تفسير سورة الغاشية

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٨٨) سورة لغاشية مكيّة وآياتها ستّ وعشرون
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ٢٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
455
اللغة:
(الْغاشِيَةِ) القيامة لأنها تغشى الخلائق، وفي المختار: «الغشاء:
الغطاء وجعل على بصره غشاوة بضم الغين وفتحها وكسرها»
وفي المصباح: «ويقال إن الغشي تعطل القوى المحرّكة والأوردة الحسّاسة لضعف القلب بسبب وجع شديد أو برد أو جوع مفرط وقيل الغشي هو الإغماء، وقيل الإغماء امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ وقيل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة، وغشيته أغشاه من باب تعب أتيته والاسم الغشيان بالكسر».
(آنِيَةٍ) بلغت إناها في الحرارة وفي القاموس: «وأنى الحميم انتهى حرّه فهو آن وبلغ هذا أناه ويكسر أي غايته».
(ضَرِيعٍ) في القاموس «والضريع كأمير الشّبرق أو يبيسه أو نبات رطبه يسمّى الشبرق ويابسه الضريع لا تقربه دابة لخبثه، والسّلّاء والعوسج الرطب أو نبات في الماء الآجن له عروق لا تصل إلى الأرض، أو شيء من جهنم أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأحرّ من النار، ونبات منتن يرمي به البحر، ويبيس كلّ شجر، والخمر أو رقيقها، والجلدة على العظم تحت اللحم» وفي الكشاف: «الضريع يبيس الشبرق وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا فإذا يبس تحامته الإبل وهو سمّ قاتل قال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وعاد ضريعا بان عنه النحائص
وقال:
وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرود»
(نَمارِقُ) جمع نمرقة بضم النون وكسرها لغتان أشهرهما الأولى
456
وهي وسادة صغيرة، وفي القاموس «والنمرقة مثلثة الوسادة الصغيرة أو المثيرة أو الطنفسة فوق الرحل».
(زَرابِيُّ) في القاموس: «الزرابي النمارق والبسط أو كل ما يبسط ويتكأ عليها الواحدة زربي بالكسر ويضم» والطنافس أيضا جمع طنفسة بتثليث الطاء والفاء ففيه تسع لغات، وهي المسمّاة الآن بالسجادة.
(مَبْثُوثَةٌ) مفرقة في المجلس.
(بِمُصَيْطِرٍ) بمسلط عليهم ومسيطر اسم جاء مصغرا ولا مكبّر له كقولهم: رويدا والثريا وكميت ومبيقر ومبيطر ومهيمن، وفي قراءة بمسيطر بفتح الطاء وغريبة هذه القراءة فقد جاء في تاج العروس: سيطر جاء على فيعل فهو مسيطر ولم يستعمل مجهولا فعله، وننتهي في كلام العرب إلى ما انتهوا إليه، وسيأتي مزيد بحث عن التصغير في باب الفوائد.
الإعراب:
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) هل حرف استفهام ومعناه التعجب والتشويق إلى استماع حديث الغاشية وجعلها بعضهم بمعنى قد وجعلها ابن خالويه مطّردة في كل ما في القرآن من هل أتاك قال «فهو بمعنى قد أتاك» وأتاك فعل ماض ومفعول به وحديث الغاشية فاعل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) وجوه مبتدأ وساغ الابتداء به لوجود التنويع والوصف كما سيأتي ويومئذ ظرف متعلق بخاشعة والتنوين في إذ عوض عن جملة لم يتقدم ما يدلّ عليها إلا قوله الغاشية فيمكن استنتاج الجملة منها أي يوم إذ غشيت الغاشية وخاشعة خبر وعاملة ناصبة خبران آخران وقيل خاشعة وعاملة وناصبة صفات
457
للمبتدأ والخبر هو جملة تصلى وعلى الأول جملة تصلى خبر رابع وكلا الوجهين مستقيم وحسن، ونارا مفعول به وقرىء بضم التاء فتكون نارا مفعولا ثانيا ونائب الفاعل مستتر وحامية نعت للنار وتسقى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هي أي وجوه والمراد أصحابها، ومن عين متعلقان بتسقى وآنية صفة لعين (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال مترتب على ما سبق كأنه قيل وما هو طعامهم بعد ما ذكر شرابهم فقيل ليس لهم... ، وليس فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدّم وطعام اسمها المؤخر وإلا أداة حصر ومن ضريع صفة لطعام أو بدل منه على القاعدة ويجوز أن يكون في محل نصب على الاستثناء (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) الجملتان صفتان لضريع لا لطعام لأن الضريع هو المثبت وقد نفى عنه الاسمان والإغناء من الجوع، ولا نافية ويسمن فعل مضارع وفاعله هو ولا يغني عطف على لا يسمن ومن جوع متعلقان بيغني، وجعل الشهاب في حاشيته على البيضاوي من زائدة وجوع على هذا يكون في موضع نصب مفعول يغني (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ) وجوه مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة للتنويع، وسيأتي سر عدم اقترانها بالواو كما يقتضي ظاهر السياق في باب البلاغة، ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بناعمة وناعمة خبر وجوه ولسعيها متعلقان براضية وراضية خبر ثان لوجوه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) في جنة خبر ثان لوجوه وعالية نعت لوجوه وجملة لا تسمع إلخ صفة ثانية لجنة ولا نافية وتسمع فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت وقرىء بالتاء وفيها متعلقان بتسمع ولاغية مفعول به وهي على معنى النسب أي كلمة ذات لغو أو على إسناد اللغو إليها مجازا (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) الجملة نعت ثالث لجنة وفيها خبر مقدّم وعين مبتدأ مؤخر وجارية نعت لعين (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الجملة صفة رابعة لجنة وفيها خبر مقدّم
458
وعين مبتدأ مؤخر وجارية نعت لعين وما بعده عطف عليه (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما مضى من حديث الغاشية والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف على مقدّر يستحقه المقام والتقدير أينكرون البعث فلا ينظرون، ولا نافية وينظرون فعل مضارع مرفوع وإلى الإبل متعلقان به وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وخلقت فعل ماض مبني للمجهول وفاعله مستتر تقديره هي والجملة بدل اشتمال من الإبل. وينظرون تعدّى إلى الإبل بواسطة إلى وتعدى إلى كيف على سبيل التعليق وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها وإن لم يكن فيه استفهام على خلاف في ذلك كقولهم عرفت زيدا أبو من هو والعرب يدخلون إلى على كيف فيقولون إلى كيف يصنع. وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت وإذا علق العامل عمّا فيه من الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته، وللزمخشري كلام جميل نورده فيما يلي: «أفلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت خلقا عجيبا دالّا على تقدير مقدّر شاهدا بتدبير مدبر حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت وسخّرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها لا تعاز ضعيفا ولا تمانع صغيرا وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد
لا إبل بها ففكر ثم قال يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبّرها على احتمال العطش حتى أن أظماءها لترتفع إلى العشر فصاعدا وجعلها ترعها كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم»
هذا والإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده بعير وناقة وجمل، وعبارة القاموس:
«الإبل بكسرتين وتسكين الباء مؤنث واحد يقع على الجمع ليس بجمع ولا اسم جمع وجمعه آبال وتصغيرها إبيلة والسحاب الذي يحمل ماء
459
المطر» وعلى هذا يصحّ أن يراد بها السحاب لينتظمها الذكر على حسب النظم على أن هذا لا يتفق مع سهولة بيان القرآن ونظمه وإنما أوردها منتظمة مع السماء والأرض والجبال لأن العرب في بواديهم وأوديتهم يألفون رؤيتها جميعا فانتظمها الذكر مع هذه الأشياء (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) كلام منسوق على ما تقدم مماثل له في إعرابه، قال ابن خالويه نقلا عن الزمخشري: «وروي عن هارون الرشيد أنه قرأ: كيف سطحت بالتشديد والقراءة بتخفيفها لاجتماع الكافّة عليها» (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الفاء الفصيحة أي إن كانوا لا ينظرون إلى هذه الأشياء نظر اعتبار وتدبر وتأمل فذكرهم. وذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف أي فذكّرهم ولا تلحّ عليهم إذ ليس عليك هداهم، وإنما كافّة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومذكّر خبر وجملة أنما أنت تعليلية للأمر بالتذكير ولست ليس واسمها وعليهم متعلقان بمسيطر والباء حرف جر زائد ومسيطر مجرور بالباء لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى على الاستثناء متصل من مفعول فذكر أو من الهاء في عليهم وقيل الاستثناء منقطع وإلا بمعنى لكن ألغي عملها ومن مبتدأ خبره جملة فيعذبه وكلاهما جيد محتمل، وجملة تولى صلة من وكفر عطف على الصلة وجملة إلا من تولى وكفر في محل نصب على الاستثناء المنقطع وهذه جملة تضاف إلى الجمل التي لها محل من الإعراب والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ويعذبه فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به والله فاعل والعذاب مفعول مطلق، ومن الغريب أن ابن خالويه أعربها مفعولا به ثانيا، وصدق ابن هشام عند ما قرر أن ابن خالويه من ضعفاء النحويين، والأكبر نعت للعذاب (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للعذاب الأكبر وإن حرف
460
مشبّه بالفعل وإلينا خبر مقدّم لإن وإيابهم اسمها المؤخر وثم حرف عطف للتراخي، وسيأتي سره في باب البلاغة، وما بعده عطف على ما قبله مماثل له في إعرابه.
البلاغة:
١- في قوله «لا يسمن ولا يغني من جوع» فن التتميم، وقد تقدم مرارا فقوله ولا يغني من جوع جملة لا يمكن طرحها من الكلام لأنه لما قال لا يسمن ساغ لمتوهم أن يتوهم أن هذا الطعام الذي ليس من جنس طعام البشر انتفت عنه صفة الاسمان ولكن بقيت له صفة الإغناء فجاءت جملة ولا يغني من جوع تتميما للمعنى المراد وهو أن هذا الطعام انتفت عنه صفة إفادة السمن والقوة كما انتفت عنه صفة إماطة الجوع وإزالته، وجعله بعضهم من باب نفي الشيء بإيجابه على حدّ قول امرئ القيس «على لاحب لا يهتدى بمناره» أي أنه لا منار له أصلا وكما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد وليس ببعيد والأول أرصن وأبعد عن التكلّف.
٢- الحذف: تكلمنا في هذا الكتاب كثيرا عن الحذف وسنخصّص هنا لمعة عن حذف المفعول به خاصة لزيادة الفائدة وذلك بمناسبة قوله تعالى «فذكّر إنما أنت مذكّر» فنقول: يجوز حذف المفعول به لغرض إما لفظي كتناسب الفواصل أي رؤوس الآي وذلك في نحو قوله تعالى: «ما ودعك ربك وما قلى» والأصل وما قلاك فحذف المفعول ليناسب قوله: «والضحى والليل إذا سجى» وكالإيجاز في نحو قوله تعالى: «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» والأصل فإن لم تفعلوه ولن تفعلوه أي الإتيان بسورة من مثله وإما معنوي كاحتقاره نحو «كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي» أي لأغلبنّ الكافرين فحذف المفعول زيادة في
461
امتهانه واحتقاره أو لاستهجانه واستقباح التصريح به كقول عائشة رضي الله عنها: ما رأى منّي ولا رأيت منه، أي العورة.
٣- وفي قوله «إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم» تقديم الجار والمجرور، والسر فيه التشديد بالوعيد وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وأن حسابهم ليس إلا عليه، وفي العطف بثم للدلالة على التراخي في الرتبة لا في الزمان أي أنه قد يكون مباشرة بعد الإياب ولكن التفاوت بين الموقفين أمر لا تكتنه أهواله ولا يدري أحد مداه ولا يتصوره العقل على الإطلاق ولا يخفى أن الخبر جاء مؤكدا بإن فأتى طلبيا كأنهم، وقد ترددوا، بحاجة إلى تأكيد هذا الأمر الذي أشاحوا عنه ولم يتدبروه.
الفوائد:
١- التصغير ومراميه: أول من تكلم على التصغير الخليل بن أحمد رحمه الله، ويكون للتحقير والتعظيم والترحم والتحبّب ولتقليل العدد ولتقريب الزمان وقد جمعها بعضهم بقوله:
فعظم وحقر وقرب زماني ترحم تحبب رزقت الأماني
وأقلل بتصغيرهم يا فتى فما زلت في محفل من معاني
قال ابن خالويه: «العرب تصغّر الاسم على المدح لا تريد به التحقير كقولهم فلان صديّقي إذا كان من أصدق أصدقائه ومن ذلك قول عمر في ابن مسعود «كنيّف ملىء علما» مدحه بذلك، وقال الأنصاري:
«أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب وحجيرها المؤام» ومن ذلك أن رجلا قال: رأيت الأصيلع عمر بن الخطاب يقبّل الحجر يريد مدحه بذلك».
462
واختلف في قول عمر بن أبي ربيعة في رائيته المشهورة:
وغاب قمير كنت أهوى غروبه وروّح رعيان ونوّم سمّر
فقال سعيد بن المسيب لما سمع هذا البيت: ما له قاتله الله صغّر ما كبر الله قال الله تعالى «والقمر قدّرناه منازل» قال ابن خالويه: «فيجوز أن يكون ابن أبي ربيعة صغّر قميرا على المدح لما ذكرت، ومع ذلك فإن ابن أبي ربيعة قد أنشد هذه القصيدة لابن عباس فما أنكر عليه شيئا، ومن ذلك قول الرجل لابنه: يا بنيّ لا يريد تحقيره فاعرف ذلك ولابن أبي ربيعة حجة أخرى وذلك أن العرب تقول للقمر في آخر الشهر وأوله شفا قمير فيصغّرونه» وهذا الذي ذكرناه من معاني التصغير يردّه البصريون وجميع ما ذكرناه عندهم راجع إلى معنى التحقير.
هذا ونضرب على سبيل المثال مثلا بيت لبيد بن ربيعة وهو:
وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفرّ منها الأنامل
فالكوفيون ذهبوا إلى أن التصغير في قوله دويهية للتعظيم وبيان هذا أن الشاعر أراد بها الموت ولا داهية أعظم منها، فأما كونه أراد بها الموت فيدل لذلك وصفها بقوله «تصفر منها الأنامل» والأنامل هنا الأظفار وهي إنما تصفر بالموت، قال الطوسي في شرح ديوان لبيد: إذا مات الرجل أو قتل اصفرّت أنامله واسودّت أظافره» وقد ردّ البصريون أن التصغير يأتي للتعظيم وجرى على مذهبهم الرضي المحقق فقال: «قيل مجيء التصغير للتعظيم يكون من باب الكناية يكنى بالصغر عن بلوغ الغاية لأن الشيء إذا جاوز حدّه جانس ضده ورد بأن تصغيرها على حسب احتقار الناس لها وتهاونهم بها إذ المراد بها الموت أي يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل» وقال البصريون عن بيت لبيد: «فأما قوله دويهية فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول
463
العظام فحتف النفوس قد يكون الأمر الذي لا يؤبه له» ولا يخفى ما في هذا القول من الرصانة والقوة فتنبّه لهذا الفصل الذي وإن طال بعض الطول فهو كالحسن ليس بمملول.
٢- الخيال: تختلف الخياليات باختلاف الأسباب والعادات والعرف العام فتتفاوت بالأمم فلا يستنكر قوله تعالى في هدايتهم إلى الاستدلال على الصانع الحكيم «أفلا ينظرون إلى الأمم كيف خلقت» إلخ إلا من يجهل أن الخطاب مع العرب وما في خيالهم إلا الإبل لأن معظم انتفاعهم في مطاعمهم وملابسهم ومتاجرهم منه وإلا أرض ترعاها الإبل وإلا سماء تسقيهم وإياها وإلا جبال هي معاقلهم عند شنّ الغارات، فظهر أن من وقف على أحوال العربي البدوي يعرف وجه تقارن الصور المذكورة في أذهانهم ووجه وقوعها في القرآن العظيم على المنهج المذكور، ومن أنكره من أهل الحضر فذلك لجهله بمقتضى الحال، ولقد أحسن المتنبي إذ قال:
464
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم