تفسير سورة المائدة

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ ﴾ هذه السورة مدنية نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ومنها ما نزل في حجة الوداع ومنها ما نزل عام الفتح وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة أو في سفر أو بمكة فهو مدني ومناسبة افتتاحها لآخر ما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال فبين في هذه السورة احكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل أوفوا، يقال: وفي وأوفا ووفا. والعقود جمع عقد وهو ما التزمه الانسان من مطلوب شرعي وهو عام يندرج تحته ما ربط الانسان على نفسه أو مع صاحب له. مما يجوز شرعاً وأصل العقود في الإِجرام ثم توسع فيه فأطلق في المعاني.﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ ﴾ هذا تفصيل بعد عموم. وبهيمة الانعام هي الانعام نفسها أو ما يشبهها من الوحش المباح أكله كالظباء والمها وبقر الوحش والابل والأرنب مما لا ناب له.﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ هذا استثناء من بهيمة الانعام. وما يتلى عليكم مبهم مفسر بقوله:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ﴾[المائدة: ٣].
الآية. وبما ثبت في السنة تحريمه. وما في موضع نصب لأنه استثناء من موجب، وهو قوله: ﴿ أُحِلَّتْ ﴾.
وموضع ما نصب على الاستثناء ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة. وقال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إلا عاطفة، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجال إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد. " انتهى ". وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة، لأن الذي قبله موجب فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد، على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلا ما يتلى، وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله: وذلك لا يجوز عند البصريين ظاهره الإِشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف، وقوله: إلا من نكرة هذا الاستثناء مبهم لا ندري من أي شيء هو، وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصري ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصري البتة وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون المنعوت نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت فلم يفرق بينهما في الحكم ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها من الإِعراب على طريقة البدل حيث يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ اتفق الجمهور على نصب غير، واتفق من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال، واختلفوا في صاحب الحال. فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال الجمهور: الزمخشري وابن عطية وغيرهما هو الضمير المجرور في أحل لكم. وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من: أحل المقام مقامه المفعول به وهو الله. وقال بعضهم: هو الضمير المجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم هو استثناء من بهيمة الانعام وان قوله: غير محلي الصيد استثناء آخر منه، فالاستثناءان معاً هما من بهيمة الانعام وهي المستثنى منها والتقدير إلا ما يتلى عليكم الا الصيد وأنتم محرمون بخلاف قوله:﴿ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾[الحجر: ٥٨، الذاريات: ٣٢]، على أن يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإِحرام لأنه مستثنى من المحظور إذ كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإِباحة وهذا وجه ساقط فإِذن معناه أحلت لكم بهيمة الانعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. قال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير وقدروا تقديرات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على إطراده متمكن استثناء بعد استثناء. انتهى كلامه. وهو أيضاً ممن خلط على ما نبيّنه، فاما قول الأخفش ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة غير اعتراضية بل هي منشئة أحكاماً وذلك لا يجوز وفيه تقييد الإِيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم وهم مأمورون بإِيفاء العقود بغير قيد، ويصير التقدير أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم فإِذا لم توجد هذه الحال فلا توفوا بالعقود. واما قول الجمهور فهو مردود من هذا الوجه الأخير إذ يصير المعنى أحلت لكم بهيمة الانعام في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم وهم قد أحلت لهم بهيمة الانعام في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال إذا أريد ببهيمة الانعام أنفسها وإن أريد بها الظباء وبقر الوحش وحمرة. فيكون المعنى وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا، ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. وأما قول من جعله حالاً من الفاعل وقدره وأحل الله لكم بهيمة الانعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم قال كما تقول: أحل لكم كذا غير مبيحة لك يوم الجمعة وهو فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً فلا يجوز وقوع الحال منه. لو قلت: أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ولأنه بتقييد إحلاله تعالى بهيمة الانعام إذا أريد بها ثمانية الا الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها. وأما قول من جعله حالاً من الضمير في عليكم فالذي يتلى لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم بل هو ما يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها. وأما ما نقله القرطبي عن البصريين فإِن كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى فنقول: إنما عرض الإِشكال في الآية من جعلهم غير محلي الصيد حالاً من المأمورين بإِيفاء العقود أو من المحلل لهم أو من المحلّل وهو الله أو من المتلو عليهم وغرهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء وقدروه هم انه اسم فاعل من أحل وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول وأنه جمع حذف منه النون للإِضافة وأصله غير محلين الصيد وأنتم حرم إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف فلا يقدر فيه حذف النون بل حذف التنوين وإنما يزول الاشكال ويتضح المعنى بأن يكون قول: محلي الصيد من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، فكذلك هذا أصله غير الصيد المحل والمحل، صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف ووصف الصيد بأنه محل على وجهين، أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرجل، أي دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم. والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حل أي حلالاً بتحليل الله، وذلك أن الصيد على قسمين حلال وحرام ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ألا ترى إلى قول بعضهم أنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً وقد تجوزت العرب وأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحل ولا حرمة نحو قول الشاعر: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا   ما كذب الليث عن أقرانه صدقاًوعثّر اسم موضع. وقال آخر: وقد ذهبت سلمى بعقلك كله   فهل غير صيد أحرزته حبائلهوقال امرؤ القيس: وهو نضيد قلوب الرجال   وأفلت منها ابن عمر وحجرومجيء أفعل البلوغ على الوجهين المذكورين كثير من لسان العرب فمن مجيىء أفعل البلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرجل وأعرق وأشأم وأيمن وأتهم وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض وأبقلت وأغدّ البعير وألبنت الشاة وغيرها، وأجرت الكلبة وأصرم النخل وأبلت الناقة وأحصد الزرع وأجرب الرجل وانجبت المرأة. وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل أو صار ذا حل اتضح كونه استثناء ثانياً، ولا يكون استثناء من استثناء إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكم لأن المستثنى من المحلل محرم والمستثنى من المحرم محلل. بل إذا كان المعنى بقوله: بهيمة الانعام الانعام أنفسها فيكون استثناء منقطعاً وإن كان المراد الظباء وبقر الوحوش وحمرة ونحوها فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل استثناء الصيد الذي بلغ الحل في حال كونهم محرمين. فإِن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، ففيه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم وإن كان حلالاً لغيره فأجرى أن حرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ﴾[المائدة: ٣]، الآية. استثناء منقطعاً إذ لا تختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقرة ونحوها فتصير لكن ما يتلى عليكم أي تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الانعام الانعام والوحوش فيكون الاستثناء ان راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلي الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول وإذا لم يمكن ذلك وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيداً إلا عمراً إلا بكراً. فإِن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يعكر عليه كونه كتب في رسم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء وكون القراء وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك أيضاً. قلت: لا يعكر على هذا التخريج لأنهم كتبوا كثيراً من رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: كتبهم لا أذبحنه ولا أوضعوا منه بألف بعد لام الألف، وكتبهم بأييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ونقصهم منه ألفاً، وكتبهم الصلحت ونحوه بإِسقاط الفين. وهذا كثير في الرسم وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو بتقطع النفس فوقفوا على الرسم كما وقفوا على سندع من قوله تعالى:﴿ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ ﴾[العلق: ١٨]، من غير واو اتباعاً للرسم على أنه يمكن توجيه كتبه بالياء والوقف عليه بها بأنه جاء ذلك على لغة الازد إذ يقفون على بزيدي بإِبدال التنوين ياء فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة وهذا توجيه شذوذ رسمي ورسم المصحف مما لا يقاس عليه. وقرأ ابن أبي عبلة غير بالرفع وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله: بهيمة الانعام، ولا يلزم من الوصف بغير ان يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية: لأن غير محلي الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً. " انتهى ". ولا يحتاج إلى هذا التكليف على تخريجنا محل الصيد وأنتم حرم، جملة حالية. وحرم: جمع حرام. ويقال: أحرم الرجل أي دخل في الإِحرام بحج أو عمرة أو بهما فهو محرم. وحرام وأحرم الرجل دخل في الحرم. قال الشاعر: فقلت لها فيىء إليك فإنن   حرام وإني بعد ذلك لبيبُأي ملب. ويحتمل الوجهين قوله: وأنتم حرم إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم وعلى من كان كان أحرم بالحج أو العمرة وهو قول الفقهاء، وقال الزمخشري: وأنتم حرم حال من محلي الصيد، كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الانعام في حال امتناعكم عن الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم. " انتهى ". وقد بينا فساد هذا القول بأن الانعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ هذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإِيفاء العقود وتحليل بهيمة الانعام والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في الاضطرار واستثناء الصيد في حالة الإِحرام، وتضمن ذلك حله لغير المحرم. فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾، فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، لا ما تقوله المعتزلة من مراعاة المصالح.
﴿ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ ﴾ تقدم تفسيرها في البقرة. والشعائر هي ما حرم الله تعالى مطلقاً سواء كان في الإِحرام أو غيره. والشهر الحرام مفرد حلى بألْ الجنسية فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والمعنى لا تحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب.﴿ وَلاَ ٱلْهَدْيَ ﴾ لا خلاف ان الهدى ما أهدى من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ولا يغار عليه. ﴿ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ ﴾ قال الجمهور: هي ما كانوا في الجاهلية يتقلدون به من شجر الحرم ليأمنوا فنهى المؤمنون عن فعل الجاهلية وعن أخذ القلائد من شجر الحرم. ﴿ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾ قرىء آمى البيت الحرام بحذف النون للإِضافة، ويقال: أممت الشيء أي قصدته، ولا آمين أي لا تحلو منع من قصد البيت الحرام. لحج وعمرة باستيفاء مناسكهما وهذه المعاطف الأربعة مندرجة في عموم قوله: لا تحلوا شعائر الله فكان ذلك تخصيصاً بعد تعميم. ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ جملة حالية. وقرىء ورضواناً بكسر الراء وضمها وهو مصدر رضى رضي ورضواناً. ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ ﴾ تقدم شيآن أحدهما تحريم الصيد للحرم لقوله تعالى:﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾[المائدة: ١].
والثاني قوله في الجملة التي تأتي بعدها وهو قوله: ﴿ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾، فرجع قوله: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ ﴾ للأول. وقوله: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ ﴾ وهذا من أجل الفصاحة ومعنى وإذا حللتم أي من مناسك الحج.﴿ فَٱصْطَادُواْ ﴾ هو أمر إباحة لا أمر وجوب لأن الصيد كان قبل الحج حلالاً فمنع منه الحاج فلما زال المانع رجع لأصله من الحل قرأ أبو واقد والجرّاح ونبيح والحسن بن عمران فاصطادوا بكسر الفاء. قال الزمخشري: قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. قال ابن عطية: هي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت: اصطادوا، بكسر الفاء مراعاة وتذكر لكسرة ألف الوصل. " انتهى ". وليس عندي كسراً محضاً إنما هو من باب الإِمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل كما أمالوا الفاء في فإِذا لوجود كسر إذا.﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ أي لا يحملنكم. يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني. وقرىء شنآن بفتح النون وسكونها وهو البغض. وفعله شني بكسر النون. وذكر له في البحر ثلاثة عشر مصدراً. وقال سيبويه: كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن. وقرىء: ان صدوكم بكسر الهمزة حرف شرط وبفتحها على التعليل أي لأن صدوكم. وقوله: ﴿ أَن تَعْتَدُواْ ﴾ أي على الاعتداء أي لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء ومن فسر لا يجرمنكم بمعنى لا يكسبنكم البغض فهو يتعدى إلى اثنين أحدهما ضمير الخطاب. والثاني: قوله: ان تعتدوا فالمعنى لا يكسبنكم البغض الاعتداء عليهم.﴿ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ﴾ قال ابن عباس: البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه. ﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ ﴾ أي المعاصي. ﴿ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾ التعدي في حدود الله. ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ تقدم الأمر بإِيفاء العقود وتحليل وتحريم ونهي عن أشياء فناسب أن يختم بالأمر بالتقوى والاخبار بأنه تعالى شديد العقاب لمن أمره ونهاه عن شيء فما انتهى.
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ﴾ تقدم الكلام على هذه الأربعة في البقرة. ﴿ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ ﴾ هي التي يحبس نفسها حتى تموت سواء أكان حبسه بحبل أو يد أو غير ذلك. والوقد: ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت. وقيل الموقوذة: المضروبة بعصا أو حجر لا حدّ له فتموت بلا ذكاة ويقال وقذه النعاس: غلبه. ووقذه الحكم: سكنه. التردي: السقوط في بئر أو التهور من جبل. ويقال ردي وتردى: أي هلك. ويقال ما أدري انى ردّي: أي ذهب. ﴿ وَٱلنَّطِيحَةُ ﴾ هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح. وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ولذلك ثبتت فيها الهاء. ﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ استثناء راجع للأنواع الخمسة فما وجد منها به رمق وذكى حلّ الله والتذكية الذبح.﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾ النصب جمع نصاب وهي مجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضاً وتلطخ بالدماء ويوضع عليها اللحم قطعاً قطعاً ليأكل منها الناس.﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ﴾ الأزلام القداح واحدها زلم. وزلم بضم الزاي وفتحها: وهي السهام. كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضها غفل، فإِن خرج الآمر مضى لطلبته وإن خرج الناهي أمسك وإن خرج الغفل أعاد الضرب. وذكر هذه المرحمات هو تفضيل لما أجمل في عموم قوله: إلا ما يتلى عليكم وبهذا صار المستثني منه والمستثني معلومين وان تستقسموا هذا معطوف على ما قبله أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وهو طلب معرفة القسم وهو النصيب أو القسم وهو المصدر وذكر مع المطاعم لأنهم كانوا يوقعون الاستقسام عند البيت.﴿ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ الظاهر أنه إشارة إلى الاستقسام بالأزلام إذ كان فيه استخراج شيء من المغيبات التي انفرد الله بعلمها. ﴿ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ ﴾ اليأس قطع الرجاء. يقال يأس بالهمز بيأس وييئس، ويقال: أيس، وهو مقلوب من يئس ودليل القلب تخلف الحكم عما ظاهره انه موجب له الا ترى أنهم لم يقبلوا ياءه الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس، كما قالوا: هات واليوم الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة، قاله مجاهد وابن زيد. وقيل: هو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموقف مشرك. وقيل: اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من شهر رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الاسلام ولمن وضع السلاح ولمن أغلق بابه. و ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أعم من مشركي العرب وغيرهم. ومعنى: ﴿ مِن دِينِكُمْ ﴾ من تغييره وتبديله إذ كان في حجته تلك صلى الله عليه وسلم كملت شرائع الاسلام، ولذلك قال: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ أي في ظهور الاسلام وكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود فيها. وقيل: بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأنه لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان وانتصب ديناً على الحال. ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ﴾ المخمصة المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر. وقال الأعشي: تبيتون في الشتاء ملاء بطونكم   وجاراتكم غرثى يبتْن خمائصأي فمن اضطر لأكل شيء مما ذكر تحريمه في مجاعة فأكل. ﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ﴾ أي غير متلبس بمعصية ولا مائل إليها فأكل فلا إثم عليه.
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ سبب نزولها ما ثبت في صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع قال:" أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. فقال الناس: يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها "فنزلت ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾.
الآية، ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً والجملة خبر ويحتمل أن تكون ما استفهاماً وذا خبرا أي ما الذي أحل لهم والجملة من قوله: ما إذا أحل لهم في موضع نصب بيسألونك على إسقاط حرف الجر والسؤال هنا معلق وليس فعلاً قلبياً لكن لما كان طريقاً إلى العلم أجرى مجرى العلم فعلق لما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ما ذا أحل لنا، كما تقول: أقسم زيد ليضربنه ولأضربن، وضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها. قال الزمخشري في السؤال: معنى القول فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم كأنه قيل: يقولون ما إذا أحل لهم. " انتهى ". لا يحتاج إلى ما ذكر لأنه من باب التعليق، لقوله:﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾[القلم: ٤٠]، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك. ونصوا على أن فعل السؤال يعلق وان لم يكن من أفعال القلوب لأنه سبب للعلم فكما يعلق العلم فكذلك سببه.﴿ ٱلطَّيِّبَاتُ ﴾ هنا المستلذات. ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ ﴾ معطوف على الطيبات وهو على حذف مضاف تقديره وأكل ما علمتم من مصيد الجوارح والجوارح الكواسر من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالباً ولأنها تكسب. يقال: امرأة لا جارح لها، أي لا كاسب. ومنه ويعلم ما جرحتم بالنهار أي ما كسبتم. ويقال: جرح واجترح بمعنى كسب.﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ المكلب بالتشديد معلم الكلاب ومنصريها على الصيد، وبالتخفيف صاحب الكلاب، اشتقاق هذه الحال من الكلب وإن كانت عامة في الجوارح على سبيل التغليب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلب فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه. وقيل: لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب أو اشتقت من الكلب وهو الضراوة. ويقال: هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به. قال الزمخشري: أو لأن السبع يسمى كلباً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:" اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد "" انتهى ". لا يصح هذا الاشتقاق لأن كون الأسد كلباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها، وكلاب بنفسها لا بجعل المعلم.﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي أن تعليمكم إياهن ليس من قبل أنفسكم إنما هو من العلم الذي علمكم الله وهو ان جعل لكم رويّة وفكرة بحيث قبلتم العلم فكذلك الجوارح يصير لهم إدراك مّا وشعور بحيث يقبلن الائتمار والانزجار. وفي قوله: مما علمكم الله، اشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان ومفعول علم وتعلمونهن. الثاني: محذوف تقديره وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهن تعلمونهن ذلك. وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام وأكله، لأن الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم. والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه، ومعنى مما علمكم الله من الأدب الذي أدبكم به سبحانه وتعالى وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه فإِذا أمر فائتمر وزجر. فانزجر فقد تعلم مما علمنا الله. وظاهر مما أمسكن عليكم أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل أو لم يأكل. ﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ أي على ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله لقوله: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل)، والتسمية عند الإِرسال أهي على الوجوب أو على الندب.﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ الآية، لما تقدم ذكر ما حرم وأحل من المطاعم، أمر بالتقوى فإِن التقوى بها يمسك الانسان عن الحرام وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه فهو وعيد بيوم القيامة وإن حسابه إياكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب.
﴿ ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ ﴾ كرر أحلال الطيبات تأكيداً للجملة قبلها ولما يعطف عليها من قوله: ﴿ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، وهو عام مخصوص خصة الجمهور بذبائحهم سواء أسموا اسم الله على الذبيحة أم لم يسموا، وما كان حراماً على المسلم أكله وإن كان أهل الكتاب يأكلونه كالميتة والدم والخنزير فلا يجوز لنا أكله وان كان ذلك من طعامهم. وذهبت الزيدية والامامية الى أنه لا يجوز أكل ذبائحهم فأما ما كان مما هو طعام لهم وليس من الذبائح كالخبز والفواكه فلا خلاف بين المسلمين في جواز أكله وأصل الكتاب هم اليهود والنصارى المتأصِّلون في ذلك لا من تهوَّد وتنصر من العرب وغيرهم لأنهم لم يؤتوا الكتاب ومن العلماء من أجرى هؤلاء مجرى الكتابي الأصلي، ومعنى وطعامكم حل لهم أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. والظاهر أن المجوسي والصابىء لا يحل لنا أكل ذبيحتهم لأنهم ليسوا من أهل الكتاب.﴿ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ أي وأحل لكم نكاح المحصنات أي العفائف اللاتي لسن بزوان. ﴿ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ أي العفائف منهن. وظاهر هذه الآية جواز نكاح الكتابيات ذمية كانت أو حربية، وقد تزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة وكانت نصرانية. وتزوج طلحة يهودية من الشام. ومن العلماء من منع نكاح الكتابيات واستدل بقوله تعالى:﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ﴾[البقرة: ٢٢١]، قال وأي شرك أعظم ممن يقول المسيح بن الله وعزيز بن الله، تعالى الله عما يقولون. وتقدم الكلام على هذه المسألة في البقرة ومذهب الامامية تحريم نكاح الكتابيات والمسلم يجد بينه وبين الكافرة نفرة دينية وقد تقوى فتصير نفرة طبيعية وأن شخصاً لا يؤمن بالله تعالى ويكذب الرسل وخصوصاً نبيّنا محمداً صلى الله عليه وسلم لجدير أن يهجر ولا يعاشر ولا يتخذ فراشاً بل ولو كان مسلماً فاسقاً أو مبتدعاً وجب هجره وترك معاشرته.﴿ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ أي مهورهن. وانتزع العلماء من هذا انه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجة إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه بحكم الالتزام في حكم المؤتي. ﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ تقدم الكلام على نظيرها في سورة النساء. ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ ﴾ أي شرائع الإِيمان. ﴿ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ أي إذا وافى على الكفر.﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ ﴾ الآية، نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم وذلك في غزوة المريسيع. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح الأمر بإِيفاء العقود وذكر تحليلاً وتحريماً في المطعم والمنكح فاستقصى ذلك وكان المطعم آكد من المنكح فقدمه عليه وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإِنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه تعالى. ومعنى قمتم أردتم القيام إلى الصلاة. وتم محذوف تقديره محدثين لأن من كان على طهارة الوضوء لا يجب عليه أن يتوضأ.﴿ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن وهو ما واجه الناظر. والظاهر دخول البياض الذي بين الأذن والخد في ذلك وان الأذنين واللحية ليست داخلة في الوجه. والغسل إمرار الماء على العضو. ومذهب مالك ان الدلك داخل في الغسل. ﴿ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ ﴾ اليد في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب وقد غيا الغسل إليها واختلفوا في دخولها في الغسل فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب. وقال الزمخشري: إلى تفيد معنى الغاية مطلقاً، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. وقوله: إلى المرافق وإلى الكعبين، لا دليل فيه على أحد الأمرين. " انتهى ". وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإِن في ذلك خلافاً، منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين، وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإِن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل فإِذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر. وأيضاً فإِذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد، إلى هو الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشترى، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء فإذا لم يتصور أن يكون داخلاً الإِعجاز وجب أن يحمل على أنه غير داخل لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثم قرينة مرجحة للمجاز على الحقيقة. وقول الزمخشري عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج لا دليل فيه على أحد الأمرين مخالف. لنقل أصحابنا إذ ذكروا أن النحويين على مذهبين، أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج، وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه. قال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها إذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي ان الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. والروايتان محفوظتان عن مالك وروي أشهب عنه أنهما غير داخلين وروي غيره أنهما داخلان." انتهى ". هذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني، فقال: إن لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها لم يدخل وإن كان فيحتمل أن يدخل، ويحتمل أن لا يدخل، والأظهر أن لا يدخل. " انتهى ". ومذهب أبي العباس أنه إذا كان بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.﴿ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ ﴾ هذا أمر بالمسح بالرأس. واختلفوا في مدلول باء الجر هنا فقبل: انها للالصاق وهو مذهب سيبويه وهو الذي نختاره. قال الزمخشري: المراد الصاق المسح بالرأس وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه. " انتهى ". وليس كما ذكر ليس. ماسح بعضه يطلق عليه انه ملصق المسح برأسه حقيقة، وإنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز وتسمية لبعض بكل. وقيل: الباء للتبعيض وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة. وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله:﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ﴾[الحج: ٢٥]، أي الحاداً. وحكى سيبويه في كتابه خشنت صدره وبصدره ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد وهذا نص في المسألة. وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس، فمشهور مذهب مالك وجوب التعميم، والمشهور من مذهب الشافعي وجوب أدنى ما يطلق عليه اسم المسح، ومشهور مذهب أبي حنيفة ربع الرأس. وقال الثوري: إذا مسح شعرة واحدة أجزأه. ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ قرىء بالجر عطفاً على رؤوسكم وقرىء بالنصب عطفاً على موضع رؤوسكم، فاقتضى ظاهر ذلك مسح الرجلين. وذهب الجمهور إلى أن فرض الرجلين الغسل لا المسح وذلك هو الثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي قاربت التواتر من أنه كان يغسل رجليه في الوضوء وذهبت الامامية إلى أن فرضهما المسح لا الغسل. وذهب الحسن ومحمد بن جرير الطبري إلى أن المتوضىء مخير بين غسل رجليه وبين مسحهما إذ قد ثبت غسلهما بالسنة ومسهما، ومن ذهب إلى قراءة النصب في وأرجلكم عطف على قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله: وامسحوا برؤوسكم، فقوله بعيد لأن فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية وقراءة وأرجلكم بالخبر تأتي ذلك وغياً مسح الرجلين بالانتهاء إلى الكعبين فعن مالك: انهما الكعبان العظمان الملتصقان للساق المحاذيان للعقب. وقالت الامامية: وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب الذي هو وجه القدم فيكون المسح معنياً به.﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ ﴾ لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى وتقدم مدلول الجنب في قوله:﴿ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾[النساء: ٤٣]، والظاهر أن الجنب مأمور بالاغتسال. وقال عمرو بن مسعود: لا يتيمم الجنب البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء. والجمهور على خلاف ذلك وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور. والظاهر أن الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله: فلم تجدوا ماء أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد وهو قول الجمهور. وذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة.﴿ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾ تقدم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء إلا أن في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء وفي لفظة منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليدين كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه. وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد والأمر بالمسح أنه لو يممه غيره أو وقف في مهب ريح فنسفت على وجهه ويده التراب وأمرّ يده عليه أو لم يمر أو ضرب ثوباً وارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ان ذلك لا يجزئه وفي كل من المسائل الثلاث خلاف.﴿ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾ أي من تضييق بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله:﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾[النساء: ٢٦] فأغني عن إعادته والذي يقتضيه النظر أنه كثير في لسان العرب تعدى لفظ الإِرادة والأَمر إلى معمول باللام كهذا المكان وكقوله: وأمرت لأسلم. وقول الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنها   تمثل لي ليلاً بكل طريقفهذه اللام يجوز أن تأتي ان بعدها، وان يكتفي بها دون أن، وأن يؤتى بأن وحدها كقوله تعالى:﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ ﴾[غافر: ٦٦] وتأويل من جعل يريد وأمرت لأسلم على تأويل المصدر بغير حرف سابك فيقدر إرادتي ليجعل وأمري لأسلم فيكون مبتدأ في التقدير والخبر في ليجعل وفي لأسلم تقديره إرادتي كائنة للجعل وأمري كائن للإِسلام فهو تأويل متكلف.
﴿ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ الخطاب للمؤمنين والنعمة هنا الإِسلام وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة والميثاق هو ما أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان وكل مواطن، قاله ابن عباس. ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ﴾ الآية، تقدم تفسير مثل الجملة الأولى في النساء إلا أن هناك بدىء بالقسط، وهنا آخر. وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة ويلزم من كان قائماً لله أن يكون شاهداً بالقسط ومن كان قائماً بالقسط أن يكون قائماً لله إلا أن التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل والسؤال من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاجن فبدىء فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيها بما هو آكد وهو القسط والتي في معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله فناسب كل معرض ما جيء به إليه وأيضاً فتقدم هناك حديث النشور والإِعراض. وقوله:﴿ وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ ﴾[النساء: ١٢٩]، وقوله:﴿ فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا ﴾[النساء: ١٢٨]، فناسب ذكر تقدم القسط وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط وتعدية يجر منكم بعلي هنا يدل على أن معناه يحملنكم لأن يكسبنكم لا يتعدى بعلي إلا أن ضمّن معنى ما يتعدى بها وهو خلاف الأصل.﴿ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ هو ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: ﴿ ٱعْدِلُواْ ﴾، كقولهم: من كذب كان شراً له ففي كان ضمير يفهم من قولهم كذب وكذلك هو أي العدل أقرب للتقوى نهاهم أولاً أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانياً به تأكيداً، ثم استأنف نذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: هو أقرب للتقوى أي أدخل في مناسبتها أو أقرب لكونه لطفاً فيها وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين بالعدل إذا كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين.﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ لما كان الشنآن محلة القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى وأتى بصفة خبير ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه فناسب هذه الصفة أن ينبّه بها على الصفة القلبية لما نادى المؤمنين وأمرهم بالقيام لله والشهادة بالسقط ذكر موعودهم بقوله: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ ووعد تعدى لاثنين والثاني محذوف تقديره الجنة وقد صرح بها في غير هذا الموضع والجملة من قوله: لهم مغفرة مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب لأن الجنة مترتبة على الغفران وحصول الأجر وإذا كانت الجملة مفسرة فلا موضع لها من الإِعراب والكلام قبلها تام.﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾ الآية، لما ذكر ما لمن آمن ذكر ما لمن كفر وفي المؤمنين، جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به متشوقة إليه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق وفي الكافرين جاءت الجملة إسمية دالة على ثبوت هذا الحكم له وانهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب إذ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم ولم يأت بصورة الوعيد فكان يكون الرجاء لهم في ذلك.﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ﴾ الآية، عن ابن عباس انها نزلت من أجل كفار قريش، وقد تقدم ذكرهم قوله: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾.
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ ﴾ الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه تعالى على المؤمنين في قوله:﴿ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ﴾[المائدة: ٧]، ثم ذكر وعده إياهم ثم أمرهم بذكر نعمته عليهم إذ كف أيدي الكفار عنهم ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم ووعده لهم بتكفير السيآت وإدخالهم الجنة فنقضوا الميثاق. و ﴿ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ﴾ قيل: هم الملوك. وقيل: ما وفي منهم بالميثاق إلا خمسة داود وابنه سليمان وطالوت وحزقيل وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف ويبعث فيهم ورتب تعالى على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإِيمان بالرسل وتعظيمهم واقراض الله تعالى قرضاً حسناً تكفير سيآتهم وإدخالهم جنات وقدم قبل هذا أنه تعالى معهم بالكلاءة والحفظ. قال الزمخشري: وهذا الجواب يعني لأكفرنّ ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً. " انتهى ". ليس كما ذكر لا يسد لأكفرنّ مسدهما بل هو جواب للقسم فقط وجواب الشرط محذوف ولما علم تعالى أنه لا يفي بالميثاق بعضهم قال: فمن كفر بعد ذلك منكم ورتب على نقضهم الميثاق لعنهم وجعل قلوبهم قاسية، ثم ذكر تحريفهم لكلام الله ونسيانهم حظاً مما ذكروا به.﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي هذه عادتهم وديدنهم معك وهم على ما كان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء فهم لا يزالون يخونونك وينكثون عهودك ويظاهرون عليك أعداءك ويهمون بالقتل وأن يَسُموك. و ﴿ خَآئِنَةٍ ﴾ صفة لمحذوف قديره على نفوس خائنة وقد يراد بالخائنة المصدر جاء على فاعلة كأنه قال: تطلع على خيانة ثم استثنى بقوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾، كمن أسلم مثل عبد الله بن سلام وغيره ثم أمر نبيه عليه السلام بالعفو عنهم والصفح وإن ذلك من الإِحسان إليهم، فقال: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ ثم ذكر تعالى أخذ الميثاق على النصارى والميثاق المأخوذ عليهم هو الإِيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم إذا كان ذكره موجوداً في كتبهم كما قال:﴿ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ ﴾[الأعراف: ١٥٧].
قال الزمخشري: فإِن قلت: فهلا قيل ومن النصارى. قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة الله وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية. " انتهى ". قد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل: سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة وقوله: وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون وهم عند الزمخشري كفار وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة وهم عند غيره مؤمنون ولم يختلفوا هم إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم.﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ ﴾ ظاهره أنه يعود على النصارى. وقيل: النصارى هم النسطورية واليعقوبية والملكية كل فرقة منهم تعادي الأخرى. وقيل: الضمير عائد على اليهود والنصارى أي بين اليهود والنصارى فإِنهم أعداء يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض.﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ هذا تهديد ووعيد بعذاب الآخرة إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار. ﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ الخطاب لليهود والنصارى. ورسولنا هو محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومن رجم الزناة وغير ذلك. ﴿ نُورٌ ﴾ هو القرآن إذ هو مزيل لظلمات الشرك والشك. ﴿ مُّبِينٌ ﴾ واضح الدلالة موضع طرق الإِسلام.
﴿ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ ﴾ الآية، ذكر سبحانه وتعالى أن من النصارى من قال أن المسيح هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة. وتقدم أنهم ثلاث طوائف ملكانية ويعقوبية ونسطورية، وكل منهم يكفر بعضهم بعضاً ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإِسلام ظاهراً. وانتمي إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ومن ذهب في ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج والشوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض، واتباع هؤلاء كابن سبعين وتلميذ التستري وابن مطرف المقيم بمرسية والصفار المقتول بغرناطة وابن لبّاج وابن الحسن المقيم كان بلَوْزَقة وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كبيرة وابن عباس المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بجارة زويلة بالقاهرة والشريف عبد العزيز المتوفي وتلميذه عبد الغفار القوصي، وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين وليحذروا منهم أشد من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث وقد أولع جهلة من ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين.﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾ الآية، هذا رد عليهم. والفاء في ﴿ فَمَن يَمْلِكُ ﴾ للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم، التقدير قل: كذبوا أو قل ليس كما قالوا فمن يملك والمعنى من يمنع من قدرة الله وإرادته شيئاً أي لا أحد يمنع مما أراد الله شيئاً وهذا الاستفهام معناه النفي. و ﴿ إِنْ أَرَادَ ﴾ شرط جوابه محذوف تقديره فعل ذلك. ﴿ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾ عام معطوف على ما قبله. وما قبله نص على المسيح وأمه وقد اندرجا في العموم فصارا مذكورين مرة في نص ومرة في العموم.﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ والمسيح وأمه. من جملة ما في الأرض فهما مقهوران لله مملوكان له وهذه الجملة مؤكدة لقوله: ﴿ إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ﴾، ودلالة على أنه إذا أراد فعل لأن من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء.﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي أن خلقه ليس مقصوراً على نوع واحد بل ما تعلقت مشيئته بإِيجاده أوجده واخترعه، فقد يوجد شيئاً لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض، وقد يخلق من ذكر وأنثى، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح ففي قوله: ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾، إشارة إلى أن المسيح وأمه مخلوقان.﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ كثيراً ما تذكر القدرة عقب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة. ﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾ الآية، ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك بل في الكلام لف وإيجاز، والمعنى وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة: نحن أبناء الله وأحباؤه يدل على ذلك.﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾[البقرة: ٢١٣].
والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة، وأحباؤه جمع حبيب فعيل نحو بمعنى مفعول أي محبوبوه وأجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو لبيب والباء. وقال ابن عباس: هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول صلى الله عليه وسلم عقاب الله فقالوا: أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه. بعد قل محذوف تقديره كذبتم في دعواكم.﴿ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ ومن كان محبوباً لله وابناً له بمعنى الرأفة لا يعذبه. ﴿ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ اضرب عن الاستدلال الأول من غير إبطال وانتقل الى استدلال ثان من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة فإِن القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوصفين البنوة وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله فبطل الوصفان اللذان ادعوها.﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ شامل لليهود والنصارى. ﴿ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ ﴾ مفعوله محذوف تقديره بين لكم شريعة الإِسلام والدين. ﴿ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ ﴾ أي على انقطاع من الرسل، إذ لم يكن بين محمد وعيسى عليهما السلام رسول على فترة. قال ابن عباس: أنه كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما السلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى:﴿ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾[يس: ١٤].
وهو شمعون وكان من الحواريين، وقال ابن الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال بينهما أربعة أنبياء واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضيّعه قومه. و ﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾ مفعول من أجله تقدره البصريون كراهة أن تقولوا، أو حذار أن تقولوا، وقدره الفراء لئلا تقولوا وهو متعلق بقوله: قد جاءكم رسولنا. و ﴿ مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ﴾ من زائدة وهو فاعل بقوله ما جاءنا ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ ﴾ تكذيباً لهم وخصوصاً اليهود.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى بين تمردّ أسلاف اليهود على موسى وعصيانهم إياه مع تذكيره إياهم بنعم الله وتعداد ما هو العظيم منها وإن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم هم جارون معك مجرى أسلافهم مع موسى عليه السلام وعدد عليهم من نعمة ثلاثاً، الأولى: جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف إذ هم الوسائط بين الله وبين خلقه والمبلغون عن الله شرائعه. الثانية: جعلهم ملوكاً ظاهرة الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكاً أي جعل منهم ملوكاً إذ الملك شرف الدنيا واستيلاء، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا. الثالثة: إيتاؤهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، فسره ابن عباس بالمن والسلوى والحجر والغمام. و ﴿ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾ المطهرة وهي إيليا المشتملة على بيت المقدس الآن، وقيل غير ذلك. وقال الفرزدق: وبيتان بيت الله نحن نزوره   وبيت بأعلى إيلياء مشرفوفي الحديث:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد، فمسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ". ومعنى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ قسمها لكم وسماها وفي ذلك تنشيط لهم وتقوية، إذ أخبرهم بأن الله تعالى كتبها لهم. ﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا ﴾ أي لا تنكصوا. ﴿ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ ﴾ من خوف الجبابرة جنباً وهلعا. ﴿ قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا ﴾ الظاهر أن قومه قالوا ذلك. وقيل: النقباء، وقيل: الأشراف المطلعون على الأسرار. ﴿ قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾ قيل: إنهم من الروم استولوا على الأرض المقدسة وكانوا شجعاناً وذوي قوة، وقيل: من ولد العيص بن إسحاق. ﴿ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا ﴾ بقتال غيرنا أو بسيب يخرجهم الله به فيخرجون.﴿ قَالَ رَجُلاَنِ ﴾ الأشهر عند المفسرين أن الرجلين هما يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران، وهما اللذان وفيا من النقباء الذي بعثهم موسى [عليه السلام] في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى عليه السلام وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا من القتال. ومعنى: ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾ أي من قتال الجبابرة. ﴿ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ﴾ أي بالوثوق بأن الله كتب لهم الأرض المقدسة. ﴿ ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ ﴾ والباب باب مدينة الجبارين. والمعنى أقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب وهذا يدل على أن موسى كان قد أنزل محلته قريباً من المدينة.﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ﴾ قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله: كتب الله لكم، وقيل: رجاء لنصر الله ورسله وغلب ذلك على ظنهم وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلّوا وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى.﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ ﴾ لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الاقدام على الجهاد مع وعد الله السابق لهم استرابا في إيمانهم فأمرهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد وعلقا ذلك بشرط الإِيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل، والفاء في قوله: فتوكلوا جواب أمر محذوف تقديره تنبهوا وعلى الله متعلق بتوكلوا كما قالت العرب زيداً فاضرب تقديره تنبه، فاضرب زيداً وكثيراً يأتي معمول ما بعد الفاء متقدماً عليها.﴿ قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ ﴾ لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيد الموئس وقيدوا أولاً نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقة التأبيد. وقد يطلق على الزمان المتطاول وكأنهم أولاً نفوا الدخول طول الأبد ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومية الجبارين فيها، وما في قوله: ﴿ مَّا دَامُواْ ﴾ مصدرية ظرفية تقديره مدة دوامهم فيها فأبدلوا زماناً مقيداً من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل فهو بدل بعض من كل.﴿ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ ﴾ ظاهر الذهاب الانتقال وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ولذلك قال الحسن: هو كفر منهم بالله تعالى، ويدل على ذلك عبادتهم العجل واتخاذه إلهاً وكونهم حين مروا بقوم يعبدون البقر. قالوا لموسى عليه السلام:﴿ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾[الأعراف: ١٣٨].
وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بأنت. وتقدم الكلام على نظير هذا في قوله:﴿ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ ﴾[البقرة: ٣٥].
﴿ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال ولا على الرجوع في حيث جاؤوا بل أقاموا حيث كانت المجاورة بين موسى وبينهم وها من قوله هاهنا للتنبيه وهنا ظرف مكان للقريب؛ والعامل فيه قاعدون.﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ ﴾ لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله وشدة اللياذ به والشكوى إليه ورقة القلب التي تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة. ﴿ وَأَخِي ﴾ منصوب معطوف على نفسي، ويعني به هارون عليه السلام وكأنه ما اعتد بذينك الرجلين المؤمنين، كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه خطب في مسجد الكوفة مستنجداً على قتال أعدائه فلم يجبه إلا رجلان، فقال: أين يقعان مما أريد. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون " وأخي " مرفوعاً معطوفاً على الضمير المستكن في أملك وجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور ويلزم من ذلك، ان موسى وهارون لا يملكان إلا نفس موسى فقط وليس المعنى على ذلك بل الظاهر ان موسى عليه السلام يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط.﴿ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا ﴾ ظاهره أنه دعا بأن الله يفرق بينهما. ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ قال فيه ضمير يعود على الله تعالى، فإِنها أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وانتصب أربعين على أنه ظرف زمان والعامل فيه محرمة. قيل: وحكمة هذا العدد انهم عبدوا العجل أربعين يوماً فجعل لكل يوم سنة، قيل: انّ من كان جاوز عشرين سنة لم يعش الى الخروج من التيه وإن من كان دون العشرين عاش فكأنه لم يعش المكلفون العصاة.﴿ يَتِيهُونَ ﴾ التية في اللغة: الحيرة، يقال: تاه يتيه ويتوه وتيهته وتوهته، والياء أكثر. والأرض التيهاء التي لا يتهدى فيها، وأرض تيه. وقيل: العامل في قوله: أربعين، لفظ يتيهون. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهون المتأخر. انتهى. لا أدري ما الحامل له على قوله: إن العامل مضمر كما ذكر. بل الذي جوزه الناس في ذلك هو أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه لا مضمر يفسره قوله: يتيهون في الأرض. قال ابن عباس: تسعة فراسخ. وقال مقاتل: هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخاً. وروى في كيفية تيههم في هذه المدة أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدؤا منه ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا إذا هم حيث ارتحلوا عنه فيكون سيرهم تحليقاً. وقيل: إنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين. قيل: والحكمة في التيه هو أنهم لما قالوا أنا هاهنا قاعدون عوقبوا بالقعود فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون كلما ساروا يوماً أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه وكان هذا التيه خرق عادة وعجباً من قدرة الله تعالى حيث كانوا عقلاء ولم يهتدوا للخروج من التيه، ومات موسى وهارون عليهما السلام في التيه، فكان التيه عذاباً لبني إسرائيل ورحمة لموسى وهارون وراحة وروحاً ونبأ الله تعالى بعد موتهما يوشع بن نون بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل وأخبرهم بأن الله سبحانه أمرهم بقتال الجبابرة فبايعوه وسار بهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم وصار الشام كله لبني إسرائيل وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين.﴿ فَلاَ تَأْسَ ﴾ أي فلا تحزن يقال: أسى الرجل يأسى أسىً، إذا حزن. والظاهر أنه خطاب لموسى عليه السلام ومعنى على القوم الفاسقين على عذابهم وإهلاكهم.
﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وعليهم أي على بقية بني إسرائيل الذين عاصروه عليه السلام وهموا ببسط أيديهم وقالوا إنهم أبناء الله وأحباؤه، وذكرهم موسى عليه السلام بنعم الله تعالى. ومناسبة هذه الآية، لما قبلها أنه كان من آخر كلامهم لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا وذلك لجبنهم وخور طباعهم عن قتال الجبارين. وفي قصة ابني آدم جسارة قابيل على قتل النفس التي حرم الله قتلها فتشابها من هذا الوجه فكان قابيل أول عاص في هذه المعصية العظيمة وبنو إسرائيل أول من خاطب رسولهم بقولهم: إذهب أنت وربك فقاتلا، والنبأ الخبر وابنا آدم هما قابيل وهابيل ابناه لصلبه.﴿ إِذْ قَرَّبَا ﴾ إذ منصوب بقوله نبأ. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ، أي إتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف. " انتهى ". لا يجوز ما ذكر لأن إذ لا يضاف إليها إلا الزمان ونبأ ليس بزمان والقربان الذي قرباه هو زرع لقابيل وكبش لهابيل، وكانت علامة التقبّل أكل النار النازلة من السماء القربان وترك غير المتقبل. قال الزمخشري: يقال قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب. " انتهى ". ليس تقرب بصدقة مطاوع قرب لإِتحاد فاعل الفعلين والمطاوع يختلف فيها الفاعل فيكون من أحدهما فعل ومن الآخر انفعال نحو كسرته فانكسر وفلقته فانفلق، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط. فاحش.﴿ فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا ﴾ هو هابيل. ﴿ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ ﴾ هو قابيل. ﴿ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ ﴾ هذا تهديد شديد ووعيد بالقتل لأخيه. وأكده بالقسم المحذوف وتقديره والله لأقتلنك، ولما هدده بالقتل علم أنه لم يكن متقياً لله تعالى لتهديده بهذه المعصية العظيمة وكان ذلك حسداً له، فقال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ ومن لم يرض بفعل الله تعالى لم يكن متقياً له، ثم قال: ﴿ لَئِن بَسَطتَ ﴾ الآية، فبين التفاوت بينهما بأنك إن أردت قتلي فما أريد قتلك، واللام في لئن هي الموطئة المؤذنة بقسم محذوف وإن شرطية، وجواب القسم قوله: ﴿ مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ ﴾ وجواب أن محذوف لدلالة جواب القسم عليه وذكر أن الحامل له على أنه لا يريد قتله خوفه من الله تعالى. قال الزمخشري: فإِن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله: لئن بسطت ما أنا بباسط؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي. " انتهى ". وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري وهو كلام فيه انتقاد وذلك أن قوله: ما أنا بباسط ليس جزاء للشرط بل هو جواب للقسم المحذوف ولو كان جواباً للشرط لكان بالفاء فإِنه إذا كان جواب الشرط منفياً بما فلا بد من إلقاء إلا أن كانت الأداة ليست من الجوازم في الكلام فلا يحتاج إذ ذاك إلى الفاء كقوله تعالى:﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾[يونس: ١٥].
ما كان حجتهم إلا أن قالوا: والقاعدة النحوية أنه إذا اجتمع قسم وشرط كان الجواب للسابق منهما إذا لم يتقدمهما ذو خبر.﴿ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ ﴾ الآية، المعنى أن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة. ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ﴾ وهو فعل من التطوع وهو الانقياد كأن القتل كان ممتنعاً عليه متعاصياً وأصله طاع له قتل أخيه أي انقاد إليه وسهل ثم عدى بالتضعيف فصار الفاعل مفعولاً والمعنى أن القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس فردته هذه النفس اللجوج الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى أوقعه صاحب هذه النفس. وقرىء فطاوعت يكون فاعل فيه للاشتراك نحو ضاربت زيداً. قال الزمخشري: فيه وجهان، أن يكون مما جاء على فاعل بمعنى فعّل، وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الاقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. " انتهى ". أما الوجه الثاني: فهو موافق لما ذكرناه، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه ضاعفت وضعفت مثل ناعمت ونعمت وقال: فجاؤا به على مثال عاقبته. قال: وقد يجيء فاعلت لا يراد بها عمل اثنين ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت وذكر أمثلة منها عافاه الله وهذا المعنى وهو أن فاعل بمعنى فعّل أغفله بعض المصنفين. من أصحابنا في التصريف كابن عصفور وابن مالك وناهيك بهما جمعاً وإطلاعاً فلم يذكر أن فاعل يجيء بمعنى فعّل ولا فعل بمعنى فاعل وقوله: وله لزيادة الربط يعني في قوله: فطوعت له، يعني أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلام العرب وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام إذ الربط يحصل بدونه كما أنك لو قلت: حفظت مال زيد، كان كلاماً تاماً، فأصبح بمعنى صار.
﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً ﴾ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه.﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً ﴾ والغراب طائر معروف ويجمع في القلة على أغربه، وفي الكثرة على غربان، قيل: وهو مشتق من الاغتراب وتتشاءم به العرب. قال الشاعر: جرى بفراق العامريّة غدوة   سواج سود ما تعيد وما تبدىيعني الغربان: وظاهر الآية، أن الله تعالى بعث غراباً يبحث في الأرض فروي أنهما غرابان قتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفرة وألقاه فيها والبحث في الأرض نبش التراب وإثارته. ﴿ لِيُرِيَهُ ﴾ متعلق بقوله: بعث، والمواراة: الستر، والضمير الفاعل في ليريه عائد على الغراب ويجوز أن يكون عائداً على المصدر المفهوم من قوله: يبحث، أي ليريه البحث، وكيف منصوب بقوله: يواري، والجملة استفهامية في موضع مفعول ثان لقوله ليريه بمعنى ليعلمه. والسوءة: العورة.﴿ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ ﴾ الآية، استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى تعلم وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والرويّة والتدبير من طائر لا يعقل ومعنى هذا الاستفهام الإِنكار على نفسه والنفي أي لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله: مثل هذا الغراب وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم: يا عجباً ويا حسرة، والمراد بذلك التعجب، كأنه قال: انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة، والمعنى تنبهوا لهذه الهلكة وتأويله هذا أو انك فاحضري وقراءة الجمهور يا ويلتا بألف هي منقلبة عن الياء كما قالوا في يا غلامي يا غلاماً، وقرىء يا ويلتي على أصل ياء المتكلم، وقرىء أعجزت بفتح الجيم وهي اللغة الفصيحة وبكسرها وهي قراءة شاذة، والعجز عن الشيء انتفاء القدرة عليه. و ﴿ أَنْ أَكُونَ ﴾ تقديره عن أن أكون فحذف عن وأن أكون هل هو في موضع رفع أو نصب أو في موضع جر فيه خلاف. ﴿ فَأُوَارِيَ ﴾ معطوف على قوله أن أكون فالعجز متسلط على الكون وعلى المواراة. قرأ طلحة بن مصرف والفياض بن عروان فأواري ـ بسكون الياء ـ فالأولى أن تكون على القطع أي فأنا أواري سوءة أخي فيكون أواري مرفوعاً. وقال الزمخشري: وقرىء بالسكون على فأنا أواري أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف. " انتهى ". يعني أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة. قال ابن عطية: هي لغة لتوالي الحركات لا ينبغي أن تخرج على النصب لأن النصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفاً، كما أشار إليه الزمخشري ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ولا يصح التعليل بتوالي الحركات فيه وهذا عند النحويين أعني النصب بحذف الفتحة لا يجوز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على معنى صحيح وقد وجد وهو الاستئناف أي فأنا أواري. قال ابن عباس: هو من حيث انتهاك حرمتها بالقتل أو صون حرمتها بالامتناع وباستحيائها. ﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ ﴾ الضمير في جاءتهم عائد على بني إسرائيل. ومعنى بالبينات: بالمعجزات والكتب الإِلهية الواضحة. فكان المناسب اتباع الرسل فيما جاؤا به من امتثال أمر الله والانقياد لأحكامه. وقال الزمخشري: فأواري بالنصب على جواب الاستفهام. " انتهى ". وهو خطأ فاحش لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء وهنا لا تنعقد. تقول: أتزورين فأكرمك فالمعنى أن تزرني أكرمك لو قلت هنا: ان أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي لم يصح لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب.﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ ﴾ قبل هذا جملة محذوفة تقديرها فوارى سوءة أخيه. والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان ربه وإسخاط أبويه وتبشيره أنه من أصحاب النار وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً.﴿ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ ﴾ متعلق بقوله: كتبنا، ويقال: أجل وأجل ومعناه. من سبب ذلك القتل. ﴿ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ يقال: فعلت هذا من أجلك أي بسببك. وقيل: يتعلق من أجل بقوله: ﴿ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ ﴾ أي صار من النادمين بسبب القتل، ويكون كتبنا على بني إسرائيل استئناف كلام. وقوله: ﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ أي بغير قتل نفس. ﴿ أَوْ فَسَادٍ ﴾ هو معطوف على نفس أي وبغير فساد، والفساد: قطع الطريق وقطع الأشجار وقتل الدواب لا لضرورة وحرق الزرع وما يجري مجراه، وهو الفساد المشار إليه بعد هذه الآية. والضمير في أنه. ضمير الأمر والشأن، ومن شرطية وجوابه فكأنما، والجملة في موضع خبر انه، وتشبيهه قتل النفس الواحدة بقتل الناس جميعاً وإحياها بإِحيائهم.﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ أي بعد مجيء الرسل لمسرفون أي مجاوزون الحد في المعاصي وعدم اتباع الرسل ومنهم في موضع الصفة لقوله: كثيراً، وبعد منصوب على الظرف، والعامل فيه قوله: ﴿ لَمُسْرِفُونَ ﴾.
﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ ﴾ الآية، نزلت في قوم من عكل وعُرينة، وحديثهم مشهور. ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإِثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد في الأرض اتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو فإِن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب القتل.﴿ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره يحاربون أولياء الله والمحاربة مطلقة ففسرها مالك بأن المحارب هو في حمل السلاح على الناس في مصر أو في بريّة فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ولا دخل ولا عداوة، ومذهب أبي حنيفة وجماعة ان المحاربين هم القطاع للطريق خارج المصر وأما في المصر فيلزمه حد ما. اجترح من قتل أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك. وقوله: في الأرض، ظاهرة العموم فيشمل المصر وغيره، كما قال مالك: والسعي في الأرض فساداً، يحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم أي يضيفون فساداً إلى المحاربة، وانتصب فساداً على أنه مفعول أو مصدر في موضع الحال أو مصدر من معنى يسعون على معنى ان يسعون في الأرض معناه يفسدون لما كان السعي للفساد جعل فساداً أي إفساداً. والظاهر في هذه العقوبات الأربع أن الإِمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب التي قدمناها وبه قال جماعة من الصحابة وهو مذهب مالك وجماعة وقال ملك: استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب ولا سيما إن لم يكن ذا شرور معرفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله. وقال ابن عباس وجماعة من التابعين: لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب فمن قتل يقتل ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف ومن أخاف فقط فالنفي ومن جمعها قتل وصلب، والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا. فقال أبو حنيفة ومحمد وغيرهما: يصلب حياً ويطعن حتى يموت. وقال الشافعي وجماعة: يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل. واختلفوا في النفي فقال أبو حنيفة: النفي هو أن يسجن وهو إخراجه من الأرض. قال الشاعر وهو مسجون: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها   فلسنا من الأموات فيها ولا الأحياقال السدي: هو أن يطلب بالخيل والرجل فيقام عليه حد الله ويخرج من دار الإِسلام. وقال مالك: لا يضطر مسلم إلى الدخول في دار الشرك. ﴿ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ أي ذلك الجزاء من القتل والصلب والقطع والنفي. والخزي الهوان والذل والافتضاح. ﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾ ظاهرة الجمع للمحارب بين عقاب الدنيا وعذاب الآخرة.﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية ظاهرة أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق، فإِذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما ترتب على الحرابة. وهذا ظاهر فعل عليّ رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإِنه كان محارباً ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً. وقالوا: لا نظر للإِمام فيه كما ينظر في سائر المسلمين؛ فإِن طولب بدم نظر فيه وأقيد منه بطلب الولي، وإن طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي يؤخذ ما وجد عنده من مال وغيره ويطالب بقيمة ما استهلك. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطالب بما استهلك ويؤخذ ما وجد عنده بعينه. وظاهر قوله: غفور رحيم، عدم المطالبة بشيء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جزاء المحاربين أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه فإِن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين والوسيلة القربة أمر المؤمنين بأوصاف خالف فيها المحارب إذ لم يتق الله تعالى ولا ابتغى قربة إليه، وجعل الحرابة عوض الجهاد في سبيل الله فاستحق بذلك العقاب العظيم في الدنيا والعذاب في الآخرة، ورتب هنا رجاء الفلاح على الاتصاف بهذه الأوصاف التي في هذه الآية من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية لما ذكر حال المؤمن ورجاء الفلاح له ذكر حال الكافر وما يقول إليه. وخبر إن هو لو، وجوابها ومثله معطوف على ما من قوله: ما في الأرض، أي الذي في الأرض، وجواب لو جاء منفياً وهو قوله: ما تقبل منهم، وجاء على الفصيح من ترك اللام إذ يجوز في الكلام لو جاء زيد لما جاء عمرو، فتدخل اللام على ما النافية. وقال به فأفرد الضمير وإن كان تقدمه شيآن ما الموصولة ومثله لتلازمهما، كما قالت العرب: رب يوم وليلة مربّي، تريد مر أبي فأفرد الضمير لتلازم اليوم والليلة. (قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله معه بمعنى مع فيتوحد المرجوع إليه، فإِن قلت: فيم ينتصب المفعول معه؟ قلت: بما تستدعيه لو من الفعل لأن التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض جميعاً. " انتهى ". إنما توحّد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال وعود الضمير متأخراً حكمه متقدماً تقول الماء والخشبة استوا كما تقول الماء استوى والخشبة. وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول: الماء والخشبة استويا ومنع ذلك ابن كيسان، وقول الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله بمعنى مع ليس بشيء لأنه يصير التقدير مع مثله معه أي مع مثل ما في الأرض إن جعلت الضمير في معه عائداً على ما فيكون معه حالاً من مثله، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة فلا فائدة في ذكر معه لملازمة معية كل منهما للآخر. وإن جعلت الضمير عائداً على مثله أي مع مثله مع ذلك المثل فيكون المعنى مع مثلين فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عن إذا الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثله. وقول الزمخشري: فإِن قلت: إلى آخر الجواب هذا السؤال لا يرد لأنا قد بينا فساد أن تكون الواو واو مع وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أن أنْ إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاء عليه فيكون التقدير على هذا لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليقتدوا به فيكون الضمير عائداً على ما فقط وهذا الذي ذكره وهو تقريع منه على مذهب المبرد في أنّ أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية وهو مذهب مرجوح. ومذهب سيبويه أن إن بعد لو في موضع رفع على الابتداء والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة وعلى التقريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون، ومثله مفعولاً معه، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل وهو ثبت بوساطة الواو فيه. ولما تقدم من وجود لفظه معه وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأن ثبت ليست رافعة ما العائد عليها الضمير وإنما هي رافعة مصدر انسبكا من ان وما بعدها وهو كون إذ التقدير لو ثبت كون ما في الأرض جميعاً لهم ومثله معه ليقتدوا به، والضمير عائد على ما دون الكون فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل، والمعنى كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثل وهذا فيه غموض، وبيانه أنك إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمراً، وجعلت عمراً مفعولاً معه، والعامل فيه يعجبني لزم من ذلك أن عمراً لم يقم وأنه أعجبك القيام وعمرو وال جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائماً، وكان الإِعجاب قد تعلق بالقيام مصاحباً القيام عمرو. فإِن قلت: هلا كان ومثله معه مفعولاً معه والعامل فيه هو العامل في لهم، إذ المعنى عليه؟ قلت: لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة. وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أن قولك: هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وقال سيبويه واما هذا لك وأباك فقبيح لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل. " انتهى ". فأفصح سيبويه بأن اسم الإِشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ولو كان أحدهما يجوز أن ينصب المفعول معه لخير بين أن ينسب العمل لإِسم الإِشارة أو لحرف الجر. وقد أجاز بعض النحويين أنه يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله معه أن يكون ومثله مفعولاً على أن العامل هو العامل في لهم.﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ الآية، قال السائب: نزلت في طعمة بن أبيرق ومضت قصته في سورة النساء ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي منها قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإِنسان في شيء من الحرابة ثم ذكر حال الكفار ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن، والأرجل بالسنة، على ما يأتي ذكره. وهي أيضاً حرابة من حيث المعنى لأن فيها سعياً بالفساد إلا أن تلك على سبيل الشوكة والظهور والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر. والظاهر عموم السارق والسارقة فيمن سرق قليلاً أو كثيراً، واختلفوا فيما يقطع فيه السارق فقيل: يقطع في القليل والكثير كما دل عليه ظاهر العموم وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو مذهب داود والخوارج. قال داود ومن وافقه: لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة بل في أقل شيء يسمى مالاً وفي أقل شيء يخرج الشح والفئة. وقيل: النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها وهو قول بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقيل: ربع دينار فصاعداً أو قيمتها من غيرها وهو قول الصحابة وبعض التابعين وهو قول الأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور. وقيل: خمسة دراهم وهو قول أنس وعروة وسليمان بن يسار والزهري. وقيل: أربعة دراهم وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. وقيل: ثلاث دراهم وهو قول ابن عمر وبه قال مالك وإسحاق وأحمد إلا أن كان ذهباً فلا يقطع إلا في ربع دينار. وقيل: درهم فما فوقه وبه قال عثمان الليثي وقطع عبد الله ابن الزبير في درهم. وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه. وقرأ الجمهور " والسارق والسارقة " بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، ولا يجيز سيبويه أن يكون الخبر قوله: ﴿ فَٱقْطَعُوۤاْ ﴾، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر المبتدأ موصول بظرف أو مجرور أو جملة صالحة لأداة الشرط الموصول هنا أل وصلتها اسم فاعل أو إسم مفعول وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ والخبر جملة الأمر. اجرَوْا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه الذي سرق والتي سرقت. وقد تجاسر الفخر الرازي وأساء الأدب على سيبويه وتكلمنا معه بما يوقف عليه في البحر الملخص منه هذا الكتاب. وقرىء شاذاً والسارق والسارقة بالنصب على الاشتغال أي اقطعوا السارق والسارقة، كما تقول: زيداً فاضربه أي اضرب زيداً فاضربه. وللزمخشري في هذه القراءة كلام غريب فهمه عن تحرير كلام سيبويه ورددناه عليه في البحر. والمخاطب بقوله: فاقطعوا، هو في تولي أمور المسلمين ممن يكون له إقامة الحدود عليهم. والظاهر من قوله: أيديهما، أنه يقطع من السارق يداه الثنتان لكن الإِجماع على خلاف هذا الظاهر، وإنما يقطع من السارق يمناه ومن السارقة يمناها. قال الزمخشري: أيديهما يديهما ونحوه فقد صغت قلوبكما النفي بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم. " انتهى ". وسوى الزمخشري بين أيديهما وقلوبكما وليسا بشيئين لأن باب صغت قلوبكما يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية وهو ما كان اثنين من شيئين كالقلب والأنف والوجه والظهر، وأما إن كان في كل شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين فإِن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد وإنما يحفظ ولا يقاس عليه. ولم تتعرض الآية في قطع الرجل في السرقة، وفي ذلك خلاف، ذكر في مسائل الخلاف وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب وهو مذهب الخوارج. ومذهب الجمهور أنه من الرسغ وفي الرجل من المفصل. وروى عن علي أنه في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم وهو معقد الشراك. والظاهر أن المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط فإِن كان المال قائماً بعينه أخذه صاحبه وإن كان السارق استهلكه فلا ضمان عليه، وبه قال مكحول وجماعة من التابعين. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: يضمن ويغرم. وقال مالك: إن كان موسراً ضمن أو معسراً فلا شيء عليه.﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ الآية، قال الكسائي انتصب جزاء على الحال وقال قطرب على المصدر أي جزاء وهما جزاء. وقال الجمهور على المفعول من أجله وبما يتعلق بجزاء وما موصولة أي بالذي كسباه، ويحتمل أن تكون ما مصدرية أي جزاء بكسبهما وانتصاب نكالاً على المصدر أو على أنه مفعول من أجله والنكال: العذاب. والنكل: القيد. وتقدم الكلام عليه عند فجعلناها نكالاً. وقال الزمخشري: جزاء ونكالاً مفعول لهما. " انتهى ". وتبع في ذلك الزجاج وقال الزجاج هو مفعول من أجله يعني جزاء، قال وكذلك نكالاً من الله. " انتهى ". وهذا ليس بجيد إلا إذا كان الجزاء هو النكال فيكون ذلك على طريق البدل واما إذا كانا متباينين فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف.﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعصية، حكيم في فرائضه وحدوده. وروي أن بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ هذه الآية، وختمها بقوله: ﴿ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، فقال: ما هذا كلام فصيح. فقيل له: ليست التلاوة كذلك وإنما هي: والله عزيز حكيم. فقال: بخ بخ عز فحكم فقطع.﴿ فَمَن تَابَ ﴾ هذا عام في كل تائب من جراءته وسرقة وغيرهما، وقوله: ظلمه، هو مصدر مضاف للفاعل أي من بعد أن ظلم غيره أو نفسه بالمعصية. وقوله: وأصلح عطف على تاب فلم يقتصر على توبته وإصلاحه هو تنصله من التبعات، ومعنى يتوب عليه، أي يتجاوز عنه. ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾ خطاب للسامع، وهو تقرير معناه الإِثبات أي قد علمت وقدم يعذب هنا على يغفر لأنه تقدم ما يصنع بالمحارب من العذاب وبالسارق من القطع فذكر التعذيب أولاً أردع له وأطلق التعذيب فجاز أن يراد به التعذيب في الدنيا أو في الآخرة أو كليهما. ومفعول يشاء محذوف تقديره من يشاء تعذيبه وكذلك قوله: ويغفر لمن يشاء. أي يشاء غفران ذنبه.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ ﴾ الآية، سبب نزولها أن يهودياً زنا بيهودية فرفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم عليهما بالرجم فأنكر اليهود ذلك وزعموا أن التوراة ليس فيها الرجم فأتي بها فوجد فيها الرجم فافتضحوا.﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ الآية، هم المنافقون. و ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ يراد به اليهود. والمعنى على هذا لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود أي بإِظهار ما يلوح له من آثار الكفر وهو كيدهم للإِسلام وأهله فإِن الله ناصرك عليهم ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها وتكون من الأولى والثانية على هذا تبييناً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر، فيكون قوله: ومن الذين هادوا. معطوفاً على قوله: ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ﴾.
ويجوز أن يكون ومن الذين هادوا، استئناف كلام فلا يكون معطوفاً على قوله: من الذين قالوا. وسماعون مبتدأ أي قوم سماعون، ومن الذين هادوا خبره. ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ قيل: انهم أهل فدك كانت اليهود تستمع منهم. وقيل: غيرهم.﴿ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ ﴾ أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعة التي وصفها الله فيها. قال ابن عباس والجمهور: هي حدود الله في التوراة وذلك أنهم غيّروا الرجم أي وضعوا الجلد مكان الرجم.﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا ﴾ إشارة إلى ما حرفوه من تبديل الرجم بالتحميم والجلد، أي إن حكم عليكم بهذا فخذوه أي فاقبلوه وإن لم تعطوا ما تحكمون به من التحميم والجلد فاحذروا أي فلا تقبلوا.﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ تأكيد لما قبله. ﴿ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ أي الرشا وهو المال الذي يأخذونه على تبديل أحكام الله تعالى وتحريفها. ﴿ فَإِن جَآءُوكَ ﴾ الآية، يعني للحكم بينهم فخير الله تعالى نبيه بين الحكم بينهم والإِعراض عن الحكم.﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ ﴾ الآية، هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه وفي كتابهم الذين يدعون الإِيمان به حكم الله نص جلي فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاً لأهوائهم وانهماكاً في شهواتهم، ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لم يؤمن به ولا بكتابه فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم فلأن يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى والواو في " وعندهم " للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر وفيها حال من التوراة وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي كائناً فيها حكم الله.﴿ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ قال ابن عطية: أي من بعد كون حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمره تعالى. " انتهى ". وهذه الجملة مستأنفة أي ثم هم يتولون بعد ذلك وهي أخبار من الله تعالى بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه. ﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي من ترك حكم كتابه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منتف عنه الإِيمان حقيقة. وانتصاب كيف على الحال وهو استفهام لا يراد به حقيقته بل التعجب من حالهم كيف علموا حكم الله في كتابهم وحكم الرسول عليه السلام.
﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ ﴾ قال ابن عباس وابن مسعود نزلت في الجاحدين حكم الله وهي عامة في كل من جحد حكم الله، والذين أسلموا وصف مدح للأنبياء كالصفات التي تجري على الله وأريد بإِجرائها التعريض باليهود والنصارى حيث قالوا: إن الأنبياء كانوا يهود وقالت النصارى: كانوا نصارى. فبين أنهم كانوا مسلمين كما كان إبراهيم ولذلك جاء هو سماكم المسلمين من قبل وفيه بهذا الوصف أن اليهود والنصارى بعداد من هذا الوصف الذي هو الإِسلام وإن كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً. وتقدم الكلام على الربانيين في آل عمران. والأحبار: هم العلماء، واحدهم: حبر، بفتح الحاء وكسرها. وقال أبو الهيثم: هو بفتح الحاء. وقال الفراء: هو بالكسر، فأما الذي يكتب به فبكسر الحاء.﴿ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ الباء في بما لكسب وتتعلق بقوله: يحكم، واستفعل هنا للطلب والمعنى بسبب ما استحفظوا، والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة، وكلفهم حفظها وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها. واستحفظوا مبني للمفعول حذف الفاعل وهو الله والمعنى استحفظهم الله أي طلب حفظهم له.﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ﴾ الظاهر أن الضمير عائد على كتاب الله، أي كانوا عليه رقباء لئلا يبدل. والمعنى محكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف نبي. للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم وآبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد.﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ ﴾ الآية، الظاهر أن هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية. والقول لعلماء بني إسرائيل يشمل من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من علماء اليهود. وفي الكلام التفات خرج من ضمير الغيبة وهو ضمير الرفع في يحكمونك إلى ضمير الخطاب في قوله: فلا تخشوا.﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ ﴾ هذا نهي للحكام عن أخذ الرشا وتبديل أحكام الله تعالى.﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم. وغير التوراة اليهود أيضاً ففضلوا بني النضير على بني قريظة وحضوا إيجاد القود على بني قريظة دون بني النضير. ومعنى وكتبنا: فرضنا. وقيل: قلنا والكتابة بمعنى القول. ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة وهي الكتابة في الألواح، لأن التوراة نزلت مكتوبة في الألواح. والضمير في " فيها " عائد على التوراة. وفي " عليهم " على الذين هادوا. وقوله: بالنفس جار ومجرور في موضع خبر أن فيتعلق بمحذوف، والأصل فيه أن يكون العامل لفظ كائن أو مستقر والباء في " بالنفس " للمقابلة فقدر ما هو قريب من الاستقرار وهو تقديرهم مأخوذة بالنفس والمعنى أنه إذا قتلت نفس نفساً قتلت بها والمعاطيف على هذا التقدير أي والعين مأخوذة بالعين أي من فقأ عيناً فقئت عينه، ومن جدع أنفاً جدع أنفه، ومن صلم أذناً صلمت أذنه، ومن كسر سناً كسرت سنه. وقرىء بنصب والعين إلى قوله: والجروح مراعاة لاسم ان. وقرىء بالرفع قطعاً عن اسم ان. وارتفعت الأسماء بالإِبتداء وخبرها في الجار والمجرور كما قدرناه، وخبر والجروح قوله: قصاص، والظاهر في قوله: النفس بالنفس، العموم فيخرج منه ما يخرج منه بالدليل ويبقى الباقي على عمومه. والظاهر في قوله: والعين بالعين، العموم فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عينين، وبه قال علي وأبو حنيفة والشافعي. ولهذه الجنايات أحكام ذكرت في كتب الفقه.﴿ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ أي ذات قصاص. ولفظ الجروح عام، والمراد به الخصوص وهو ما يكن فيه القصاص وتعرف المماثلة فلا يخاف منها على النفس فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ وغير ذلك فلا قصاص فيها. ومدلول والجروح قصاص يقتضي أن يكون الجرح بمثله فإن لم يكن بمثله فلا قصاص.﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ الآية، المتصدق صاحب الحق ومستوفي القصاص من مجروح أو ولي قتل. و " به " عائد على القصاص الشامل للنفس وللأعضاء وللجروح التي فيها القصاص، و " فهو " ضمير يعود على التصدق أي فالتصدق كفارة للمتصدق والمعنى ان من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفى عن حقه في ذلك فإِن العفو كفارة له عن ذنوبه يعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه.﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ الآية تناسب فيما تقدم، ذكر الكافرين لأنه جاء عقب قوله: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾، الآية، ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها بل يخالف رأساً ولذلك جاء ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وهذا كفر فناسب ذكر الكافرين وهنا جاء عقب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية فيه وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة.﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر أن التوراة يحكم بها النبييون ذكر أنه قفاهم بعيسى عليه السلام تنبيهاً على أنه من جملة الأنبياء وتنويهاً باسمه وتنزيهاً له عما تدعيه فيه اليهود وأنه من جملة مصدّقي التوراة. ومعنى وففينا أتينا به يقفوا آثارهم أي يتبعها. والضمير في " آثارهم " يعود على النبيين من قوله: يحكم بها النبيون، وليس التضعيف في قفينا للتعدية بل ضمّن معنى قفينا جئنا فذلك عداه بعلى والباء.﴿ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ ﴾ هذه الجملة معطوفة على قفينا وفيها تعظيم عيسى بأن الله آتاه كتاباً إلهياً. وقوله: فيه هدى، في موضع الحال وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور إذ قد اعتمد بأن وقع حالاً الذي حال أي كائناً فيه هدى، ولذلك عطف عليه لما بين يديه. والضمير في " يديه " عائد على الإِنجيل، والمعنى أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة فتظافر على تصديقه الكتاب الإِلهي المنزل.
﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ ﴾ الآية، أمر تعالى أهل الانجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية أي وقلنا لهم احكموا أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن أن يكون ذلك بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع. وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمر. وقرأ حمزة وليحكم بكسر اللام وفتح الميم جعلها لام كي. والظاهر أن نصب هدى وموعظة على المفعول له وعطف عليه قوله: وليحكم ما كان فاعل هدى وموعظة عائد على الإِنجيل عطف عليه قوله: وأتى باللام لاختلاف الفاعل لأن فاعل وليحكم أهل الإِنجيل. والفاعل في هدى وموعظة. هو الإِنجيل فلما اختلفا على المفعول من أجله باللام، كما تقول: ضربت ابني تأديباً، ولخوف زيد منه، ففاعل التأديب هو الضمير وفاعل الخوف هو زيد. ويجوز أن يكون وهدى وموعظة معطوفاً على ومصدقاً، كأنه يقال: وهادياً وواعظاً. ويكون وقوله: وليحكم على قراءة حمزة متعلقاً بمحذوف تقديره وآتيناه الإِنجيل ليحكم.﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ الآية، ناسب هنا ذكر الفسق لأنه خروج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: وليحكم، وهو أمر كما قال تعالى:﴿ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ ﴾[البقرة: ٣٤] إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، أي خرج عن طاعة أمره تعالى.﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك علم الجميع في أنها أنزلت على موسى عليه السلام وترك ذلك للمعرفة بذلك ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإِنجيل فذكره مفيداً أنه من جملة الأنبياء إذ اليهود تنكر نبوته وإذا أنكرته أنكرت كتابه فنص عليه وعلى كتابه ثم ذكر إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فذكر الكتاب ومن أنزله عليه مقرر النبوة وكتابه لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب لأنه النص على المقصود، بالحق معناه متلبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه. وانتصب مصدقاً على الحال.﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي لما تقدمه. ﴿ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ الألف واللام فيه للجنس لأنه عني به جنس الكتب المنزلة. ﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ قال ابن عباس: أمينا. وعنه أيضاً: شاهداً. وقال الخليل: رقيباً. وبه وفسر الزمخشري قال: ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. " انتهى كلامه ". وقال الشاعر: مليك على عرش السماء مهيمن   لعزته تعنو الوجوه وتسجد﴿ فَٱحْكُم بَيْنَهُم ﴾ أمر يقتضي الوجوب. والضمير في " بينهم " عائد على المتحاكمين يهوداً أو غيرهم. ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع.﴿ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ الذي هو القرآن وضمن تتبع معنى تنحرف أو تنصرف، فلذلك عدى بعن أي لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم أو بسبب أهوائهم. قال أبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي عادلاً عما جاءك ولم يضمن تتبع معنى ما يتعدى بعن وهذا ليس بجيد لأن عن حرف جر ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجثث كما لا يصلح أن يكون خبراً وإذا كان ناقصاً فإِنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه.﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ الآية الظاهرة أن المضاف إليه كل المحذوف هو أمة أي لكل أمة. والخطاب في " منكم " للناس أي أيها الناس أي لليهود شرعة ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك، قاله علي رضي الله عنه وغيره. ويعنون في الأحكام وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالرسل وكتبها. والشرعية والمنهاج لفظان بمعنى واحد فالثاني تأكيد للأول.﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ مفعول شاء محذوف تقديره ولو شاء جعلكم أمة واحدة. وحذف لدلالة الجواب عليه وهو قوله: لجعلكم أمة واحدة في اتباع الحق أو اتباع الباطل.﴿ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم ﴾ أي ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. ﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾ أي استقبلوا الأعمال الصالحة وهي التي عاقبها أحسن الأشياء. ﴿ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات كأنه يقول: تظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته. ﴿ فَيُنَبِّئُكُم ﴾ أي فيخبركم بأعمالكم وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب وهو إخبار إيقاع. وبهذه التنبئة يظهر الفصل بين المحق والمبطل والمستبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسه وإلى آخر بحرف الجر ولم يضمنها معنى أعلم فيعيدها إلى ثلاثة.﴿ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ سبب نزولها قال ابن عباس: قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا: يا محمد قد عرفت انا احبار يهود وأشرافهم وان اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ويؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وان أحكم ذكروا في إعرابه وجوهاً والذي نختاره أن يكون في موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً والتقدير وحكمك بما أنزل الله أمرنا وقولنا أو مقدماً والتقدير ومن الواجب حكمك بما أنزل الله وأبعد من ذهب إلى أنه في موضع نصب عطفاً على الكتاب أي وأنزلنا إليك الكتاب والحكم أو في موضع جر عطفاً على بالحق أي بالحق والحكم.﴿ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ﴾ أي يستزلوك وحذره تعالى عن ذلك وإن كان مأيوساً من فتنتهم إياه وموضع أن يفتنوك نصب على البدل تقديره واحذرهم فتنتهم إياك أو يكون مفعولاً من أجله تقديره من أن يفتنوك وحذف من. ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ الآية أي فإِن تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره ومعنى أن يصيبهم ببعض ذنوبهم أي يعذبهم ببعض آثامهم وأبهم بعضاً هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة العدد وهذا الذنب مع عظمها بعضها. ﴿ أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ هذا استفهام معناه الإِنكار على اليهود حيث هم أهل الكتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ومع ذلك يعرضون على حكم الله تعالى ويختارون عليه حكم الجاهلية. وقرىء: أفحكم بالنصب وهو مفعول يبغون وبالرفع على الابتداء والخبر يبغون وحذف الضمير العائد على المبتدأ من الجملة تقديره يبغونه كقوله: وخالد يحمد ساداتنا   بالحق لا يحمد بالباطلتقديره يحمده.﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً ﴾ أي لا أحد أحسن من الله حكماً وتقدم وإن أحكم بينهم بما أنزل الله فجاءت هذه الجملة مشيرة لهذا المعنى والمعنى أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل وهو استفهام معناه التقدير ويتضمن من التنكير عليهم واللام في لقوم يوقنون للبيان فيتعلق بمحذوف تقديره أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون.
﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ﴾ الآية، سبب نزولها قصة عبد الله بن أبيّ واستمساكه بحلف يهود وتبرىء عبادة بن الصامت من حلفهم عن انقضاء بدر وانتجاز أمر بني قينقاع وكانوا حنفاء عبد الله وعبادة في قصة فيها طول هذا ملخصها. والله أعلم. نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ويعافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين. والظاهر أن الضمير في " بعضهم " عائد على اليهود والنصارى. وقيل المعنى على أن ثم محذوفاً والتقدير بعض اليهود أولياء بعض وبعض النصارى أولياء بعض لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى ولا النصارى أولياء اليهود. ويمكن أن يقال جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل وإن بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه وبعض النصارى كذلك. قال الحوفي: هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء. والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإِعراب.﴿ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ قال ابن عباس: فإِنه منهم في حكم الكفر، أي ومن يتولهم في الدين وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر وترك موالاتهم وانحاء عبد الله بن أبيّ ومن اتصف بصفته ولا يدخل في الموالاة معاملة اليهود والنصارى من غير مصافاة.﴿ فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: وقرأ ابن وثاب فيرى الذين بالياء فيحتمل أن يكون الذين فاعل يرى والمعنى أن يسارعوا فحذفت أنّ إيجازاً. " انتهى ". هذا ضعيف لأن حذف إنْ من هذا لا ينقاس والفاعل ضمير يعود على الله أو على الرأي. والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين.﴿ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ﴾ أي في مودتهم وموالاتهم. ﴿ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾ هذا محفوظ من قول عبد الله بن أبيّ. وقاله معه منافقون كثير. قال ابن عباس: معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا.﴿ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ ﴾ هذه بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصر. قال قتادة: عني به القضاء في هذه النوازل والفتاح القاضي. قال ابن عطية: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته فيستغني عن اليهود. ﴿ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾ هو اجلاء بني النضير وأخذ أموالهم لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب وقتل قريظة وسبى ذراريهم. ﴿ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ ﴾ أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم به أنفسهم ان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتم أمره ولا تكون الدولة لهم. و ﴿ نَادِمِينَ ﴾ خبر فيصبحوا وعلى ما أسروا متعلق بنادمين.﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا أي المنافقون. ﴿ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ﴾ والمعنى يقول بعضهم لبعض تعجباً من حالهم إذا غلظوا للمؤمنين بالإِيمان أنهم معهم وأنهم معاضد وهم وعلى اليهود فلما حل باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرونه من موالاة اليهود والتمالي على المؤمنين. وقرىء يقول بغير واو كأنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا. وقرىء ويقول بالواو ورفع اللام. وقرىء ويقول بالواو ونصب اللام. وأما قراءة " ويقول " بالنصب فوجّهت على أن هذا القول لم يكن إلا عند الفتح وأنه محمول على المعنى فهو معطوف على أن يأتي إذ معنى فعسى الله أن يأتي معنى فعسى أن يأتي الله، وهذا الذي تسميه النحويون العطف على التوهم يكون الكلام في قالب تقدره في قالب آخر، إذ لا يصح أن يعطف على لفظ أن يأتي لأنه لا يصح أن يقال: فعسى الله أن يقول المؤمنون، إذ ليس في المعطوف ضمير اسم الله ولا سببي منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف، أي ويقول الذين آمنوا به أي بالله، فهذا الضمير يصح به الربط. أهؤلاء: استفهام تحقير واستصغار للمنافقين. والجملة من قوله: إنهم لمعكم، مؤكدة بأن واللام مبالغة من المنافقين في إيمانهم إذ جمعوا بين حرفي توكيد انّ واللام.﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ استئناف أخبار من الله تعالى بحبوط أعمالهم. والظاهر أنه من كلام المؤمنين. والحبوط: البطلان. وأعمالهم: هي التي كانوا يظهرونها من موافقة المؤمنين في الصلاة وغيرها وهم ولا يعتقدون ثواباً في ذلك.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ قال الحسن وغيره نزلت خطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة. وقيل: هي خاصة في قبائل بأعيانهم فذكر المفسرون أن ارتد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ حج ورئيسهم عبهلة بن كعب ذو الخمار وهو الملقب بالأسود العنسي قتله فيروز على فراشه، وأخبر رسول الله بقتله وسمي قائله ليلة قتل، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغدو وأتى مقتلة في آخر ربيع الأول. وبنو حنيفة رئيسهم مسيلمة قتله وحشي قاتل حمزة وبنو أسد رئيسهم طليحة بن خويلد هزمه خالد وأفلت ثم أسلم وحسن إسلامه. هذه ثلاث فرق ارتدت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنبأ رؤساؤها. وارتد في خلافة أبي بكر سبع فرق فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وسليم قوم الفجأة بن عبد يا ليل، ويربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وقد تنبأت وتزوجها مسيلمة. وقال شاعرهم: أضحت نبيتنا أنثى نُطيف بها   وأصبحت أنبياء الناس ذكراناوقال أبو العلاء المعري: أمت سجاح ووالاها مسيلمة   كذابة في بن الدنيا وكذابوكندة قوم الأشعث وبكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن يزيد، وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه، وفرقة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم نصّرته اللطمة وسيرته إلى بلد الروم بعد إسلامه. وقرىء من يرتدد بالفك والإِدغام وهي جملة شرطية، والجواب قوله: فسوف يأتي الله بقوم. والقاعدة النحوية أنه إذا كان جواب الشرط جملة واسم الشرط غير ظرف فلا بد من ضمير في جملة الجواب عائد على اسم الشرط والجملة ها هنا ليس فيها ضمير ظاهر فلا بد من تقديره وتقديره بقوم غيرهم أي غير من يرتد وبقوم فيه أقوال. وفي المستدرك لأبي عبد الله الحاكم بإِسناده، أنه لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعَريّ وقال: هم قوم هذا، وهذا أصح الأقوال وكان لهم بلاء في الإِسلام زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة فتوح عمر على أيديهم. ووصف تعالى هؤلاء القوم بأنه يحبهم ويحبونه محبة لله لهم هي توفيقهم للإِيمان كما قال تعالى:﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ ﴾[الحجرات: ٧] وإثباته على ذلك وعلى سائر الطاعات وتعظيمه إياهم وثناؤه عليهم ومحبتهم له تعالى طاعته واجتناب مناهيه وامتثال مأموراته، وقدم محبته على محبتهم إذ هي أشرف وأسبق.﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة بل على ذلك وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف، كأنه قيل: عاطفين على المؤمنين والمعنى أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانتهم وهو نظير قوله تعالى:﴿ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾[الفتح: ٢٩]، وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه مبالغة لأن أذلة جمع ذليل، وأعزة جمع عزيز، وهما صفتا مبالغة وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله: يحبهم ويحبونه، لأن الاسم يدل على الثبوت فلما كانت صفة مبالغة وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة جاء الوصيف بالاسم ولما كانت الصفة تتجدد لأنها عبارة عن أفعال الطاعات والثواب المترتب عليها جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن آكد ولموصوفه ألزم قدم على الوصف المتعلق بالكافر ولشرف المؤمن أيضاً ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن قدم قوله: يحبهم ويحبونه، على قوله: أذلة على المؤمنين، وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله: وفرع يُغش المتن أسود فاحم. إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية فقدم يحبهم ويحبونه وهو فعل على قوله: أذلة، وهو اسم. وكذلك قوله تعالى:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ ﴾[الأنعام: ٩٢، ١٥٥].
وقرىء شاذاً أذلة بالنصب وكذا أعزة نصباً على الحال من النكرة إذ قربت من المعرفة بوصفها.﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي في نصرة دينه. وظاهر هذه الجملة أنها صفة ويجوز أن تكون استئناف أخبار. ﴿ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ﴾ أي هم صلاب في دينه لا يبالون بمن لام فيه فمتى شرعوا في أمر معروف أو نهي عن منكر أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض ولا قول قائل، وهذان الوصفان أعنى الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة لأن من أحب الله لا يخش إلا إياه ومن كان عزيزاً على الكافر جاهد في إخماده واستئصاله وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمجاورته أعزة على الكافرين ولأن الخوف أعظم من الجهاد فكان ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ويحتمل أن تكون الواو في ولا يخافون واو الحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين فإِنهم كانوا موالين لليهود فإِذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله تعالى لا يخافون لومة لائم. ولومة للمرة الواحدة، وهي نكرة في سياق النفي فتعم أي لا يخافون شيئاً قط من اللوم.﴿ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ الظاهر أن ذلك إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف التي تحلّى بها المؤمن ذكر أن ذلك هو فضل الله يؤتيه من أراده ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه بل هو على سبيل الاحسان منه تعالى لمن أراد الإِحسان إليه. وقيل: ذلك إشارة إلى حبّ الله لهم وحبهم له.﴿ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي واسع الإِحسان والافضال عليم بمن يصنع ذلك فيه. ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء بين هنا من هو وليهم وهو الله ورسوله. والولي هنا الناصر والمعنى لأولى لكم إلا الله وقال: وليكم بالافراد ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعدداً، لأن ولياً اسم جنس أو لأن الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل ثم فطم في سلكه من ذكر على سبيل التبع ولو جاء جمعاً لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية.﴿ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ الآية هذه أوصاف ميّز بها المؤمن الخالص الإِيمان من المنافق، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة. قال تعالى:﴿ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ ﴾[النساء: ١٤٢].
وقال: آشحة على الخير، ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية بين مقيم صلاة ومؤتي زكاة في كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله والتذلل له. نزلت الآية متضمنة هذه الأوصاف الجليلة. قال الزمخشري: فإِن قلت: الذين يقيمون ما محله. قلت الرفع على البدل من الذين آمنوا أو على هم الذين يقيمون. " انتهى ". ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن، ولأن المبدل منه في نية الطرح وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المرتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف.﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ الآية يحتمل أن يكون جواب من محذوف لدلالة ما بعده عليه أي يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون الجواب فإِن حزب الله ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي فأنتم هم الغالبون. وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإِضافة إلى الله فيشرفون بذلك وصاروا بذلك أعلاماً. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم. وهم يجوز أن يكون فصلاً، والغالبون خبر ان، ويجوز أن يكون مبتدأ، والغالبون خبره، والجملة في موضع خبر ان.
﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهر الإِسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت. ولما نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء نهى هنا عن اتخاذ الكفار أولياء يهوداً كانوا أو نصارى أو غيرهما. وكرر ذكر اليهود والنصارى بقوله: ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، وإن كانوا مندرجين في عموم الكفار على سبيل النص على بعض أفراد العام لسبقهم في الذكر في الآيات قبل ولأنهم أوغلوا في الاستهزاء وأبعد انقياداً للإِسلام إذ يزعمون أنهم على شريعة إلهية، ولذلك كان المؤمنون من المشركين في غاية الكثرة والمؤمنون من اليهود والنصارى في غاية القلة. وقرىء والكفار بالنصب عطفاً على الذين اتخذوا وبالجر عطفاً على من الذين. ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي في موالاة الكفار ثم نبّه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإِيمان أي من كان مؤمناً حقاً يأبى موالاة إعداد الدين.﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ﴾ قال الكلبي: كان إذا نودي بالصلاة قام المسلمون إليها، فتقول اليهود: قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، على طريق الاستهزاء والضحك فنزلت. وإذا ناديتم، أي نادى بعضكم إلى الصلاة لأن الجميع لا ينادون. وقال بعض العلماء: فيها دليل على مشروعية الآذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. " انتهى ". ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال وإذا ناديتم، ولم يقل ونادوا على سبيل الأمر، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سيق المشروعية لا على إنشائها ولما قدم أنهم اتخذوا الدين هزواً ولعباً اندرج في ذلك الجميع ما إنطوى عليه الدين فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهو الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه فنبه على أن من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ ولياً وأن يطرد ويتخذ عدواً فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية التي قبلها.﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي الفعل منهم كائن بسبب انتفاء عقلهم ونفاه عنهم لكونهم لم ينتفعوا به في الدين. ﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ الآية قل أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل استفهام معناه النفي. وتنقمون بكسر القاف ماضية نقم وهي أفصح من نقم ينقم وإلا ان آمنا استثناء مفرغ أي لا يغيبون منا شيئاً إلا الإِيمان بالله وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليهم إلا ما لا ينقم ولا يعد عيباً ونظيره: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم   بهن فلول من قراع الكتائبوما أنزل معطوف على بالله وهو القرآن وما أنزل من قبل هي الكتب الإِلهية كالتوراة والإِنجيل وغيرهما. وقرأ نعيم بن ميسرة وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة وهو واضح المعنى أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين. وقرأ الجمهور وأن بفتح الهمزة وخرج ذلك على وجوه منها الرفع على الابتداء. وقدر الزمخشري الخبر مؤخراً محذوفاً أي وفسق أكثركم معلوم عندكم لأنكم علمتم انا على الحق وانكم على الباطل. " انتهى ". ولا ينبغي أن يقدر الخبر إلا مقدماً أي ومعلوم فسق أكثركم لأن الأصح أنّ انّ لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط ومنها النصب عطفاً على ان آمنا، إلا أنه على حذف مضاف تقديره واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون. وهذا معنى واضح ويكون ذلك داخلاً فيما ينقمون حقيقة، ومنها الجر عطفاً على قوله: بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل أي وبأن أكثركم فاسقون. ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ﴾ الخطاب بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بضمير الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم ويخاطبهم أو يكون خطاباً للمؤمنين بقوله: ﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ ﴾.
و ﴿ ذٰلِكَ ﴾ إسم إشارة فعلى تقدير ان الخطاب للكفار يكون ذلك إشارة إلى حال من نقم ويكون من لعنة الله على حذف مضاف أي حال من لعنة الله. وللعرب لغة منقولة وان اسم الإِشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر فيحتمل أن يكون ذلك من هذه اللغة ويحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضاً إلى متشخص وأفرد على معنى الجنس كأنه قال: قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي أو من جنس المؤمن على اختلاف التقديرن اللذين سبقا ويكون أيضاً من لعنة الله تفسير شخص لشخص وانتصب مثوبة على التمييز وجاء على التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على التمييز كقوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً ﴾[النساء: ٨٧]، وتقديم التمييز على المفضل أيضاً فصيح كقوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[فصلت: ٣٣]، ومن في موضع رفع كأنه قيل: من هو؟ فقيل هو من لعنة الله، أو في موضع جر على البدل من قوله بشر ومن موصولة عاد الضمير عليه على لفظه في قوله: لعنة الله، وفي قوله: عليه، وأعاده على معنى من في قوله: وجعل منهم القردة، ثم عاد على لفظة من في وعبد فأفرد الضمير. قال ابن عباس: هم أصحاب السبت مسخ شبابهم قردة وشيوخهم خنازير. وقرأ جمهور السبعة وعبد الطاغوت. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وعبد ـ بضم الباء ـ الطاغوت بكسر التاء. قال الزمخشري: ومعناه الغلو من العبودية كقولهم: رجل حذر فطن للبليغ في الحذر. وقال ابن عطية: عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مؤد يراد به الجنس ويبني بناء الصفات لأن عبداً في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة. وأنشد هو والزمخشري: ابني ليُبْنَى انّ أمكم أمة وإن أباكم عبد   وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلاً فقال: ومنها فعل كنحو: سمر وعبد، وعلى هذه القراءة يكون وعبُدَ معطوفاً على قوله: القردة والخنازير. وعلى قراءة الجمهور يكون معطوفاً على صلة من. وفي البحر الكبير ان في قوله: وعبد الطاغوت، اثنين وعشرين قراءة وتكلمنا على توجيهها فيه منها قراءة الحسن في رواية عبْدَ الطاغوت بإِسكان الباء ونصب التاء. قال ابن عطية: أراد وعبداً منوناً، فحذف التنوين كما حذف في قوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا. " انتهى ". ولا وجه لهذا التخريج لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت بوجه إذ ليس بمصدر ولا إسم فاعل والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من عبد بفتح الباء.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها. ﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ الآية، ضمير الغيبة في جاؤكم لليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو خاصة للمنافقين منهم، قاله ابن عباس وغيره. وضمير الخطاب في جاؤكم يقوي أن الخطاب في قوله: هل أنبئكم للمؤمنين. ونقول ان الجملة الاسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال. أكد من الجملة الفعلية من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيد زيد، ولما كانوا حين جاؤا الرسول والمؤمنين قالوا آمنا ملتبسين بالكفر كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر لأن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية في الإِيمان ألا ترى إلى قول بعضهم حين رآه عليه السلام قال: علمت ان وجهه ليس بوجه كذاب، مع ما يظهر لهم منه في خوارق الآيات وباهر الدلالات فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لا يخرجوا به بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهراً وباطناً فأكد وصفهم بالكفر بأن كرر المسند إليه تنبيهاً على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه وإن رؤية الرسول لم يجد عندهم ولم يتأثروا لها.﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ ﴾ الآية عام في كفرهم ونفاقهم وتغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والعداوة وإن قولهم آمنا خالف ظاهر قولهم باطنهم.﴿ وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ الآية يحتمل ترى أن تكون بصرية فيكون يسارعون صفة بعد صفة وأن تكون عملية فيكون مفعولاً ثانياً. والمسارعة الشروع بسرعة.﴿ ٱلإِثْمِ ﴾ قيل: الكذب. ﴿ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾ الظلم. وليس حقيقة الإِثم الكذب إذ الإِثم هو الحكم المتعلق بصاحب المعصية أو الإِثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. والسحق تقدم الكلام عليه. ﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ ﴾ الآية لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف. وقال العلماء: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء منها. وأنشدوا من شعر ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك   وأخبار سوء ورهبانها
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ ﴾ الآية نزلت في فنحاص وابن صوريا وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك ونسب ذلك إلى اليهود لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك واليد حقيقة في الجارحة، وفي غيرها مجاز فيراد بها النعمة والقوة والملك والقدرة، وظاهر قول اليهود ان لله تعالى يدا فإِن كانوا أرادوا الجارحة فهو يناسب مذهبهم إذ هم مجسمة، وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغل اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ومنه لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط.﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ خبر وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة، قاله الحسن. أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم، قال الزجاج. ويظهر أن قولهم: يد الله مغلولة، استعارة من الامساك من الإِحسان الصادر من المقهور على الإِمساك ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة ولا يغل إلا المقهور، فجاء قوله: غلت أيديهم، دعاء عليهم بغل الأيدي فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا يستعلي فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم وان أيديهم لا تبسط لدفع ضر نزل بهم وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم: يد الله مغلولة، وليست هذه المقالة بدعاء منهم. فقد قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء.﴿ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾ يحتمل أن يكون خيراً وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاماً فيما نسبوه إلى الله تعالى مما لا يجوز نسبته إليه فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا. ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ معتقد أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى ليس بجسم ولا جارحة له ولا يشبهه شيء من خلقه ولا يكيّف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث، وأدلة هذا مقررة في علم أصول الدين، والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ وأضاف ذلك إلى اليدين جرياً على طريقة العرب في قولهم: فلأن ينفق بكلتا يديه، ومنه قول الشاعر: يداك يدا مجدا فكف مفيدة   وكف إذا ما ضن بالمال تنفقويؤيدان اليدين هنا بمعنى الانعام قرينة الإِنفاق ومن نظر في كلام العرب أدنى نظر عرف يقيناً أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل.﴿ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ هذا تأكيد للوصف بالسخاء وإنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته. ولا موضع لقوله: ينفق، من الإِعراب إذ هي جملة مستأنفة. قال الحوفي: كيف سؤال عن حال وهي نصب بيشاء. " انتهى ". ولا يعقل هنا كونها سؤالاً عن حال بل هي بمعنى الشرط كما تقول كيف يكون أكون وفعول يشاء محذوف وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم كما يدل في قولك: أقوم ان قام زيد، على جواب الشرط والتقدير ينفق كيف يشاء أن ينفق كما تقول: كيف أضربك أضربك ولا يجوز أن يعمل في كيف ينفق لأن اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جاراً فقد يعمل في بعض أسماء الشرط ونظير ذلك قوله تعالى:﴿ فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾[الروم: ٤٨].
﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً ﴾ ذكر كثيراً لأن منهم من آمن كعبد الله بن سلام. ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ ﴾ الآية، قيل: الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى لأنه جرى ذكرهم في قوله: لا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ولشمول قوله: قل يا أهل الكتاب، للفريقين، وهذا قول الحسن وغيره. وقيل: هو عائد على اليهود إذ فيهم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهه وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ولا يقدرون على حربك ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك لأن الطائفتين لا توادّ بينهما فيجتمعان على حربك وفي ذلك اخبار بالمغيب وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ كان الإِسلام وإلى هذا الوقت.﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ ﴾ الآية قال الجمهور: هي استعارة. وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك وتفرق آرائهم وحل عزائمهم وتفريق كلمتهم وإلقاء الرعب في قلوبهم فهم لا يرون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد.﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً ﴾ الظاهر أنه يراد به العمل والفعل، أي يجتهدون في الكيد للإِسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم، والأرض يجوز أن يراد بها الجنس أو أرض الحجاز فتكون آلْ فيه للعهد.﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ ﴾ قيل المراد أسلافهم ودخل فيها المعاصرون بالمعنى والغرض الاخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم والذي يظهر أنهم معاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإِسلام وذكر شيئين وهما الإِيمان والتقوى، ورتب عليهما شيئين وهما قابل الإِيمان بتكفير السيئات إذ الإِسلام يجب ما قبله، ورتّب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي دخول جنة النعيم وأضاف الجنة إلى النعيم تنبيهاً على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وإن في قوله: ولو أنهم، حرف مصدري ينسبك منه ما بعده مصدر. فقيل: يرتفع على الفاعلية التقدير لو ثبت إيمانهم وتقواهم لكفرنا عنهم. وقيل: هو مبتدأ والخبر محذوف التقدير لو أن إيمانهم وتقواهم موجودان لكفرنا.﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ الآية هذا استدعاء لإِيمانهم وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإِحسان إليهم في الدنيا ولما رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي والذي به النجاة السرمدية والنعيم الذي لا ينقضي. ومعنى إقامة التوراة والإِنجيل إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه فهو كقولهم: أقاموا السوق، أي حركوها وأظهروها وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيئاته وفي قوله: والانجيل، دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب. وظاهر قوله: ﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ العموم في الكتب الإِلهية مثل كتاب أشعياء وكتاب دانيال فإِنها مملوءة من البشارة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن. وظاهر قوله: ﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ انه استعارة عن سبوغ النعم عليهم وتوسعة الرزق، كما يقال: قد عمّه الرزق من فوقه إلى قدمه، ولا فوق ولا تحت. وقال ابن عباس وغيره: لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها، كقوله تعالى:﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الأعراف: ٩٦].
﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾ الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب. والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله وكثير منهم. والاقتصاد: من القصد وهو الاعتدال، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي كانت أولاً جائرة ثم اقتصدت. وقيل: هم مؤمنوا الفريقين كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى واقتصادهم هو الإِيمان بالله تعالى. ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ هذا تنويع في التفصيل فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور ومقتصدة وصف. والجملة الثانية جاء فيها الوصف الجار والمجرور. والخبر الجملة من قوله: ساءياً يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً والوصف ألزم للموصوف من الخبر فأتى بالطائفة الممدوحة بالوصف اللازم وأخبر عنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ثم قد تزول هذه النسبة بالاسلام فيكون التعبير عنهم والإِخبار بأنهم منهم باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإِنهم منهم حقيقة لأنهم كفار فجاء الوصف بالإِلزم ولم يجعل خبراً أو جعل خبر الجملة التي هي " ساء ما يعملون " لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإِخبار بمضمون هذه الجملة واختيار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تتصرف قال: فيه التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسؤا عملهم، ولم يذكر غير هذا الوجه. واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول: ساء الأمر يسوء. وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس، كقوله تعالى: ﴿ سَآءَ ﴾، مثلاً فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون المؤمنين، وغير المتصرفة تحتاج إلى تقدير تمييز أي ساء عملاً ما كانوا يعملون. " انتهى ". فإِذا كانت ساء للتعجب كان وزنها فعل كما تقول: قضُوا لرجل، أي ما أقضاه. وكذلك يكون وزنها فعل إذا كانت من باب نعم وبئس وإذا كانت متصرفة متعدية كان وزنها فعل بفتح العين ويجوز في ما أيضاً أن تكون مصدرية أي ساء عملهم وأن تكون موصولة بمعنى الذي ويكون التقدير ما يعملونه وحذف الضمير العائد على الموصول.﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ ﴾ الآية، هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الانساني وأمر بتبليغ ما أنزل الله إليه وهو عليه السلام قد بلغ ما أنزل إليه فهو أمر بالديمومة. ﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ﴾ تبليغ ما أنزل إليك. وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط إذ صار المعنى وإن لم تفعل لم تفعل فالجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه. وقال الزمخشري: المراد وإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبّب ويعضده قوله عليه السلام: فأوحى الله إلي ان لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك. " انتهى ". وقال ابن عطية: أي ان تركت شيئاً فكأنك قد تركت الكل وصار ما بلغت غير معتدّ به، فمعنى وإن لم تفعل، وإن لم تستوف.﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ قال محمد بن كعب: نزلت بسبب الإِعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله. " انتهى ". وهو غورث بن الحارث وذلك في غزوة ذات الرقاع." وهذه الآية نزلت بالمدينة والرسول مقيم بها سهر ليلة وحرسه سعد وحذيفة. فنام حتى غط فنزلت فأخرج إليهما رأسه من قبة آدم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني "وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ﴾ الآية أي من قضي عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهديه الله أبداً فليس لفظ الكافرين على عمومه لأنه قد وجد كفار وقد هداهم الله.﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ الآية" قال رافع بن حارثة وغيره: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى وأن ذلك حق. قال: بلى ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم. فقالوا: انا نأخذ بما في أيدينا فإِنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك "فنزلت. وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإِنجيل وما أنزل فأغنى عن إعادته ونفي أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدماً صرفاً لفساده وبطنه فنفاه من أصله أو لاحظ فيه صفة محذوفة أي على شيء يعتد به فنتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف. والضمير في تقيموا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقيل: جمع الضمير والمقصود التفصيل أي حتى يقيم أهل التوراة التوراة ويقيم أهل الإِنجيل الإِنجيل ولا يحتاج إلى ذلك أن أريد ما في الكتابين من التوحيد فإِن الشرائع فيه متساوية.﴿ فَلاَ تَأْسَ ﴾ أي لا تحزن عليهم فأقام الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على العلة الموجبة لعدم لتأسف وهي الفسق، أو هو عام فيندرجون فيه.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية تقدم الكلام على نظيرها. وقرأ أبيّ وعثمان وغيرهما والصابئين منصوباً عطفاً على اسم إن وما بعدها. قال الزمخشري: وبها قرأ ابن كثير. " انتهى ". وليس ذلك مشهوراً عن ابن كثير. وقرأ القراء السبعة والصابئون بالرفع ووجه ذلك على وجوه منها مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة انه مرفوع بالابتداء وهو منوي به التأخير ونظيره أن زيداً وعمرو قائم، التقدير أن زيداً قائم وعمرو قائم فحذف خبر عمرو لدلالة خبر ان عليه. والنية بقوله: وعمرو، التأخير ويكون وعمرو قائم بحبره هذا المقدر معطوفاً على الجملة من آل زيداً قائم وكلاهما لا موضع له من الإعراب. الوجه الثاني أنه معطوف على موضع اسم إن لأنه قبل دخول ان كان في موضع رفع فروعي هذا الموضع، وهذا مذهب الكائن والفراء. ودلائل هذه المسألة مقررة في علم النحو.
﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا ﴾ الآية هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم والذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أخلاف أولئك فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان إن ذلك شنشنة من أسلافهم.﴿ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ ﴾ الآية تقدم تفسير مثلها في البقرة. وقال الزمخشري: هنا فإِن قلت: أين جواب الشرط؟ فإِن قوله: فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن تقول: ان أكرمت أخي أخاك أكرمت. قلت: هو محذوف ودل عليه قوله: فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه. وقوله: فريقاً كذبوا، جواب مستأنف لقائل يقول: كيف فعلوا برسلهم. " انتهى ". فقوله فإِن قلت: أين جواب الشرط؟ سمي قوله: كلما جاءهم رسول شرطاً وليس بشرط بل كل منصوبة على الظرف لإِضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية والعامل فيها هو ما يأتي بعد ما المذكورة وصلتها في الفعل كقوله تعالى:﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ ﴾[النساء: ٥٦]، وقوله:﴿ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ ﴾[الملك: ٧].
وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما وعلى تسليم تسميته شرطاً فذكر ان قوله: فريقاً كذبوا ينبوا على الجواب لوجهين، أحدهما: قوله لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين وليس كما ذكر لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد بل المراد به الجنس، ألا قرىء انك إذا قلت: لا أصحبك ما طلع نجم، لا يراد به واحد بل يراد به الجنس وأي نجم طلع، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين فريق كذب وفريق قتل. والوجه الثاني: في قوله: ولأنه لا يحسن أن تقول: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل الجواب عليه وليس كما ذكر بل مذهب البصريين الكسائي أن ذلك جائز حسن ولم يمنعه إلا الفراء وحده وهذا كله على تقدير تسليم أن كلما شرط وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه فتقول: كلما جئتني أخاك أكرمت. وعموم نصوص النحويين على ذلك لأنهم حين حصروا ما يجب تقديم المفعول به على العامل وحصروا ما يجب تأخيره عنه قالوا: وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه ولم يستثنوا هذه الصورة ولا ذكروا فيها خلافاً فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله كذبوا وما عطف عليه ولا يكون محذوفاً. وقال الحوفي وابن عطية: كلما ظرف والعامل فيه كذبوا. وقال أبو البقاء: كذبوا جواب كلما. " انتهى ". وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استنباطاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها، قاله الزمخشري: ويحسن مجيئه كونه رأس آية والمعنى أنهم كذبوا فريقاً فقط وقتلوا فريقاً ولا يقتلونه إلا مع التكذيب فاكتفي بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي اقتصر ناس على تكذيب فريق وزاد ناس على التكذيب القتل.﴿ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ قال ابن الأنباري: نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه بغياً وحسداً.﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ بمجانبة الحق. ﴿ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي عرضهم للتوبة بإِرسال الرسول وإن لم يتوبوا. ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ لأنهم كلهم لم يجمعوا على خلافة. " انتهى ". وقرىء: أن لا تكون بنصب النون بأن. وقرىء برفعها على أنّ أنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الأمر محذوف تقديره أنه لا تكون ولا تكون جملة في موضع خبر أنّ وفي كلتا القراءتين نائب مناب مفعولي حسب فعموا عن النظر في دلائل الحق وصموا عن سماع الآيات الإِلهية ثم تاب الله عليهم ببعثه عيسى عليه وسلم ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فاتبع ناس منهم عيسى ومحمداً عليهما السلام. و ﴿ كَثِيرٌ ﴾ بدل من الضمير في صموا أو في عمو الآن فيهم من آمن بالنبيين المذكورين. ﴿ لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ﴾ الآية تقدِّم تفسير هذه الجملة مستوفى في أول السورة. ﴿ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ ﴾ الآية رد تعالى عليهم مقالتهم بقول من يدّعون الإِلهية فيه وهو عيسى عليه السلام أنه لا فرق بينه وبينهم في أنهم كلهم مربوبون وأمرهم بإِخلاص العبادة له ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية وفي ذلك أعظم دليل عليهم في فساد دعواهم وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يرد عليهم مقالتهم وهذا الذي ذكره تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به وهو قول المسيح: يا معشر بني المعمودية. وفي رواية: يا معشر الشعوب قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم.﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾ الظاهر أنه من كلام المسيح فهو داخل تحت القول وفيه أعظم ردع منه عن عبادته إذ أخبر أنه من عبد غير الله منعه الله دار من أفرده بالعبادة وجعل مأواه النار ان الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: هو من كلام الله تعالى مستأنف أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد.﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ ظاهره أنه من كلام عيسى عليه السلام أخبرهم أنه من تجاوز وضع الشيء غير موضعه فلا ناصر له ولا مساعد فيما افترى وتقول وفي ذلك ردع لهم عما انتحلوه في حقه من دعوى أنه إله وأن ذلك ظلم إذ جعلوا ما هو مستحيل في العقل واجباً وقوعه أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقولهم عليه فلا ناصر لهم.﴿ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ هؤلاء هم الملكانية من النصارى القائلون بالتثليث. وظاهر قوله: ثالث ثلاثة، أحد آلهة ثلاثة. قال المفسرون: أرادوا بذلك أن الله وعيسى وأمه آلهة ثلاثة ويؤكده أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي الهين من دون الله ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله. وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: وجوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وأم وروح قدس، وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس تناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا أن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط اللبن بالماء وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد، وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحداً وإن الواحد لا يكون ثلاثة. ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإِضافة لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة وأجاز النصب أحمد بن يحيى ثعلب وردوه عليه.﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفاً بالوحدانية وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر الهيئة في صفة الوحدانية. وإله رفع على البدل من إله على الموضع. وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ فيجر لأنه لا يجيز زيادة من في الواجب. والتقدير وما إله في الوجود إلا إله واحد أي موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ ﴾ قبل ان قسم محذوف والأكثر مجيء اللام الموطنة لجواب القسم المحذوف كقوله تعالى:﴿ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ﴾[المنافقون: ٨]، وقد تحذف اللام فيكون التقدير لئن لم ينتهوا كما حذف في قوله:﴿ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ ﴾[الأعراف: ٢٣]، وما في قوله: عما يقولون، أي عن قولهم أو موصولة تقديره عن الذي يقولونه وحذف الضمير العائد على ما. و ﴿ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ ﴾ اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله تعالى:﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾[الأحزاب: ٦٠]،﴿ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾[الأحزاب: ٦٠].
ومعنى الذين كفروا أي الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد فأقام الظاهر مقام المضمر إذ كان الربط يحصل بقوله: وليمسنهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ ﴾، الآية والاعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغاً من ثبوتها واستقرارها لهم ومن في فهم للتبعيض أي كائناً منهم والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر بل قد تاب كثير منهم عن النصرانية. ومن أثبت أن منْ تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا.﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ هذا لطف منه سبحانه وتعالى بهم واستدعاء أبى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر والفاء في أخلا للعطف حجزت بين همزة الاستفهام ولا النافية والتقدير فأولاً، وقال ابن عطية: رفق جل وعلا بهم بتحقيقه إياهم على التوبة وطلب المغفرة. " انتهى ". وما ذكره من الحث والتحضيض على التوبة هو من حيث المعنى لا من حيث مدلول اللفظ لأن مدلول أفلا غير مداول الا التي للحض والحث.
﴿ مَّا ٱلْمَسِيحُ ﴾ الآية لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾[المائدة: ٧٢، ١١٧]، والثاني، بقوله:﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾[المائدة: ٧٣]، أثبت له الرسالة بصورة الحصر أي: ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلهاً وكونه أحد آلهة ثلاثة بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا جاء بآيات من عند الله. ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ هذا البناء من ابنيه المبالغة، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد نحو: سكير من سكر. ويجوز أن يكون بناء من صدق لقوله تعالى:﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾[التحريم: ١٢].
كما قيل في أبي بكر رضي الله عنه الصديق. ﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ﴾ هذا تنبيه على سمة الحدوث وتبعيد عن اعتقاد ما اعتقدته النصارى فيهما من الألوهية لأن من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.﴿ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي الاعلام في الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وفي ضمن ذلك الأمر لأمته بالنظر في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه. ﴿ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق لأن الأول أمر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينهما بحيث لا يقع معها لبس، والأمر الثاني هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الشد منه وهذان أمرا تعجيب. ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ثم ينظر في حال من بينت له فترى إعراضهم عن الآيات أعجب في توضيحها لأنه يلزم من تبيينها تبنُها لهم والرجوع إليهما فكونهم أفكوا عنها أعجب.﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ ﴾ الآية لما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله: وهو السميع أي لأقوالكم العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم. وفي الاخبار عنه تعالى بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه وتضمنت الآية الإِنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع أو جلب نفع. قيل ومن مرت عليه مُدَد لا يسمع فيها ولا يعلم لجدير أن لا يعبد كيف وقد تركوا عبادة القادر على الإِطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات.﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ ﴾ ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتناول من جاء بعدهم ولما سبق القول في أباطيل اليهود وثنى بأباطيل النصارى جمع الفريقان في النهر عن الغلو في الدين وانتصب غير الحق على معنى غلواً غير الحق وهو الغلو الباطل. وليس المراد هنا بالدين ما هم عليه بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام. ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى وادعاؤهم فيه أنه لغيه ومن غلو النصارى ما تقدم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة.﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ ﴾ الآية، هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي المتوسط في الدين. وتخصيص ابن عطية والزمخشري عموم أهل الكتاب بالنصارى خروج عن الظاهر وهو العموم من غير داعية إلى ذلك ويؤيد العموم قوله بعد ذلك على لسان داود وعيسى ابن مريم، داود بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى.﴿ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإِنجيل وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن ولعن مبني للمفعول حذف فاعله فيجوز أن يكون الله ويجوز أن يكون الفاعل غيره تعالى كالأنبياء. والأفصح أنه إذا فرق بين الجزأين اختير لفظ الإِفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع فلذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأت على لسانَيْ داود وعيسى ولا على ألسن داود وعيسى فلو كان المتضمنان غير مفترقين اختير لفظ الجمع على التثنية وعلى الإِفراد نحو قوله تعالى:﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾[التحريم: ٤]، والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة أي أن الناطق بلعنهم هو لسان داود وعيسى. ﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا ﴾ أي ذلك اللعن كائن بسبب عصيانهم وذكر هذا على سبيل التوكيد وإلا فقد فهم سبب ولكن بإِسنادها إلى من تعلق بهذا الوصف الدال على العلية وهو الذين كفروا كما تقول: رجم الزاني، فيعلم أن الرجم سببه الزنا، كذلك اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله: ذلك بما عصوا، وما مصدرية في قوله: بما عصوا أي بعصيانهم وكانوا يجوزان يكون معطوفاً على عضواً فيكون داخلاً في صلة ما أي بعصيانهم وكونهم ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى أن شأنهم الإِعتداد.﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ ﴾ الآية ظاهرة التفاعل بمعنى الاشتراك أي لا ينهي بعضهم بعضاً وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر فإٍِذا فعلت جهاراً وتواطؤاً على عدم الإِنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإِفشائها كثيراً. قرىء ﴿ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ الآية الظاهر عود الضمير في منهم على بني إسرائيل فقال مقاتل كثيراً منهم هم من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا تكون قرى بصرية، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب.﴿ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية، قال الزمخشري في قوله: أن سخط، أنه المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم. " انتهى ". ولا يصح هذا الإِعراب إلا على مذهب الفراء والفارس في ان ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً، وقدمت صفة للتمييز وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف والتقدير ليس الشيء شيء قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا أن سخط في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أن سخط. وقال ابن عطية: وإن سخط في موضع رفع بدل من ما. " انتهى ". ولا يصح هذا سواء كانت ما موصولة أم تامة لأن البدل يحل محل المبدل منه وإن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس لأن فاعل بئس ونعم لا يكون أن والفعل. وقيل: ان سخط في موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدمت أي قدمته، كما تقول: الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً، وقيل: على إسقاط اللام أي لأن سخط.﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ ﴾ الآية إن كان المراد بقوله: ترى كثيرا منهم، أسلافهم فالنبي داود وعيسى عليهما السلام أو معاصري الرسول فالنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم والذين كفروا عبدة الأوثان والمعنى لو كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً غير نفاق إذ موالاة الكفار دليل على النفاق. والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثير منهم وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا. وقال القفال وجهاً آخر وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذوهم هؤلاء اليهود أولياء والوجه الأول أولى لأن الحديث إنما هو عن قوله: كثيراً منهم، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافهما وجاء جواب لو حنفياً بما بغير لام وهو الأفصح ودخول اللام عليه قليل، نحو قول الشاعر: لو أن بالعلم تقضي ما تعيش به   لما ظفرت من الدنيا بتفروق﴿ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ خص الكثير بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن والمخبر عنهم أولاً هؤلاء الكثير والضمائر بعده له، وليس المعنى ولكن كثيراً من ذلك الكثير ولكنه لما طال أعيد بلفظه وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير إذ كان السياق يكون ما اتخذوهم أولياء ولكنهم فاسقون فوضع الظاهر موضع هذا الضمير.
﴿ لَتَجِدَنَّ ﴾ الآية قال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى عليه السلام آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى الله عليهم قيل: هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع. وظاهر اليهود العموم وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتو والمعاصي واستشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة فتحررت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم. وفي الحديث:" ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله "وفي وصف الله إياهم بأنهم أشد عداوة اشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق ولذلك قل إسلام اليهود، وعطف الذين أشركوا على اليهود وجعلهم تبعاً لهم في ذلك إذ كان اليهود أشد في العداوة إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة وفي الجنس، وتباين المسلمون والمشركون في الشريعة لا في الجنس إذ بينهم وشائح متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله فهم أسرع الإِيمان من كل واحد من اليهود والنصارى. واللام في لتجدن جواب قسم محذوف ومفعول تجدن الأول أشد الناس، والمراد بالناس الكفار والذين آمنوا متعلق بأشد، والمفعول الثاني اليهود وما عطف عليه، وعداوة تمييز.﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً ﴾ أي هم ألين عريكة وأقرب وداً ولم يصفهم بالود إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين وهم أمة لهم وفاء واليهود ليسوا على شيء من أخلاف النصارى بل شأنهم الخبث. وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾ إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية بل ذلك قول منهم وزعم. ﴿ ذٰلِكَ ﴾ إشارة إلى قرب المودة، وهو مبتدأ، والخبر قوله: بأن منهم أي كائن بأن منهم، واسم ان قسيسين القس بفتح القاف: تتبع الشيء، وبكسرها: رئيس النصارى، وقسيس بناء للمبالغة كشريب، وجمع بالواو والنون جمع سلامة وجمع أيضاً جمع تكسير قالوا: قساوسة. قال أمية بن أبي الصلت: لو كان منفلت كانت قساوسة يحييهم الله في أيديهم الزير. قال الفراء: هو مثل مهالبة كثرت السيئات فأبدلوا إحداهن واواً، يعني أن قياسه قساسسة وفي هذا التعليل دليل على جلالة العلم بقوله تعالى: ﴿ قِسِّيسِينَ ﴾، وأنه سبيل إلى الهداية وعلى حسن عاقبة الانقطاع والانفراد بقوله تعالى: ﴿ وَرُهْبَاناً ﴾، وإنه طريق إلى النظر في العاقبة وعلى التواضع بقوله: لا يستكبرون، وأنه سبب لتعظيم الموجد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عنده مخترع الأشياء البارىء سبحانه وتعالى.﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ ﴾ الآية تقدم قصة الحبشة وأصحابه الذين أسلموا على يد جعفر بن أبي طالب. والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهباناً فيكون عاماً، ويكونون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حين تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله:﴿ ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾[الآية: ٣٤]، وسورة طه إلى قوله:﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ﴾[الآية: ٩]، فبكى. وكذلك قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليهم يس فبكوا. والجملة من قوله: وإذا سمعوا، تحتمل الاستئناف وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر انهم.﴿ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ ﴾ هي من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع، كما قال: ففاضت دموع العين مني صبابة. إقامة للمسبب مقام السبب لأن الفيض مسبب عن الامتلاء فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدموع حتى تفيض لأن الفيض على جوانب الإِناء ناشىء عن امتلائه، قال الشاعر: وقد يملأ القطر الإِناء فيفعم   ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت يفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة. ومن في قوله: من الدمع، متعلقة بمحذوف تقديره مملوءة من الدمع. ومن في قوله: مما عرفوا للسبب بمعنى الباء متعلقة بتفيض، وما مصدرية في قوله: مما عرفوا، ومن الحق بدل من قوله: مما. ويجوز أن تكون ما موصولة تقديره من الذي عرفوه، وحذف الضمير العائد عليها، ومن الحق في موضع الحال أي مستقراً من الحق.﴿ يَقُولُونَ ﴾ جملة مستأنفة. قال ابن عطية: يقولون في موضع نصب على الحال. " انتهى ". وقال مثله أبو البقاء ولم يبيّنا ذا الحال ولا العامل فيها ولا جائز أن يكون حالا من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من يجوز تنزل الجر المضاف منزلة المضاف إليه وهو قول خطأ، وقد بينا ذلك في كتابنا وضح المسالك من تأليفنا ولا جائزان يكون حالاً من ضمير الفاعل في عرفوا لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذا الحال وفي غيرها فالأولى أن تكون مستأنفة. أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به ألسنتهم وأقرت به. وآمنا معناه أنشأنا الإِيمان بالرسول، والمعنى أنهم عرفوا الحق.﴿ مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ قال ابن عباس: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا ذلك إذ هم شهداء على سائر الأمم، كما قال تعالى:﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾[البقرة: ١٤٣].
﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ الآية هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإِيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق. والظاهر أن قولهم: ذلك هو لأنفسهم، على سبيل المكالمة معها لدفع الوسواس والهواجس إذ فراق طريق وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يشق ويصعب، وما استفهامية مبتدأ، ولنا في موضع الخبر التقدير أي شيء كائن لنا، ولا نؤمن جملة حالية التقدير غير مؤمنين، والعامل فيها هو العامل في الجار المجرور.﴿ وَنَطْمَعُ ﴾ الظاهر أنه استئناف إخبار منهم ويجوز أن يكون في موضع الحال عطفاً على قوله: لا نؤمن: فيكون في حيّز النفي لما قالوا: إشارة إلى قوله: يقولون ربنا آمنا، إلى آخر كلامهم. وتقدم فيما عرفوا من الحق فاجتمع القول والمعرفة فكان ذلك إيماناً محضاً. قال الزمخشري: والواو في ونطمع واو الحال، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاماً. " انتهى ". ما ذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقتضي العامل حالين لذي حال واحد إلا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل فالأصح أنه يجوز فيه ذلك وذو الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع المثبت ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل فتحتاج أن تقدر ونحن نطمع. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ونطمع حالاً من لا نؤمن على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين. " انتهى ". وهذا أيضاً ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل. وقال الزمخشري: وأن يكون معطوفاً على لا نؤمن على معنى وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإِسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين. " انتهى ". ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفاً على نؤمن على معنى أنه منفي كنفي نؤمن التقدير وما لنا لا نؤمن ولا نطمع، فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين الإِيمان والطمع في الدخول مع الصالحين. " انتهى ". و ﴿ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ يجوز أن يكون ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر كأنه قال جزاؤهم ونبه على الصفة الجليلة التي هي أعظم مراتب العبادة التي" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإِحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه "ويجوز أن يكون المحسنين عاماً واندرج هؤلاء فيهم. ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ ﴾ الآية اندرج فيهم اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر تعالى ما للمؤمنين ذكر ما أعد للكافرين.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية ذكروا سبب نزولها في قصة مطولة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة الدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وحب المذاكير، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتّل فبين تعالى أن الإِسلام لا رهبانية فيه. وقال عليه السلام:" أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وأنال الطيب فمن رغب عن سنتي فليس مني "وأكل النبي صلى الله عليه وسلم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلواء والعسل. والطيبات هنا: المستلذات من الحلال، ومعنى لا تحرمونها لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً.﴿ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية تقدم تفسير مثلها في قوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾[البقرة: ١٦٨] ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ وهذا تأكيد للتوصية بما أمر به وزاد تأكيداً بقوله: ﴿ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ لأن الإِيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. ﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية تقدم الكلام على تفسيرها. ومعنى عقدتم وثقتم بالقصد والنية، وقرىء عاقدتم وعقدتم. وقال أبو علي الفارسي: يحتمل أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص. " انتهى ". وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل وعقبت اللص بغير ألف. وهذا تقول فيه: عاقدت اليمين وعقدت اليمين. قال الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم. فجعله بمعنى المجرد هو الظاهر كما ذكرناه. والإِيمان: جمع يمين، واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو بصفاته. وقال الإِمام أحمد: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لا يتم الاِيمان إلا به، وفي بعض الصفات تفصيل وخلاف ذكر في كتب الفقه.﴿ فَكَفَّارَتُهُ ﴾ الضمير عائد على ما ان كانت ما موصولة إسمية وهو على حذف مضاف التقدير بحنث الذي عقدتم عليه الإِيمان، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن يقتضيه المعنى. و ﴿ مَسَاكِينَ ﴾ أعم من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو من الصنفين. والظاهر تعداد الأشخاص فلو أطعم مسكيناً واحداً للكفارة عشرة أيام لم يجز له. وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزىء. وتعرضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ما تطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر. وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر. ورأى جماعة أنه في الصنف وبه قال ابن عمر وغيره. وقال ابن عطية: الوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف. " انتهى ". وقال مالك والشافعي: مد لكل مسكين بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: نصف صاعٍ من برا وصاع من تمر. والظاهر أنه لا يجزىء إلا الإِطعام بما فيه كفاية وقتاً واحداً فإِن غداهم وعشاهم أجزأه، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي: من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء فإِن غداهم وعشاهم لم يجزه، وبه قال ابن جبير والحكم، والظاهر أنه لا يشترط الادام. وقال ابن عمر: الأوسط الخبر والتمر والزبيب وخير ما نطعم أهلينا الخبز واللحم. وعن غيره الخبز والسمن. وقال ابن سيرين: أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه الخبز مع التمر. وروي عن أبي مسعود مثله. وقال ابن حبيب: لا يجزىء الخبز قفاراً ولكن بإِدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه. والظاهر أن المراعي ما يطعم أهله الذين يختصون به آي من أوسط ما يطعم كل شخص أهله وقيل المراعى عيش البلد فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع، ومن أوسط في موضع مفعول ثان لإِطعام، والأول هو عشرة مساكين أي طعاماً من أوسط، والعائد على ما من ما تطعمون محذوف تقديره تطعمونه. وجمع أهل جمع تكسير، قالوا: أهال وجمع سلامة بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون نصباً وجراً وهو شاذ في القياس، وأهليكم هو المفعول الأول وعلامة النصب فيه الياء، والمفعول الثاني هو الضمير المقدر في تطعمونه.﴿ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ﴾ هذا معطوف على قوله: ﴿ إِطْعَامُ ﴾، والظاهر أن الكسوة هي مصدر وأن كان يستعمل لثوب الذي يستر ولما لم يذكر مقدار ما يطعم ولم يذكر مقدار الكسوة، وظاهره مطلق الكسوة، وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء، وللعلماء اختلاف كثير فيما يكسى به الفقير في الكفارة مذكور في كتب الفقه. والظاهر إطلاق الإِطعام والكسوة والرقبة، ويجزىء ما دل عليه الإِسم مما جرت به العادة. والظاهر حصول الكفارة بتحرير ما يصدق عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزىء عتق الكافر وذي العاهة، وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر، وقال مالك: لا يجزىء كافر ولا أعمى ولا أبرص ولا مجنون.﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ أحد هذه الثلاثة التي وقع فيها التخيير من الإِطعام والكسوة والتحرير فالواجب عليه صيام ثلاثة أيام. ومن لم يجد شرطية، وما بعده جملة الجزاء وقدرناه فالواجب عليه، فالهاء في عليه عائدة على من، وصيام خير. ﴿ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ ﴾ أي ذلك المذكور. واستدل بهذا الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين وقبل الحنث وفيها تنبيه على أن الكفارة قبل اليمين لا تجوز، وذهب الجمهور إلى أن التكفير لا يكون إلا بعد الحنث، فهم يقدرون محذوفاً أي إذا حلفتم وحنثتم.﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرين وتفاخروا فقال سعد: المهاجرون خير. فرماه أنصاري بلحمي جمل فغزر أنفسه. وتقدم الكلام على الخمر والميسر في البقر وذكروا حد الأنصاب في قوله:﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾[المائدة: ٣] والأزلام في قوله:﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ﴾[المائدة: ٣]، في أوائل هذه السورة.﴿ رِجْسٌ ﴾ قال الزجاج الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل. يقال: رجس الرجل يرجس رجساً إذا عمل عملاً قبيحاً. وقال ابن دريد: الرجس الشر. ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعصية والمغري بها جعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾[القصص: ١٥]، والضمير في فاجتنبوه عائد على الرجس المخبر به عن الأربعة فكان الأمر باجتنابه متناولاً لها. وقال الزمخشري: فإِن قلت: إلى م يرجع الضمير في قوله: فاجتنبوه؟ قلت: إلى المضاف المحذوف. كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما وما أشبه ذلك ولذلك قال: رجس من عمل الشيطان. " انتهى ". ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف كقوله تعالى:﴿ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾[التوبة: ٢٨].
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ الآية ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية فاما الدنيوية فإِن الخمر تُثير الشرور والحقود وتؤول بشرابها إلى التقاطع، وأما الميسر فإِن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سلبياً لها شيء له وينتهي من سوء الصنيع في ذلك إلى أن يقامر حتى على أهله وولده فيؤدي به ذلك الحال إلى أن يصير أعدى عدو ولمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهر والغلبة، وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذّّ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة والميسر إن كان غالباً به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عن ذكر الله تعالى وإن كان مغلوباً فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال إلى أن يصير غالباً لا يخطر بقلبه ذكر الله تعالى فأفرد الخمر والميسر هنا وإن كان قد جمعا مع الأنصاب والأزلام. قيل: لأن الخطاب كان للمؤمنين وإنما ذكر معهما الأنصاب والأزلام تأكيداً لقبح الخمر والميسر وتبعيداً عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصاب والأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة وعطف عليها ما هو أشد منها وهو البغضاء لأن متعلقها القلب، كذلك ذكر الله عطف عليه ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر وعن الصلاة أقوى دليل على تحريمها وعلى أن ينتهي المسلم عنها، ولذلك جاء بعد:﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل قد تلى عليكم ما فيها من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد وجعل الجملة إسمية، والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعلية. وقيل: هو استفهام تضمن معنى الأمر أي فانتهوا، ولذلك قال عمر: انتهينا يا رب.﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ ﴾ هذا أمر والأحسن أن لا يقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا طائعين دائماً حذرين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات. ﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي فإِن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام الله وليس عليه خلق الطاعة فيكم ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم، وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إذ تضمن أنّ عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول. ووصف البلاغ بالمبين اما لأنه بين في نفسه واضح. وإما لأنه مبين لكم أحكام الله.
﴿ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس: لما تزل تحريم الخمر قال قوم: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر. فنزلت. فأعلم تعالى أن الدم والجناح إنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين. والظاهر من سبب النزول أن اللفظ عام ومعناه الخصوص.﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ ثبتوا وداموا على الحالة المذكورة. ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ﴾ انتهوا في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك.﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية نزلت عام الحديبية وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنعيم فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون. وقيل: كان بعضهم أحرم وبعضهم لم يحرم فإِذا عرض صيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام. وقيل: قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه، فقيل: قتلت الصيد وأنتم محرم. فنزلت. ومناسبتها لما قبلها هو أنه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وهما حرامان وإنما أخرج بعده ما حرم من الطيبات في حال دون حال وهو الصيد وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة. والظاهر أن الخطاب بقوله: يا أيها الذين آمنوا، عام للمحل والمحرم لكن لا يتحقق الإِبتلاء إلا مع الإِحرام أو الحرم. ﴿ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ ﴾ هذا تعليل لقوله: ليبلونكم، ومعنى ليعلم ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآية فيتقي العبيد ممن لا يخافه فيقدم عليه.﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ أي فمن اعتدى بالمخالفة فصاد. وذلك إشارة إلى النهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق، وتقديره فلا تصيدوا يدل عليه قوله: ﴿ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ ﴾.
﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ قيل: في الآخرة. وقيل: في الدنيا. قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلداً ويسلب ثيابه. ﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ جملة حالية. وحرم جمع حرام، والحرام ينطلق على من كان محرماً وعلى من حل الحرم.﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم ﴾ الآية الظاهر تقييد القتل بالعمد فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسياً لإِحرامه أو رماه ظاناً أنه ليس بصيد فإِذا هو صيد أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيداً فلا جزاء عليه، وروى ذلك عن أبي عباس وابن جبير وطاووس وعطاء وسالم، وبه قال أبو ثور وداود والطبري، وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد وغيرهم. ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابه أن الخطأ بنسيان أو غيره، كالعمد والعمد أن يكون ذاكراً لإِحرامه قاصداً للقتل، وروي ذلك عن عمر وابن عباس. وقرأ الكوفيون فجزاء بالتنوين مثل بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فالواجب عليه أو اللازم له جزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل. وقرأ باقي السبعة فجزاء مثل برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فقيل: مثل كأنها مفخمة. كما تقول: مثلك يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل. وقيل: ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول وكان الأصل فعليه جزاء مثل ما قتل أي يغرم مثل ما قتل ثم أضيف إلى المفعول، ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي فجزاء بالرفع والتنوين مثل ما قتل بالنصب. ومن النعم صفة لجزاء سواء أرفع جزاء مثل أو أضيف جزاء إلى مثل أي كائن من النعم. ويجوز في وجه الإِضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في الوجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل. ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالاً من الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك لأن الذي هو من النعم هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد. والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقة والعظم والصغر وهو قول الجمهور وظاهر قوله: من النعم أنه لا يشترط سن فتجزىء الجفرة والعناق على قدر الصيد وبه قال ابو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية.﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ﴾ الآية أن يحكم به بمثل ما قتل. قال ابن وهب: من السنة أن يخيّر الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله تعالى في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة. وانتصب هدياً على الحال من الضمير في قوله: به، ومعنى بالغ الكعبة وأصلاً إِليها أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً فإِن اختار الهدى حكماً عليه بما يريانه نظيراً لما أصاب وأدنى الهدى شاة وما لم يبلغ شاة حكماً فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوماً وكذلك قال مالك. والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكم في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر رضي الله عنهما. والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم في امرأتان عدلتان.﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾ قرأ الصاحبان بالإِضافة. وزعم الزمخشري أن هذه الإِضافة مبنيّة، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مسكين، كقوله: خاتم فضة بمعنى خاتم من فضة. وليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه، والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيد جداً. وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع طعام، وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس، قال أبو علي: طعام عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة." انتهى ". وهذا لا يجوز على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في عطف البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلاً وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين. والظاهر أنه يكفي ما يسمى طعاماً وأنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين. وجوزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول، وفي الظبي ثلاثة أيام، وفي الإِبل عشرون يوماً، وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوماً، قاله ابن عباس. وقال ابن جبير: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام. والظاهر عدم تقييد الإِطعام والصوم بمكان، وبه قال جماعة من العلماء فحيثما شاء كفر بهما. وقال عطاء وغيره: الهدي والإِطعام بمكة والصوم حيث شاء.﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ الذوق معروف، فاستعير هنا لما يؤثر من غرامة أو أتعاب النفس بالصوم. والوبال: سوء عاقبة ما فعل، وهو هتكه حرمة الإِحرام بقتل الصيد. قال الزمخشري: ليذوق متعلق بقوله: فجزاء، أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق. " انتهى ". وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف فجزاء أو نون ونصب مثل وأما على قراءة من نوّن ورفع مثل فلا يجوز أن تتعلق اللام به، لأن مثل صفة لجزاء، وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة، لو قلت: أعجبني ضرب زيد الشديد عمراً، لم يجز، فإِن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك، والصواب أن يتعلق على هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق.﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف ﴾ أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم. قال الزمخشري: لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً. " انتهى ". وقال ابن زيد: عفا الله عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم. ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ قال ابن عباس: ان عاد متعمداً عالماً بإِحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه. ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ﴾ الآية، قال الكلبي: نزلت في بين مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نَضَبَ عنه الماء من السمك. فنزلت. قال الزمخشري: صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده. ومعنى أحل لكم: الانتفاع بجميع ما يصاد من البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه. " انتهى ". وتفسير وطعامه بقوله: وأن تطعموه، خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير في وطعامه عائداً على صيد البحر، والظاهر عوده على البحر فإِنه يراد به المطعوم لا الإِطعام، ويدل على ذلك ظاهر لفظ وطعامه. وقراءة ابن عباس وطعمه بضم الطاء وسكون العين تدل على أنه لا يراد به المصدر، وقد فسر قوله: وطعامه، بما يرمي به البحر ولم يصد. وفي الأثر: كلوا السمكة الطافية وهي الميتة التي طفت على وجه الماء، وقد أكل جماعة من الصحابة في سفر لهم من دابة عظيمة تسمى العنبر حسر عنها البحر، والحديث في ذلك مشهور. وانتصب متاعاً قال ابن عطية: على المصدر، والمعنى متعكم به متاعاً تنتفعون به وتأتدمون. وقال الزمخشري: متاعاً لكم مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله: ووهبنا له اسحاق ويعقوب. نافلة في باب الحال لأن قوله: متاعاً لكم، مفعول له مختص بالطعام كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً تأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيرة إلى الخضر. " انتهى ". وتخصيصه المفعول له بقوله: وطعامه، جار على مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل. وان قوله: وطعامه، هو المأكول منه، وانه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طرياً وقديداً. وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولاً له باعتبار صيد البحر وطعامه، والخطاب في لكم لحاضري البحر ومدته.﴿ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ أي المسافرين. ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ ﴾ الآية كرر تعالى تحريم الصيد على المحرم تغليظاً لحكمه. والظاهر تحريم صيد البر على المحرم من جميع الجهات صيد وأكل صيد ذلك من أجله أو من أجل غيره روي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين. وعن أبي هريرة وبعض التابعين أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذ لم يدل عليه ولم يشد. وروي عن عمر وعثمان والزبير أنه يأكل المحرم ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله. وقال آخرون: يحرم على المحرم أن يصيد فأما ان اشتراه من مالك فذبحه وأكله فلا يحرم، وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أكل المحرم الصيد جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيد، ولا دل عليه. وقال مالك والشافعي وأحمد: يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإِن صيد من أجله فلا يأكل فإِن أكل، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح: عليه الجزاء. وقال الشافعي: لا جزاء عليه. وقال الزمخشري: فإِن قلت: ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله: صيد البر؟ قلت: قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً، لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم لأنهم هم المخاطبون، فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر، فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾.
" انتهى ". وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر من قوله: صيد البر، العموم سواء صاده محرم أم حلال: وقرىء وحرّم مبنياً للفاعل صيد بالنصب وحرم بفتح الحاء والراء.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ هذا فيه تنبيه وتهديد جاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر إذ فيه يظهر جزاء من أطاع وعصى.
﴿ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإِحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع. وذكر تعظيم الكعبة بقوله:﴿ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ ﴾[المائدة: ٩٥]، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها؛ وجعل هنا بمعنى صيّر، وقيل: بمعنى بين وحكم. وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان. وقال الزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك. " انتهى ". وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود وإذا كان شرطه أن يكون جامداً لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق. إلا أن يقال: إنه لما وصف عطف البيان بقوله: الحرام، اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك. والقيام مصدر، يقال: قيام الأمر، وقوام الأمر، وكونه قياماً للناس باتساع الرزق عليهم وبامتناع الإِغارة في الحرم وبسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم وبما يقام فيها من المناسك وفضل العبادات وبأمْن من توجه إليها أذى من جرّ جريرة ولجأ إليها وببقاء الدين ما حجّت واستقبلت.﴿ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ ﴾، الحرامُ ظاهره الافراد وهو ذو الحجة لإِقامة موسم الحج فيه. وقيل: المراد به الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإِجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله، إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وشدده وكانوا لا يهجون أحداً في الشهر الحرام ولا من ساق الهدى لأن يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت لحج أو عمرة فتقلد من لحاء السمر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم.﴿ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ ﴾ الظاهر أن الإِشارة هي للمصدر المفهوم، أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياماً للناس وأمناً لهم لتعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السماوات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم. وقيل: الإِشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فتعيش أهلها معهم ولولا ذلك لماتوا جوعاً لعلمه بما في ذلك من مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض.﴿ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ ﴾ الآية هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وهذا ترجية بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعته تعالى أو تاب عن معاصيه.﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ ﴾ روى جابر" أن رجلاً قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا الطيب "فنزلت هذه الآية، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: اعلموا أن الله شديد العقاب، الآية، وأتبعها بالتكليف بقوله: ما على الرسول إلا البلاغ، ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: والله يعلم ما تبدون وما تكتمون، أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: قل لا يستوي، الآية. ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ ﴾ الآية روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال:" قال رجل: يا رسول الله مَنْ أبي؟ قال: أبوك فلان "ونزلت الآية، والسائل هو عبد الله بن حذافة. وأشياء اسم جمع كطرفاء، وعلى مذهب سيبويه أصلها شيئاً، من لفظ شيء ثم قلب فجعل لامه وهي الهمزة أولاً مكان فاء الكلمة فوزنها نفعاء وجعلت فاء الكلمة وهي الشين تلي اللام، وجعلت الياء مكان لام الكلمة وهي كانت عيناً لأن المادة هي الشين والياء والهمزة، وفي وزنها أقوال أخر ذكرت في البحر. والجملة من قوله: أن تبدلكم تسؤكم، وما عطف عليها من الشرط والجزاء في موضع الصفة لأشياء.﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ﴾ أي عن الأشياء التي نهيتكم عن السؤال عنها. ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ ﴾ ظاهره أنه يعود على الأشياء ولا يمكن لأن الأشياء التي نهوا عن السؤال عنها ليست الأشياء التي سألها القوم الذين في هذه الآية فيكون ذلك على حذف مضاف تقديره قد سأل أمثالها وكان بنوا إسرائيل يسألون على حذف مضاف تقديره قد سأل أمثالها وكان بنوا إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء هي تعنّتات وسؤالات لا تجوز، كقولهم:﴿ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾[النساء: ١٥٣].
﴿ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا ﴾ أي بتلك السؤالات كافرين.
﴿ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة منه تعالى. والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، كالنطيحة بمعنى المنطوحة وهي الناقلة إذا أنتجت خمسة أبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركبُ ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولا مرعى. والسائبة فاعلة من ساب يسبب إذا جرى على وجه الأرض، يقال: ساب الماء وسابت الحية. وقال ابن عباس: السائبة هي التي تسيّب للأصنام أي تعتق. وكان الرجل يسيب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل. والوصيلة قال ابن عباس: إنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإِن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء فإِذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها. والحافي إسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإِبل. قال ابن مسعود وابن عباس: هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمي ظهره، فيسيبونه لآلهتهم فلا يحمل عليه شيء. ومن في قوله: من بحيرة، زائدة وبحيرة مفعولة. بجعل. قال الزمخشري: معنى ما جعل ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك. " انتهى ". وقال ابن عطية: وجعل في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا هي بمعنى صيّر لعدم المفعول الثاني إنما هو بمعنى ما سنّ ولا شرع. " انتهى ". لم يذكر النحويون في معنى جعل شرع بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق، وبمعنى ألقى، وبمعنى صيّر، وبمعنى الأخذ في الفعل، فتكون من أفعال المقاربة، وذكر بعضهم أنها تجيء بمعنى سمّى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها لكنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله والانعام خلقها الله رفقاً بعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها واذهاب نعمة الله فيها.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية استدراك بعد نفي والمعنى ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب يجعلون البحيرة وما بعدها من جعل الله تعالى ذلك وعبّر بقوله الكذب عن نسبة ذلك الجعل إلى الله تعالى. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ﴾ الآية تقدم تفسيرها في البقرة. وهنا تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه أباءنا، وهناك اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا، وهنا لا يعلمون شيئاً، وهناك لا يعقلون شيئاً، والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف. قال ابن عطية: في أولو ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإِنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده نعم ولو كانوا كذلك. " انتهى ". قوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون: همزة الإِنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الإِستفهام، وقوله: كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير وأولَوْ فاعتنى بالهمزة فقدمت، كقوله:﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[الروم: ٩]، وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى. قال الزمخشري: والواو في قوله: أولو كان آباؤهم، وَاو الحال وقد دخلت عليها همزة الإِنكار والتقدير أحْسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة، جعل الزمخشري الواو في أولو واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية انها واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الجملة الأولى وتقول أنها يصح أن يقال هي واو العطف لها من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حالة داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا يدخل كقوله:" اعطوا السائل ولو جاء على فرس "" وردوا السائل ولو بظلف محرق "" واتقوا النار ولو بشق تمرة "وقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم   دون النساء ولو باتت باظهاروالمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو في الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب، فالواو عاطفة على كل حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال هي عاطفة ومن حيث أن العطف على الحال حال صح أن يقال انها واو الحال، وقد تقدم الكلام على ذلك في البحر باشبع من هذا، فالتقدير في الآية أحْسبُهم اتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو كان في الحالة التي تنتفي عن آبائهم العلم والهداية فإِنها حالة ينبغي أن لا تتبع فيها الاباء لأن ذلك حال من غلب عليه الجهل المفرط.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ قال ابن أمية الشعباني:" سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إئتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإِذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويّصة نفسك "ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف. ثم قيل: ما على الرسول إلا البلاغ إلى قوله: وإذ قيل لهم تعالوا، الآية، كان المعنى أن هؤلاء الجهال بما تقدم من المبالغة في الإِعزاز والإِنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإِن ذلك لا يضركم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله تعالى مطيعين لأوامره، وعليكم من كلم الإِعزاء، وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإِن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً. وعليكم اسم كقولك إلزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به. والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم.﴿ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي مرجع المهتدين والضالين، وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول: أنت وزيد تقومان، وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة.
﴿ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ الآية روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال:" كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما "وفي رواية" فحلفهما بعد العصر النبي صلى الله عليه وسلم ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال: فأخذوا الجام "وفيهم نزلت هذه الآية، ومناسبتها لما قبلها هو أنه لما ذكر: يا أيها الذين آمنوا، كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها، فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإِيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه. وقرأ الجمهور شهادة بالرفع بينكم بالجر، وشهادة مبتدأ، واثنان خبره على أحد تقديرين، أحدهما: أن يكون التقدير ذو شهادة بينكم اثنان. والتقدير الثاني: أن لا يحذف من الأول ويحذف من الثاني فتقدر الشهادة اثنين فيطابق المبتدأ الخبر في التقديرين إذ لو حمل على غير حذف لم يصح لأن الشهادة ليست تفسير الاثنين. وقرأ السلمي شهادة بالنصب والتنوين وقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل شهادة مفعولاً بإِضمار هذا الأمر، واثنان مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه، قال ابن جني: التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان. " انتهى ". وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا: لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى:﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ ﴾[النور: ٣٦-٣٧]، على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنياً للمفعول وذكروا في اقتياس هذه خلافاً أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كان يقال لك ما قام أحد عندك، فتقول: بلى زيد أي قام زيد، أو أجيب به استفهام كقول الشاعر: ألا هل أتى أم الحويرث مرسل   بلى خالد إن لم تعقه العوائقالتقدير أتى خالد أو يأتيها خالد، وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة، والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تتخرج على وجهين، أحدهما: أن يكون شهادة منصوباً على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر، واثنان مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان. والوجه الثاني: أن يكون أيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمر بل يكون خبر أناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلاً كقولهم: افعل وكرامة ومسرة، أي أكرمك وأسرك، أي يشهد اثنان.﴿ ذَوَا عَدْلٍ ﴾ صفة لقوله: اثنان، ومنكم صفة أخرى، ومن غيركم صفة لآخران. قال ابن عباس وغيره: أمر تعالى بإِشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإِن كان الأمر في سفر ولم تنحصر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب. وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى أن ابن عطية قال: لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن غيماً الداري وعدياً بن زياد كانا نصرانيين، وساق الحديث المذكور أولاً. وقال أبو جعفر النحاس: ناصر القول ابن عباس أن هذا القول ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول: مررت بكريم وكريم آخر، فقولك: آخر، يدل على أنه من جنس الأول. ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر، ولا مررت برجل وحمار آخر، فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: أو آخران من غيركم، أي عدلان والكفار لا يكونون عدولاً. " انتهى ". وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بتأخير آخر وجعله صفة لغير الجنس وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف والأربع واندرج آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس الأول تقول: جاءني رجل مسلم وآخر كافر، ومررت برجل قائم وآخر قاعد، واشتريت فرساً سابقاً وآخر مبطئاً. فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجز المسألة. لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر، ومررت برجل قائم وقاعد آخر، واشتريت فرساً سابقاً ومبطئاً آخر، لم يجز. وليست الآية من هذا القبيل لأن التركيب فيها جاء اثنان ذوا عدل منكم وآخران من غيركم فآخران من جنس قوله: اثنان ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك: رجلان اثنان، ولا يعتبر وصف قوله: ذوا عدل منكم، وإن كان مغايراً لقوله: من غيركم، كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك: عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران، إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بقيد وصفة وعلى ما ذكرته هو لسان العرب. قال تعالى:﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ ﴾[آل عمران: ١٣].
وأخرى تأنيث آخر. وقال زهير بن أبي سلمى: كانوا فريقين يصفون الزجاج على قعسي الكواهل في أكتافهم شمم وآخرين ترى الماذى عدتهم من نسح داود أو ما أورثت ارم. قوله: يصغون أي يميلون. والزجاج عني به الأسنة. وقعس جَمع أقعس وهو الأحدب. والشمم: الارتفاع. والماذي: الدروع اللينة الصافية وارم: أمة قديمة. التقدير كانوا فريقين فريقاً أو ناساً يصغون الزجاج ثم قال: وآخرين ترى الماذي، فآخرين من جنس قولك: فريقاً، ولم يعتبره. بوصفه وهو قوله: يصغون الزجاج، لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين في الجنس وهذا الفرق قلّ من يفهمه فضلاً عمّن يعرفه. والظاهر أن أو للتخيير، وقال به ابن عباس. فمن جعل قوله: من غيركم أي من غير عشيرتكم كان مخيراً بين أيستشهد أقاربه أو الأجانب من المسلمين. ومن زعم أن قوله: من غيركم، أي من الكفار. فاختلفوا فقيل: غيركم يعني به أهل الكتاب، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل: أهل الكتاب والمشركون وهو ظاهر قوله: من غيركم. وقيل: أو للترتيب إذا كان قوله: من غيركم، يعني به من غير أهل ملتكم فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم.﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الآية هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ إذا حضر أحدكم الموت لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت. وإنما جاء الالتفات جمعاً لأن قوله: أحدكم معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعاشكم، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت.﴿ تَحْبِسُونَهُمَا ﴾ قال الفارسي والحوقي وأبو البقاء: صنفه لآخران. واعترض بين الموصوف والصفة بالشرط وما عطف عليه وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه واستغنى عن جواب إن لما تقدّم من قوله: أو آخران من غيركم. " انتهى ". وقال الزمخشري: فإِن قلت ما موضع تحسبونهما؟ قلت: هو استئناف كلام كأنه قيل: بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فيهما. فقيل: تحسبونهما " انتهى ". وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته وإنما غيركم معناه أو عدلان آخران من غير القرابة والخطاب في ذلك لمن يلي ذلك من ولاة المسلمين وضمير المفعول عائد في قوله على آخرين من غير المؤمنين، والظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء أكانا وصيّين أم شاهدين. وظاهر قوله: من الصلاة أن الألف واللام ليسا للجنس أي من بعد صلاة. وقد قيل بهذا الظاهر وقيل: هي صلاة العصر، ورجح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف تميماً وعدياً بعدها عند المنبر.﴿ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ ﴾ الآية الظاهر تقييد حلفهما بوُجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف. ﴿ لاَ نَشْتَرِي ﴾ جواب القسم والضمير في به عائد على القسم بالله. و ﴿ ثَمَناً ﴾ على حذف مضاف تقديره مالاً ذا ثمن وفي كان ضمير يعود على من يقسم لأجله قريباً منا من حيث المعنى. ﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾ فيكون من جملة المقسم عليه، وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإِقامتها الناهي عن كتمانها. وقرأ الأعمش وابن محيصن لملائمين بإِدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام وإذا هاهنا تؤدي معنى الشرط والمعنى وإنا إن اشترينا أو كتمنا لمن الآثمين.
﴿ فَإِنْ عُثِرَ ﴾ أي فإِن اطلع بعد حلفهما. ﴿ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً ﴾ أي ذنباً بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع. ﴿ فَآخَرَانِ ﴾ أي رجلان آخران. ﴿ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ﴾ أي مقام ذينك الرجلين اللذين استحقا إثماً بما ظهر عليهما من خيانتهما في الجام يقومان مقامهما في الإِيمان أنهما يستحقان ذلك الجام ويكونان من الورثة لمال الميت الذي كان مسافراً. وقرىء استحق عليهم مبني للمفعول أي استحق عليهم أي أخذ الجام الذي كان الأولان خانا فيه وكتماه عن الورثة. وقرىء استحق مبنياً للفاعل أي استحق الأولان أخذه بخيانتها. وقرىء الأولين صفة للذين ويريد به الوارث لأنهم أوّلون باعتبار استحقاق المال والآخران المعثور على خيانتهما آخران. وقرىء الأوْليان على إضمار مبتدأ محذوف أي الآخران القائمان مقام الأولين اللذين كتما الجام تقديره هما الأوليان. ﴿ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا ﴾ أي لإِيماننا أن الجام مما نستحقه أحق من شهادة ذينك الأولين ويريد بالشهادة الإِيمان لأن الإِيمان تثبت بها الحقوق كما تثبت بالشهادة لشهادتنا جواب القسم.﴿ وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ ﴾ معطوف عليه كما جاء قسم الآخرين له جوابان لا نشتري ولا نكتم كذلك جاء هاهنا جوابان لشهادتنا وما اعتدينا. ﴿ إِنَّا إِذاً ﴾ أي إن زللنا في الشهادة واعتدينا. ﴿ لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ وهذه الآية نزلت في قضية معيّنة على ما دل عليه سبب النزول في صحيح البخاري ولم تقيد شهادة العدلين بالسفر وقيدت به شهادة آخرين من غير المسلمين بقوله تعالى:﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[المائدة: ١٠٦].
وثم محذوف تقديره ووضعتما أيديكما على جميع ما خلفه الميت ثم أديا ذلك للورثة فإِن ارتيب فيهما حلفا اليمين المذكور بعد الصلاة فإِن اطلع على خيانة منهما في شيء معيّن حلف الآخران على استحقاق ذلك وأخذاه وذكر في البحر تقادير من الإِعراب تطالع فيه. ﴿ ذٰلِكَ ﴾ الإِشارة إلى الحكم السابق. ولما كان الشاهدان لهما حالتان حالة يرتاب فيها إذا شهدا فإِذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف فإِذ ذاك لا يلتفت إلى إيمانكم وترد على شهود آخرين فيعمل بإِيمانهم، فقوبلت كل حالة بما يناسبها وكان العطف بأولانها لأخذ الشيئين والإِشارة بالفاسقين إلى من حرف الشهادة.﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية ذكر بهذا اليوم المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرف الشهادة ومن لم يتق الله تعالى. وقوله: ﴿ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ سؤال توبيخ لأمهم لتقوم الحجة عليهم وانتصاب ماذا بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أيّ إجابة أجبتم. كما تقول: ماذا يقوم زيد، تريد أي قيام يقوم.﴿ قَالُواْ ﴾ هو الناصب لقوله: يوم يجمع، والسؤال عن الإِجابة متضمن المجاب به. ونفيهم العلم عنهم بقوله: ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾ قال ابن عباس: معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا. وقرىء علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى، فيتم الكلام بالمقدر في قوله: إنك أنت، أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره. قال الزمخشري: ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص أو على النداء وهو صفة لإِسم إنّ. " انتهى ". وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وإنما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذ للكسائي.﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ إذ بدل من قوله: يوم يجمع. ﴿ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ وصف عيسى بقوله: ابن مريم. واحتمل عيسى أن يكون مضموماً ومفتوحاً في التقدير كما كانتا ظاهرتين في قولك: يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عدده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمته عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمة براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن، وما ذكر في سورة التحريم ومريم ابنة عمران إلى آخر السورة وغير ذلك. وأمر يذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه. و ﴿ أَيَّدتُّكَ ﴾ معناه قويتك، مشتقاً من الأيد وأيد وزنه فعل مضارعه يؤيد. قال الزمخشري: يكون على أفعَلتك. وقال ابن عطية: على وزن فاعلتك، ويظهر أن الأصل في القراءتين أأيدتك على وزن أفعلتك. ثم اختلف الاعلال والمعنى فيهما قويتك من الأيد. " انتهى ". ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن. وأما من قرأ أآيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإِن كان يؤايد فهو فاعل، وإن كان يؤيد فهو أفعل وأما قول ابن عطية في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك، ثم اختلف الإِعلال فلا أفهم ما أراد بذلك.﴿ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإِعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول: جاء هنا كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون طائراً. قال مكي: هو في آل عمران عائد على الطائر، وفي المادة عائد على الهيئة، قال: ويصح عكس هذا. وقال غيره: الضمير المذكر عائد على الطين، قال ابن عطية: ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة، لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطين على هيئته لا نفخ فيه ألبتة وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به. وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى. وقال الزمخشري: ولا يرجع يعني الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في فتكون." انتهى ". والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عند بل يكون قوله: عائد على الطائر، لا يريد به الطائر المضاف إليه لهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين طائراً صورته مثل صورة الطائر الحقيقي فتفنخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإِذن الله ويكون قوله: عائد على الهيئة، لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها، ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير فتنفخ فيها أي في الهيئة الموصوف بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى.﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ ﴾ أي تحيي الموتى. فعبّر بالإِخراج عن الإِحياء كقوله تعالى:﴿ كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ ﴾[ق: ١١]، بعد قوله:﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾[ق: ١١]، أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء. ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ ﴾ أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه. ﴿ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى عليه السلام دون أمّه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمة فخص بالذكر أعظم النعمتين ولأن جميع ما وصف به عيسى هو فخر لأمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم. وقال الشاعر: شهد العوالم أنها لنجيبة   بدليل ما ولدت من النجباء.﴿ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ قرىء ساحر بالألف هنا وفي هود، والصق، فهذا إشارة إلى عيسى. وقرىء سحر فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات. ويجوز أن يكون قوله: هذا، إشارة إلى عيسى. ويكون قوله: سحر، أي ذو سحر فيكون على حذف مضاف أو جعلوا عيسى سحراً على سبيل المبالغة.
﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ ﴾ الظاهر أن الوحي على ألسنة الرسل والرسول هنا هو عيسى عليه السلام وهذا الإِيحاء هو إلى الحواريين هو من نعم الله تعالى على عيسى بأن جعل له أتباعاً يصدّقونه ويعملون بما جاء به.﴿ أَنْ آمِنُواْ ﴾ أن تفسيرية بمعنى أي، ويجوز أن تكون مصدرية أي بالإِيمان. ﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ أي بك وبرسولك. و ﴿ مُسْلِمُونَ ﴾ أي منقادون لأمرك.﴿ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ ﴾ ظاهر اللفظ أن قوله تعالى:﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ﴾[المائدة: ١١٠]، إلى آخر قصة المائدة، كان ذلك في الدنيا ذكر تعالى عيسى بنعمته وبما أجراه على يده من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون وغيرهم ثم استطرد إلى قصة المائدة إعلاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما صدر من الحواريين في قصة المائدة بعد إقرارهم بالإِيمان بالله وبعيسى عليه السلام إذ في سؤال المائدة بعض تعنت من الحواريين، وفي قولهم: السلام إذ في سؤال المائدة بعض تعنت من الحواريين، وفي قولهم: يا عيسى ابن مريم سوء أدب، إذ لم يقولوا: يا روح الله، أو يا رسول الله. وفي قولهم: هل يستطيع ربك سوء أدب، وقرأ الجمهور: هل يستطيع ربك بالياء وربك بالرفع. وقرأ الكسائي: هل تستطيع بالتاء، وربك بالنصب وهو على حذف مضاف تقديره سؤال ربك، فالمعنى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل، وهذه القراءة أحسن من المحاورة من قراءة الجمهور.﴿ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ والمائدة الخوان الذي عليه طعام فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة. ﴿ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ فيه إنكار عليهم. واقتراح هذه الآية وبشاعة اللفظ في قولهم: هل يستطيع ربك، بعد قولهم: امنا بك وبرسولك، ويدل على اضطرابهم الآية التي تأتي بعدها. روي أن عيسى عليه السلام لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو. والآية قولهم: ﴿ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾ أي مما على المائدة. ﴿ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ وإن هذه هي المخففة من الثقيلة تقديره أنك قد صدقتنا.﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ قال الزمخشري: عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال. " انتهى ". وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوباً إلا إذا كان كوناً مطلقاً لا كوناً مقيداً والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر، وقد ذكرنا أنه ليس بجيد. ثم ان قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر، وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كوناً مطلقاً واجب الحذف فظهر التنافي بينهما والله أعلم. ثم أن عيسى عليه السلام دعا الله تعالى باسمه العلم الذي لا شركة فيه وهو: اللهم، وربنا، أي مصلحنا ومالك أمرنا.﴿ تَكُونُ لَنَا عِيداً ﴾ المعنى تكون يوم نزولها عيداً. قيل: وهو يوم الأحد، ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيداً، والعيد السرور والفرح، ولذلك يقال: يوم عيد، والمعنى أن تكون لنا سروراً وفرحاً، والعيد المجتمع للقوم المشهور وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه.﴿ لأَوَّلِنَا ﴾ لأهل زماننا. ﴿ وَآخِرِنَا ﴾ من يجيء بعدنا. ولأولنا بدل من ضمير المتكلم في قوله: لنا، وأعيد فيه حرف الجر وجاز ذلك لأن معنى قوله: لأوّلنا وآخرنا، كلنا. كقولك: مررت بكم صغيركم وكبيركم، أي كلكم. وضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما إلا بتوكيد نحو: قمت أنا نفسي قمت، وأنت نفسك، إلا أن كان البدل يفيد معنى التوكيد فيجوز كهذه الآية.﴿ وَآيَةً مِّنْكَ ﴾ أي علامة شاهدة على صدق عبدك. ﴿ وَٱرْزُقْنَا ﴾ عام في طلب الرزق من المائدة وغيرها. ﴿ قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ الآية اختلفوا في كيفية نزولها، وفيما كان عليها، وعدد من أكل منها، وفيما آل إليه حال من أكل منها اختلافاً مضطرباً معارضاً ذكره المفسرون واضربت عنه صفحاً إذ ليس فيه شيء يدل عليه لفظ الآية وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير "﴿ فَمَن يَكْفُرْ ﴾ جملة شرطية جوابها فأنى أعذبه الآية. قال الحسن ومجاهد: لما سمعوا هذا الشرط أشفقوا فلم تنزل.﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ﴾ الآية، قال ابن عباس وقتادة والجمهور: هذا القول إنما هو من عند الله يوم القيامة يقول له على رؤوس الأشهاد فيعلم الكفار أن ما كانوا فيه باطل فيكون هذا من تمام قوله: اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك المقول في الآخرة، وفصل بينهما بآية المائدة تنبيهاً على ما صدر من بني إسرائيل وإن كانوا أظهروا الإِيمان بالله وبعيسى عليه السلام لينبه المؤمنين على أن سؤال الاقتراح ينبغي أن يتحرز منه وكثيراً اقترح بنوا إسرائيل ما لا يجوز كقولهم:﴿ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾[الأعراف: ١٣٨]، وكقولهم:﴿ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾[النساء: ١٥٣]، وفي إيلاء الاستفهام الاسم ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة. أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عن بيان ذلك انك تقول: أضربت زيداً، فهذا الاستفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا، ولا اشعار فيه بأن ضرب زيد وقع فإِذا أفلت أنت ضربت زيداً، كان الضرب قد وقع بزيد لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب وهذه مسألة بيانية نحوية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش. وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بآلهية مريم فكيف قيل: إلهن، وأجابوا بأنهم لما قالوا: لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً لزمهم أن يقولوا من حيث البعضية بإِلهية من ولدته فصاروا بمثابة من قاله. " انتهى ". والظاهر صدور القول في الوجود لا من عيسى عليه السلام ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ.﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ أي تنزيهاً لك عن أن يقال هذا وينطق به أو أن يكون لك شريك بدأ أولاً بتنزيه الله تعالى. ثم ثانياً بإِنكار ذلك القول بقوله: ﴿ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾.
ثم ثالثاً بقوله: ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ علق مستحيلاً على مستحيل وهو نفيه علمه تعالى بذلك القول فانتفى ذلك القول. ثم رابعاً بإِحاطة علمه تعالى بما في نفس عيسى عليه السلام بقوله: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾.
وقوله: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ من باب المقابلة، ولا يقال أن لله نفساً وإن كان قد جاء قوله تعالى:﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾[آل عمران: ٢٨] قالوا: معناه: عقابه. ونظيره في المقابلة قوله تعالى:﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ٥٤].
﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ ﴾ أخبر أنه لم يتعد أمر الله تعالى في أن أمر بعبادته وأقر بربوبيته. وفي قوله: ربي وربكم، براءته مما ادعوه فيه. قال الحوفي وابن عطية: وان في أن اعبدوا مفسرة لا موضع لها من الإِعراب ويصح أن يكون بدلاً، وما ويصح أن تكون بدلاً من الضمير في به، وزاد ابن عطية أنه يصح أن تكون في موضع خفض على تقدير بأن اعبدوا وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء، والرفع على إضمار هو، والنصب على إضمار أعني أو بدلاً من موضع به. وقال أبو عبد الله الرازي: كان الأصل أن يقال ما أمرتني به، إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب. قال الحسن: إنما عدل لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معاً، ودل على أن الأصل ما ذكر أن المفسرة. " انتهى ". وقال الزمخشري: أن في قوله: أن اعبدوا الله، إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر، والمفسر اما فعل القول واما فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له، اما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن توسط بينهما حرف التفسير لا نقول ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله، ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله، وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله تعالى فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم لأن الله تعالى لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم يخل من أن تكون بدلاً من ما أمرتني به أو من الهاء في به، وكلاهما غير مستقيم، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه، ولا يقال ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا يقال، وكذلك إذا جعلته بدلاً من الهاء لأنك لو أقمت أن اعبدوا الله مقام الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله، لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. فإِن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يحمل فعل القول على معناه لأن معنى ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم، ويجوز أن تكون موصولة عطفاً على بيان الهاء لا بدلاً. " انتهى ". وفيه بعض تعقب. أما قوله: وأما فعل الأمر إلى آخر المنع، وقوله: لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم، فإِنما لم يستقم لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر ويستقيم فعل الأمر أن يكون مفسراً بقوله: اعبدوا الله ويكون ربي وربكم من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني، أي أعني ربي وربكم، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده. وأما قوله: لأن العبادة لا تقال، فصحيح لكن ذلك يصح على حذف مضاف أي ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله أي القول المتضمن عبادة الله، وأما قوله: لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته، فلا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه ألا ترى إلى تجويز النحويين زيد مررت به أبي عبد الله. ولو قلت: مررت بأبي عبد الله لم يحز ذلك إلا على رأي الأخفش. وأما قوله: عطفاً على بيان للهاء، فهذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الاعلام، وما اختاره الزمخشري وجوزه من كون أن مفسرة لا يصح لأنها جاءت بعد الا وكل ما كان بعد إلا المستثنى بها فلا بد أن يكون له موضع من الإِعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإِعراب ويظهر لي أن تكون أن مفسرة لفعل محذوف يدل على معنى القول وتقديره أمرتهم أن اعبدوا الله، ويدل على هذا الفعل قوله: ما أمرتني، وإذا أمره الله بشيء فلا بد أن يأمر به عباده، والذي صدر من عيسى عليه السلام في غير موضع أمره بعبادة الله تعالى. ومنه وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، وقال: إن الله ربي وربكم فاعبدوه، ولو ذهب ذاهب إلى أنّ انْ زائدة لمجرد التوكيد، وإن قوله: اعبدوا الله ربي وربكم، من قوله: ما أمرتني به، لكان وجهاً حسناً سائغاً، وصار التقدير إلا ما أمرتني به اعبدوا الله ربي وربكم.﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾ أي رقيباً كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من قول ذلك أن يتدينوا به وأتى بصيغة فعيل للمبالغة كثير الحفظ عليهم والملازمة لهم، وما ظرفية، ودام تامة أي ما بقيت فيهم أي شهيداً في الدنيا.﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ﴾ هي وفاة رفعه عليه السلام إلى السماء لا وفاة الموت ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ﴾[النساء: ١٥٧-١٥٨].
وتظافرت الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل، وقال تعالى:﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾[النساء: ١٥٩]، به أي بعيسى قبل موته أي الموتة الحقيقية.﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ الآية قال أهل السنة: مقصود عيسى عليه السلام تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله: فإِنك أنت العزيز الحكيم، أي قادر على كل ما تريد حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض عليك. ﴿ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ قرأ الجمهور: هذا يوم، بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية يقال: وهو في موضع المفعول به لقال. وقرأ نافع: هذا يوم بفتح الميم فخرجه الكوفيون على أنه مبني خبراً لهذا ويبنى لإِضافته إلى الجملة الفعلية المصدرة بالمضارع فتتحد القراءتان والبصريون لا يجيزون بناء الظرف إلا إذا كانت الجملة مصدرة بالفعل الماضي نحو: عجبت من يوم قدم زيد، وهذه المسألة ذكرت في علم النحو.﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ هذا كأنه جواب سائل سأل ما لهم جزاء على الصدق فقيل: لهم جنات. ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ إشارة إلى تأييد الديمومة في الجنة.﴿ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأييد وإلى رضوان الله عنهم، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله تعالى. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يطلع الله على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا. فيقول الله عز وجل: ولكم عندي أفضل من ذلك. فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول الله عز وجل: عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها أبداً "وقال أبو عبد الله الرازي: مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فيشرع العبد في العبودية وينتهي إلى الفناء المحصن عن نفسه بالكلية، فالأول هو الشريعة وهو البداية، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية، فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء الله وجلاله وقهره وعزته وعلوه وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتم. " انتهى ". وليست الحقيقة والشريعة والتمييز بينهما من ألفاظ الصحابة والتابعين وإنما ذلك من ألفاظ الصوفية ولهم في ذلك كلام طويل.
Icon