تفسير سورة سبأ

اللباب
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية١ وهي خمس وخمسون آية وثمان مائة وثلاث وثمانون كلمة وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
١ قال ابن الجوزي في تفسيره ٦/٤٣١ وهي مكية بإجماعهم، وقال الضحاك وابن السائب ومقاتل: فيها آية مدنية وهي قوله :﴿ويرى الذين أوتوا العلم﴾ وهذه الآية قال بمكيتها ابن عباس فيما نقله القرطبي في الجامع ١٤/٢٥٨..

مكية وهي خمس وخمسون آية وثمان مائة وثلاث وثمانون كلمة وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات﴾ اعلم أن السور المفتوحة بالحمد خمسٌ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه سورة الملائكة، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأخير. والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمةِ الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد
3
ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ» إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد، ويدل عليه قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين» فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَالَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلُ لَهُ عِوَاجاً قِيَماً لِيُنْذِرَ» فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع يُنْقاد له لا تّبع كُلُّ واحدٍ هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا: «الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا هِي السَّمَواتِ والأرْضِ» إشارة إلى نعمةِ الإيجاد الثاني دليل قوله: ﴿وَلَهُ الحمد فِي الآخرة﴾ [سبأ: ١] وقال في الملائكة: ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ [فاطر: ١] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً﴾ اي: يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة﴾ [الأنبياء: ١٠٣] وقال تعالى عنهم: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذلك نعمتين أشار بقوله: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢] إلى النعمة العاجلة، وأشار بقوله: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» إلى النعمة الآجلة، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.
فإن قيل: قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في يالآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض؟
فالجواب: أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ» لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها.
قوله: «الَّذِي لَهُ» يجوز فيه أن يكون تابعاً وأن يكون مقطوعاً نصباً ورفعاً على المحد فيهما و «مَا فِي السَّمَاواتِ» يجوز أن يكون فاعلاً به وهو الأحسن وأن يكون متبدأ.
قوله: «فِي الآخِرَةِ» يجوز أن يتعلق بنفس الحَمْدِ، وأن يتعللق بما تعلق به خبره (وَهُو الحَكِيمُ) يجوز أن يكون معترضاً إذا أعربنا «يَعْلَمُ» حالاً مؤكدة من ضمير الباري تعالى، ويجوز أن يكون «يَعْلَمُ» مستأنفاً، وأن يكون حالاً من الضمير في «الخَبِير».

فصل


له ما في السموات وما في الأرض مِلْكاً وخَلْقاً وله الحمد في الآخرة كما وله في
4
الدنيا؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل: احمد في الاخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾ [فاطر: ٣٤] و ﴿الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ [الزمر: ٧٤] وهو الحكيم الخبير فالحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، والفاعل الذي فعله على وفق العلم وهو الحكيم، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء ثم بيّن كمال خيره بقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض﴾ أي ما يدخل فيهما من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا.
قوله: «وَمَا يَنْزِلُ» العامة على «يَنْزِلُ» مفتوح اياء مخفف الزاي مسندٌ إلى ضمير «مَا» وعَليُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسُّلَميُّ بضمها وتشدشد الزاي أي الله تعالى. والمراد الأمطار والملائكة والقرآن. «وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا» من الكلام الطيب لقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ [فاطر: ١٠] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله: ﴿والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] وقدم: ﴿مَا يَلْجُ فِي الأرض﴾ على: ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء﴾ ؛ لأن الحبة تُبْذَرُ أولاص ثم تسقي ثانيا. وقال: ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ ولم يقل: «مَا يَعْرُج إليها» إشارة إلى بقول الأعمال الصالحة لأن كلمة: «إلَى» للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفم الوقوف عند السموات فقلك وما يعرد فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال: ﴿وَهُوَ الرحيم الغفور﴾ رحيم عند الإنزلا حيث ينزل الرزق من المساء غفور عندما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال. ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قَوْمٌ فقال: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة﴾ قوله: «بَلَى» جواب لقولهم: «لاَ تَأتينَا» وما بعدها قسمٌ على ذلك. وقرأ العامة: لتأتِيَنَّكُمْ بالتأنيث، وقرا (طَلْقٌ) بالياء فقيل: (أي) البعث. وقيل: على معنى الساعة أي اليوم. قال الزمخشري وره أبو حيان بأنه ضرورة كقوله:
٤١٠١ -...........................
5
وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
وليس مثله، وقيل: (أي) الله بمعنى أمره. ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون: «عالم» فاعلاً لِتَأتِيَنَّكُمْ في قراءة مَنْ رفعه.
قوله: «عَالِمُ» قرأ الأخَوانِ: عَلاَّم على صيغة المبالغة وخفضه نعتاً ل «ربِّي» او بدلاً منه.
وهو قليل؛ لكونه مشتقاً. ونافعُ وابْنُ عَامرٍ عالمٌ بالرفع على هُوَ عالم، او على أنه مبتدأ وخبره «لاَ يَعْزُبُ» أو على أن خبره مضمر أي: هو ذكره الحَوفيّ. وفيه بعد، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتاً فلا بدّ من تقدير تعريفه. وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلى الصفة المشبهة، وتقدمت قراءتا «يَعْزُب» في يُونُسِ.

فصل


اعمل أن الله تعالى ردَّ على مُنْكِري الساعة فقال: ﴿قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ فأخر بإيتيانها وأكدها باليمين.
فإن قيل: إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله: ﴿لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾. وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلولا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة.
6
قوله: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح، فالأجسام أجزاءها في الأرض والأرواح في السماء فقوله: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات﴾ إشارة إلى علمه بالأرواح، وقوله: ﴿وَلاَ فِي الأرض﴾ إشارة إلى عمله بالأجسم فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا اسبعاد في الإعادة.
قوله: «وَلاَ أَصْغَرُ» العامة على رفع «أصْغَر وأَكْبَر» وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء، والخبر قوله «إلاَّ فِي كِتَابٍ».
والثاني: النَّسَق على «مِثْقَالِ» وعلى هذا فيكون: «إلاَّ فِي كِتَابٍ» تأكيداً للنفي في: «لاَ يَعْزُبُ» كأنه قال لكنه في كتاب مبين وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين. وفيها وجهان:
أحدهما: أنها «لا» التبرئة وبني اسمها معها، والخبر قوله: «إلاَّ فِي كِتَابٍ».
والثاني: النسق على «ذَرَّةٍ» وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ «أَصْغَر» وأَكْبَر «وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: هَلاَّ جَازَ عطفُ:»
وَلاَ أصْغَر «على» مِثْقَالِ «وعطف» وَلاَ أَكْبَر «على ذرة؟
قُلْتُ: يأبي ذلك حرف الاستثناء إلاا إذا جعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأنها إثبات في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح.
قال أبو حيان: ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح
7
المحفوظ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جداً، وخرجت على أنهما في نية الإضافة، إذ الأصل: «ولا اصغره ولا أكبره» وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم:
٤١٠٢ - بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ... ٤١٠٣ - يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ... على خلاف. وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذفو لفظاً بخلافِ هنا.
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود «من» ؛ لأنَّ «أفعل» متى أضيف لم يجامع «مِنْ» وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن (مِنْ) ليست متعقة «بأفعل» بل محذوف على سبيل البيان؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين «بمن» ومجروها أي أعني من ذلك.
والثاني: أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه، فلذلك أتى «بِمن» ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود «من» قال الشاعر:
8
وخرج على هذين الوجهين إلى التعليق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين «أل» ومن في أفعل كقوله:
٤١٠٥ - ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى............................
وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك.

فصل


قوله: ﴿وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ﴾ إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب.
فإن قيل: فأيُّ حاجة إلى ذلك الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بينان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال: ﴿لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾.
قوله: «لِيَجْزِيَ» فيه أوجه:
أحدهما: أنه متعلق (بلا) وقال أبو البقاء و (يعزب) بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي. وهو حس أو بقوله: «ليأتِيَنًّكُمْ» أو بالعامل في قوله: «إلاَّ فِي كَتَابٍ» اي إلا استقر ذلك «في كتاب مبين» لِيَجْزِيَ.
9

فصل


اعمل أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمانَ والعملَ الصالح وذكر لهم أمرين المغفرةَ والرِّزْقَ الكريمة فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مفغور له لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ١١٦] وقوله عليه (الصلاة و) السلام:
«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إله إلاَّ اللَّهَ ومَنْ (في) قَلْبِهِ وزنُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ».
والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه. وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه بمعنى ذَا كرم أو مُكْرِم أو لأنه من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يُطْلَبْ ويتسبب إليه لا يأتي.
فإن قيل: ما الحكمة في تَمييزِهِ الرزق بوصفه بأنّه كريمٌ ولم يضف المغفرة؟
فالجواب: لأنَّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزَّقّوم والحَميم ومن الفواكهُ والشَّرَاب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانْقِسَام فيها.

فصل


قوله: ﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليه لقوله: «ليَجْزِي الَّذِينَ آمَنُو».
وثانيهما: أن يكون ذلك لهم واللَّهُ يجزيهم بشيء آخر لأن قوله: «أُلَئكَ لَهُمْ» جُملة (تامة اسمية، وقوله تعالى: «لِيَجْزيَ الَّذِينَ آمَنُوا» جملة) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل: لِيَجْزِيَ الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقاً «.

فصل


اللام في»
ليجزي «ومعناه الآخرة للجزاء.
فإن قيل: فما وجه المناسبة؟
فالجواب: أن الله تعالى أرد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقيةً تكون ثوابه
10
واصلاً إليه فيها دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيه الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلق مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبله.
قوله:» والِّذِين سَعَوْا «يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ و»
أولئك « (و) ما بعده خبره.
والثاني: أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون»
أُلَئِكَ «الذي بعده مستأنفاً و» أُلَئِكَ «الذي قبله وما في خبره معترضاً بين المُتَعَاطِفَيْن.
قوله: ﴿والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي في إبطال أَدِلَّتِنَا مُعَاجِزِينَ يحسبون أنهم يَفُوتُونَنَا وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين. وعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله:»
مُعَاجِزِينَ «أي سَعَوا في إبْطَالِهَا لأن المكذّب آتٍ بإخفاء آياتِ بيناتٍ فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كَذِبَهُ لعله يُعْجز المتمسك به.
قوله: ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ قرأ ابنُ كثير وحفصٌ هنا وفي الجاثية ألِيمٌ بالرفع والباقون بالخفض. فالرفع على أنه نعت»
لعَذَابِ «والخفض على أنه نعت» لرجزٍ «إلا أن مَكِّيَّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال: لأن الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن قال: والاختيار خَفْضُ» أليم «لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذابٌ من عذابٍ أليم أي هذا الصِّنف من أصناف العذاب، لأن العاب بعضه آلم من بعض وأجيب: بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل: لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب، وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال: وبالرفع صفة لعذاب، والرِّجْز مطلق العذاب.
11

فصل


قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب فيكون «مِنْ» لبَيَان الجِنْس كقولك: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ. قال ابن الخطيب: قال هناك: لَهُمْ رِزْقٌ كَريمٌ ولم يقدر بمن التبغيضية فلم يقل: لهم نصيبٌ من رزقٍ، ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا «لهم عذابٌ مِنء رجزٍ أليم» بلفظة صالحة للتبعيض، وذلك إشارة إلى سَعَةِ الرحمة وقله الغضب وقال هناك: «لَهُمْ مغَفْرَةٌ» ثم قال: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤] وههنا لم يقل إلا: «لَهُمْ عَذَابٌ» فزادهم هناك الرزق الكريم، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر، لقوله تعالى في موضع آخر: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب﴾ [النحل: ٨٨].
قوله: ﴿وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على «لِيَجْزِيَ» قال الزمخشري: أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة. وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق: «ليجزي» بقوله: «لَتَأتِيَنَّكُمْ» فبنى هذا عليه وهو من احسن ترتيبز
والثاني: أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك «والَّذِي أُنْزِلَ» هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و «الْحَقَّ» مفعول ثانٍ، لأن الرؤية عِلْميَّة وقرا ابنُ أَبي عَبْلَةَ الْحَقُّ بالرفع على أن خبر «هُوَ» والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجلعون ما هو فل مبتدأ وخبر و «مِنْ رَبِّك» حال على القراءتين.
12

فصل


لما لين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه (الصلاة و) السلام حق وصدق وقوله: هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأم قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قوله كل واحد حقاً في المعنى، قال المفسرون: ﴿وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم﴾ يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سَلام وأصْحَابه ﴿الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق﴾ يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله.
قوله: ﴿ويهدي﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مستأنف وفي فاعل احتمالان: أظهرهما: أنَّه ضمير «الَّذِي» وهو القرآن والثاني: ضمير الله تعالى ويتعلق هذا بقوله: ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمير ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ.
الوجه الثاني: أنه معطوف على موضع «الحق» و «ان» معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية.
الثالث: أنه عطف على «الحق» عَطْفَ فعل على اسم لأنه في تأويله كقوله تعالى: ﴿صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩] أي: وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله:
٤١٠١ - نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ
٤١٠٦ - فَألْفْيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعابِرَا
كأنه قيل: وليروه الحق وهادياً.
الرابع: أن «ويهدي» حال من «الَّذِي أُنْزِلَ» ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله:
٤١٠٧ -................................
13
نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً
وهو قليل جداً، ثم قال: ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.
14
ثم بين١ أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قَوْمٌ فقال :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة ﴾. قوله :«بَلَى » جواب لقولهم٢ :«لاَ تَأتينَا » وما بعدها قسمٌ على ذلك. وقرأ العامة : لتأتِيَنَّكُمْ بالتأنيث، وقرأ ( طَلْقٌ )٣ بالياء٤ فقيل :( أي )٥ البعث. وقيل : على معنى الساعة أي اليوم. قاله الزمخشري٦ ورده أبو حيان٧ بأنه ضرورة كقوله :
٤١٠١-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا٨
وليس مثله، وقيل :( أي )٩ الله بمعنى أمره. ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون :«عالم » فاعلاً لِتَأتِيَنَّكُمْ في قراءة مَنْ رفعه.
قوله :«عَالِمُ » قرأ الأخَوانِ : عَلاَّم على صيغة المبالغة وخفضه نعتاً ل «ربِّي١٠ » أو بدلاً منه. وهو قليل ؛ لكونه مشتقاً. ونافعُ وابْنُ عَامرٍ عالمٌ بالرفع١١ على هُوَ عالم، أو على أنه مبتدأ وخبره «لاَ يَعْزُبُ١٢ » أو على أن خبره مضمر أي هو ذكره الحَوفيّ١٣. وفيه بعد١٤، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتاً فلا بدّ من تقدير تعريفه. وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلى الصفة المشبهة، وتقدمت قراءتا «يَعْزُب » في يُونُسِ١٥.

فصل


اعلم أن الله تعالى ردَّ على مُنْكِري الساعة فقال :﴿ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ فأخبر بإتيانها وأكدها باليمين.
فإن قيل : إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين
فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله :﴿ لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾. وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلولا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة١.
قوله :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح، فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات ﴾ إشارة إلى علمه بالأرواح، وقوله :﴿ وَلاَ فِي الأرض ﴾ إشارة إلى علمه بالأجسام فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا استبعاد في٢ الإعادة.
قوله :«وَلاَ أَصْغَرُ » العامة على رفع «أصْغَر وأَكْبَر » وفيه وجهان :
أحدهما : الابتداء، والخبر قوله «إلاَّ فِي كِتَابٍ ».
والثاني : النَّسَق على «مِثْقَالِ » وعلى هذا فيكون :«إلاَّ فِي كِتَابٍ » تأكيداً للنفي في :«لاَ يَعْزُبُ » كأنه قال لكنه في كتاب مبين٣. وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين٤. وفيها وجهان :
أحدهما : أنها «لا » التبرئة وبني اسمها معها، والخبر قوله :«إلاَّ فِي كِتَابٍ٥ ».
والثاني : النسق على «ذَرَّةٍ٦ » وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ «أَصْغَر وأَكْبَر »٧ وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.
قال الزمخشري : فإن قلتَ : هَلاَّ جَازَ عطفُ :«وَلاَ أصْغَر » على «مِثْقَالِ » وعطف «وَلاَ أَكْبَر » على ذرة ؟
قُلْتُ : يأبى ذلك حرف الاستثناء إلا إذا جعلت الضمير في «عنه » للغيب وجعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأن إثباتها في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح٨.
قال أبو حيان : ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح المحفوظ٩، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر١٠ وهي مشكلة جداً، وخرجت على أنهما في نية الإضافة، إذ الأصل :«ولا أصغره ولا أكبره » وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله١١ وله نظائر كقولهم :
٤١٠٢- بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ١٢. . .
٤١٠٣- يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ١٣. . .
على خلاف١٤. وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذوف لفظاً بخلافِ هنا.
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود «من » ؛ لأنَّ «أفعل » متى أضيف لم يجامع «مِنْ » وأجيب عن ذلك بوجهين :
أحدهما : أن ( مِنْ ) ليست متعلقة «بأفعل » بل بمحذوف على سبيل البيان ؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين «بمن » ومجرورها أي أعني من ذلك.
والثاني : أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه، فلذلك أتى «بِمن١٥ » ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود «من » قال الشاعر :
٤١٠٤- نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا. . . مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ١٦
وخرج على هذين الوجهين إما التعلق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين «أل » ومن في أفعل كقوله :
٤١٠٥- ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٧. . . .
وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك.

فصل١٨


قوله :﴿ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب.
فإن قيل : فأيُّ حاجة إلى ذكر الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر ؟
فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال :﴿ لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات١٩.
١ المرجع السابق..
٢ في "ب" لقوله..
٣ سقط من "ب" ولم أعثر على ترجمة له..
٤ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢١ وابن جني في المحتسب ٢/١٨٦ "هارون عن طليق"..
٥ سقط من "ب"..
٦ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٢٧٩..
٧ البحر المحيط ٧/٢٥٧ قال: "ويبعد أن يكون ضمير الساعة لأنه مذهوب به مذهب التذكير لا يكون إلا في الشعر"..
٨ عجز بيت من المتقارب صدره:
فلا مزنة ودقت ودقها .................................
وهو لعامر بن جوين وشاهده: "أبقل إبقالها" حيث ذكر الفعل "أبقل" الذي يعود على الأرض المؤنثة وهذا خاص بالشعر وضرورته. وقد تقدم..

٩ سقط من "ب"..
١٠ في "ب" لرب بدون ياء..
١١ القراءتان سبعيتان وانظر الإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٥٢٦ ومعاني الفراء ٢/٣٥١ وإبراز المعاني ٦٥١ والنشر ٢/٣٤٩ وتقريبه ١٦٢ وحجة ابن خالويه ٢٩١..
١٢ قاله السمين ومكي في الدر ٤/٤٠٨ ومكي في الكشف ٢/٢٠١..
١٣ البحر المحيط ٧/٢٥٧ و ٢٥٨..
١٤ ففيه لجوء إلى التكلف وما يحتاج إلى تقدير لا يقدم على الذي لا يحتاج على تقدير..
١٥ عامة القراء بضم الزاي إلا الكسائي فإنه يكسرها حيث يقع والفراء فضل الكسر حيث قال وهو أحب إلي. وقد قال هناك في يونس يقرأ الكسائي هنا وفي سبأ: "يعزب" بكسر الزاي ويعزب لغتان وانظر: الإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٣٢٨ ومعاني الفراء ٢/٣٥١ واللباب ٤/٤٣ ب..
قوله :«لِيَجْزِيَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق٢٠ ( بلا ) وقال أبو البقاء و ( يعزب )٢١ بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي٢٢. وهو حسن. أو بقوله :«ليأتِيَنًّكُمْ » أو بالعامل في قوله :«إلاَّ فِي كَتَابٍ » أي إلا استقر ذلك «في كتاب مبين » لِيَجْزِيَ٢٣.

فصل


اعلم أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمانَ والعملَ الصالح وذكر لهم أمرين المغفرةَ والرِّزْقَ الكريم فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ١١٦ ] وقوله عليه ( الصلاة و )٢٤ السلام :
«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إله إلاَّ اللَّهَ ومَنْ ( في )٢٥ قَلْبِهِ وزنُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ٢٦ ».
والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه. وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه٢٧ بمعنى ذَا كرم أو مُكْرِم أو لأنه من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يُطْلَبْ ويتسبب إليه لا يأتي٢٨.
فإن قيل : ما الحكمة في تَمييزِهِ الرزق بوصفه بأنّه كريمٌ ولم يضف المغفرة ؟
فالجواب : لأنَّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزَّقّوم والحَميم ومنه الفواكهُ والشَّرَاب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانْقِسَام فيها٢٩.

فصل


قوله :﴿ أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليه لقوله :«ليَجْزِي الَّذِينَ آمَنُوا ».
وثانيهما : أن يكون ذلك لهم واللَّهُ يجزيهم بشيء آخر لأن قوله :«أُولَئكَ لَهُمْ » جُملة ( تامة اسمية٣٠، وقوله تعالى :«لِيَجْزيَ الَّذِينَ آمَنُوا » جملة ) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل : لِيَجْزِيَ الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقاً٣١ ».

فصل


اللام في «ليجزي » للتعليل ومعناه الآخرة للجزاء.
فإن قيل : فما وجه المناسبة ؟
فالجواب : أن الله تعالى أراد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقيةً تكون ثوابه واصلاً إليه فيها دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيها الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه٣٢ إلى ما قبله٣٣.
٢٠ التبيان ١٠٦٢ والبيان ٢/٤٧٤ والبحر المحيط ٧/٢٥٨..
٢١ سقط من ب..
٢٢ التبيان ١٠٦٢..
٢٣ البحر المحيط ٧/٢٥٨ والدر المصون ٤/٤١٠..
٢٤ زيادة من "ب"..
٢٥ سقط من "ب"..
٢٦ أورده الفخر الرازي في تفسيره ولم أجده في الكتب المعتمدة في الحديث بهيئته هده فقد أسنده إلى محمد بن إسماعيل البخاري بسنده إلى محمد بن يوسف الفريري..
٢٧ في "ب" لأنه وما في "أ" هو الأصح وهو الموافق لتفسير الرازي..
٢٨ تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢٤١..
٢٩ تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢٤١..
٣٠ ما بين القوسين ساقط من (ب)..
٣١ قاله الفخر الرازي ٢٥/٣٤١..
٣٢ في (ب) النسبة..
٣٣ الفخر الرازي ٢٥/٢٤١..
قوله :«والِّذِين سَعَوْا » يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ و «أولئك » ( و )١ ما بعده خبره.
والثاني : أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون «أُولَئِكَ » الذي بعده مستأنفاً و «أُولَئِكَ » الذي قبله وما في خبره معترضاً بين المُتَعَاطِفَيْن٢.
قوله٣ :﴿ والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ أي في إبطال أَدِلَّتِنَا مُعَاجِزِينَ يحسبون أنهم يَفُوتُونَنَا٤ وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين٥. وعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله :«مُعَاجِزِينَ » أي سَعَوا في إبْطَالِهَا لأن المكذّب آتٍ بإخفاء آياتِ بيناتٍ فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كَذِبَهُ لعله يُعْجز المتمسك به.
قوله :﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قرأ ابنُ كثير وحفصٌ هنا وفي الجاثية٦ ألِيمٌ بالرفع٧ والباقون بالخفض. فالرفع على أنه نعت «لعَذَابِ » والخفض على أنه نعت «لرجزٍ » إلا أن مَكِّيَّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال : لأن الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن٨. قال : والاختيار خَفْضُ «أليم » لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذابٌ من عذابٍ أليم أي هذا الصِّنف من أصناف العذاب، لأن العذاب بعضه آلم من بعض٩. وأجيب : بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل : لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب١٠، وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال : وبالرفع صفة١١ لعذاب، والرِّجْز مطلق العذاب.

فصل


قال قتادة : الرجز أسوأ١٢ العذاب فيكون «مِنْ » لبَيَان الجِنْس كقولك : خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ. قال ابن الخطيب : قال هناك١٣ : لَهُمْ رِزْقٌ كَريمٌ ولم يقدر بمن التبعيضية فلم يقل : لهم نصيبٌ من رزقٍ، ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا «لهم عذابٌ مِن رجزٍ أليم » بلفظة صالحة للتبعيض، وذلك إشارة إلى سَعَةِ الرحمة وقله الغضب وقال هناك :«لَهُمْ مغَفْرَةٌ » ثم قال :﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [ الأنفال : ٤ ] وههنا لم يقل إلا :«لَهُمْ عَذَابٌ » فزادهم هناك الرزق الكريم، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر، لقوله تعالى في موضع آخر :﴿ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب ﴾ [ النحل : ٨٨ ].
١ سقط من (ب)..
٢ انظر: البحر المحيط ٧/٢٥٩ والدر المصون ٤/٤١٠..
٣ في (ب) فصل بدل من قوله..
٤ انظر: تفسير البغوي والخازن ٥/٢٨٢..
٥ يقصد قوله عزت حكمته ﴿والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم﴾ الآية ٥١ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: معجزين بغير ألف مشددة والباقون بألف. النشر ٢/٣٤٩ والحجة لابن خالويه ٢٩٠ والسبعة ٥٢٦ و ٤٣٩ والإتحاف ٣١٦ وإبراز المعاني ٦٠٦ ومعاني الفراء ٢/٣٥١ و ٣٥٢..
٦ وهو قوله: ﴿هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم﴾..
٧ الإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٥٢٦ والمعاني للفراء ٢/٣٥١ و ٣٥٢ والنشر ٢/٣٤٩، وانظر أيضا البحر المحيط ٧/٢٥٩ وزاد المسير ٦/٤٣٣..
٨ في الكشف متمكن..
٩ وفيه الم من هذا الصنف وانظر: الكشف ٢/٢٠٢..
١٠ قاله شهاب الدين السمين ٤/٤١٠..
١١ انظر: التبيان لأبي البقاء ١٠٦٣..
١٢ معالم التنزيل والخازن ٥/٢٨٢..
١٣ تفسير الرازي ٢٥/٢٤٢..
قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على «لِيَجْزِيَ »١. قال الزمخشري : أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة٢. وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق :«ليجزي » بقوله :«لَتَأتِيَنَّكُمْ » فبنى هذا عليه وهو من أحسن ترتيب٣.
والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك٤ و «الَّذِي أُنْزِلَ » هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و «الْحَقَّ » مفعول ثانٍ، لأن الرؤية عِلْميَّة٥، وقرأ ابنُ أَبي عَبْلَةَ٦ الْحَقُّ بالرفع على أنه خبر «هُوَ » والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل مبتدأ وخبر٧ و «مِنْ رَبِّك » حال على القراءتين٨.

فصل


لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه ( الصلاة و )٩ السلام حق وصدق وقوله : هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأما قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقاً في المعنى١٠، قال المفسرون :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ يعني مؤمني أهل١١ الكتاب عبد الله بن سَلام وأصْحَابه ﴿ الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق ﴾ يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله.
قوله :﴿ ويهدي ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه مستأنف١٢ وفي فاعله احتمالان : أظهرهما : أنَّه ضمير «الَّذِي » وهو القرآن. والثاني : ضمير الله تعالى ويتعلق١٣ هذا بقوله :﴿ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد ﴾ ؛ إذ لو كان كذلك لقيل : إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمر ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ١٤.
الوجه الثاني : أنه معطوف على موضع «الحق » و «أن » معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية.
الثالث : أنه عطف على «الحق » عَطْفَ فعل على اسم لأنه في تأويله١٥ كقوله تعالى :﴿ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾ [ الملك : ١٩ ] أي : وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله :
٤١٠٦- فَألْفْيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ. . . وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعابِرَا١٦
كأنه قيل : وليروه الحق وهادياً.
الرابع : أن «ويهدي » حال من «الَّذِي أُنْزِلَ » ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله :
٤١٠٧-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً١٧
وهو قليل جداً، ثم قال :﴿ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد ﴾ وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانتقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.
١ الدر المصون ٤/٤١٠ والتبيان ١٠٦٣ وبيان ابن الأنباري ٢/٢٧٤..
٢ قال: "أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا". الكشاف ٣/٢٨٠..
٣ الدر المصون ٤/٤١٠..
٤ المراجع السابقة..
٥ التبيان ١٠٦٣ والدر المصون ٤/٤١١ ومعاني الفراء ٢/٣٥٢ الذي أسماه –أي الضمير- بالعماد..
٦ لم يحددها أبو البقاء ١٠٦٣ وقال ابن خالويه في المختصر :" من ربك هو الحق" بالرفع حكاه أبو معاذ: ابن خالويه ١٢١..
٧ قال في المغني ٤٩٦: "زعم البصريون أنه لا محل له ثم قال أكثرهم: إنه حرف فلا إشكال. وقال الخليل: اسم وقال الكوفيون : له محل. ثم قال الكسائي: محله بحسب ما بعده. وقال الفراء بحسب ما قبله فمحله بين المبتدأ والخبر رفع وبين معمولي "ظن" نصب، وبين معمولي كان رفع عند الفراء ونصب عند الكسائي وبين معمولي إن بالعكس. وقال الفراء في معانيه: ولو رفعت الحق على أن تجعل وهو اسما كان صوابا" المعاني ٢/٣٥٢. وقال في البحر ٧/٢٥٩: "وهو" فصل وهو مبتدأ والحق خبره والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ. قاله أبو عمر الجرمي..
٨ الدر المصون ٤/٤١١..
٩ سقط من "أ"..
١٠ هذا قول الفخر الرازي في تفسيره المسمى بالتفسير الكبير ٢٥/٢٤٣..
١١ الجامع لأحكام القرآن ١٤/٢٦١..
١٢ الدر المصون ٤/٤١١..
١٣ الأصح كما في "أ" والسمين "ويقلق"..
١٤ أورد هذه التوجيهات السمين في الدر ٤/٤١١ وانظر: التبيان ١٠٦٣ والبحر المحيط ٧/٢٥٩..
١٥ المراجع السابقة..
١٦ البيت لنابغة ذبيان وهو من الطويل ويبير: يهلك، والمعابر: جمع معبر وهو الجمل الكثير الوبر، والشاهد:"ومجر عطاء" عطف الاسم هذا على الفعل وهو يبير. ديوان النابغة ٧١، وقد تقدم..
١٧ هذا عجز بيت من المتقارب أنشده صاحب اللسان لهمام بن مرة بينما نسبه الجوهري لعبد الله بن همام السلولي وصدره:
فلما خشيت أظافيرهم .......................
وقد روي البيت: "بأرهنهم" و: "أرهنتهم" وأنكر بعضهم الرواية الأخيرة، وانظر: اللسان :"رهن" والصحاح للجوهري. وقال ثعلب: الرواة كلهم على أرهنتهم. والشاهد "وأرهنهم" حيث هو خبر لمبتدأ محذوف والجملة حالية وحتى تكون في حاليتها تلك يتحتم علينا أن نقدر أحد جزئيها وهو المبتدأ كقولهم: قمت وأصك عينه أي وأنا أصك. وقد تقدم..

قوله: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ﴾ لما بين حالة المكذب بالساعة ورد عليه بقوله: ﴿قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ [سبأ: ٣] ثم بين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات وبين حال الكافر والمؤمن بعد قوله عليه (الصلاة و) السلام - «بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ» فقلا المؤمن الذي أنزل إليك من ربك الحق وهو يهدي وقال الكافر المنكر للبعث متعجباً: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ﴾ يخبركم يعنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهذا كقول القائل في الاستبعاد: جاء رجل يقول: إنَّ الشمسَ تَطْلُعُ من المَغْرِب؛ إلى غير ذلك من المحاولات.

فصل


إذَا مُزِّقْتُم «إذا» منصوب بمقدر أي تُبْعَثُون وتُحْشَرُون وَقْتَ تمزيقكم لدلالة: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ عليه ولا يجوز أن يكون العامل «يُنَبِّئُكُمْ» لأن التنْبِيئَة «لأن التنْبِئَة لم تقع ذلك الوقت ولا» خَلْقٍ جَدِيدٍ «لأن ما بعد» إنَّ «لا يعمل فيما قبلها. ومن توسع في الظرف أجازه
14
هذا إذا جعلنا» إذَا «ظَرفاً محضاً، فغن جعلناه شرطاً كان جوابها مقدراً أي تبعثون وهو العامل في» إذَا «عند جمهور النحاة. وجوَّز الزجاج أن تكون معمولة لمُزِّقتُهْم، وجعله ابن عطية خطأ وإفساداً للمعنى، قال أبو حيان: وليس بخطأٍ ولا إفساد.
وقد اختلف في العامل في»
إذا «الشرطية، والصحيح أن العامل فيها فعلُ الشرط كأخواتها من أسماء الشرط وقال شهاب الدين: والجمهور على خلافِهِ ثم قال أبو حيان: والجملة الشرطية تحتمل أن تكون معمولة» لِيُنَبِّئُكُمْ «لأن في معنى: يقول لكم إذا مزقتم تُبْعَثُونَ، ثم أكد ذلك بوقوله: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ويحتمل أن يكون: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ﴾ معلقاً» لِيُنَبِّئُكُمْ «سادًّا مسد المفعولين ولوللا اللام لفتحت» أن «وعلى هذا فحملة الشرط اعتراض، وقد مَنَعَ قوم التلعيقَ في» اعلم «وبابها والصحيح جوازه، قال:
٤١٠٨ - حَذَارِ فَقَدْ نُبِّئْتَ إنَّكَ لَلَّذِي سَتُجْزَى بِمَا تَسْعَى فَتَسْعَد أو تَشْقَى
وقرأ زيْدُ بْنُ عليِّ بإبدال الهمزة ياء، وعنه يُنْبِئُكُمْ مِنْ»
أَنْبَأَ «كأكْرَمَ و» مُمَزَّق «فيه وجهان:
أحدهما: أنه اسم»
مصدر «وهو قياس كلّ ما زاد على الثلاث أن يجئ مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم مفعوله أي كُلَّ تَمْزِيقِ.
والثاني: أنه ظرف مكان، قاله الزمخشري، أي كل تمزيق من القبور وبطون
15
الوحش والطير، ومن مجئ مُفَعَّل مجيء التَّفْعِيل قوله:
٤١٠٩ - ألَمْ تَعْلَمِي مُسَرِّحِي القَوافي فَلاَ عيَّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتلاَبَا
أي تسريحي، والتمزيق التخريق والتقطيع، يقال ثَوبٌ مُمَزَّقٌ ومَمْزَّقٌ ويقال: مزَّقَهُ فهو مَازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً قال:
٤١١٠ - أتَانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عِرْضِي.............................
وقال الممزق العبدي - وبه سمي المُمَزَّقُ -:
٤١١١ - فَإن كُنْتُ مَأكُولاً فَكُنْ خَيْرَ آكِلِ وَإلاَّ فَأدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ
أي ولما أبْلَى وأَفْنَى، و «جَدِيد» عند البصريين بمعنى فاعل يقال: جَدَّ الشَّيْءُ فَهُوَ جَادّ وجَدِيدٌ وعند الكوفيين بمعنى مَفْعُول من جَدَدْتُهُ أي قَطَعْتُهُ.

فصل


المعنى أن الكفار قالوا لقومهم متعجبين: إن محمداً يقول: إنكم إذا مِتَّمْ ومزقتم كل تمزيق وصرتم تراباً إنكم لفي خلق جديد أي تخلقون خلقاً جديداً.
16
(قوله) «أَفْتَرى» هذه همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل فلذلك ثبتت همزة الهمزة وصلاً وابتداء. قال البغوي: هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوَصْل فلذلك نُصِبَ «عَلَى اللَّهِ كَذِباً» وبهذه الآية استدل الجَاحِظُ على أن الكلام ثلاثة أقسام صِدق وكَذِب ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة عنه على القسم.
الثالث: أن قوله «بِهِ» جُنَّةٌ «لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث. وأجيب عنه بأنَّ المعنى: أَمْ لَمْ يَفْتَر، ولكن عبر عن هذا بقولهم:» أَمْ بِهِ جِنَّةٌ «؛ لأن المجنون لا افتراء له والظاهر في» أم «هذه أنها متصلة لأنها تقدر بأيِّ الشَّيْئَين ويجاب بأحدهما لأنه قيل: أي الشيئين واقع افتراؤه الكذب أم كونه مجنوناً ولا يضر كونها بعدها جملة لأن الجملة بتأويل المفرد كقوله:
٤١١٢ - لاَ أُبَالِي أَنَبَّ بالحَزْن تَيْسٌ أَمْ جَفَانِي بظَهْرِ غَيْب اللَّئِيمِ
ومثل قوله الآخر:
٤١١٣ - لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنْ كُنْتُ دَارِياً شُعَيْثُ بْنُ سَهْم أمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقِرِ
لأن»
منقر «خبر لا نعت كذا أنشده بعضهم مستشهداً على أنها جملة وفيه حذف التنوين بما قبل» ابن «وليس بصفة، وهذا إشارة إلى البحث المتقدم في سوة التوبة.
17

فصل


قوله: ﴿أفترى عَلَى الله كَذِباً﴾ يحتمل أن يكون من تمام قول الكافر أولاً اي من كلام القائلين:» هَلْ نَدُلُّكُمْ «ويحتمل أن يكون من كلام الامع المجيب للقائل:» هَلْ نَدُلّكُمْ «كأن السامع لما قيل له: هل ندلكم على رجل قال له وهو يفتري على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه» أَوْ بِهِ جُنَّةٌ «مجنون؟ إن كان لا يعتقد خلاف، وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لاَ يَرْضَى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفترٍ بل قال مفتر أو مجنون احترازاً من أن يقول قائل: كَيْفَ يقول بأنه مفترٍ مع أنه جاز أن يظن أن الحق ذلك، وظن الصدق ينع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع إلا ترى أن من يقول: جَاءَ زيد فإذا تبين أنه لم يجئ وقيل له: لم كذبتَ؟ يقول: ما كذبتُ وإنما سمعت من فلانٍ فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبيين كذبهم فكل عاقل بنبغي أن يحترز عن ظهور مرة أخرى رداً عليهم فقال: ﴿بَلِ الذين...
. فِي العذاب﴾
في مقابلة قولهم: ﴿أفترى عَلَى الله كَذِباً﴾.
وقوله: «فِي الضِّلال البَعِيد»
عن الحق في الدنيا، وهذا في مقابلة قولهم: «بِهِ جِنَّة» وكلاهما مناسب اما العذاب فلأن نسبة المكذب إلى الصادق مؤذٍ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا العذاب إلى البرئ وأما المجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنَّهُم هم الضالون، ثم وصل ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتديَ ضَالاً يكون أضلّ، والنبي عليه (الصلاة و) السلام (كان) هادي كل مهتد.
قوله: «أفَلَمْ» فيه الرأيان المشهوران، قدّره الزمخشري أَعَمَوْا فَلَمْ يَرَوْا، وغيره يدِّعِي أن الهمزة مقدم على حرف العطف.
قوله: «مِنَ السَّمَاءِ» بيان للموصول، فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل: (و) ثمَّ حال محذوفة تقديره: أفَلَمْ يَرَوْا إلَى كَذَا مَقْهُوراً تَحْتَ
18
قُدْرَتِنَا، أو مُحِيطاً بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا فإنَّ أرضي وسمائي محيطةٌ بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا القادرُ عليهم.
قوله: «إنْ نَشَأ» قرأ الأخَوانِ يَشَا يَخْسِفْ يُسْقِطْ بالياء في الثلاثة، والباقون بنون العظمة فيها، وهم واضِحَتَان، وأدغم الكسائي قال الفارسي: وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا يدغم فيها وإن كان الباء يدغم فيها نحو: اضْرِب فُلاَناً كما تدغم الباء في الميم كقولك: اضْرِب مالكاً وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو: اضْمُمْ بكراً؛ لأن الباء انحطت عن الميم يفقد الغُنَّةِ، وقلا الزمخشري: وليست بالقوية، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت.

فصل


لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السِّيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما تقدم مراراً ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى﴾ [يس: ٨١] وأما التهديد فقوله: ﴿إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق والكشف ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ﴾ أي: فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على البعث ﴿لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب﴾ تائب
19
راجع الله بقلبه. ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم دَاوُد كما قال تعالى عنه: ﴿فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾ [ص: ٢٤].
20
( قوله )١ «أَفْتَرى » هذه همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل فلذلك ثبتت همزة الهمزة وصلاً وابتداء. قال البغوي : هذه ألف٢ استفهام دخلت على ألف٣ الوَصْل فلذلك نُصِبَ٤ «عَلَى اللَّهِ كَذِباً » وبهذه الآية استدل الجَاحِظُ٥ على أن الكلام ثلاثة أقسام صِدق وكَذِب ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة عنه على القسم.
الثالث : أن قوله «بِهِ جُنَّةٌ » لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث٦. وأجيب عنه بأنَّ المعنى : أَمْ لَمْ يَفْتَر، ولكن عبر عن هذا بقولهم :«أَمْ بِهِ جِنَّةٌ » ؛ لأن المجنون لا افتراء له٧، والظاهر في «أم » هذه أنها متصلة لأنها تقدر بأيِّ الشَّيْئَين ويجاب بأحدهما لأنه قيل : أي الشيئين واقع افتراؤه الكذب أم كونه مجنوناً ولا يضر كونها بعدها جملة لأن الجملة بتأويل المفرد كقوله :
٤١١٢- لاَ أُبَالِي أَنَبَّ بالحَزْن تَيْسٌ. . . أَمْ جَفَانِي بظَهْرِ غَيْب اللَّئِيمِ٨
ومثل قول الآخر :
٤١١٣- لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنْ كُنْتُ دَارِياً. . . شُعَيْثُ بْنُ سَهْم أمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقِرِ٩
لأن «منقر » خبر لا نعت كذا أنشده بعضهم مستشهداً على أنها جملة وفيه حذف التنوين بما قبل «ابن » وليس بصفة، وهذا إشارة إلى البحث المتقدم في سورة التوبة١٠.

فصل


قوله :﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً ﴾ يحتمل أن يكون من تمام قول الكافر١١ أولاً أي من كلام القائلين :«هَلْ نَدُلُّكُمْ » ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل :«هَلْ نَدُلّكُمْ » كأن السامع لما قيل له : هل ندلكم على رجل قال له وهو١٢ يفتري على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه «أَوْ بِهِ١٣ جُنَّةٌ » مجنون١٤ ؟ إن كان لا يعتقد خلافه، وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لاَ يَرْضَى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفترٍ بل قال مفتر أو مجنون احترازاً من أن يقول قائل : كَيْفَ يقول بأنه مفترٍ مع أنه جاز أن يظن أن الحق١٥ ذلك، وظن الصدق يمنع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع ألا ترى أن من يقول : جَاءَ زيد فإذا تبين أنه لم يجئ وقيل له : لم كذبتَ ؟ يقول : ما كذبتُ وإنما سمعت من فلانٍ فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبيين كذبهم فكل عاقل ينبغي أن يحترز عن ظهور كذبه عند الناس ولا يكون العاقل أدنى درجة من الكافر، ثم إنه تعالى أجابهم مرة أخرى رداً عليهم فقال :﴿ بَلِ الذين كفروا فِي العذاب ﴾ في مقابلة قولهم :﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً ﴾.
وقوله :«فِي الضِّلال البَعِيد » عن الحق في الدنيا، وهذا في مقابلة قولهم :«بِهِ جِنَّة » وكلاهما مناسب أما العذاب فلأن نسبة المكذب١٦ إلى الصادق مؤذٍ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا العذاب إلى البرئ وأما المجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل١٧ دونه في الإيذاء فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنَّهُم هم الضالون، ثم وصف ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتديَ ضَالاً يكون أضلّ، والنبي عليه ( الصلاة١٨ و ) السلام ( كان١٩ ) هادي كل مهتد٢٠.
١ ساقط من "ب"..
٢ في "ب" همزة بدل ألف..
٣ في "ب" نصبت بالتاء..
٤ معالم التنزيل ٥/٢٨٢ وانظر المرجعين السابقين..
٥ هو أبو عمرو بن بحر الجاحظ إمام أهل البيان والبلاغة له من المصنفات البيان والتبيين، الحيوان، وغير ذلك توفي سنة ٢٥٥، انظر: معجم الأدباء ١٦/١٠٩..
٦ الدر المصون ٤/٤١٤ وإيضاح القزويني ١٣..
٧ السابقان..
٨ من الخفيف وهو لحسان بن ثابت –رضي الله عنه- ويروى: ما أبالي بدل من لا أبالي الرواية العليا هنا، والحزن الأرض الغليظة، والتيس: ذكر الماعز و "جفاني" يروى بدل منه "لحاني" أي شتمني ولامني يريد أن يبين أن نبيب التيس وتصويته وشتم اللئيم عنده سواء. وشاهده: "أم جفاني" حيث إن "أم" معادلة لهمزة الاستفهام والجملة بعدها في تأويل المفرد، كما أخبر فوق أي لا أبالي أي الفعلين كان. وانظر: الكتاب ٣/١٨١ وابن الناظم ٢٠٦ والمقتضب ٣/٢٩٨ وديوانه ٨٩..
٩ هو من الطويل وهو للأسود بن يعفر، وينسب أيضا للعين المنقري، وأوس بن حجر، والشاهد فيه كسابقه حيث وقعت "أم" معادلة للهمزة الاستفهامية المحذوفة لدلالة "أم" عليها بتقدير: أشعيث بعضهم أم.. ولا يخفى أن "أم" هنا متصلة كالسابقة ولكنها في تلك المرة وقعت بين جملتين اسميتين وكانت الأولى قد وقعت بين فعليتين وقد تقدم..
١٠ يقصد قول الله: ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله﴾ وهي الآية ٣٠ حيث قرأ الكسائي وعاصم بتنوين: "عزير" والباقي بلا تنوين وخرجت على أن التنوين حذف لالتقاء الساكنين ولوقوع ابن صفة له وهكذا التنظير بالآية..
١١ في "ب" الكافرين..
١٢ في الفخر الرازي: أهو يفتري بصيغة الاستفهام..
١٣ وفيه: أم به جنة..
١٤ في "ب" والرازي : جنون..
١٥ انظر: تفسير الرازي ٢٥/٢٤٤..
١٦ في "ب" الكذب وكذا هي في الفخر الرازي..
١٧ في "ب" القائل..
١٨ سقط من "أ" وهي في الفخر و "ب"..
١٩ سقط من "ب"..
٢٠ انظر: تفسير الفخر الرازي المرجع السابق ٢٥/٢٤٤..
قوله :«أفَلَمْ » فيه الرأيان المشهوران، قدّره الزمخشري أَعَمَوْا فَلَمْ يَرَوْا١، وغيره يدِّعِي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف٢.
قوله :«مِنَ السَّمَاءِ » بيان للموصول، فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل :( و )٣ ثمَّ حال محذوفة تقديره : أفَلَمْ يَرَوْا إلَى كَذَا مَقْهُوراً تَحْتَ قُدْرَتِنَا، أو مُحِيطاً٤ بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا فإنَّ أرضي وسمائي محيطةٌ بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا القادرُ عليهم٥.
قوله :«إنْ نَشَأ » قرأ الأخَوانِ يَشَأ يَخْسِفْ يُسْقِطْ بالياء في الثلاثة٦، والباقون بنون العظمة فيها، وهما واضِحَتَان، وأدغم الكسائي الفاء في الباء٧ واستضعفها الناس من حيث أدغم الأقوى في الأضعف٨، قال الفارسي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا يدغم٩ فيها وإن كانت الباء يدغم١٠ فيها نحو : اضْرِب فُلاَناً كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضْرِب مالكاً وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو : اضْمُمْ بكراً ؛ لأن١١ الباء انحطت عن الميم بفقد الغُنَّةِ١٢، وقال الزمخشري : وليست بالقوية١٣، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت١٤.

فصل


لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السِّيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما تقدم مراراً ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى :﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى ﴾ [ يس : ٨١ ] وأما التهديد فقوله :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء ﴾ أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق١٥ والكشف ثم قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ ﴾ أي : فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على البعث ﴿ لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب ﴾ تائب راجع الله بقلبه. ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم دَاوُد١٦ كما قال تعالى عنه :﴿ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ﴾ [ ص : ٢٤ ].
١ ثقال ذلك في كشافه ٣/٢٨١..
٢ هذا مذهب الجمهور. وانظر البحر المحيط ٧/٢٦٠ والمغني ١٦، والهمع ٢/٦٩..
٣ سقط من "ب"..
٤ الدر المصون ٤/٤١٥..
٥ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٨٢..
٦ وهي قراءة عيسى والأعمش وابن وثاب أيضا انظر البحر ٧/٢٦٠ والإتحاف ٣٥٧ والسبعة ٥٢٧ والقرطبي ١٤/٢٦٤ والكشاف ٣/٢٨١ والكشف ٢/٢٠٢..
٧ ذكر ذلك ابن مجاهد في السبعة ٥٢٧ والبناء في الإتحاف ٢٥٧ وأبو حيان في البحر ٧/٢٦٠..
٨ الدر المصون ٤/٤١٥ ومن هؤلاء الناس كما أخبر هو أعلى الزمخشري والفارسي في كتابيهما الكشاف والحجة..
٩ في "ب" فلا تدغم بالتاء يقصد الباء..
١٠ وفيها أيضا تدغم..
١١ في "ب" إلا أن..
١٢ قال بذلك الفارسي في الحجة مع اختلاف طفيف في عبارته. الحجة ٦/١٦٤، و ١٦٥ وأبو حيان في البحر ٧/٢٦٠..
١٣ الكشاف ٣/٢٨١..
١٤ رد صحيح من المؤلف لأن القراءة سنة متبعة ويوجد فيها الفصيح والأفصح كما يقول أبو حيان وقد أجازها أبو البقاء في التبيان قال" والإدغام جائز، لأن الفاء والباء متقاربان" البحر المحيط ٧/٢٦٢..
١٥ الأصح كما في الفخر الرازي بالخسف..
١٦ الفخر الرازي ٢٥/٢٤٤ و ٢٤٥..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً﴾ فقوله: «مِنَّا» إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ منّا فضلاً﴾ مستقبل بالمفهوم وتام كما يقول القائل: آتَى الملك زيداً خلعةً، فإذا قال القائل: آتاه منه خلعَةً يفيد أنه كان من خاصِّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض، ونطيره قوله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ [التوبة: ٢١] فإنَّ رَحِمَهُ اللَّهُ واسعةٌ تصلُ إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمه من عنده لخواصِّه، والمراد بالفضل النبوة والكتاب، وقيل: الملك، وقيل: جمعي ما أوتِيَ من حُسْن الصوت وتَلْيِين الحديد وغير ذلك مما خُصَّ به.
قوله: «يَا جِبَالُ» محكيّ بقول مضمر، ثم إن شئت قدرته مصدراً ويكون بدلاً من «فضلاً» على جهة تفسيره به كأنه قيل: آتيناهُ فضلاً قولَنَا يَا جبالُ، وإن شئت جعلته مستأنفاً.
قوله: «أَوِّبي» العامة على فتح الهمزة، وتشديد الواو، أمراً من التَّأويب وهو
20
التَّرجيع، وقيل: التسبيح بلغة الحَبَشَة، وقال القُتَيْبيُّ: أصله من التأويل في السير وهو أن يسير النهار كله، وينزل ليلاً كأنه قال: أدْأَبِي النَّهار كُلَّهُ بالتسبيح معه، وقال وهب: نوحي معه، وقيل: سيري معه، وقيل: سيري معه، والتضعيف يُحتمل أن يكون للتكثير، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال: لأنهم فَسَّروه برجع مع التسبيح، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى.
وقرأ ابنُ عباس والحَسَنُ وقتادةُ وابنُ أبي إسحاق: أُوبِي بضم الهمزة أمراً من آبَ يَؤُوبُ أي ارجع معه بالتسبيح.
قوله: «والطير» العامة على نصبه وفيه أوجه:
أحدهما: أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً.
الثاني: أنه مفعول معه قاله الزجاج. ورد عليه بأنه قبله لفظ «معه» ولا يقتضي العامل أكثرَ من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال: جَاءَ زَيْدٌ مَعَ بَكْرٍ مَعَ عَمْروٍ قال شهاب الدين: وخلافهم في تَقَصِّيه حالين يقتضي مجيئه هنا.
الثالث: أنه عطف على «فضلاً»، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتَسْبِيح الطير.
21
الرابع: أنه منصوب بإضمار فعل أي سَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ. قاله أبو عمرو، وقرأ السُّلَميُّ والأعرجُ ويعقوبُ وأبو نوفل وأبو يَحْيَى وعاصمٌ - في رواية - والطَّيْرُ بالرفع، وفيه أوجه: النسق على لفظ «الجبال» وأنشد:
٤١١٤ - أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا فَقَدْ جَوزتُمَا خَمَرَ الطَّرِيق
بالوجهين، وفي عطفِ المفرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب، الثاني: عطفه على الضمير المستكن في «أَوِّبِي» وجاز ذلك، للفصل بالظرف، والثالث: الرفع على الابتداء والخبر مضمير أي والطيرُ كذلك أي مؤوبةٌ.

فصل


لم يكن الموافقون له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجُمُود والطير للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشَدّ قسوة.
قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصَدَاها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل: كان داود إذا تخلل الجبال
22
فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح. وقيل: كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له.
قوله: «وَأَلَنَّا» عطف على «آتَيْتَا» وهو من جملة الفَضْل، قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يعطف على «قلنا» في قوله ﴿ياجبال أَوِّبِي..... وَأَلَنَّا﴾.

فصل


ألان الله تعالى له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مِطْرَقَةٍ وذلك في قدرت الله يسير، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان الله له الحديدَ وعلمه صنعة اللَّبُوس وهي الدرع وأنه أول من اتخذها. وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزَّرَّاد خيرمن القوَّاس والسَّيَّاف وغيرهما؛ لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح رُبَّمَا يستعمل في قتل النفس المحرمة، بخلاف الدَّرع قال عليه (الصلاة و) السلام: «كَانَ دَاوُدُ لاَ يَأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».
قوله: ﴿أَنِ اعمل﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنها مصدرية على حذف الجر أي لأَنْ.
والثاني: قاله الحَوْفيُّ وغيره إنها مفسرة لقوله: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ﴾ ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم يتقدم إلا «أَلَنَّا»، واعتذر بعضهُم عن هذا بأن قَدَّر ما هو بمعنى القول أي وأَمَرْنَاهُ أَنْ اعْمَلْ. ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وقرئ: «صَابِغَاتٍ» لأجل الغين وتقديم تقديره في لقمان عند «وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ».
23

فصل


معنى «سابغات» أي كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض. وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف.
قوله: ﴿وَقَدِّرْ فِي السرد﴾ والسرد: نسيج الدُّرُوع يقال لصانعه: السَّرَّاد «الزَّرَّاد.
والمعنى قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحَلَق ولا دقاقاً فتُغَلْغِل فيها. ويقال السرد المسمار في الحَلَقة، يقال: درع مسْرُودَة أي مَسْمُورَة الحَلَق. قودر في السَّرد أي اجعله على القصدِ وقدْرِ الحاجة، ويحتمل أ، يقال السَّرد هو عمل الزرد.
وقوله: ﴿وَقَدِّرْ فِي السرد﴾ أي إنكم غيرمأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب (إنما) يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب.
ويدل عليه قوله تعالى: ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ولاكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ يريد بهذا والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ يريد بهذا داود وآله، ثم لما ذكر المنيب الواحد منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: ٣٤] ذكر ما ساتفاد من الإنابة وهو قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح﴾ العامة على النصب بإضمار فعل، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء، والخبر في الجار قبله أو محذوف، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني بالجار، وليس بقويّ لعدم اعتماده وكان قد وافقه في الأنبياء غيره،
24
وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد. والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ الرِّيَاح جمعاً. وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك.
فإن قيلَ: الواو في قوله: «وَلِسُلَيْمَانَ» للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ؟
فالجواب: أنه لما بين حال داود فكأنه قال: لما ذكر لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الحديد﴾ (كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ) وسخرنا لسليمان الريح.
قوله: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ، ولو نصب لجاز، إلا أنه لم يُقْرأ بها فيما علمنا، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا ورحتُها على المرّة، والجملة إما مستأنفة، وإما في محلِّ حالٍ.

فصل


المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر، وسير رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين. قال الحسن: كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر _وبينهما مسية شهر، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبيت بكَابُل) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل: كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الجبال معَ داوُودَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال: يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا: لسليمان باللام؟
فالجواب: أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِيفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ.
25
قوله: " وأرسلنا له عين القطر " أي أذبنا له عين النحاس. والقطر: النحاس، قال المفسرون: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجري المياه، وكان بأرض اليمن. وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان. قوله:: ﴿مَنْ يَعْمَلُ﴾ أي أذبْنَا له عين النُّحاس. والقِطْرُ: النحاسُ قال المفسرون: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه. وكان بأرضِ اليمن.
وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ.
قوله: ﴿﴾ يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ و «مِنَ الجِنِّ» يتعلق بهذا المقدر، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان، و «بإذن» حال أي مُيسّراً بإذن ربه، والإذن مصدر مضاف لفاعله، وقرئ: «وَمَنْ يَزُغْ» بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ، أي يُمِيلُها و «مِنْ عَذَابٍ» لا بتداء الغاية أو للتبعيض.

فصل


قال ابن عباس: سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة، وقيل: في الدنيا وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ.
قوله: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ﴾ مفسر لقوله: «مَنْ يَعَمَلُ» و «مِنْ مَحَارِيبَ» بيان ل «مَا يَشَاءُ» والمراد بالمحاريب: المساجد والأبنية المرتفعة، وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فمجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل
26
ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفة وتصييرها ألواحاً وإصاحاً تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بين أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بين إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثُّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُوا أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ»
قَالُوا: فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخنتصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر.
قوله: ﴿وَتَماثِيلَ﴾ وهي النقوش التي تكون في الأبنية. وقيل: صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ وزُجَاج ورُخَام. قيل: كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور. وقيل: كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزداودوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً.
قوله: ﴿وَجِفَانٍ كالجواب﴾ الجِفَانُ القِصَاعُ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء «الجَوَابِ»
27
وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً. والباقون بحذفها في الحالين و «كَالْجَوَابِ» صفة «لِجفَانٍ» والجِفَانُ جمع جَفْنَة، والجَوَابِي جمعُ جَابيةٍ كَضاربة وضَوَارب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبي إليها الماءُ، أي يجمع وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل: خَابِيَة، لما يُخبَّأُ فيها قال الشاعر:
٤١١٥ - بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ
كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً لِقِرَى الأضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ
وقال الأعشى:
٤١١٦ - نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ كَجَابِيةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ
وقال الأفوه:
٤١١٧ - وَقُدُورِ كَالرُّبَا رَاسِيَة وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه
قيل: كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
28

فصل


وقُدُورٍ راسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إلهيا بالسلاليم وكانت باليمن.
قوله: ﴿اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ في «شكراً» أوجه:
أحدهما: أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ سميت الصلاة ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ.
الثاني: أنه مصدر من معنى «اعْمَلُوا» كأنه قي: اشْكُرُوا شكراً بعَمَلِكُمْ أو اعملوا عَمَلَ شُكْر.
الثالث: أنه مفعول من أجله أي لأجل الشكر كقولك: جِئْتَكَ طَمَعاً، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه.
الرابع: أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ.
الخامس: أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا شُكْراً.
السَّادس: أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعلمُوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ قال المفسرون: معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمة، والعم أن كما قال عقيب قوله (تعالى) ﴿َنِ اعمل سَابِغَاتٍ﴾ ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستفرقةً في هذه الأشياء، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً.
قوله: «وَقَلِيلٌ» خبر مقدم «ومِنْ عِبَادي» صفة له، «والشَّكُورُ» مبتدأ المعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي قليلٌ. قيل: المراد من آل داود هو داود نفسه، وقيل: داود وسليمان وأهل بيته.
29

فصل


قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان: سمعت ثابتاً يقول: كان داود نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي.
قوله: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت﴾ أي على سليمان، قال أهل العلم: كان سليمان - عليه السلام - يتحرز ببيت المقدس السَّنَّة والسَّنَتَيْنِ والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشاربه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نَبَتَتْ في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك؟ فتقول اسمي كذا فيقول: لأن شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فَإنْ كَانَتْ تنبت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت؟ قال الخرّوبة قال: لأي شيء نَبَتْت؟ قالت: لخراب مَسْجِدِك فقال سليمان: ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وَجْهِك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللَّهُمَّ عَمَّ على الجنِّ موتى حتى يعمل الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعملمون من العيب أشياء ويعلمون ما في غد، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بني يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَان فخرَّ ميتاً فعلموا بموته، قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله: ﴿مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ﴾ «تَأكل منسأته» أي عصاه.
قوله: «تَأكُلُ» إما حال، أو مستأنفة وقرأ ابن ذَكْوَان منسأْتَهُ - بهمزة ساكنة
30
ونافع وأبو عمرو بألف محضفة، والباقون بهمزة مفتوحة، والمِنْسَأةُ اسم آلة من نَسأَهُ أي أخَّرَهُ كالمكسحة والمِكْنَسة من نسأتُ الغنم أي زجرتها وستقتها، ومنه: نَسَأَ اللَّهُ في أجَلِهِ أي أَخَّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد:
٤١١٨ - أَمِنَ أَجْل حَبْلٍ لاَ أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ بمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلاَ
(والألف) وهو لغة الحجاز وأنشد:
٤١١٩ - إذَا دَبَبْتَ عَلَى المِنْسَأةِ مِن كِبَرٍ فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ
فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مِفْعَلَةٍ كمِكَنَسَةٍ وأما سكونها ففيه وجهان:
أحدهما: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العَأَلَمُ والخَأتَمُ وقوله:
٤١٢٠ -...................... وخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَألَمِ
ذكره ابن مالك قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه
31
هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضاً فإنهم نصُّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن ان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف.
وأنشد ابن عصفور على ذلك:
٤١٢١ - وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً....................................
قال: الأصل زَوْزاةٌ وأصل هذا: زَوْزَوَةٌ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المتفوحة فتعود إلى الأول وهذا لايقال.
الثاني: أنه سكن الفتحة تخفيفاً والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها، ويحسنه هنا أن الهَمْزَة تشبه حروف العلة، وحرف العلة يستثقل عليه الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها، وأنشدوا على تسكين همزتها:
٤١٢٢ - صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهِ كَقوْمَةِ الشَّيْخِ إلَى مِنْسأتِهِ
وقد طعن قوم على القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا: لأن قياس تخفيفها إنما هو تَسْهيلُها بَيْنَ بَيْنَ وبه قرأ ابنُ عامر وصاحباهُ فظن الراوي أنهم
32
سكنوا وضعفها أيضاً بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف وأما قراءة الإبدال فقيل: هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة فلا يلتفت لمن طعن، وقد قال أبو عمرو وكفى به: أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره. وقرئ مَنْسَأتَه بفتح الميم مع تحيق الهمز، وإبدالها ألفاً وحذفها تخفيفاً وقرئ مِنْسَاءَتِهِ نزنة منعالته كقولهم: مِيضَأةٌ ومِيضَاءَةٌ ولكها لُغات، وقرأ ابن جبير من ساته فَصَل «مِنْ» وجعلها حرف جر وجعل «ساته» مجرورة بها والسَّاةُ والسِّيَةُ هنا العَصَا وأصلها يَدُ القَوْس العليا والسفلى يقال: سَاةُ القَوْسِ مثلُ شَاةٍ وسِئَتُها فسمِّيت العصا بذلك على وجه الاستعا ة والمعنى تأكل من طرف عصاه. ووجه بذلك - كما جاء في التفسير - أنه اتَّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتُّكِيءَ عليها تصير كالقَوْس في الاعْوِجاج غالباً. و «سَأَة» فَعَلَة نحو قحَة وقحة والمحذوف لامهما وقال ابن جني: سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فَلَة والعين محذوفة قال شهاب الدين: وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أُبْدِلَتْ.
33
قوله: «دَابَّةُ الأرض» فيه وجهان:
أظهرهما: أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأَرَضة دُوَيبَّة تأكل الخَشَب.
والثاني: أن الأرض مصدر لقولك أَرَضَيتِ الدابَّة الخَشَبَة تَأرِضُهَا أَرْضاً أي أكلتها فكأنه قيل: دابة الأكل يقال: أرَضَت الدَّابَّةُ الخَشَبَة تَأرُضُها أَرْضاً فأرِضَتْ بالكسر تَأْرَضُ هي بالفتح أيضاً وأكَلت الفَوَازجُ الأسْنَانَ تَأكُلُها أكْلاً فَأَكِلَتْ هي بالكسر تَأكَلُ أكَلاً بالفتح.
ونحوه أيضاً: جِدِعَتْ أَنْفُهُ جَدَعاً فجُدِعَ هو جَدَعاً بفتح عين المصدر، وقرأ ابن عباس والعباس بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القرءاة المشهورة وقيل: الأَرَضُ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أرَضَةٍ وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابِّ.
قوله: ﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾ أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه - الصلاة و) السلام، وقيل: عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل: بل أكلت عبتة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحَّ؛ إذ كان التركيب خرَّتْ بتاء التأنيث و: أبْقَلَ إبْقَالَها ضرورة، أو نادر تأويلها بمعنى العَوْد أندر منه.
قوله: ﴿تَبَيَّنَتِ﴾ العامة على نيابته للفاعل مسنداً للجنِّ وفيه تأويلاتٌ.
أحدهما: أنه على حذ مضاف تقديره تَبَيَّنَ أمْرُ الجِنِّ أي ظَهَرَ وبَانَ و «تَبَيَّنَ» يأتي بمعنى «بَانَ» لازماً كقوله:
34
فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث (به).
وقوله « ﴿أَن لَّوْ كَانُواْ﴾ بتأويل المصدر مرفوعاً بدلاً من الجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ.
الثاني: أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ.
الثاني: أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنّ فاعل. ولا حاجة إلى حذف مضاف و»
أَنْ لَوْ كَانُوا «بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك: بَانَ زَيْدٌ جَهْلُهُ.
الثالث: أن تَبَيَّنَ هنا متعدِّ بمعنى أدْرَكَ وعَلم وحينئذ يكون المراد»
بِالجِنِّ «ضَعَفَتُهُمْ وبالضمير في» كانوا «كبارُهم ومَرَدَتُهُمْ و» أنْ لَّوْ كَانُوا «مفعول به، وذلك أن المردة (و) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خَرَّ سليمانُ مَيْتاً كما ادعوا ما مَكَثُوا في العذاب، ومن مجيء» تَبَيَّنَ متعدياً بمعنى أدْرَكَ قوله:
٤١٢٣ - تَبَيَّنَ لِي أَنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ وأَنَّ أَعِزَّاء الرِّجَالِ طِيَالُهَا
٤١٢٤ - أفَاطِم إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيِّنِي وَلاَ تَجْزَعِي كُلُّ الأَنَامِ يَمُوتُ
وفي كتاب أبي جَعْفَر ما يقتضي أن بعضم قرأ: «الجنَّ» بالنصب وهي واضحة أي تبينت الإنسُ الجِنَّ، و «أن لو كانوا» بدل أيضاً من «الجن»، قال البغوي: قرا ابنُ مسعود وابنُ عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنسُ وأيقنت ذلك وقرأ ابنُ عباس ويعقوب تُبُيِّنَتِ الجِنُّ على
35
البناء للمفعول وهي مؤيدة لما نقله النَّحَّاس وفي الآية قراءاتٌ كثيرةٌ أضْرَبْتُ علها لمخالفتها الشواذ وأن «في» أن لو «الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و» لو «فاصلة بينهما وبين خبرها الفعليّ وتقدم تحقيق ذَلك كقوله:
﴿وَأَلَّوِ استقاموا﴾ [الجن: ١٦] و ﴿أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ﴾ [الأعراف: ١٠٠] وقال ابن عطية: وذهب سيبويه إلى أَنَّ «أَنْ»
لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما يَنْزِلُ مَنْزِلَة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ مَحَلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب «لو» وعلى الأقولا الأُول يكون جوابها. قال شهاب الدين: وظاهر هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطِّرَادِ زيادتها قبل لو في حَيِّز القَسَم.
وللناس خلاف هل الجواب لِلَوء أو للقسم. والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذُو خَبَر كما تقدم بيانه.
وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة النمل.

فصل


المعنى أن سليمان لما سقط ميتاً تَبَيَّنَت الجِنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي التَّعَب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب
36
لغلبة الجهل عليهم وذكر الزُّهْريُّ أن معنى تَبَيَّنّت الجِنُّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة، وقوله: ﴿مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين﴾ يدل على أن المؤمنين من الجنِّ لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النَّبِيِّ في العذاب المهين.

فصل


رُوِيَ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسينَ سنة ومدة ملكه أربعونَ سنة ومَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاثَ عَشْرَة سَنَةً وابتدأ في بناء بين المقدس لأربع سنين مضين من ملكه.
37
قوله :﴿ أَنِ اعمل ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنها مصدرية على حذف الجر١ أي لأَنْ٢.
والثاني : قاله الحَوْفيُّ وغيره إنها مفسرة لقوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل٣ سَابِغَاتٍ ﴾ ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم يتقدم٤ إلا «أَلَنَّا »، واعتذر بعضهُم عن هذا بأن قَدَّر ما هو بمعنى القول أي وأَمَرْنَاهُ أَنْ اعْمَلْ. ولا ضرورة تدعو إلى ذلك٥، وقرئ :«صَابِغَاتٍ٦ » لأجل الغين وتقدم تقديره في لقمان عند «وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ».

فصل


معنى «سابغات » أي كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض. وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف٧.
قوله :﴿ وَقَدِّرْ فِي السرد ﴾ والسرد : نسيج الدُّرُوع يقال لصانعه : السَّرَّاد » الزَّرَّاد.
والمعنى قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر٨ الحَلَق ولا دقاقاً فتُغَلْغِل فيها. ويقال السرد المسمار في الحَلَقة، يقال : درع مسْرُودَة أي مَسْمُورَة الحَلَق. وقدر في السَّرد أي اجعله على القصدِ وقدْرِ الحاجة، ويحتمل أن يقال السَّرد هو عمل الزرد٩.
وقوله :﴿ وَقَدِّرْ فِي السرد ﴾ أي إنك غيرمأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب ( إنما )١٠ يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب.
ويدل عليه قوله تعالى :﴿ واعملوا صَالِحاً ﴾ أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله :﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ يريد بهذا داود وآله،
١ في "ب" حرف الجر..
٢ مشكل الإعراب لمكي ٢/٢٠٤ والتبيان ١٠٦٤ والبيان ٢/٢٧٦ ومعاني الزجاج ٤/٢٤٤..
٣ المراجع السابقة..
٤ الدر المصون ٤/٤١٧..
٥ لعله أبو حيان فقد وجدت هذا الاعتذار في بحره ٧/٢٦٣..
٦ لم تنسب إلا في الشواذ للكرماني فقد نسبها لزيد بن علي : انظر: الشواذ ١٩٧ وانظر: القرطبي ٤/٢٦٧ والكشاف ٣/٢٨٢ والبحر ٧/٢٦٣..
٧ قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٤٣٦..
٨ في "ب" فتنكسر..
٩ غريب القرآن ٣٥٤ والبحر ٧/٢٥٥، واللسان زرد وزرط ومجاز القرآن ٢/١٤٣، ومعاني الزجاج ٤/٢٤٤..
١٠ زيادة من "ب"..
ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى :﴿ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ ﴾ [ ص : ٣٤ ] ذكر ما استفاد من الإنابة وهو قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الريح ﴾ العامة على النصب بإضمار فعل، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء١، والخبر في الجار قبله أو محذوف٢، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني٣ بالجار، وليس بقويّ٤ لعدم اعتماده٥ وكان قد وافقه في الأنبياء٦ غيره٧، وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد. والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ٨ الرِّيَاح جمعاً. وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك.
فإن قيلَ : الواو في قوله :«وَلِسُلَيْمَانَ » للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ ؟
فالجواب : أنه لما بين حال داود فكأنه قال : لما ذكرنا لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد ﴾ ( كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ )٩ وسخرنا لسليمان الريح١٠.
قوله :﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ﴾ مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ، ولو نصب لجاز، إلا أنه لم يُقْرأ بها١١ فيما علمنا١٢، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا وروحتُها على المرّة١٣، والجملة إما مستأنفة، وإما في محلِّ حالٍ١٤.

فصل


المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر، وسير١٥ رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين. قال الحسن : كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر ( وبينهما مسيرة١٦ شهر، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبيت بكَابُل ) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع١٧، وقيل : كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ١٨.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الجبال معَ داوُودَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال : يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا : لسليمان باللام ؟
فالجواب : أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ١٩.
قوله :﴿ وأسلنا له عين القطر ﴾ أي أذبْنَا له عين النُّحاس. والقِطْرُ : النحاسُ٢٠، قال المفسرون : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه. وكان بأرضِ اليمن. وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ٢١.
قوله :﴿ مَنْ يَعْمَلُ ﴾ يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ٢٢ و «مِنَ الجِنِّ » يتعلق بهذا المقدر، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان، و «بإذن » حال أي مُيسّراً بإذن ربه٢٣، والإذن مصدر مضاف لفاعله، وقرئ :«وَمَنْ يَزُغْ » بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ٢٤، أي يُمِيلُها و «مِنْ عَذَابٍ » لابتداء الغاية أو للتبعيض.

فصل


قال ابن عباس : سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة٢٥، وقيل : في الدنيا٢٦ وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ.
١ ذكره في الكشف ٢/٢٠٧ والنشر ٢/٣٣٥ والإتحاف ٣٥٨ والسبعة ٥٢٧..
٢ ذكره ابن الأنباري في البيان ٢/٢٧٦ وأبو البقاء في التبيان ١٠٦٤ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٤٥ والفراء في معاني القرآن ٢/٣٥٦ ذكر الرفع قراءة ولم يحدد..
٣ المرجع السابق وقد جعله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه فاعلا لفعل محذوف ٤/٢٤٥ قال: "والرفع على معنى ثبت له الريح"..
٤ الدر المصون ٤/٤١٨..
٥ أي على نفي أو استفهام، كقولنا: أقائم الزيدان، أو ما قائم الزيدان، أو يريد بعدم اعتماده يعني عدم معرفة اللغة والقياس به..
٦ يقصد قوله: ﴿ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره﴾ وهي الآية ٨١ من الأنبياء..
٧ لعله ابن هرمز في رواية عنه البحر المحيط ٦/٣٣٢..
٨ ويقال: إياس بن صخر بن أبي الجهم عبيد بن حذيفة أبو الهيثم العدوي المدني روى عن ربيعة، وسعد المقري. لم تذكر وفاته انظر: التهذيب ٣/٨٠ وانظر القراءة في مختصر ابن خالويه ١٢٣ والإتحاف ٣٥٨ وزاد المسير ٦/٤٣٨..
٩ سقط من "ب"..
١٠ قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٥/٢٤٧..
١١ في "ب" به بالتذكير وكلتاهما صحيحتان..
١٢ قاله أبو حيان والمين في تفسيريهما الأول في البحر ٧/٢٦٤، والثاني في الدر ٤/٤١٨..
١٣ المرجعان السابقان وجاء بها صاحب الكشاف ولم يعزها إلى معين. انظر: الكشاف ٣/٢٨٢، بينما عزاها الكرماني في شواذ القرآن لابن أبي عبلة. الشواذ ١٢٩٦، وهي من القراءات الشاذة..
١٤ ذكر وجه الاستئناف مكي في المشكل ٢/٢٠٤، بينما ذكر وجه الحالية أبو البقاء في التبيان ١٠٦٤ و ١٠٦٥ وإنما احتيج إلى تقدير مضاف لأن الغدو والرواح ليسا بالشهر وإنما يكونان فيه..
١٥ في "ب" مسيرة..
١٦ ما بين القوسين سقط من "ب"..
١٧ في "ب" المسرح..
١٨ تفسير البغوي ٦/٢٨٤..
١٩ الفخر الرازي ٢٥/٢٤٧..
٢٠ غريب القرآن ٣٥٤ ومجازه لأبي عبيدة ٢/١٤٣..
٢١ انظر: زاد المسير ٦/٤٣٨ والخازن والبغوي ٥/٢٨٤ والقرطبي ١٤/٢٧٠..
٢٢ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٦٥، وابن الأنباري في البيان ٢/٢٧٦ و ٢٧٧. والأخفش يجيز أن يكون "من يعمل" في موضع رفع بالجار والمجرور، انظر: البيان المرجع السابق، وقيل: "من" في موضع نصب على العطف على معمول "سخرنا له من الجن من يعمل". انظر مشكل الإعراب لمكي ٢/٢٠٥..
٢٣ الدر المصون ٤/٤١٩..
٢٤ قال عنهما ابن خالويه في المختصر ١٢١: "ومن يزغ" بعضهم. وأطلقت كلية في البحر ٧/٢٦٥ والكشاف ٣/٢٨٢ دون ضبط..
٢٥ هذا رأي الضحاك..
٢٦ هذا رأي مقاتل انظر: زاد المسير ٦/٤٣٩..
قوله :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ ﴾ مفسر لقوله :«مَنْ يَعَمَلُ » و «مِنْ مَحَارِيبَ » بيان ل «مَا يَشَاءُ١ ». والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة، وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى الله إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بني إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :«لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثًّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُو أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ ». قَالُوا : فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر٢.
قوله :﴿ وَتَماثِيلَ ﴾ وهي النقوش التي تكون في الأبنية. وقيل : صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ٣ وزُجَاج ورُخَام. قيل : كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور. وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً٤.
قوله :﴿ وَجِفَانٍ كالجواب ﴾ الجِفَانُ القِصَاعُ٥، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء «الجَوَابِ » وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً. والباقون بحذفها في الحالين٦. و «كَالْجَوَابِ » صفة «لِجفَانٍ ». والجِفَانُ جمع جَفْنَة، والجَوَابِي جمعُ جَابيةٍ كَضاربة وضَوَارب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبى إليها الماءُ، أي يجمع٧ وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل : خَابِيَة، لما يُخبَّأُ فيها٨ قال الشاعر :
٤١١٥- بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا. . . مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ٩
كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً. . . لِقِرَى الأضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ
وقال الأعشى :
٤١١٦- نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ. . . كَجَابِيةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ١٠
وقال الأفوه :
٤١١٧- وَقُدُورِ كَالرُّبَا رَاسِيَة. . . وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه١١
قيل : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.

فصل


وقُدُورٍ راسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم١٢ وكانت باليمن١٣.
قوله :﴿ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾ في «شكراً » أوجه :
أحدها : أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ١٤ سميت الصلاة١٥ ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ.
الثاني : أنه مصدر من معنى «اعْمَلُوا » كأنه قيل : اشْكُرُوا١٦ شكراً بعَمَلِكُمْ١٧ أو اعملوا١٨ عَمَلَ شُكْر.
الثالث : أنه مفعول من١٩ أجله أي لأجل الشكر كقولك : جِئْتَكَ طَمَعاً، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه.
الرابع : أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ٢٠.
الخامس : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا٢١ شُكْراً.
السَّادس : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعملوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ٢٢. قال المفسرون : معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمه، واعلم أنه كما قال عقيب قوله ( تعالى ) :﴿ أنِ اعمل سَابِغَاتٍ ﴾ ﴿ اعملوا صَالِحاً ﴾ قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملوا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقةً في هذه الأشياء، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً٢٣.
قوله :«وَقَلِيلٌ » خبر مقدم «ومِنْ عِبَادي » صفة له، «والشَّكُورُ » مبتدأ٢٤.  والمعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي٢٥ قليلٌ. قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه، وقيل : داود وسليمان وأهل بيته٢٦.

فصل


قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان٢٧ : سمعت ثابتاً٢٨ يقول : كان داود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي٢٩.
١ الدر المصون ٤١٩ ج ٤..
٢ ذكر هذه القصة البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٨٤ وكذلك الخازن ٥/٢٨٤..
٣ الشبه ضرب من النحاس يلقى عليه دواء فيصفر سمي به لأنه إذا فعل به ذلك أشبه الذهب بلونه..
٤ أورد هذه الأقوال ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٤٣٩، وكذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٤/٢٧٢..
٥ زاد المسير ٦/٤٣٩، وقال في اللسان: "الجفنة معروفة أعظم ما يكون من القصاع والجمع جفان وجفن" وانظر: اللسان ٦٤٤ جفن..
٦ قاله ابن الجزري في النشر ٢/٣٤٩ ومكي في الكشف ٢/٢٠٣ وانظر الإتحاف ٣٥٨ والسبعة ٥٢٧، وزاد المسير ٦/٤٤٠..
٧ معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٤٦ ومعاني الفراء ٢/٣٥٦ ومجاز القرآن لأبي عبيدة ٢/١٤٤ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٥٤. .
٨ الدر المصون ٤/٤١٩..
٩ البيت ورد مكررا في الخصائص لابن جني ولكن بتغيير طفيف فيه وهو لطرفة من الرمل فقد أنشد في الخصائص في ١/٢٨١ "بفي جفان" وفي ٢/٢٥٤ و ٣ /٢٠٠ بالباء "بجفان". وأنشده ابن منظور في اللسان بالباء والصنبر: الريح الباردة، والسديف السنام ومترعة مملوءة. وهو هنا يفتخر بأهل الكرم والعطاء وقرى الأضياف: إطعامهم. واستشهد بالبيت على أن الجفان هي القصاع العظيمة التي تشبه الجوابي والحياض الممتلئة ماء. وانظر: اللسان: "ص ن ب ر" ٢٥٠٦ والبحر المحيط ٧/٢٥٤ والمحتسب لابن جني ٢/٨٣والممتع ٧١، والديوان ٥٦..
١٠ البيت له من قصيدة في ديوانه ١٢١ وهو من تمام الطويل وقد ورد البيت في اللسان جبى ٥٤٢ برواية "تروح على آل المحلق". وشاهده كسابقه حيث إن الجابيه هي الحوض العظيم وحيث قد شبه الجفنة بها وهنا يتحقق قول الله من تشبيه: "وجفان كالجواب". وانظر غريب القرآن لابن قتيبة ٣٥٤ بنفس رواية اللسان ١٤/٢٧٥ والبحر المحيط ٧/٢٥٥ وابن جرير ٢٢/٤٩ كما ورد مكررا أيضا في اللسان: "ف هـ ق" والفهق الامتلاء، وخص العراقي، لجهله بالمياه لأنه حضري..
١١ من الرمل. وشاهده كسابقيه. ويروى "راسيات" بدل راسية. والبيت ليس بديوانه. وانظر: البحر المحيط ٧/٢٥٥ وما في الديوان:
ثم فينا للقرى نار ترى
عندها للضيف رحب وسعه
(الديوان ٢٠)..

١٢ في "ب" السلالم..
١٣ وقال ابن قتيبة في الغريب: "يقال رسا إذا ثبت فهو يرسو ومنه قيل للجبال رواس" الغريب ٣٥٤..
١٤ البحر المحيط ٧/٢٦٤ والدر المصون ٤/٤٢٠..
١٥ في "ب" الطاعة بدل الصلاة..
١٦ المرجعان السابقان..
١٧ في "ب" لعملكم..
١٨ في "ب" (و) بدل (أو)..
١٩ المرجعان السابقان وينظر أيضا التبيان ١٠٦٥ والبيان لابن الأنباري ٢/٢٧٧..
٢٠ البحر والدر المرجعان السابقان..
٢١ التبيان ١٠٦٥ مع البحر والدر..
٢٢ السابق وانظر الفخر الرازي ٢٥/٢٤٩..
٢٣ السابق..
٢٤ الدر المصون ٤/٤٢٠..
٢٥ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٨٥..
٢٦ السابق..
٢٧ هو جعفر بن سليمان الضبعي أبو سليمان البصري عن ثابت والجعد مات سنة ١٧٨ هـ انظر: خلاصة الكمال ٦٣..
٢٨ ثابت بن أسلم البناني أحد الأعلام مولاهم أبو محمد البصري عن ابن عمر، وعبد الله بن مغفل له مائتين وخمسين حديثا مات سنة ١٢٧ انظر: خلاصة الكمال ٥٦..
٢٩ البغوي والخازن ٥/٢٨٥..
قوله :﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت ﴾ أي على سليمان، قال أهل العلم : كان سليمان- عليه السلام- يتحرز١ ببيت المقدس السَّنَّة والسَّنَتَيْنِ والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نَبَتَتْ٢ في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك ؟ فتقول اسمي كذا فيقول : لأن شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فَإنْ كَانَتْ تنبت٣ لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت ؟ قالت الخرّوبة قال : لأي شيء نَبَتْت٤ ؟ قالت : لخراب مَسْجِدِك فقال سليمان : ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وَجْهِك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللَّهُمَّ عَمَّ على الجنِّ موتي حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته وينظرون إلى سليمان فيرونه قائما متكئا على عصاه فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَان فخرَّ ميتاً فعلموا بموته٥، قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله :﴿ مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ ﴾ وهي الأرضة٦ «تَأكل منسأته » أي عصاه٧.
قوله :«تَأكُلُ » إما حال، أو مستأنفة٨، وقرأ ابن ذَكْوَان منسأْتَهُ - بهمزة٩ ساكنة ونافع وأبو عمرو بألف محضة١٠، والباقون بهمزة مفتوحة١١، والمِنْسَأةُ اسم آلة من نَسأَهُ أي أخَّرَهُ كالمكسحة والمِكْنَسة من نسأتُ الغنم أي زجرتها وسقتها، ومنه : نَسَأَ اللَّهُ في أجَلِهِ١٢ أي أَخَّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد :
٤١١٨- أَمِنَ أَجْل حَبْلٍ لاَ أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ. . . بمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلاَ١٣
( والألف )١٤ وهو لغة الحجاز وأنشد :
٤١١٩- إذَا دَبَبْتَ عَلَى المِنْسَأةِ مِن كِبَرٍ. . . فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ١٥
فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مِفْعَلَةٍ كمِكَنَسَةٍ وأما سكونها ففيه وجهان :
أحدهما : أنه أبدل الهمزة ألفاً كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العَأَلَمُ والخَأتَمُ وقوله :
٤١٢٠-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَألَمِ١٦
ذكره ابن مالك١٧ قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضاً فإنهم نصُّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن كان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف١٨.
وأنشد ابن عصفور على ذلك :
٤١٢١- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٩
قال : الأصل زَوْزاةٌ وأصل هذا : زَوْزَوَةٌ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المفتوحة فتعود إلى الأول وهذا لا يقال٢٠.
الثاني : أنه سكن الفتحة تخفيفاً والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها، ويحسنه هنا أن الهَمْزَة تشبه حروف العلة، وحرف العلة يستثقل عليه٢١ الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها، وأنشدوا على تسكين همزتها :
٤١٢٢- صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهِ. . . كَقوْمَةِ الشَّيْخِ إلَى مِنْسأتِهِ٢٢
وقد طعن قوم على هذه القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا : لأن قياس تخفيفها٢٣ إنما هو تَسْهيلُها بَيْنَ بَيْنَ٢٤ وبه قرأ ابنُ عامر وصاحباهُ٢٥ فظن الراوي أنهم سكنوا وضعفها أيضاً بعضهم بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف٢٦. وأما قراءة الإبدال فقيل : هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها٢٧ إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة٢٨ فلا يلتفت لمن طعن، وقد قال أبو عمرو وكفى به : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز٢٩، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره. وقرئ مَنْسَأتَه بفتح الميم مع تحقيق الهمز٣٠، وإبدالها ألفاً وحذفها تخفيفاً٣١، وقرئ مِنْسَاءَتِهِ بزنة منعالته٣٢ كقولهم : مِيضَأةٌ ومِيضَاءَةٌ٣٣. وكلها لُغات، وقرأ ابن جبير٣٤ من ساته فَصَل «مِنْ »، وجعلها حرف جر وجعل «ساته » مجرورة بها٣٥، والسَّاةُ والسِّيَةُ هنا العَصَا وأصلها يَدُ القَوْس العليا والسفلى يقال : سَاةُ القَوْسِ مثلُ شَاةٍ وسِئَتُها٣٦، فسمِّيت العصا بذلك على وجه الاستعارة والمعنى تأكل من طرف عصاه. ووجه بذلك- كما جاء في التفسير - أنه اتَّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتُّكِيءَ عليها تصير كالقَوْس في الاعْوِجاج غالباً. و «سَأَة » فَعَلَة وسئة فِعلة نحو قحَة وقحة والمحذوف لامهما٣٧. وقال ابن جني : سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فَلَة والعين محذوفة٣٨. قال شهاب الدين : وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أُبْدِلَتْ٣٩.
قوله :«دَابَّةُ الأرض » فيه وجهان :
أظهرهما : أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأَرَضة دُوَيبَّة تأكل الخَشَب.
والثاني : أن الأرض مصدر لقولك أَرَضَتِ الدابَّة الخَشَبَة تَأرِضُهَا أَرْضاً أي أكلتها فكأنه قيل : دابة الأكل يقال : أرَضَت الدَّابَّةُ الخَشَبَة تَأرُضُها أَرْضاً فأرِضَتْ بالكسر تَأْرَضُ هي بالفتح أيضاً وأكَلت الفَوَازجُ الأسْنَانَ تَأكُلُها أكْلاً فَأَكِلَتْ هي بالكسر تَأكَلُ أكَلاً بالفتح.
ونحوه أيضاً : جِدِعَتْ أَنْفُهُ جَدَعاً فجُدِعَ هو جَدَعاً٤٠ بفتح عين المصدر، وقرأ ابن عباس والعباس٤١ بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القراءة المشهورة وقيل : الأَرَضُ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أرَضَةٍ وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابِّ٤٢.
قوله :﴿ فَلَمَّا خَرَّ ﴾ أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه – ( الصلاة٤٣ و ) السلام، وقيل : عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل : بل أكلت عتبة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحَّ ؛ إذ كان يكون التركيب خرَّتْ بتاء التأنيث و : أبْقَلَ إبْقَالَها٤٤ ضرورة، أو نادر٤٥ وتأويلها بمعنى العَوْد٤٦ أندر منه.
قوله :﴿ تَبَيَّنَتِ ﴾ العامة على نيابته للفاعل مسنداً للجنِّ وفيه تأويلاتٌ.
أحدها : أنه على حذف مضاف تقديره تَبَيَّنَ أمْرُ الجِنِّ أي ظَهَرَ وبَانَ٤٧، و «تَبَيَّنَ » يأتي بمعنى «بَانَ » لازماً كقوله :
٤١٢٣- تَبَيَّنَ لِي أَنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ. . . وأَنَّ أَعِزَّاء الرِّجَالِ طِيَالُهَا٤٨
فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث ( به )٤٩.
وقوله «﴿ أَن لَّوْ كَانُواْ ﴾ بتأويل المصدر مرفوعاً بدلاً من الجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ٥٠.
الثاني : أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنّ فاعل. ولا حاجة إلى حذف مضاف و «أَنْ لَوْ كَانُوا » بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك : بَانَ زَيْدٌ جَهْلُهُ٥١.
الثالث : أن تَبَيَّنَ هنا متعدِّ بمعنى أدْرَكَ وعَلم وحينئذ يكون المراد «بِالجِنِّ » ضَعَفَتُهُمْ وبالضمير في «كانوا » كبارُهم ومَرَدَتُهُمْ و «أنْ لَّوْ كَانُوا » مفعول به، وذلك أن المردة ( و ) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خَرَّ سليمانُ مَيْتاً ومكثوا بعده عاما في العمل تبينت السفلة من الجن أن المراد منهم لو كانوا يعلمون الغيب كما ادعوا ما مَكَثُوا في العذاب٥٢، ومن مجيء «تَبَيَّنَ » متعدياً بمعنى أدْرَكَ قوله :
٤١٢٤- أفَاطِم إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيِّنِي. . . وَلاَ تَجْزَعِي كُلُّ الأَنَامِ يَمُوتُ٥٣
وفي كتاب أبي جَعْفَر٥٤ ما يقتضي أن بعضهم قرأ :«الجنَّ » بالنصب٥٥. وهي واضحة أي تبينت الإنسُ الجِنَّ، و «أن لو كانوا » بدل أيضاً من «الجن »، قال البغوي : قرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنسُ وأيقنت ذلك٥٦. وقرأ ابنُ عباس ويعقوب تُبُيِّنَتِ الجِنُّ على البناء للمفعول٥٧. وهي مؤيدة لما نقله النَّحَّاس وفي الآية قراءاتٌ كثيرةٌ أضْرَبْتُ علها لمخالفتها الشواذ٥٨ وأن في «أن لو » الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و «لو » فاصلة بينها وبين خبرها الفعليّ٥٩. وتقدم تحقيق ذَلك كقوله :
﴿ وَأَلَّوِ استقاموا ﴾ [ الجن : ١٦ ] و ﴿ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ ﴾ [ الأعراف : ١٠٠ ] وقال ابن عطية : وذهب سيبويه إلى أَنَّ٦٠ «أَنْ » لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما يَنْزِلُ مَنْزِلَة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين٦١ ؛ لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ مَحَلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب «لو »٦٢ وعلى الأقوال الأُول يكون جوابها. قال شهاب الدين : وظاهر٦٣ هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطِّرَادِ زيادتها قبل لو في حَيِّز القَسَم٦٤.
وللناس خلاف هل الجواب لِلَوء أو للقسم. والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما٦٥ كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذُو خَبَر كما تقدم بيانه.
وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة٦٦ النمل.

فصل٦٧


المعنى أن سليمان لما سقط ميتاً تَبَيَّنَت الجِنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي في التَّعَب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب لغلبة٦٨ الجهل عليهم وذكر الزُّهْريُّ٦٩ أن معنى تَبَيَّنّت الجِنُّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة، وقوله :﴿ مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين ﴾ يدل على أن المؤمنين من الجنِّ لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النَّبِيِّ في العذاب المهين.

فصل٧٠


رُوِيَ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسينَ سنة ومدة ملكه أربعونَ سنة ومَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاثَ عَشْرَ
١ كذا هي هنا وفي "ب" يتحرر وما في البغوي يتجرد وهو الأصح..
٢ في "ب" ثبت..
٣ تثبت في "ب" أيضا..
٤ في "ب" والبغوي والخازن تنبت..
٥ انظر: تفسيري البغوي والخازن ٥/٢٨٥ و ٢٨٦..
٦ انظر: تفسيري البغوي والخازن ٥/٢٨٥ و ٢٨٦..
٧ ذكره ابن قتيبة في غريب القرآن ٢٥٤ و ٣٥٥ وأبو عبيدة في المجاز ٢/١٤٥..
٨ الدر المصون ٤/٤٢١..
٩ ذكرها ابن خالويه في المختصر ص ١٢١ عن ابن عامر في رواية..
١٠ السبعة ٥٢٩ والنشر ٢/٣٤٩ وحجة ابن خالويه ٢/٢٩٣ والإتحاف ٣٥٨..
١١ المراجع السابقة وانظر: معاني الفراء ٢/٣٥٦..
١٢ المرجع الأخير السابق وانظر: اللسان "ن س أ" ٤٤٠٤..
١٣ من الطويل ونسبه صاحب اللسان في مادة " ح ب ل" إلى أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس في ديوانه. وشاهده فيه استعمال "المنسأة" بتحقيق الهمز، وهذا لغة التميميين انظر: معاني الفراء ٢/٣٥٦ و ٣٥٧ واللسان: "ح ب ل" ونسأ في الصحاح للجوهري ومجاز القراء ٢/١٤٥ واللسان نسأ أيضا ٤٤٠٤ والقرطبي ١٤/٢٧٩، والمنصف ٢/٥٩..
١٤ سقط من "ب"..
١٥ البيت من البسيط ومجهول قائله فلم ينسبه صاحب اللسان ولا ابن جني وغيرهما وشاهده: عدم تحقيق الهمز في المنسأة وهذا على مذهب الحجازي، ودب الشيخ: مشى مشيا وئيدا. وروي البيت "من هرم" بدل: من كبر انظر: البحر المحيط ٧/٢٥٥ وابن جرير ٢٢/٥١ والقرطبي ١٤/٢٧٩، والبيان والتبيين ٣/٣١ والمنصف ٢/٥٩ والمحتسب ٢/١٨٧، واللسان: "ن س أ" ومجاز القرآن ٢/١٤٥، وفتح القدير ٤/٣١٧ ومجمع البيان ٧/٥٩٥..
١٦ هذا عجز بيت من الرجز للعجاج صدره:
يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي ...........................
ديوانه ٢٨٩. وقد روي: فخندف بدل من وخندف وهي أم جدة مدركة بن إلياس بن مضر. وهامة كل شيء رأسه والشاهد: همز الألف في "العالم" على لغة من يرى الهمز، وذلك قليل جدا لا ينقاس عليه لندرته استعمالا وانظر: شرح الشافيه لابن الحاجب ٣/٣٠٥ وشرح شواهدها ٣٠٤ و ٣٠٨، واللسان "ع ل م " ٣٠٨٥ وشرح المفصل لابن يعيش ١٠/١٣شرح الكافية الشافية ٦٦٣، و ٦٦٤ الممتع لابن عصفور ٣٢٤..

١٧ شرح الكافية الشافية له ٦٦٣ و ٦٦٤..
١٨ الدر المصون في علوم الكتاب المكنون له ٤/٤٢١، وهو المفهوم أيضا من كلام ابن عصفور في الممتع ١/٣٢٤ و ٣٢٥ حيث قال: "وتكون الهمزة ساكنة إلا أن تكون الألف في النية متحركة فإن الهمزة إذ ذاك تكون متحركة بالحركة التي للألف في الأصل"..
١٩ هذا صدر بيت من بحر البسيط وعجزه:
.......................... لما رأى أسدا في الغاب قد وثبا
وهو لابن كثوة والزوزأة من قولنا: زوزى إذا نصب ظهره وأسرع وهو على التشبيه أي أن هؤلاء الأعداء جبناء فقد هربوا وجدوا فيه كما يصنع من قلب النعام عندما يغرس في الأرض ويغور هاربا. واستشهد بالبيت في كلمة "زوزأة" من قلب الألف –المنقلبة أصلا من الواو- همزة والهمزة هذه قد أخذت حركة الواو والأصل هي الفتح. وقد تقدم..

٢٠ الدر المصون ٤/٤٢١..
٢١ في "ب" عليها بها التأنيثية..
٢٢ من الرجز لبعض الأعراب كما في إبراز المعاني ٦٥٢. والشاهد: "منسأته" حيث سكن الهمزة قبل تاء التأنيث ولا يكون الساكن قبلها إلا ألفا وهذا يؤيد قراءة من قرأ: "منسأته" وهو ابن ذكوان وقد روى الإمام القرطبي البيت:
وقائم قد قام تكأته .............................
البيت. القرطبي ١٤/٢٧٩ والبحر المحيط ٧/٢٦٧ والنشر لابن الجزري ٣٥٠ والدر المصون ٤/٤٢١..

٢٣ كذا هي هنا: "تخفيفها" وفي "ب" تحقيقها بالقاف..
٢٤ القرطبي ١٤/٢٧٩ وإبراز المعاني ٥٦٢ وبحر أبي حيان ٧/٢٦٧..
٢٥ هما هشام بن عمار مقرئ دمشق ت ٢٤٥ وابن ذكوان مقرئ الشام ت ٢٤٢ وانظر: المختصر لابن خالويه ١٢١ والنشر ٣٥٠ والإتحاف ٣٥٨..
٢٦ القرطبي ١٤/٢٧٩..
٢٧ في "ب" تحقيقهما..
٢٨ قال في "ب" ثانية..
٢٩ البحر المحيط ٧/٢٦٧. وجاءت بعبارات متفرقة ومختلفة في المعاني للفراء ٢/٣٥٧ والمحتسب لابن جني ٢/١٨٧ والقرطبي ١٤/٢٨٠..
٣٠ في "ب" الهمزة..
٣١ البحر لأبي حيان ٧/٢٦٧ والكشاف للزمخشري ٣/٢٨٣ وكل منهما لم يعزها إلى من قرأ بها..
٣٢ السابقان..
٣٣ ما يتوضأ منه أو فيه الرجل. وانظر اللسان: "و ض أ" ٤٨٥٥..
٣٤ هو سعيد بن جبير..
٣٥ ذكرها الفراء في معانيه ٢/٣٥٦ و ٣٥٧ وابن جني في المحتسب ٢/١٨٦ و ١٨٧ وابن خالويه في المختصر ١٢١..
٣٦ في اللسان: وسؤتها. اللسان سأى ١٩٠٧..
٣٧ انظر: الدر المصون ٤/٤٢٢ و ٤٢٣ ومعاني الفراء ٢/٣٥٧..
٣٨ لم أجد رأي أبي الفتح هذا في المحتسب وإنما وجدته: "وبعد فالتفسير إنما هو العصا لا سئة القوس وهب من "ن س أ" فإن كانت "الساة" من نسأت فهي "علة" والفاء محذوفة وهذا الحذف إنما هو من الضرب في المصادر نحو العزة والزنة وذلك مما فاؤه واو لا نون ولم يمرر بنا ما حذفت نونه وهي فاء وسئة القوس فعة واللام محذوفة كما ترى" المحتسب ٢/١٨٧..
٣٩ الدر المصون ٤/٤٢٣..
٤٠ انظر لسان العرب لابن منظور أرض ٦٢ والبحر المحيط ٧/٢٦٦ وكشاف الزمخشري ٣/٢٨٣ والحيوان للجاحظ ١/٣٠ و ٣/٣٧١ و ٧/١٤٥ والدر المصون ٤/٤٢٣..
٤١ العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد أبو الفضل الأنصاري البصري قاضي الموصل أستاذ حاذق ثقة كان من أصحاب أبي عمرو بن العلاء في القراءة مات سنة ١٨٦ هـ، انظر: غاية النهاية ١/٣٥٣، وانظر: قراءة العباس وغيره في البحر المحيط ٧/٢٦٦ والكشاف ٣/٢٨٣، ومختصر ابن خالويه ١٢١وهي من القراءات الشواذ غير المتواترة. .
٤٢ البحر المحيط والدر المصون ٧/٢٦٦ و ٤/٤٢٤..
٤٣ زيادة من "ب"..
٤٤ مضى قريبا وهو هنا يشير إليه بشاهد تأنيث الفعل أو عدم تأنيثه..
٤٥ المرجعان السابقان..
٤٦ الظاهر – كما في الدر المصون وكما هو مقتضى السياق –"العتبة"..
٤٧ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٦٥ والفراء في معانيه ٢/٣٥٧..
٤٨ من الطويل وهو لأنيف بن زبان النبهاني من طيء وفكرة الشاعر خطأ حيث يرى أن العزة في ضخامة الجسم طولا وعرضا. وجيء بالبيت استشهادا على أن "تبين" بمعنى بان وظهر والقماءة هي الصغر. وتبين هنا فعل لازم كما هو واضح. وفي البيت شاهد صرفي مشهور وهو جمعه "طويل" على طيال وليس على طوال وذلك فما ليس نحن فيه. انظر: شرح شواهد الشافية ٤/٢٨٥ و ٣٨٦ وشرح المفصل ١٠/٨٧ و ٨٨ و ٤/٤٥ والشافية ٣٨٥ والتصريح ٢/٣٧٩ والأشموني ٤/٣٠٤ والبحر المحيط ٧/٢٦٧ والمنصف ١/٢٤٢ والمحتسب ١/١٨٤ وتوضيح المقاصد ٦/٣٥ وديوان الحماسة البصرية ١/١١٩ واللسان: "طال" ٢٧٢٦..
٤٩ زيادة يقتضيها السياق..
٥٠ قاله أبو البقاء العكبري في التبيان ١٠٦٥ ومكي في مشكل الإعراب ٢/٢٠٦ والفراء في معاني القرآن ٢/٣٥٧ وابن الأنباري في البيان ٢/٣٧٧ وهو بدل اشتمال كقولهم: أعجبني زيد عقله، وظهر عمرو جهله ويجوز أن يكون "أن لو كانوا" في موضع نصب انظر: المراجع السابقة..
٥١ الدر المصون ٤/٤٢٤..
٥٢ انظر أبا حيان في البحر المحيط ٧/٢٦٧ والسمين في الدر ٤/٤٢٤..
٥٣ من الطويل وهو مجهول القائل وجيء به استشهادا على أن "تبين" قد تعدى للمفعول وهو الياء وهو بمعنى أدركيني. وانظر البحر المحيط والدر المصون المرجعين السابقين..
٥٤ يقصد أبا جعفر النحاس صاحب إعراب القرآن وقد مر ترجمته..
٥٥ انظر إعراب القرآن للنحاس ٣/٣٣٨..
٥٦ معالم التنزيل له ٥/٢٨٦..
٥٧ المرجع السابق وانظر: مختصر ابن خالويه ١٢١ والبحر المحيط ٧/٢٦٨ وهي عشرية متواترة. انظر: شرح طيبة النشر ٣٧٨، والإتحاف ٣٥٨، والنشر ٢/٣٥٠، وتقريب النشر ١٦٢..
٥٨ ومن ذلك ما قاله الزمخشري في الكشاف عن الضحاك "تباينت الإنس بمعنى تعارفت وتعاملت وقراءة ابن مسعود تبينت الإنس أن الجن". انظر: الكشاف ٣/٢٨٣ و ٢٨٤..
٥٩ قاله السمين في الدر المصون ٤/٤٢٥..
٦٠ الكتاب ٣/١٠٩ و ١١٠..
٦١ في "ب" والنفي. والتصحيح من "أ"..
٦٢ ذكر رأيه البحر ٧/٢٦٧ و ٢٦٨..
٦٣ الدر المصون ٤/٤٢٦..
٦٤ مذكورا أو متروكا وهذا قول سيبويه وغيره. وفي معرب ابن عصفور أنها في ذلك حرف جيء به لربط الجواب بالقسم ويبعده أن الأكثر تركها والحروف الرابطة ليست كذلك. انظر: المغني ٣٣..
٦٥ قال العلامة الرضي في شرح الكافية ٢/٢٩١: "اعلم أن القسم إذا تقدم على الشرط فإما أن يتقدم على القسم ما يطلب الخبر نحو: "زيد والله إن أتيته يأتك، وإن زيدا والله إن أكرمته يجازيك" أو لا يتقدم فإذا تقدم القسم أول الكلام ظاهرا أو مقدرا وبعده كلمة الشرط سواء كانت إن أو لو أو لولا أو أسماء الشرط فالأكثر والأولى اعتبار القسم دون الشرط فيجعل الجواب للقسم ويستغنى عن جواب الشرط لقيام جواب القسم مقامه". انظر: شرح الكافية للعلامة رضي الدين ٢/٣٩١ و ٣٩٢..
٦٦ انظر: اللباب الجزء السادس ميكرو فيلم وسيجيء..
٦٧ سقط من "أ"..
٦٨ معالم التنزيل ٥/٢٨٦..
٦٩ السابق..
٧٠ سقط من "أ"..
(قوله) تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة﴾ قرأ حمزة وحفص مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف مفرداً، والكسائي كذلك إلا أنه كسر الكاف والباقون مَسَاكِنِهِمْ جمعاً فأما الإفراد فلعدم اللبس لأن المراد الجمع كقوله:
٤١٢٥ - كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا...........................
37
والفتح هو القياس لأن الفعل متى ضمت عين مضارعة أو فتحت جاء المفعل منه زماناً أو مكاناً أو مصدراً بالفتح والكسر مسموع على غير قياس، وقال أبو الحسن: كسر الكاف لغة فاشيةٌ وهي لغة الناس اليوم والكسر لغة الحجاز وهي قليلة وقال الفراء: هي لغة يمانية فَصِيحةٌ.
و «مسكنهم» يحتمل أن يراد به المكان، وأن يراد به المصدر أي السُّكْنَى، ورجح بعضهم الثاني، قال: لأن المصدر يشمل الكل، فليس فيه وَضْعُ مفرد مَوْضع جمع بخلاف الأول فإن فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمع، كما تقرر، لكن سيبويه يأباه إلاَّ ضَرُورةً كقوله:
٤١٢٦ -................. قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جلدُ الجَوَامِيس
أي جلود، وأما الجمع فهو الظاهر لأن كل واحد مسكن، ورسم في المصاحف دون ألف بعد الكاف فلذلك احتمل القراءات المذكورة.

فصل


لما بين حال الشاكرين لِنِعَمِهِ بذكر داود وسليمان وبيَّن حال الكافرين بأنْعُمهِ، بحكاية أهل «سبأ» وقرئ سَبَأ بالفتح على أنه اسم بُقْعَة، وبالجر مع التنوين على أنه
38
اسم قبيلة، وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والظاهر هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل، وقوله «آية» أي من فضل ربهم دلالةً على وحدانيتنا وقدرتنا وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن واسم سَبَأ عبد شمس بن يشجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان وسمي (سبأ) لأنه ول من سبأ من العرب.
قال السُّهَيْليّ: ويقال: إنه ول من تبرج، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وكان له شعر يشير فيه بوجود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال (يعني سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) :
٤١٢٧ - سَيَمْلكُ بَعْدنا ملكاً عَظِيماً نَبِيُّ لاَ يرخِّصُ في الحَرَامِ
وَيملِكُ بَعْدُ منهم مُلُوك يدينون العباد بغير دامِ
وَيملِكُ بعده منهم ملوك يصيرُ الملك فينا باقتِسام
وَيملك بَعْدَ قَحْطَانَ نَبِيُّ نفى جنته خير الأنام
يسمى أحمدَ يَا لَيْتَ أنّي أُعَمَّر بعد مَبْعثَهِ بعَامِ
فأعضُدُه وأحبُوه بنَصْرِي بكُلّ مُدَجَّج وبِكُلِّ رَامِي
مَتَى يَظْهَرْ فكُونوا ناصِرِيهِ ومن يلقاه يُبْلِغْه سَلامِي
روى ابن عباس قال سأل فروة بن مسيك الغطيفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن سبأ ما هو؟ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً؟ قال: بل هو رجل من العرب ولد عشرة من لاولد فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحِمير فقال رجل وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثْعم وبجيلة، وأما الذين تشامُوا فلَخم وجُذام وعاملة وغسان، ولما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبا شَذَر مذر، فلذلك قيل لكلّ متفرقين بعد اجتماع: «
39
تَفَرَّقُوا أَيَادي سَبَا» فنزلت طوائف منهم الحجاز فمنهم خُزَاعة نزلوا بظاهر مكة ومنهم الأوسُ والخَزْرج نزلوا بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قَيْنُقَاع وبنو قُرَيْظَة والنَّضير فخالفوا الأوس والخزرد وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أُخَرُ منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غَسَّان وعامِلة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم، و «سبأ» يجمع هذه القبائل كلها.
والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين فحطانية وعَدْنَانيَّة، فالقحطانية شَعْبَان سبأ وحَضْرَمَوْتَ والعَدْنَانيَّة شعبان ربيعةُ ومُضَر وأما قُضَاعَةُ فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قَحْطَان وبعضهم إلى عدنان، وقيل: إن قحطان أول من قيل له: أنْعِمْ صباحاً، وأبَيْتَ اللَّعْنَ قال بعضهم: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما (الصلاة و) السلام وليس بصحيح فإن إسماعيل نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً. والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأَهم وجرهم والعماليق يقال: إن «أهم» كان ملكاً يقال إنه أول من سقَّف البيوت بالخشب لامنشور وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة، يقال لها: وَبَار هلكوا بالرمل انثال عليهم فأهلكهم وطمَّ (مناهلهم) وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
40
قوله: «جنتان» فيه ثلاثة أوجه:
الرفع على البدل من «آية» وأبد مُثَنَّى من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا المثنى وتقدم في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠].
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر. وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه. ولا يظهر ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفراداً أو تثنية فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم.
الثالث - وإليه نحا ابن عطية - أن يكون جنتان متبدأ وخبره «عَنْ يَمِينٍ وشِمَالٍ».
وردَّة أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعْتُذِرَ عنه بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جَنَّتَانِ لهم أو جنتان عَظِيمَتان فيصح ما ذهب إليه وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصباً على خبر كان واسمها «آية».
قإن قيل: اسم كان كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر «لِسَبأٍ» لكان صفة «لآية» في هذه القراءة.
قوله: «عَنْ يَمينٍ» إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمير أي هما عن يمين قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله.
وقيل: عن يمين من أتاها وشماله وكان لهم وادٍ قد أحاط الجنتان بذلك الوادي.
قال الزمخشري: أيَّةُ آيَةٍ في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجِنَان؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة.
41
قوله: «كُلُوا» على إضمار القول أي قَالَ اللَّه أو المَلَكُ كُلُوا من رزق ربكم.
وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته. قوله «بَلْدَةٌ» أي بَلْدَتثكُمْ بلدةً (طيبة) وربكم «رَبُّ غَفُورٌ» والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة.
قال ابن زيد: لم ير في بلدتهم بَعُوضَة ولا ذُبابٌ ولا بُرْغُوثٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا وباءٌ ولا وَخَم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها من طيب الهواء، فذلك قوله: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أي طيبة الهَوَاءِ «ورب غفور» قال مقاتل: وربكم إنشَكَرْتُمْ فيما رزقكم رب غفور للذنوب. وقيل ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة وقرأ رويس بنصب «بلدةٍ، وَرَب» على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا وجعله أبو البقاء مفعولاً به والعامل فيه «اشْكُرُوا» وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم رَبًّا غفوراً، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال: «فَأَعْرَضُوا» من كمال ظلمهم، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ﴾ [السجدة: ٢٢] قال وهب: أرسل الله إلى سبأَ ثلاثةَ عَشَرَ نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزّ وجلّ علينا نعمةً، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَعْرَضُوا، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى: ﴿إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ﴾ [السجدة: ٢٢] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرَّق أموالهم وخَرَّب دُورَهُمْ.
قوله: ﴿سَيْلَ العرم﴾ العَرِمُ فيه أوجه:
أحدهما: أنه من باب إضافة الموصوفِ لصفته في الأصل إذ الأصل: السَّيْلُ العَرِمُ، والعَرِمُ الشديد وأصله من العَرَامَة، وهي الشَّراسَةُ والصعوبة وعَرِمَ فُلاَنٌ فَهُوَ عارِمٌ وَعرِم وعُرَام الجَيْشِ منه.
42
الثاني: أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مُقامه تقديره فأرسلنا عليهم سَيْلَ المَطَرِ العَرِمِ أي الشديد الكثير.
الثالث: أن العَرِم اسم للبناء الذي يجعل سداً وأنشد (قول الشاعر) :
٤١٢٨ - وَكَرَّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارِ فَهَلَكت عَنْوَةً وَبَارُ
٤١٢٩ - مِنْ سَبَأِ الحَاضِرين مَأْرِبَ إذْ يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ العَرِمَا
أي البناء القوي. قال البغوي: العَرَمْ والعَرَمُ والعَرِمُ جمع عَرَمَةٍ وهي السد الذي يحبس الماء.
الرابع: أن العَرِم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه.
وقال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق وقيل: كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث شاء.
الخامس: أنه اسم للجرذ وهو الفأر. وقيل: هو الخُلْدُ وإنما أضيف إليه؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافةً صحيحة معرفة نحو: غُلاَمُ زَيْدٍ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفُلاَنيّ أو سيل الجُرْذِ. وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفُرْقة فقالوا «تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَا». وقد تقدم.
43

فصل


قال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان ذلك السد بَنَتْهُ بَلْقِيسُ وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المُسَنَّاة بلغة حمير فسكت ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبواباً على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سَدُّوا فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السَّدِّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى (ثم) من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يَثوبَ الماءُ من السنة المقبلة فكانت تَقْتَسمثه بينهم على ذلك فبقُوا على ذلك بعدها مدة فلمَّا طَغَوْا وكَفَرُوا سلَّط الله عليهم جُرْذاً يسمَّى الخُلْدَ فنقب السد من أسفله فغَرَّق الماء جنانهم وخرب أرضهم.
قوله: ﴿بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْن﴾ قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج، والمنصوب هو الداخل؛ ولهذا غَلطَ مَنْ قال من الفقهاء: فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بطلت صلاته بل الصواب أن يقول: ظاءً بضادٍ.
قوله: ﴿أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ قرأ أبو عمرو بإضافة «أُكُلٍ» إلى «خَمْطٍ» والباقاون بتنوينه غير مضاف، وقد تقدم في البقرة أن ابْنَ عَامِرٍ، وأبَا عمرو والكوفيِّينَ يضمون كاف «أكل» غير المضاف لضمير المؤنثة وأنَّ نافعاً وابنَ كثير يسكنونها بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب، الأولى لأبي عمرو أُكُلِ خمطٍ بضم كاف أكل مضافاً «لخمط».
الثانية: لنافع وابن كثير بتسكين كافة وتنوينه.
الثالثة: للباقين ضم كافة وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجَنَى والثَّمَر.
44
والخمط قيل: شجر الأَراكَ وثمره يقال له: البَريرُ. (و) هذا قول أكثر المفسرين وقيل: كل شجر ذي شوك وقال المبرد والزجاج: كل نبت أخذ طعماً من مَرَارَةٍ حتى لا يمكن أكله فهو خَمْط وقال ابن الأعرابي: الخمط ثمرة شجرة يقال لها: فَسْوَة الضَّبْغ على صورة الخَشْخَاش لا ينفتع به. قال البغوي: من جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في «أكل» حسن ومن جعله أصلاً وجعل «الأُكُل» ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بُسْتَان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه.
قوله: ﴿وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرِ﴾ معطوفان على «أكل» لا على «خمط» لأن المخط لا أكل له، وقال مكي: لمَّا لَمْ يَجُز أن يكون الخمط نعتاً للأكل؛ لأن الخَمْطَ اسم شجر بعينه ولا بدلاً؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من الشجر أضيف على تقدير «مِنْ» كَقولك: «هذَا ثَوْبُ خَزِّ». ومن نون فيحتمل أوجهاً:
الأول: أنه جعل «خمطاً» وما بعده إما صفة «لأكُل» قال الزمخشري: أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذَوَاتَىْ أُكُلٍ بشيع. قال أبو حيان: والوصف بالأسماء لا يَطَّرِدُ وإن كان قد جَاءَ منه شيءٌ نحو قولهم: «مَرَرْت بقَاعٍ عَرْفَج كُلّهٍ».
الثاني: البدل من «أكل» قال أبو البقاء: وجُعِلَ خَمْطاً أُكُلاً لمجاورته إياه، وكونِهِ سبباطً له إلا أن الفارسيَّ ردَّ كونه بدلاً قال: لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأكل نفسه، وقد تقدم جواب أبي البقاء، وقد أجاب بعضهم عنه وهو منتزع من كلام الزمخشري أي أنه
45
على حذف مضاف تقديره ذواتي أكُلِ خمطٍ قال: والمحذوف هو الأول في الحقيقة.
الثالث: أنه عطف بيان وجعله أبو عليِّ أحسن ما في الباب، قال: كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة، إلا أن عطف البيان لا يُجيزُه البصريون في النَّكرات إنما يَخصُّونَه بالمعارف والأثْلُ هو الطَّرْفَاءُ. قويل: شجر يشبه الطرفاء وقيل: نوع من الطرفاء ولا يكون على ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعَفْص أصغر منه في طعمه وطبعه، والسِّدْرُ شجر معروف وهو شجر النَّبْقِ يُنْتَفَعُ به ولا يصلح ورقه لشيءٍ، وقال بعضهم: السِّدْرُ سِدْرَانِ سِدْرٌ له ثمرة عَفءصَة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه. والمراد بالآية الأوّل. وقال قتادة: كان شَجَرُهُمْ خيرَ الشَّجَر فصيره الله من شر الشَّجر بأعمالهم.
قوله: «قَلِيل» نعت ل «سدر» وقيل: نعت «لأُكُل» وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون نعتاً «لخمط» و «أَثْل» و «سِدْرٍ» وقرئ «وَأَثْلاً وشَيْئاً» بنصبهما عطفاً على «جنَّتَيْنِ» ثم بين (الله) تعالى أن ذلك (كان) مجازاة لهم على كفرانِهم فقالك
46
﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجزيا﴾ بذلك الجزاء «إلاَّ الكَفُور».
قوله: ﴿وَهَلْ نجزيا﴾ قرأ الأَخَوَانِ وحفصٌ نُجَازِي بنون العظمة وكسر الزاي لقوله: «جَزَيْنَاهُمْ» أي (نحن) (وهل نُجَازِي هَذَا الجَزَاءَ) إلا الكفور مفعول به والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول إلا الكفور رفع على ما لم يسم فاعله ومسلم بن جُنْدُب «يُجْزَى» للمفعول إلاَّ الكَفُور رفعاً على ما تقدم وقرئ «يَجْزِي» مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تَعَالى «الكَفُورَ» نصباً على المفعول به.

فصل


قال مجاهد: يجازي أي يعاقب ويقال في العقوبة وفي التوبة يجزى. قال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى أي يُجْزَى الثوابَ بعَملِهِ ولا يكأفَأُ بسيِّئَاته. وقال بعضهم: المجازاة يقال في النعمة والجزاء في النقمة لكن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفْرُوا﴾ يدل على أن «يَجْزي» في النَّقمة ولعل من قال ذلك أخذه من المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر يكون منا بين اثنين يؤخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله مبتدِئٌ بالنعم.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ بالماء والشجر وهي قُرَى الشام «قُرًى ظَاهِرَةً» متواصلة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى لقربها منها فكان شَجَرُهُمْ من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلُون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سَبَأَ إلى الشام.
فإن قيل: هذا من النعم والله تعالى أراد بيان تبديل نعمهم بقوله: ﴿وبَدَّلْنَاهُمْ بجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النعمة؟
47
فالجواب: أنه ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمراتها بكَثْرة القُرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمَفَاوز والبَرَارِي والبَوَادِي بقوله: ﴿بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربُّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا على المبتدأ والخبر.
قوله: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغَدْوِ والرَّواح على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصفَ يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة: كانت المرأة تخرج ومعها مِغْزَلُها وعلى رأسها مِكتَلُها فَتَمْتَهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مِكتَلُها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك.
قوله: «سِيرُوا» أي وقُلْنَا لهم سيروا، وقيل: هو أمر بمعنى الخبر أي مكَّنَّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها لَيَالي وأياماً أي بالليالي والأيَّام أي وقت شئتم «آمِنِينَ» لا تخافون عَدُوّاً ولا جُوعاً ولا عَطَشاً.
وقيل: معنى قوله تعالى: ﴿لِيَالِيَ وَأَيَّاماً﴾ أنكم تسيرون فيه إن شئتم لَيَالِيَ وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يُسْلَكُ ليلاً لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غيرَ مجاهر بالقصد والعداوة فَبَطَرُوا وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا: لو كَانَ جَنَى جَنَّاتِنَا أبعدَ مما هي كان أجدرَ أن نشتهيه فقالوا: ربَّنَا بَعِّدْ بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين الشام فلواتٍ ومَفَاوِزَ لنركبَ فيها الرَّوَاحِل ونتزودَ فيها الأزواد. وقال مجاهد: بَطَرُوا النعمة وسَئِمُوا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره: اضربني إشارة إلى أنه لا يَقْدِرُ عليه، ويحتمل أن يكون قولهم: «رَبَّنَا بَاعِدْ» بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يُبَعَّد بين أسفارهم وتخريب المعمور من ديارهم، وقوله: «ظلموا» يكون بياناً لذلك.
قوله: «رَبَّنَا» العامة بالنصب على النداء. وابن كثير وأبو عمرو وهشام «بَعِّدْ»
48
بتشديد العين فعل طلب والباقون بَاعِدْ طلب أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابن الحَنَقِيَّة وسُفْيَان بن حُسَيْنِ وابن السَّميفع بَعْدَ بضم العين فعلاً ماضياً والفاعل المسير أي بَعُد المَسِيرُ، و «بين» ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضَمَّن نون بين جعله فَاعِلَ «بَعُدَ» فأخرجه عن الظرفية، كقراءة ﴿تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] رفعاً. فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أَشِرُوا وبَطَرُوا فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسْفَارِ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً وقرأ جماعة كبيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب (وعمرو) بن فايد: «رَبُّنَا» رفعاً على الابتداء بَعَّدَ بتشديد العين فعلاً ماضياً خبره، وأبو رجاء والحَسَنُ ويعقوبُ كذلك إلا أنه «بَاعَد» بالألف والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم وقرئ: «بُوعِدَ» مبنياً للمفعول. وإذا نصبت «بين» بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمراً أم ماضياً فجعله اسماً «؟ قال شها الدين: إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفاً تقديره بعد المسيرُ بين أسفارنا. ويدل على ذلك قراءة بَعُدَ بضمّ العين بَيْنَ بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السَّيْر كذلك يبقى هنا» بين «على بابها وينوى السَّير وكان هذا أولى؛
49
لأن حذف المفعول كثيرٌ جداً لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير. وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع» بَيْنكُمْ «في الأنْعَامِ وقرأ العامة أَسْفَارِنَا جَمْعاً. وابن يَعْمُرَ» سَفَرنا «مفرداً.
قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ﴿ومَزَّقْناهُمّ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. وهذا بيان لجعلهم أحاديث. قال الشعبي: لما غرقت قُراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرَّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تِهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بْنُ عامر وهو جدّ الأوس والخزرج.
قوله: ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لِعبَرٌ ودَلاَلاَتٌ»
لِكُلِّ صَبَّارٍ «عن معاصي الله» شَكُورٍ «لنعمة الله قال مقاتل: يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مُطْرِفٌ: هو المؤمن إذا أُعْطِيَ شَكَر، وإذا ابتُلي صَبَرَ.
50
ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال :«فَأَعْرَضُوا » من كمال ظلمهم، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ ﴾ [ السجدة : ٢٢ ] قال وهب : أرسل١ الله إلى سبأَ ثلاثةَ عَشَرَ نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزّ وجلّ علينا نعمةً، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزّ وجلّ : فَأَعْرَضُوا، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى :﴿ إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ ﴾ [ السجدة : ٢٢ ] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرَّق أموالهم وخَرَّب دُورَهُمْ.
قوله :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ العَرِمُ فيه أوجه :
أحدها : أنه من باب إضافة الموصوفِ لصفته٢ في الأصل إذ الأصل : السَّيْلُ العَرِمُ، والعَرِمُ الشديد وأصله من العَرَامَة، وهي الشَّراسَةُ والصعوبة وعَرِمَ فُلاَنٌ فَهُوَ عارِمٌ وَعرِم وعُرَام الجَيْشِ منه٣.
الثاني : أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مُقامه تقديره فأرسلنا عليهم سَيْلَ المَطَرِ العَرِمِ أي الشديد الكثير٤.
الثالث : أن العَرِم اسم للبناء الذي يجعل سداً٥ وأنشد ( قول الشاعر )٦ :
٤١٢٩- مِنْ سَبَأِ الحَاضِرين مَأْرِبَ إذْ. . . يَبْنُونَ مِنْ دون سَيْلِهِ العَرِمَا٧
أي البناء القوي. قال البغوي : العَرَمُ والعَرِمُ جمع عَرَمَةٍ وهي السد٨ الذي يحبس الماء.
الرابع : أن العَرِم اسم للوادي الذي كان فيه الماء٩ نفسه.
وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق١٠ وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث١١ شاء.
الخامس : أنه اسم للجرذ١٢ وهو الفأر. قيل : هو الخُلْدُ١٣ وإنما أضيف إليه ؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ١٤ إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافةً صحيحة معرفة نحو : غُلاَمُ زَيْدٍ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفُلاَنيّ أو سيل الجُرْذِ. وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفُرْقة فقالوا «تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَا ». وقد تقدم١٥.

فصل


قال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان ذلك السد بَنَتْهُ بَلْقِيسُ وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المُسَنَّاة بلغة حمير فسكت١٦ ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سَدُّوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السَّدِّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح١٧ فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى ( ثم )١٨ من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يَثوبَ الماءُ من السنة المقبلة فكانت تَقْتَسمه بينهم على ذلك فبقُوا على ذلك بعدها مدة فلمَّا طَغَوْا وكَفَرُوا سلَّط الله عليهم جُرْذاً يسمَّى الخُلْدَ فنقب السد من أسفله فغَرَّق الماء جنانهم وخرب أرضهم١٩.
قوله :﴿ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْن ﴾ قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج، والمنصوب هو الداخل٢٠ ؛ ولهذا غَلطَ مَنْ قال من الفقهاء : فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بطلت صلاته بل الصواب أن يقول : ظاءً بضادٍ٢١.
قوله :﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قرأ أبو عمرو بإضافة «أُكُلٍ » إلى «خَمْطٍ ». والباقون بتنوينه غير مضاف٢٢، وقد تقدم في البقرة٢٣ أن ابْنَ عَامِرٍ، وأبَا عمرو والكوفيِّينَ يضمون كاف «أكل » غير المضاف لضمير المؤنثة وأنَّ نافعاً وابنَ كثير يسكنونها٢٤ بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب، الأولى لأبي عمرو أُكُلِ خمطٍ بضم كاف أكل مضافاً «لخمط ».
الثانية : لنافع وابن كثير بتسكين كافه وتنوينه.
الثالثة : للباقين ضم كافه وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجَنَى والثَّمَر٢٥.
والخمط قيل : شجر الأَراكَ وثمره يقال له : البَريرُ. ( و ) هذا قول أكثر المفسرين٢٦ وقيل : كل شجر ذي شوك٢٧ وقال المبرد والزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مَرَارَةٍ حتى لا يمكن أكله فهو خَمْط٢٨. وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمرة شجرة يقال لها : فَسْوَة الضَّبْغ على صورة الخَشْخَاش لا ينتفع به٢٩. قال البغوي : من جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في «أكل » حسن ومن جعله أصلاً وجعل «الأُكُل » ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بُسْتَان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه٣٠.
قوله :﴿ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرِ ﴾ معطوفان على «أكل » لا على «خمط » لأن الخمط لا أكل له٣١، وقال مكي : لمَّا لَمْ يَجُز أن يكون الخمط نعتاً للأكل ؛ لأن الخَمْطَ اسم شجر بعينه ولا بدلاً ؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من الشجر أضيف على تقدير «مِنْ » كَقولك :«هذَا ثَوْبُ خَزِّ »٣٢. ومن نون فيحتمل أوجهاً :
الأول : أنه جعل «خمطاً » وما بعده إما صفة «لأكُل »٣٣. قال الزمخشري : أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذَوَاتَىْ أُكُلٍ بشيع٣٤. قال أبو حيان : والوصف بالأسماء لا يَطَّرِدُ وإن كان قد جَاءَ ٣٥ منه شيءٌ نحو قولهم :«مَرَرْت بقَاعٍ عَرْفَج٣٦ كُلّهٍ ».
الثاني : البدل من «أكل » قال أبو البقاء : وجُعِلَ خَمْطاً أُكُلاً لمجاورته إياه، وكونِهِ سبباً له ٣٧ إلا أن الفارسيَّ ردَّ كونه بدلاً قال : لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأكل نفسه٣٨، وقد تقدم جواب أبي البقاء، وقد أجاب بعضهم عنه وهو منتزع من كلام الزمخشري أي أنه على حذف مضاف تقديره ذواتي٣٩ أكُلِ أكل خمطٍ قال : والمحذوف هو الأول في الحقيقة٤٠.
الثالث : أنه عطف بيان وجعله أبو عليِّ أحسن ما في الباب٤١، قال : كأنه بين أن الأكل هذه٤٢ الشجرة، إلا أن عطف البيان لا يُجيزُه البصريون في النَّكرات إنما يَخصُّونَه بالمعارف٤٣، والأثْلُ هو الطَّرْفَاءُ. وقيل : شجر يشبه الطرفاء٤٤ وقيل : نوع من الطرفاء ولا يكون على٤٥ ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعَفْص٤٦ أصغر منه في طعمه وطبعه، والسِّدْرُ شجر٤٧ معروف وهو شجر النَّبْقِ يُنْتَفَعُ بورقه لغسل اليد ويغرس في البساتين ولم يكن هذا من ذلك بل كان سدرا بريا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيءٍ، وقال بعضهم٤٨ : السِّدْرُ سِدْرَانِ سِدْرٌ له ثمرة عفصة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه في الاغتسال وهو الضال وسدر له ثمرة٤٩ يؤكل وهو النبق ( و )٥٠ يغتسل بورقه. والمراد بالآية الأوّل. وقال قتادة : كان شَجَرُهُمْ خيرَ الشَّجَر فصيره الله من شر الشَّجر بأعمالهم٥١.
قوله :«قَلِيل » نعت ل «سدر » وقيل : نعت «لأُكُل ». وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً «لخمط » و «أَثْل » و «سِدْرٍ »٥٢ وقرئ «وَأَثْلاً وشَيْئاً » بنصبهما عطفاً على «جنَّتَيْنِ »٥٣
١ ذكره في زاد المسير ٦/٤٤٤..
٢ قاله أبو حيان ٧/٢٧١ والسمين في الدر ٤/٤٢٨..
٣ قاله في اللسان ٢٩١٣..
٤ بالمعنى من البحر ٧/٢٧١ وقد قال بذلك في الدر المصون ٤/٤٢٨ وفي "ب" الكبير بدلا من الكثير وانظر: الكشاف ٣/٢٨٥..
٥ السمين : السابق..
٦ زيادة من ب..
٧ البيت من المنسرح وهو غير منسوب في البحر ٧/٢٧٠ والقرطبي ١٤/٢٨٣ واللسان "ع ر م" ٢٩١٤ وكذلك "س ب أ" وورد في اللسان بلفظ "مشرد" بدل "يبنون". وكذلك لم ينسب في غريب القرآن لابن قتيبة ٣٥٤ ولا في المجاز لأبي عبيدة ١٤٧/٢. وقد اختلف في نسبة هذا البيت فمن نسبه إلى النابغة الجعدي ومن نسبه إلى أمية بن أبي الصلت وهو في ديوان النابغة ١٣٤ وديوان أمية برقم ٥١ وملحق ديوان الأعشى. وقد جيء بالبيت ليدل به على أن العرم هو اسم للبناء الذي يجعل سدا. وهو في البحر بتحريف وتصحيف ظاهرين. وانظر: الكتاب ٣/٢٥٣ والتاج عرم والكشاف ٣/١٤٤ وشرح شواهده ٥٣٥..
٨ في البغوي السكر وهو ما يوافق..
٩ انظر البغوي ٥/٢٨٧ المرجع السابق والكشاف ٣/٢٨٥..
١٠ قال في اللسان: ابن الأعرابي: العرمة أرض صلبة إلى جنب الصبان. ٢٩١٥. وقد نقل رأي الأعرابي الإمام البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٨٧..
١١ المرجع السابق..
١٢ الدر المصون ٤/٤٢٨. والجرد نوع من الفئران. انظر: حيوان الجاحظ ٥/٢٦٠.
١٣ ضرب من الفئران قال بذلك في المرجع السابق. وابن منظور في اللسان "خ ل د " ١٢٢٦ والقرطبي في الجامع ١٤/٢٨٥، ٢٨٦، والزجاج في معاني القرآن ٤/٢٤٨..
١٤ في ب السكر..
١٥ في اللسان. وقد ذكره ابن يعيش في شرح المفصل ٤/١٢٣ كما شرحه الميداني في مجمع الأمثال له ٢/٤..
١٦ الأصح كما في ب فسدت..
١٧ في (ب) ففتح..
١٨ سقط من "أ"..
١٩ ذكر هذا الأثر في لباب التأويل والبغوي في معالم التنزيل ٥/٢٨٧ و ٢٨٨..
٢٠ يشير إلى قوله تعالى: ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ الآية ١٦ ويقصد بالخارج: الجنتين اللتين فيهما أزهار وأنهار وفاكهة وهو كلمة "بجنتيهم: والداخل: وهو المفعول "جنتين ذواتي أكل" مثلما جاءت به سورة البقرة فلقد تركوا الهدى "بالهدى" واشتروا الضلالة وهو الداخل، وهنا يتضح التنظير بآية البقرة وانظر: اللباب ١/٤٧ ب..
٢١ الدر المصون ٤/٤٢٩..
٢٢ النشر ٢/٣٥٠ والسبعة ١٩٠ و ٥٢٨ والإتحاف ٣٥٩ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٥٨ و ٣٥٩ والكشف ٢/٢٠٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٣..
٢٣ عند قوله تعالى: ﴿فآتت أكلها ضعفين﴾ وهي الآية ٢٦٥ منها..
٢٤ المراجع السابقة..
٢٥ انظر هذا في الدر المصون للسمين ٤/٤٢٩..
٢٦ قال بذلك العلامة الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٤٩ والفراء في معاني القرآن أيضا ٢/٣٥٩..
٢٧ ذكره أبو عبيدة في المجاز ٢/١٤٧..
٢٨ معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٤٩..
٢٩ ذكره في اللسان "خمط" ١٢٦٧ وانظر هذا كله في اللسان المرجع السابق..
٣٠ ذكره البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٨٨ وقد فسر ابن قتيبة في تفسيره غريب القرآن الخمط بشجر العضاه. انظر: الغريب ٣٥٦..
٣١ قاله في الدر المصون ٤/٤٢٩..
٣٢ بتقديم وتأخير في عبارته من الكشف ٢/٢٠٧ وانظر الكشاف للزمخشري ٣/٢٨٥ وانظر: البيان لابن الأنباري ٢/٢٧٨ و ٢٧٩..
٣٣ الدر المصون ٤/٤٢٩..
٣٤ قال ذلك في الكشاف ٣/٢٨٥..
٣٥ البحر المحيط ٧/٢٧١..
٣٦ قال في اللسان: العرفج والعرفج بفتح العين وكسرها نبت دقيق واحدته عرفجة وهذا الوصف الجامد يؤول بالمشتق وهو لفظ كثير..
٣٧ قال هذا في تبيانه ١٠٦٦..
٣٨ قال في الحجة ٦/١٧٢ و ١٧٣: "لأنه ليس هو هو ولا بعضه لأن الجنى من الشجرة وليس الشجرة من الجنى فيكون إجراؤه عليه على وجه عطف البيان" فقد جعله عطف بيان لا بدلا..
٣٩ قال: "ووجه من نون أصله ذواتي أكل أكل فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه"..
٤٠ هذا قول أبي حيان في البحر في رده على السابق وانظر: البحر المحيط ٧/٢٧١..
٤١ البحر المحيط المرجع السابق والدر المصون ٤/٤٣٠..
٤٢ انظر: المرجع السابق لأبي علي وهو الحجة في القراءات السبع..
٤٣ هذا اعتراض من أبي حيان في البحر ٧/٢٧١ والسمين في الدر ٤/٤٣٠ ومنع أهل البصرة جريانه على النكرة وقالوا لا يجري إلا في المعارف وقد نقل هذا عنهم الشلوبين، وقال ابن مالك: لم أجد هذا النقل عنهم إلا من جهته وذهب الكوفيون والفارسي والزمخشري إلى جواز تنكيرهما ومثلوا له بقوله تعالى: ﴿من ماء صديد﴾ وهو الصحيح. انظر: همع السيوطي ٢/١٢١..
٤٤ إلا أنه أعظم طولا انظر: الفراء في معانيه ٢/٣٥٩ ولسان العرب أثل ٢٨ وغريب القرآن ٣٥٦ والكشاف ٣/٢٨٥..
٤٥ في "ب" عليه..
٤٦ قال عنه في اللسان: "والعفص معروف يقع على الشجر وعلى الثمر". انظر: اللسان: "ع ف ص" ٣٠١٤..
٤٧ قاله في معاني القرآن للفراء ٢/٣٥٩ قال: "قالوا إنه السمر واحدته سمرة". وانظر: اللسان "س د ر " ٩٧١..
٤٨ لعله ابن زياد انظر المرجع السابق..
٤٩ في "ب" ثمر..
٥٠ سقط من "ب"..
٥١ ذكره القرطبي في الجامع ١٤/٢٨٧..
٥٢ البحر ٧/٢٧١ والدر المصون ٤/٤٣٠ والتبيان ١٠٦٦..
٥٣ مختصر ابن خالويه ١٢١ وهي من القراءات الشاذة وانظر الكشاف ٣/٢٨٥..
ثم بين ( الله )١ تعالى أن ذلك ( كان )٢ مجازاة لهم على كفرانِهم فقال :﴿ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي ﴾ بذلك الجزاء «إلاَّ الكَفُور ».
قوله :﴿ وَهَلْ نجازي ﴾ قرأ الأَخَوَانِ وحفصٌ نُجَازِي بنون العظمة وكسر الزاي لقوله :«جَزَيْنَاهُمْ » أي ( نحن )٣ ( وهل نُجَازِي٤ هَذَا الجَزَاءَ ) إلا الكفور مفعول به والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول٥ إلا الكفور رفع على ما لم يسم فاعله ومسلم٦ بن جُنْدُب «يُجْزَى » للمفعول٧ إلاَّ الكَفُور رفعاً على ما تقدم وقرئ «يَجْزِي » مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تَعَالى «الكَفُورَ » نصباً على المفعول به٨.

فصل


قال مجاهد : يجازي أي يعاقب ويقال في العقوبة يجازي وفي التوبة يجزى٩. قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى١٠ أي يُجْزَى الثوابَ بعَملِهِ ولا يكأفَأُ بسيِّئَاته. وقال بعضهم : المجازاة يقال في النعمة والجزاء في النقمة لكن قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفْرُوا ﴾ يدل على أن «يَجْزي » في النَّقمة ولعل من قال ذلك أخذه من المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر يكون ما بين اثنين يؤخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله مبتدِئٌ بالنعم١١.
١ سقطا من "ب"..
٢ سقطا من "ب"..
٣ سقط من "ب"..
٤ زيادة من (ب)..
٥ الفراء ٢/٣٥٩ والسبعة ٥٢٨ والإتحاف ٣٥٩..
٦ أبو عبد الله الهذلي المدني القاضي تابعي مشهور روى عن أبي هريرة وعرض على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عرض عليه نافع بعد سنة عشر ومائة. انظر: غاية النهاية ٢/٢٩٧..
٧ ذكره في المحتسب ٢/١٨٨ والمختصر ١٢١ والبحر ٧/٢٧١..
٨ قال ابن جني في المحتسب: "وقال أبو حاتم : وهل يجازي إلا الكفور بالنصب قراءة قتادة وابن وثاب والنخعي في جماعة ذكرهم". وهذه القراءات شاذة غير متواترة وشذوذه رواية لا قياسا..
٩ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٨٨..
١٠ قال: "وأما المؤمن فيجزى لأنه يزاد ويتفضل عليه ولا يجازي" معاني القرآن ٢/٣٥٩..
١١ ذكره الرازي في تفسيره ٢٥/٢٥٢..
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ بالماء والشجر وهي قُرَى الشام «قُرًى ظَاهِرَةً » متواصلة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى لقربها منها فكان١ شَجَرُهُمْ من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلُون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سَبَأَ إلى٢ الشام.
فإن قيل : هذا من النعم والله تعالى أراد٣ بيان تبديل نعمهم بقوله :﴿ وبَدَّلْنَاهُمْ بجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ ﴾ فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النعمة ؟
فالجواب : أنه ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها بكَثْرة القُرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمَفَاوز والبَرَارِي والبَوَادِي بقوله :﴿ بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربُّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا على المبتدأ والخبر٤.
قوله :﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ﴾ أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغَدْوِ والرَّواح على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصفَ يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مِغْزَلُها وعلى رأسها مِكتَلُها فَتَمْتَهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مِكتَلُها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك٥.
قوله :«سِيرُوا » أي وقُلْنَا لهم سيروا، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي مكَّنَّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها لَيَالي وأياماً أي بالليالي والأيَّام أي وقت شئتم «آمِنِينَ » لا تخافون عَدُوّاً ولا جُوعاً ولا عَطَشاً٦.
وقيل : معنى٧ قوله تعالى :﴿ لِيَالِيَ وَأَيَّاماً ﴾ أنكم تسيرون فيه إن شئتم لَيَالِيَ وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يُسْلَكُ ليلاً لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غيرَ مجاهر بالقصد والعداوة فَبَطَرُوا٨ وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا : لو كَانَ جَنَى جَنَّاتِنَا أبعدَ مما هي كان أجدرَ أن نشتهيه فقالوا : ربَّنَا بَعِّدْ بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين الشام فلواتٍ ومَفَاوِزَ لنركبَ فيها الرَّوَاحِل ونتزودَ فيها الأزواد. وقال مجاهد : بَطَرُوا٩ النعمة وسَئِمُوا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم١٠ كما يقول القائل لغيره : اضربني إشارة إلى أنه لا يَقْدِرُ عليه، ويحتمل أن يكون قولهم :«رَبَّنَا بَاعِدْ » بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يُبَعَّد بين أسفارهم وتخريب المعمور من ديارهم، وقوله :«ظلموا » يكون بياناً١١ لذلك.
١ كذا هي هنا وفي "ب": شجرهم وفي البغوي :"متجرهم"..
٢ انظر: معالم التنزيل للبغوي السابق..
٣ انظر الرازي السابق..
٤ وهي قراءة ابن عباس وابن الحنفية وابن يعمر بخلاف والكلبي وعمرو بن فائد. انظر: المحتسب ٢/١٨٨ والرازي ٢٥/٢٥٢ وهي من الشواذ رواية لا قياسا وستأتي..
٥ معالم التنزيل ٥/٨٩ وكذلك لباب التأويل للخازن ٥/٢٨٩..
٦ السابقان..
٧ وهو قول الرازي ٢٥/٢٥٢..
٨ تفسير البغوي السابق..
٩ السابق..
١٠ في الرازي لا يقدر وهو والصحيح..
١١ المرجع السابق..
قوله :«رَبَّنَا » العامة بالنصب على النداء. وابن كثير وأبو عمرو١ وهشام «بَعِّدْ » بتشديد العين فعل طلب والباقون بَاعِدْ طلب أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابن الحَنَفِيَّة٢ وسُفْيَان بن حُسَيْنِ٣ وابن السَّميفع بَعْدَ٤ بضم العين فعلاً ماضياً والفاعل المسير أي بَعُد المَسِيرُ، و «بين » ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضَمَّن٥ نون بين جعله فَاعِلَ «بَعُدَ » فأخرجه عن الظرفية٦، كقراءة ﴿ تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] رفعاً. فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أَشِرُوا وبَطَرُوا فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسْفَارِ٧، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً٨ وقرأ جماعة كبيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب ( وعمرو )٩ بن فايد :«رَبُّنَا » رفعاً على الابتداء بَعَّدَ بتشديد العين فعلاً ماضياً خبره١٠، وأبو رجاء والحَسَنُ ويعقوبُ كذلك إلا أنه «بَاعَد » بالألف١١ والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم وقرئ :«بُوعِدَ » مبنياً١٢ للمفعول. وإذا نصبت «بين » بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمراً أم ماضياً فجعله أبو حيان منصوبا على المفعول به لا ظرفا قال :" ألا ترى إلى قراءة من رفع كيف١٣ جعله اسماً » ؟ قال شهاب الدين : إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفاً تقديره بعد المسيرُ بين أسفارنا. ويدل على ذلك قراءة بَعُدَ بضمّ العين بَيْنَ بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السَّيْر كذلك يبقى هنا «بين » على بابها وينوى السَّير وكان هذا أولى ؛ لأن حذف المفعول١٤ كثيرٌ جداً لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير١٥. وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع «بَيْنكُمْ » في الأنْعَامِ١٦ وقرأ العامة أَسْفَارِنَا جَمْعاً. وابن يَعْمُرَ «سَفَرنا »١٧ مفرداً.
قوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ﴿ ومَزَّقْناهُمّ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. وهذا بيان لجعلهم أحاديث. قال الشعبي : لما غرقت قُراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرَّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تِهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بْنُ عامر وهو جدّ الأوس والخزرج١٨.
قوله :﴿ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لِعبَرٌ ودَلاَلاَتٌ «لِكُلِّ صَبَّارٍ » عن معاصي الله «شَكُورٍ » لنعمة الله قال مقاتل١٩ : يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مُطْرِفٌ٢٠ : هو المؤمن إذا أُعْطِيَ شَكَر، وإذا ابتُلي صَبَرَ٢١.
١ انظر: تقريب النشر ١٦٦ والنشر ٢/٣٥٠ والكشف ٢/٢٠٧ وقال مكي: "والقراءتان بمعنى حكى سيبويه: ضعف وضاعف بمعنى فهو بمعنى التباعد". وانظر أيضا القرطبي ١٤/٢٩٠، والسبعة ٥٢٩ والإتحاف ٣٥٩ والكشاف ٣/٢٨٦ وإعراب النحاس ٤/٣٤٢ ومعاني الفراء ٢/٣٥٩..
٢ محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم ابن الحنفية وردت الرواية عنه في حروف القرآن. روى عن أبيه وغيره من الصحابة وروى عنه بنوه إبراهيم وعبد الله والحسن مات سنة ثلاث وسبعين هـ، وانظر: غاية النهاية ٢/٢٠٤..
٣ هو سفيان بن حسين بن حسن السلمي مولى عبد الله بن خازم الواسطي أبو محمد روى عن ابن سيرين والحكم بن عتيبة وروى عنه شعبة وعباد بن العوام وغيرهما مات في خلافة المهدي. الخلاصة ١٢٣..
٤ قاله في المحتسب ٢/١٨٩..
٥ في "ب" ضم. وهو الأصح والأقرب..
٦ لم يبينه في المحتسب بوضوح حيث قال: "وقرأ: ربنا بعد – بفتح الباء والدال وضم العين- بين أسفارنا، ابن يعمر وسعيد بن أبي الحسن ومحمد بن السميفع وسفيان بن الحسين بخلاف، والكلبي بخلاف". وصرح بذلك بوضوح القرطبي في ١٤/٢٩١ وأبو حيان في البحر ٧/٢٧٣. وانظر الكشاف ٣/٢٨٦..
٧ الدر المصون ٤/٤٣١..
٨ المرجع السابق..
٩ ما بين القوسين سقط من "ب"..
١٠ ذكرها في المحتسب ٢/١٨٩ وهي جائزة قياسا شاذة رواية وقد ذكرها أيضا الزجاج في إعراب القرآن ٤/٢٥٠ والفراء في معانيه ٢/٣٥٩..
١١ انظر: المراجع السابقة وهي قراءة عشرية متواترة النشر ٢/٣٥٠، والإتحاف ٣٥٩..
١٢ مختصر ابن خالويه ١٢١ وهي قراءة شاذة وقد ذكر كل هذه القراءات أبو حيان في البحر ٧/٢٧٢ و ٢٧٣ والنحاس في إعراب القرآن ٣/٣٤١ و ٣٤٢..
١٣ قاله أبو حيان في البحر ٧/٢٧٣..
١٤ الدر المصون ٤/٤٣٢..
١٥ في :"لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون" والاعتذار بأن "بينكم" معناه وصلكم وقد ذكر هناك أقوالا لمن تعرضوا لمثل هذه الآية انظر: اللباب ٣/١٢٧ ب..
١٦ ذكرها ابن خالويه في مختصره وتلك من الشواذ غير المتواترة. المختصر ١٢١ وانظر البحر المحيط أيضا ٧/٢٧٣..
١٧ القرطبي ١٤/٢٩١..
١٨ قاله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٨٩..
١٩ هو رواية مالك بن أنس كان به صمم مات بالمدينة سنة ٢٢٠ هـ انظر المعارف ٥٢١..
٢٠ المرجع السابق..
٢١ قاله في النشر ٢/٣٥٠، وتقريبه ١٦٢ والإتحاف والسبعة ٥٢٩ وابن خالويه في الحجة ٢٩٤، وانظر: الدر المصون ٤/٤٣٢ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٥١ ومعاني الفراء ٢/٣٦٠ وإعراب النحاس ٣/٣٤٣ والكوفيون هم: حمزة وعاصم والكسائي ومن حذا حذوهم..
قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه﴾ قرأ الكوفيون صَدَّقَ بتشديد الدال والباقون
50
بتخفيفها، فأما الأولى «فظَنَّهُ» مفعول به والمعنى أن طنَّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على المجاز والاتساع ومثله: كَذَّبْتُ ظَنِّي ونَفْسي وصَدَّقْتُهُمَا وصدَّقَانِي وَكذَّبانِي وهو مجاز شائع سائغ أي ظن شيئاً فوقع وأصله من قوله: ﴿ولأضلنهم﴾ [النساء: ١١٩] وقوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢] ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه. وأما الثانية: فانصب «ظنه» على ما تقدم من المفعول به كقولهم «أصَبْتُ ظَنِّي، وأَخْطَأت ظَنِّي» أو على المصدر بفعل مقدر أي «يَظُنُّ ظَنَّهُ» أو على إسقاط (الخافض أي) في ظَنَّه، وزيد بن علي والزُّهْريُّ بنصب «إبليسَ» ورفع «ظَنُّهُ» كقول الشاعر:
٤١٣٠ - فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً فَهْوَ صَادق.............................
جعل «ظنه» صادقاً فيما ظنه مجازاً واتساعاً، وروي عن أبي عمرو برفعهما وهي
51
واضحة جعل «ظنه» بدل اشتمال من إبليس والظاهر أن الضمير في «عليهم» عائد على أهْلِ سَبَأَ و «إلاَّ فَريقاً» استثناء من فاعل «اتَّبَعُوه» «ومِنَ المُؤمِنِينَ» صفة «فَريقاً» و «مِنْ» للبَيَان لا للتبعيض لئلا يَفْسد المعنى؛ إذا يلزم أن يكون بعض من آمن اتبع إبْليسَ.

فصل


قال المفسرون: صدق عَلَيْهم أي على أهل سبأ. وقال مجاهد: على الناس كلهم إلا من أطاع الله فاتَّبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين قال السدي عن ابن عباس يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢] يعني المؤمنين وقيل: هو خالص في المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يَعْصُونه. وقال ابن قتيبة: إن إبليس سأل النظرة فأنَظَرَهُ الله قال: لأغويَنَّهُمْ وَلأضِلَّنَّهُمْ لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قال ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ﴾ هذا استثناء مفرغ من العلل العامة تقديره: وما كان له عليهم (من سلطان) استيلاء لشيء من الأشياء إلا لهذا وهو تمييز المُحَقِّ من الشَّاكِّ.
قوله: «مِنْهَا» متعلق بمحذوف على معنى البيان أي أعني منها وبِسَبَبِها وقيل: «من» بمعنى «في» وقيل: هو حال من «شَكَّ» وقوله: «مَنْ يُؤْمِنُ» يجوز في «من» وجهان:
أحدهما: أنها استفهامية فتسُدّ مسدَّ معفولي العلم كذا ذكر أبو البقاء وليس بظاهر؛ لأن المعنى إلا لنُمَيِّزَ ويظهر للناس من يؤمن ممن لا يؤمن فعثر عن مقابله بقوله ﴿مِمَّنْ مِنْهَا فِي شَكِّ﴾ لأنه من نتائجه ولوازمه.
52
والثاني: أنها موصولة وهذا هو الظاهر على ما تقدم تفسيره.

فصل


قال ابن الخطيب: إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإنّ العلم صلة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالمَ سَيُوجد فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه مَعدوماً كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمور يظهر فيها صورة والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما التغيير في الخارجات فكذلك ههنا.
قوله: ﴿إلاَّ لِنَعْلَمَ﴾ أي ليقع في العلم صُدُور الكفر من الكافر، والإيمان من المؤمن وكان علمه فيه أنْ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ ويُؤْمِنُ عَمرو قال البغوي: المعنى إلا ليميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب. وقوله: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ محقِّق، ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس منهم عالم بما يقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا الجاهل.
قوله: ﴿قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ﴾ مفعول «زعمتم» الأول محذوف هو عائد الموصول، والثاني أيضاً محذوف قامت صفته مقامه أي زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ من دون الله ولا جائز أن يكون: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» هو المفعول الثاني؛ إذ لا ينعقد منه مع ما قبله كَلاَم لو قلت: هُمْ من دون الله أي من غير نية موصوف لم يجز ولولا قيام الوصف مقامه أيضاً لم يحذف لأنَّ حَذْفَهُ اختصاراً قليلٌ على أن بعضهم منعه.
53

فصل


لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بما مضى عاد إلى خطابهم فقال لرسوله عليه (الصلاة و) السلام: قُلْ للمشركين «ادْعُوا الَّذِينَ زعَمتُمْ من دون الله) وفي الكلام حذف أي ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل لكم في سِنِينِ الجُوع ثم وصفها فقال: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ من خير وشر ونفع وضر» وَمَالَهُمْ «أي الآلهة فيهما أي السموات والأرض» مِنْ شِرْكٍ «أي شركة» وَمَا لَهُ «أي وما لله» مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير «غَوْنٍ.
قوله: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ اللام في»
لمن «فيها أوجه:
أحدهما: أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء: وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول»
تنفع «وكلاهما خلافُ الأصل.
الثاني: أنه استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكوراً إنما دل عليه الفحوى والتقدير:
لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعة لأحدٍ من المشفوع لهم إلا لِمَنْ أَذِنَ له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون هو الشافع والمشفوع له ليس مذكوراً تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع وعلى هذا فاللام في»
لَهُ «لام التبليغ لا لام العلة.
الثالث: أنه استثناء مفرغ أيضاً لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعةُ إلا
54
كائنة لمن أذن له. وقدره الزمخشري فقال: تقول الشفاعة لزيد على معنى الشافع كما تقول: الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول: القيام لزيد فاحتمل قوله: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه﴾ أن يكون على أحد هَذَيْن الوَجْهَينِ أي لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك: «أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو» أي لأجله فكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيفٌ وهو الوجهُ. انتهى فقوله: القيام لزيدٍ يعني أنها لام العلة كما هي في: «القيامُ لزيدٍ» وقوله: «أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو» أن الأولى للتبليغ والثانية لام العلة، وقرأ الأخَوانِ وأبو عمرو «أُذِنَ» مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنياً للفاعل أي أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ﴾ [النجم: ٢٦] و «إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن».

فصل


معنى الآية إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ له في الشفاعة قاله تكذيباً لهم حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يَشَفْعَ لَهُ.
قوله: ﴿حَتَّى إذَا﴾ هذه غاية لا بدّ لها من مُغَيَّا وفيه أوجه:
أحدهما: أن قوله: «فَاتَّبعوه» على أن يكون الضمير في «عَلَيْهِمْ» من قوله: «صَدقَ عَلَيْهِمْ» وفي «قُلُوبِهم» عائداً على جمعي الكفار ويكون التفريغ حالة مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة إلى يوم القيامة مجازاً. والجملة من قوله «قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زعمتُمْ» معترضة بين الغاية والمغيا. ذكره أبو حيان. وهو حسن.
والثاني: أنه محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل: ولا هم شفاء كما تُحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون أي منقادون «حَتَّى إذَا فُرِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ» انتهى وجعل الضمير في «
55
قُلُوبِهِمْ» عائداً على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائداً على الكفار أو على جميع العالم.
وقوله: ﴿قَالُوا مَاذَا﴾ هو جواب «إذا»، وقوله: ﴿قَالُوا الحَقَّ﴾ جواب لقوله: «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ» و «الحَقَّ» منصوب بقَال مُضْمَرة أي قالوا: قَالَ رَبُّنَا الحَقَّ أي القَوْلَ الحَقَّ، إلاَّ أنَّ أبا حيان ردّ هذا فقال: وما قدّره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها (و) هم منقادون عنده دائماً لا ينفكون عن ذلك لا إذَا فُرِّع عَنء قُلُوبِهِمْ ولا إذا لم يُفَرَّعْ.
الثالث: أنه «زَعَمْتُمْ» أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم: قال الحق وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله: «زعَمْتُمْ» إلى الغيبة في قوله: «قُلُوبِهِمْ».
الرابع: أنه ما فهم من سياق الكلام، قال الزمخشري: فإن قلت: باي شيء اتصل قوله: «حَتَّى إذَا فزع» ؟ وأي شيء وقَعَتْ «حَتَّى» غايةً؟ قلتُ: بما فهم من هذا الكلام من أن ثَمَّ انتظاراً للأذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لايؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاَّ بعد مليِّ من الزمان وطول من التَّربُّص ودل على هذه الحالة قوله - عزّ من قائل - ﴿رَّبِّ السماوات والأرض﴾ [النبأ: ٣٧] إلى قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً﴾ [النبأ: ٣٨] فكأنه قيل: يتربصون ويتوقفون ملِيًّا فزكعين وَجِلينَ حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تَبَاشَرُوا بذلك وقال بعضهم لبعض: ماذَا قَالَ رَبَّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر فَزَّعَ مبنياً للفاعل. فإن كان الضمير في «قلوبهم» للملائكة فالفاعل في «فزع» ضمير اسم الله تعالى تلقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مُغْويهِمْ. كذا قال أبو حيان والظاهر أنه يعود على الله
56
مطلقاً وقرأ الباقون مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده، وفعل ابتشديد معناه السلب هنا نحوه «قَرَّدْتُ البَعِيرَ» أي أزلتُ قُرَادَهُ كذا هنا أي أزال الفَزَعَ عنها أي كشف الفَزَعَ وأخرجه عن قلوبهم فالتفريعُ لإزالة الفزع كالتَّمْريض والتَّقْرِيد.
وقرأ الحَسَنُ فُزِعَ مبنياً للمفعول مخففاً كقولك «ذُهِبَ بِزَيْدٍ»، والحسن أيضاً قتادة ومجاهد فَرَّغَ مشدداً مبنياً للفاعل من الفَرَاغِ الفَنَاءُ والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل انتفى بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مَقَامه وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عمر افْرُنْقِعَ من الافرنقاع وهو التفرق قال الزمخشري: والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب «اقمطَرَ» من حروف القمط مع زيادة الراء، قال أبو حيان: فإن عنى أن العين من حروف الزيادة (وكذا الراء وهو ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة) وإن عنى أنَّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة «فَرْقَعَ وقَمْطَرَ» فهو صحيح انتهى، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ نص أهل البيان عليها ومثلوا بها وحكي عن عيسى بن عمر أنه غُشِيَ عليه ذات يوم فاجتمع عليه النَّظَّارة فلما أفاق قال: «ما لي أرَاكُمْ تَكَأكأتم عَلَيَّ تكأكؤكم عَلَى ذِي جِنَّةٍ افْرَنْقِعُوا عنّي» أي اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة، وقرأ ابن عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ مضمر أي قالوا: قَوْلُهُ الحَقُّ.
57

فصل


اختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة فقيل: هم الملائكة، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنَّما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عزّ وجلّ - لِمَا روى أبو هريرة أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال «إذَا قَضَى اللَّهُ الأمر فِي السَّمَاءِ ضَرَبت المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً» لِقَوْلِهِ كأنه سلسلة على صَفْوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق هو العلي الكبير وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «خَوْفاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أهْلُ السَّمَواتِ ضَعُفُوا وخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّداً فيكُونُ أَوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأسَهُ جبريل فُيَكلِّمهُ مِنْ وَحِيْهِ بَمَا أَرَادَ ثُمَّ يَمُرُّ جِبْريلُ عَلَى المَلاَئِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بسَماءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا ماذَا قَال رَبُّنَا يَا جبريلُ؟ فيقُول جِبْريلُ الحقّ وهُو العَليُّ الكبيرُ قال: فيَقُولُون كُلُّهُمْ مثْلَ مَا قَالَ جبْريل. فَيَنْتَهِي جِبْريلُ بالوحي حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ» وقيل: إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة. قال مقاتل والسدي: كانت الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما (الصلاة و) السلام - خمسمائة سنة. وقيل: سمتائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً فلما بعث الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلَّم جبريل - عليه (الصلاة و) السلام - بالرسالة إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انْحدَرَ جبريلُ جعل يمُرُّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربُّكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل: الموصوف بذلك المشركون. قال الحسن وابن زيد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار.
58
قوله: «وهو العلي الكبير» فقوله: «الحق» إشارة إلى أنه كامل وقوله: «وهو العلي الكبير» إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته.
59
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ هذا استثناء مفرغ من العلل العامة تقديره : وما كان له عليهم ( من سلطان )١ استيلاء لشيء من الأشياء إلا لهذا وهو تمييز المُحَقِّ من الشَّاكِّ٢.
قوله :«مِنْهَا » متعلق بمحذوف على معنى البيان أي أعني منها وبِسَبَبِها٣ وقيل :«من » بمعنى «في ». وقيل : هو حال من «شَكَّ »٤. وقوله :«مَنْ يُؤْمِنُ » يجوز في «من » وجهان :
أحدهما : أنها استفهامية فتسُدّ٥ مسدَّ مفعولي العلم كذا ذكر أبو البقاء٦ وليس بظاهر ؛ لأن المعنى إلا لنُمَيِّزَ٧ ويظهر للناس من يؤمن ممن لا يؤمن فعثر عن مقابله بقوله ﴿ مِمَّنْ هو مِنْهَا فِي شَكِّ ﴾ لأنه من نتائجه ولوازمه.
والثاني : أنها موصولة٨ وهذا هو الظاهر على ما تقدم تفسيره.

فصل


قال ابن الخطيب : إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإنّ العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالمَ سَيُوجد فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه٩ مَعدوماً كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما التغيير في الخارجات فكذلك ههنا١٠.
قوله :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ أي ليقع في العلم صُدُور الكفر من الكافر، والإيمان من المؤمن وكان علمه فيه أنْ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ ويُؤْمِنُ عَمرو١١ قال البغوي : المعنى١٢ إلا ليميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب١٣. وقوله :﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ محقِّق، ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس منهم عالم بما سيقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا الجاهل١٤.
١ سقط من "أ" وزيادة من "ب"..
٢ قاله السمين في الدر المصون ٤/٤٣٣..
٣ نقله في التبيان ١٠٦٧ والبحر ٧/٢٧٣..
٤ التبيان ١٠٦٧ والدر المصون ٤/٤٣٣ وقد جعلها أبو جعفر النحاس في كتابه إعراب القرآن: "زائدة" انظر تفسيره ٣/٣٤٤..
٥ في "ب" تسد بدون فاء..
٦ التبيان ١٠٦٧ قال: "يجوز أن يكون بمعنى الذي فينتصب بنعلم وأن يكون استفهاميا في موضع بالابتداء"..
٧ في "ب" ليميز بالياء....
٨ الدر المصون ٤/٤٣٣ وانظر المرجع السابق..
٩ في تفسيره "يعلمه"..
١٠ نقله في تفسيره الكبير ٢٥/٢٥٣ و ٢٥٤..
١١ المرجع السابق..
١٢ قاله في معالم التنزيل ٥/٢٩٠..
١٣ المرجع السابق..
١٤ في الفخر الرازي: "ولا العاجز" وهو الأصح انظر: الرازي ٢٥/٢٥٤..
قوله :﴿ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ ﴾ مفعول «زعمتم » الأول محذوف هو عائد الموصول، والثاني أيضاً محذوف قامت صفته مقامه أي زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ من دون الله ولا جائز أن يكون :«مِنْ دُونِ اللَّهِ » هو المفعول الثاني ؛ إذ لا ينعقد منه مع ما قبله كَلاَم لو قلت : هُمْ من دون الله أي من غير نية موصوف لم يجز ولولا قيام الوصف مقامه أيضاً لم يحذف لأنَّ حَذْفَهُ اختصاراً١ قليلٌ على أن بعضهم منعه٢.

فصل


لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بما مضى عاد إلى خطابهم فقال لرسوله عليه ( الصلاة٣ و ) السلام : قُلْ للمشركين «ادْعُوا الَّذِينَ زعَمتُمْ من دون الله ). وفي الكلام حذف أي ادعوهم ليكشفوا٤ الضر الذي نزل بكم في سِنِينِ٥ الجُوع ثم وصفها فقال :﴿ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ من خير وشر ونفع وضر «وَمَا لَهُمْ » أي الآلهة فيهما أي السموات والأرض «مِنْ شِرْكٍ » أي شركة «وَمَا لَهُ » أي وما لله «مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير » عوْنٍ٦.
١ قال بذلك شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤/٤٣٤ و ٤٣٣..
٢ قال في البحر: في حذف أحد مفعولي :"ظن وأخواتها" اختصارا خلاف منع ذلك ابن ملكون وأجازه الجمهور وهو مع ذلك قليل. والحذف لدليل يسمى اختصارا لغيره يسمى اقتصارا. وقال السيوطي في الهمع ١/١٥٢: وأما حذف أحد المفعولين اقتصارا فلا يجوز بلا خلاف لأن أصلهما المبتدأ والخبر وذلك غير جائز فيهما وأما اختصارا فيجوز نقله عن الجمهور ومنعه طائفة منهم ابن الحاجب وصححه ابن عصفور وأبو إسحاق ابن ملكون كالاقتصار وقياسا على باب "كان" وقد ورد السماع هنا بالحذف قال:
ولقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم.

٣ سقط من ب..
٤ وهذا يسمى إيجازا بالحذف..
٥ قاله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٠..
٦ قاله أبو عبيدة في المجاز ٢/١٤٧ قال: "من ظهير" أي معين..
قوله :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ اللام في «لمن » فيها أوجه :
أحدها : أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء١ : وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول «تنفع » وكلاهما خلافُ الأصل٢.
الثاني : أنه استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكوراً إنما دل عليه الفحوى والتقدير :
لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعة لأحدٍ من المشفوع لهم إلا لِمَنْ أَذِنَ له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون هو الشافع والمشفوع له ليس مذكوراً تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع وعلى هذا فاللام في «لَهُ » لام التبليغ٣ لا لام العلة٤.
الثالث : أنه استثناء مفرغ أيضاً لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعةُ إلا كائنة لمن أذن له٥. وقدره الزمخشري فقال : تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع كما تقول : الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد فاحتمل قوله :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعةُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه ﴾ أن يكون على أحد هَذَيْن الوَجْهَينِ أي لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك :«أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أي لأجله فكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيفٌ وهو الوجهُ. انتهى٦. فقوله :" الكرم لزيد " يعني أنها ليست٧ لام العلة بل لام الاختصاص٨. وقوله : القيام لزيدٍ يعني أنها لام العلة٩ كما هي في :«القيامُ لزيدٍ » وقوله :«أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أن الأولى للتبليغ والثانية لام العلة، وقرأ الأخَوانِ وأبو عمرو «أُذِنَ » مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنياً للفاعل أي أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله :﴿ إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النجم : ٢٦ ] و «إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن »١٠.

فصل


معنى الآية إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ له في الشفاعة قاله تكذيباً لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يَشَفْعَ لَهُ١١.
قوله :﴿ حَتَّى إذَا ﴾ هذه غاية لا بدّ لها من مُغَيَّا وفيه أوجه :
أحدها : أن قوله :«فَاتَّبعوه » على أن يكون الضمير في «عَلَيْهِمْ » من قوله :«صَدقَ عَلَيْهِمْ » وفي «قُلُوبِهم » عائداً على جميع الكفار ويكون التفريغ حالة مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة١٢ إلى يوم القيامة مجازاً. والجملة من قوله «قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زعمتُمْ » معترضة بين الغاية والمغيا. ذكره أبو حيان. وهو حسن١٣.
والثاني : أنه محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل : ولا هم شفاء كما تُحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون أي منقادون «حَتَّى إذَا فُزِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ » انتهى١٤. وجعل الضمير في «قُلُوبِهِمْ » عائدا على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائداً على الكفار أو على جميع العالم.
وقوله :﴿ قَالُوا مَاذَا ﴾ هو جواب «إذا »، وقوله :﴿ قَالُوا الحَقَّ ﴾ جواب لقوله :«مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ »١٥ و «الحَقَّ » منصوب بقَال مُضْمَرة أي قالوا : قَالَ رَبُّنَا الحَقَّ أي القَوْلَ الحَقَّ١٦، إلاَّ أنَّ أبا حيان ردّ هذا فقال : وما قدّره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ( و )١٧ هم منقادون عنده دائماً لا ينفكون عن ذلك لا إذَا فُزِّع عَن قُلُوبِهِمْ ولا إذا لم يُفَزَّعْ١٨.
الثالث : أنه «زَعَمْتُمْ » أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله :«زعَمْتُمْ » إلى الغيبة في قوله :«قُلُوبِهِمْ »١٩.
الرابع : أنه ما فهم من سياق الكلام٢٠، قال الزمخشري : فإن قلت٢١ : بأي شيء اتصل قوله :«حَتَّى إذَا فزع » ؟ ولأي شيء وقَعَتْ «حَتَّى » غايةً ؟ قلتُ : بما فهم من هذا الكلام من أن ثَمَّ انتظاراً للأذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لايؤذن ؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاَّ بعد مليِّ من الزمان وطول من التَّربُّص ودل على هذه الحالة قوله - عزّ من قائل - ﴿ رَّبِّ السماوات والأرض ﴾ [ النبأ : ٣٧ ] إلى قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٨ ] فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملِيًّا فزعين وَجِلينَ٢٢ حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تَبَاشَرُوا بذلك وقال بعضهم لبعض : ماذَا قَالَ رَبَّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر فَزَّعَ مبنياً للفاعل٢٣. فإن كان الضمير في «قلوبهم » للملائكة فالفاعل في «فزع » ضمير اسم الله تعالى لتقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مُغْويهِمْ. كذا قال أبو حيان٢٤. والظاهر أنه يعود على الله مطلقاً وقرأ الباقون مبنياً للمفعول٢٥ والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده٢٦، وفعل بالتشديد معناه السلب هنا نحوه «قَرَّدْتُ البَعِيرَ » أي أزلتُ قُرَادَهُ كذا هنا أي أزال الفَزَعَ عنها أي كشف الفَزَعَ وأخرجه عن قلوبهم فالتفزيعُ لإزالة الفزع كالتَّمْريض والتَّقْرِيد٢٧.
وقرأ الحَسَنُ فُزِعَ مبنياً للمفعول مخففاً٢٨ كقولك «ذُهِبَ٢٩ بِزَيْدٍ »٣٠، والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد فَرَّغَ مشدداً مبنياً للفاعل٣١ من الفَرَاغِ وعن الحسن أيضا تخفيف الراء، وعنه٣٢ أيضا وعن ابن عمر وقتادة مبنيا للمفعول٣٣ والفراغ الفَنَاءُ والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل أو انتفى بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مَقَامه وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عمر افْرُنْقِعَ من٣٤ الافرنقاع٣٥ وهو التفرق قال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب «اقمطَرَ » من حروف القمط مع زيادة الراء٣٦، قال أبو حيان : فإن عنى أن العين من حروف الزيادة ( وكذا الراء وهو٣٧ ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة ) وإن عنى أنَّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة «فَرْقَعَ وقَمْطَرَ » فهو صحيح انتهى٣٨، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ نص أهل البيان عليها٣٩ ومثلوا بها وحكي عن عيسى٤٠ بن عمر أنه غُشِيَ عليه ذات يوم فاجتمع عليه النَّظَّارة فلما أفاق قال :«ما لي أرَاكُمْ تَكَأكأتم عَلَيَّ تكأكؤكم عَلَى ذِي جِنَّةٍ افْرَنْقِعُوا عنّي » أي اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ مضمر أي قالوا : قَوْلُهُ الحَقُّ٤١.

فصل


اختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة فقيل : هم الملائكة٤٢، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنَّما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عزّ وجلّ - لِمَا روى أبو هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذَا قَضَى اللَّهُ الأمر فِي السَّمَاءِ ضَرَبت المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً »٤٣ لِقَوْلِهِ كأنه سلسلة على صَفْوان٤٤ فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير٤٥. وقال - عليه ( الصلاة٤٦ و ) السلام- :«إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خَوْفاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أهْلُ السَّمَواتِ ضَعُفُوا وخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّداً فيكُونُ أَوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأسَهُ جبريل فُيَكلِّمهُ مِنْ وَحِيْهِ بَمَا أَرَادَ ثُمَّ يَمُرُّ جِبْريلُ عَلَى المَلاَئِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بسَماءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا ماذَا قَال رَبُّنَا يَا جبريلُ ؟ فيقُول جِبْريلُ الحقّ وهُو العَليُّ الكبيرُ قال : فيَقُولُون كُلُّهُمْ مثْلَ مَا قَالَ جبْريل. فَيَنْتَهِي جِبْريلُ بالوحي حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ »٤٧. وقيل : إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة٤٨. قال مقاتل والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما ( الصلاة٤٩ و ) السلام - خمسمائة سنة. وقيل : سمتائة سنة٥٠ لم تسمع الملائكة فيها وحياً فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كلَّم جبريل - عليه ( الصلاة و ) السلام - بالرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمدا – عليه ( الصلاة و ) السلام- عند أهل السموات من أشراط الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انْحدَرَ جبريلُ جعل يمُرُّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربُّكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل : الموصوف بذلك المشركون. قال الحسن٥١ وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار.
قوله :«وهو العلي الكبير » فقوله :«الحق » إشارة إلى أنه كامل وقوله :«وهو العلي الكبير » إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته.
١ التبيان لأبي البقاء العكبري ١٠٦٨..
٢ قال بهذا النظر أبو حيان في بحره حيث قال: وهذا فيه قلة لأن المفعول متأخر فدخول اللام عليه قليل". وتبعه شهاب الدين السمين في :"دره المصون" ٤/٤٣٤. ومعروف أن اللام تزاد في المفعول إذا كان مقدما كقوله تعالى: ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون﴾ وكقوله: ﴿والذين هم لربهم يرهبون﴾ أما السبب الثاني الذي ذكره وهو حذف مفعول: "تنفع" فهو غير معتد به فقد يجوز حذف المفعول به ما لم يكن نائبا عن الفاعل أو متعجبا منه، أو مجابا به أو محصورا أو محذوف العامل وهكذا. انظر: مغني اللبيب ٢١٧، والبحر ٧/٢٧٦ والهمع ١/١٦٦ و ١٦٧..
٣ هي الجارة وهي لاسم السامع للقول أو ما معناه نحو: قلت له، وأذنت له، وفسرت له: "مغني اللبيب" ٢١٣..
٤ قاله في الدر المصون ٤/٤٣٤..
٥ المرجع السابق..
٦ نقله في الكشاف ٣/٢٨٧..
٧ قاله في الكشاف المرجع السابق ٣/٢٨٧..
٨ وهي التي تفيد أن ما قبلها خاص بما بعدها كقلوهم: السرج للفرس..
٩ وهي التي تقدر بمعنى لأجل أي ثبوت ما قبلها لأجل ما بعدها. وانظر: البحر المحيط ٧/٢٧٧ والدر المصون ٤/٤٣٥..
١٠ الآية ١٠٩ من سورة طه و٣٨ من سورة النبأ..
١١ قاله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٠..
١٢ في البحر المحيط: "مصاحبة لهم"..
١٣ وهذا معنى كلام أبي حيان في البحر ٧/٢٧٧..
١٤ المرجع السابق..
١٥ الدر المصون ٤/٤٣٥..
١٦ المرجع السابق وقد قال ابن الأنباري في البيان "ما" في موضع نصب ب "قال" و "ذا" زائدة وكذلك ينصب الجواب ب "قال" وهو قوله تعالى: ﴿قالوا الحق﴾ انظر: البيان ٢/٢٨٠..
١٧ تكملة من البحر من كلام أبي حيان فيه..
١٨ البحر المحيط ٧/٢٧٨..
١٩ المرجع السابق وانظره أيضا في السمين ٤/٤٣٥..
٢٠ السابق..
٢١ مع تغيير قليل في عبارته. انظره في الكشاف ٣/٢٨٧ و ٢٨٨..
٢٢ كذا في "ب" وما في "أ" والكشاف "وهلين"..
٢٣ قاله ابن الجزري في النشر ٢/٣٥١ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٨٨ وأبو حيان في البحر ٧/٢٧٨ والبناء في الإتحاف ٣٥٩ وهي عشرية..
٢٤ البحر ٧/٢٧٨..
٢٥ قالها الفراء في معاني القرآن ٢/٣٦١ كما ذكرت في التبيان ١٠٦٨ والكشف ٢/٢٠٥..
٢٦ التبيان ١٠٦٨..
٢٧ الدر المصون ٤/٤٣٦ والبحر ٧/٢٧٨..
٢٨ في "ب" محققا –بالقاف- وهو خطأ وتحريف..
٢٩ في "ب": ولهت بزيد. وهو غير مراد حيث لم يبن الفعل فيه للمجهول..
٣٠ نقلها في الجامع لأحكام القرآن ١٤/٢٩٨ والكشاف ٣/٢٨٨ والمحتسب ٢/١٩١ وهي غير متواترة..
٣١ المراجع السابقة وانظر الإتحاف ٣٦٠ وهي من الأربع عشرة..
٣٢ معطوف على: "وعن الحسن"..
٣٣ انظر: البحر ٧/٢٧٩ وتأويل المشكل ٢٠٨ والقرطبي ١٤/٢٩٨ و ٢٩٩..
٣٤ من القراءات الشاذة شذوذا واضحا لمخالفتها مصحف الأقطار وذكرها ابن جني في المحتسب ونعتها بالشذوذ. المحتسب ٢/١٩٣ وذكرها الزمخشري في الكشاف ٣/٢٨٨ وابن خالويه في مختصره ١٢٢..
٣٥ وهو التحول والتنحي والانكشاف..
٣٦ الكشاف ٣/٢٨٨..
٣٧ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٣٨ البحر المحيط ٧/٢٧٨..
٣٩ الإيضاح القانوني ٣..
٤٠ قال ابن جني في المحتسب إنه أبو علقمة النحوي..
٤١ قالها الزمخشري في الكشاف ٣/٢٨٨ بدون نسبة. وقال الفراء في المعاني: "ولو قرىء الحق بالرفع أي هو الحق صوابا". المعاني ٢/٣٦٢. وقال الأخفش في "المعاني" نفس المعنى: "إن شئت رفعت الحق وإن شئت نصبته" المعاني له ٢/٦٦٢، وانظر: البحر ٧/٢٧٩..
٤٢ نقله في زاد المسير ٦/٤٥٢..
٤٣ تواضعا وانقيادا لحكمه..
٤٤ حجر أملس..
٤٥ رواه البخاري في صحيحه ورواه السيوطي في جامع الأحاديث ١/٣٢٦ و ٣٢٧..
٤٦ سقط من "أ"..
٤٧ أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن النواس بن سمعان ٥/٢٩٠ و ٢٩١..
٤٨ نقله القرطبي في الجامع ١٤/٢٩٧ والبغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩١..
٤٩ سقط من "أ"..
٥٠ وهو قول الكلبي وكعب أيضا، القرطبي ١٤/٢٩٧..
٥١ معالم التنزيل ٥/٢٩١ والقرطبي ١٤/٢٩٧..
قوله (تعالى) :﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات﴾ المطر «و» من «الأَرْضِ» النبات «قُل اللَّهُ» يعني إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت رازقكم الله.
قوله: ﴿أو إيّاكُمْ﴾ عطف على اسم «إن» وفي الخبر أوجه:
أحدها: أن الملفوظ به الأول. وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي وإنَّا لعَلَى هُدًى أو في ضلال أو إنكم لَعَلى هدى أو في ضلال.
والثاني: العكس أي حذف الأول والملفوظ به خبر الثاني وهو خلاف مشهور وتقدم تحقيقه عند قوله: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] وهذان الوجهان لا ينبغي أي يحملا على ظاهرهما قطعاً لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يشكّ أنه على هدى ويقين وأن الكفار على ضلال وإنما هذا الكلام جارٍ على ما تتخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير ويسميه أهل البيان الاسْتِدْرَاجَ وهو أن يذكر المخاطب أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يُصْغِي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يَصْغَ، ونظيره قولهم: أخْزَى اللَّهُ الكَاذِبَ مِنِّي ومِنْكَ ومثله قول الآخر:
59
٤١٣١ - فَأيِّي مَا وأيُّكَ كَانَ شَرًّا فَقِيدَ إلَى المُقَامَةِ ولا يَرَاهَا
وقول حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
٤١٣٢ - أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
مع العلم لكل أحد أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خير خلق الله كلهم.
الثالث: أنه من باب الف والنشر والتقدير: وَإنَّا لَعَلَى هُدًى وإنَّكُمْ لَفِي ضَلاَلٍ مُبين ولكن لفَّ الكَلاَمَيْنِ وأخرجهما كذلك لعدم اللبس، وهذا لا يتأتي إلا أن تكون «أو» بمعنى الواو. وهي مسألة خلاف ومن مجيء «أو» بمعنى الواو قوله:
٤١٣٣ - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ مَا بَيْنَ مُلْجِم مُهْرِهِ أَوْ سَافِع
وتقدم تقرير هذا، وهذا الذي ذكرناه منقول عن أبي عبيدة.
60
الرابع: قال أبو حيان: و «أو» هنا على موضعها لكونها لأحد الشيئين وخبر «إنَّا أَوْ إيَّاكُمْ» هو «لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ» ولا يحتاج إلى تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لفي أحد هذين لقولك: «زَيْدٌ أو عمرو في القصر أو في المسجد» لا يحتاج إلى تقدير حذف إذ معناه أحد هذين في أحد هذين.
وقيل: الخبر محذوف ثم ذكر ما تقدم إلى آخره، وهذا الذي ذكره تفسير معى لا تفسير إعراب. (والناس) نظروا إلى تفسير الإعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرناه.
وذكروا في الهدى كلمة «على» وفي الضلال كلمة «في» لأن المهتدي كأنه مرتَفع مطَّلع فذكره بكلمة «التعالي» والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكر بكلمة «في».
قوله: ﴿قُلْ لاَ تُسألون عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم: «وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.
قوله: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنَا﴾ يَوْمَ القِيَامَة «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ» وهاتان صفتا مبالغة وقرأ عيسى بن عمر «الفاتِحُ» اسم فاعل.
قوله: «أَرْوني» فيها وجهان:
أحدهما أنها علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثةٍ أولها «ياء» المتكلم ثانيها «الموصول»، ثالثها: «شركاء» وعائد الموصول محذوف أي أَلْحَقْتُمُوهُمْ.
والثاني: أنها بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما: يَاء المتكلم وثانيهما: الموصول و «شركاء» نصب على الحال من عائد الموصول أي بَصِّرُوني المُلْحَقِينَ به حالَ كونهم شركاء قال ابن عطية في هذا الثاني «ولا غناء» له أي لا مَنْفَعَة فيه يعني أن معناه ضعيف. قال أبو حيان: وقوله: «لا غناء له» ليس بجيد بل
61
في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك.

فصل


الضمير في «به» أي بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلاّ لا يَخْلُقُون ولا يرزقون.
قوله: «بل هو الله» في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه ضمير عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هُو الله، و «الْعَزِيزُ الحَكِيمُ» صفتان.
والثاني:
أنه ضمير الأمر والشأن و «اللَّهُ» مبتدأ، و «الْعَزِيزُ والْحَكِيمُ» خبران، والجملة خبر «هو» والعزيز هو الغالب على أمره، (و) الحكيمُ في تدبير لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه؟
قوله: «كافَّةً» فيه أوجه:
أحدها: أنه حال من كاف «أَرْسَلْنَاكَ» والمعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع والهادي لله للمبالغة كَهي في «علاَّمَة» و «رَاوِيَة» قال الزجاج: وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كَفَّ يَكُفُّ، قال أبو حيان: أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعاً، والهاء فيه للمالبغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظاً بمعنى «جَمَعَ» يعني أنَّ المحفوظ معناه «مَنَعَ» يقال: كَفّ يكُفُّ أي منع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر وأن يشِذّوا من تبليغك، ومنه الكف لأنها تَمْنَعُ مَا فِيهِ.
62
الثاني: أن كافة مصدر جاءت على الفَاعِلَةِ كالعَاقِبَة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالاً إما على المبالغة وإما على حذف مضاف أي ذَا كَافَّةٍ لِلنَّاسِ.
الثالث: أن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا إرْسَالَةً كَافَّةً قال الزمخشري: إلاَّ إرْسَالَة عامَّةً لهم محيط بهم لأنهم إذا شَمِلتْهُمْ فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. قال أبو حيان: أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ.
الرابع: أن «كافة» حال من «لِلنَّاس» أي للناس كافةً إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال: «وَمَنْ جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يَقْتَنَعُ به حتى يضُمَّ إليه أن يجعل اللام بمعنى» إلَى «؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فيرتكب الخطأين معاً». قال أبو حيان: أما قوله كذا فهو مختلف في ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز، وذهب أبو علي وابن كَيْسَانَ وابن بَرْهَانَ وابن مَلْكُون إلى جَوَازِهِ قال: وهو الصحيح قال: ومن أمثله أبي علي: «زيدٌ خَيْراً مَا يكونُ خَيْرٌ مِنْكَ» التقدير: زيد خير منك خَيْراً ما يكون فجعل «خَيْراً ما يَكُونُ» حالاً من الكاف في «منك» وقدمها عليها وأنشد:
63
أي فمطلبها عليه كهلاً، وأنشد أيضاً:
٤١٣٤ - إذَا الْمَرْءُ أَعَيَتْهُ المُرُوءَةُ نَاشِئاً فَمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ
٤١٣٥ - تَسَلَّيْتُ طُراً عَنْكُمُ بُعْدَ بَيْنِكُمْ بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأنَّكُمْ عِنْدِي
أي عَنْكُمْ طُرًّا، وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر:
٤١٣٦ - مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شُغِفْتُ وإنَّمَا حُمَّ الفِرَاقُ فَمَا إلَيْكَ سَبِيلُ
أي قد شغفت بكل مشغوفة وقال الآخر:
٤١٣٧ - غَافِلاً تَعْرِضُ المِنَيَّةُ لِلْمَرْءِ فَيُدْعَى وَلاتَ حِينَ إباءِ
أي تَعْرِضُ المنيةُ للمرء غافلاً قال: وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجْوَز قال: وممن حمله على الحال ابن عطية فإن قال: قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافةً وقول الزمخشري: لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيغ لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى «إلى» لأن «أَرْسَلَ» يتعدى باللام قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً﴾ [النساء: ٧٩] وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضاً فقد جاءت اللام بمعنى «إلَى» و «إلَى» بمعناها.
قال شهاب الدين: أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيَّة وأما كونها بمعنى «إلى» والعكس فالبصريونَ لا يَتَجَوَّزُونَ في الحروف، و «بَشِيراً» و «نَذِيراً» حالان أيضاً.
64

فصل


لما بيَّن مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً﴾ أي الرسالة كافة أي تكُف الناس أنت من الكفر وتمنعهم عن الخروج عن الانقياد لها أو تكف الناس أنت عن الكفر والهاء للمبالغة على ما تقدم. و «لِلنَّاسِ» أي عامةً أحمرهم وأسودهِم «بَشِيراً وَنَذِيراً» أي مبشراً ومنذراً تحثهم بالوعد وتزجرهم بالوعيد «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» ذلك لآ لخفائه ولكن لغفلتهم قال - عليه (الصلاة و) والسلام -: «كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً».
قوله: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعني يوم القيامة لما ذكر الرسالة بين الحشر.
قوله: «لكم ميعاد» مبتدأ وخبر. والميعاد يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أنه مصدر مضاف لظرفه والميعاد يطلق على الوعد والوعيد. وقد تقدم أن الوعد في الخير، الوعيد في الشر غالباً.
الثاني: اسم أقيم مقام المَصْدَرِ والظَاهر الأول، قال أبو عبيدة: الوَعْدُ والوَعِيدُ والميعاد بمعنى.
الثالث: أنه هنا ظرف زمان (قال الزمخشري: الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا ظرف زمان)، والدليل عليه (قراءة) من قرأ: مِيعَادٌ يَوْمٌ يعني برفعهما منونين فأبدل منه «الْيَوْمَ» وأما الإضافة فإضافة تبيين لقولك: سَحْقُ ثَوْبٍ، وبعيرُ سَانِيَةٍ، وقال أبو حيان: ولا يتعين ما قال لاحتمال أن يكون التقدير: لكم ميعاد ميعاد يوم، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه، قال شهاب الدين والزمخشري لو فعل مثل ذلك لسمع به، وجوَّز الزمخشري في الرفع وجهاً آخر وهو الرفع على
65
التعظيم يعني على إضمار مبتدأ وهو الذي يسمى القطع، وسيأتي هذا قريباً، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ واليَزيديّ مِيعَادٌ يوْماً بتنوين الأول ونصب «يوماً» منوناً وفيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الظرف والعامل فيه مضاف مقدر تقديره: لكم إنجازُ وَعْدٍ في يوم صِفَتُهُ كَيْتَ وكَيْتَ.
الثاني: أن ينتصب بإضمار فعل. قال الزمخشري: وأما نصب «اليوم» فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره أعني يوْماً، ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم. وقرأ عِيسَى بتنوين الأول ونصب «يَوْم» مضافاً للجُمْلة بعده. وفيه الوجهان المتقدمان النَّصْب على التعظيم أو الظَّرف.
قوله: ﴿لاَ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ﴾ يجوز في هذه الجملة أن تكون صفة «لِميعَادٍ» إن عاد الضمير في «عنه» عليه أو «لِيَوْم» إن عاد الضمير في «عنه» عليه فيجوز أن يحكم على موضعها بالرفع أو الجر وأما على قراءة عيسى فينبغي أن يعود الضمير في «عنه» على «ميعاد» لأنه نَصُّوا على أنّ الظَّرْفَ إذا أضيفَ إلى جملة لم يَعُدْ منها إليه ضمير إلاَّ في ضرورة كقوله:
٤١٣٨ - مَضَتْ سَنَةٌ لِعَامٍ وُلِدْتُ فِيهِ وَعَشْرٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ

فصل


تقدم الكلام في سورة الأعراف أن قوله: ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجَل ولكن الاستقدام ما وجهه؟ وقد تقدم، ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعدال بين أنه اسْتِعْجَالَ فيه كما أنه لا إمهال وهذا لا يفيد عظَم الأمر، وخَطَر الخطب، لأن الأمر الحقير إذا طلبه من غيره لا يؤخره ولا يُوقفه
66
على وقت بخلاف الأمر الخطير والمراد باليوم يوم القيامة وقال الضحاك: يوم الموت لا يتأخرون عنه ولا يتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص.
67
قوله :﴿ قُلْ لاَ تُسألون عَمَّا أَجْرَمْنَا ﴾ أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم :«وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ » ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب١ المانع من الفهم.
١ الفخر الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنَا ﴾ يَوْمَ القِيَامَة «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ » وهاتان صفتا مبالغة وقرأ عيسى بن عمر «الفاتِحُ » اسم١ فاعل.
١ قراءة شاذة رواية وإن كانت جائزة قياسا ولغة وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٢..
قوله :«أَرْوني » فيها وجهان :
أحدهما : أنها علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثةٍ أولها «ياء » المتكلم ثانيها «الموصول »، ثالثها :«شركاء » وعائد الموصول محذوف أي أَلْحَقْتُمُوهُمْ.
والثاني : أنها بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما : يَاء المتكلم وثانيهما : الموصول و «شركاء » نصب على الحال من عائد الموصول أي بَصِّرُوني المُلْحَقِينَ به حالَ كونهم شركاء١. قال ابن عطية في هذا الثاني «ولا غناء »٢ له أي لا مَنْفَعَة فيه يعني أن معناه ضعيف٣. قال أبو حيان : وقوله :«لا غناء له » ليس بجيد بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل٤ بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك٥.

فصل


الضمير في «به » أي بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون ؟ كلاّ لا يَخْلُقُون ولا يرزقون٦.
قوله :«بل هو الله » في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه ضمير عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هُو الله، و «الْعَزِيزُ الحَكِيمُ » صفتان.
والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن و «اللَّهُ » مبتدأ، و «الْعَزِيزُ والْحَكِيمُ » خبران، والجملة. . . خبر٧ «هو » والعزيز هو الغالب على أمره، ( و ) الحكيمُ في تدبيره لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه ؟
قوله :«كافَّةً » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من كاف٨ «أَرْسَلْنَاكَ » والمعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع والهادي لله٩ للمبالغة كَهي في «علاَّمَة » و «رَاوِيَة »١٠ قال الزجاج : وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كَفَّ يَكُفُّ١١، قال أبو حيان : أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعاً، والهاء فيه للمبالغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظاً بمعنى «جَمَعَ ». يعني أنَّ المحفوظ معناه «مَنَعَ » يقال : كَفّ يكُفُّ أي منع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر وأن يشِذّوا من تبليغك، ومنه الكف لأنها تَمْنَعُ مَا فِيهِ١٢.
الثاني : أن كافة مصدر جاءت على الفَاعِلَةِ كالعَاقِبَة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالاً إما على المبالغة وإما على حذف مضاف أي ذَا كَافَّةٍ لِلنَّاسِ١٣.
الثالث : أن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرْسَالَةً كَافَّةً قال الزمخشري : إلاَّ إرْسَالَة عامَّةً لهم محيط بهم لأنها إذا شَمِلتْهُمْ فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم١٤. قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ١٥.
الرابع : أن «كافة » حال من «لِلنَّاس » أي للناس كافةً إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال :«وَمَنْ جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يَقَْنَعُ به حتى يضُمَّ إليه أن يجعل اللام بمعنى «إلَى » ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فيرتكب١٦ الخطأين معاً »١٧. قال أبو حيان : أما قوله كذا١٨ فهو مختلف فيه ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز، وذهب أبو علي١٩ وابن كَيْسَانَ٢٠ وابن بَرْهَانَ٢١ وابن مَلْكُون٢٢ إلى جَوَازِهِ قال : وهو الصحيح٢٣ قال : ومن أمثله أبي علي :«زيدٌ خَيْراً مَا يكونُ خَيْرٌ مِنْكَ » التقدير : زيد خير منك خَيْراً ما يكون فجعل «خَيْراً ما يَكُونُ » حالاً من الكاف في «منك » وقدمها عليها وأنشد :
٤١٣٤- إذَا الْمَرْءُ أَعَيَتْهُ المُرُوءَةُ نَاشِئاً. . . فَمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ٢٤
أي فمطلبها عليه كهلاً، وأنشد أيضاً :
٤١٣٥- تَسَلَّيْتُ طُراً عَنْكُمُ بُعْدَ بَيْنِكُمْ. . . بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأنَّكُمْ عِنْدِي٢٥
أي عَنْكُمْ طُرًّا، وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر :
٤١٣٦- مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شُغِفْتُ وإنَّمَا. . . حُمَّ الفِرَاقُ فَمَا إلَيْكَ سَبِيلُ٢٦
أي قد شغفت بك مشغوفة وقال الآخر :
٤١٣٧- غَافِلاً تَعْرِضُ المِنَيَّةُ لِلْمَرْءِ. . . فَيُدْعَى وَلاتَ حِينَ إباءِ٢٧
أي تَعْرِضُ المنيةُ للمرء غافلاً قال : وإذا جاز تقديمها٢٨ على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجْوَز٢٩ قال : وممن حمله٣٠ على الحال ابن عطية فإنه قال : قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافةً٣١. وقول الزمخشري : لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيع لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى «إلى » لأن «أَرْسَلَ » يتعدى باللام قال تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ﴾ [ النساء : ٧٩ ] وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضاً فقد جاءت اللام بمعنى «إلَى » و «إلَى » بمعناها٣٢.
قال شهاب الدين : أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيَّة وأما كونها بمعنى «إلى » والعكس فالبصريونَ٣٣ لا يَتَجَوَّزُونَ٣٤ في الحروف، و «بَشِيراً » و «نَذِيراً » حالان أيضاً.
١ هذا قول أبي حيان في البحر ٧/٢٨٠ والشهاب السمين في الدر ٤/٤٤٠ ومعنى كلام القرطبي في الجامع ١٤/٣٠٠ قال: "يكون أروني هنا من رؤية القلب فيكون "شركاء" المفعول الثالث أي عرفوني الأصنام التي جعلتموها شركاء لله عز وجل وهل شاركت في خلق شيء فبينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها؟ ويجوز أن تكون من رؤية البصر فيكون "شركاء" حالا"..
٢ في "ب" ولا غنى قصر وكلتاهما صحيحتان..
٣ بحر أي حيان المرجع السابق..
٤ في البحر "الأمر" لا التنزيل..
٥ البحر المرجع السابق..
٦ القرطبي ١٤/٣٠٠..
٧ هذا معنى عبارة الزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٠ قال: "كأنه قال أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده أو ضمير الشأن"..
٨ قاله في المشكل ٢/٢٠٩ والبيان ٢/٢٨٠ والمعاني للفراء ٢/٣٦٢ والتبيان ١٠٦٩..
٩ القرطبي ١٤/٣٠٠ والبيان ٢/٢٨٠ والتبيان ١٠٦٩..
١٠ المراجع السابقة..
١١ هذا معنى كلامه في إعراب القرآن له قال: "معنى كافة الإحاطة في اللغة والمعنى أرسلناك للناس جامعا في الإنذار والإبلاغ"..
١٢ تكاد التفاسير تجمع على أن كافة بمعنى تمامه فقد قال بذلك ابن قتيبة في الغريب ٣٥٧، والزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٠، وأبو عبيدة في مجاز القرآن ٢/١٤٩ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٤/٣٠٠ وزاد المسير لابن الجوزي ٦/٥٤٦ والخازن والبغوي ٥/٢٩١ و ٢٩٢ والفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٥٨..
١٣ البحر المحيط ٧/٢٨١..
١٤ قاله في الكساف ٣/٢٩٠..
١٥ قال ذلك في البحر المحيط ٧/٢٨١..
١٦ في الكشاف :"فلا بد له من ارتكاب الخطأين"..
١٧ انظر: الكشاف ٣/٢٩٠..
١٨ قاله في البحر المحيط ٧/٢٨١..
١٩ هو الفارسي..
٢٠ هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان كان يحفظ أقوال البصريين والكوفيين فقد أخذ عن ثعلب والمبرد له مصنفات في النحو منها المهذب، والمختار في علل النحو، مات سنة ٢٩٩ هـ انظر: إنباه الرواة ٣/٥٧-٥٩ ونزهة الألباء ١٦١..
٢١ أبو القاسم عبد الواحد بن علي العكبري نظر في النحو واشتهر فيه وله آراء منثورة في كتب النحو مات سنة ٤٥٦ هـ. انظر: المرجع السابق إنباه الرواة ٢/١١٣-٢١٥ وانظر: بغية الوعاة للسيوطي ٢/١٢٠..
٢٢ ترجم له سابقا..
٢٣ قال السيوطي في الهمع: "فقد قال بالجواز مطلقا الفارسي وابن كيسان وابن برهان وصححه ابن مالك" الهمع ١/٢٤١..
٢٤ من الطويل وهو للمخبل السعدي. وشاهده: "كهلا عليه" حيث قدم الحال على صاحبها المجرور بحرف وهناك حال آخر وهو "ناشئا" ولا شاهد فيه، انظر: الأشموني ٢/١٧٨ والدر المصون ٤/٤٤٢ والبحر المحيط ٧/٢٨١ وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب ١/٢٠٧ وفتح القدير برواية "السيادة" بدل "المروءة" ٤/٣٢٧ ومجمع البيان ٧/٧٩١ وعيون الأخبار لابن قتيبة ١/٢٤٧، وشرح ديوان الحماسة ١١٤٨..
٢٥ من الطويل كسابقه ولكنه في تلك المرة مجهول وشاهده كسابقه أيضا حيث تقدم الحال على صاحبه المجرور بالحرف "طرا عنكم" ومعنى "طرا" : جميعا والبين الفراق. انظر: الأشموني على ابن مالك ٢/١٧٧، والدر ٤/٤٤٢، والبحر ٧/٢٨١ والتصريح ١/٣٧٩ وشرح ابن الناظم ١٢٩ وفتح القدير للشوكاني ٤/٣٢٧..
٢٦ من تمام الكامل مجهول القائل وشغفه الحب شغافة وهو غلاف القلب ويجوز "شعفه" بالعين من شعفه أي أحرقه وقيل: أمرضه وحم: قدر. والفاء للتعليل و "ما" نفي. والشاهد: مشغوفة بك حيث وقع حالا مقدما من المجرور وهو الكاف مجرور محلا، وقدم الحال على "بك" وما تعلق به الجار وهو "شغفت"، وانظر: الأشموني ٢/١٧٧ وشرح ابن الناظم ١٢٩ والبحر المحيط ٧/٢٧١ والدر المصون ٤/٤٤٢..
٢٧ من الخفيف مجهول القائل وشاهده كما قبله "غافلا تعرض المنية للمرء" حيث قدم الحال على صاحبه المجرور "للمرء" وما تعلق به الجار وهو "تعرض و "لات" بمعنى ليس واسمها محذوف والخبر هو "حين إباء" أي وليس الحين إباء "أي امتناع" وقد تقدم..
٢٨ البحر المرجع السابق..
٢٩ كذا هي في البحر وما في "ب" أجود..
٣٠ المرجع السابق..
٣١ المرجع السابق..
٣٢ البحر المحيط مع تصرف ببعض كلماته..
٣٣ كذا هي في الدر المصون ٤/٤٤٣..
٣٤ في (ب) لا يجوزون. وقد قال أبو البقاء في التبيان: "وذاك أن اللام على هذا تكون بمعنى إلى إذ المعنى أرسلناك إلى الناس، ويجوز أن يكون التقدير: من أجل الناس" التبيان ١٠٦٩..

فصل


لما بيَّن مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً ﴾ أي الرسالة كافة أي تكُف الناس أنت من الكفر وتمنعهم عن الخروج عن الانقياد لها أو تكف الناس أنت عن الكفر والهاء للمبالغة على ما تقدم. و «لِلنَّاسِ » أي عامةً أحمرهم وأسودهِم «بَشِيراً وَنَذِيراً » أي مبشراً ومنذراً تحثهم بالوعد وتزجرهم بالوعيد «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ » ذلك لآ لخفائه ولكن لغفلتهم قال - عليه ( الصلاة١ و ) السلام- :«كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً »٢.
١ زيادة من (ب)..
٢ الحديث أورده البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. البخاري ١/٧٠..
قوله :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يعني يوم القيامة لما ذكر الرسالة بين الحشر.
قوله :«لكم ميعاد » مبتدأ وخبر. والميعاد يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر مضاف لظرفه١ والميعاد يطلق على الوعد والوعيد. وقد تقدم أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر غالباً.
الثاني : اسم أقيم٢ مقام المَصْدَرِ والظَاهر الأول، قال أبو عبيدة : الوَعْدُ والوَعِيدُ والميعاد بمعنى٣.
الثالث : أنه هنا ظرف زمان٤. ( قال الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو٥ هنا ظرف زمان )، والدليل عليه ( قراءة )٦ من قرأ : مِيعَادٌ يَوْمٌ يعني برفعهما منونين فأبدل منه «الْيَوْمَ »٧ وأما الإضافة فإضافة تبيين لقولك : سَحْقُ ثَوْبٍ، وبعيرُ سَانِيَةٍ٨، قال أبو حيان : ولا يتعين ما قال لاحتمال أن يكون التقدير : لكم ميعاد ميعاد يوم، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه٩، قال شهاب الدين والزمخشري لو فعل مثل ذلك لسمع به١٠، وجوَّز الزمخشري في الرفع وجهاً آخر وهو الرفع على التعظيم يعني على إضمار مبتدأ وهو الذي يسمى القطع١١، وسيأتي هذا قريباً، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ واليَزيديّ مِيعَادٌ يوْماً بتنوين الأول ونصب «يوماً »١٢ منوناً وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الظرف والعامل فيه مضاف مقدر تقديره : لكم إنجازُ وَعْدٍ في يوم صِفَتُهُ كَيْتَ وكَيْتَ.
الثاني : أن ينتصب بإضمار فعل. قال الزمخشري : وأما نصب «اليوم » فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره أعني يوْماً، ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم١٣. وقرأ عِيسَى١٤ بتنوين الأول ونصب «يَوْم » مضافاً للجُمْلة بعده١٥. وفيه الوجهان المتقدمان النَّصْب على التعظيم أو الظَّرف.
قوله :﴿ لاَ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ ﴾ يجوز في هذه الجملة أن تكون صفة «لِميعَادٍ » إن عاد الضمير في «عنه » عليه أو «لِيَوْم » إن عاد الضمير في «عنه » عليه فيجوز أن يحكم على موضعها بالرفع أو الجر وأما على قراءة عيسى فينبغي أن يعود الضمير في «عنه » على «ميعاد » لأنه نَصُّوا على أنّ الظَّرْفَ إذا أضيفَ إلى جملة لم يَعُدْ منها إليه ضمير١٦ إلاَّ في ضرورة كقوله :
٤١٣٨- مَضَتْ سَنَةٌ لِعَامٍ وُلِدْتُ فِيهِ. . . وَعَشْرٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ١٧

فصل


تقدم الكلام في سورة الأعراف أن قوله :﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجَل ولكن الاستقدام ما وجهه ؟ وقد تقدم، ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعجال بين أنه اسْتِعْجَالَ فيه كما أنه لا إمهال وهذا يفيد عظَم الأمر، وخَطَر الخطب، لأن الأمر الحقير إذا طلبه طالب من غيره لا يؤخره ولا يُوقفه على وقت بخلاف الأمر الخطير١٨ والمراد باليوم يوم القيامة وقال الضحاك : يوم الموت لا يتأخرون١٩ عنه ولا يتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص.
١ قاله العكبري في التبيان ١٠٦٩ ومكي في المشكل ٢/٢١٠ وقال ابن الأنباري في البيان ٢/٢٨١ "ميعاد" مرفوع لأنه مبتدأ و "لكم" خبره والهاء في "عنه" عائدة على "الميعاد" وعلى هذا لو أضفت "يوم" إلى ما بعده فقلت: يوم لا تستأخرون عنه، لكان جائزا..
٢ قاله السمين في الدر ٤/٤٤٤..
٣ قاله في مجاز القرآن له ٢/١٤٩..
٤ الكشاف ٣/٢٩٠ والدر المصون ٤/٤٤٤..
٥ ما بين القوسين سقط من "ب"..
٦ سقط من "ب" أيضا..
٧ انظر: الكشاف ٣/٢٩٠ ولم ينسبها إلى قارىء معين..
٨ معنى بعير سانية: بعير يحمل أداة السقاء لري الزرع، ومعنى ثوب سحق أن الثوب خلق وبال، انظر: اللسان :"س ن أ" و "س ح ق"..
٩ انظر: البحر المحيط ٧/٢٨٢..
١٠ الدر المصون ٤/٤٤٤..
١١ قال: "ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم" انظر: الكشاف ٣/٢٩٠..
١٢ من القراءات الشواذ غير المتواترة قال بها ابن خالويه في المختصر ١٢٢ والفراء في معانيه ٢/٣٦٢ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٨١..
١٣ الكشاف المرجع السابق..
١٤ المراد به عيسى البصري ابن عمر الثقفي..
١٥ البحر ٧/٢٨٢ والدر المصون ٤/٤٤٤ و ٤٤٥ وانظر: مشكل الإعراب لمكي ٢/١٢٠ وبيان ابن الأنباري ٢/٢٨١..
١٦ قال مكي في المشكل: "ولا يجوز إضافة يوم إلى ما بعده إذا جعلت الهاء ليوم لأنك تضيف الشيء إلى نفسه وهو اليوم تضيفه إلى جملة فيها هاء هي اليوم فتكون قد أضفت اليوم إلى الهاء وهو هي" المشكل ٢/١٢٠ ونفس الأمر قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٢٨١..
١٧ من تام الوافر وينسب للنمر بن تولب والصحيح أن البيت للنابغة الجعدي ويروى "مائة" بدل سنة. وشاهده : عود الضمير في (فيه) على عام المضاف إلى جملة وتلك ضرورة شعرية لا نثرية. وقد تقدم..
١٨ قاله الرازي ٢٥/٢٥٨..
١٩ في "ب": تستأخرون وتستقدمون فيهما. وانظر: زاد المسير لابن الجوزي ٦٤/٤٥٦..
قوله: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن﴾ لما بين التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكُلّ كافرين بين كفرهم العام بقوله: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن﴾ وذلك لأن القرآن مشتملٌ على الكل وقوله: ﴿وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يعني التوراة والإنْجيل وعلى هذا فالمراد «بالذين كفروا» هُم المشركون المنكرون للثواب والحشر. ويحتمل أن يكون المراد بالذين كفروا العموم ويكون المراد بقوله: ﴿القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أن لا نؤمن بالقرآن أنه من الله «ولاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» أي ولا بما فيه من الإخبارات والآيات والدلائل وذلك لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنَّه من الله ولا بالذي فيه من الرِّسالة وتفاصيل الحشر.
فإن قيل: أليس هم مؤمنين بالوحدانية والحشر؟
فالجواب: إذا لم يصدق واحد بما في كتاب من الأمور المختصة به يقال إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره إيمانه لا بما فيه كمن يكذب رجلاً فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال بأنه صدقة لأنه إنما صدق نفسه فإنه كان عالماً به من قبل وعلى هذا فقوله: «بَيْنَ يَدَيْهِ» الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه.
قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ مفعول «ترى» وجواب «لو» محذوفان للفهم أي ولو ترى حالَ الظالمينَ وقْتَ وقوفهم مراجعاً بعضهُم إلى بعض القولَ لرأيت حالاً فظيعةً وأمراً
67
منكراً «ويَرْجَعُ» حال من ضمير «مَوْقُوفُونَ» و «القول» منصوب ب «يرجع» ؛ لأنه يتعدى قال تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ﴾ [التوبة: ٨٣] وقوله: ﴿يَقُولُ الذين استضعفوا﴾ إلى آخره تفسير لقوله: «يَرْجِعُ» فلا محلَّ له. و «أنْتُم» بعد «لولا» متبدأ على أصحَّ المذاهب، وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرف بعد «لولا» خلافاً للمبرد حيث جعل خلاف هذا لحناً، وأنه لم يرد إلاَّ في قول زِيَادٍ:
٤١٣٩ - وكم موطن لولاي..................................
وقد تقدم تحقيقه، والأخفض جعل إنه ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع وسيبويه ضمي جر

فصل


لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم: «لَنْ نُؤْمِنَ» فإنه لتأبيد النفي وعد النَّبِيَّ عليه (الصلاة و) السلام - بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الدال كما يكون عليه حالة جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم لبعض. ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ اسْتُحْقِرُوا وهم الاتباع «لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» وهم القادة والأشراف ﴿لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ أي أنتم مَنَعْتُمُونَا
68
عن الإيمان بالله وسوله وهذا إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لأن بعد المقتضي لا يمكنهم أن يقولوا: مَا جَاءَنا رسول ولا أن يقولوا: قصر الرسول لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يقولون لولا المستكبرون.
ثم أجابهم المستكبرون وهم المَتْبُوعُونَ في الكفر للذين استضعفوا رد لما قالوا إن كفرنا كان لمانع ﴿أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ﴾ يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضي حتى يعمل علمه والذي جاء به هو الهدى، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصحَّ تَعَلُّقُكُمْ بالمانع ﴿بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ﴾ بترك الإيمان فبين أن كفرهم كان اجتراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضي أو ليقام المانع ولم يوجد شيء منهما. ثم قال ﴿وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله﴾ لما قال المستكبرون: إنا صددنا، وما صدر منا ما يصلح مانعاً وصادفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار. واعمل أنه يجوز رفع «مكر» من ثلاث أوجه:
أحدها: الفاعلية تقديره: بل صَدَّنَا مَكْرُكُمْ في هذهين الوقتين.
الثاني: أن يكون مبتدأ محذوف أي مكرُ الليلِ صَدَّنَا.
الثالث: العكس أي سَبَبُ كُفْرِنا مَكْرُكُمْ. وهو المتقدم في التفسير وإضافةُ المَكْر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم: لَيْلٌ مَاكِر، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر:
٤١٤٠ -........................... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ
69
فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه وهذا أحسن مِنْ قَوْل مَنْ قال: إن الإضافة بمعنى «في» أي في الليل، لأن ذلك لم يثبت في (غير) محل النزاع، وقيل: مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فيهما كقوله تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد: ١٦] وقرأ العامة مَكْرُ بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافاً لما بعد، وابن يَعْمُرَ وقتادةُ بتنوين: «مَكْر» وانتصاب الليل والنهار ظرفين. وقرآ أيضاً وسعيدُ بْنُ جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافاً لما بعده أي كُرُور الليل والنهار، واختلافهما، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إذا جَاءَ وذَهَبَ، وقرأ ابنُ جُبَيْر أيضاً وطلحةُ وراشد القَارِي - وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره - كذلك إلا أنه ينصب الراء وفيها أوجه:
أظهرها: ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال: «بل تَكُرُّون الإغواء مَكَرًّا دائماً لا تَفْتُرُونَ عنه».
الثاني: النصب على الظرف بإضمار فعل اي بلْ صَدَدْتُمُونَا مَكَرَّ الليل والنهار أي دائماً.
الثالث: أنه منصوب «بتأمُرُونَنَا» قاله أبو الفضل الرازي وهو غلط؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله إلا في مسألة وهي «غير» إذَا كانت بمعنى «لا» كقوله:
70
٤١٤١ - إنّ امْرَءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْر مَكفُورِ
وتقدم تقريرهذا آخر الفاتحة، وجاء قوله: ﴿قَالَ الذين استكبروا﴾ بغير عاطف؛ لأنه جواب لقول الضَّعَفَةِ فاستؤنف بخلاف قوله: ﴿وَقَالَ الذين استضعفوا﴾ فإنه لم يكن جواباً لعطف، والضمير في «وَأسَرُّوا النَّدَامَةَ» للجميع للإتباع والمتبوعين.

فصل


لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فَكَفرنَا فكان قولكم جزْءاً لسبب وقولهم «إذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ» أي ننكره «ونَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً» هذا يبين أن المشرك بِاللَّهِ مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمناً به.

فصل


قوله أولاً يَرْجعُ بَعْضُهْم إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتَضْعِفُوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الآخيرتين: «وقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وقَالَ الَّذِين اسْتَضْعِفُوا» بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] وأما الاستقابل فعلى الأصل.
قوله: ﴿وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة، وقيل: معنى الإسراء الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال: بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلُ صَالِحاً وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرُّوا ذلك القول، وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ﴾ أي الأتباع والمتبوعين جميعاً في النار، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والمعاصي في الدنيا.
71
وقوله :﴿ يَقُولُ الذين استضعفوا ﴾ إلى آخره تفسير لقوله :«يَرْجِعُ » فلا محلَّ له. و «أنْتُم » بعد «لولا » مبتدأ على أصحَّ المذاهب، وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرفع بعد «لولا » خلافاً للمبرد١ ؛ حيث جعل خلاف هذا لحناً، وأنه لم يرد إلاَّ في قول زِيَادٍ :
٤١٣٩- وكم موطن لولاي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٢
وقد تقدم تحقيقه، والأخفش جعل إنه ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع٣. وسيبويه جعله ضمير جر٤.

فصل


لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم :«لَنْ نُؤْمِنَ » فإنه لتأبيد النفي وعد النَّبِيَّ عليه ( الصلاة٥ و ) السلام- بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال كما يكون عليه حالة جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم لبعض. ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ﴾ اسْتُحْقِرُوا وهم الأتباع «لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا » وهم القادة والأشراف ﴿ لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ أي أنتم مَنَعْتُمُونَا عن الإيمان بالله وسوله وهذا إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لأن بعد المقتضي لا يمكنهم أن يقولوا : مَا جَاءَنا رسول ولا أن يقولوا : قصر الرسول لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يقولون لولا٦ المستكبرون.
ثم أجابهم المستكبرون وهم المَتْبُوعُونَ في الكفر للذين استضعفوا رد لما قالوا إن كفرنا كان لمانع ﴿ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ ﴾ يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضي حتى يعمل٧ عمله والذي جاء به هو الهدى، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصحَّ تَعَلُّقُكُمْ بالمانع ﴿ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ﴾ بترك الإيمان فبين أن كفرهم كان اجتراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضي أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما.
١ قال في المقتضب ٣/٧٦: "اعلم أن الاسم الذي "لولا" يرتفع بالابتداء وخبره محذوف لما يدل عليه وذلك قولك في : لولا عبد الله لأكرمتك" فعبد الله مرتفع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير: لولا عبد الله بالحضرة أو لسبب كذا لأكرمتك"..
٢ جزء بيت من قصيدة ليزيد بن الحكم من الطويل وتمامه:
... طخت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوي
و "طحت" هلكت، "الأجرام" الأجساد و "النيق" أعلى الجبل، و "منهوي" ساقط. وشاهده: وقوع ضمير الاتصال وهو "الياء" بعد "لولا". وهذا الضمير حقه أن يكون في محل جر أو نصب. والقياس لولا أنا وقد أنكر المبرد هذا واعتبره لحنا وتحريفا. وانظر الكامل ٣/٣٤٥ والكتاب ٢/٣٧٤ والخصائص ٢/٢٥٩، وابن يعيش ٤/١١٨ و ٩/٢٣ والإنصاف ٦٩٢ وأمالي القالي ٢/٦٨ والخزانة ٥/٣٣٦ والأشموني ٢/٢٠٦ والهمع ٢/٣٢ ويس ١/٣١٠..

٣ نقله عنه ابن هشام في مغنيه قال: وقال الأخفش: الضمير مبتدأ ولولا غير جارة ولكنهم أنابوا الضمير المخفوض عن المرفوع كما عكسوا، إذ قالوا: "ما أنا كأنت ولا أنت كأنا". وقد اعترض عليه ابن هشام والمبرد قال ابن هشام: النيابة إنما وقعت في الضمائر المنفصلة لاستقلالها..
٤ انظر الكتاب ٣/٣٧٣، ٣٧٤..
٥ زيادة من "ب" والفخر الرازي ٢٥/٢٦١..
٦ في الرازي: لما كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا..
٧ انظر هذا كله في تفسير الرازي ٢٥/٢٦١..
ثم قال ﴿ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله ﴾ لما قال المستكبرون : إنا صددنا، وما صدر منا ما يصلح مانعاً وصادفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار١. واعلم أنه يجوز رفع «مكر » من ثلاثة أوجه :
أحدها : الفاعلية٢ تقديره : بل صَدَّنَا مَكْرُكُمْ في هذين الوقتين.
الثاني : أن يكون مبتدأ محذوف٣ أي مكرُ الليلِ صَدَّنَا.
الثالث : العكس أي سَبَبُ كُفْرِنا مَكْرُكُمْ. وهو المتقدم في التفسير٤، وإضافةُ المَكْر إلى الليل والنهار إما على الإسناد٥ المجازي كقولهم : لَيْلٌ مَاكِر، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر :
٤١٤٠ -. . . . . . . . . . . . . . . وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ٦
فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه٧، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه٨ وهذا أحسن مِنْ قَوْل مَنْ قال : إن الإضافة بمعنى «في » أي في الليل٩، لأن ذلك لم يثبت في ( غير )١٠ محل النزاع١١، وقيل : مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل١٢ فيهما كقوله تعالى :﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الحديد : ١٦ ] وقرأ العامة مَكْرُ بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافاً لما بعده، وابن يَعْمُرَ وقتادةُ بتنوين :«مَكْر » وانتصاب الليل والنهار ظرفين١٣. وقرآ أيضاً وسعيدُ بْنُ جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد١٤ الراء مضافاً لما بعده أي كُرُور الليل والنهار، واختلافهما، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إذا جَاءَ وذَهَبَ، وقرأ ابنُ جُبَيْر أيضاً وطلحةُ وراشد القَارِي١٥ - وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره- كذلك إلا أنه ينصب الراء١٦، وفيها أوجه :
أظهرها : ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال :«بل تَكُرُّون الإغواء مَكَرًّا دائماً لا تَفْتُرُونَ عنه »١٧.
الثاني : النصب على الظرف بإضمار فعل أي بلْ صَدَدْتُمُونَا مَكَرَّ الليل والنهار١٨ أي دائماً.
الثالث : أنه منصوب «بتأمُرُونَنَا » قاله أبو الفضل الرازي١٩. وهو غلط ؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله٢٠ إلا في مسألة واحدة وهي «غير » إذَا كانت بمعنى «لا » كقوله :
٤١٤١- إنّ امْرَءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ. . . عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْر مَكفُورِ٢١
وتقدم تقريرهذا آخر الفاتحة٢٢، وجاء قوله :﴿ قَالَ الذين استكبروا ﴾ بغير عاطف ؛ لأنه جواب لقول الضَّعَفَةِ فاستؤنف بخلاف قوله :﴿ وَقَالَ الذين استضعفوا ﴾ فإنه لم يكن جواباً لعطف، والضمير في «وَأسَرُّوا النَّدَامَةَ » للجميع للأتباع والمتبوعين.

فصل


لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فَكَفرنَا فكان قولكم جزْءاً لسبب وقولهم «إذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ » أي ننكره «ونَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً » هذا يبين أن المشرك بِاللَّهِ مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمناً به.

فصل


قوله أولاً يَرْجعُ بَعْضُهْم إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتَضْعِفُوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الآخيرتين :«وقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وقَالَ الَّذِين اسْتَضْعِفُوا » بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] وأما الاستقبال فعلى الأصل.
قوله :﴿ وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة، وقيل : معنى الإسراء الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال : بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلُ صَالِحاً وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرُّوا ذلك القول، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي الأتباع والمتبوعين جميعاً في النار، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ من الكفر والمعاصي في الدنيا.
١ تفسير الرازي المرجع السابق..
٢ قاله ابن جني في المحتسب ٢/١٩٣ وأبو البقاء في التبيان ١٠٦٩ وأبو حيان في البحر ٧/٢٨٣..
٣ المحتسب السابق والبحر والدر ٤/٤٤٦..
٤ قاله أبو الحسن الأخفش في المعاني ٢/٦٦٣ وأبو حيان في البحر ٧/٢٨٣ وجعله النحاس مبتدأ ذا خبر محذوف انظر: إعراب النحاس ٣/٣٤٩..
٥ قاله الأخفش في المعاني ٢/٦٦٣ والفراء في المعاني ٢/٣٦٣ والنحاس في الإعراب ٣/٣٤٩ والزمخشري في الكشاف ٣/٩١..
٦ هذا عجز بيت من الطويل لجرير صدره:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ..........................
والشاهد: "بنائم" حيث أسنده إلى الليل إسنادا مجازيا وذلك للاتساع في ذلك كما أوضح أعلى وانظر: المقتضب ٣/١٠٥ والمحتسب ٢/١٨٤ وإعراب النحاس ٣/٣٤٩ ومجمع البيان ٧/٦١٣ والطبري ٢٢/٦٧ والإنصاف ٢٤٣ والنقائض ٧٥٣ وفتح القدير ٤/٣٢٨ والكتاب ١/١٦٠ وديوانه ٥٥٣ دار صادر. وأم غيلان فيه هي عتبة بنت جرير وانظر كذلك مجاز القرآن ١/٢٧٩ وزاد المسير ٦/٢٥٨..

٧ الفاعل لأنه هو الفاعل المجازي وهذا تأكيد لآراء السابقين. وانظر مراجعهم السابقة..
٨ وهو رأي أبي القاسم الزمخشري قال: "ومعنى مكر الليل والنهار مكركم في الليل والنهار فاتسع في الليل وهو الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي" انظر: الكشاف ٣/٢٩١..
٩ قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: "معناه بل مكركم في الليل والنهار". وتبعه تلميذه النحاس في الإعراب. انظر: معاني الزجاج ٤/٢٥٤ وإعراب النحاس ٣/٣٤٩..
١٠ سقط من "ب"..
١١ نقله في الدر المصون ٤/٤٤٦..
١٢ نقله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٣..
١٣ قاله ابن جني في المحتسب ٢/١٩٣ و١٩٤ وانظر: الكشاف ٣/٢٩١ والبحر المحيط ٧/٢٨٣ وزاد المسير ٦/٤٥٨..
١٤ المحتسب ٢/١٩٣ و ١٩٤ وابن خالويه ١٢٢ والبحر ٧/٢٨٣ والقرطبي ١٤/٣٠٣..
١٥ لم أعثر على ترجمة له غير ما هو أعلى من تصحيح المصاحف كما في المحتسب..
١٦ المحتسب والبحر والمختصر والقرطبي المراجع السابقة..
١٧ الكشاف ٣/٢٩١..
١٨ وهو كلام ابن جني في محتسبه انظر: المحتسب ٢/١٩٤ والدر المصون ٤/٤٤٧..
١٩ نقله عنه أبو حيان في بحره وهو أبو الفضل صاحب اللوامح انظر: البحر ٧/٢٨٣..
٢٠ نقله أبو حيان في المرجع السابق قال: لأن ما بعد "إذ" لا فيما قبلها..
٢١ من بحر البسيط لأبي زبيد الطائي والتنائي: البعد، و "مودة" منصوب على نزع الخافض، ومنكر مجحود هو معنى المكفور. وهو يتحدث عن شخص معين بالنعمة والفضل عليه. قد تقدم..
٢٢ وانظر هذا كله في تفسير الفخر الرازي مع تغيير طفيف في عبارته..
قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةإلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾ جملة حالية من «قَرْيَةٍ» وإن كانت نكرة لأنها في سياق النفي.
قوله: «بما أُرْسِلْتُمْ» متعلق بخبر «إنّ» و «به» متعلق بأُرْسِلْتُم، والتقدير: إنا كافورن بالذي أرسلتم. وإنما قد للاهتمام وحسنه تواخي الفواصل وهذا تسلية لقلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأن إيذاء الكفار للأنبياء ليس بدعاً بل ذلك عادة جرت من قبل، وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا ذلك القول لأن المُتْرَفين هم الأصل في ذلك القول كقول المتسضعفين للذين استكبروا: «لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنينَ» ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا «نَحْنُ أَكْثَرُ أمْوَالاً وَأَوْلاَداً» أي بسبب لزومنا لديننا ولو لم يكن الله راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد «وَمَا نَحْنُ بمُعَذَّبِينَ» أي أن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال فلا يعذبنا. ثم إن الله تعالى بيَّنَ خطأهم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ يعني أنّ الرزق في الدناي لا يدل سَعَتُه وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومُعْسِر تَقِيّ فقوله: «وَيَقْدِرُ» أي يضيِّق بدليل مقابلته «يَبْسُطُ» وهذا هو الطباق البَدِيعِيّ وقرأ الأعمش: وَيُقَدِّرُ بالتشديد ثم قال: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أن قلة الرزق وضيف العيش وكثرة المال وسعة العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. ثم بين فساد استدلالهم بقوله: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ يعني إن قولكم نحن أكثر أموالاً وأولاداً فنحن أحسن حالاً
72
عند الله استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقر إلى الله وإنما المفيدُ العملُ الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يَشْغِل عند الله فيُبْعِد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل؟
قوله: ﴿بالتي تُقَرِّبُكُم﴾ صفة للأموال والأولاد، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معالمة المؤنثة الواحدة، وقال الفراء والزجاج إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير: وَمَا أَمْوَالُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ وهذا لا حاجة إليه أيضاً. ونقل عن الفراء ما تقدم من أن «التي» صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح وجعل الزمخشري «التي» صفة لموصوف محذوف قال: «ويجوز أن يكون هيا لتقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليستْ أَمْوَالُكُمْ ولا أوْلاَكُكُمْ بتلك الموصوفة عند الله بالتقريب» قال أبو حيان: ولا حاجة إلى هذا الموصوف.
قال شهاب الدين: والحاجة إليه بالنسبة إلى المعى الذي ذكره داعية، و «زُلْفَى» مصدر مِنْ مَعْنى الأول، إذ التقدير تُقَرِّبُكُمْ قُرْبَى، وعن الضحاك زُلَفاً بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمع «زُلْفَى» نحو قُرْبَة وقُرَب، جُمع المَصْدَرُ لاختلاف أنواعه وقال الأخفش: «زُلْفَى» اسم مصدر كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا تَقْريباً.
73
قَوْلُهُ: ﴿إلاَّ مَنْ﴾ فيه أوجه:
أحدهما: أنه استثاء منقطعٌ فهو منصوب المحل والمعنى لكن مَنْ آمَن وعَمِلَ صَالِحاً، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي.
الثاني: أنه في محل جر بدلاً من الضمير في: «أَمْوَالِكُمْ» قاله الزجاج. وغلَّطَهُ النَّحَّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال: ولو جاز هذا لجاز: رَأَيْتُكَ زَيْداً، وقول أبي إسْحَاقَ هذا هو قول الفارء انتهى. قال أبو حيان: ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت: مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلا خالداً لم يجز. وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له. قال شهاب الدين: ومنعه قولك «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ خَالِداً» فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحباً على الجملة أ"طى حُكْمَ ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك: «مَا طَنَنْتُ أحَداً يَفْعَلُ ذَلِكَ إلاَّ زيدٌ» سوغ البدل في زيد من ضمير «يَفْعَلُ» وإن لم يكن النفي متسلطاً عليه وقالوا ولكنه لما كان في حَيِّز النفي صح فيه ذلك فهذا مثله والزمخشري أيضاً تَبعَ الزجاج والفراء في ذلك في حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء فقال: «إلاَّ مَنْ آمَنَ» استثناء من «كُمْ» في «نُقَرِّبُ» والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن لاذي يُنْقِقُها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علَّمهم الخَيْرَ وفَقَّهَهُمْ في الدِّين ورشَّحهم للصَّلاح ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال: لا يجوز: «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَخْرُجُ إلاَّ أَخْوهُ» و «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ عَمْراً» والجواب عنه ما تقدم وأيضاً فالزمخشري لم يجعله بدلاً بل استثناء صريحاً، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي
74
بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول: قَامَ الْقَومُ إلاَّ زَيْداً ولو فرغته لفظاً لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة الرابع: «أنَّ» مَنْ آمَنَ «في محلِّ رفع على الابتداء والخبر.
قوله
: ﴿فأولئك
لَهُمْ جَزَآءُ الضعف﴾
قال الفراء: هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلاَّ مَنْ آمَن، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله. قوله: «فَأولَئِكَ لَهُمَ جَزَاء الضّعْفِ»
، قرأ العامة جزاء الضعف مضافاً على أنه مصدر مضاف لمفعلوله، أي أنْ يُجَازِيَهُم الضّعْفَ وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي يُجْزَوْنَ الضّعفَ ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه. وقرأ قتادة برفعها على إبدال الضّعفِ من «جزاء» وعنه أيضاً وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منوناً والعامل فيها الاستقرار وهذه كقوله: ﴿فَلَهُ جَزَآءً الحسنى﴾ [الكهف: ٨٨] فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف.
قوله: ﴿وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ﴾ قرأ حمزة الغُرْفَةِ بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أُجْمِعَ على التوحيد في قوله: ﴿يُجْزَوْنَ الغرفة﴾ [الفرقان: ٧٥] ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون «الغُرُفَاتِ» جمع سلامة وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً﴾ [العنكبوت: ٥٨] والرسم محتمل للقراءتين. وقرأ الحسن بضم راد غُرُفات على الإتباع وبعضهم يفتحها
75
وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة وقرأ ابن وثاب الغُرُفَةَ بضم الراء والتوحيد.

فصل


والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرة إلى سبع مائة لأنه الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال: ﴿وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُون﴾ إشارة إلى دوامها وتأبيدها. ثم بين حال المسيء فقال: ﴿والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي سعون في إبطال حججنا معاجزين معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا. وقد تقدم تفسير: «أولئك في العذاب محضرون» وهذا إشارة إلى الدوام أيضاً كقوله: ﴿وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ﴾ [الإنقطار: ١٦] ثم قال مرة أخرى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِر﴾ إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينفافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم في القطع بحصلو النعم في العُقْبَى ببناء على الوعد قطعاً لقول من يقول: إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيراً من الأشقياء مدفوعون وكثيراً من الأتقياء مَمْنُوعُونَ، ولهذا المعنى ذكر هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالةٍ على حسن أحوالهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إنْ سَلَّمنا أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده بل قال: لمن يشاء. وقال ثانياً: لمن يشاء من عبادة فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما المؤمن فما يُنْفِقْه يُخْلِفْه الله.
قوله: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُم﴾ يجوز أن تكون ما موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر قوله: ﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ ودخلت الفاء لشبهه بالشرط، و «مِنْ شَيْءٍ» بيان كذا قيل. وفيه نظر؛ لإبهام شيء فأي (تَبين) فيه؟ ويجوز أن تكون «ما» شرطية فيكون في محل نصب مفعولاً مقدماً و «فَهُوَ يُخْلِفُهُ» جواب الشرط.
76

فصل


المعنى: وَمَا أَنْقَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلقه قال سعيد بن جبير: ما كان في غير إسْرِافٍ ولا تَقْتِير فهْو يُخْلِفُه وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نَفَقَةٍ فهو (ينفقه) ويخلفه على المُنْفِق إما أن يعجَّل له في الدنيا وإما أن يدَّخِرَ له في الآخرة. «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» خَيْرُ من يعطي ويرزق، رَوَى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الله قال: «أنْفِقْ أُنْفِقْ عليك» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ فِيهِ العِبَادُ إلاَّ وَيَنْزِلُ (فِيهِ) مَلَكَا (ن) فيقولُ أحدهما: اللَّهُمّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ويقول الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً» وإنما جمع الرازقين من حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق للكل في الحقيقة إنما هو الله، واعلم أنَّ خير الرازقين يكون أمور أن لا يؤخر في وقت الحاجة وأن لا يَنْقُصَ من قد الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يُكَدِّره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.
فإن قيل: قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ ينبئ عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلاَّ الله.
فالجواب: أن يقال: الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى: ﴿أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤] وأيضاً فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم أنه واحد، والعبد يعلم أنه واحدٌ حقيقة ومنها ما يقال للَّهِ حقيقةً وللعبد مجازاً مثل الرزَّاق والخَالِق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فالله هو المعطي في الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سُمّي معطياً وهذا منه.
77
ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا «نَحْنُ أَكْثَرُ أمْوَالاً وَأَوْلاَداً » أي بسبب لزومنا لديننا ولو لم يكن الله راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد «وَمَا نَحْنُ بمُعَذَّبِينَ » أي أن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال فلا يعذبنا.
ثم إن الله تعالى بيَّنَ خطأهم بقوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ يعني أنّ الرزق في الدنيا لا يدل سَعَتُه وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومُعْسِر تَقِيّ فقوله :«وَيَقْدِرُ » أي يضيِّق بدليل مقابلته «يَبْسُطُ »١. وهذا هو الطباق البَدِيعِيّ٢. وقرأ الأعمش : وَيُقَدِّرُ بالتشديد٣ ثم قال :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن قلة الرزق وضيق العيش وكثرة المال وسعة العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح.
١ نقله الإمام الفخر الرازي في تفسيره التفسير الكبير ٢٥/٣٦١ والحافظ البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٣..
٢ وهو الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة، قاله القزويني في إيضاحه ٢٤٣..
٣ نقلت في المختصر والبحر المحيط هكذا يقدر بالتشديد والبناء للفاعل أي الله –عز وجل- انظر البحر ٧/٢٨٥ وابن خالويه ١٢٢ ولكنها في ابن خالويه بالنون لا الياء. بينما نقلها في الإتحاف "ويقدر" على البناء للمجهول وهي مع ذلك النقل من الإتحاف تكون متواترة بخلاف القراءتين الأوليين، فهما شاذتان وأوردها الكشاف ٣/٢٩٢ بدون نسبة..
ثم بين فساد استدلالهم بقوله :﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى ﴾ يعني إن قولكم نحن أكثر أموالاً وأولاداً فنحن أحسن حالاً عند الله استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقرب إلى الله وإنما المفيدُ العملُ الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يَشْغِل عن الله فيُبْعِد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل ؟١
قوله :﴿ بالتي تُقَرِّبُكُم ﴾ صفة للأموال والأولاد، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة٢، وقال الفراء٣ والزجاج٤ إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير : وَمَا أَمْوَالُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ وهذا لا حاجة إليه أيضاً. ونقل عن الفراء ما تقدم من أن «التي » صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح٥ وجعل الزمخشري «التي » صفة لموصوف محذوف قال :«ويجوز أن يكون هي٦ التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليستْ أَمْوَالُكُمْ ولا أوْلاَدُكُمْ بتلك الموصوفة٧ عند الله بالتقريب »٨. قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف٩.
قال شهاب الدين : والحاجة إليه١٠ بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعية، و «زُلْفَى » مصدر مِنْ مَعْنى الأول، إذ التقدير تُقَرِّبُكُمْ قُرْبَى، وعن الضحاك زُلَفاً بفتح اللام وتنوين١١ الكلمة على أنها جمع «زُلْفَى » نحو قُرْبَة١٢ وقُرَب، جُمع المَصْدَرُ لاختلاف١٣ أنواعه وقال الأخفش :«زُلْفَى »١٤ اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تَقْريباً١٥.
قَوْلُهُ :﴿ إلاَّ مَنْ ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه استثاء منقطعٌ١٦ فهو منصوب المحل والمعنى لكن مَنْ آمَن وعَمِلَ صَالِحاً، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي١٧.
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من الضمير في :«أَمْوَالِكُمْ » قاله الزجاج١٨. وغلَّطَهُ النَّحَّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال : ولو جاز هذا لجاز : رَأَيْتُكَ زَيْداً١٩، وقول أبي إسْحَاقَ هذا هو قول الفراء انتهى٢٠. قال أبو حيان : ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت : مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلا خالداً لم يجز. وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له٢١. قال شهاب الدين : ومنعه قولك «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ خَالِداً » فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحباً على الجملة أعطى حُكْمَ ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك :«مَا ظَنَنْتُ أحَداً يَفْعَلُ ذَلِكَ إلاَّ زيدٌ » سوغ البدل في زيد من ضمير «يَفْعَلُ » وإن لم يكن النفي متسلطاً عليه وقالوا ولكنه لما كان في حَيِّز النفي صح فيه ذلك فهذا٢٢ مثله والزمخشري أيضاً تَبعَ الزجاج والفراء في ذلك من حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء فقال :«إلاَّ مَنْ آمَنَ » استثناء من «كُمْ » في «نُقَرِّبُ »٢٣ والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الذي يُنْفِقُها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علَّمهم الخَيْرَ وفَقَّهَهُمْ في الدِّين ورشَّحهم للصَّلاح٢٤. ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال : لا يجوز :«مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَخْرُجُ إلاَّ أَخْوهُ » و «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ عَمْراً »٢٥. والجواب عنه ما تقدم وأيضاً فالزمخشري لم يجعله بدلاً بل استثناء صريحاً، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول : قَامَ الْقَومُ إلاَّ زَيْداً ولو فرغته لفظاً لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة٢٦. الرابع : أنَّ «مَنْ آمَنَ » في محلِّ رفع على الابتداء والخبر٢٧.
قوله :﴿ فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف ﴾ قال الفراء : هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلاَّ مَنْ آمَن، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله. قوله :«فَأولَئِكَ لَهُمَ جَزَاء الضّعْفِ »، قرأ العامة جزاء الضعف مضافاً على أنه مصدر مضاف لمفعوله، أي أنْ يُجَازِيَهُم الضّعْفَ وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي يُجْزَوْنَ الضّعفَ٢٨. ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه٢٩. وقرأ قتادة برفعها٣٠ على إبدال الضّعفِ من «جزاء »٣١. وعنه أيضاً وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منوناً والعامل فيها الاستقرار٣٢. وهذه كقوله :﴿ فَلَهُ جَزَآءً الحسنى ﴾٣٣ [ الكهف : ٨٨ ]، فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف.
قوله :﴿ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ ﴾ قرأ حمزة الغُرْفَةِ٣٤ بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أُجْمِعَ على التوحيد في قوله :﴿ يُجْزَوْنَ الغرفة ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ] ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون «الغُرُفَاتِ » جمع سلامة٣٥ وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله :﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً ﴾ [ العنكبوت : ٥٨ ] والرسم محتمل للقراءتين. وقرأ الحسن بضم راء غُرُفات٣٦ على الإتباع وبعضهم يفتحها٣٧ وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة٣٨. وقرأ ابن وثاب الغُرُفَةَ بضم الراء والتوحيد٣٩.

فصل


والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة٤٠ عشرة إلى سبع مائة لأن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال :﴿ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُون ﴾ إشارة إلى دوامها وتأبيدها.
١ قاله الرازي في تفسيره ٢٥/٢٦٢..
٢ قاله السمين في تفسيره ٤/٤٤٨..
٣ قال: ولو وجهت "التي" إلى الأموال واكتفيت بها من ذكر الأولاد صلح ذلك كما قال مرار الأسدي: نحن بما عندنا وأنت بما: عندك راض والرأي مختلف..
٤ قال: "وما أولادكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم ولكنه حذف اختصارا وإيجازا". انظر: معاني الفراء ٢/٣٦٣، ومعاني الزجاج ٤/٢٥٥..
٥ قال: "إن شئت جعلت "التي" جامعة للأموال والأولاد لأن الأولاد يقع عليها "التي" فلما أن كانا جمعا صلح "للتي" أن تقع عليهما"..
٦ في الكشاف ويجوز أن يكون التي هي التقوى..
٧ وفيه "الموضوعة" لا الموصوفة..
٨ انظر: الكشاف ٣/٢٩٢..
٩ البحر المحيط ٧/٢٨٥..
١٠ الدر المصون ٤/٤٤٨..
١١ في "ب" وبتنوين..
١٢ كذا هي في أكثر من مرجع والأصح: "قربى" قياسا على زلفى. وانظر القراءة في بحر أبي حيان ٧/٢٨٥..
١٣ المرجع السابق وانظر: الدر المصون ٤/٤٤٨..
١٤ قاله في المعاني ٢/٦٦٣..
١٥ في المعاني له إزلافا وليس تقريبا..
١٦ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٠ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٨٢ ومكي في المشكل ٢/٢١١ والنحاس في الإعراب ٣/٣٥٢..
١٧ قاله القرطبي ١٤/٣٠٦..
١٨ معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٥٥..
١٩ إعراب القرآن له ٤/٣٥٢..
٢٠ في الحقيقة لم يعربها الفراء بدلا في معاني القرآن ٢/٣٦٣ با أجازها على الاستثناء أو على المفعول به أو على الخبر قال: "في موضع نصب بالاستثناء وإن شئت أوقعت عليها التقريب وإن شئت جعلته رفعا أي ما هو إلا من آمن"..
٢١ قاله في بحره ٧/٢٨٦..
٢٢ الدر المصون ٤/٤٤٩..
٢٣ التقريب هو الأصح فالمستثنى منه: "كم" من تقربكم لا "أموالكم" كما وهم المؤلف أعلى. وقال بذلك القرطبي في الجامع ١٤/٣٠٦ ومكي في المشكل ٢/٢١١ وأبو حيان في البحر ٧/٢٨٦ والمعنى يؤيد ما نقول فالعبرة بالتقريب من "تقربكم" ولعله سهو من المؤلف أن قال بهذا نقلا عن الزجاج..
٢٤ كشاف الزمخشري ٣/٢٩٢..
٢٥ البحر المحيط ٧/٢٨٦..
٢٦ قاله شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤/٤٥٠..
٢٧ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٠ والفراء في المعاني ٢/٣٦٣..
٢٨ قال في الكشاف ٣/٢٩٢: "فأولئك لهم أن يجازوا الضعف"..
٢٩ البحر المحيط ٧/٢٨٦..
٣٠ قال بها القرطبي ١٤/٣٠٦ وأبو حيان ٢٨٦/٧ والكشاف ٣/٢٩٢ والفراء في المعاني ٢/٣٦٣ و ٣٦٤ وتلك قراءات شاذة رواية ولكنها تصح عربية كما أوضح بذلك الزجاج ٤/٢٥٦ والفراء ٢/٣٦٤..
٣١ المرجعان السابقان..
٣٢ من القراءات العشرية المتواترة أوردها ابن الجزري في النشر ٢/٣٥١ وانظر: تقريب النشر ١٦٢، والإتحاف ٣٦٠..
٣٣ الكهف الآية ٨٨ وهي قراءة سبعية متواترة وانظر: السبعة ٣٩٩ والإتحاف ٢٩٤ ومعاني الفراء ٢/٣٦٤ والكشف ٢/٧٥..
٣٤ القرطبي ١٤/٣٠٦ والكشاف ٣/٢٩٢ والكشف ٢/٢٠٨..
٣٥ بالتأنيث وانظر المراجع السابقة..
٣٦ روي عنه في الإتحاف أنه يقرأ بإسكان الراء الإتحاف ٣٦٠ والمختصر لابن خالويه ١٢٢ ولعلها قراءة أخرى نسبت له والإسكان جائز للخفة والسهولة فإذا كانوا يخففون الفتحة في "عضد" أي الواحدة فمن باب أولى أن تخفف الضمتان المتتاليتان..
٣٧ لم تنيب في البحر ٧/٢٨٦ والكشاف ٣/٢٩٢ وابن خالويه ١٢٢..
٣٨ عند قوله :﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ الآية ٢٠٨ حيث قرأ الكسائي ومن معه خطوات بضم الطاء اتباعا للخاء وبعضهم بفتح الطاء انظر: الإتحاف ١٥٦..
٣٩ أوردها ابن خالويه في المختصر دون ضبط لها وتكلم عنها أبو حيان في البحر بفتح الراء. انظر المختصر ١٢٢ والبحر ٧/٢٨٦ والقرطبي ١٤/٣٠٦..
٤٠ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٩٣..
ثم بين حال المسيء فقال :﴿ والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ أي يسعون في إبطال حججنا معاجزين معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا. وقد تقدم تفسير :«أولئك في العذاب محضرون ». وهذا إشارة إلى الدوام أيضاً كقوله :﴿ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ ﴾ [ الإنقطار : ١٦ ]
ثم قال مرة أخرى :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ من عباده وَيَقْدِر له ﴾ إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعم في العُقْبَى بناء على الوعد قطعاً لقول من يقول : إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيراً من الأشقياء مدفوعون وكثيراً من الأتقياء مَمْنُوعُونَ، ولهذا المعنى ذكر هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالةٍ على حسن أحوالهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إنْ سَلَّمنا أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده بل قال : لمن يشاء. وقال ثانياً : لمن يشاء من عباده فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما المؤمن فما يُنْفِقْه يُخْلِفْه الله١.
قوله :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُم ﴾ يجوز أن تكون ما موصولة٢ في محل رفع بالابتداء والخبر قوله :﴿ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ ودخلت الفاء لشبهه بالشرط، و «مِنْ شَيْءٍ » بيان كذا قيل. وفيه نظر ؛ لإبهام شيء فأي ( تَبيين )٣ فيه ؟ ويجوز أن تكون «ما » شرطية فيكون في محل نصب مفعولاً مقدماً و «فَهُوَ يُخْلِفُهُ » جواب الشرط٤.

فصل


المعنى : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلفه قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسْرِافٍ ولا تَقْتِير فهْو يُخْلِفُه٥، وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نَفَقَةٍ فهو ( ينفقه ) ويخلفه على المُنْفِق إما أن يعجَّل له في الدنيا وإما أن يدَّخِرَ له في الآخرة٦. «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » خَيْرُ من يعطي ويرزق، رَوَى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قال :«أنْفِقْ أُنْفِقْ عليك »٧ وقال - عليه ( الصلاة٨ و ) السلام - :«مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ فِيهِ العِبَادُ إلاَّ وَيَنْزِلُ ( فِيهِ )٩ مَلَكَا ( ن )١٠ فيقولُ أحدهما : اللَّهُمّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ويقول الآخَرُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً ». وإنما جمع الرازقين من١١ حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق للكل في الحقيقة إنما هو الله، واعلم أنَّ خير الرازقين يكون لأمور أن لا يؤخر في وقت الحاجة وأن لا يَنْقُصَ من قدر الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يُكَدِّره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.
فإن قيل : قوله :﴿ خَيْرُ الرازقين ﴾ ينبئ عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلاَّ الله.
فالجواب : أن يقال : الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى :﴿ أَحْسَنُ الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ] وأيضاً فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم أنه واحد، والعبد يعلم أنه واحدٌ حقيقة ومنها ما يقال للَّهِ حقيقةً وللعبد مجازاً مثل الرزَّاق١٢ والخَالِق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فالله هو المعطي في الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سُمّي معطياً وهذا منه١٣.
١ انظر هذا في الرازي ٢٥/٢٦٢..
٢ كما يجوز أن تكون شرطية في موضع نصب وانظر: التبيان ١٠٧٠ والدر المصون للسمين ٤/٤٠١..
٣ تصحيح من "ب" وفي "أ" ييسر لحن وخطأ..
٤ المرجعان السابقان التبيان والدر..
٥ نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٤٦١..
٦ المرجع السابق..
٧ أورده الشوكاني في فتح القدير ٤/٣٣٢ والقرطبي في تفسيره الجامع ١٤/٣٠٧، والبغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٣..
٨ زيادة من "ب"..
٩ سقطا من "ب" وانظر المراجع السابقة وجامع الأحاديث للسيوطي ٥/٦٠٦..
١٠ سقطا من "ب" وانظر المراجع السابقة وجامع الأحاديث للسيوطي ٥/٦٠٦..
١١ انظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٥/٣٦٤..
١٢ المرجع السابق..
١٣ المرجع السابق..
قوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ﴾ وقد تقدم أنه يقرأ بالنون والياء في الأنعام.
قوله: ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ إياكم منصوب بخبر «كان» قدم لأجل الفواصل والاهتمام. واستدل بل على جواز تقديم خبر «كان» عليها إذا كان خبرها جملة فإن فيه خلافاً جوزه ابنُ السارج، ومنعه غيره وكذلك اختلفوا في توسطه إذا كان جملة. قال ابن السِّرِّاج: القياس جوازه لكن لم يسمع.
قال شهاب الدين: قد تقدم في قوله: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] ونحوه أنه يجوز أن يكون من تقديم الخبر وأن لا يكون. ووجه الدلالة هنا أن تقتديم المعمول مُؤْذِنٌ بتقديم العامل. وتقدم تحقيق هذا في «هُودٍ» في قوله تعالى: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨] (و) وضع هذه القاعدة.
فصل لما بين أن حال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه حال من تقدّم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم بين ما يكون عاقبة حالهم فقال: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ يعني المكذبين بك «ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ» الذين يدعون أنهم يعبدونهم فإن غاية ما ترتفي إليه منزلتهم أنهم يقولون:
78
نحن نعبد الملائكة والكواكب قال قتادة: هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين﴾ [المائدة: ١١٦] فيقول: « (أَ) هَؤُلاَءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ» فتبرأ منهم الملائكة فيقولون: «سُبْحَانَكَ» تنزيهاً لك «أنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ» أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا: « (بَلْ) كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ» أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن (كنا) كالقِبْلة لهم.
فإن قيل: فهم كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن؟ قيل: أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يُطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله: «يعبدون» أي يطيعون الجن ولعبادة هي الطاعة «أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» أي مصدِّقون الشياطين.
فإن قيل: جميعهم كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله: ﴿أكْثَرُهُمْ بِهِمْ﴾ فإنه يدل على أنَّ بَعْضَهُم لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهُمْ؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الملائكة أحتظروا عن (دَعْوى) الإحاطة بهم فقالوا: أكثرهم لأنَّ الَّذِين رأوهم وأطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجنَّ ويؤمنون بهم ولعلَ في لاوجود من لم يُطْلع الله الملائكة عليه من الكفار.
الثاني: هو أن العبادة علم ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاِّطلاعهم على أعمالهم وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال:
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ [هود: ٥].
ثم بين أن ما كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال: ﴿فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً﴾. وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة لسبق قوله: ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ وعلى هذا يكون تنكيلاً للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا ينفعهم ولا يضر. ويصحح هذا قوله تعالى: «لا يملكون الشّفاعة إلا لمن ارتضى».
ولقوله بَعْدَه: ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا﴾ ولو كان المخاطب هم الكفار لقال: «
79
فَذُوفُوا» ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضِ﴾ أي الملائكة والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيرهم، ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله: ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم.
فإن قيل: قوله «نفعاً» مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟
فالجواب: لما كان العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبَّار، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
فإن قيل: «قَوْلُه هَهُنَا:» الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا «صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته؟
فالجواب: قيل: لأنهم هناك كانوا مُلْتَبِسٍين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله: ﴿كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: ٢٠] فوصف لهم ما لا بسوه وهنا لم يُلاَبِسُوهُ بعد لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون.
قوله: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا﴾ يعنون محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -»
إلاَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَصْدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ «فعارضوا الرهانَ بالتقليد» وَقَالُوا مَا هَذَا إلاَّ إفْكٌ مُفْتَرى «يعنون القرآن وقيل: القول بالوحدانية» إفْكٌ مُفْتَرًى «كقوله تعالى في حقهم: ﴿أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ﴾ [الصفات: ٨٦] وكقولهم للرسول: ﴿قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾ [الأحقاف: ٢٢] وعلى هذا فيكون قوله: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ بدلاً وقالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمُعْجِزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ﴾ على العموم.
قوله: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ يعني المشركين»
مِنْ كُتُبٍ يَدرسونَها «العامة على
80
التخفيف مضارع» دَرَسَ «مخففاً أي حفظ وأبو حيوة يُدَرِّسُونَها بفتح الدال مشددة وكسر الراء والأصل» يَدْتَرِسُونَها «من الادّارس على الافتعال فأدغم، وعنه أيضاً بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء نم التَّدْريس.
والمعنى يقرأونها وقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ﴾ أي إلى هؤلاء المحاضرين لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبْلك نبي ولا نزل عليهم كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك، فلا تعارض بينه وبين قوله: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] إذ المراد هناك آثار النذير. ولا شك أن هذا كان موجوداً يذهب النبي وتبقى شريعته، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كَذّبوا مثلَ عادٍ وثمودٍ وغيرهم.
قوله: ﴿وَمَا بَلَغُوا﴾ الظاهر أن الضمير في «بلغوا»
وفي «آتيناهم» للَّذِين من قبله ليناسق قوله: ﴿فَكَذَّبُوا رُسُلِي﴾ يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المِنّة «مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ» من النعم والإحسان إليهم. وقيل: بل ضمير الرفع لقريش والنصب «للذين من قبلهم» وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أموالاً، وقيل: بالعكس على معنى إنا أعطيْنَا قريشاً من الآيات والبراهين ما لم نُعْطِ من قبلهم. واختلق في المشعار فقيل: هو بمعنى العُشْر بني مِفْعَال من لفظ العُشْر كالمِرْبَاع، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال: مِسْدَاس ولا مِخْمَاس، وقيل: هو عُشْرُ العُشْرِ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال: ليس بشيء وقال المَاوَرْدِيُّ: المعشار هنا عُشْر العَشِيرِ، والعَشِيرُ هو عُشْرُ العُشْرِ.
81
فيكون جزءاً من ألف قال: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.

فصل


المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا مِعْشَارَ ما أعطينا الأمم الخالية من النِّعْمَة والقوة وطول العُمْرِ فكذبوا رسلي فكيف كان نكير؟ أي إنكاري وتغييري عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقي: المراد وكذَّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا مِعْشَار ما آتينا قوم محمد من البَيَان والبُرْهان وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام - أكملُ من سائر الكتب وأوضح ومحمد - عليه السلام - أفضل من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح الرُّسل وأوضح السُّبُل ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا﴾ يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً «وَمَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِير» فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى.
قوله: «فكذبوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «كَذِّبَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ».
والثاني: أنه معطوف على «وما بلغوا» وأوْضَحَهُما الزمخشري فقال: «فإن قلت: ما معنى» فكذبوا رسلي «وهو مستغنى عنه بقوله: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِين مِنْ قَبْلِهِم﴾ ؟ قلتُ: لما كان معنى قوله: ﴿وَكَذَّبَ الِّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سبباً عنه ونظيره أن يقول القائل: أقْدَمَ فلانٌ على الكفر فكفر بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويجوز أن يعطف على قوله: ﴿وَمَا بَلَغُوا﴾ كقولك: مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عمرو فَيُضِّلَ عليه» و «نَكِيرِ» مضاف لفاعله أي إنْكاري وتقدم حذف يائه وإثْبَاتُها.
82
فتتبرأ منهم الملائكة فيقولون :«سُبْحَانَكَ » تنزيهاً لك «أنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ » أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا :«( بَلْ )١ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ » أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن ( كنا )٢ كالقِبْلة لهم.
فإن قيل : فهم كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن ؟ قيل : أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يُطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله :«يعبدون » أي يطيعون الجن والعبادة هي الطاعة «أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ » أي مصدِّقون الشياطين.
فإن قيل : جميعهم كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله :﴿ أكْثَرُهُمْ بِهِمْ ﴾ فإنه يدل على أنَّ بَعْضَهُم لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهُمْ ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الملائكة أحتزوا عن ( دَعْوى )٣ الإحاطة بهم فقالوا : أكثرهم لأنَّ الَّذِين رأوهم واطلعوا٤ على أحوالهم كانوا يعبدون الجنَّ ويؤمنون بهم ولعلَ في الوجود من لم يُطْلع الله الملائكة عليه من الكفار.
الثاني : هو أن العبادة علم ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاِّطلاعهم على أعمالهم وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال :
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ [ هود : ٥ ].
١ سقط من (ب)..
٢ سقط من (ب)..
٣ سقط من (أ)..
٤ في (ب) وأطاعوهم..
ثم بين أن ما كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال :﴿ فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾. وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة١ لسبق قوله :﴿ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ وعلى هذا يكون تنكيلاً للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا ينفعهم ولا يضر. ويصحح هذا قوله تعالى :«لا يملكون الشّفاعة إلا لمن ارتضى »٢.
ولقوله بَعْدَه :﴿ وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا ﴾ ولو كان المخاطب هم الكفار لقال :«فَذُوفُوا »٣ ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله :﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضِ ﴾ أي الملائكة٤ والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيركم، ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله :﴿ وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم.
فإن قيل : قوله «نفعاً » مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك ؟
فالجواب : لما كان العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبَّار، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
فإن قيل : قَوْلُه هَهُنَا :«الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا » صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته ؟
فالجواب : قيل : لأنهم هناك كانوا مُلْتَبِسٍين٥ بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله :﴿ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [ السجدة : ٢٠ ] فوصف لهم ما لابسوه وهنا لم يُلاَبِسُوهُ بعد لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون٦.
١ الرازي ٢٥/٢٦٤و ٢٦٥..
٢ في الفخر الرازي :﴿لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا﴾ وقوله: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ والآيتان مختلفتان الأولى من مريم ٨٧ والثانية من الأنبياء ٢٨ فالآيتان مختلفتان. وقد أدخلهما المؤلف في بعضهما..
٣ في (ب) ذوقوا بدون الفاء..
٤ تصحيح العبارة كما في الفخر الرازي : أي الملائكة والحاضر الواحد يجوز أن يجعل من يشاركه في أمر مخاطبا بسببه ويحتمل أن يكون معهم الجن أي لا يملك بعضكم لبعض أيها الملائكة والجن... الخ..
٥ في (ب) متلبسين..
٦ وانظر هذا كله في تفسير الرازي ٢٥/٢٦٥ و ٦٦..
قوله :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا ﴾ يعنون محمداً - صلى الله عليه وسلم - «إلاَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَصْدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ » فعارضوا البرهانَ بالتقليد «وَقَالُوا مَا هَذَا إلاَّ إفْكٌ مُفْتَرى » يعنون١ القرآن وقيل : القول بالوحدانية٢ «إفْكٌ مُفْتَرًى » كقوله تعالى في حقهم :﴿ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ ﴾ [ الصفات : ٨٦ ] وكقولهم للرسول :﴿ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ [ الأحقاف : ٢٢ ] وعلى هذا فيكون قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ ﴾ بدلاً٣ وقالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمُعْجِزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ ﴾ على العموم٤.
١ نقله القرطبي ١٤/٣١٠..
٢ قاله الرازي ٢٥/٢٦٦..
٣ في الرازي: بدلا عن أن يقول..
٤ قاله الرازي ٢٥/٢٦٦ و ٢٦٧..
قوله :﴿ وَمَا آتَيْنَاهُمْ ﴾ يعني المشركين «مِنْ كُتُبٍ يَدرسونَها » العامة على التخفيف مضارع «دَرَسَ » مخففاً أي حفظ١ وأبو حيوة يُدَرِّسُونَها بفتح الدال مشددة وكسر الراء٢ والأصل «يَدْتَرِسُونَها » من الادّراس على الافتعال فأدغم، وعنه أيضاً بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء من التَّدْريس٣.
والمعنى يقرأونها وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ ﴾ أي إلى هؤلاء المحاضرين٤ لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبْلك نبي ولا نزل عليهم كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك٥، فلا تعارض بينه وبين قوله :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ] إذ المراد هناك آثار النذير. ولا شك أن هذا كان موجوداً يذهب النبي وتبقى شريعته،
١ الدر المصون ٤/٤٥٢..
٢ ذكرها أبو حيان في بحره ٧/٢٨٩ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٤ وابن خالويه في المختصر ١٢٢وابن جني في المحتسب ٢/١٩٥..
٣ البحر ٧/٢٨٩ والكشاف ٣/٢٩٤..
٤ في (ب) المعاصرين..
٥ هذا معنى قول قتادة في زاد المسير ٦/٤٦٣ و ٤٦٤..
ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كَذّبوا مثلَ عادٍ وثمودٍ وغيرهم.
قوله :﴿ وَمَا بَلَغُوا ﴾ الظاهر أن الضمير في «بلغوا » وفي «آتيناهم » للَّذِين من قبلهم١ ليناسق قوله :﴿ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ﴾ يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المِنّة «مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ » من النعم والإحسان إليهم٢. وقيل : بل ضمير الرفع لقريش والنصب «للذين من قبلهم » وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أكثر أموالاً، وقيل : بالعكس على معنى إنا أعطيْنَا قريشاً من الآيات والبراهين ما لم نُعْطِ من قبلهم٣. واختلف في المعشار فقيل : هو بمعنى العُشْر بني مِفْعَال من لفظ العُشْر كالمِرْبَاع، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال : مِسْدَاس ولا مِخْمَاس٤، وقيل : هو عُشْرُ العُشْرِ٥، إلا أن ابن عطية أنكره وقال : ليس بشيء٦ وقال المَاوَرْدِيُّ : المعشار هنا عُشْر العَشِيرِ٧، والعَشِيرُ هو عُشْرُ العُشْرِ٨.
فيكون جزءاً من ألف قال : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل٩.

فصل


المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا مِعْشَارَ ما أعطينا الأمم الخالية من النِّعْمَة والقوة١٠ وطول العُمْرِ فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ؟ أي إنكاري وتغييري١١ عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقيل : المراد وكذَّب١٢ الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا مِعْشَار ما آتينا قوم محمد من البَيَان والبُرْهان وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام- أكملُ من سائر الكتب وأوضح ومحمد - عليه السلام- أفضل من جميع الرسل وأفصح وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح١٣ الرُّسل وأوضح السُّبُل ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ﴾ يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً «وَمَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِير » فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى١٤.
قوله :«فكذبوا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على «كَذِّبَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ ».
والثاني : أنه معطوف على «وما بلغوا »١٥. وأوْضَحَهُما الزمخشري فقال :«فإن قلت : ما معنى «فكذبوا رسلي » وهو مستغنى عنه بقوله :﴿ وَكَذَّبَ الَّذِين مِنْ قَبْلِهِم ﴾ ؟ قلتُ : لما كان معنى قوله :﴿ وَكَذَّبَ الِّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سبباً عنه ونظيره أن يقول القائل : أقْدَمَ فلانٌ على الكفر فكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يعطف على قوله :﴿ وَمَا بَلَغُوا ﴾ كقولك : مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عمرو فَيُفضِّلَ عليه »١٦ و «نَكِيرِ » مصدر مضاف لفاعله أي إنْكاري١٧ وتقدم حذف يائه وإثْبَاتُها١٨.
١ كلام في المعنى من البحر المحيط ٧/٢٨٩ والمصون ٤/٤٥٢..
٢ المرجعان السابقان..
٣ المرجعان السابقان..
٤ هو قول الزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٤ والأخفش في معاني القرآن ٢/٦٦٣ والفراء في معاني القرآن أيضا ٢/٣٦٤ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٥٦ وقد قال الأخفش :﴿ولا يقولون هذا في سوى العشر﴾..
٥ قاله أبو حيان في البحر ناقلا له ٧/٢٩٠ والقرطبي في الجامع ١٤/٣١٠ والسمين في الدر ٤/٤٥٣..
٦ نقله عنه أبو حيان في بحره ٧/٢٩٠..
٧ المراجع السابقة..
٨ قال في اللسان عشر: "والعشر والعشير جزء من عشرة يطرد هذان البناءان في جميع الكسور والجمع أعشار وعشور وهو المعشار. وفي التنزيل :"وما بلغوا معشار ما آتيناهم". والعشير الجزء من أجزاء العشرة وجمع العشير أعشراء مثل نصيب وأنصباء ولا يقولون هذا في شيء سوء العشر، والعشير والعشر واحد مثل الثمين والثمن والسديس والسدس". اللسان: "ع ش ر" ٢٩٥٣..
٩ انظر: ما سبق من مراجع..
١٠ في (ب) القوة وبالنعمة بتقديم القوة على النعمة وليس كما في "أ"..
١١ في "ب" وتغيري بياء واحدة. وانظر هذا المعنى في غريب القرآن ٣٥٨ ومجاز القرآن ٢/١٥٠..
١٢ قاله الرازي ٢٥/٢٦٧..
١٣ كذا في الرازي وما في "ب" أوضح الرسل. وكلا اللفظين متقاربان..
١٤ المراجع السابقة..
١٥ الدر المصون ٤/٤٥٣ والكشاف ٣/٢٩٤..
١٦ انظر: الكشاف للعلامة الزمخشري ٣/٢٩٤، وفيه "فتفضل عليه" بدل من فيفضل عليه بالتاء لا بالياء..
١٧ بالمعنى من البحر ٧/٢٩٠. وقد قاله شهاب الدين في الدر ٤/٤٥٣ وقال في البحر ٧/٢٩٠: "والنكير مصدر كالإنكار وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل. والفعل على وزن أفعل كالنذير والعذير من أنذر وأعذر"..
١٨ يقصد: ﴿ثم أخذتهم فكيف كان نكير﴾ وهي الآية ٤٤ من سورة الحج وقد أثبت الياء في الوصل والوقف يعقوب وأثبتها في الوصل فقط ورش وإثباتها وصلا ووقفا قراءة عشرية، بينما إثباتها في الوصل يدل على أنها سبعية. وانظر: السبعة لابن مجاهد ٥٣٢ والإتحاف للبناء ٣٦، والكشاف لمكي ٢/٢٠٩ والنشر ٢/٣٥١ وتقريبه ١٦٣ وانظر: اللباب ٦/١٥٠ ب ميكروفيلم..
قوله: ﴿قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال: ﴿أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ أي لأجل الله.
قوله: «أن تقوموا» فيه أوجه:
أحدها: أنها مجرورة المحل بدلاً من «وَاحِدَةٍ» على سبيل البيان. قاله الفارسي.
الثاني: أنها عطف بيان «لواحدة» قاله الزمخشري. وهو مردود لتخالفها تعريفاً وتنكيراً، وقد تقدم هذا عند قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧].
الثالث: أنها منصوبة بإضمار «أَعْنِي».
الرابع: أنها مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا، و «مَثْنَى وفُرَادَى» حال وتقدم تحقيق القول في «مثنى» وبابه في سورة النساء، ومضى القول في «فُرَادَى» في الأنعام، ومعنى «مَثْنَى» أي اثنين اثنين، و «فُرَادَى» واحداً واحداً. ثم قوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ عطف على «أنْ تَقُومُوا» أي قِيَامكُمْ ثم تَفَكُّركُمْ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية مث يتبدئ: «مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ» وقال مقاتل: تم الكلام (عند) قوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له.
83
قوله: ﴿مَا بِصَاحِبكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ وفي «ما» هذه قولان:
احدهما: أنها نافية
والثانية: أنها استفهامية لكن لا يراد به حقييقة الاستفهام فيعود إلى النفي. وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى «تَتَفَكَّرُوا» لأنه فعل تحقيق كتَبَيَّنَ وبابه؟ ثلاثة أوجه نَقَل الثَّالِثَ ابنُ عطية. وربما نسبه لِسِيبويهِ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و «مِنْ جنَّةٍ» يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ ويجوز في «ما» إذا كانت نافية أن تكون الحجَازيَّة أو التَّمِيميَّة.
قوله: ﴿مثنى وفرادى﴾ إشارة إلى جمعي الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله «مَثْنَى» وإن كان وحده دخل في قوله: «فُرَادَى» فكأنه قال: تَقُومُوا لله مجتَمعِينَ ومُنْفَرِدِين لا يمنعكم الجمعيَّةُ من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد يُعينكم على ذكر الله ثم تتفكروا في حال محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتعلموا ما بصاحبكم من «جنة» جنون. وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القايم بالأمر الذي هو طلب الحق كقوله: ﴿وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط﴾ [النساء: ١٢٧] قال ابن الخطيب وقوله: ﴿بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ يفيد كونه رسولاً وإن كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي - عليه السلام - بواسطة الجن بل بقدرة الله من غير واسطة وعلى
84
التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطُّرق، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسِّ الصفات فإنه لو قال أولاً هو رسول كانوا فيه النِّزاع فإذا قال: ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده: ﴿إنْ هُوَ نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ يعني إما هو به جِنّة وهو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير.
وقوله: ﴿بَيْنَ يَدِيْ عَذَابِ شَدِيدٍ﴾ إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال بنذركم بعذاب حاضر يَمَسّكم عن قريبٍ.
قوله: ﴿قُلَ مَا سألتُكُمْ مِنْ أجْرٍ﴾ في «ما» وجهان:
أحدهما: أنها شرطية فيكون مفعولاً مقدماً و «فهُوَ لَكُمْ» جوابها.
والثاني: أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائدمحذوف أي سأَلْتُكُمُوهُ والخبر: «فَهُوَ لَكُمْ» ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجراً البتة كقولك: إن أعْطَيْتَنِي شيئاً فخذه مع عملك أي لم يُعْطِكَ شيئاً وقول القائل: ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء. ويؤيده: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ ويحتمل أن سألهم شيئاً نفعُه عائدٌ عليهم وهو المراد بقوله: ﴿إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ [الشورى: ٢٣] «إنْ أَجْرِيَ» ما ثوابي ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ﴾.
قوله: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ يجوز أن يكون «يَقْذِفُ بالْحَقِّ» مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالْحَقِّ» أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق. ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه، كقوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل﴾ [الأنبياء: ١٨] ويجوز أن يكون الباء زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ، كقوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] أو تضمن «يقذف» معنى يقتضي ويحكم، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام.
85
قال المفسرون: معناه نأتي بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء قوله: ﴿عَلاَّمُ الغيوب﴾ العامة على رفعه وفيه أوجه: أظهرها: أنه خبر (ثانٍ) ل «إنّ» أو خبر لمتبدأ مضمر أو بدل من الضمير في «يَقْذِفُ» أو نعت له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب. وقد صرح به هنا وقال الزمخشري: رفع على محل إنَّ واسْمِها، أو على محل إنَّ اسْمِها، أو على المستكِنِّ في «يَقذف» يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم.
ويرد بالحمل على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على المدح. وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين. فالضم تقدما في «بُيُوتٍ» وبابه. وأما الفتح
86
صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ.

فصل


قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان: أحدهما: نقذف بالحق في قلوب المحقين. وعلى هذا تُعَلَّقُ الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه (الصلاة و) السلام - بقوله: ﴿إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ﴾ وأكده بقوله: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم﴾ وكان من عادة المشركين استعباد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه كما حكى عنهم قولهم: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ في القلوب (إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل اتفاقاً، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة، فقال: «بالْحقِّ» كيف شاء وهو عالم بما يفعله (دعاكم) بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب.
الوجه الثاني: أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ [الأنبياء: ١٨] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة قال: «إن ربي يقذف بالحق» أي يُبْلي باطلكم. وعلى هذا الوجه فقوله: «علام الغيوب» هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال: ﴿يَقْذِفُ بالحق﴾ أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة. ثم قال: «عَلاَّم الغُيُوبِ» أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها فهو لا خُلْف فيه فإن اله علام الغيوب. وتحتمل الآية وجهاً آخر هو أن يقال: « ﴿رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ أي ما
87
يقذفه بالحق لا بالباطل. والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباب في قوله:» بالحق «كالباء في قوله تعالى: ﴿فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾ [ص: ٢٦] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم.
قوله: ﴿قُلْ جَآءَ الحق﴾ يعني القرآن. وقيل: التوحيد والحشر، وكلّ ما ظهر على لسان النبي - عليه (الصلاة و) السلام. وقيل المعجزات الدالة على نبوة محمد - عليه (الصلاة و) السلام وقيل: المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلَّ ما جاء فقد ظهر.
قوله: ﴿وَمَا يُبْدِيءُ﴾ يجوز في «ما»
أن تكون نفياً، وأن تكون استفهاماً، ولكن يَؤُول معناها إلى النفس، ولا مفعول «ليُبْدِئُ» ولا «لِيُعِيدُ» إذ المراد لا يوقع هذهين الفعلين كقوله:
٤١٤٢ - أقَفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ أَصْبَحَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ
وقيل: مفعوله محذوف أي ما يُبْدِئُ لأهله خبراً ولا يُعِيدُه، وهو تقدير الحسن. والمعنى: ذَهَبَ البَاطِلُ ووَهَن فلم يبق منه بقية يبدي شيئاً أو يعيد. وهو كقوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ [الأنبياء: ١٨] وقال قتادة: الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليسُ أحداً ابتداء ولا يبعثه. وهو (قول) مقاتل والكلبِّي، وقيل: الباطل الأصنام.
قوله: ﴿إنْ ضَلَلْتُ﴾ العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن
88
بنقل الساكن قبلها. وابن وثاب بالعكس وهو لغةُ تميمٍ وتقدم ذلك.

فصل


قال المفسرون: إن كفار مكة كانوا يقولون: إنك ضللت حتى تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي﴾ أي إثم ضلالي على نفسي ﴿وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ من القرآن والحكمة ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾.
قوله: ﴿فِبِمَا يُوحِي﴾ يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي، وأن تكون موصولة أي بسبب الذي يُوحِيه فعائده محذوف وقوله «سميعٌ» أي يسمع إذا ناديتهُ واستغنت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدَّاعِي.
89
قوله :﴿ قُلَ مَا سألتُكُمْ مِنْ أجْرٍ ﴾ في «ما » وجهان :
أحدهما : أنها شرطية فيكون مفعولاً مقدماً و «فهُوَ لَكُمْ » جوابها١.
والثاني : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائد محذوف أي سأَلْتُكُمُوهُ والخبر :«فَهُوَ لَكُمْ »٢ ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجراً البتة كقولك : إن أعْطَيْتَنِي شيئاً فخذه مع عملك أي لم يُعْطِكَ شيئاً وقول القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء. ويؤيده :﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ﴾ ويحتمل أنه سألهم شيئاً نفعُه عائدٌ عليهم وهو المراد بقوله :﴿ إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] «إنْ أَجْرِيَ » ما ثوابي ﴿ إلا على الله وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ ﴾.
١ قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٥ قال: "فهو لكم" جزاء الشرط الذي هو قوله: "ما سألتكم من أجر" تقديره : أي شيء سألتكم من أجر فهو لكم كقوله تعالى: ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها﴾ وانظر: الدر المصون ٤/٤٥٥..
٢ المرجعان السابقان والبحر المحيط ٧/٢٩١ وهما بالمعنى من الكشاف والبحر وباللفظ من الدر المصون..
قوله :﴿ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق ﴾ يجوز أن يكون «يَقْذِفُ بالْحَقِّ » مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالْحَقِّ » أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق. ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه١، كقوله تعالى :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ]. ويجوز أن يكون الباء٢ زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ٣، كقوله :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] أو تضمن «يقذف » معنى يقضي ويحكم٤، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام٥.
قال المفسرون : معناه نأتي٦ بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء٧. قوله :﴿ عَلاَّمُ الغيوب ﴾ العامة على رفعه وفيه أوجه :
أظهرها : أنه خبر ( ثانٍ )٨ ل «إنّ »٩ أو خبر لمبتدأ مضمر١٠ أو بدل من الضمير في «يَقْذِفُ »١١ أو نعت له على رأي الكسائي ؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب. وقد صرح به هنا١٢ وقال الزمخشري : رفع على محل إنَّ واسْمِها، أو على المستكِنِّ في «يَقذف »١٣ يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم. ويريد بالحمل١٤ على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي١٥، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً١٦ لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على١٧ المدح. وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين. فالضم والكسر تقدما في «بُيُوتٍ »١٨ وبابه. وأما الفتح صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ١٩.

فصل


قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان :
أحدهما : نقذف بالحق في قلوب المحقين. وعلى هذا تُعَلَّقُ٢٠ الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه ( الصلاة٢١ و ) السلام- بقوله :﴿ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ ﴾ وأكده بقوله :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم ﴾ وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال٢٢ الذكر عليه كما حكى٢٣ عنهم قولهم٢٤ :﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا ﴾ [ ص : ٨ ] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق ﴾ في القلوب ( إشارة٢٥ إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء ثم قال :﴿ علام الغيوب ﴾ ) إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من فعل شيئا كما يريد من غير اختصاص محل٢٦ الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل٢٧ اتفاقاً، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة، فقال :«بالْحقِّ » كيف شاء٢٨ وهو عالم بما يفعله ( دعاكم )٢٩ بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب.
الوجه الثاني : أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من٣٠ حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة٣١ قال :«إن ربي يقذف بالحق » أي يُبْلي٣٢ باطلكم. وعلى هذا الوجه فقوله :«علام الغيوب » هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار٣٣ الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال :﴿ يَقْذِفُ بالحق ﴾ أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة. ثم قال :«عَلاَّم الغُيُوبِ » أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها٣٤ فهو لا خُلْف فيه فإن الله علام الغيوب. وتحتمل الآية وجهاً٣٥ آخر وهو أن يقال :«﴿ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق ﴾ أي ما يقذفه بالحق لا بالباطل. والباء٣٦ على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباء في قوله :«بالحق » كالباء في قوله تعالى :﴿ فاحكم بَيْنَ الناس بالحق ﴾ [ ص : ٢٦ ] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب٣٧ الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم.
١ المراجع السابقة..
٢ أوردها أبو حيان في بحره وضعفها قال: "فإذا جعلت بالحق هو المفعول كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد فيه". البحر ٧/٢٩٢. وقد جوز زيادة الباء هنا شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤/٤٥٥..
٣ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٤ المرجع الأخير السابق..
٥ قاله في اللسان ٣٥٦٠..
٦ قال بذلك أبو عبيدة في المجاز ٢/١٥٠ وابن قتيبة في الغريب ٣٥٨، وابن الجوزي في الزاد ٦/٤٦٦ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٥٨ وانظر: البحر المحيط ٧/٢٩٢ ومعالم التنزيل للبغوي ٥/٢٩٥ والخازن عليه وغير ذلك..
٧ المراجع السابقة..
٨ سقط من "ب"..
٩ بعد الأول وهو :"يقذف". قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٢٨٣ والعكبري في التبيان ١٠٧١ والسمين في الدر ٤/٤٥٥..
١٠ قاله الكشاف ٣/٢٩٥ وابن الأنباري وأبو البقاء والسمين المراجع السابقة..
١١ قاله مكي في مشكل إعراب القرآن ٢/٢١٢ وانظر المراجع السابقة أيضا. كما ذكره أيضا الزجاج في إعراب القرآن ٤/٢٨٥ والنحاس أيضا في الإعراب ٣/٣٥٤ والقرطبي في الجامع ١٤/٣١٣..
١٢ نقله عنه أبو حيان في البحر ٧/٢٩٢..
١٣ ذكره في الكشاف ٣/٢٩٥..
١٤ في "ب" المحل لا الحمل وهو تحريف..
١٥ هذا رد أبي حيان والسمين في البحر ٧/٢٩٢ والدر ٤/٤٥٦ وقد اعترض أبو حيان لأن غالب أهل البصرة قد وضعوا للعطف على المحل شروطا منها وجود المحرز، وهو الطالب للمحل وبعض البصريين والكوفيين لا يشترط المحرز، ولأن إن لم تعمل عندهم في الخبر شيئا بل هو مرفوع بما كان مرفوعا قبل دخولها..
١٦ في "ب" نعت بالرفع والقراءة شاذة وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر ٢٢. وهي جائزة لغويا. وقد ذكرها النحاس ٣/٣٥٤ والفراء ٢/٣٦٤ والزجاج ٤/٢٥٧ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٨٣..
١٧ قاله العكبري في التبيان ١٠٧١ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٥..
١٨ من قوله تعالى: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع﴾ النور آية ٣٦ أو ﴿إن بيوتنا عورة﴾ الأحزاب آية ١٣. وقد كسر الغين من "الغيوب" حمزة وأبو بكر وضمها الباقون فهي قراء متواترة وضم "بيوت" ورش وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر ويعقوب. وانظر النشر ٢/٣٥١ وتقريبه ١٦٢ والكشف ٢/٢٠٨، والإتحاف ٣٦٠..
١٩ ذكره القرطبي ١٤/٣١٣ و الكشاف ٣/٢٩٥ والبحر ٧/٢٩٢ والدر ٤/٤٥٦ ولم ينص عليها قراءة..
٢٠ فيه: "وعلى هذا للآية تعلق بما قبلها"..
٢١ سقط من "أ"..
٢٢ فيه: الذكر وهو الأصح..
٢٣ فيه: كما قال تعالى عنهم..
٢٤ في "ب": قوله..
٢٥ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٢٦ في "ب": المحل وما في الفخر يوافق "أ"..
٢٧ في الفخر: وإنما فعل ذلك..
٢٨ في الفخر تشاء..
٢٩ سقط من "ب" وتصحيحها وعالم..
٣٠ في الفخر: وذلك من حيث..
٣١ وفيه: ودحضت شبهتهم..
٣٢ فيه: أي على باطلكم..
٣٣ فيه: غير إخبار..
٣٤ وفيه: وأحوالها..
٣٥ وفيه: تفسير بدل وجه..
٣٦ في "ب" : والباطل. وهو تحريف..
٣٧ في "ب": قلب وهو يوافق الفخر..
قوله :﴿ قُلْ جَآءَ الحق ﴾ يعني القرآن. وقيل : التوحيد والحشر، وكلّ ما ظهر على لسان النبي - عليه ( الصلاة١ و ) السلام. وقيل المعجزات الدالة على نبوة محمد - عليه ( الصلاة ٢و ) السلام- وقيل : المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلَّ ما جاء فقد ظهر.
قوله :﴿ وَمَا يُبْدِيءُ ﴾ يجوز في «ما » أن تكون نفياً٣، وأن تكون استفهاماً٤، ولكن يَؤُول معناها إلى النفس، ولا مفعول «ليُبْدِئُ » ولا «لِيُعِيدُ » ؛ إذ المراد لا يوقع هذين الفعلين٥ كقوله :
٤١٤٢- أقَفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ. . . أَصْبَحَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ٦
وقيل : مفعوله محذوف أي ما يُبْدِئُ لأهله خبراً ولا يُعِيدُه، وهو تقدير الحسن٧. والمعنى : ذَهَبَ البَاطِلُ ووَهَن فلم يبق منه بقية يبدي شيئاً أو يعيد. وهو كقوله :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ]. وقال قتادة : الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليسُ أحداً ابتداء ولا يبعثه. وهو ( قول )٨ مقاتل والكلبِّي، وقيل : الباطل الأصنام٩.
١ سقطتا من "أ" كالعادة..
٢ سقطتا من "أ" كالعادة..
٣ وهو اختيار الزجاج في إعرابه قال: "والأجود أن يكون "ما" نفيا على معنى: ما يبديء الباطل ومايعيد". معاني القرآن وإعرابه له ٤/٢٥٨. وانظر كذلك الإعراب للنحاس ٣/٣٥٥..
٤ ذكره ابن الأنباري في البيان ٢/٢٨٣ والزجاج في المعاني ٤/٢٥٨ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٥ والنحاس في الإعراب ٤/٣٥٥ وهي في موضع نصب. والتقدير: أي شيء يبدىء الباطل وأي شيء يعيد؟..
٥ فيكون لازما..
٦ رجز لعبيد بن الأبرص. والمعنى في الهلاك ويروى فاليوم بدل أصبح. والشاهد "يبدىء ويعيد" فلا مفعول لهما بالإضافة إلى أن الباطل قد هلك فلا يبدىء ولا يعيد فجعل قولهم: لا يبدىء ولا يعيد مثلا في الهلاك. والبيت في الكشاف ٣/٢٩٥ وذيل الأمالي للقالي ٣/١٩٥ والبحر ٧/٢٩٢ وشرح شواهد الكشاف ٣٨٥/٤ وديوانه ٤٥ والدر المصون ٤/٤٥٦..
٧ وهو معنى كلام الزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٥ قال: "وعن الحسن: لا يبدىء لأهله خيرا ولا يعيده" أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وانظر: البحر ٧/٢٩٢..
٨ سقط من "ب"..
٩ انظر هذه الأوجه مجتمعة في زاد المسير ٦/٤٦٦..
قوله :﴿ إنْ ضَلَلْتُ ﴾ العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن بنقل الساكن قبلها. وابن وثاب بالعكس وهو لغةُ تميمٍ١. وتقدم ذلك٢.

فصل


قال المفسرون : إن كفار مكة كانوا يقولون : إنك ضللت حتى تركت دين آبائك، فقال الله تعالى :﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي ﴾ أي إثم ضلالي على نفسي ﴿ وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ من القرآن والحكمة ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾٣.
قوله :﴿ فِبِمَا يُوحِي ﴾ يجوز أن تكون «ما » مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي، وأن تكون موصولة أي بسبب الذي يُوحِيه فعائده محذوف٤. وقوله «سميعٌ » أي يسمع إذا ناديتهُ واستعنت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدَّاعِي٥.
١ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٢ وأبو حيان في البحر ٧/١٩٢ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٥ موضحا أنها لغتان، وانظر: القرطبي ١٤/١٤..
٢ من الآية ٥٦ من الأنعام و١٠ من سورة السجدة آية الأنعام تقول: ﴿قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين﴾ وآية السجدة: ﴿أئذا ضللنا في الأرض﴾..
٣ قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٤٦٧..
٤ فحوى كلام أبي حيان في البحر ٧/٢٩٢ وانظر: الدر المصون ٤/٤٥٧..
٥ قاله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٧١..
قوله: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ﴾ قال قتادة عن البعث حتى يخرجوا من قبورهم «فَلاَ فَوْتَ» أي فلا تَفُوتُونِي كقوله: ﴿وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ [ص: ٣] وقيل: إذْ فَرِعُوا عند الموت فلا نجاةَ و «لَوْ تَرَى» جوابه محذوف؛ أي (جوابه) ترى عجباً.
قوله: ﴿فَلاَ فَوْتَ﴾ العامة على بنائه على الفتح و «أُخِذُوا» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفة على «فَزِعُوا».
89
وقيل: على معنى: «فَلاَ فَوْتَ» أي فلم يفوتوا وأخذوا وقرأ عبد الرحمن مولى هاشم وطلحةُ فَلاَ فَوْتٌ وأَخْذٌ مرفوعين منونين، وأُبَيّ يفتح «فوت»، ورفع «أخذ»، فرفع «فوت» على الابتداء أو على اسم لا الليسية ومن رفع «وأخذ» رفعه بالابتداء والخبر محذوف أي وأَخْذٌ هناك أو على خبر ابتداء مضمر أي وَحالُهُمْ أَخْذٌ.
ويكون من عطف الجمل مثبتةً على منفيةٍ.
قوله: ﴿وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ قال الكلبي: من تحت أقدامهم. وقيل: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وحيث ما كانوا فهُمْ مِنَ الله قريب لا يفونه. وقيل: من مكان قريب يعني عذاب الدنيا. قال الضحاك: هو يوم بَدْر. وقال ابنُ أبْزَى: خَسْفٌ بالبيداء وجواب «لَوْ تَرَى» محذوف أي لَرَأيْتَ أَمْراً يُعْتَبَرُ بِهِ.
قوله: ﴿وقالوا آمَنَّا بِه﴾ أي عند اليأس. والضمير في «به» لله أو للرسول أو للقرآن أو للعذاب أو للبعث و «أَنِّي لَهُمْ» أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظَّفَرِ بالمطلوب وذلك لا يكون إلاَّ من الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة.
فإن قيل: فكيف قال في كثير من المواضع: إنَّ الآخِرَةَ من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال: ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١] ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] ﴿لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧].
90
فالجواب: أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون؛ إذ لا وصولَ إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آتٍ فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيِّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه.
قوله: ﴿التناوش﴾ متبدأ و «أنَّى» خَبَرهُ، أي كيف لهم التناوش و «لَهُم» حال، ويجوز أن يكون «لهم» رافعاً للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش؟ وفيه بعد، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو، وأبي بكر وبالواو في قراءة غيرهم، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما، وقيل: الهمزة عن الواو لانضمامها كوُجُوهٍ وأُجُوه، ووُقّتت وأُقِّتَتْ وإليه ذهب جماعة كثيرةٌ كالزَّجّاج والزَّمخْشَري وابن عطية والحَوْفي وأبي البقاء قال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار، وتابعه الباقون قريباً من عبارته.
وردَّ أبو حيانَ هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزاً من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو: تَرَهُوَكَ تَرَهْوُكاً، وتَعَاوَنَ تَعَاوُناً. وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في: «تَنَاوَشَ يَتَنَاوَشُ»، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثَبَتَ رده. والتَّنَاوُشُ الرجوعُ، قال:
91
أي إلى رجوعها. وقيل: هو التناول يقال: نَاشَ كذا أي تَنَاوَلَهُ ومنه تَنَاوشَ القَوْمُ بالسِّلاح كقوله:
٤١٤٣ - تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ وَلَيْسَ إلى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ
٤١٤٤ - ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ
وقال آخر:
٤١٤٥ - وهي تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلاَ نَوْشاً به تقطَع أجْوَازَ الفَلاَ
وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير. وقال الفراء: من نَأَشْتُ أي تَأَخَّرْتُ. وأنشد:
٤١٤٦ - تَمَنَّى نَئِيشاً أَنْ يَكُونَ مُطَاعُنَا وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ
وقال آخر:
٤١٤٧ - قَعَدْتَ زَمَاناً عَنْ طِلاَبِكَ لْلعُلاَ وَجِئْتَ نَئِيشاً بَعَْ مَا فَاتَكَ الخَيْرُ
وقال الفراء أيضاً: هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذِمْتُ الشيء وذَأَمْتُهُ أي عِبْتُهُ وانْتَاشَ انْتَاشَ انِتْيَاشاً كَتَنَاوَشَ وقال:
٤١٤٨ - كَانَتْ تَنُوشُ العنق انْتِيَاشا...
92
وهذا مصدر على غير المصدر، و «مِنْ مَكَانٍ» متعلق بالتَّنَاوُشِ.

فصل


المعنى كيف لهم تناول ما بعد وهم الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز معناه هذا أيضاً. وقيل: التناوش بالهمز من النَّيْشِ وهي حركة في إبطاء، يقال: جاء نيْشاً أي مُبْطِئاً متأخراً والمعنى من أي لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه.
قال ابن عباس: يسألون الرد فيقال: وأنَّى لهم الردُّ إلى الدنيا «من مكان بعيد» أي من الآخرة إلى الدنيا.
قوله: ﴿وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ جملة حالية. وقوله «به» أي بالقرآن. وقيل: بالله أو محمد - عليه (الصلاة و) السلام -.
وقيل: بالعذاب أو البعث. و «من قبل» أي من قبل نزول العذاب. وقيل: من قبل أن عاينوا أهوال القيامة، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر.
قوله: ﴿وَيُقْذَفُونَ﴾ يجوز فيها الاستئنافُ والحال، وفيه بعد. عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت. وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو: ويُقْذَفُونَ مبنياً للمفعول أي يُرْجَمُونَ بما يسوؤهُمْ من جزاء أعمالهم من حيث لا يحْتسبون.
93

فصل


ويقذفون قال مجاهد: يرمون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالظن لا باليقين وهو قولهم: ساحرٌ وشاعرٌ وكاهنٌ. ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يَرْمُونَ محمداً بما لا يعلمون من حيث لايعلمون.
وقال قتادة: «أي يرجمون بالظن يقولون لا بعثَ ولا جنةَ ولانَارَ».
قوله: ﴿وَحِيَل﴾ تقدم في الإشمام والكسر أو البقرة.
والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحَوْلُ ولا تقدره مصدراً مؤكداً بل مختصاً حتى يصح قيامه، وجعل الحَوْفيُّ القائم مقام الفالع «بينهم» اعترض عليه بأنه كان نيبغي أن يرفع. وأجيب عنهُ بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكِّن. ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقاً، فلا يجوز: قاَمَ غُلاَمَكَ ولا مَرَرْتُ بِغُلاَمكَ بالفتح. قال شهاب الدين: وقد تقدم في قوله: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] ما يغني عن إعادة ثم قال أبو حيان: وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر:
٤١٤٩ -......................... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ والنَّزَوَانِ
فإنه نصب «بين» مضافة إلى معرب وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قول الآخر:
94
أي يتعلل هو أي الاعتلال.
قوله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا.
وقيل: نعيم الدنيا وزهرتها، «كَمَا فُعشلَ باَشْيَاعِهِمْ» بنظرائهم ومن كان (على) مث حالهم من الكفار «مِنْ قَبْلُ» لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس «إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكِّ» من البعث ونزول العذاب بهم، و «مِنْ قَبْلُ» متعلق «بفُعِلَ» أو «بأَشْيَاعِهِمْ» أي (الذين) شايعوهم قبل ذلك الحين.
قوله: ﴿مُرِيب﴾ قد تقدم أنه اسم فاعل من أَراربَ أي أى بالريب أو دخل فيه وأَرَبْتُهُ أوْقَعْتُهُ في الرَّيْبِ. ونسبة الإرابة إلى الشك مجازاً.
وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فُرَيْقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول من صحاب الشك إلى الشك كما تقول شرع شاعر.... وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب. وقول ابن عطية الشك المريب: أقوى ما يكون من الشك وأشدُّه،
95
وتقدم تحقيق الريب أول البقرة، وتشينع الراغب على من يفسر بالشكّ، والله أعلم.
روى أو أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. «مَنْ قَرَأَ سُوَرةَ سَبَأٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيُّ وَلاَ رَسُولٌ إلاَّ كَانَ لَهُ رفيقاَ وَمُصَافِحاً».
(صدق نبي الله وحَبِيبُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ).
96
سورة فاطر (سورة الملائكة - عليهم السلام -
97
قوله :﴿ وقالوا آمَنَّا بِه ﴾ أي عند اليأس. والضمير في «به »١ لله٢ أو للرسول٣ أو للقرآن٤ أو للعذاب أو للبعث٥ و «أَنّى لَهُمْ » أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظَّفَرِ بالمطلوب وذلك لا يكون إلاَّ في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة٦.
فإن قيل : فكيف قال في كثير من المواضع : إنَّ الآخِرَةَ من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال :﴿ اقتربت الساعة ﴾ [ القمر : ١ ] ﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ١ ] ﴿ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ ﴾ [ الشورى : ١٧ ].
فالجواب : أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون ؛ إذ لا وصولَ إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آتٍ فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيِّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه٧.
قوله :﴿ التناوش ﴾ مبتدأ و «أنَّى » خَبَرهُ، أي كيف لهم التناوش و «لَهُم » حال، ويجوز أن يكون «لهم » رافعاً للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش ؟ وفيه بعد٨، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو، وأبي٩ بكر وبالواو في قراءة غيرهم، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما١٠، وقيل : الهمزة عن الواو لانضمامها كوُجُوهٍ وأُجُوه، ووُقّتت وأُقِّتَتْ وإليه ذهب جماعة كثيرةٌ كالزَّجّاج١١ والزَّمخْشَري١٢ وابن عطية١٣ والحَوْفي١٤ وأبي البقاء١٥ قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار١٦، وتابعه الباقون١٧ قريباً من عبارته.
وردَّ أبو حيانَ هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزاً من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو : تَرَهُوَكَ تَرَهْوُكاً، وتَعَاوَنَ تَعَاوُناً. وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في :«تَنَاوَشَ يَتَنَاوَشُ »، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثَبَتَ رده١٨. والتَّنَاوُشُ الرجوعُ، قال :
٤١٤٣- تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ. . . وَلَيْسَ إلى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ١٩
أي إلى رجوعها. وقيل : هو التناول يقال : نَاشَ كذا أي تَنَاوَلَهُ ومنه تَنَاوشَ القَوْمُ بالسِّلاح٢٠ كقوله :
٤١٤٤- ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ. . . لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ٢١
وقال آخر :
٤١٤٥- وهي تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلاَ. . . نَوْشاً به تقطَع أجْوَازَ الفَلاَ٢٢
وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير. وقال الفراء : من نَأَشْتُ أي تَأَخَّرْتُ٢٣. وأنشد :
٤١٤٦- تَمَنَّى نَئِيشاً أَنْ يَكُونَ مُطَاعُنَا. . . وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ٢٤
وقال آخر :
٤١٤٧- قَعَدْتَ زَمَاناً عَنْ طِلاَبِكَ لْلعُلاَ. . . وَجِئْتَ نَئِيشاً بَعْدَ مَا فَاتَكَ الخَيْرُ٢٥
وقال الفراء أيضاً : هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذِمْتُ الشيء وذَأَمْتُهُ أي عِبْتُهُ٢٦ وانْتَاشَ انِتْيَاشاً كَتَنَاوَشَ وقال :
٤١٤٨- كَانَتْ تَنُوشُ العنق انْتِيَاشا٢٧. . .
وهذا مصدر على غير المصدر٢٨، و «مِنْ مَكَانٍ » متعلق بالتَّنَاوُشِ.

فصل٢٩


المعنى كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز فقيل معناه هذا أيضاً. وقيل : التناوش بالهمز من النَّيْشِ وهي حركة في إبطاء، يقال : جاء نيْشاً أي مُبْطِئاً متأخراً والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه٣٠.
قال ابن عباس : يسألون الرد فيقال : وأنَّى لهم الردُّ إلى الدنيا «من مكان بعيد » أي من الآخرة إلى الدنيا٣١.
١ انظر هذه الأقوال في القرطبي ١٤/٣١٥..
٢ وهو قول مجاهد..
٣ وهو قول قتادة..
٤ قاله القرطبي ١٤/٣١٥..
٥ وهو قول الحسن رضي الله عنه..
٦ قاله الرازي ٢٥/٢٧١..
٧ الرازي المرجع السابق..
٨ قاله شهاب الدين في الدر المصون ٤/٤٥٧..
٩ من القراءات المتواترة. قاله مكي في الكشف ٢/٢٠٨ وابن الجزري في النشر ٢/٣٥١ وتقريبه ١٦٢ وابن خالويه في الحجة ٢٩٥ وانظر التبيان ١٠٧١ والبيان ٢/٢٨٤ ومعاني الفراء ٢/٣٦٥ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٥٩ وإعراب النحاس ٣/٣٥٦، ومشكل الإعراب لمكي ٢/٢١٣ وتفسير القرطبي ١٤/٣١٦ والكشاف ٣/٢٩٦..
١٠ البحر المحيط ٧/٢٩٤ والدر المصون ٤/٤٥٧..
١١ معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٥٩..
١٢ الكشاف ٣/٢٩٦..
١٣ البحر المحيط ٧/٢٩٤..
١٤ المرجع السابق..
١٥ التبيان ١٠٧١ وقال النحاس في الإعراب ٣/٣٥٦: "والقراءة جائزة حسنة ولها وجهان في كلام العرب ولا يتناول بها هذا المتناول البعيد فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية وذلك كثير في كلام العرب والوجه الآخر أن يكون مشتقا من النئيش، وهو الحركة في إبطاء". إعراب النحاس ٤/٣٥٦..
١٦ قال: "إن شئت أبدلت منها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك أدور وتقاوم". انظر معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٥٩..
١٧ من هؤلاء أبو جعفر النحاس في كتابه "إعراب القرآن" المرجع السابق..
١٨ هذا رد أبي من أبي حيان على الزجاج. والصحيح ما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج حيث إن السماع يؤيده وكلا المعنيين قريبان من بعضهما..
١٩ من الوافر وهو مجهول وشاهده: "تناوشها" فإنه بمعنى رجوعها. والبيت في البحر ٧/٢٩٤ والقرطبي ١٤/٣١٦ والدر المصون ٤/٤٥٨..
٢٠ قاله الفراء في المعاني ٢/٣٦٥ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٦..
٢١ من الكامل وينسب لقتيلة أخت النضر بن الحارث. وشاهده: "تنوشه" والمعنى: تأخذه وتتناوله فهذا شاهد آخر على أن التناوش بمعنى التناول. وانظر : اللسان: "ن و ش" ٤٥٧٦، والدر المصون ٤/٤٥٨ والبداية والنهاية للحافظ أبي الفداء ابن كثير ٣/٣٠٦..
٢٢ البيت من الرجز لغيلان بن حريث والشاهد: "تنوش نوشا" بمعنى تناولا فهو شاهد على أن التناوش هو التناول كما سبق في البيتين السابقين. والبيت في وصف الإبل بأنها طويلة الأعناق وأنها تصبر على العطش. والبيت في الطبري ٢٢/٧٤ ومعاني الفراء ٢/٣٦٥ والبيان ٢/٣٨٤ والكتاب ٣/٤٥٣ وابن يعيش ٤/٥٧٣ وحجة القراءات لابن خالويه ١٩٥ ومجمع البيان ٧/٦٢١ ومجاز القرآن ٢/١٥٠ والقرطبي ١٤/٣١٦ واللسان: "ن و ش" ٤٥٧٦..
٢٣ المعاني ٢/٣٦٥ قال: "يجعلونه من الشيء البطيء من نأشت من النئيش"..
٢٤ من الطويل وقد نسبه في اللسان إلى نهشل بن حري. وهو في الطبري ٢٢/٧٤ بلفظ "أطاعني" وهو في حكاية التحسر. وشاهده استعمال لفظ "نئيش" بمعنى التأخر. وانظر: القرطبي ١٤/٣١٦، ومعاني الفراء ٢/٣٦٥ والبيان ٢/٢٨٤ والدر المصون ٤/٤٥٩ والبيضاوي ٢/١٤٣ واللسان نأش ٤٣١٣. ومجمع البيان للطبرسي ٧/٦٢١..
٢٥ من الطويل كسابقه وشاهده كسابقه أيضا حيث استعمل النئيش بمعنى التأخر والبطء. وهو مجهول القائل. وانظر : فتح القدير للشوكاني ٤/٣٣٦ والبحر ٧/٢٥٦ ومادة "نوش" من اللسان ٤٥٧٥ والفراء ٢/٣٦٥ والدر المصون ٤/٤٥٩ والقرطبي ١٤/٣١٦ و ٣١٧..
٢٦ قاله في معانيه ٢/٣٦٥..
٢٧ هكذا هو في اللسان: "ن و ش" ٤٥٧٥ لابن منظور. وهو رجز مجهول قائله. وشاهده : أن معنى الانتياش والتناوش متقارب. ورواه في اللسان: باتت تنوش العنق انتياشا بلفظ "باتت" بدلا من : كانت وانظر: القرطبي ١٤/٣١٦ و ٣١٧ والدر ٤/٤٥٩..
٢٨ فإن مصدر الثلاثي معروف فما دام قال تنوش فكان من القياس أن يقول نوشا أو نيشا ولكنه قال انتياشا. قال في اللسان: ناشه بيده ينوشه نوشا: تناوله. اللسان: ن و ض..
٢٩ زيادة من "ب"..
٣٠ نقل كل ما سبق البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٦..
٣١ المرجع السابق..
قوله :﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ جملة حالية. وقوله «به » أي بالقرآن. وقيل : بالله أو محمد- عليه ( الصلاة و )١ السلام-.
وقيل : بالعذاب أو البعث. و «من قبل » أي من قبل نزول العذاب. وقيل : من قبل أن عاينوا أهوال القيامة٢، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر.
قوله :﴿ وَيُقْذَفُونَ ﴾ يجوز فيها الاستئنافُ والحال٣، وفيه بعد. عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت٤. وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو : ويُقْذَفُونَ مبنياً للمفعول٥ أي يُرْجَمُونَ بما يسوؤهُمْ من جزاء أعمالهم من حيث لا يحْتسبون.

فصل


ويقذفون قال مجاهد : يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالظن لا باليقين وهو قولهم : ساحرٌ وشاعرٌ وكاهنٌ. ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يَرْمُونَ محمداً بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون.
وقال قتادة :«أي يرجمون بالظن يقولون لا بعثَ ولا جنةَ ولا نَارَ »٦.
١ زيادة من "ب"..
٢ انظر هذه الأقوال في زاد المسير لابن الجوزي ٥/٤٧٠ والقرطبي ١٤/٣١٧ وقال بحالية تلك الجملة العلامة أبو حيان في بحره ٧/٩٤٢..
٣ نقله أبو حيان في البحر ٧/٢٩٤ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٦ إلا أن الزمخشري قال بالحال فقط بينما قال أبو حيان بالحال والاستئناف معا..
٤ فشرط الجملة الحالية أن يكون فيها رابط والرابط هذا ضمير صاحبها أو الواو. ويتعين الضمير في المصدر بمضارع مثبت عار من "قد" أو منفي بلا أو ماض بعد إلا أو بعده. ولا تغني عن الضمير الواو ولا تجامعه غالبا فحتى نعتبر يقذفون حالية علينا أن نقدر ضمير مبتدأ والجملة تصبح حالية بعد أي وهم يقذفون. بتصرف من الهمع ٢/٢٤٦..
٥ نقلها الزمخشري في الكشاف ٣/٢٩٦ وأبو حيان في البحر ٧/٢٩٤..
٦ نقل هذه الأقوال القرطبي في الجامع ١٤/٣١٧ والبغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٦..
قوله :﴿ وَحِيَل ﴾ تقدم فيه الإشمام والكسر١ أول البقرة.
والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحَوْلُ ولا تقدره مصدراً مؤكداً بل مختصاً حتى يصح قيامه٢، وجعل الحَوْفيُّ القائم مقام الفاعل «بينهم »٣. واعترض عليه بأنه كان٤ ينبغي أن يرفع. وأجيب عنهُ بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير٥ متمكِّن. ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقاً، فلا يجوز : قاَمَ غُلاَمَكَ ولا مَرَرْتُ بِغُلاَمكَ بالفتح٦. قال شهاب الدين : وقد تقدم في قوله :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] ما يغني عن إعادته٧. ثم قال أبو حيان : وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر :
٤١٤٩-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ والنَّزَوَانِ٨
فإنه نصب «بين » مضافة إلى معرب٩ وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قول الآخر :
٤١٥٠- وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ. . . يَسُؤْكَ ( وَ ) إنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرَبِ١٠
أي يعتلل هو أي الاعتلال١١.
قوله :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا.
وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها١٢، «كَمَا فُعلَ بأَشْيَاعِهِمْ » بنظرائهم١٣ ومن كان ( على )١٤ مثل حالهم من الكفار. «مِنْ قَبْلُ » لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس «إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكِّ » من البعث ونزول العذاب بهم١٥، و «مِنْ قَبْلُ » متعلق «بفُعِلَ » أو «بأَشْيَاعِهِمْ »١٦ أي ( الذين )١٧ شايعوهم قبل ذلك الحين١٨.
قوله :﴿ مُرِيب ﴾ قد تقدم أنه اسم فاعل من أَرابَ١٩ أي أتى بالريب أو دخل فيه وأَرَبْتُهُ أوْقَعْتُهُ في الرَّيْبِ. ونسبة الإرابة إلى الشك مجازاً٢٠.
وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فُرَيْقاً٢١ وهو أن المريب من المتعدي منقول٢٢ من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر٢٣. . . . وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب. وقول ابن عطية الشك المريب : أقوى ما يكون من الشك وأشدُّه٢٤، وتقدم تحقيق الريب أول البقرة٢٥، وتشينع الراغب على من يفسره بالشكّ٢٦، والله أعلم.
١ كشأن أي فعل مبني للمفعول وكان أجوف فإنه يجوز فيه ثلاثة أوجه: قلب الألف واو مثل صوم وعوم أو قلبها ياء مثل صيم وبيع وقيل، أو الإشمام إشمام الضم مع الكسر بالنسبة للحرف الأول وهكذا هذا الفعل الذي معنا وهو "حيل" فيجوز فيه حول وحيل والإشمام. انظر: اللباب ١/٧٢..
٢ قاله السمين في الدر ٤/٤٥٩..
٣ البحر المحيط ٧/٢٩٤..
٤ المعترض هو أبو حيان قال: "لو كان على ما ذكر لكان مرفوعا ب "بينهم" كقراءة من قرأ: "ولقد تقطع بينكم" في أحد المعنيين"..
٥ الدر المصون ٤/٤٥٩..
٦ قاله في البحر ٧/٢٩٤و ٢٩٥..
٧ الدر المصون ٤/٤٥٩..
٨ عجز بيت من الطويل لصخر بن عمرو وصدره:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه .......................
والعير الحمار، والنزوان إتيانه لأنثاه. وشاهده: نصب "بين" مع إضافته إلى المعرب والفتح هنا في بين بناء، فلو كان الإعراب لازما لإضافته إلى المعرب لرفع بين ولكنه لم يحصل. وانظر: البحر لأبي حيان ٧/٢٩٥ واللسان: "نزا" والأصمعيات ١٤٦..

٩ في النسختين "معرف" والأصح معرب كما أثبت..
١٠ من الطويل كسابقه وهو لامرىء القيس وقيل: لعلقمة بن عبدة وهو غير صحيح ويعتلل: يتخذ علة لقطع وصاله. وتدرب: تتعود والمعنى إن يحل عليك بالوصال ضرك ذلك وإن هجرتك كان عادة لك ودربة، والشاهد: "ويعتلل" أي يعتلل هو أي الاعتلال المعهود فإن نائب الفاعل هنا ضمير المصدر الجائي من الفعل "يعتلل" وهذا المصدر الذي لا محالة أنه مختص حتى يصح قيامه، وانظر: البحر المحيط ٧/٢٩٥ والتصريح ٢/٢٨٩، والأشموني ٢/٦٥ وأيضا ديوان امرىء القيس ٢٢ وتمهيد القواعد ٢/٤٨٢، والدر المصون ٤/٤٦٠..
١١ انظر ما سبق..
١٢ قاله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٦ وكذلك الخازن ٥/٢٩٦ وابن قتيبة في الغريب ٣٥٩ وتأويل المشكل ٣٥٦ والقرطبي ١٤/٣١٨..
١٣ قال الزجاج: "بمن كان مذهبه مذهبهم" انظر: معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٥٩ وزاد المسير لابن الجوزي ٦/٤٧١..
١٤ سقط من "ب"..
١٥ قاله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٩٦..
١٦ الدر المصون ٤/٤٦٠ والبحر المحيط ٧/٢٩٥..
١٧ سقط من "ب"..
١٨ معالم التنزيل ٥/٢٩٧..
١٩ البحر والدر المرجعان السابقان. وانظر: اللسان: "ر ي ب" ١٧٨٨ و ١٧٨٩ قال: "قال الأصمعي: أخبرني عيسى بن عمر أنه سمع هذيلا تقول: أرابني أمره، وأراب الأمر: صار ذا ريب وفي التنزيل العزيز: "إنهم كانوا في شك مريب" أي ذي ريب"..
٢٠ في "ب" والبحر مجاز بالرفع..
٢١ كذا في الكشاف وفي "ب" فرقا بالتكبير لا التصغير..
٢٢ انظر: الكشاف ٣/٢٩٧، والبحر المحيط ٧/٢٩٥..
٢٣ المرجع السابق..
٢٤ المرجع السابق..
٢٥ عند قوله: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ وهي الآية ٢ منها، وانظر: اللباب ١/٢٨ ب..
٢٦ قال: "سماه ريبا لا أنه مشكك في كونه بل من حيث تشكك في وقت حصوله فالإنسان أبدا في ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه"..
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٤١٥٠ - وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ يَسُؤْكَ (وَ) إنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرَبِ