تفسير سورة العلق

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة العلق من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة العلق أو القلم
الأمر بالقراءة والكتابة وموقف الكافر المعاند
سورة القلم أو العلق المكية بالإجماع: هي أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدرها في غار حراء، حسبما ثبت في صحيح البخاري وغيره، تضمنت الأمر بالقراءة مفتاح العلم، وبيان خالق الإنسان وبعض مظاهر قدرة الله على الإنسان، وزجر الكافر الطاغية المعاند، الذي يكون غناه سببا في طغيانه، وينهى عن الخير والصلاة، مع أنه لو أمر بالتقوى والخير، لكان مستحقا المثوبة الكبرى في جنة المأوى، ليته يعلم بأن الله يرى كل شيء وكل تصرف منه، ويعلم الغيب والشهادة، وسيجازي كل إنسان على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولئن لم ينته هو وأمثاله من الكفار عن ضلالهم ليعذبنه الله عذابا شديدا، كما تبين هذه الآيات في سورة القلم:
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ١٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩)
عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) قطعة دم جامدة.
(٢) أكرم من كل كريم.
(٣) يتجاوز الحد في العصيان.
(٤) نجذبن بشدة شعر مقدم الرأس.
2901
«١» «٢» «٣» [العلق: ٩٦/ ١- ١٩].
اقرأ مبتدئا باسم ربك، أو مستعينا باسم ربك، الذي خلق كل شيء، خلق كل إنسان في مجال التناسل والتكاثر من قطعة دم جامد، وهي العلقة، التي هي أحد أطوار خلق الإنسان، حيث يبدأ من نطفة، ثم يتحول إلى علقة، ثم يكون مضغة: قطعة لحم.
وإنما قال: باسم ربك، ولم يقل: باسم الله، لما في لفظ الرب من معنى التربية وتعهد المصلحة، وذلك مناسب للأمر بالعبادة، وأضاف الله ذاته إلى رسوله، بقوله:
بِاسْمِ رَبِّكَ للدلالة على أن فائدة العبادة تصل للرسول، وليس لله تعالى.
افعل ما أمرت به من القراءة، وربك الذي أمرك بالقراءة: هو الأكرم من كل كريم، ومن كرمه: تمكينك من القراءة وأنت أمي. وكرر الله تعالى كلمة اقْرَأْ للتأكيد، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لإزالة المانع والعذر الذي اعتذر به النبي صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه السّلام، حين طلب منه القراءة، بقوله اقْرَأْ فقال: ما أنا بقارئ، أي لست متعلما القراءة.
ثم قرن الله الأمر بالكتابة مع الأمر بالقراءة بقوله تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم، فهو نعمة عظيمة من الله تعالى، وواسطة للتفاهم بين الناس، كالتعبير باللسان، ولولا الكتابة لزالت العلوم، ولم يبق أثر للدين وأحكام الشرائع الإلهية وغيرها، ولم يصلح عيش، ولم يستقر نظام، ولا تمكنت الشعوب والأمم من الاستفادة من علوم ومعارف وثقافات الشعوب الأخرى، ولا عرف تاريخ الماضين، ولا تحدد مستقبل البشرية والثقافة في مختلف البلاد.
(١) أهل النادي.
(٢) الملائكة الموكلين بالإشراف على المعذبين في النار.
(٣) تقرب إلى ربك بالطاعة.
2902
ثم أوضح الله تعالى عموم فضله وكثرة نعمه بقوله: عَلَّمَ الْإِنْسانَ.. أي علّم الله تعالى الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور والمعارف، ما لم يعلم بها سابقا.
ثم ردع الله الإنسان على طغيانه في حال الغنى، فقال: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ أي ردعا وزجرا لك أيها الإنسان عن كفرك بنعمة الله عليك، وتجاوزك الحد في العصيان، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل:
هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأن على رقبته، ولأغفرن وجهه في التراب، فأنزل الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) الآيات.
وجاء بعد ذلك الإنذار بالعقاب الأخروي في قوله تعالى: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
(٨) أي إن الرجوع والمصير إلى الله وحده، لا إلى غيره، أي الحشر والبعث يوم القيامة، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله، من أين جمعه، وأين أنفقه، والرجعى: مصدر كالرجوع. وقد جاء هذا بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، تهديدا للإنسان، وتحذيرا له من عاقبة الطغيان.
وأحوال الطغاة قبيحة جدا هي: النهي عن الصلاة وغير ذلك، ومعنى الآية:
أخبرني عن حال هذا الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم من أداء الصلاة وعبادة الله، وتحويله إلى عبادة الأوثان، وترك عبادة الخالق الرازق؟!
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل الله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) إلى قوله: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ
(١٦)
2903
وأخبرني أيضا عن حال هذا الطاغية، إن كان سائرا على درب الهدى وعبادة الله تعالى، أو أمر غيره بتقوى الله بدلا من الأمر بعبادة الأوثان، كما يعتقد؟! والخطاب في هذين الأمرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك في قوله: أخبرني يا محمد عن حال هذا الطاغية أبي جهل إن كذّب بدلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وأعرض عن الإيمان بدعوتك؟! ثم زجره الله وهدده وتوعده بأساليب مختلفة.
أما علم هذا الطاغية أن الله يراه ويسمع كلامه ويعلم أحواله، لينزجر ويرتدع عن أفعاله، فو الله لئن لم ينته عن مضايقاته ولم ينزجر عن عناده، لنأخذن بناصيته، والناصية: مقدم شعر الرأس، ولنجرنه إلى النار. فليدع أهل ناديه، أي قومه وعشيرته، لمناصرته، وسندعو الزبانية: ملائكة النار الغلاظ الشداد، ليلقوه في جهنم.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧).
كلا، للزجر والردع، إياك أن تطيعه أيها النبي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة، وتقرب إلى الله بالطاعة والعبادة، وتابع السجود والتعظيم له، فذلك قوة لك وعزة، وحصن ووقاية.
2904
Icon