تفسير سورة التكوير

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
سورة التكوير مكية، وهي تسع وعشرون آية ومائة وأربع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
﴿ بسم الله ﴾ الذي أحاط علمه بالكائنات ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ وجوده سائر البريات ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص حزبه بنعيم الجنات.

واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ إذا الشمس ﴾ أي : التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس ﴿ كوّرت ﴾ فقال ابن عباس : أظلمت. وقال قتادة : ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير : غوّرت. وقال مجاهد : اضمحلت. وقال الزجاج : لفت كما تلف العمامة، يقال : كرت العمامة على رأسي أكوّرها كوراً، وكورتها تكويراً إذا لففتها، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض، فمعناه أنّ الشمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها. قال ابن عباس : يكوّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضرمها فتصير ناراً. وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«الشمس والقمر يكوّران يوم القيامة ».
تنبيه : ارتفاع الشمس على الفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره كوّرت ؛ لأن إذا تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط.
﴿ وإذا النجوم ﴾ أي : كلها كبارها وصغارها ﴿ انكدرت ﴾ أي : انقضت وتساقطت على الأرض.
قال تعالى :﴿ وإذا الكواكب انتثرت ﴾ والأصل في الانكدار الانصباب.
قال العجاج في مدحه لعمرو بن معديكرب :
إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر تقضي البازي إذا البازي كسر
أبصر خربان فضاء فانكدر **
أي : فانقض وسقط، والخربان جمع خرب وهو ذكر الحبارى، والباع يستعمل في الكرم، يقال : فلان كريم الباع ؛ والمعنى : أنّ الكرام إذا ابتدروا فعل المكرمات بدرهم عمرو، أي : أسرع كانقضاض البازي.
وروي عن ابن عباس أنّ النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي الملائكة عليهم السلام، فإذا مات من في السماوات ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها.
﴿ وإذا الجبال ﴾ التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي، وهي أصلب ما في الأرض. ﴿ سيرت ﴾ أي : ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً، وصارت الأرض قاعاً صفصفاً.
﴿ وإذا العشار ﴾ أي : النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها. روي أنه صلى الله عليه وسلم «مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغض بصره، فقيل له : هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها ؟ فقال : قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا :﴿ ولا تمدّنّ عينيك ﴾ [ الحجر : ٨٨ ] الآية ».
﴿ عطلت ﴾ أي : تركت مسيبة مهملة بلا راع، أو عطلها أهلها عن الحلب والصر لاشتغالهم بأنفسهم، أو السحاب عطلت عن المطر والعرب تشبه السحاب بالحامل، والأوّل على وجه المثل لأنّ في القيامة لا تكون ناقة عشراء، والمعنى : أنّ يوم القيامة بحالة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
﴿ وإذا الوحوش ﴾ أي : دواب الأرض التي لا تأنس بأحد التي تظن أنها لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها ﴿ حشرت ﴾ أي : جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض ثم تصير تراباً. قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل : إذا قضي بينها ردّت تراباً فلا يبقى منه إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه. وعن ابن عباس حشرها موتها، يقال إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم : حشرتهم السنة.
وقرأ ﴿ وإذا البحار سجرت ﴾ أي : على كثرتها ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها. قال ابن عباس : أوقدت فصارت ناراً تضطرم. وقال مجاهد : فجر بعضها في بعض العذب والملح، فصارت البحار كلها بحراً واحداً. وقال القشيري : يرفع الله تعالى الحاجز الذي ذكره، فإذا رفع ذلك البزرخ تفجرت مياه البحار فعمت الأرض كلها وصارت بحراً واحداً. وروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم ؛ إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض فتحرّكت واضطربت وفزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماج بعضهم في بعض فذلك قوله تعالى :﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾ أي : اختلطت ﴿ وإذا البحار سجرت ﴾ قال الجنّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج. قال : فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. وعن ابن عباس قال : هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة، وهي ما ذكر من بعد.
﴿ وإذا النفوس ﴾ أي : من كل ذي نفس من الناس وغيرهم ﴿ زوّجت ﴾ أي : قرنت بأجسادها، وروي أنّ عمر سئل عن هذه الآية، فقال : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقال الحسن وقتادة : ألحق كل امرئ بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى. وقال عطاء : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الشياطين بالكافرين.
﴿ وإذا الموءودة ﴾ أي : الجارية المدفونة حية. كان الرجل في الجاهلية إذ ولد له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمّها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيذهب بها إلى البئر، فيقول لها : انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض.
وقال ابن عباس : كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً حبسته. وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] وكانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهنّ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد وفيه افتخر الفرزدق في قوله :
ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم توأد
﴿ سئلت بأيّ ﴾ أي : بسبب أيّ ﴿ ذنب ﴾ يا أيها الجاهلون ﴿ قتلت ﴾ أي : استحقت به عندكم القتل، وهي لم تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حدّ التكليف.
فإن قيل : ما معنى سؤالها عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها ؟ أجيب : بأن سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى عليه السلام :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ [ المائدة : ١١٦ ]. وروي أنّ قيس بن عاصم «جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إني وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وسلم أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. قال : يا رسول الله، إني صاحب إبل ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم أهد عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت ». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقاً ولدها بيدها ملطخاً بدمائه فيقول : يا رب هذه أمّي وهذه قتلتني ».
﴿ وإذا الصحف نشرت ﴾ أي : فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير وشر تطوى بالموت، وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول :﴿ ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]. وروي عن عمر أنه كان إذا قرأها قال : إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«يحشر الناس حفاة عراة » فقالت أمّ سلمة : كيف بالنساء ؟ فقال :«شغل الناس يا أمّ سلمة ». قالت : وما يشغلهم، قال :«نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل ». وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بتشديدها على تكرير النشر للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع وقيل لتكرير ذلك من الإنسان.
﴿ وإذا السماء ﴾ أي : هذا الجنس كله أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي. ﴿ كشطت ﴾ أي : نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة والغطاء عن الشيء. قال القرطبي : يقال : كشطت البعير كشطاً نزعت جلده ولا يقال سلخت لأنّ العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، والمعنى : أزيلت عما فوقها. وقال القرطبي : طويت.
﴿ وإذا الجحيم ﴾ أي : النار الشديدة التأجج ﴿ سعرت ﴾ أي : أججت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها يقال سعرت الناء وأسعرتها. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة » واحتج بهذه الآية من قال : النار مخلوقة الآن لأنه يدل على أنّ سعيرها معلق بيوم القيامة. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين والباقون بتخفيفها.
﴿ وإذا الجنة ﴾ أي : البستان ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة ﴿ أزلفت ﴾ أي : قرّبت لأهلها ليدخلوها. قال الحسن : إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال عبد الله بن زيد : زينت والزلفى في كلام العرب القربة.
وقوله تعالى :﴿ علمت نفس ﴾ جواب إذا أوّل السورة وما عطف عليها، أي : علمت كل نفس من النفوس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة، فالتنكير فيه مثله في تمرة خير من جرادة، ودلالة هذا السياق للهول على ذلك يوجب اليقين فيه ﴿ ما ﴾ أي : كل شيء ﴿ أحضرت ﴾ من خير وشر.
روي عن ابن عباس وعمر أنهما قرأا فلما بلغا ﴿ علمت نفس ما أحضرت ﴾ قالا : لهذا أجريت القصة. قال الرازي : ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود : أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ ﴿ علمت نفس ما أحضرت ﴾ قال : واقطع ظهراه.
﴿ فلا أقسم ﴾ لا مزيدة، أي : أقسم ﴿ بالخنس الجوار الكنس ﴾ هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون، أي : ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها، أي : تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل : هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي : تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ فلا أقسم ﴾ لا مزيدة، أي : أقسم ﴿ بالخنس الجوار الكنس ﴾ هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون، أي : ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها، أي : تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل : هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي : تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.
﴿ والليل ﴾ أي : الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها ﴿ إذا عسعس ﴾ قال البغوي : قال الحسن : أقبل بظلامه. وقال آخرون : أدبر، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر، ولم يبق منه إلا القليل.
﴿ والصبح إذا تنفس ﴾ أي : امتدّ حتى يصير نهاراً بيناً، يقال للنهار إذا زاد تنفس، ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف، وفي كيفية المجاز قولان : الأوّل : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل : تنفس الصبح. الثاني : أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن، فعبر عنه بالتنفس.
وقوله تعالى :﴿ إنه ﴾ أي : القرآن ﴿ لقول رسول كريم ﴾ هو المقسم عليه، والمعنى : أنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى، أي : انتفت عنه وجوه المذامّ كلها، وثبت له وجوه المحامد كلها، وهو جبريل عليه السلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عز وجلّ.
﴿ ذي قوّة ﴾ أي : شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف.
﴿ عند ذي العرش ﴾ أي : الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى :﴿ مكين ﴾ أي : ذي مكانة متعلق به عند، أي : ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى :«أنا عند المنكسرة قلوبهم » وقيل : قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها.
﴿ مطاع ثمّ ﴾ أي : في السماوات. قال الحسن : فرض الله تعالى على أهل السماوات طاعة جبريل عليه السلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس :«من طاعة جبريل عليه السلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان : افتح له ففتح فدخلها فرأى ما فيها ». ﴿ أمين ﴾ أي : بليغ الأمانة على الوحي الذي يجيء به. وقيل : الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى حينئذ : ذي قوة على تبليغ الوحي ﴿ مطاع ﴾ أي : يطيعه من أطاع الله تعالى.
﴿ وما صاحبكم ﴾ أي : الذي طالت صحبته لكم، وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى إنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهذا عطف على أنه إلى آخر المقسم عليه.
وأغرق في النفي فقال تعالى :﴿ بمجنون ﴾ أي : كما زعمتم يتهم في قوله :﴿ بل جاء بالحق وصدّق المرسلين ﴾ [ الصافات : ٣٧ ] فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون، ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكمل.
تنبيه : استدلّ بذلك بعضهم على فضل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم حيث عدّ فضائل جبريل عليه السلام واقتصر على نفي الجنون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو كما قال البيضاوي : ضعيف ؛ إذ المقصود منه نفي قولهم إنما يعلمه بشر، وقولهم افترى على الله كذباً، وقولهم أم به جنة لا تعديد فضله والموازنة بينهما.
﴿ ولقد رآه ﴾ أي : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها، وله ستمائة جناح. ﴿ بالأفق المبين ﴾ أي : البين، وهو الأفق الأعلى الذي عند سدرة المنتهى حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون للشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة. وقال مجاهد وقتادة : بالأفق الأعلى من ناحية المشرق.
وعن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام :«إني أحب أن أراك على صورتك التي تكون فيها في السماء » قال : لن تقوى على ذلك، قال :«بلى ». قال : فأين تشاء أن أتخيل لك، قال :«بالأبطح ». قال : لا يسعني، قال :«فبمنى ». قال : لا تسعني. قال :«فبعرفات ». قال ذلك بالحري أن يسعني، فواعده فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبل عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشياً عليه، قال : فتحوّل جبريل عن صورته فضمه إلى صدره، وقال : يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة، وإنّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع يعني : العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل : إنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بالأفق المبين، وهو قول ابن مسعود وقد مرّ ذلك في سورة النجم.
﴿ وما ﴾ أي : وسمعه ورآه والحال أنه ما ﴿ هو ﴾ أي : محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ على الغيب ﴾ أي : ما غاب من الوحي وخبر السماء، ورؤية جبريل وغير ذلك مما أخبر به. وقرأ ﴿ بضنين ﴾ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة من الظنة، وهي التهمة، أي : فليس بمتهم، والباقون بالضاد موافقة للمرسوم من الضن وهو البخل، أي : فليس ببخيل بالوحي فيزوي بعضه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما.
قال الزمخشري : وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بدّ منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقاً غير صواب، وبينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب.
فإن قلت : فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه، قلت : هو كوضع الذال مكان الجيم والثاء مكان السين لأنّ التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما اه. كلامه بحروفه.
﴿ وما هو ﴾ أي : القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات. وأغرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال تعالى :﴿ بقول شيطان ﴾ أي : مسترق للسمع فيوحيه إليه كما يوحيه إلى بعض الكهنة ﴿ رجيم ﴾ أي : مرجوم مطرود بعيد من الرحمة، وذلك أنّ قريشاً كانوا يقولون : إنّ هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه، يريدون بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه، فنفى الله تعالى ذلك.
وقوله تعالى :﴿ فأين ﴾ منصوب بقوله تعالى :﴿ تذهبون ﴾ لأنه ظرف مبهم، وقال أبو البقاء : أي إلى أين فحذف الجار، أي : فأيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه، وفي هذا استضلال لهم فيما يسلكون من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن كقولك لتارك الجادّة أين تذهب.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هو ﴾ أي : القرآن الذي آتاكم به الرسول ﴿ إلا ذكر ﴾ أي : عظة وشرف ﴿ للعالمين ﴾ من إنس وجنّ وملك.
وقوله تعالى :﴿ لمن شاء منكم ﴾ بدل من العالمين بإعادة الجار ﴿ أن يستقيم ﴾ باتباع الحق. قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، وهذا هو القدر وهو رأس القدرية فنزل ﴿ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ﴾.
﴿ وما تشاؤون ﴾ الاستقامة على الحق ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ أي : إلا وقت أن يشاء الملك الأعظم الذي بيده كل شيء مشيئتكم الاستقامة عليه ﴿ رب العالمين ﴾ أي : مالك الخلق. وفي هذا إعلام أنّ أحداً لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شراً إلا بخذلانه. ونقل البغوي في أوّل السورة بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من أحب أن ينظر في يوم القيامة فليقرأ ﴿ إذا الشمس كوّرت ﴾ ».
Icon