تفسير سورة الطلاق

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الطلاق
مدنية بالإجماع، وعدد آياتها إحدى عشرة آية، أو اثنتا عشرة آية.
وتشتمل على أحكام تتعلق بالعدة وأحكامها، ثم تهديد بذكر عاقبة المخالفين.
أحكام تتعلق بالعدة [سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)
691
المفردات:
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ: اضبطوها، وأصل معنى الإحصاء: العد بالحصى كما كان أولا، ثم صار حقيقة في العد مطلقا. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: بسبب ارتكاب ذنب ظاهر كالزنا مثلا. حُدُودُ اللَّهِ: أحكامه. بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: قضين عدتهن، والمراد: شارفن على انقضائها. ذَوَيْ عَدْلٍ: أصحاب عدل وذمة. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ: أدوها لوجه الله بلا تحريف. مَخْرَجاً: طريقا للخروج من المآزق والأزمات العائلية. حَسْبُهُ: كافيه. بالِغُ أَمْرِهِ المراد: يبلغ ما يريده عز وجل. مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ: من جهة لا تخطر له على بال. قَدْراً:
تقديرا لا يتعداه أصلا. يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ: أصابهن اليأس من الحيض لتقدم سنهن. إِنِ ارْتَبْتُمْ: إن شككتم أو ترددتم في عدتهن. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ:
أصحاب الأحمال، جمع حمل والمراد النساء الحبليات. أَجَلُهُنَّ: انقضاء عدتهن
692
بالوضع. مِنْ وُجْدِكُمْ أى: مما تجدونه، ويكون في وسعكم وطاقتكم.
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ: ائتمر وتآمر بمعنى واحد، والمراد: تشاوروا في إرضاع الطفل، والمعروف: المسامحة والروح الكريمة. تَعاسَرْتُمْ: أصابكم إعسار واختلاف. قُدِرَ: قتر عليه في الرزق.
المعنى:
يا أيها النبي: إذا أردتم طلاق النساء فالواجب أن تطلقوهن لعدتهن، نادى الله النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم خاطب الجميع بقوله: إذا طلقتم للإشارة إلى أنه إمام أمته. وسيد جماعته كما يقال: يا فلان افعلوا كذا فهو المتكلم عنهم، والآمر لهم وهم لا يصدرون إلا عن رأيه فكان هو وحده سادا مسد الجميع، ولعل اختيار لفظ النبي في هذا يؤيد هذا المعنى، وقيل: نودي أولا ثم خوطبت أمته لأن أمر الطلاق مما لا يصح توجيهه للنبي الكريم.
الطلاق جعل سلاحا في يد الزوج، ولكن يجب أن يستعمل في أضيق حدوده، ولا يشرع إلا إذا كان لا بد منه. فهو كما
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطّلاق»
وروى عن أبى موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تطلّقوا النّساء إلا من ريبة- أى: بسببها- فإنّ الله عزّ وجلّ لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات»
وعن أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما حلف بالطّلاق ولا استحلف به إلّا منافق»
هذا الطلاق المبغوض عند الله يجب ألا يوقعه الزوج في حالة يزداد بها ضرر المرأة، ولذا قال الفقهاء: إن الطلاق نوعان سنى وبدعى، أما السنى فهو الذي يقع في طهر مسبوق بحيض لم تجامع فيه المرأة، والبدعى غير ذلك، والمراد في الآية أن يكون الطلاق لعدتهن أى: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وهو في أى طهر لم تجامع فيه، وهذا ما يسمى بالطلاق السنى.
وأحصوا- أيها الأزواج والزوجات- العدة- فإن المرأة المدخول بها إذا طلقت طلاقا واحدا أو اثنين كان لزوجها حق مراجعتها في العدة، فإن فاتت العدة كانت خطبة من جديد إن أراد، فإن طلقها ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
واتقوا الله ربكم، نعم أمرنا بالتقوى وسط هذه الأوامر التي يطل فيها الشيطان برأسه، وتسرع فيها الفتنة إسراعا كثيرا قد يدعو إلى تغيير الذمة، لهذا أمرنا بتقوى الله
693
في الطلاق وهدم البيوت، وتقوى الله في إحصاء العدة، وتقوى الله في القضاء على آمال امرأة، وربما كان لها أطفال. اتقوا الله أيها الناس ولا تخرجوهن، أى: المطلقات من بيوتهن التي هي ملك للزوج، ولكنها أضيفت لهن لتأكد النهى عن إخراجها من مسكنها الذي كانت تسكن فيه قبل الطلاق، ولا يخرجن، أى: النساء من تلك البيوت إلا أن يأتين بفاحشة ظاهرة تدعو إلى الإخراج كالزنا أو السرقة أو سبها لمن في البيت من الأهل والأبوين، فلو اتفق الزوجان على الخروج جاز عند بعض الأئمة.
وتلك حدود الله وأحكامه، ومن يتعد حدود الله بأن أخل بشيء منها فقد ظلم نفسه وأضر بها، إذ حدود الله لمصلحة الإنسان، وأنت لا تدرى، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، نعم أنت لا تدرى فربما كان بقاء المرأة في مسكنها مدة العدة يدعوك إلى أن تراجع نفسك وترجع عما فعلته فتراجعها في العدة، وهذا كثيرا ما يحصل، بخلاف ما لو خرجت من البيت وكثر القيل والقال. وتدخل الناس بالإفساد انقطع غالبا حبل الصلة، والمشرع حريص جدّا على عدم انقطاعه.
فإذا شارفن على آخر العدة فإما إمساك بمعروف بأن تراجعها لا للإضرار، أو تسريح بإحسان ومفارقة بمعروف،
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا ضرر ولا ضرار».
ويندب أن تشهدوا رجلين عدلين على الطلاق أو الرجعة حتى لا يحصل خلاف فإن الذاكرة قد تخون، والنفس قد تسول لك أمرا لا يحبه الله، والواجب على الشهود أن يقيموا الشهادة لله، ويؤدوها خالصة لوجهه.
ذلكم- الأحكام- يوعظ بها المؤمنون بالله واليوم الآخر حقا، أما غيرهم فلا يؤمنون ولا يوعظون بها.
ومن يتق الله يجعل له مخرجا من كل شدة، ومتسعا من كل ضيق، وغنى من كل فقر، وسعادة من كل بؤس فالتقوى هي الطريق الأقوى، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يدرى، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، والتقوى والتوكل ليسا باللسان وإنما هما بالقلب، ولا يعرفهما إلا الخالق العالم فلا يطلع عليهما سواه، والله يقول ذلك، وهو أصدق القائلين، ولكن من ذاق عرف، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده. قال الربيع بن خيثم: إن الله- تعالى- قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب
694
له، وتصديق ذلك في كتاب الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن ١١] وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق ٣] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن ٦٤] وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران ١٠١] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة ١٨٦] وكيف لا تتوكل على الله، والله بالغ ما يريده، قد جعل الله لكل شيء قدرا وتقديرا لا يتعداه بحال، فلا يبقى إلا التسليم والتوكل على الله حق التوكل، وهذا تأكيد وتقرير لقبول أحكام الله.
عدة الآيسة من الحيض: عرف الله الناس عدة المطلقة التي تحيض بقوله:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وبين هنا حكم الطلاق والرجعة فيه.
أما عدة الآيسة التي لا تحيض لكبر سنها فعدتها ثلاثة أشهر إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن، وقيل: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض، أو لم يجر على الطريق المألوف وعند ذلك تسمى بالمستحاضة.
عدة الصغيرة التي لم تحض: واللائي لم يحضن من الصغار فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك.
عدة الحامل: وأصحاب الحمل من النساء عدتهن بوضع الحمل مطلقا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها، وسواء كان الحمل علقة أو مضغة أو سقطا أو جنينا كاملا ولو كان الوضع بعد الوفاة بلحظة.
ومن يتق الله حق تقواه يجعل له من أمره يسرا، ذلك الذي ذكره من الأحكام أمر الله أنزله إليكم، وبينه لكم، ومن يتق الله باجتناب كل نواهيه، وامتثال كل أوامره يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجره في الآخرة.
حق السكنى:
أسكنوهن- أى: المطلقات البائنات من أزواجهن واللاتي لا رجعة لهم عليهن- كالمطلقة مع الإبراء وليست حاملا وهذه المرأة لها حق السكنى دون النفقة والكسوة لأنها بائن منه لا يتوارثان ولا رجعة لها، ولذا أوجبت لها السكنى فقط، أما الحامل فلها السكنى والنفقة والكسوة حتى تضع، أما المرأة التي لم تبن من زوجها فهي امرأته ترثه ويرثها، ولا تخرج من البيت إلا بإذنه كما أمر، لأنها مطلقة طلاقا رجعيا فهي ملحقة بالزوجة لها كل ما لها، وأما المطلقة ثلاثا فمذهب مالك والشافعى أن لها السكنى دون النفقة كالبائن، وأبو حنيفة يقول: لها السكنى والنفقة.
695
أسكنوهن بعض مكان سكناكم «١» من وجدكم، أى: مما تجدونه ومما تطيقونه، ولا تضاروهن في شيء فلتجئوهن إلى الخروج.
نفقة الحامل: والحامل المطلقة تجب لها النفقة والسكنى حتى تضع، وأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقيل: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع، وقيل: ينفق عليها من نصيبها فقط.
رضاع الطفل:
إذا طلقت المرأة وهي ترضع طفلها، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة الرضاع، وهل للمرأة أن تأخذ الأجرة على الرضاع مطلقا وهي في عصمة الزوج أو لا يجوز لها إلا إذا كانت مطلقة بائنة أو غير بائنة؟ أقوال للفقهاء، وعلاج القرآن في هذا هو: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ والمراد هو التشاور بالمعروف والقول الجميل بلا شدة ولا إضرار، فهو يقوم بطلباتها: وهي تقوم بإرضاع طفلها بلا معاكسات ومحاكمات. فإنها مهما كانت أم أولاده، وهو أب أولادها فمن الخير الإبقاء على الصلة:
لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً.
وإن تعاسرتم في أجرة الرضاع، أو اشتطت الأم في الأجرة، أوشح الرجل في دفعها فسترضع له امرأة أخرى، على أن المرأة المطلقة ليست ملزمة بالإرضاع للطفل إلا إذا أبى ثدي غيرها.
النفقة:
لينفق الزوج على زوجته المطلقة وعلى ولده الصغير على قدر وسعه بالنسبة لحاله فإن كان غنيا أنفق نفقة الأغنياء، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «٢»
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها وما في وسعها. واتقوا الله فلا تظلموا غيركم، ولا تدعوا ما ليس فيكم، اتقوا الله في ادعاء الفقر أو الغنى، واعلموا أن الله سيجعل بعد عسر يسرا، وبعد الضيق فرجا، وبعد الفقر غنى وهو على كل شيء قدير.
(١) يقولون: إن جملة (أسكنوهن) وقعت جوابا على سؤال تقديره: كيف يتقى الله فيهن؟ وقوله: (من وجدكم) بيان: أو بدل من قوله: (من حيث سكنتم).
(٢) سورة البقرة آية ٢٣٣.
696
وعد ووعيد [سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
المفردات:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ: وكثير من القرى عَتَتْ: من العتو، والمراد:
أعرضت. نُكْراً: شديدا منكرا. وَبالَ أَمْرِها: عاقبته. أُولِي الْأَلْبابِ: أصحاب العقول. ذِكْراً: هو القرآن. رِزْقاً: جزاء حسنا.
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ المراد: أمر الله وقضاؤه.
لقد سبقت أوامر لله وأحكام تتعلق بالأسرة والبيوت والطلاق والزواج والعدة والنفقات، وكانت في أول العصر الحديث مثار نقد شديد وطعن من علماء الغرب على
697
الإسلام، ثم انتهى الأمر إلى أن أخذوا بمبدأ الإسلام في الطلاق والزواج. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «١» والله- جل جلاله- يهددنا إن تركنا أحكام القرآن بأنه سيغضب علينا ويذيقنا سوء العذاب في الدنيا والآخرة جزاء إهمال أحكام الإسلام، وقد كان ذلك.
المعنى:
كثير «٢» من القرى- والمراد أصحاب كل قرية- عتت عن أمر ربها، وأعرضت عنه، وأهملته وخرجت عن أمر رسولها، ولم تمتثل له فكان الجزاء أنها حوسبت على أعمالها حسابا شديدا على ذلك، وعذبت عذابا منكرا في الدنيا والآخرة، فهي قد ذاقت وبال أمرها وعاقبته، وكانت عاقبة أمرها خسارة هائلة. أعد الله لها عذابا شديدا بعد ذلك في الآخرة غير ما مضى، ألست معى في أن من يترك أحكام الله، ويهمل أمر الدين يكون جزاؤه العذاب في الدنيا والآخرة؟! وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة- أعنى بهم الذين آمنوا بالله ورسوله- وكأن سائلا سأل وقال: لم هذا؟ فكان الجواب: قد أنزل الله إليكم أيها الناس ذكرا لكم هو القرآن، وأرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات، تبين لكم كل شيء وتهديكم إلى كل خير، وقد بينها لكم ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور، والمراد بهم من أراد الله لهم هذا، وسبق في علمه أنهم من أهل الجنة.
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله ربك جنات تجرى من تحتها الأنهار، وقد أحسن الله له رزقا فيها، ووسع له في جنات النعيم.
ولا غرابة في ذلك كله فهي تشريعات الحكيم الخبير بكل شيء، فاحذروا مخالفة أمره
(١) سورة فصلت آية ٥٣.
(٢) في هذا إشارة إلى أن (كأين) بمعنى كم الخبرية وهي تفيد التكثير، وأعربت مبتدأ و (من قرية) تمييز، و (عتت) خبر لها.
698
فإنه من يخالفه يذقه عذابا شديدا، فهو الله الذي خلق السموات السبع. وخلق من الأرض مثلهن، أى: سبعا وإن تكن مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات، وقيل: المثلية في خضوعها لله وأمره وإرادته، الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه بينهن، فالكل خاضع له جل جلاله، ومن كان كذلك كان قادرا على إيقاع العذاب على العصاة والمخالفين لأمره- جل جلاله-، ولتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، فاتقوا الله يا أصحاب العقول، واحذروا عقابه الشديد، واعتبروا بمن سبقكم من الأمم، واعلموا أن علاج القرآن لمشاكلكم إنما هو علاج الخبير البصير.
699
Icon