتقوى تأكيد لما سبق، من الترغيب في الطاعة والتحذير من المعصية.
السؤال فيما لم ينزل به وحي
الوحي الإلهي التشريعي لتنظيم حياة المسلمين شيء واحد متكامل، لا يهمل منه شيء، وما كان ربّك نسيّا، وإنما كان نزول القرآن الكريم تدريجا، فينزل الحكم الإلهي في المكان والزمان المناسبين، ويأتي الجواب الشافي للمسائل الطارئة أو المشكلات المختلف فيها بحسب الحكمة الإلهية، وبمقتضى الحق والعدل الإلهي والمصلحة العامة، لذا فإنه ليس من الأدب أو اللياقة استعجال الجواب عن بعض الأمور، ويترك كل تفصيل ضروري لله المشرّع، فهو من شأن الوحي وحده، لا بحسب الأمزجة والتّطلعات، ويكون السؤال عما لم ينزل فيه وحي مكروها، أو حراما، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
[المائدة: ٥/ ١٠١- ١٠٢].
تعددت أسباب نزول هذه الآية حول المنع من الأسئلة، منها سؤال اختبار وتعجيز أو تعنّت واستهزاء، ومنها سؤال استفهام واسترشاد عن أحوال الفرائض، فمن أمثلة النوع الأول وهو سؤال الاختبار: سؤال بعض الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن
505
اسم أبيه، أو عن مكان ناقته الضّالة أي الضائعة، وعن مصيره في الآخرة، فتنزل الآية بالنهي عن تلك الأسئلة السخيفة، ومن أمثلة النوع الثاني، وهو سؤال الاسترشاد: ما
رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجّوا» فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم» فأنزل الله هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...
والمعنى: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، لا تسألوا عن أشياء عيبية أو خفية لا فائدة منها، أو عن أمور دقيقة في الدين، أو عن تكاليف سكت عنها الوحي، فيشق التكليف بها على بقية المؤمنين، فيكون السؤال سببا في التشديد والإساءة والكثرة.
وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة أو الشائكة، أو التكاليف الصعبة حين ينزل القرآن، يظهرها الله لكم على لسان رسوله، فيكون السؤال سببا في التشديد أو التضييق، ويوضح هذا المعنى ما
رواه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته».
ولكن إذا كان السؤال في بيان المراد من مجمل القرآن أو غوامضه، فلا بأس به، للحاجة إليه، مثل السؤال عن إيضاح حكم الخمر بعد نزول آيات تعرّض بتحريمه، وتنبّه إلى مخاطره وكثرة مآثمه.
أما السؤال عما لا يفيد، أو عما لا حاجة للسؤال فيه، وكان في الإجابة عنه زياد كلفة ومشقة، فهو حرام. عفا الله عما لم يذكره في كتابه، فكل ما سكت عنه القرآن، فاسكتوا عنه كما سكت، والله غفور لمن أخطأ في السؤال وتاب، حليم لا
506
يعاجلكم بالعقوبة على ما تورّطتم به. وهذا معنى الحديث النّبوي الذي
رواه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني حيث قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها».
ثم ذكر الله بعض الأمثلة الواقعية من سجل الأقوام السابقين، وهم قوم صالح الذين سألوا عن مسائل، ثم أهملوا حكمها، فقال سبحانه: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أي قد سأل هذه المسائل المنهي عن السؤال فيها قوم من قبلكم، فأجيبوا عنها، ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد، وكذلك الذين طلبوا إنزال المائدة من السماء من عيسى عليه السّلام، ثم لم يؤمنوا به ولا برسالته. ومثل بني إسرائيل الذين سألوا عن أحوال البقرة المأمور بذبحها، فإياكم أيها المؤمنون من أسئلة تكون سببا للتّشدّد فيشدّد الله عليكم، فإن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه،
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم».
حقّ التّشريع لله لا للنّاس
ليس لأحد من البشر في شريعة القرآن حق في التحليل والتحريم، أو الإباحة والمنع، وإنما الحق التشريعي في ذلك لله سبحانه منزل الشرائع، ومبيّن الحلال والحرام، والأنظمة والأحكام لأن التشريع الإلهي القرآني دائم خالد، لا يتأثر بمصالح شخصية أو زمنية أو مكانية، وإنما هو دستور الحياة الدائمة، والمنهج الأمثل
507
المفضّل لإصلاح الحياة، ونفع الفرد والجماعة، لذا أنكر القرآن الكريم على عرب الجاهلية إقدامهم على سنّ الشرائع وتقرير عبادة الأصنام، وتحليل أو تحريم بعض الأنعام (المواشي) فقال سبحانه:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المائدة: ٥/ ١٠٣- ١٠٤].
سأل قوم عن أحكام الجاهلية، أهي باقية، وهل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم؟ فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها ولا سنّة أو شرّعه لعباده، ولكن الكفار فعلوا ذلك، إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحيّ وغيره يفترون على الله الكذب، فيشرعون للناس عبادة الأصنام، ويحرمون بعض المواشي ويقولون: هذه قربة إلى الله، وأمر يرضيه، وأكثر الأتباع لا يعقلون شيئا، بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وضلالا بغير حجة.
والمعنى: ما سنّ الله ولا شرع لعباده شيئا من أحكام العرب في الجاهلية، ولا أمر بالتبحير والتّسييب وغير ذلك، ولكنهم يفترون ويقلّدون في تحريمها كبارهم.
وأكثر هؤلاء الأتباع لا يدركون أو لا يعقلون أن ذلك افتراء على الله، وتعطيل لموهبة العقل والفكر، وأنه مجرد وثنية وشرك، والله لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده. وكان أول من حرّم هذه المحرمات، وشرّع للعرب عبادة الأصنام هو عمرو بن
(١) الناقة تشق أذنها إذا ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر، وتخلى للأصنام.
(٢) الناقة تسيب للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب. [.....]
(٣) الناقة التي بكّرت بأنثى ثم ثنّت بأنثى.
(٤) الفحل إذا لقح ولد ولده فلا يركب ولا يحمل.
(٥) كافينا.
508
لحي الخزاعي، فهو الذي غيّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة وسيّب السائبة وحمى الحامي.
أما البحيرة: فهي الناقة التي كانوا يبحرون أذنها، أي يشقونها شقّا واسعا، إذا ولدت خمسة أبطن إناثا، فإن كان آخرها أنثى حرم على النساء لحمها ولبنها، وإن كان آخرها ذكرا نحروه وأكلوه. والسّائبة: هي النّاقة التي كانت تسيب بنذرها لآلهتهم الأصنام، فتعطى للسّدنة (الخدم) وترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجزّ صوفها، ولا يحلب لبنها إلا لضيف. والوصيلة: هي الشّاة أو النّاقة التي تصل أخاها بأن تلد ذكرا وأنثى، فيقال: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم كما كانوا يفعلون لو ولدته وحده. والحامي: الفحل الذي يضرب في مال صاحبه، فيولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون: حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
هذه أنظمة تحريم بعض المواشي مما كان يفعله عرب الجاهلية الوثنيون، وهي أنظمة مفتراة مكذوبة، لم يأذن الله بها، زاعمين أن الله أمر بذلك وتراهم متناقضين، فإذا قيل لهم: تعالوا إلى العمل بما أنزل الله من الأحكام المؤيدة بالبراهين، وإلى الرسول المبلّغ لها، والمبيّن لمجملها، أجابوا: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا، فهم لنا أئمة قادة مشرّعون، ونحن لهم تبع، أي إنهم مقلّدون لأسلافهم تقليدا أعمى.
لذا أنكر عليهم القرآن هذا التقليد المجافي للصواب، الذي لا دليل عليه، فهل يقبل منهم مثل هذا التقليد، أيكفيهم مستندا مجرد ذلك للعمل به، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا من الشرائع، ولا يهتدون إلى مصلحة أو خير أصلا في الدين والدنيا، فهم يتخبطون في ظلمات الوثنية وخرافة المعتقدات، ويشرّعون لأنفسهم
509
بحسب أهوائهم، من وأد البنات، وشرب الخمور، وظلم الأيتام والنساء، وارتكاب الفواحش والمنكرات، وشنّ الحروب لأتفه الأسباب، وإثارة العداوة والبغضاء.
وهذا إنكار صريح وتنديد بالتقليد الأعمى والتّعصب الموروث من غير وعي ولا إدراك، وكأنهم يقولون بعد هذا التوبيخ: نعم لو كان آباؤنا كذلك، كما قال الله تعالى في آية أخرى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) [البقرة: ٢/ ١٧٠].
أداء الواجب بالكلمة الطيبة
الإسلام دين الحق والصراحة في القول والعمل، وهو يريد الخير والسعادة للناس جميعا، فلا يكتفي من أتباعه الانطواء على النفس وإيثار العزلة، وإبقاء الآخرين يترددون في متاهات الخطأ والضّلال، وزيغ العقيدة والانحراف في الفكر والخلق والسلوك.
ولكن بعد محاولة التصحيح والتنبيه إلى الأخطاء الواقعة من الآخرين يظل المؤمن محتفظا بقيمه وعقيدته وأخلاقه، ولا يتشكك في شيء منها، ويلتزم شرعه بما فيه من أمر بالجهاد وقول بمعروف، ولا يضره ضلال غيره إذا اهتدى لأن كل إنسان مسئول عن نفسه، ولا يحتمل امرؤ تبعة أعمال امرئ آخر، فذلك هو العدل لأن المؤاخذة على فعل الآخرين جور وظلم.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
«١» [المائدة: ٥/ ١٠٥].
(١) الزموها وتجنّبوا المعاصي.
510
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال فيما أخرجه أحمد وغيره: ليس هذا بزمان هذه الآية، قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم.
والمعنى: يا أيها المؤمنون عليكم أنفسكم، كمّلوها بالعلم والعمل، وأصلحوها بالقرآن وآداب السّنة النّبوية، وانظروا فيما يقرّبها إلى الله تعالى، حتى تكون في رفقة الأنبياء والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وبعد هذا لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم.
لا يضرّكم شيء إذا قمتم بواجب الإرشاد والنّصح، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكرات، فإن الله يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ٦/ ١٦٤]. ثم إلى الله المرجع والمآب، وسيجازي كل إنسان على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
وجملة ما قرّره أهل العلم في هذا أن النّصح أو الأمر بالمعروف متعيّن إن رجي القبول، أو رجي ردّ المظالم، ما لم يخف المرء ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، فإذا خيف هذا، فعليكم أنفسكم بحكم واجب الوقوف عنده.
وقد فهم خطأ هذه الآية بعض الناس في عهد أبي بكر الصّدّيق، وتأوّلوها أنها لا يلزم معها أمر نصح وإرشاد بمعروف ولا نهي عن منكر،
فصعد أبو بكر المنبر فقال:
أيها الناس، لا تغتروا بقول الله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم: علي نفسي، لقد سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياما: الصّابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهنّ أجر خمسين رجلا، يعملون كعملكم»، وفي رواية: قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم»
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
511
وهذا دليل واضح على أن المسلم يكمل نفسه بالعمل الصالح، ويكمل غيره بالنصح والإرشاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا فرض لا يسقط إلا إذا وصل المرء إلى حال شديدة من الأذى، بحيث يتعرّض للهلاك لو وعظ غيره.
ولا غرابة في هذا التوجه، فإن الحياة مدرسة، يستفيد الإنسان كثيرا من الأشياء من مجتمعة، فإذا كان جاهلا بقواعد وآداب المجتمع ازدراه الناس، فلا بدّ من أن يفيد ويستفيد، لتبادل المعلومات، وإقرار الأعراف الحسنة التي لا تتصادم مع الشريعة في شيء، ولا يجزع الإنسان أو يتألم بعدئذ إذا لم يجد لكلمة الحق أذنا صاغية، فإن القرار في النهاية والخلود للحق وأهله. وما أروع ما تضمنته الآية: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً الآية، فهي تذكير بالحشر والحساب والسؤال عن الأعمال، وفي هذا تزهيد بأمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها، والهداية والتوفيق إلى صالحات الأعمال أمر متروك لله عزّ وجلّ، خالق الخليقة، والقاضي العدل بينهم يوم القيامة، وهو سبحانه ربّ العباد أجمعين.
حكم الشّهادة على الوصيّة
تطلب الشهادة ندبا في جميع العقود الزمنية التي يتطلب تنفيذها أجلا معينا، حفظا للحقوق، ومنعا من ضياعها، وبعدا عن الظلم والفساد، ويتأكد طلب شهادة اثنين عدلين على الوصيّة منعا من إنكارها أو التّلكؤ في تنفيذها والتقصير في أداء حقّها للمستحقين، قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)
«١»
(١) سافرتم فيها.
512
«١» [المائدة: ٥/ ١٠٦- ١٠٧].
اتّفق المفسّرون على أن سبب نزول هذه الآية- فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس- هو تميم الداري وأخوه عدي النّصرانيان حين خرجا إلى الشام للتجارة، ومعهما بديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص، الذي كان مسلما مهاجرا، فمات في الطريق وقبل موته أوصى بوصية من غير إشهاد عليها، فأخذ رفيقاه إناء فضيّا منقوشا بالذهب، وأنكرا أخذه وردّه إلى أهل بديل المتوفى، ثم أسلم تميم، فكان يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، فنزلت الآية في طلب الشهادة على الوصية في السفر، ولو كان الشاهدان غير مسلمين.
ومعنى الآية كما ذكر ابن عطية: أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين، فإن كان في سفر- وهو الضّرب في الأرض- ولم يكن معه من المؤمنين أحد، فليشهد شاهدين ممن حضره من غير المسلمين، فإذا قدما إلى البلد وأدّيا الشهادة على وصيته، حلفا بعد صلاة العصر أنهما ما كذبا ولا بدّلا، وأن ما شهدا به حقّ، ما كتما فيه شهادة الله، ويحكم بشهادتهما.
فإن عثر أو تبيّن بعد أنهما كذبا أو خانا في الشهادة ونحو هذا مما هو إثم ومعصية، حلف رجلان في السفر من أولياء (أقارب) الموصي الذين هم أحق بالإرث، بأن شهادتنا أي يميننا أحقّ وأصدق من شهادة (يمين) غيرهما، وما اعتدينا
(١) الأقربان إلى الميت.
513
في طلب هذا المال، وفي الحكم على الشاهدين بالخيانة، إنا إذا اعتدينا أو خوناهما، وهما ليسا بخائنين لمن الظالمين، أي المبطلين الكاذبين.
والمراد بقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أي من الذين استحقت عليهم الوصية، أو استحق عليهم الإيصاء، الأوليان بالميت أي الأقربان منه.
وحكمة تشريع هذه الشهادة وهذه الأيمان هي مطابقة الشهادة واليمين للواقع، وهو المشار إليه في قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٨]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
أي أقرب أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها الحقيقي بلا تبديل ولا تغيير، خوفا من عذاب الله، وهذه حكمة تغليظ الشهادة بكونها بعد صلاة العصر لأنه وقت القضاء والفصل في الدعاوي، فتكون الصلاة مذكّرة للشهود بالحق والعدل. أو خوفا من ردّ اليمين على الورثة، وفي ذلك الخزي والفضيحة بين الناس، فيظهر كذبهم بين الناس، وهكذا يكون الخوف من عذاب الله أو من ردّ اليمين مدعاة الصدق والبعد عن الخيانة. ثم حثّ القرآن الكريم على مراقبة الله وتقواه، فقال سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي راقبوا الله واحذروا عقابه في أيمانكم أن تحلفوا بها أيمانا كاذبة، وأن تأخذوا مالا عليها، وأن تخونوا من ائتمنكم، واسمعوا سماع تدبّر وقبول لهذه الأحكام واعملوا بها، وإلا كنتم من الفاسقين، المتمرّدين الخارجين عن دائرة حكم الله وشرعه، المطرودين من هدايته ورحمته، المستحقّين لعقابه، والله لا يوفق كل من فسق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطان.
هذه دقائق الأحكام الشرعية في حال من أحوال الحياة تعدّ أنموذجا لكل حال، والآيات تحضّ على الوصية في السفر والحضر، وتتطلب الإشهاد عليها لإثباتها وتنفيذها، والأصل في الشهود أن يكونوا عدولا مسلمين، وتجوز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة أو الحاجة، والله مع المتّقين.
التّذكير بنعم الله على عيسى ابن مريم عليه السّلام
إن حساب الأنبياء والرّسل عليهم السّلام يوم القيامة على مهامهم وأعمالهم يكون بالتذكير بنعم الله عليهم، وسؤالهم عن القيام بواجباتهم، والمراد بذلك أممهم، فيقول لهم مثلا على سبيل التوبيخ والتأديب لأقوامهم: هل فعلتم ما أمرتكم به؟ كما إذا وجه السؤال للبنت الموءودة في جاهلية العرب، والمراد سؤال من وأدها ودفنها حيّة. وقد يوجّه السؤال للأمم مباشرة مثل قوله تعالى:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) [الأعراف: ٧/ ٦].
وهنا نجد صورة واضحة لسؤال الرّسل، والمراد التعريض بأممهم. قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [المائدة: ٥/ ١٠٩- ١١١].
والمعنى: تذكّروا واحذروا أيها الناس حين يجمع الله يوم القيامة الرّسل والأمم والخلائق المرسلين إليهم، فيكلم الله الرّسل أولا، والمراد بذلك أقوامهم، فيقول
(١) جبريل عليه السّلام.
(٢) في المضجع زمن الرّضاعة.
(٣) من الثلاثين إلى الأربعين وقت القوة.
(٤) تصور وتقدّر.
(٥) الأعمى خلقة.
(٦) أنصار عيسى عليه السّلام.
515
الحق لهم: ماذا أجابت به الأمم من إيمان وطاعة وإقرار، أو كفر وإنكار واستكبار وعصيان، وهذا السؤال للأنبياء الرّسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم، ويبتدئ حسابهم على نحو واضح بيّن.
فيجيب الرّسل على سبيل الأدب والذّهول بسبب هول الحال وعالم الحساب: لا علم لنا بالنسبة إلى علمك، فأنت تعلم السّر وأخفى، إنك أنت علام الغيوب، أي ما خفي وغاب، مثلما تعلم المشهودات الحاضرة المعروفة لكل إنسان، فليس علمنا بكاف ولا محقق للغاية الكاملة مثل علمك الواسع المحيط بكل شيء.
قال ابن عباس- ورأيه الصواب-: معنى الآية: لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا.
واذكر يا محمد حين قال الله تعالى لعيسى عليه السّلام معددا معجزاته ونعمه عليه: تذكّر نعمتي عليك وعلى والدتك حين أيّدتك بجبريل روح القدس عليه السّلام، وجعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك، تكلم الناس في فراش المهد وأنت طفل صغير رضيع، أنطقتك في هذه الحال حيث لا ينطق إنسان، فشهدت ببراءة أمّك وطهارتها، وكان ذلك معجزة بقدرة الله وتيسيره: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) [مريم: ١٩/ ٣٠- ٣١].
ثم علّمتك التّوراة والإنجيل والعلم النافع الذي هو الحكمة، وجعلتك قادرا على الكتابة والخط والفهم السّديد.
واذكر يا عيسى حين مكّنتك من صناعة الطيور وخلقها، فتصوّر من الطين صورة كصورة الطائر، فتنفخ فيها، فتكون طيرا له روح وحركة بإذن الله وإرادته، لا بقدرتك البشرية، ولكنها معجزة تحققت على يديك، كسائر معجزات الرّسل. والإذن
516
المتكرر في هذه الآيات معناه التمكين من الله، مع العلم بما يصنع عيسى، بقصد دعوة الناس إلى الإيمان برسالته، لا من أجل المباهاة مثلا.
واذكر حين كنت تشفي المرضى وتبرئ الأكمه (الذي ولد أعمى) والأبرص بإذن الله تعالى، وحين تخرج الموتى من قبورهم أحياء بإذن الله وتقديره. وحين كففت ورددت عنك بني إسرائيل، فحميتك من أذاهم ومكرهم، وأتيتهم بالبراهين القاطعة الدّالة على صدق نبوّتك ورسالتك من الله، فكذّبوك واتّهموك بأنك ساحر، وهمّوا بصلبك وقتلك، فنجّيتك منهم، ورفعتك إلي، وكفيتك شرّهم.
واذكر يا عيسى حين ألهمت أصحابك الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي عيسى، فأعلنوا إيمانهم قائلين: آمنّا بالله وبرسوله، واشهد بأنّا مسلمون منقادون لله سرّا وعلانية. إن المقصود من التذكير في عالم الحساب يوم القيامة بمعجزات عيسى عليه السّلام، هو الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وإظهار عيسى بأنه مجرد بشر رسول موحى إليه من ربّه، والتذكير بتصحيح العقائد الفاسدة، وفهم المعجزة الجارية على يد نبي أو رسول أنها بفعل الله حقيقة، ولكنها تعلن وتظهر في الظاهر على يد الرسول. وهذه نعم ثمان تعدّ معجزات لسيدنا عيسى عليه السّلام لحمل الناس على التّصديق بنبوّته ورسالته.
مائدة عيسى عليه السّلام
إن العقل البشري عاجز محصور محدود، فلا يصح لعقلاء البشر أن يفهموا مقدورات الله العظمى ومعجزات الأنبياء بالمعايير المألوفة المشاهدة بحسب العادة لأن قدرة الله أعظم وأشمل وأكبر من مجرد استيعاب الإنسان العادي، وإذا كان الله تعالى يرزق عباده بالمواد الأولية من الأرزاق التي تحتاج إلى طبخ وطهي أحيانا،
517
والأرزاق التي لا تحتاج إلى طبخ كالفواكه والثمار، فإن الله تعالى قادر إتمام عملية الطبخ والتصنيع البسيطة جدّا بتأثيرات الحرارة الجوية أو الأرضية مثلا، وهذا ما حدث في قصة المائدة الجاهزة للأكل التي أنزلها الله على عيسى وقومه.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ١١٢- ١١٥].
هذه نعمة تاسعة بعد النّعم الثمانية التي أوردها الحق تعالى في آيات سابقة وأنعم بها على عيسى عليه السّلام.
ومضمون الإخبار بهذه النعمة: إخبار محمد عليه الصلاة والسلام وأمّته بنازلة الحواريين في المائدة، وهي تقتضي تأدّب كل أمة مع نبيّها، فلا تطلب شيئا من المعجزات المادّية التي لا معنى لها، فذلك امتحان يتعالى الله عنه، فهو القادر المقتدر على كل شيء. ومع ذلك فإن الله قد يتنزل لمستوى عقول البشر وطلباتهم، فيجيبهم عما طلبوا أو سألوا.
والمعنى: اذكر يا محمد حين طلب الحواريون أصحاب عيسى منه إنزال مائدة من السماء ليأكلوا منها، وتكون دليلا مادّيا يؤكد صدق عيسى.
فقالوا: يا عيسى، هل يفعل ربّك ويرضى أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء،
(١) خوانا عليه طعام.
(٢) يوم نعظّمه ونسرّ به. [.....]
518
وهل تقع منه تعالى إجابة لهذا الطلب؟ وليس ذلك من الحواريين تشكيكا بقدرة الله، فهم مؤمنون. فأنكر عيسى قولهم ذلك من ناحيتين:
الأولى: بشاعة هذا اللفظ، والثانية: إنكار طلب الآيات والتّعرض لسخط الله بها، فإن النّبوات ليست مبنية على تعنّت الناس ومكابرتهم. قال لهم عيسى: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فشأن المؤمن أن يلتزم الأدب مع الله، ولا يطلب ما قد يشعر بالتّعنّت والتّشدّد. ولذا قال الحواريون معتذرين عن الطلب بهذه الصورة: نريد أن نأكل منها، فنحن في حاجة إلى الطعام، وإذا أكلنا تطمئن قلوبنا وتهدأ نفوسنا، ونعلم أن قد صدقتنا في أن الله أرسلك نبيّا، وجعلنا أصحابا أعوانا لك، وقد رضي عنا بإجابة سؤالنا. ونحن قبل ذلك وبعد المائدة نكون من الشاهدين لله بالوحدانية، ولك بالنّبوة والرّسالة، وما هذه المائدة إلا دليل حسي على ذلك.
فطلب عيسى من الله إنزال المائدة، لتكون مصدر فرح وسرور، ويوم عيد، يجتمع فيه الناس للعبادة والشكر، ويعود عليهم كل عام باليمن والبركة والسعادة، وآية على صحة دعوى النّبوة، وتذكيرا بالدعاء وطلب الرزق من الله تعالى، فهو خير الرازقين، يرزق من يشاء بغير حساب.
فأجاب الله دعاء عيسى مقرونا بالتهديد بالجزاء حين مخالفة أوامر الله: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ.. أي من يكفر بالله بعد نزول هذه المائدة، فإني أعذّبه عذابا شديدا، لا أعذب مثله أحدا من سائر كفّار العالمين في زمانهم لأنهم لم يبق بعد هذا الدليل الحسي (إنزال المائدة) عذر لمن يكفر أو يستهزئ بآيات الله وأدلّته الدّالة على وجوده وقدرته. ولا حاجة للبحث عن شكل المائدة ولونها ونوع طعامها، فذلك لا فائدة منه، وعلينا التزام حدود البيان القرآني.
519
الألوهيّة والرّبوبيّة لله تعالى
يتجاوز بعض الناس حدودهم وإمكاناتهم البشرية، فيصفون أنفسهم أو غيرهم بوصف الإله أو الرّبّ، بدافع الغرور والجهل، والمبالغة والخطأ القطعي في التقدير، ويستمر الخطأ بالوراثة في الأجيال المتلاحقة والأبناء والبنات، وقلّ أن تجد إنسانا يعمل فكره ويتأمّل بعقله في حقائق الأشياء، وفي ذات الإله وما يتميز به عن سائر المخلوقات من قدرات هائلة لا حدود ولا نظير لها، وذلك لا يستحقّه إلا الله جلّ جلاله، خالق الخلق، ومبدع الكون، وفالق الحبّ والنّوى. وقد حكى القرآن الكريم وضعا من الأوضاع الشّاذّة في إضفاء صفة الألوهية على بشر، ولد وعاش، ومات كما يولد ويعيش ويموت سائر البشر، وإن كان متّصفا ببعض المزايا، ولكنها لا تؤهّله لأن يصير إلها أو يحتلّ محلّ الإله، فقال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١٢٠]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
«١» «٢» [المائدة: ٥/ ١١٦- ١٢٠].
ومعنى الآيات: اذكر يا محمد للناس يوم يكون الحشر، فيسأل الله تعالى عيسى ابن مريم سؤالا مفاده: أأنت قلت للناس، اتّخذوني وأمّي إلهين معبودين من غير
(١) تنزيها لك عما لا يليق بك.
(٢) أخذتني وافيا برفعي إلى السماء.
520
الله؟ والسؤال ليس لمجرد الاستفهام، وإنما بقصد الإنكار والتوبيخ لمن ادّعى ألوهية عيسى، فيرون تبرؤ عيسى من هذه النسبة أو الصفة، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل محض البطلان، لأن عيسى عليه السّلام يستجير من هذا الادّعاء قائلا: سُبْحانَكَ أي أنزّهك عما لا يليق بك، من ادّعاء الشريك أو الابن والولد، وليس هذا من شأني، ولا مما يصح أن يقع مني أن أقول قولا لا حقّ لي بقوله، فإن قلته على سبيل الافتراض، فأنت تعلم قولي وما في نفسي، وسرّي وعلانيتي، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية في نفسك، إنك أنت المحيط بالغيبيات، والحسّيّات المشاهدات، ما كان منها وما سيكون.
لم أقل لهم إلا ما أمرتني به بعبادة الله ربّي وربّكم، وإني عبد من عبادك مثلهم، وكنت المراقب على أحوالهم، أشهد على ما يفعلون، وأمنعهم من القول الباطل، وأطالبهم بقول الحق، فلما توفّيتني أي قبضتني إليك، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم، الحافظ عليهم، المحاسب لهم، وأنت الشهيد على كل شيء، فتشهد لي حين كنت فيهم.
وأنت يا ربّ المفوض في الأمور كلها، تعذّب المسيء بعدلك، وترحم المقصّر بفضلك ورحمتك، وتغفر لمن تشاء بإرادتك، فالملك ملكك، وأنت القوي القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا تجازي إلا بحكمة وصواب.
قال الله: هذا يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه صدق الصادقين في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأفعالهم في الدنيا. وجزاء الصادقين جنات تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، ثوابا خالصا من الله، والله راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا، وهم راضون عن الجزاء الذي أثابهم الله به، ذلك الظفر هو الظفر العظيم الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه.
521
والله هو صاحب الملك الشامل، مالك السماوات والأرض، وكل ما فيهما من موجودات ومخلوقات، وهو سبحانه قادر تام القدرة على كل شيء، وشأن المملوك وهم العباد أن يكونوا عبادا لله وحده لا شريك له.
522
Icon