تفسير سورة سبأ

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
[ سورة سبأ نزلت بمكة ]١
١ من م، ساقطة من الأصل..

سُورَةُ سَبَإٍ
نزلت بمكة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ).
قال أهل التأويل: حمد نفسه بما صنع إلى خلقه.
ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: على التعليم لخلقه: الحمد له، والثناء عليه؛ لآلائه وإحسانه إلى خلقه: ما لولا تعليمه إياهم الحمد له والثناء عليه لم يعرفوا ذلك.
والثاني: حمد نفسه؛ لما لم ير في وسع الخلق القيام بغاية الحمد له والثناء عليه على آلائه وأياديه، فتولى ذلك بنفسه، وهو ما ذكر في قوله: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فقالوا: قد عرفنا السلام عليك؛ فكيف الصلاة عليك؟ فقال: " أن تقولوا: اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد... " إلى آخره؛ فهذا تفويض الصلاة إلى اللَّه والدعاء له أن يصلي هو عليه دونهم؛ فهو - واللَّه أعلم - كأنه لم ير فيهم وسع القيام بحقيقة الصلاة عليه، ولا بغاية الثناء؛ فأمرهم أن يفوضوا ذلك إليه؛ ليكون هو القاضي لذلك عنهم؛ فعلى ذلك الحمد لله.
وأصل الحمد له: هو الثناء عليه بجميع محامده وإحسانه بأسمائه الحسنى، والشكر له على جميع نعمائه وآلائه.
وقوله: (الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
كأنه قال - واللَّه أعلم -: الحمد لله له ملك السماوات والأرض، وهو المستحق لذلك، لا الأصنام التي عبدتموها وسميتموها: آلهة.
وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ)، أي: يحمد أهل الجنة إذا دخلوا الجنة؛ كقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)، وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)،
ونحوه؛ يحمده أولياؤه في الآخرة؛ ويحمده أولياؤه في الأولى؛ كقوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ).
وجائز أن يكون قوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ)، أي: له الحمد في إنشاء الآخرة؛ لأن إنشاء الدنيا وما فيها إنما كان حكمة بإنشاء الآخرة، ولو لم يكن إنشاء الآخرة لكان خلق ذلك كله عبثًا باطلا؛ فأنشأ الآخرة حتى صار إنشاء الدنيا وما فيها من الخلائق حكمة؛ فأخبر أن له الحمد على إنشاء ما صار له إنشاء الدنيا حكمة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
قد تقدم معنى الحكيم والخبير في غير موضع، وهو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، وهو الواضع كل شيء موضعه.
والفلاسفة يقولون: الحكيم: هو الذي يجمع العلم والعمل جميعًا، وهو ما ذكرنا.
أو الحكيم؛ لما أحكم كل شيء وأتقنه، حتى شهد على وحدانيته، ودل على إلهيته.
وقوله: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
يخبر أن الأرض مع كثافتها وغلظها لا تحجب عنه ما يدخل فيها وما يخرج منها، وكذلك السماء مع صلابتها وشدتها لا تحجب عنه شيئا كما يحجب عن الخلائق.
أو يخبر أن كثرة ما يدخل في الأرض ويخرج منها وازدحامه، وكثرة ما ينزل من السماء من الأمطار وما يعرج إليه من الدعوات والملائكة - لا يشغله عن العلم بالآخر، كما يشغل الخلائق؛ لأنه عالم بذاته لا بسبب، والخلق عالمون بأسباب؛ فعلمهم بسبب يشغلهم عن الأسباب الأخر؛ فأما اللَّه - سبحانه - يتعالى عن أن يشغله شيء، أو يحجب عنه شيء، (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) فْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩).
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم أقسموا باللات والعزى أن لا بعث ولا حياة بعد الموت؛ فأمر الله نبيه أن يقسم باللَّه الواحد على بعث وقيامة بقوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).
وجائز أن يكون على غير هذا وهو ما قال في آية أخرى؛ حيث قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا)، هم أقسموا باللَّه: إنه لا يبعث من يموت؛ فأمر رسوله في هذه الآية أن يقسم باللَّه - الذي أقسموا هم: إنه يبعث، وهو قوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)، وكأن قسمه بما أقسم عندهم أصدق من قسمهم؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبًا قط، ولا اتهموه في شيء؛ يدل على ذلك ما أخبر اللَّه عنهم؛ حيث قال: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، أخبر أنهم لا يكذبونك في مقالتك؛ ولكن همتهم الجحود بالآيات والإنكار لها؛ فيكون قسمه مقابل قسم أُولَئِكَ في إنكارهم البعث؛ ليعلموا كذب أنفسهم في قسمهم - بقسم رسول اللَّه بما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (عَالِمِ الْغَيْبِ)، بالخفض، وقد قرئ (عَالِمُ الْغَيْبِ): بالرفع، و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ): فمن خفضه، جعله صفة ونعتًا لما تقدم من قوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ).
ومن رفعه، يجعله على الابتداء، ويجعل الكلام تامًّا بقوله: (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)، ثم استأنف فقال: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ).
ثم قوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ).
قد قرئ برفع الزاي، وبخفضها: (لَا يَعْزُبُ)، وكلاهما لغتان، والعازب في كلام العرب: الغائب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يَعْزُبُ)، أي: لا يبعد، وهما واحد.
وقوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ).
وقال في الأولى (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا): جائز أن تكون هذه الآية في جواهر الأشياء وأجناسها المختلفة؛ لأنه أخبر عن
علمه بما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما يصعد فيها وما ينزل، وذلك علم جواهر الأشياء.
وقوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ...) إلى آخر ما ذكر: في الأفعال والأعمال، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه شيء من أفعالهم وأعمالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر؛ ألا ترى أنه ذكر على أثر ذلك الجزاء؛ حيث قال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
أو أن يكونا واحدًا، إلا أنه ذكر في الآية الأولى الداخل في الأرض والخارج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ولم يذكر في ذلك الساكن فيهما والمقيم وما يكون فيهما؛ فذكر ذلك في قوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) يخبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها: من الساكنة، والمقيمة، والمتحركة، والمنقلبة فيهما، والله أعلم.
وقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
المغفرة: هي التغطية والستر، ثم يكون الستر بوجهين:
أحدهما: يستر على أعين الزلات أنفسها ألا تذكر.
والثاني: يستر بالجزاء الحسن إذا لم يجز للزلات، هذا للمؤمنين: يستر عليهم الزلات مرة بترك ذكرها، ومرة بترك الجزاء عليها.
وأما الكافر فإنه إذا جزي على سيئة فقد أُظْهِرَ وفَشَا، ولم يستر عليه.
أو أن يكون قوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)، أي: ستر وهو أنه إذا أدخلهم الجنة، أنساهم زلاتهم؛ حتى لا يذكروا أبدا؛ لأن ذكر زلاتهم لربهم ينغص عليهم لذاتهم وتنعمهم.
وقوله: (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، قيل: الكريم: الحسن.
وجائز أن يكون سماه: كريمًا؛ لأن من ناله كرم وشرف، كقوله: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) يحتمل حقيقة سعيهم في آياته بما ذكر؛ كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ): ذكر مرورهم عليها والإعراض عنها؛
الآية ٥ وقوله تعالى :﴿ والذين سعوا في آياتنا معاجزين ﴾ يحتمل سعيهم في آياته بما ذكر كقوله :﴿ وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ] ذكر مرورهم عليها وإعراضهم١ عنها، فهو سعي.
وجائز على التمثيل، أي يعملون عمل من أعجز الآيات للجحود لها والرّد والعناد. والمعجز هو المسابق [ كقوله ]٢ :﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ﴾ [ الشورى : ٣١ ] أي مسابقين فائتين، أي لا تُعجِزونني، ولا [ تفوتونني.
وقوله تعالى ]٣ :﴿ لهم عذاب من رجز أليم ﴾ الرجز العذاب الأليم، أي مؤلم، وذلك جائز في اللغة.
وقال أبو عوسجة : المعاجز الهارب، يهرب كي يُعجز.
١ في الأصل وم: والإعراض..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: تفوتون عني..
فهو سعي.
وجائز على التمثيل، أي: يعملون عمل من أعجز الآيات؛ للجحود لها والتمرد والعناد، والمعجز: هو السابق، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي: سابقين فائتين، أي: لا تعجزونني، ولا تفوتون عني.
(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).
الرجز: العذاب الأليم، أي: مؤلم، وذلك جائز في اللغة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الْمُعَاجِز: الهارب؛ يهرب؛ لكي يعجز.
وقوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين أوتوا العلم هم المؤمنون: مؤمنو أهل الكتاب الذين أوتوا العلم على التوراة والإنجيل وغيرهما؛ يقول - واللَّه أعلم - يعلم الذين أوتوا منافع تلك الكتب أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق، بأجمعهم جميعًا الذين أوتوا العلم بتلك الكتب؛ لما يجدون نعته وصفته فيها، يعلمون أنه هو الحق من ربّك، لكن بعضهم عاندوا ولم يؤمنوا به، وبعضهم قد آمنوا به.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ): هم أصحاب مُحَمَّد - صلوات الله عليه - أي: الذين أوتوا منافع ما أنزل إليك، هم يعلمون أنه هو الحق من ربك، فأما من لم يؤت منافع العلم فلا يعلم ذلك.
وفي حرف ابن مسعود (ويعلم الذين أوتوا الحكمة من قبل الذي أنزل إليك من ربك هو الحق)، يعني: القرآن.
وقوله: (وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
قوله (وَيَهْدِي) يحتمل: يدعو، ويحتمل (وَيَهْدِي)، أي: يبين لهم (صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧)
كان بعضهم يقول لبعض: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
الآية ٧ وقوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبّئكم إذا مُزّقتم كل ممزَّق إنكم لفي خلق جديد ﴾ كان بعضهم يقول لبعض :﴿ هل ندلكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كل ممزّق إنكم لفي خلق جديد ﴾ قوله :﴿ إذا مزّقتم ﴾ يحتمل أن قالوا : النبي يقول : إذا تفرّقت جوارحكم وأعضاؤكم تكونون١ خلقا جديدا.
فإن كان على هذا فهو، والله أعلم، كأنه من أهل الدهر ذلك القول، لأنهم يقولون بقِدم العالم، ولا يقولون بفنائه، لأن أهل مكة كانوا فرقتين : فرقة تذهب مذهب أهل الدهر، وفرقة يقولون بحدث العالم، ويقرّون بفنائه، ولكنهم ينكرون إحياءه بعد الفناء.
فإن كان من هؤلاء فيكون قوله :﴿ ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق ﴾ أي إذا ذهبت أجسادكم٢، وفنيت اللحوم والعظام، وكنتم رمادا ورفاتا ﴿ إنكم لفي خلق جديد ﴾ أي تكونون خلقا جديدا. ويخرّج ذلك على أحد وجهين : إما على استبعاد ذلك في أوهامهم وعقولهم، أي لا يكون ذلك، وإما٣ على التعجّب [ والاستهزاء أن كيف ]٤ يكون ذلك ؟ [ وأنه لا يكون، فقالوا عند ذلك كما أخبر عنهم.
١ في الأصل وم: تكونوا..
٢ من م، في الأصل، أجسادهم..
٣ في الأصل وم: أو..
٤ من نسخة الحرم المكي، في الأصل: أن يكون، في م: أن كيف..
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) قوله: (إِذَا مُزِّقْتُمْ) يحتمل أن قالوا: النبي، يقول: إذا تفرقت جوارحكم وأعضاؤكم تكونوا خلقًا جديدًا، فإن كان على هذا فهو - واللَّه أعلم - كان من أهل الدهر ذلك القول؛ لأنهم يقولون بقدم العالم، ولا يقولون بفنائه؛ لأن أهل مكة كانوا فريقين: فرقة تذهب مذهب أهل الدهر، وفرقة يقولون بحدث العالم، ويقرون بفنائه، لكنهم ينكرون إحياءه بعد الفناء. فإن كان ذلك من هَؤُلَاءِ؛ فيكون قوله: (يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)، أي: إذا ذهبت أجسادكم، وفنيت اللحوم والعظام، وكنتم رمادًا ورفاتا (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، أي تكونون خلقا جديدا، يخرج ذلك منهم على أحد وجهين: إما على استبعاد ذلك في أوهامهم وعقولهم، أي: لا يكون ذلك.
أو على التعجب: أن كيف يكون ذلك؟! فقال عند ذلك: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٨)
يقولون: أفترى مُحَمَّد على اللَّه كذبا أم به جنون؟ إذ لم نسمع ذلك من أحد من قبل، ولا رأينا ذلك أنه كان ما ذكر، فرد اللَّه ذلك عليهم وقال: (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، أي: بالبعث والإحياء بعد الموت - هم المفترون على اللَّه، هم (فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ).
جزاء قولهم: أم به جنون؟ يقول: بل هم في ضلال بعيد، الضلال البعيد: كأنه هو الذي لا يرجع إلى الهدى أبدًا؛ فتكون الآية في قوم: علم اللَّه أنهم يختمون على الضلال، ولا يؤمنون أبدًا؛ فيكون في ذلك دلالة إثبات الرسالة.
وقوله: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
قد ذكرنا قوله:
(أَفَلَمْ يَرَوْا)؛ (أَلَمْ تَرَوْا)، ونحوه أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: قد رأوا على الخبر.
والثاني: على الأمر: أن انظروا (إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
ثم يقول بعضهم لبعض: حيثما قدم الإنسان رأى بين يديه من السماء مثل السماء التي يرى خلفه، وكذلك الأرض.
وقتادة يقول: لينظروا كيف أحاطت بهم السماء والأرض، وهما واحد.
(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ)، كما خسفنا بمن كان قبلهم، (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ).
الآية ٩ وقوله تعالى :﴿ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ﴾ قد ذكرنا قوله :﴿ أفلم يروا ﴾ وقوله١ ﴿ أفلم يروا ﴾ ونحوه أنه يخرّج على وجهين :
أحدهما :/٤٣٤-أ/ قد رأوا على الخبر. والثاني : على الأمر أن انظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض. ثم يقول بعضهم لبعض : حيثما قدم الإنسان رأى بين يديه من السماء مثل الذي٢ يرى خلفه. وكذلك الأرض.
وقتادة يقول : لينظروا كيف أحاطت بهم السماء والأرض، وهما واحد.
[ وقوله تعالى ]٣ :﴿ إن نشأ نخسف بهم الأرض ﴾ كما خسفنا بمن قبلهم ﴿ أو نُسقط عليهم كسفا من السماء ﴾ أي عذابا من السماء كما أنزلنا٤ على من قبلهم بالتكذيب والعناد. يذكر هذا على إثر قولهم :﴿ أفترى على الله كذبا أم به جِنّة ﴾ أي لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض لعرفوا أنه رسول الله وأنه صادق وأن ما يقوله : إنه بعث بعد الموت، وإن العذاب ينزل بقومه لا عن جنون، ولكن عن علم وعقل ومعرفة، لأن من قدر على إنشاء السماء على ما أنشأ من سعتها وغِلظها وشدتها، وكذلك الأرض، قدر على البعث وخسف من يشاء أن يخسِف وإسقاط السماء على من يشاء أن يُسقط، أو يقول : لو نظروا لعرفوا أنه لم ينشئ ما ذكر من السماء والأرض عبثا باطلا، ولكن أنشأهما على الحكمة. وإنما يصير إنشاؤهما حكمة بالبعث والإحياء بعد الموت ومصيرهم إليه. وأما للفناء خاصة فلا يكون حكمة، والله أعلم ما أراد بذلك.
وقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ﴾ المنيب : قيل : هو المطيع لله، وقيل : هو المقبل على أمر الله. والمنيب، كأنه هو المؤمن لأنه هو المصدق بالآيات [ فإذا كان المؤمن، هو المصدّق بالآيات ]٥، فيكون، هو المنتفع بها [ فتكون الآية [ له ]٦ وأما المكذّب فلا ينتفع بها ]٧ فلا تكون الآية له في الحقيقة.
١ في الأصل وم: و..
٢ في م: السماء..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: أنزل..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ ساقطة من م..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
أي: عذابًا من السماء؛ كما أنزل على من كان قبلهم بالتكذيب والعناد، يذكر هذا على أثر قولهم: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)، أي: لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض؛ لعرفوا أنه رسول اللَّه، وأنه صادق، وأن ما يقول: إنه بعث بعد الموت، وإن العذاب ينزل - يقوله لا عن جنون، ولكن عن علم وعقل ومعرفة؛ لأن من قدر على إنشاء السماء على ما أنشأ من سعتها وغلظها وشدتها، وكذلك الأرض، قدر على البعث وخسف من يشاء أن يخسف؛ وإسقاط السماء على من يشاء أن يسقط.
أو يقول: لو نظروا، لعرفوا أنه لم ينشئ ما ذكر من السماء والأرض عبثًا باطلا؛ ولكن أنشأهما على الحكمة، وإنما يصير إنشاؤهما حكمة بالبعث والإحياء بعد الموت ومصيرهم إليه، وأما للفناء خاصة فلا يكون حكمة، واللَّه أعلم ما أراد بذلك.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).
المنيب، قيل: هو المطيع لله، وقيل: هو المقبل على أمر اللَّه.
والمنيب كأنه هو المؤمن؛ لأنه هو المصدق بالآيات، فإذا كان المؤمن هو المصدق بالآيات، فيكون هو المنتفع بها؛ فيكون الآية له. وأما المكذب بها فلا ينتفع بها؛ فلا يكون الآية له في الحقيقة.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا).
أي: علما، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَضْلًا)، أي: نبوة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفضل: هو الملك الذي آتاه اللَّه.
وجائز أن يكون ما ذكر من الفضل أنه آتاه - هو ما ذكر على أثره من تسخير الجبال
والطير والتسبيح معه، وإلانة الحديد له بلا نار ولا شيء؛ حتى اتخذ منه ما شاء أن يتخذ من الدروع وآلات الحروب، وقد أتى اللَّه داود من الفضل ما لو تكلفنا عدَّه وإحصاءه ما قدرنا عليه.
وقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ).
قيل: سبحي معه.
وقوله: (وَالطَّيْرَ).
من نصب الطير جعلها مسخرة له؛ كأنه قال: سخرنا له الطير. ومن رفعها جعله على النداء: يا طير أوبي معه، أي: سبحي معه.
ثم اختلف في تسبيح الجبال والطير.
قَالَ بَعْضُهُمْ: تسبيح خلقة لا تسبيح قول ونطق؛ لما جعل في خلقة كل شيء الشهادة له بالوحدانية والألوهية، لكن ذكر هاهنا: أن سبحي معه، ولو كان تسبيح خلقة لم يكن لذكر التسبيح مع داود فائدة؛ لأن تسبيح الخلقة يكون كان معه داود أو لم يكن؛ ولكن جائز أن يجعل اللَّه - تعالى - في سرّية الجبال من التسبيح ما يفهم منها داود، ولم يفهم غيره؛ على ما ذكرنا في قول النملة لسائر النمل؛ حيث قال: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ...) الآية: جعل اللَّه - تعالى - في سرية النمل معنى ألقى ذلك في مسامع سليمان؛ ففهم منها ذلك، ولم يلق ذلك في مسامع غيره من الجنود؛ فعلى ذلك تسبيح الجبال والطير، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).
جعل له آية لنبوته؛ لما ألان له الحديد بلا نار ولا سبب يلينه؛ حتى كان يعمل منه ما شاء، ولم يجعل في وسع أحد من الخلائق سواه استعمال الحديد إلا بالنار وأسباب أخر؛ ليكون له في ذلك آية.
وقوله: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
كأنه قال: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، وقلنا له: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: السابغات: هي الدروع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الواسعات.
وقيل: هي الطوال.
فكأنه أمر أن يتخذ من الدروع ما يأخذ من الرأس إلى القدم ما يصلح لحرب العدو.
وقوله: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كانت الدروع قبل ذلك صفائح مضروبة، فسرد نبي اللَّه حلقها بعضها في بعض، والسرد: المسامير والحلق، يقول: قدر المسامير في الحلق: لا بدق المسامير وتوسع الحلق؛ فتسلسل، ولا تضيق الحلق وتعظم المسامير فتقصم وتكسر؛ ولكن مستويًا لتكون أحكم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)، أي: في النسج، أي: لا تجعل المسامير دقاقًا؛ فتقلق، ولا غلاظًا؛ فتكسر الحلق؛ ومنه قيل لصانع الدروع: سراد، وزرَّاد؛ كما يقال: صراط وسراط وزراط. والسرد: الحرز أيضًا، وقال غيره: السرد: الخروق في طبق الحلق، وإدخال الحلق بعضها في بعض.
وقوله: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا).
جائز أن يكون قوله: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، فيما ذكر من عمل الدروع، ويحتمل في غيره من الأعمال، (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، هو على الوعيد، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) كأنه يقول: سخرنا لسليمان الريح؛
كما ذكرنا في آية أخرى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ). وقوله: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)، أي: تجري به الريح في غدوها مسيرة شهر، وفي رواحها مسيرة شهر، وذلك آية له، فمثلها من الآية كان لرسول اللَّه، حيث أسري في ليلة واحدة مسيرة شهرين من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وما كان لسليمان من الملك بالأعوان من الجن والإنس كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بنفسه؛ حيث قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين "، فإن لم يكن أعظم مما كان لسليمان فلا يكون دونه.
وما كان لأبيه داود من إلانة الحديد له بلا سبب وما ذكر - كان لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انشقاق القمر له، وذلك أعظم في الآية مما ذكر.
وما كان لموسى من انفجار العيون من الحجر، كان لمُحَمَّد من أصابعه، حتى ذكر أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة نفر شربوا جميعًا منه ورووا؛ فذلك وإن لم يكن أعظم في الآية لا يكون دونه.
وما كان لعيسى من إحياء اللَّه الموتى وإجرائه على يديه، كان لمُحَمَّد مقابل ذلك كلام الشاة المصلية المسمومة التي أخبرته: إني مسمومة؛ فلا تتناول مني؛ لما أراد التناول منها، فآياته كثيرة حتى لم تذكر لأحد من الأنبياء والرسل - صلوات اللَّه عليهم - آية إلا ويمكن أن يذكر لمُحَمَّد جميعًا مقابل ذلك مثلها أو أعظم منها.
ثم - يحتمل ذكر ملك سليمان وأبيه؛ لئلا يحسدوا محمدًا - صلوات اللَّه عليه - على ما أعطاه اللَّه له من الملك والشرف؛ ليعرفوا أنه ليس هو المخصوص بالملك والشرف، ولكن له في ذلك شركاء وإخوان أعطاهم اللَّه مثل ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ).
قيل: النحاس، وقيل: الصفر، قيل: أسيل له يعمل به ما أَحبَّ، كما ألين لأبيه الحديد؛ فيعمل به ما أحبَّ من الدروع وغيرها بلا سبب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ).
قيل: بأمر ربه، أي: سخر اللَّه الجن له، وأمرهم بطاعته في جميع ما يأمرهم فيما أحب، شاءوا أو كرهوا، يخرج قوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِ) على وجهين:
أحدهما: على التسخير له؛ فيكون الإذن كناية عن التسخير.
والثاني: (بِإِذْنِ رَبِّهِ)، أي: بأمر ربه، أي: أمرهم ربهم أن يطيعوه في جميع ما يأمر وينهى.
وقوله: (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا)، أي: عصاه فيما أمره به، (نُذِقْهُ)، ما ذكر.
يحتمل إضافة أمره إلى نفسه؛ لما بأمره ما يستعملهم فيما يستعملهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: المحاريب هي المساجد.
432
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي القصور.
والمحاريب هي أشرف المواضع، ذكرت كناية عن غيرها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَتَمَاثِيلَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي التماثيل كهيئة تماثيل الرجال، يصورون في المساجد تماثيل الرجال العُبَّاد الزهاد، والملائكة، والنبيين، والرجال المتواضعين؛ لكي إذا رآهم الناس مصورًا عبدوا عبادتهم، وتشبهوا بهم.
أو أن تكون تماثيل لا رأس لها، نحو: الأواني والكيزان ونحوها.
أو أن يكون التماثيل يومئذ غير منهي العمل بها، فأما اليوم فقد نهوا عن العمل بها؛ مخافة أن يدعو ذلك إلى عبادة غير اللَّه؛ وكذلك غز إبليس قومًا حتى عبدوا الأصنام؛ وإلا ليس من الأصنام ولا فيها ما يغتر به المرء على عبادته، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قصاع كالجواب، كهيئة حياض الإبل؛ حتى يجلس على القصعة الواحدة ألف وزيادة يأكلون منها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)، أي: كالجوبة من الأرض التي تحفر للماء؛ يصف عظم ذلك؛ ففيه أنهم كانوا يجتمعون في الأكل لا ينفردون به.
وقوله: (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ).
أي: كانوا يتخذون له قدورًا عظامًا في الجبال التي لا تحرك من مكان، (رَاسِيَاتٍ)، أي: ثابتات كما ذكر، والجبال الرواسي، أي: الثوابت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ): هي القدور العظام التي أفرغت إفراغا وأكفيت - لعظمها - إكفاء، وهما واحد، واللَّه أعلم.
وقوله: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا).
433
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اعملوا لآل داود شكرًا؛ لأنه ذكر أنه ليس من زمان في ليل ونهار إلا ويكون من آل داود صائم بالنهار ومصل بالليل، أو كلام نحوه؛ فأمروا بالشكر لهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كأنه قال: اعملوا يا آل داود شكرًا، لما أعطيتكم من الملك والفضل.
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
أي: قليل من عبادي المؤمنين، والشكور كناية عن المؤمن؛ على ما ذكرنا في قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي: لكل مؤمن، والله أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)، أي: أذبنا له عين النحاس، والشكور هو الفعول، والفعول والفعال هما اللذان يكثران الفعل؛ فكأن الشكور هو الذي يعتقد الشكر لربه، ويشكر مع الاعتقاد؛ فيكون منه الاعتقاد والمعاملة جميعًا.
وقوله: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)
دل هذا على أن موته كان بحضرة أهله وبمشهد منهم؛ حيث ذكر: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) ثم يذكر بعض أهل التأويل أنه سأل ربه أن يعمّي على الجن موته؛ حتى يعلم الإنس (أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) - أعني: الجن - (مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).
وبعضهم يقول: سأل ربه أن يعمي على الجن موته؛ حتى يفرغوا من بناء بيت المقدس، فدأبوا حولا يعملون، فلما فرغوا من بنائه خر سليمان ميتا من عصاه، وكان متكئًا عليها.
وبعضهم يقول: لما حضره الموت - وكان على فراشه في البيت - لم يكن على عصاه؛ فقال: لا تخبروا الجن بموتي؛ حتى يفرغوا من بناء بيت المقدس - وكان بقي عمل سنة - ففعلوا، فلما فرغوا من بنائه - خرَّ؛ فعند ذلك علمت الجن بموته، والله
434
أعلم.
وقوله: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).
في حرف ابن مسعود: (فلما قضينا عليه الموت، وهم يدأبون له حولا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الإنس على أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)؛ لأنهم كانوا يذعون علم الغيب فابتلوا بذلك.
ودل قوله: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) على أنهم كانوا لا يدنون منه لأحد وجهين:
إما لهيبته وسلطانه على الناس؛ فإن كان ذلك أطاع له كل شيء وخضعوا له: من الجن والطير والوحش وغير ذلك.
أو لما كان يكثر العبادة لله والخضوع له يتوحد ويتفرد بنفسه، لم يجترئوا أن يدنوا منه؛ وإلا لو دنوا منه لرأوا فيه آثار الموتى، اللهم إلا أن يكون ما ذكر بعضهم أنه قال لأهله: لا تخبروا أحدًا بموتي، وأمرهم أن يكتموا موته، واللَّه أعلم.
وقوله: (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ)، قيل: المنسأة: العصا، سمي: منسأة من المنسأ؛ لأنه كان بها يؤخر ما أراد تأخيره، وبها يدفع ما أراد دفعه.
ثم في إمساكه العصا أحد وجهين:
لما لضعفة في نفسه؛ كان يتقوى بها في أمور ربه، أو يمسكها؛ لخضوعه لربه وطاعته له.
وفيه دلالة: أن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا لا يشغلهم الملك وفضل الدنيا، ولا الحاجة ولا الفقر عن القيام بأمر اللَّه وتبليغ الرسالة إلى الناس، وهما شاغلان لغيرهم، وهم كانوا فريقين:
فريق قد وسع عليهم الدنيا نحو سليمان وإبراهيم وغيرهما، وفريق قد اشتدت بهم الحاجة والفقر، وكلاهما مانعان شاغلان عن القيام بأمور اللَّه وتبليغ الرسالة؛ ليعلم أنهم لم يأخذوا من الدنيا ما أخذوا - للدنيا. ولكن أخذوا للخلق، ولله قاموا فيما قاموا لذلك، لم يشغلهم ذلك عن القيام بما ذكرنا، واللَّه أعلم.
435
ودل قوله: (مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) أنه كان يأمرهم ويستعملهم في أمور شاقة وأعمال صعبة؛ حيث ذكر لبثهم في ذلك لبثا في العذاب المهين، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
وقوله: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ).
يحتمل الآية التي ذكر لهم في مساكنهم: الجنتين اللتين ذكرهما: إحداهما عن اليمين، والأخرى عن الشمال، ويكون لهم فيها عبرة، فتحملهم على الشكر لربهم عليهما، والحمد له، والثناء عليه في تلك النعم.
أو يذكرهم قدرة خالقهم وسلطانه وهيبته؛ فيحملهم ذلك على الخوف في العواقب، والعقاب على خلافه، ورجاء الثواب على طاعته، فلم يتذكروا.
أو أن يكون الآية التي ذكر لهم في تبديل الجنتين اللتين كان لهم فيهما كل سعة وخصب، وكل ألوان الفواكه والجواهر، على غير مؤنة تلحقهم؛ لأنه قال في غير آي من القرآن: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، فأخبر هاهنا لهم أن لهم في تبديل جنتيهم جنتين آية لو اعتبروا واتعظوا؛ فلا يقع لهم الحاجة إلى النظر في آثار من تقدم منهم، بل العبرة في ذلك لهم أكثر؛ لأنهم عاينوا هذا على ما عاينوا من أنواع النعم، ثم غير ذلك وبدل عليهم، وما تقدم منهم إنما يعرفون ذلك عن خبر يبلغهم؛ لأن أصلهم قد هلكوا، وهذا على المشاهدة والمعاينة.
وقوله: (عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ).
قيل: عن يمين الوادي وشماله، ويحتمل: عن يمين الطريق وشماله؛ فتكون عن يمينهم وشمالهم.
وقوله: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ).
كأنه قالت لهم الرسل: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)؛ إذ ذكر أنه بعث فيهم كذا كذا رسولا.
ثم وصف بلدة سبأ أنها طيبة؛ حيث قال: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ):
يحتمل ما ذكر من طيبها: هو سعتها وكثرة ريعها ومياهها وألوان ثمارها وفواكهها.
وقوله: (وَرَبٌّ غَفُورٌ)، أي: إن ربكم إن شكرتم فيما رزقكم وأنعم عليكم رب غفور لذنوبكم.
أو يقال: (وَرَبٌّ غَفُورٌ)، أي: ستور، يستر عليكم ذنوبكم، ولا يفضحكم إذا صدقتموه، وأطعتموه، وشكرتم نعمه.
ذكر أن المرأة منهم كانت تحمل المكتل على رأسها، والمغزل بيدها، فتدخل البستان؛ فتمتلئ مكتلها من ألوان الفواكه والثمار من غير أن تمس شيئًا بيدها؛ لكثرة ريعها ونزلها، واللَّه أعلم.
ثم ذكر سبب تبديل الجنتين اللتين كانت لهم، وبم كان التبديل؟ وهو ما قال: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان أهل سبأ إذا مطروا يأتيهم السيل من مسيرة شهر أيامًا كثيرة، فعمدوا فسدوا العرم، وهو الوادي ما بين الجنتين، بالصخرة والقبو، وجعلوا عليه الأبواب، فلما: عصوا ربهم، فأعرضوا عنه، وكفروا نعمه؛ فسلط اللَّه عليهم - على ذلك السد الذي بنوا الفأرة؛ فنقبت الردم، فغشي الماء أرضهم؛ فعقر أشجارهم، وأباد أنعامهم، ودفن محاريثهم، وذهب بجناتهم.
ومنهم من يقول: (الْعَرِمِ): وهو المسنَّاة، واحدها: عرمة، فذهب السيل الذي أرسل عليهم بالمسناة؛ فيبست جناتهم، وأبدل لهم مكان الثمار والأعناب ما ذكر من الخمط والأثل والسدر؛ حيث قال: (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ).
الأكل القليل هو الثمر، والخمط: الأراك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: شجر العضاة، وهي شجر ذات شوك، والأثل، قيل: هو شبيه
بالطرفاء إلا أنه أعظم منه، والسدر هو معروف عندهم.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ قريبًا من ذلك، قال: الأُكُل: الحمل، والخمط عندي: السدر وحمله، وقال: الخمط: الريح الطيبة، وتقول: هذا شجر له خمطة، أي: ريح طيبة، والخمط: أن تأخذ شيئًا من هنا وثمة، وتخلطه، والأثل: شجر أيضًا لا حمل فيه.
والزجاج يقول: الأثل هو الثمرة التي فيها المرارة تذهب تلك المرارة بطعمها، أو كلام نحوه.
وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)
أخبر أنه جزاهم بما كفروا نعمه، ولم يشكروا ربهم عليها.
وقوله: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)، لله في نعمه.
وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨)
قيل: متواصلة بعضها ببعض من أرضهم إلى الشام، على كل ميل قرية وسوق وكل شيء فيها.
(وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) من الجوع والعطش والسباع وكل ما يخاف منه.
ثم جائز أن يكون ما ذكر من القرى الظاهرة كان لهم مع الجنان التي ذكرنا بدءًا؛ فيكون هذا موصولا بالأول؛ فلما لم يشكروا ربهم في ذلك كله - أبدل لهم الكل بما ذكر.
وجائز أن يكون لا على الصلة بالأول؛ ولكن على ما ذكر بعض أهل التأويل: أنه لما غيّر عليهم ذلك وأبدل - ضاق بهم الأمر؛ فمشوا إلى رسلهم، فقالوا: ادعوا ربكم فليرد علينا ما ذهب عنا، ونعطيكم ميثاقا أن نعبد اللَّه ولا نشرك به شيئًا، فدعوه، فردّ اللَّه عليهم، وجعل لهم ما ذكر من قرى ظاهرة؛ فذكرهم الرسل ما وعدوا ربهم؛ فأبوا؛ فغيّر ذلك.
وسبأ: ذكر أن رجلا سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه، أخبرني عن سبأ أجبل هو أم أرض؟ قال: فقال له: " لم يكن جبلا ولا أرضًا، ولكن كان رجلا من العرب ولد عشر قبائل: فأما ست فتيامنوا وأما أربع فتشاءموا ".
الآية ١٨ وقوله تعالى :﴿ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة ﴾ قيل : متواصلة بعضها ببعض من أرضهم إلى الشام، على كل ميل قرية وسوق، وكل شيء فيها [ ﴿ وقدّرنا فيها السّير ]١ سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ﴾ من الجوع والعطش والسباع وكل ما يخاف منه.
ثم جائز أن يكون ما ذكر من القرى الظاهرة كانت لهم مع الجنان التي ذكرنا بدءا، فيكون هذا موصولا بالأول، ولكن على ما ذكر بعض أهل التأويل أنه لما غيّر عليهم ذلك، وأبدل، ضاق بهم الأمر، فمشوا إلى رسلهم، فقالوا : ادعوا ربكم فليرد علينا ما ذهب عنا، ونعطيكم ميثاقا أن نعبد الله، ولا نشرك به شيئا.
فدعوه، فردّ الله عليهم، وجعل لهم ما ذكر من قرى ظاهرة، فذكّرهم الرسل ما وعدوا ربهم، فأبوا، فغيّر ذلك.
فسبأ : ذكر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عن سبأ أجبل هو أم أرض ؟ قال : فقال له : لم يكن جبلا ولا أرضا، ولكن كان رجلا من العرب، ولد عشر قبائل فأما ستٌّ فتيامنوا، وأما أربع فتشاءموا.
وقال بعضهم : كان سبأ رجلا، اسمه سبأ، وسبأهم الذين ذكرهم الله في سورة النمل بقوله :﴿ وجئتُك من سبأ بنبأ يقين ﴾ [ النمل : ٢٢ ] وقال بعضهم : هو اسم قرية.
وفي قوله :﴿ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدّرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ﴾ دلالة خلق الأفعال لأنه أخبر أنه جعل بينهم وبين القرى المباركة قرى ظاهرة. والقرى ما اتخذها أهلها.
ثم أخبر أنه جعل ذلك، والجعل منه خلق. دل أنه خلق أفعال العباد. وأخبر أنه قدّر السير فيها، والسير، هو فعل العباد، والتقدير، هو الخلق أيضا. دلّ أنه خلق سيرهم، وخلق اتخاذهم القرى. وذلك على المعتزلة لإنكارهم خلق أفعال العباد.
وقوله تعالى :﴿ قُرىً ظاهرة ﴾ قال عامة أهل التأويل : قرى متواصلة بعضها ببعض، يسيرون من قرية إلى قرية، وينزلون فيها من غير أن تقع الحاجة، أو يلحقهم مَؤُنة.
وجائز أن يكون قوله :﴿ قرى ظاهرة ﴾ نِعمُها بيّنة.
وقوله تعالى :﴿ وقدّرنا فيها السّير ﴾ يحتمل قوله :﴿ وقدّرنا فيها السير ﴾ أي قدّرنا فيها السّير لتسيروا فيها، أو على الأمر، أي قدّرنا فيها السّير، وقلنا لهم سيروا في ما أنعم الله عليكم، وتقلّبوا فيها ليالي وأياما آمنين من الجوع والعدوّ وكل آفة. وقال بعضهم في قوله :﴿ وقدّرنا فيها السّير ﴾ أي جعلنا ما بين القرة والقرية مقدارا واحدا.
١ من م، ساقطة من الأصل..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان سبأ رجلا اسمه: سبأ، وسبأ هم الذين ذكرهم اللَّه في سورة النمل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم قرية.
وفي قوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) دلالة خلق الأفعال؛ لأنه أخبر أنه جعل بينهم وبين القرى المباركة قرى ظاهرة، والقرى: ما اتخذها أهلها، ثم أخبر أنه جعل ذلك، والجعل منه خلق؛ دل أنه خلق أفعال العباد، وأخبر -أيضًا- أنه قدر السير فيها، والسير هو فعل العباد، والتقدير هو الخلق أيضًا؛ دل أنه خلق سيرهم، وخلق اتخاذهم القرى، وذلك على المعتزلة؛ لإنكارهم خلق أفعال العباد.
وقوله: (قُرًى ظَاهِرَةً)، قال عامة أهل التأويل: قرى متواصلة بعضها ببعض، يسيرون من قرية: إلى قرية، وينزلون فيها من غير أن تقع لهم الحاجة أو يلحقهم مؤنة.
وجائز أن يكَون قوله: (قُرًى ظَاهِرَةً) نعمها بينة.
وقوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)، يحتمل قوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)، أي: قدرنا فيها السير؛ لتسيروا فيها.
أو على الأمر، أي: قدرنا فيها السير، وقلنا لهم: سيروا فيما أنعم اللَّه عليكم، وتقلبوا فيها ليالي وأيامًا آمنين من الجوع والعدو وكل آفة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) أي: جعلنا ما بين القرية والقرية مقدارًا واحدًا.
وقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) فيه لغات من خمسة أوجه:
أحدها: (رَبَّنَا بَاعِدْ).
والثاني: (بَعِّدْ)، كلاهما على الدعاء والسؤال.
والثالث والرابع: (بَعُدَ) و (بَعَّدَ).
قال أبو معاذ: ولولا تغيير الكتابة لكان يجوز " بُوعِدَ ".
ومن قرأه (رَبَّنَا بَاعَدَ) على الخبر، وكذلك (بَعَّدَ)، ومن قرأه (بَعُدَ بين أسفارنا).
يخرج على الشكاية عما بعد من أسفارهم.
439
فأمَّا على السؤال والدعاء فهو - واللَّه أعلم - لأنهم سئموا وملوا؛ لكثرة ما أنعم الله عليهم، ورفع عنهم المؤن، وطال مقامهم فيها، سألوا ربهم أن يحول ذلك عنهم؛ سفها منهم وجهلا، وكان كقوم موسى: حين أنزل عليهم المن والسلوى، ورفع عنهم المؤنة سئموا وملوا في ذلك، وقالوا (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا)، وما ذكروا، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ.
ومن قرأ (بَعُدَ بين أسفارنا)؛ على الشكاية - شكا إلى ربه لما ذهب عنهم السعة والخصب، وأصابهم الجهد والمؤنة.
وأمَّا قوله: (بَاعَد) على الخبر؛ فكأنه كانت فيهم، وذلك كله منهم: فيهم من سأل تحويله، وفيهم من شكا إذا زال ذلك وتحول، وفيهم من أخبر بزواله.
وعلى ذلك يخرج قول موسى لفرعون، حيث قال: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)، لا أنه كان أحدهما؛ فعلى ذلك الأول وما يشبه ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ).
أي: أهلكناهم كل إهلاك؛ حتى صاروا عظة وعبرة لمن بعدهم.
وقال: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) للناس؛ على حقيقة الحديث، يتحدثون بأمرهم وشأنهم.
(وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).
أي: فرقناهم كل تفريق، أي: في كل وجه التفريق؛ حتى وقع بعضهم بمكة، وبعضهم بالمدينة، وبعضهم بالشام، وبعضهم بالبحرين وعمان، ونحوه واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
يحتمل أن يكون الصبار والشكور هو المؤمن؛ كأنه قال: إن في ذلك لعبرًا وعظات لكل مؤمن.
أو آيات لكل صبار على طاعة اللَّه وأمره، شكور لنعمه.
أو آيات لكل صبار على البلايا والمحارم، شكور لنعم اللَّه.
ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: في الاعتقاد له.
والثاني: في المعاملة.
يعتقد الصبر لربه على جميع أوامره ونواهيه، والشكر له على جميع نعمائه،
440
والمعاملة: أن يرصبر على ذلك، ويشكر له في نعمه.
وقوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)
اختلف في ظنه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: ظن بهم ظنا، فوافق ظنه فيهم حين قال: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)، من عصمت مني، وما قال: (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ...)، إلى آخر ما ذكر، فقد صدق ما ظن فيهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)، وذلك أن إبليس خلق من نار السموم، وخلق آدم من طين، ثم قال إبليس: إن النار ستغلب الطين؛ فمن ثمة صدق ظنه؛ فقال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
يقول اللَّه: (فَاتَّبَعُوهُ).
ثم استثني عباده المخلصين فقال: (إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
يعني: عباده المخلصين؛ فإنهم لم يتبعوه، الذين قال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ).
وقال قائلون: (مِن) هاهنا صلة؛ كأنه قال: (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، الذين هم مؤمنون، فرب الحقيقة، فأمّا من كان عندكم من المؤمنين في الظاهر فقد اتبعوه؛ لأنه لا كل مؤمن عندنا هو في الحقيقة مؤمن.
أو أن يكون قوله: (فَاتَّبَعُوهُ) فيما دعاهم إليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قال الحسن: واللَّه ما ضربهم بالسيف، ولا طعنهم بالرمح، ولا أكرههم، على شيء، وما كان منه إلا الغرور أو أماني ووسوسة دعاهم إليها؛ فأجابوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ)، أي: حجة، ليس له حجة عليهم، أي: لم يمكن من الحجة؛ ولكن إنما مكن لهم الوساوس والتمويهات، ثم جعل
الآية ٢١ وقوله تعالى :﴿ وما كان له عليهم من سلطان ﴾ قال الحسن : والله ما ضربهم بالسيف، ولا طعنهم بالرمح، ولا أكرههم على شيء، وما كان منه إلا غرور أو أمانيّ ووسوسة، دعاهم إليها، فأجابوه.
وقال بعضهم : قوله :﴿ وما كان له عليهم من سلطان ﴾ أي حُجّة، ليس له حجّة عليهم، أي لم يمكّن [ لهم ]١ من الحجة، ولكن إنما مكّن لهم الوساوس والتمويهات. ثم جعل الله للمؤمنين مقابل ذلك حُججا، يدفعون بها شُبَهه وتمويهاته.
وقوله تعالى :﴿ إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ﴾ هذا يخرّج على وجوه :
أحدها : ليعلم كائننا ما قد علمه غائبا عنهم.
[ والثاني : ليعلم حقّه من الخلق ووجه ما قد علمه غائبا عنهم. فإن كان له وجود٢ علم وجود ذلك منهم، وما [ ليس له وجود ]٣ يعلمه موجودا، والتبعية تقع على [ وجه ]٤ إعلام لا على آخر. بل هو عالم في الأحوال كلها ]٥.
والثالث : يكنّي بالعلم معلومه، ليكون المعلوم، وذلك جائز في اللغة كقوله :﴿ حتى يأتيك اليقين ﴾ [ الحجر : ٩٩ ] أي الموقن به. وذلك في القرآن كثير.
وقوله تعالى :﴿ وربك على كل شيء حفيظ ﴾ من الإيمان والشرك، وغيره من الأعمال ﴿ حفيظ ﴾ عالم به.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في نسخة الحرم المكي: الوجود..
٣ في نسخة الحرم المكي: له الوجود..
٤ ساقطة من نسخة الحرم المكي..
٥ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
اللَّه للمؤمنين مقابل ذلك حججا يدفعون بها شبهه وتمويهاته.
وقوله: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ).
هذا يخرج على وجوه:
أحدها: ليعلم كائنا ما قد علمه غائبا عنهم.
والثالث: يكني بالعلم عن معلومه، أي: ليكون المعلوم، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله: (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، أي: الموقن به، وذلك كثير في القرآن.
وقوله: (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ).
من الإيمان والشرك وغيره من الأعمال، حفيظ عالم به.
* * *
قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
أنهم آلهة: الملائكة والأصنام ومن عبدوهم من دونه: هل يملكون لكم شيئًا من دفع ضر أو جز نفع؟!
فيقول: (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر؛ فكيف تسمونها: آلهة.
أو أن يقول: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أنها آلهة؛ فليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع وغيره؛ كقوله: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)؛ فالجواب لذلك أن يقولوا: لا يملكون مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر؛ فكيف يذكرون ما ذكر؟! يذكر - واللَّه أعلم - سفههم وفرطهم في عبادتهم من يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع، وتسميتهم إياها آلهة.
(وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا).
يعني: في خلق السماوات والأرض، وحفظهما، من تعبدون من دونه.
(مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ).
أي: من عونٍ في ذلك؛ فكيف سميتموها: آلهة وشركاء في العبادة.
وقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
يقول - واللَّه أعلم -: لا يملك أحد الشفاعة إلا لمن أذن اللَّه بالشفاعة له، فهو لم يأذن بالشفاعة لأحد من الكفرة؛ فذكر هذا - واللَّه أعلم -:
لقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ولقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
أو يذكر أن كل من ترجون منهم الشفاعة بالمحل الذي ذكرهم من الخوف والفزع؛ فكيف ترجون شفاعتهم؟! كقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ).
أو لا يملكون مثقال ذرة ولا أصغر منه ولا أكبر؛ فكيف يملكون الشفاعة لكم؟! أو نحوه من الكلام، واللَّه أعلم.
وقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ).
ليس لهذا الحرف في ذا الموضع صلة يوصل بها، ولا تقدم بعطف عليه، وعلى الابتداء: لا يستقيم؛ فبعض أهل التأويل يقول: كان بين عيسى ومُحَمَّد فترة زمان طويل لا يجري فيها الرسل، فلما بعث اللَّه محمدا، وكلم جبريل بالرسالة إلى مُحَمَّد، سمع الملائكة ذلك؛ فظنوا أنها الساعة قامت؛ فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل جعل كلما يمر بهم - جلّى عنهم وكشف؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ)، أي: الوحي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان الوحي إذا نزل من السماء نزل كأنه سلسلة على صخرة، قال:
فيفزع الملائكة بذلك؛ فيخرون سجدًا، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)، قال: إذا انجلى عن قلوبهم (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
وقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)، قيل: جلّى وكشف الغطاء.
قال الكسائي: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ) مشتقة من الفزع؛ كما تقول: هيبه عن قلبه وفرقه وفزع كله واحد.
ومن قرأ: (فُرِّغ)، بالراء: أخرج وترك فارغا من الخوف والشغل، وهي قراءة ابن مسعود.
قَالَ بَعْضُهُمْ - في قوله: (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ) يقول: يخبرون بالأمر الذي جاءوا به، ولا يقولون إلا الحق، لا يزيدون ولا ينقصون.
وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، أي: لا يملكون إنشاء ذرة في السماوات والأرض، (وَمَا لَهُمْ) في إنشائها (فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ) في إنشاء ذلك من عون؛ فكيف تعبدونهم وتسمونهم آلهة؟!.
وجائز أن يكون قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ).
ذلك الفزع مهم وذلك القوك مهم في القيامة؛ فزعوا لقيامهات وقد قرئ (حَتَّى إِذَا فَزَّعَ)، بنصب الفاء، أي: حتى إذا فَزَّع اللَّه، أي: كشف اللَّه عن قلوبهم الفزع، وجلا ذلك عنهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)
هذا في الظاهر وإن كان استفهامًا فهو على التقرير والإيجاب؛ لأنا قد ذكرنا: أن كل استفهام كان من اللَّه، فهو على التقرير والإيجاب.
ثم لو كان ذلك ممن يكون منه الاستفهام، لكان جواب قوله: (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يقولون: اللَّه يرزقنا؛ كقوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...)، ثم قال في آخره: (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)، فيقول لهم: فإذا علمتم أن اللَّه هو رازقكم، فكيف صرفتم عبادتكم عنه إلى من تعلمون أنه لا يملك شيئًا من رزقكم؟! كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ)؛ إنه لا يملك غيره شيئًا من رزقكم.
ذكر في حرف ابن مسعود وحفصة: (قل من يرزقكم من السماء والأرض قالوا الله قال إني أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ) من المطر (وَالْأَرْضِ) النبات؛ فإن أجابوك، فقالوا: اللَّه، وإلا فقل: اللَّه يفعل ذلك بكم؛ فكيف تعبدون غيره.
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى).
يقول ذلك رسول اللَّه لأهل مكة: إنا لعلى هدى أو إنكم لعلى هدى، وإنا أو إياكم لفي ضلال مبين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين، ولكن ليس هذا في ظاهر هذا الكلام.
وجائز أن يكون هذا على تعريض الشتم لهم بالضلال، والكناية لذلك كما يقول الرجل لآخر في حديث أو خبر يجري بينهما: إن أحدنا لكاذب في ذلك، أي: أنت كاذب في ذلك، لكنه تعريض منه بذلك ليس بتصريح.
وقال قتادة: هذا قول مُحَمَّد وأصحابه لأهل الشرك: واللَّه ما نحن وأنتم على أمر واحد، واللَّه إن أحد الفريقين لمهتد، والفريق الآخر في ضلال مبين، فأنتم تعلمون أنا على هدى؛ لما أقمنا من الدلائل والحجج والبراهين على ذلك، وأنتم لا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال ذلك؛ لأن كفار مكة قالوا للنبي وأصحابه: تعالوا ننظر في معايشنا: من أفضل دينا: أنحن أم أنتم؛ فعلى ذلك يكون في الآخرة؛ فرد اللَّه ذلك عليهم في قوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ...) الآية.
وقوله: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: قال ذلك؛ لأنهم كانوا يعيرون رسول اللَّه ويوبخونه في طعنه الأصنام التي عبدوها، وذكره إياها بالسوء، وما يدعون عليه من الافتراء بأنه رسول اللَّه، فيقول لهم: (لَا تُسْأَلُونَ) أنتم (عَمَّا أَجْرَمْنَا) نحن، (وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وهو كقوله في سُورَةِ هود: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ).
أو أن يكون قوله: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)، أي: عما دنَّا من الدِّين. أو عما عملنا من الأعمال، (وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنتم عما تدينون من الدِّين؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وكقوله: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ)، وقوله: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) وإنَّمَا يقال هذا بعد ظهور العناد والمكابرة، فأما عند الابتداء فلا، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
هذا - واللَّه أعلم - صلة ما تقدم من قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، وصلة قوله: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)؛ كأنهم قالوا لرسول اللَّه وأصحابه: إنا لعلى هدى، وأنتم على ضلال مبين؛ فقال عند ذلك جوابًا لهم: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا)، أي: يجمع بيننا، (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا)، أي: يقضي بيننا بالحق: من منا على الهدى؟ ومن منا على الضلال نحن أو أنتم؟ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)، أي: وهو الحاكم العليم: ما ظهر وما بطن حقيقة، والمفاتحة هي المحاكمة، يقال: هلم حتى نفاتحك إلى فلان، أي: نحاكمك، وذلك جائز في اللغة.
ويحتمل قوله: (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)، أي: يكشف كل خفي منا وكل ستير وباطن؛ فيجعله ظاهرا بيننا؛ ليظهر الذي من هو على الحق من الباطل؟ والهدى من الضلال؟ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)، أي: الكاشف المظهر العليم، يعلم الظاهر والباطن جميعًا، والإعلان والإسرار جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
أي: أروني الذين ألحقتم باللَّه شركاء في تسميتكم الأصنام: آلهة.
أو أروني الذين ألحقتم به شركاء في العبادة.
وجائز أن يكون قال ذلك للذين عبدوا الملائكة وأشركوا فيها؛ كأن فيه إضمارا، يقول: أروني الذين ألحقتم به شركاء: هل خلقوا شيئًا؟ أم هل رزقوا؟ أم هل أحيوا؟ أم هل أماتوا؟ فإذا عرفتم أنهم لم يخلقوا، ولم يرزقوا، ولا يقدرون ذلك، وعلمتم أن الله هو خالق ذلك كله، وهو الرزاق؛ فكيف أشركتم من لا يملك ذلك في ألوهيته؟
(كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
منهم من يقول: (كَلَّا) ردًّا على قولهم: شركاء، أي: ليسوا بشركائي؛ بل هو المتفرد الواحد الحكيم.
ومنهم من يقول: هو رد على قوله: هل خلقوا شيئًا؟ أم هل رزقوا شيئًا؟! يقول: (كَلَّا)، أي: لم يخلقوا ولم يرزقوا؛ بل هو اللَّه المتفرد بذلك، واللَّه الموفق.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فُزِّعَ): ذهب.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فُزِّعَ): خفف.
الآية ٢٧ وقوله تعالى :﴿ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ﴾ أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في تسميتكم الأصنام آلهة، ﴿ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ﴾ في العبادة.
وجائز أن يكون قال ذلك للذين عبدوا الملائكة، وأشركوا فيها، كأن فيه إضمارا، يقول :﴿ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ﴾ هل خلقوا شيئا ؟ أم هل رزقوا ؟ أم هل أحيوا ؟ أم هل أماتوا ؟ فإذا عرفتم أنهم لم يخلقوا، ولم يرزقوا، ولا يقدرون ذلك، وعلمتم أن الله هو خالق ذلك كله، وهو الرازق. فكيف أشركتم من لا يملك ذلك في ألوهيته.
[ وقوله تعالى ]١ :﴿ كلا بل هو الله العزيز الحكيم ﴾ منهم من يقول :﴿ كلا ﴾ ردا على قولهم :﴿ شركاء ﴾ أي ليسوا بشركاء ﴿ كلا بل هو الله ﴾ المتفرّد ﴿ الحكيم ﴾.
ومنهم من يقول : هو ردّ على قوله :[ ﴿ أروني ماذا خلقوا من الأرض ﴾ [ فاطر : ٤٠ والأحقاف : ٤ ] ]٢ هل خلقوا شيئا ؟ أم هل رزقوا شيئا، يقولون٣ :﴿ كلا ﴾ أي لم يخلقوا، ولم يرزقوا ﴿ بل هو الله العزيز الحكيم ﴾ هو المتفرّد بذلك، والله الموفّق.
قال أبو عوسجة :﴿ فُزّع ﴾ أي ذهب [ وقال القتبيّ : فُزّع خُفّف ]٤.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: يقول..
٤ من م، في الأصل: خفف..
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ)، يا مُحَمَّد، (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا)، بالجنة لمن اتبعه، (وَنَذِيرًا) بالنار لمن خالفه وعصاه.
وقوله: (كَافَّةً لِلنَّاسِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ، أي: ما أرسلناك إلا جامعًا للناس إلى الهدى داعيا إليه.
ومنهم من يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)، أي: ما أرسلناك إلا إلى الناس جميعًا إلى العرب والعجم، وإلى الإنس والجن، ليس كسائر الأنبياء؛ إنما أرسلوا إلى قوم دون قوم، وإلى بلدة دون بلدة.
وكذلك روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أعطيت أربعًا لم يعطهن نبي قبلي: أحدها (ما ذكرنا): بعثت إلى الناس جميعًا عامة: إلى الأحمر والأسود، والعرب والعجم، والثاني: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا، وأرعب لنا عدونا مسيرة شهرين، وأحلت لي الغنائم ".
وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يصدقون، ويحتمل لا يعلمون، أي: لا ينتفعون بما يعلمون، ولا يعملون. أو لا يعلمون حقيقة؛ لما لم ينظروا إلى الحجج والآيات التي، قد مكن لهم:
لو نظروا علموا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩)
هذا القول منهم إنما يقولون على الاستهزاء والسخرية، ليس على الاسترشاد على أنه لا يكون ذلك، وأنه كذب؛ كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا): أخبر أن أُولَئِكَ يستعجلون بها؛ لتركهم الإيمان بها استهزاء منه، والذين آمنوا خائفون منها؛ لإيمانهم بها أنها كائنة لا محالة، لكن اللَّه - سبحانه - لم يجبهم بما يجاب المستهزئ؛ ولكن أجابهم بما يجاب المسترشد؛ بلطفه وكرمه وجوده حيث قال: (قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
أي: لكم ميعاد اليوم الذي وعدكم مُحَمَّد أنه كائن لا محالة، وهو يوم (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ)، وهكذا الواجب على كل مسئول إذا كان سائله سؤال استهزاء أن يجيبه جواب ما يجاب المسترشد، لا ما يجاب المستهزئ، ولا يدع علمه وحكمته لسفه السفيه، ولا لهزأ الهازئ، ولكنه يحفظ حكمته وعلمه وعقله، ولا يشتغل بجواب مثله، وباللَّه العصمة.
وقوله: (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ).
فإن كان على طلب التأخير وطلب التقديم، ففيه تعيير وتوبيخ لهم؛ كأنه يقول: ليس لكم من الخطر والقدر والمنزلة ما يؤخر لكم ما تستأخرون أو يقدم لكم ما تستقدمون.
وإن كان على تحقيق ترك التأخير وترك التقديم، كأنه يقول: ميعادكم يوم لا تملكون تأخيره إذا جاء، ولا تقديمه عن وقته ولا رفعه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) كأن هذا القول منهم - واللَّه أعلم - خرج عن مخاصمة وقعت بينهم وبين المؤمنين في شأن القرآن أو في شأن مُحَمَّد؛ فتحاكموا إلى أهل الكتاب على اتفاق منهم على ما في كتبهم، فلما خرج ذلك على موافقة قول المؤمنين، ومخالفة قول أُولَئِكَ - قالوا عند ذلك: (لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وإلا على الابتداء من غير تنازع وخصومة كان بينهم في ذلك غير مستقيم.
ويذكر بعض أهل التأويل - ابن عَبَّاسٍ وغيره -: أن رهطا بعثهم قريش إلى المدينة إلى رؤساء اليهود؛ يسألونهم عن مُحَمَّد وبعثه؛ فأخبروهم أنه كائن وأنه مبعوث، فلما رجعوا إليهم فأخبروهم أنهم قد عرفوه، وهو عندهم في التوراة والإنجيل - فعند ذلك قالوا ما قالوا ثم كأنه اشتد ذلك على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وثقل عليه؛ فقال له على التعزية والتصبير على
الآية ٣٠ حين١ قال :﴿ قل لكم ميعاد يوم ﴾ أي لكم ميعاد الذي وعدكم محمد أنه كائن، لا محالة، وهو يوم :﴿ لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ﴾ وهكذا الواجب على كل مسؤول، إذا كان سائله يسأله سؤال استهزاء أن يجيبه جواب ما يجاب المسترشد لا ما يجاب المستهزئ، ولا يدع علمه وحكمته لسَفه السفيه ولا لهُزء الهازئ، ولكنه يحفظ حكمته وعلمه وعقله، ولا يشتغل بجواب مثله، وبالله العصمة.
وقوله تعالى :﴿ لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ﴾ إن كان على طلب التأخير وطلب التقديم ففيه تعيير وتوبيخ لهم، كأنه يقول : ليس لكم من الخطر والقدر والمنزلة ما يؤخر لكم ما٢ تستأخرون أو يقدم لكم ما تستقدمون.
وإن كان على تحقيق ترك التأخير وترك التقديم فكأنه٣ يقول : ميعادكم يوم لا تملكون تأخيره إذا جاء ولا تقديمه عن وقته ولا دفعه، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: لا..
٣ الفاء ساقطة من الأصل وم..
الآية ٣١ وقوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ﴾ كأن هذا القول منهم، والله أعلم، خرج عن مخاصمة وقعت بينهم وبين المؤمنين في شأن القرآن أو في شأن محمد، فتحاكموا على الكتاب على اتفاق منهم على ما في كتبهم. فلما خرج ذلك على موافقة قول المؤمنين ومخالفة قول أولئك قالوا عند ذلك :﴿ لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ﴾.
وإلا على الابتداء من غير تنازع وخصومة، كان بينهم، غير مستقيم.
ويذكر بعض أهل التأويل [ عن ]١ ابن عباس وغيره أن رهطا بعثتهم قريش إلى المدينة إلى رؤساء اليهود [ والنصارى ]٢ يسألونهم عن محمد وبعثه، فأخبروهم أنه كائن وأنه مبعوث. فلما رجعوا إليهم، فأخبروهم أنهم قد عرفوه، وهو عندهم في التوراة والإنجيل، فعند ذلك قالوا ما قالوا.
ثم كأنه اشتدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقُل عليه، قال له على التعزية والتصبير على ذلك :﴿ ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ﴾ أي [ محبوسون عند ربهم ]٣ على محاسبة ما كان منهم من العناد والمكابرة والتكذيب، أي لو رأيت٤ ما فيهم من الذُّل والهوان والخضوع لرحمتهم، ولأخذتك الرأفة لهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ يرجع بعضهم إلى بعض القول ﴾ أي يلوم بعضهم بعضا، فيقولون ما ذكر ﴿ يقول الذين استُضعفوا ﴾ أي السّفلة والأتباع ﴿ للذين استكبروا ﴾ أي القادة منهم والرؤساء ﴿ لولا أنتم ﴾ في ما صرفتمونا عن دين الله، وصددتمونا عنه ﴿ لكنّا مؤمنين ﴾ به تابعين له، لأنهم كانوا يصدرون لآرائهم/ ويقبلون قولهم لما هم كانوا أهل شرف /٤٣٦-ب/ ومعرفة، والسفلة لا.
فيقولون :﴿ لولا أنتم لكنّا مؤمنين ﴾ نتّبع رأي أنفسنا، فنؤمن به. لكن قلتم لنا : أنه كذب، وإنه افتراه، وإنه سحر، فنحن صدّقناكم في ذلك.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل وم: رأيتم..
ذلك: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
أي: محبوسون عند ربهم، أي: على محاسبة ما كان منهم من العناد والمكابرة والتكذيب، أي: لو رأيتهم ما فيهم من الذل والهوان والخضوع لرحمتهم ولأخذتك الرأفة لهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ).
أي: يلوم بإضهم بعضا؛ فيقولون ما ذكر.
(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)، أي: السفلة والأتباع، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)، أي: القادة منهم والرؤساء، (لَوْلَا أَنْتُمْ) فيما صرفتمونا عن دين اللَّه وصددتمونا عنه، (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) به تابعين له؛ لأنهم كانوا يصدرون لآرائهم ويقبلون قولهم؛ لما هم كانوا أهل شرف ومعرفة، والسفلة لا، فيقولون: لولا أنتم لكنا نتبع رأي أنفسنا، فنؤمن به، لكن قلتم لنا: إنه كذب، وإنه افتراء، وإنه سحر؛ فنحن صدقناكم في ذلك.
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) قوله: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ) هو على التقرير، أي: لم نصدكم، وإن كان ظاهره استفهامًا، ولكن أنتم بأنفسكم تركتم اتباعه؛ لأن الرؤساء منهم كانوا يقولون للأتباع: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)، أخبروا أنه بشر مثلهم، ثم أخبروهم: أنكم إذا أطعتم بشرًا مثلكم إذًا تكونوا خاسرين، ونحن بشر، فكيف اتبعتمونا وأطعتمونا؟.
(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ).
في اتباعكم بما اتبعتموه.
أو أن يكون قوله: (لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، أي: لولا تلبيسكم علينا وتمويهكم أن الرسل كذبة، وأنهم سحرة فيما يقولون ويدعون، وأنهم يفترون على اللَّه - وإلا لكنا مؤمنين.
والثاني: لولا منعكم إيانا عن النظر والتفكر في أمورهم، والتأمل في الحجج والآيات لكنا مؤمنين؛ هذا قول الأتباع للرؤساء.
ثم أجاب لهم الرؤساء فقالوا: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)، يقولون - واللَّه أعلم -: إن صددناكم ومنعناكم عن اتباعهم ظاهرًا وعلانية؛ فمتى منعناكم سرا من غير أن نطلع ونعلم نحن بذلك.
أو ما ذكرنا من قوله: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)،
وقد عرفتم أنا بشر مثلكم فأطعتمونا وتركتم طاعة الرسل؛ لأنهم بشر؛ فأجاب لهم الأتباع فقالوا: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ... (٣٣) بل بمكركم إيانا، وقولكم في الليل والنهار: إنهم كذبة سحرة، وخداعكم إيانا، وإنهم بشر مثلكم؛ تركنا اتباعهم؛ (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا).
أو يقولون: بل مكركم في الليل والنهار (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ)، أي: من تخويفكم إيانا وتهييبكم لنا من الأخذ على البغتة والغفلة - تركنا اتباعهم في السر إذا ظهر وبلغكم الخبر به.
هذه مناظرات أهل الكفر فيما بينهم يومئذ، ورد بعضهم على بعض، ولعن بعضهم على بعض؛ يذكرها في الدنيا، ليلزمهم الحجة، وألا يقولوا يومئذ: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
فَإِنْ قِيلَ: إنهم كانوا لا يؤمنون بهذا القرآن ولا بالبعث؛ فكيف يلزمهم ذلك، وهم لا يستمعون له؟!.
قيل: إنهم قد مكنوا من الاستمتاع والنظر فيه؛ فيلزمهم الحجة، وإن لم يستمعوا له، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أسروا الرؤساء الندامة؛ بصرف الأتباع وصرف أنفسهم عن دين الله واتباع الرسل لما رأوا العذاب.
وقيل: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ): الأتباع والرؤساء جميعًا.
وقوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: من الإسرار والإخفاء، أخفى بعضهم من بعض.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخفى الكفرة الندامة عن المؤمنين.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ)، أي: أظهروا، وهو من الأضداد، يقال: أسررت الشيء: أخفيته وأظهرته.
وأما غيره من أهل التأويل فإنهم قالوا: هو من الإخفاء.
وقوله: (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا).
الأغلال: جماعة الغل: وهو ما يجعل في اليد، ثم يشد اليد إلى العنق.
(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
أي: لا يجزون إلا جزاء عملهم في الدنيا.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤)
قَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: المتكبر.
وقال آخرون: المترف هو الذي يجمع أصناف المال مع العناد والتكبر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المترفون هم الرؤساء منهم.
وهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن اللَّه لا يفعل إلا ما هو أصلح له في الدِّين، ولا شك أن هَؤُلَاءِ المترفين إنما قالوا لما قالوا وفعلوا ما فعلوا؛ لسعتهم وبسطهم في المال؛ فلو لم يكن ذلك لهم - ما فعلوا ذلك، دل أن المنع لهم عن ذلك أصلح لهم من البسط، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا)، المترف ما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المتكبر المتجبر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: الذي يجمع مع الكبر والعناد الأموال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُتْرَفُوهَا): أغنياؤها، وكله واحد، وهم رؤساؤها.
وفيه رد قول المعتزلة في الأصلح، على ما ذكرنا.
وقوله: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا... (٣٥)
يخرج قولهم ذلك لوجهين:
أحدهما: قالوا ذلك: إنا إذا أوتينا في الدنيا الأموال والأولاد؛ فلا يعذبنا في الآخرة على ما تزعمون.
أو أن يقولوا ذلك: إنك لو كنت بعثت رسولا على ما تزعم، فنحن أولى بالرسالة
الآية ٣٥ وقوله تعالى :﴿ قل إن ربي يبسُط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ هذا أيضا ينقض على المعتزلة ومن يقول بأن الله لا يبسط على أحد الرزق إذا لم يكن في البسط إصلاح له وخير، وكذلك لا يقتُر على أحد ذلك إذا لم يكن في التقتير خير.
وعندنا ﴿ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ وإن لم يكن خيرا له، وكذلك يقتر على من يشاء، وإن كان شرا له على ما نطق ظاهر الآية، ليس عليه حفظ الأصلح ولا الخير، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي لا ينتفعون بعلمهم، أو لا يعلمون حقيقة، لما تركوا النظر والتفكّر في أسباب العلم [ لم يعلموا ]١ فلا يُعذَرون لما مكّن لهم العلم به.
وقولهم :﴿ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمُعذَّبين ﴾ قالوا ذلك لما يروا الحكمة أن يُحسن أحد إلى عدوّه، والسعة هي من الفضل والإحسان، ثم رأوا لأنفسهم ذلك ؟ ظنوا أنهم أولياء الله، وأن الرسل حين٢ ضُيّقت عليهم الدنيا إنما ضُيّقت عليهم الدنيا لأنهم ليسوا بأولياء الله، لذلك قالوا ﴿ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذَّبين ﴾.
وهذا القول منهم لإنكارهم البعث فلو٣ كانوا مُقرّين به لكانوا لا يقولون ذلك، ويعلمون أن السعة في الدنيا والضيق فيها بحق الامتحان. وأما إذا كان بعث ودار أخرى للجزاء ففي الحكمة أن يُجزى الوليّ جزاء الولاية والمسيء من العدو جزاء الإساءة والعداوة. وأما الدار التي هي دار امتحان وابتلاء فيجوز ذلك بحق الامتحان في الحكمة. ولذلك خرج الجواب لهم [ في الآية ٣٦ قوله ]١ ﴿ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾
١ في الأصل وم: ليعلموا..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: فإن..
منك؛ لأنا أكثر أموالا وأولادًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
هذا أيضًا ينقض على المعتزلة ومن يقول بأن اللَّه لا يبسط على أحد الرزق؛ إذا لم يكن في البسط إصلاح له وخير، وكذلك لا يقتر على أحد ذلك إذا لم يكن في التقتير خير له.
وعندنا: يبسط الرزق لمن يشاء وإن لم يكن خيرًا له، وكذلك يقتر على من يشاء، وإن كان شرَّا له؛ على ما نطق ظاهر الآية، ليس عليه حفظ الأصلح لهم ولا الخير، والله أعلم.
وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
أي: لا ينتفعون بعلمهم، أو لا يعلمون حقيقة؛ لما تركوا النظر والتفكو، في أسباب العلم ليعلموا؛ فلا يعذرون لما مكن لهم العلم به.
وقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) قالوا ذلك؛ لما لم يروا في الحكمة أن يحسن أحد إلى عدوه، والسعة هي من الفضل والإحسان، ثم رأوا لأنفسهم ذلك، ظنوا أنهم أولياء اللَّه، وأن الرسل حيث ضيقت عليهم الدنيا إنما ضيقت عليهم الدنيا؛ لأنهم ليسوا بأولياء اللَّه؛ لذلك قالوا: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).
وهذا القول منهم لإنكارهم البعث: فإن كانوا مقرين به، لكانوا لا يقولون ذلك، ويعلمون أن السعة في الدنيا والضيق فيها بحق الامتحان، وأما إذا كان بعث ودار أخرى للجزاء - ففي الحكمة أن يجزى الولي جزاء الولاية، والمسيء من العدو جزاء الإساءة والعداوة. وأما الدار التي هي دار امتحان وابتلاء فيجوز ذلك بحق الامتحان في الحكمة؛ وكذلك خرج على الجواب لهم؛ حيث قال: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)، أي: يبسط الرزق لا لفضل وقدر له ونعمة عنده، ويقتر على من يشاء لا لعداوة وجناية كانت منه إليه بحق الامتحان؛ ألا ترى أنه قد وسع على بعض المؤمنين، وضيق على بعض أُولَئِكَ؛ فظهر أن التوسيع لأهل السعة ليس لفضل لهم وقدر، أو نعمة كانت لهم عنده حتى يكون ذلك منه مكافأة لذلك، وكذلك التضييق لأهل التضييق: لم يكن لخيانة أو إساءة كانت منهم إليه لما ذكر؛ ولكن لما ذكرنا؛ ألا ترى أنهم إذا رأوا أنه وسع على بعض وقتر على بعض - هلا علموا أنه يملك أن يوسع على من قتر عليه، ويقتر على من وسع عليه، فيكون في ذلك لهم ترغيب في التوحيد واختيار له، وتحذير عن الكفر وعما هم فيه؛ إذ يملك التقتير على من وسبع عليه والتوسيع على من قتر عليه؛ فيبطل هذا كله
قولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا...) الآية، ويبين أن التقتير والتوسيع ليس لفضل ولا لقدر ولا لنعمة ولا لخيانة ولا لذنب؛ ولكن للامتحان، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى... (٣٧)
ولكن ما ذكر؛ حيث قال: (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا).
أي: ذلك الذي يقرب عندنا زلفى من أتى به، سواء كان له مال وولد أو لم يكن.
(فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا).
من الناس من احتج بتفضيل الغناء على الفقر بهذه الآية، يقول: أخبر أن لهم جزاء الضعف إذا آمنوا وعملوا الصالحات بالأموال التي أعطاهم، وأما الفقير فليس له ذلك؛ إذ ليس له عنده كل ما يضاعف له، أو كلام يشبه هذا.
وأما عندنا " أن قوله: (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) لهم جزاء الضعف للصالحات والحسنات التي عملوها؛ لأن اللَّه وعد أن يجزي لكل من عمل بحسنة أو صالحة - عشر أمثالها، وذلك جزاء الضعف له، وذلك للغني والفقير جميعًا.
وذكرنا في غير موضع أن التكلم في فضل الغناء على الفقر والفقر على الغناء كلام لا معنى له؛ لأنهما شيئان لا صنع لأحد في ذلك يمتحنان في تلك الأحوال: أحدهما بالشكر، والآخر بالصبر؛ فمن وفَّى بما امتحن هو في تلك الحال، فهو أفضل ممن لم يَفِ بذلك، وبه يستوجب الفضل إن استوجب، فأمَّا بنفس تلك الحال فلا، لكن من يفضل الغناء على الفقر يذهب إلى أن اللَّه - تعالى - سمى الضيق: بلاء وشرًّا في غير موضع من القرآن، وسمى السعة: خيرًا ونعمة وحسنة في غير موضع، ولا شك أن الخير والحسنة أفضل وأحمد من الشر والسيئة؛ فلو لم يكن هذا شرًّا وسيئة في الحقيقة - لم يسمه بذلك، ولو لم يكن هذا خيرا - لم يسمه.
ومن يقول بتفضيل الفقر يذهب إلى أن الغني إذا أعطى وبذل إنما استوجب ذلك الفضل؛ لما يفقر نفسه ويحوج، وأصله ما ذكرنا.
وقوله: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ).
من صاحبه النعمة، ويحزنه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
أي: يسعون في آياتنا سعي من يكون معاجزا، لا سعي من لا يكون، وهو ما قال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)، أي: يعملون عمل من يحسب أنه يسبق، لا عمل من لا يسبق، وهو كقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، لا أحد يقصد قصد
الآية ٣٨ وقوله تعالى :﴿ والذين يسعون في آياتنا معاجزين ﴾ أي يسعون في آياتنا سعي من يكون معاجزا، لا سعي من لا يكون، وهو ما قال :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾ [ العنكبوت : ٤ ] أي يعملون عمل من يحسب أنه يسبِق، وهو كقوله :﴿ يخادعون الله ﴾ [ البقرة : ٩ ] لا أحد يقصد قصد مخادعة الله لعلمه انه لا يخادَع. ولكن كأنه قال : يعملون عمل من يخادع الله لا عمل من يعلم أنه لا يخادع. فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ في آياتنا معاجزين ﴾ إنما كان سعيهم في الآيات : في آيات الوحدانية، أو آيات الرسالة، ليُسقطوا عن أنفسهم مؤنة ذلك وقبولها والعمل بها ﴿ أولئك في العذاب محضرون ﴾.
قال القتبي :﴿ فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ﴾ لم يُرد [ ما ذكر ]١ أهل النظر، والله أعلم، أنهم يجازون عن الواحد بواحد مثله [ لا اثنين. وكيف يكون هذا، والله يقول :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] [ ويقول ]٢ :﴿ من جاء بالحسنة فله خير ﴾ [ النمل : ٨٩ والقصص : ٨٤ ] ولكنه أراد ﴿ لهم جزاء الضعف ﴾ أن ما هو مثله ] يُضمّ إلى مثل ما بلغ، وكأن الضعف الزيادة٣، أي لهم جزاء الزيادة.
ويجوز أن يجعل الضعف في معنى جميع، الأضعاف، ونحوه.
[ قال أبو عوسجة ]٤ :﴿ فزِده عذابا ضعفا ﴾ [ ص : ٦١ ]. أي [ اجعل مثله وخبطا مضاعفا، أي ]٥ ضُمّ إليه خبطا آخر [ قدره. وقوله ]٦ [ زلفى ] هي الدُّنُو، يقال : تزلّفت إليه، ومنه أزلفتُه أدنيته.
وقال القتبي : أي قُربة ومنزلة عندنا، وهو واحد، والله أعلم.
وقوله :﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ﴾ ذكر الأموال والأولاد، ثم ذكر ﴿ بالتي ﴾ بالتأنيث. قال بعضهم. هذا من مقاديم الكلام، كأنه قال : وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى، ولا أولادكم ولا ذلك، لغلب فعل الآدميين فعل الأموال.
قال أبو معاذ : يجوز أن نجمع الأموال والأولاد، ثم نقول : التي لأنك تقول : ذهبت الأموال، وهلكت الأولاد كقوله :﴿ قالت الأعراب آمنا ﴾ [ الحجرات : ١٤ ] [ وقوله ]٧ :﴿ قالت رسلهم ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ] ونحوه كثير في القرآن. فعلى ذلك عند الجمع.
١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: في ما يرى..
٢ في م: و..
٣ في الأصل وم: الزائدة..
٤ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: جعلت مثله وخبط مضاعف أي قد..
٦ في الأصل وم: قد قتلا قال..
٧ في الأصل وم: وقال..
مخادعة اللَّه؛ لعلمه أنه لا يخادع؛ ولكن كأنه قال: يعملون عمل من يخادع اللَّه، لا عمل من يعلم أنه لا يخادع؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ): إنما كان سعيهم في الآيات في آيات الوحدانية أو آيات النعمة أو آيات الرسالة؛ ليسقطوا عن أنفسهم مؤنة ذلك، وقبولها، والعمل بها.
(أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ).
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا): لم يرد فيما يرى أهل النظر - والله أعلم - أنهم يجازون عن الواحد بواحد مثله ولا اثنين، وكيف يكون هذا واللَّه يقول: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، و (خَيْرٌ مِنْهَا)؟! ولكنه أراد: (لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ): إنما هو مثله يضم إلى مثل إلى ما بلغ، وكأن الضعف: الزيادة، أي: لهم جزاء الزيادة، ويجوز أن يجعل الضعف في معنى جميع، أي: جزاء الأضعاف، ونحوه: (فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا) أي: جَعَلْتَ مثله. وخبط مضاعف، أي: قد ضم إليه خبط آخر قد قتلا.
قال: (زُلفَى) هي الدنوّ، يقال: تزلفت إليه ومنه، أزلفته: أدنيته.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: قربة ومنزلة عندنا، وهما واحد، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) هو ذكر الأموال والأولاد، ثم ذكر (التي) بالتأنيث؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا من مقاديم الكلام؛ كأنه قال: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم، ولولا ذلك لغلب فعل الآدميين، فعل الأموال.
قال أبو معاذ: يجوز أن تجمع الأموال والأولاد، ثم تقول: " التي "؛ لأنك تقول: ذهبت الأموال وهلكت الأولاد؛ كقوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا)، و (قَالَتْ رُسُلُهُمْ)، ونحوه كثير من القرآن؛ فعلى ذلك عند الجمع.
وقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
454
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فَهُوَ يُخْلِفُهُ): في الدنيا والآخرة؛ لأن ما أنفق العبد لو كان اللَّه أخلفه له في الدنيا ما أحصى أحدكم ماله، ولا يجد مكانًا يجعله فيه، أو كلام هذا معناه.
وقال آخر: كل نفقة كانت في طاعة اللَّه فإن اللَّه يخلفها في الدنيا، أو يدخرها لوليه في الآخرة.
ومجاهد يقول: إذا أصاب أحدكم مالا، فليقصد في النفقة، ولا يتأولنّ قوله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)؛ فإن الرزق مقسوم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) إذا كانت في غير إسراف ولا تقتير.
وهذه التأويلات كلها ضعيفة؛ لأن الآية كانت - واللَّه أعلم - في منع أُولَئِكَ الإنفاق؛ مخافة الفقر وخشية الإملاق؛ لأنها نزلت على أثر قول الرجل: (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)، يقول - واللَّه أعلم - تعلمون أن اللَّه هو الباسط لكم والموسع عليكم وعلى الخلق كله الرزق، وهو المقتر أيضًا على من شاء التقتير عليه، فإذا كنتم تعلمون أنه هو الفاعل لذلك؛ فكيف تمتنعون عن الإنفاق خشية الفقر؟! فهو القادر على البسط والخلف لما أنفقتم، وهو القادر على التقتير من غير إنفاق كان منكم.
أو أن يذكر هذا؛ ليقطعوا أطماعهم عن الخلق من الناس والبذل لهم، على ما ينفق الرجل من النفتة؛ فيطمع من الناس البر له والمكافأة لما أنفق؛ فيقول: اقطعوا الطمع من الناس فيما تنفقون؛ فإن اللَّه هو المخلف لذلك لا الناس.
ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ: إنه يخلف في الآخرة؛ إذ لو أعطى لكل رجل أنفق في الدنيا خلفًا - ما أحصى أحدكم ماله، ولا أين يجعله؟ يكون هذا هكذا إذا كان الخلف من نوع ما أنفق وأعطى، فأمَّا إذا جاز أن يكون الخلف من نوع ما أنفق، ومن غير نوعه: من نحو ما يدفع عن المرء وعن المتصلين له من أنواع البلايا والشدائد، ويعطيه من أنواع النعم من السلامة له في نفسه ودينه والصحة وغير ذلك مما لا يحصى، فذلك كله بدل وخلف عما أنفق، وذلك أنه إذا علم في سابق علمه أنه ينفق جعل ذلك في الأصل خلفًا عما أنفق؛ وعلى ذلك يخرج ما روي: " أن صلة الرحم تزيد في العمر ": إذا علم أنه
455
يصل رحمه زاد في عمره في الأصل ما لو يعلم أنه لا يصل رحمه، لكان يجعل عمره دون ذلك؛ فعلى ذلك الأول.
وروي عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وكل معروف صدقة، وما أنفق المرء على نفسه وأهله، أو وقى به عرضه فهو له صدقة، وكل نفقة أنفقها مؤمن؛ فعلى اللَّه خلفها ضامنا، إلا نفقة في معصية أو نفقة في بنيان "، أي: لا يحتاج إليه.
* * *
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢)
وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا): الملائكة ومن عندهم، ثم نقول للملائكة: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ... (٤١) لأنه قال لهم: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ).
ليس قول الملائكة فيما خاطبهم ربهم لما خوطبوا بقوله: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)؛ حيث قالوا: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)؛ لأنه قال لهم: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)؛ فجوابهم أن يقولوا: بلى أو لا، فأما أن يكون قولهم: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ) أعلم منا - (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ...) الآية - جوابًا لذلك؛ فلا يحتمل إلا أن يقال: إن أُولَئِكَ الكفرة ادعوا على الملائكة الأمر لهم بالعبادة إياهم دون اللَّه؛ فهنالك يحتمل أن يقول: أهَؤُلَاءِ عن أمركم عبدوكم؛ فعند ذلك قالو: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، ونحن براء منهم، ما أمرناهم بعبادتنا، وأنت أعلم منا، بل كانوا يعبدون الجن؛ بل كانوا أطاعوا أمر الجن والشياطين في ذلك؛ إذ لو كنا أمرناهم بذلك - لم نكن أولياءك، ولا كنت أنت ولينا من دونه، وهذا كما يقول لعيسى؛ حيث قال اللَّه: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وقد كان علم - جل وعلا - أنه لم يقل ذلك، ولكن كأن أُولَئِكَ ادعوا عليه الأمر والقول لهم في ذلك، فذكر ذلك لعيسى؛ تعييرًا لهم وتوبيخا على صنيعهم، وإظهارًا لكذبهم في دعواهم؛ فعلى ذلك الأول يحتمل أن يخرج على ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).
هم كانوا لا يقصدون عبادة الجن؛ ولكن لما بأمرهم كانوا يعبدون ما يعبدون؛ نسب العبادة إليهم كقوله: (يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)، وهو كقول
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:الآيتان ٤٠ و٤١ وقوله تعالى :﴿ ويوم يحشرهم١ جميعا ﴾ الملائكة ومن عبدهم ﴿ ثم يقول٢ للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾ ﴿ قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ﴾ إنه٣ قال لهم :﴿ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾ ليس يقول٤ للملائكة في ما خاطبهم ربهم لمّا خوطبوا بقوله :﴿ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾ حين٥ ﴿ قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم ﴾ فجوابهم أن يقولوا : بلى، أو : لا.
فأما أن يكون قوله :﴿ سبحانك أنت وليّنا من دونهم ﴾ [ وأنت أعلم ]٦ منا ﴿ بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ﴾ جوابا لذلك. فلا يحتمل إلا أن يقول : إن أولئك الكفرة ادعوا على الملائكة الأمر لهم بالعبادة إياهم دون الله. فهنالك يحتمل أن يقول : أهؤلاء عن أمركم عبدوكم ؟
فعند ذلك ﴿ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم ﴾ ونحن براء منهم، ما أمرناهم بعبادتنا، وأنت أعلم منا /٤٣٧-ب/ ﴿ بل كانوا يعبدون الجن ﴾ بل كانوا أطاعوا أمر الجن والشياطين في ذلك، إذ لو كنا أمرناهم بذلك لم نكن أولياءك، ولا كنت أنت وليّنا من دونهم.
وهذا كما يقول لعيسى حين٧ ﴿ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] وقد كان علم عز وجل أنه لم يقل ذلك، ولكن كان أولئك ادّعوا عليه الأمر والقول لهم في ذلك، فذكر ذلك لعيسى تعبيرا لهم وتوبيخا على صنيعهم وإظهارا لكذبهم في دعواهم.
فعلى ذلك الأول يحتمل أن يخرّج على ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ﴾ هم كانوا لا يقصدون عبادة الجن، ولكن لما بأمرهم كانوا يعبدون ما يعبدون، نسب العبادة إليهم كقوله :﴿ يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ [ يس : ٦٠ ] وهو كقول إبراهيم :﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان ﴾ [ مريم : ٤٤ ] وهم كانوا لا يقصدون بعبادتهم الشيطان، لكنهم لما عبدوا من دونه بأمر الشيطان نسب العبادة إليه كأنهم عبدوه.
١ في الأصل وم: نحشرهم... ثم نقول، انظر معجم القراءات القرآنية ج ٥/١٦٥..
٢ في الأصل وم: نحشرهم... ثم نقول، انظر معجم القراءات القرآنية ج ٥/١٦٥..
٣. في الأصل وم: لأنه..
٤ في الأصل وم: قول.
٥ في الأصل وم: حيث..
٦ ساقطة من الأصل وم.
٧ في الأصل وم: حيث..

إبرإهيم: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)، وهم كانوا لا يقصدون بعبادتهم الشيطان، لكنهم لما عبدوا من دونه بأمر الشيطان - نسب العبادة إليه؛ كأنهم عبدوه.
وقوله: (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢)
أي: لا يملك يوم القيامة ما أملوا أو طمعوا من عبادتهم لأُولَئِكَ من التقريب لهم إلى اللَّه زلفى، والمئمفاعة لهم عنده؛ لقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، يقول: لا يملك بعضكم لبعض ما أملوا أو طمعوا من عبادا تهم لأُولَئِكَ.
(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ).
أي: كنتم تكذبون الرسل بما أوعدكم بها في الدنيا.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ).
قد ذكرنا الإيات والبينات في غير موضع.
وقوله: (مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ):
كل رسول يريد أن يصد قومه عما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأوثان، لكن هذا القول من أُولَئِكَ الرؤساء إغراء للأتباع على الرسل، يقولون: ألا ترون أن واحدًا قد خالف الآباء وي دينهم، ويريد أن يصذكم عن دين آبائكم.
و (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى).
أي: ما يدعو مُحَمَّد إلبه ليس إلا إفك مفترى.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
وقوله: (لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)، أي: ما جاء للحق وهو القرآن والتوحيد من البيان
الآية ٤٣ وقوله تعالى :﴿ وإذا تُتلى عليهم آياتنا بينات ﴾ قد ذكرنا الآيات والبينات في غير موضع.
وقوله تعالى :﴿ قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدّكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مُفترىً ﴾ يريد كل رسول أن يصدّ قومه عما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأوثان. لكن هذا القول من أولئك الرؤساء إغراء الأتباع على الرسل، يقولون : ألا ترون أن واحدا قد خالف الآباء في دينهم، ويريد أن يصدّكم عن دين آبائكم ﴿ وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى ﴾ أي ما يدعو محمد إليه ليس ﴿ إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ للحق لما جاءهم ﴾ أي لما جاء الحق١، وهو القرآن [ وما فيه من التوحيد والبيان ]٢ والإيضاح له أنه الحق، وأنه من عند الله، وهو الآيات والبراهين التي جاءت له أنه حق، وأنه من عند الله جاء لا أنه مفترى وإفك وسحر [ على ]٣ ما تزعمون. ولما تزعمون. ولم يزل طعن أولئك الكفرة في الآيات والحجج بأنها سحر وأنها افتراء٤ يُلبِسون بذلك على أولئك الأتباع والسفلة، ويموّهون عليهم، ويفترون، لئلا يتّبعوه، ويستسلمون لهم، والله أعلم.
١ من م، في الأصل: بالحق..
٢ في الأصل وم: والتوحيد من البيان..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: مفترى..
والإيضاح له أنه الحق، وأنه من عند اللَّه جاء، وهو الآيات والبراهين التي جاءت له أنه حق وأنه من عند اللَّه جاء، لا أنه مفترى وإفك وسحر ما تزعمون، ولم تزعموا، ولم يزل طعن أُولَئِكَ الكفرة في الآيات والحجج: بأنها سحر، وأنها إفك، وأنها مفترى، يلبسون بذلك على أُولَئِكَ الأتباع والسفلة، ويموهون عليهم ويغرون؛ لئلا يتبعوه، ويستسلموا لهم، واللَّه أعلم.
وقوله (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وهو - واللَّه أعلم - صلة (مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) وقالوا (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، وقولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، يقول - واللَّه أعلم - جوابًا لقولهم: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) فتخبرهم أن ما يقول مُحَمَّد إفك مفترى، ولا أرسلنا إليهم أيضًا من قبله رسولا يخبرهم: أنه كذب مفترى، وظهور الكذب في القول والخبر إنما يكون بأحد هذين الأمرين إما بكتاب أو نبي، وهم لا يؤمنون بكتاب ولا نبي، فكيف يدعون عليه الكذب والافتراء؟! يخبر عن سفههم وقلة عقولهم وعنادهم بعدما خصهم - عَزَّ وَجَلَّ - وفضلهم على غيرهم من البشر؛ حيث بعث الرسول منهم ومن أنفسهم، والكتاب على لسانهم وبلغتهم بعد قسمهم: إنه لو بعث إليهم نذيرًا ورسولا اتبعوه حيث قالوا: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ)، لم يؤمنوا به، ولم يعرفوا منة اللَّه عليهم وخصوصيتهم فيما خصهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... (٤٥)
يذكر رسوله ويصبره على تكذيب أُولَئِكَ له، يقول: قد كذب الذين كانوا من قبلهم رسلهم، لست أنت بأول مكذب بل كذب إخوانك من قبل، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ).
يقول - واللَّه أعلم -: لم يبلغ هَؤُلَاءِ الذين كذبوك عشر أُولَئِكَ في القوة والغناء والفضل والعلم والأتباع والأعوان وغير ذلك مع ما كانوا كذلك لم يقوموا في دفع العذاب الذي نزل بهم بالتكذيب عن أنفسهم، فقومك الذين هم دون أُولَئِكَ بما ذكروا أحق ألا يقوموا لدفع العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم بالتكذيب.
وقوله: (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).
يقول - واللَّه أعلم -: أليس وجدوا عذابي حقا.
قال الزجاج: هو " نكيري " بالياء، لكن طرحت الياء؛ لأنه آخر الآية وختمها، فأبقيت
الآية ٤٥ وقوله تعالى :﴿ وكذّب الذين من قبلهم ﴾ يُذكّر رسوله، ويصبّره على تكذيب أولئك له، قد كذّب الذين كانوا من قبلهم رسلهم، لست أنت بأول مُكذَّب، بل كُذّب إخوانك من قبل، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وما بلغوا معشار ما آتيناهم ﴾ يقول : والله أعلم : لم يبلغ هؤلاء الذين كذّبوك عُشر أولئك في القوة والغنى والفضل والعلم والأتباع والأعوان وغير ذلك. مع ما كانوا كذلك لم يقولوا في دفع العذاب الذي نزل بهم بالتكذيب عن أنفسهم.
فقومك الذين هم دون أولئك بما ذُكروا أحق ألا يقوموا لدفع العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم بالتكذيب.
وقوله تعالى :﴿ فكذّبوا رُسلي فكيف كان نكيرِ ﴾ ؟ يقول، والله أعلم : أليس وجدوا عذابي حقا ؟
قال الزّجّاج : هو نكيري بالياء، لكن طُرحت الياء لأنه آخر الآية وختمها، فأُبقيت الكسرة علامة لها، أو كلام يشبه هذا.
قال أبو عوسجة : نكيري عقوبتي. وقال القتبيّ : أي إنكاري.
الكسرة علامة لها أو كلام يشبه هذا.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: نكيري: عقوبتي.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: إنكاري.
وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِوَاحِدَةٍ) أي: بكلمة الإخلاص والتوحيد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بطاعة اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِوَاحِدَةٍ) أي: بكلمة واحدة؛ كقول الرجل لصاحبه: أكلمك كلمة واحدة، واسمع مني كلمة.
لكن الواحدة التي وعظهم بها عندنا ما ذكر على أثره حيث قال: (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى) جميعًا (وَفُرَادَى) وتتفكروا وتنظروا فيما بينكم: هل رأى أحد منكم به جنونًا قط؟
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالمثنى: أن يتناظر الرجلان في أمر النبي، (وَفُرَادَى)، أي: تفكير واحد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالمثنى: أن يتناظر الرجلان في أمر النبي؛ فإن ذلك ما دل على أن النبي ليس بمجنون، ولا كذاب على ما تزعمون.
ثم كان الذي حملهم على أن نسبوه إلى الجنون وجوهًا:
أحدها: أنهم رأوه قد خالف الفراعنة والجبابرة الذين كانوا يقتلون من خالفهم على الغضب في أدنى شيء بلا أعوان ولا أتباع له، فقالوا: لا يخاطر بهذا إلا من به جنون؛ فنسبوه إلى الحنون.
والثاني: أنهم رأوه قد خالف دينهم ودين آبائهم جملة من بينهم، فقالوا: لا يحتمل أن يصيب دينًا بعقله من بين الكل لا يصيب أحد ذلك، فاتهموه في العقل.
والثالث: أنه كان في حال صغره وصباه، لم يروه اشتغل بشيء من اللعب وخالط الصبيان في شيء من أمورهم، بل اعتزلهم من حال صباه إلى آن الوقت الذي بلغ، فقالوا: إن به جنونًا وإلا لم يعتزل الناس كل هذا الاعتزال.
ثم أخبر أنكم لو تفكرتم ونظرتم ثم عرفتم أن ليس بصاحبكم جنون: (إِنْ هُوَ) أي:
ما هو (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) في الآخرة إن عصيتم، أي رسول اللَّه إليكم ونذير مبين، بين يدي عذاب شديد في الآخرة إن عصيتم عوقبتم في الآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يقول - واللَّه أعلم -: ألا يتفكر الرجل منكم وحده أو مع صاحبه، فينظر أن في خلق السماوات والأرض وما بينهما الذي خلق هذه الأشياء وحده أنه واحد لا شريك له، وأن محمدًا لصادق في قوله بأن اللَّه واحد لا شريك له، وما به جنون إن هو إلا نذير.
وقوله: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه سأل، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه سأل قومه أن يودُّوا قرابته وألَّا يؤذوهم؛ كقوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وما قال في آية أخرى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)، يقول: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يعني: المودة في القربى (فَهُوَ لَكُمْ)، أي: الذي سألتكم هو لكم وهو المودة في القربى واتخاذ السبيل إلى ربي.
والثاني: قوله: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)، أي: لم أسألكم على تبليغ الرسالة إليكم أجرًا منكم، فيمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عليكم عن الإجابة؛ كقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ).
وقوله: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ).
أي: ما أجري إلا على اللَّه.
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
بأني نذير وما بي جنون.
أو هو على كل شيء شهيد بأني لم أسألكم عليه أجرًا.
أو على كل شيء من صنيعكم شهيد عالم به، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ... (٤٨) هذا يحتمل وجوهًا:
يحتمل: (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)، أي: يقضي بالحق، أو (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)، أي: يتكلم بالوحي ويلقيه.
وقوله: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
كل شيء غاب عن الخلق، وقد ذكر في غير موضع.
وقوله: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: ما يبدئ الأوثان والأصنام التي عبدوها (وَمَا يعُيدُ)، أي: لا تخلق
الآية ٤٨ وقوله تعالى :﴿ قل إن ربي يقذف بالحق ﴾ وهذا يحتمل وجوها :
يحتمل ﴿ يقذف بالحق ﴾ أي يقضي بالحق، أو ﴿ يقذف بالحق ﴾ أي يتكلم بالوحي، [ أو ﴿ يقذف بالحق ﴾ أي ]١ يُلقيه.
وقوله تعالى :﴿ علاّم الغيوب ﴾ كل شيء غاب عن الخلق، وقد ذكر ذلك في غير موضع.
١ في الأصل وم: و..
الآية ٤٩ وقوله تعالى :﴿ قل جاء الحق وما يُبدِئ الباطل وما يُعيد ﴾ اختلف فيه :
قال بعضهم :﴿ وما يبدئ الباطل ﴾ الأوثان والأصنام التي عبدوها ﴿ وما يعيد ﴾ أي لا تخلق شيئا، ولا تُحييه، ولا تميته، كقوله :﴿ لا يخلُقون شيئا وهم يُخلَقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشوزا ﴾ [ الفرقان : ٣ ].
وقال بعضهم : ما يُبدئ الشيطان الخَلْق، فيخلُقُهم، وما يعيد خَلْقهم في الآخرة، فيبعثُهم بعد الموت، بل الله يفعل ذلك.
[ ويحتمل ]١ أن يكون قوله :﴿ قل جاء الحق ﴾ أي حجج الحق ﴿ وما يبدئ الباطل ﴾ وما يظهر الباطل، أي لا يقذف بحُجج الحق.
قال بعضهم :[ قوله :﴿ يقذف بالحق ﴾ ]٢ هو ما ذكر في آية أخرى :﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغُه ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ] إلى آخر الآية. قال : يزهق الباطل، ويثبت الحق، أي نقذف بالحق على الباطل، فيُهلّل الباطل، ويثبُت الحق، وهو أيضا ما ذكر :﴿ فأما الزّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [ الرعد : ١٧ ].
١ في الأصل وم: أو..
٢ ساقطة من الأصل وم..
شيئًا ولا تحييه ولا تميته؛ كقوله: (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا يُبْدِئُ) الشيطان الخلق فيخلقهم (وَمَا يعُيدُ) خلقهم في الآخرة فيبعثهم بعد الموت، بل اللَّه يفعل ذلك.
أو أن يكون قوله: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) أي: حجج الحق، (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ)، وما أبدأ الباطل، أي: لا يقذف بحجج الحق علام الغيوب:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكر في آية أخرى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ...) إلى آخر الآية، قال: يزهق الباطل ويثبت الحق، أي: نقذف بالحق على الباطل فيهلك الباطل، ويثبت الحق، وهو أيضًا ما ذكر: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
وقوله:
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ (٥٠) بكسر اللام ونصبها كلاهما لغتان.
قال الكسائي: تقول العرب: ضَلَّ يَضَل ضلالة، وضَلَّ يَضِلُّ بالخفض والنصب جميعًا.
ثم قوله: (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي) يخرج على وجهين:
أحدهما: إن ضللت فإنما يكون ضرر ضلالي على نفسي، لا يكون على اللَّه من ذلك شيء؛ كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، وقوله:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
والثاني: إنا ضللت فإنما يكون ذلك على نفسي، ولا يكون على أنفسكم من ضلالي شيء؛ كقوله: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)، ونحوه.
وقوله: (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)، هذا يخرج أيضًا على وجهين:
أحدهما: وإن اهتديت إلى طاعة اللَّه وشرائع الدِّين فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي في ذلك، أي: فبوحيه اهتديتا إلى ذلك.
والثاني: وإن اهتديت إلى دينه وهدايته فبتوفيقه إياي وعصمته اهتديت، أضاف الهداية إلى اللَّه والضلال إلى نفسه، فهو لما ذكرنا أن كان من اللَّه إليه لطف في ذلك ليس ذلك في الضلال، وعلى قول المعتزلة يجيء أن يكون المعنى فيها واحدًا؛ لأنهم يقولون: إنه لا يكون من اللَّه سوى الأمر، والنهي؛ فلا يكون منه إليه في الهداية إلا كما كان منه إليه في الضلال، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (سَمِيعٌ) أي: مجيب للداعي؛ كقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَمِيعٌ) لمقالتكم لمُحَمَّد، حيث قالوا له: لقد ضللت حين تركت دين آبائك، (قَرِيبٌ)، أي: مجيب له.
وقيل: (سَمِيعٌ) الدعاء (قَرِيبٌ) الإجابة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أنهم بعثوا بعثين قاصدين تخريب الكعبة، فلما بلغوا البيداء خسف أحدهما والآخر ينظر وينفلت منهم مخبر، فيحول وجهه في قفاه فيخبرهم بما لقوا؛ وذلك قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) من الخسف والعذاب (فَلَا فَوْتَ) عن عذاب الله (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ).
أو من تحت أقدامهم يخسف بهم الأرض؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)، من تخريب الكعبة كما فعل بأشياعهم من قبل، وهم أصحاب الفيل؛ وعلى ذلك روي عن أم سلمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فلا ينفلت منهم إلا واحد يخبر عنهم "، قالت: يا رسول اللَّه، وإن كان فيهم المكرَه؟ قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يبعثون على نياتهم ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ) وهو عند الموت يفزعون منه، ولا فوت لهم عنه، (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) أي: على المكان:
والحسن يقول: (فَزِعُوا) من القبور (فَلَا فَوْتَ) يقول: أخذوا عند ذلك وهو المكان القريب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك عند القيامة يفزعون عند معاينتهم العذاب، وأفزعهم ذلك ولا يفوتون اللَّه.
(وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ... (٥٢)
وهو كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ...) الآية؛ وكقول فرعون حين أدركه الغرق: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ)، ونحوه.
وقوله: (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) أنهم سألوا الرجعة والرد أن ينالوه من مكان بعيد؛ قالوا: من الآخرة إلى الدنيا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا سبيل لهم إلى الإيمان في ذلك الوقت، وقد كفروا به من قبل في حال الدعة والرخاء فلم يؤمنوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، أي: من حيث لا ينال ولا يكون؛ فذلك البعيد؛ كقول اللَّه: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، أي: من حيث لا يكون أبدًا ليس على إرادة حقيقة المكان.
وقتادة يقول: هو عند الموت وعند نزول العذاب بهم، ليس من أحد بلغ ذلك الوقت إلا وهو يؤمن ويتمنى الإيمان لكن لا ينفع، كقوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا...) الآية، على ما ذكر.
وقوله: (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: معناه - واللَّه أعلم -: وذلك أنهم كانوا في الدنيا يشكون في الآخرة، ويكفرون بالغيب، ويرجمون بالظن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ)، أي: يتكلمون بالإيمان من مكان تباعد عنهم، فلا يقبل منهم: وقد غاب عنهم الإيمان عند نزول العذاب، فلم يقدروا عليه، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ... (٥٤) من قبول التوبة والإيمان عند نزول العذاب بهم، أو عند معاينتهم إياه، كما فعل بأشياعهم من قبل، يقول: كما عذب أوائلهم من الأمم الخالية من قبل هَؤُلَاءِ؛ لأنهم كانوا في شك من العذاب أو البعث والقيامة مريب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) من أهل أو مال أو زهرة.
463
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ): هو قولهم: هو ساحر هو شاعر كاهن.
والتناوش عند عامة أهل التأويل: التناول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرجعة والرد إلى الدنيا.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التناوش: التناول من موضع بعيد لا يكون من قريب.
والْقُتَبِيّ يقول: (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ)، أي: تناول ما أرادوا بلوغه وإدراك ما طلبوا من التوبة من الموضع الذي لا يقبل فيه التوبة.
قال أبو معاذ والزجاج: الناش في كلام العرب: الطلب، تقول: ناشت إليه، أي: طلبت منه، لكن هذا ليس من باب التناوش.
وقوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ).
هو ما ذكرنا من اختلافهم: منهم من قال: بين الإيمان والتوبة، ومنهم من قال: بين شهواتهم التي كانت لهم في الدنيا، لكن كأنه على الإيمان والتوبة، فإنما حيل بينهم وبين القبول للإيمان والتوبة، وإلا نفس الفعل قد أتوا به، وإن كان على الشهوات فهو على حقيقة حيلولة الفعل، وكذلك إن كان على تخريب البيت على ما يقوله بعض أهل التأويل، واللَّه أعلم.
وقوله: (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (بِأَشْيَاعِهِمْ): أمثالهم وأشباههم، فهو - واللَّه أعلم - بأشباههم وأمثالهم في التكذيب والجحود.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من شيعة الرجل.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)، من العذاب بأنه غير نازل بهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا في شك من البعث والإحياء بعد الممات وشكهم وريبهم؛ لما استبعدوا الإحياء بعد الهلاك وبعدما صاروا رمادًا، فمن هذه الحجة أنكروا، ثم لم يروا خلق الشيء للفناء خاصة، لا لعاقبة وحكمة، فارتابوا في ذلك، واللَّه أعلم بالصواب.
* * *
464
الآية ٥٣ وقوله تعالى :﴿ وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ﴾ قال بعضهم : معناه، والله أعلم : ذلك١ أنهم كانوا في الدنيا يكذّبون٢ في الآخرة، ويكفرون بالغيب، ويرجمون بالظن وقال بعضهم :﴿ ويقذفون بالغيب ﴾ أي يتكلمون بالإيمان من مكان، تباعد عنهم، فلا يُقبل منهم، وقد غاب عنهم الإيمان عند نزول العذاب، فلم يقدروا عليه.
١ في الأصل وم: وذلك..
٢ في الأصل وم: يكونون..
الآية ٥٤ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ وحيل بينهم وبين ما يشتهون ﴾ من قبول التوبة والإيمان عند نزول العذاب بهم أو عند معاينتهم إياه ﴿ كما فُعل بأشياعهم من قبل ﴾ يقول : كما عُذّب أوائلهم من الأمم الخالية من قبل هؤلاء ﴿ إنهم كانوا في شك مريب ﴾ من العذاب والقيامة.
وقال بعضهم :﴿ وحيل بينهم وبين ما يشتهون ﴾ من أهل أو مال أو زهرة.
وقال بعضهم :﴿ ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ﴾ هو قولهم : هو ساحر، هو شاعر، كاهن.
والتّناوش عند عامة أهل التأويل التناول. وقال بعضهم : الرجعة والرّد إلى الدنيا. قال أبو عوسجة : التناوش التناول من موضع بعيد، لا يكون من قريب.
والقتبيّ يقول :﴿ وأنّى لهم التّناوش ﴾ أي تناول ما أراد بلوغه وإدراك ما طلبوا من الموضع الذي لا تُقبل فيه /٤٣٨- ب/ التوبة.
قال أبو معاذ والزّجّاج : التناوش في كلام العرب : الطلب، تقول : ناولت إليه، أي طلبت منه، لكن هذا ليس من باب التّناوش.
وقوله تعالى :﴿ وحيل بينهم وبين ما يشتهون ﴾ هو ما ذكرنا من اختلافهم، منهم من قال : بين الإيمان والتوبة، ومنهم من قال : بين شهواتهم التي كانت لهم في الدنيا.
لكن [ إن ]٢ كان على الإيمان والتوبة، فإنما حيل بينهم وبين القبول للإيمان والتوبة [ وإن كان ]٣ نفس الفعل، قد أتوا به، وإن كان على الشهوات فهو على حقيقة حيلولة الفعل، وكذلك إن كان على تخريب البيت على ما يقوله أهل التأويل، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ كما فُعِل بأشياعهم من قبل ﴾ قال أبو عوسجة :﴿ بأشياعهم ﴾ بأمثالهم وأشباههم، فهو، والله أعلم، بأشباههم وأمثالهم في التكذيب والجحود. وقال بعضهم : هو من شيعة الرجل.
وقوله تعالى :﴿ إنهم كانوا في شك مريب ﴾ من العذاب بأنه غير نازل بهم.
وقال [ بعضهم ]٤ :﴿ إنهم كانوا في شك مريب ﴾ من البعث والإحياء بعد الممات. وشكهم وريبهم لما استبعدوا الإحياء بعد الهلاك وبعد ما صاروا رمادا. فهذه٥ الحجة أنكروا، ثم رأوا٦ خَلْق الشيء للفناء خاصة لا لعاقبة وحكمة، فارتابوا في ذلك [ والله أعلم بالصواب ]٧.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: وإلا..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: فمن..
٦ في الأصل وم: يروا..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
Icon