تفسير سورة الفجر

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ الْفَجْرِ
مكية، وآيها تسع وعشرون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) هو الصبح. أقسم به كما أقسم به في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) وعن عكرمة ومحمد بن كعب: هو فجر يوم النحر. وقيل: بتقدير المضاف أي: وصلاة الفجر.
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) عشر ذي الحجة قاله: ابن عباس ومجاهد رضي اللَّه عنهما. روى البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى اللَّه فيهن من عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد يا رسول اللَّه؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج بماله، ونفسه، ثم لم
يرجع بشيء منهما ". وإنما لم تعرّف الليالي العشر؛ لأنَّها ليال مخصوصة، فلو عرّفت كانت اللام للعهد، فلم يجانس السابقة واللاحقة.
(وَالشَفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) الأشياء كلها، أو الخلق؛ لقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ). وقد أكثروا القول في الاحتمالات، ولا طائل تحته. وقرأ حمزة والكسائي: (الوِتر) بكسر الواو، وهما لغتان، والفتح أخف، ومصدر وَتِر أحق بالكسر لا غير.
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤) إذا انقضى ومضى كقوله: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ). أثبت ياءه ابن كثير في الحالين، ونافع وأبو عمرو في الوصل، وحذَفَهُ الباقون اكتفاءً بالكسر.
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أي: هل في الأشياء المذكورة ما يحق عنده أن يكون مقسماً به؟، أو هل في الإقسام بها إقسام له؟. وعلى الوجهين أريد تعظيم المقسم به، ويلزم منه توكيد المقسم عليه، والاستفهام للتقرير. والحجر: العقل؛ لأنه يمنع صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لذلك. وجواب القسم محذوف أي: ليعذبن، دلّ عليه قوله: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَّ سَوْطَ عَذَابٍ).
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) ألم تعلم؟، والخطاب عام، وكان هذا متواترًا عند العرب. وعاد هو: ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح سميت أولاده عاداً، كما يقال لبني هاشم.
(إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) " إرم " عطف بيان لـ " عاد "؛ وذلك أن أولاد إرم سموا عاداً الأولى. وقيل " إرم " بلدتهم. وعلى الوجهين؛ منع الصرف للعلمية والتأنيث، وإنما وصفوا بذات العماد؛ لكونهم أهل خيام يسكنون البادية، أو لطول قامتهم. روي: " أن منهم كان أربعمائة ذراع "، فشبهت قدودهم بالأعمد. والظاهر: أن " إرم " اسم بلدة، و " ذات العماد " صفتها؛ لِما تواتر وكثر في الأشعار ذكرها. وقصتها: " أن عاداً كان له ابنان شدّاد وشديد. ملكا الأرض، وقهرا الملوك، ثم مات شديد واشتغل شدّاد بالملك، ملك الدنيا بأسرها بلا منازع، فسمع بذكر الجنة، وكان عمره إذ ذاك ستمائة سنة، فبنى مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من اليواقيت والزبرجد، في مدة ثلاثمائة سنة، وفيها الأشجار والأنهار المطردة، وكانت بأرض عدن، فلما تم بناؤها سار إليها بعسكره ليتمتع بتلك القصور والأنهار، فلما كان بينه وبين المدينة مسيرة يوم وليلة، صاح بهم مَلَكٌ صيحة هلكوا عن آخرهم ". وحكي أن عبد اللَّه بن قلابة خرج في طلب إبل له فاتفق دخوله فيها فحمل ما قدر عليه، وأتى به معاوية وأخبر الخبر " واللَّه أعلم.
(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨) صفة أخرى لـ " إرم ". وهذا أيضاً يؤيد أنها اسم البلدة، إذ لو كان اسم القبيلة كان المناسب لم يخلق مثلها في العباد.
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (٩) قطعوا الصخور واتخذوا فيها بيوتاً كقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) قيل: نحتوا من الجبال ألفاً وسبعمائة مدينة بالوادي، وادي القرى. أثبت البزي وقنبل في أحد وجهيه الياء في الحالين، وورش وقنبل في الوجه الآخر في الوصل، وحذفها الآخرون.
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠) سمي به؛ لكثرة جنوده. إما لأنَّ الجنود كالأوتاد للأمير على التشبيه، أو لكثرة خيامهم، أو لأنه كان يعذّب بالأوتاد وهذا أشهر.
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١) صفة المذكورين من عادٍ، وثمودٍ، وفرعون. مرفوع، أو منصوب. (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (١٢) تفسير لطغيانهم.
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣) الإضافة بمعنى أي: سوطاً منه. والمراد: تقليل ما أصابهم في جنب عذاب الآخرة؛ ولذلك روي عن الحسن أنه لما تلاها قال: " إنَّ عند اللَّه أسواطاً كثيرة ". وقيل: ما غلظ منه، وذكر السوط كناية عنه. والأول أوفق بسائر الآيات وأشد تهويلاً.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (١٤) مفعال، من رصده: إذا ترقبه، كناية عن عدم الفوت.
(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ... (١٥) متعلق بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) كأنه قيل: إنَّ اللَّه تعالى يرصد العصاة بالعقوبة، والإنسان لا يهمه إلا العاجلة (إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) اختبره بالغنى (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بالمال والجاه (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) مفتخراً بذلك مدعياً استحقاقه، ولم يتلقه بالشكر.
(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ... (١٦) ضيقه عليه. وقرأ ابن عامر: (قَدَّرَ) مشدداً، والمخفف أخف وأوفق بقوله: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ). (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)؛ لقصور نظره إلى الحطام، ولم يدر أنَّ الدنيا لا تساوي عند اللَّه جناح بعوضة، وأنَّ التعبير قد يؤدي إلا كرامة الدارين، ولذلك زواها عن أكثر أصفيائه، أثبت نافع في الوصل، والبزي
في الحالين ياء " أكرمن " و " أهانن "، ولأبي عمرو وجهان: الحذف والإثبات، وحذفها الباقون اكتفاء بالكسر.
(كَلَّا... (١٧) ردع للإنسان عن هذا القول، ثم أشار إلى أنه مرتكب ما هو شر من هذا القول (بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (١٨) لا تتفقدون اليتيم بالإحسان، ولا تحثون أنفسكم ولا غيركم على طعام المسكين من غاية الشح، وقلّة الشفقة. وقرأ الكوفيون: بفتح التاء والحاء والألف بعده من التفاعل حذف منه إحدى التائين، أي: لا يحث بعضهم بعضاً، وهذا أبلغ؛ لدلالته على أنهم لا يفعلون المعروف ولا يأمرون به.
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ... (١٩) الميراث، أصله: وراث، قلبت الواو تاءً كما في " تجاه ".
(أَكْلًا لَمًّا) ذا لمٍّ، أي: جمع بين الحلال والحرام، لأنهم كانوا لا يورثون النساء ويقولون: المال لمن يحمي الحريم، أو تأكلون ما جمعه المورّث من الحلال والحرام لا يميزون بينهما، أو يسرفون في أنواع المواكيل والفواكه كما يفعله الآن الوارث؛ لأنه لم يتعب في تحصيله.
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) شديداً، مع الشره والحرص ومنع الحقوق. وقرأ أبو عمرو: الأفعال الأربعة بالياء غيبة، والخطاب أبلغ تقريعاً.
كَلَّا... (٢١) ردع لهم، وإنكار لفعلهم (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) دكًّا بعد دكٍّ حتى يصير هباءً منبثًّا. وعيد لهم على تلك الأفعال التي يتحسرون على تركها حين لا ينفع.
(وَجَاءَ رَبُّكَ... (٢٢) مثَّل حاله في ظهور آثار قدرته وسلطانه وتوجه إرادته إلى الانتقام من المجرمين بحال ملك اعتنى بقهر أعدائه، فلم يكتف بالجند والعساكر، بل باشر
بنفسه. (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي: الملائكة كلهم صفّاً بعد صفٍّ على قدر مراتبهم، محدقين بالإنس والجن.
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ... (٢٣) روى مسلم والترمذي عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك ". " يَوْمَئِذٍ " بدل من " إذا دكَّت "، والعامل فيهما (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) ما فرط منه، أو يتّعظ (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) استبعاداً لها من حيث النفع؛ لئلا يتناقض ما يتقدمه. ومن استدل به على عدم وجوب قبول التوبة فقد أبعد عن الصواب؛ لأن عدم قبولها ليس بناء على عدم وجوب القبول، بل لفوات الوقت بانقطاع التكليف.
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤) هذه وهي حياة الآخرة، أو وقت حياتي في الدنيا كقولك: جئت لعشر خلون من رجب. وهذا من تمني المحال، وفيه دلالة على أن للإنسان اختياراً في أفعاله.
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) الضمير: للَّه أي: لا يتولى عذاب الكافر ولا إيثاقه أحد غيره تعالى، ففيه تهويل. نعوذ باللَّه من غضب اللَّه الحليم. أو للإنسان، إضافة للمصدر إلى المفعول أي: لا يعذب الزبانية أحداً من خلق اللَّه مثل تعذيب
هذا الإنسان. وقرأ الكسائي: بفتح الذال. والعذاب بمعنى: التعذيب والوثاق بمعنى: الإيثاق، كالسلام بمعنى: التسليم والعطاء بمعنى: الإعطاء والضمير للإنسان، والمعنى كالوجه الثاني في قراءة الكسر.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) المؤمنة التي اطمأنت في الدنيا إلى ذكر اللَّه تعالى (أَلَا بِذكْرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أو الآمنة من الخوف، والحزن، القائلة: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) تحزّناً وتحسّراً. وهذا إما عند الموت، أو البعث، أو دخول الجنة.
(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً... (٢٨) بما أوتيت ما لا عين رأت (مَرْضِيَّةً) عند اللَّه. (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) في زمرة عبادي الصالحين. (وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) دار كرامتي ومقر أوليائي.
* * *
تمت، والحمد لمن نعمه عمَّت، والصلاة على من به الرسل تمت.
* * *
Icon