تفسير سورة التكوير

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة التكوير مكية
وهي تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ إذا الشمس كورت ﴾ : جمع بعضها إلى بعض، فتلف، أو أظلمت، أو أذهبت ومحيت، أو ألقيت في جهنم، والأولى أن يكون رافع الشمس فعلا مضمرا يفسره ما بعده لأن :" إذا " طالب١ للفعل،
١ وعند الأخفش والكوفيين: يجيء الجملة الاسمية بعد إذا (فإذا الشمس كورت) مبتدأ وخبر/١٢ وجيز..
﴿ وإذا النجوم انكدرت١ : تناثرت، وتساقطت من السماء إلى الأرض، أو تغيرت فلم يبق لها ضوء،
١ يقال: انكدرت الطير، أي: سقطت عن عشها/١٢ منه..
﴿ وإذا الجبال سيرت ﴾، عن وجه الأرض، أو سيرت في الهواء،
﴿ وإذا العشار ﴾ : الحوامل من الإبل التي وصلت في حملها إلى الشهر العاشر، وهي خيار الأموال عند العرب، ﴿ عطلت ﴾ : تركت وسيبت، أو العشار : السحاب عطلت عن المطر، أو المراد : الأرض، التي تعشر، عطلت عن الزرع،
﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾، جمعت، فاختلط الناس والدواب والطيور، وماج بعضها في بعض، أو بعثت ليقتص بعضها١ من بعض، أو أميتت، عن ابن عباس : حشر كل شيء الموت سوى الجن والإنس،
١ قال الشهاب في ريحانة الألباء، وهاهنا أمر نفيس نمحو به السيئات، وبحث عظيم نحيي به عظام الرفات، وهو أن الحيوانات هل يحييها الله تعالى وتنشر، ويقتص بعضها من بعض، فأكثر أهل الحديث والسنة والأصول على أنه كذلك، لوجوده في القرآن في قوله تعالى:﴿وإذا الوحوش حشرت﴾، وأقوال سيدنا ورسولنا - صلى الله عليه وسلم- في خبر القصاص يوم القيامة" يؤخذ للجماء من القرناء"/١٢ فتح..
﴿ وإذا البحار سجرت١ : أوقدت فصارت نارا، وعن كثير من السلف : يرسل الله على البحر الدبور، فتسعرها فتصير نارا، أو ملئت، وفجر بعضها إلى بعض، فتصير الكل بحرا واحدا أو يبست فلم يبق فيها قطرة ماء،
١ عن أبي العالية قال: ست من آيات هذه السورة في الدنيا، والناس ينظرون إليها وست في الآخرة إليها،﴿إذا الشمس كورت﴾ إلى ﴿وإذا البحار سجرت﴾ هذه في الدنيا، والناس ينظرون إليها، ﴿وإذا النفوس زوجت﴾ إلى ﴿وإذا الجنة أزلفت﴾ هذه في الآخرة أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر هذا في الفتح، وقال الرازي تحت هذه الآية يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين مختصة بالقيامة/١٢..
﴿ وإذا النفوس زوجت ﴾ : بالأبدان، أو قرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، أي : الأمثال من الناس بينهم، أو نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين، أو قرنت نفس الصالح مع الصالح في الجنة، ونفس الطالح مع الطالح في النار،
﴿ وإذا الموءودة ﴾ : البنات المدفونه حية، ﴿ سئلت ﴾،
﴿ بأي ذنب قتلت ﴾، وسؤالها لتوبيخ قاتلها، وتبكيته كتبكيت النصارى بسؤال ﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهي ﴾( المائدة : ١١٦ )،
﴿ وإذا الصحف ﴾ : صحائف الأعمال، ﴿ نشرت ﴾، للحساب، فإنها كانت مطوية، أو فرقت بين أصحابها،
﴿ وإذا السماء كشطت ﴾ : كشفت وأزيلت كما يكشف الغطاء عن الشيء،
﴿ وإذا الجحيم سعرت ﴾ : أوقدت شديدا،
﴿ وإذا الجنة أزلفت ﴾ : قربت من المؤمنين،
﴿ علمت نفس ما أحضرت ﴾، من خير وشر، وهو جواب إذا، والمراد زمان ممتد من النفخة الأولى، وهي زمان التكوين إلى آخر الموقف، ونفس في معنى العموم كتمرة خير من جرادة، وقيل معناه : علمت نفس كافرة ما أحضرت، فالتنوين للتنويع،
﴿ فلا أقسم بالخنس ﴾، خنس : تأخر، واختفى، وخنس الكواكب : رجع،
﴿ الجوار الكنس ﴾، الجواري : السيارة، يقال كنس الوحش إذا دخل كناسه، عن علي وغيره رضي الله عنهم : هي النجوم تخنس بالنهار، وتنكس بالليل، أي : تطلع في أماكنها، أو المراد السيارات منها، سوى النيرين تجري معهما، أو ترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، أو المراد الوحش تأوي إلى كناسها، وعليه ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد،
﴿ والليل إذا عسعس١ : أقبل ظلامه، أو أدبر، والأول أولى لقوله تعالى :﴿ والضحى والليل إذا سجى ﴾( الضحى : ٢، ١ ) ﴿ والليل إذا يغشى ﴾ ( الليل : ١ ) والتحقيق أن الواو للعطف، والظرف في مثل هذه الموضع معمول مضاف مقدر، أي : وبعظمة الليل إذا، فإن الإقسام بالشيء إعظام له، كما صرح الزمخشري في ﴿ لا أقسم بيوم القيامة ﴾ ( القيامة : ١ ) لا أنه معمول لفعل القسم لفساد المعنى، إذ ليس المراد أن إقسامه وفي الليل، وفي الصبح، أو إذا بدل كأنه قيل : والليل وقت غشيانه، ومثل هذا الشائع،
١ ذكر أهل اللغة: أن عسعس من الأضداد، يقال: عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس: إذا أدبر/١٢ كبير..
﴿ والصبح إذا تنفس ﴾ : إذا أضاء،
﴿ إنه ﴾ : القرآن، ﴿ لقول رسول١ كريم ﴾ : جبريل، قال عن الله،
١ قال ابن تيمية في بعض فتاواه: في كلام الرب جل جلاله وإن احتج محتج بقوله: "وإنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين" قيل له: قال في الآية الأخرى:﴿إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون﴾(الحاقة: ٤٢، ٤٠) فالرسول في هذه الآية جبريل، والرسول في الأخرى محمد، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض الخبران، فعلم أنه إضافة إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث، ولهذا قال:" لقول رسول"، ولم يقل ملك، ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه كما قال:﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾(المائدة: ٦٧)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموسم ويقول:" ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)، ولما أنزل الله: ﴿ألم غلبت الروم﴾(الروم: ٢، ١)، خرج أبو بكر الصديق، فقرأها على الناس فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله، وإن احتج بقوله "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث"، قيل: له: هذه الآية حجة عليك فإنه لما قال:" ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث" علم أن الذكر منه محدث، ومنه ما ليس بمحدث، لأن النكرة إذا صفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما أكل إلا طعاما حلالا، ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أنزل جديدا، فإن الله كان ينزل القرآن شيئا بعدم شيء، فالمنزل أولا هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخر، وكلما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال:﴿كالعرجون القديم﴾(يس: ٣٩)، وقال:﴿تالله إنك لفي ضلالك القديم ﴾(يوسف: ٩٥)، وقال:﴿إذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم﴾(الأحقاف: ١١)، وقال:﴿أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآبائكم الأقدمون﴾(الشعراء: ٧٦)، وكذلك قوله:﴿جعلناه قرآنا عربيا﴾ لم يقل جعلناه فقط حتى يظن أنه بمعنى خلقناه، ولكن قال:﴿جعلناه قرآنا عربيا﴾(الزخرف: ٣)، أي: صيرناه عربيا لأنه قد كان قادرا على أن ينزله أعجميا، ونزله عربيا فلما أنزله عربيا، كأن قد جعله عربيا دون عجمي، وهذه المسألة في أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع، والله أعلم/١٢..
﴿ ذي قوة ﴾ : شديد القوى، ﴿ عند ذي العرش مكين ﴾ : ذي مكانة،
﴿ مطاع ثم ﴾ : في السماوات بين الملأ الأعلى، فإنه من سادة الملائكة، ﴿ أمين ﴾، على الوحي والأمر،
﴿ وما صاحبكم ﴾ : محمد عليه السلام، ﴿ بمجنون ﴾، كما زعمتم، وهذا أيضا من جواب القسم، والكلام مسوق لحقيقة المنزل، ليدل على صدق ما فيه من أهوال القيامة، ووصف الآتي بالقول يؤيد ذلك، ويشد عضده، وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل١ له في هذا الغرض الذي هو حقية القرآن، ولذا وصف جبريل، واكتفى في وصف محمد عليهما السلام بنفي الجنون المزعوم المنافي لأن يكون صاحبه ممن أنزل عليه،
١ هذا رد الزمخشري حيث قال: وناهيك بهذا دليلا على مبائنة منزلة جبريل علا بمنزلة أفضل الإنس محمد عليه السلام، وإذا وازنت بين الذكرين حين فرقت بينهما وقايست بين قول إنه لقول رسول الله، وبين قوله:﴿وما صاحبكم بمجنون﴾/١٢ منه..
﴿ ولقد رآه ﴾ : محمد جبريل على صورته١، ﴿ بالأفق المبين ﴾ : هو الأفق الأعلى من ناحية المشرق،
١ أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على هيئته التي خلق عليها. والحديث في البخاري.
.

﴿ وما هو ﴾ محمد، ﴿ على الغيب ﴾ : على كل ما اطلع عليه مما كان غائبا عنه، ﴿ بضنين ﴾ : بمتهم، ومن قرأ بالضاد فمعناه ليس ببخيل عليه، بل يبذله لكل أحد ويعلمه،
﴿ وما هو ﴾ : القرآن، ﴿ بقول شيطان رجيم ﴾، فليس بشعر، ولا كهانة وسحر،
﴿ فأين تذهبون ﴾، هذا يقال لمن ضل الطريق، مثلت حالهم بحاله في عدولهم عنه إلى الباطل،
﴿ إن هو إلا ذكر ﴾ : عظة، ﴿ للعالمين ﴾ : لجميع الخلائق،
﴿ لمن شاء منكم أن يستقيم ﴾، على الطريق الحق، بدل من العالمين فإن بالقرآن لم ينتفع إلا من أراد الاستقامة فكأنه لم يوعظ به غيره،
﴿ وما تشاءون ﴾، الاستقامة، ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ : إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، ﴿ رب العالمين ﴾ : مالك الخلق، عن سفيان١ الثوري : لما نزلت " لمن شاء منكم أن يستقيم " قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله :" وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ".
١ وهكذا روى ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة/١٢..
Icon