تفسير سورة الطور

القطان
تفسير سورة سورة الطور من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

الطور: هو طور سيناء، والطور في اللغة: الجبلُ، وفناء الدار، وجبلٌ قرب العقبة يضاف الى سيناء وسينين، وجبلٌ بالقدس عن يمين المسجد، وجبلٌ مطلّ على طبرية. «القاموس». ويقال لجميع بلاد الشام الطور. «معجم البلدان». كتاب مسطور: كل كتاب نزل من عند الله، مسطور: مكتوب بسطور منتظمة. ورَقٍّ منشور: الرق بفتح الراء: جلدٌ رقيق يكتب فيه. منشور: مفتوح للناس. البيت المعمور: الكعبة المعمورة بالحجّاج والطائفين. والسقف المرفوع: السماء وما فيها من عجائب. والبحر المسْجور: المملوء، يقال: سجر النهر ملأه، والمسجور: البحر الذي ماؤه اكثر منه «القاموس». تمور: تضطرب وترتج. في خوضٍ يلعبون: الذي يلْهون بالباطل، وأصل الخوض: السيرُ في الماء، ثم غلبَ على الخوض في الباطل. يدعّون: يدفعون دفعا عنيفا. اصلَوها: ذوقوا حرها.
اقسم الله تعالى بخمسة مقدَّسات في الأرض والسماء، بعضُها مكشوفٌ معلوم وبعضُها مغيَّب مجهول، بطورِ سيناء الذي كلّم الله عليه موسى، وبالكتُب المنزلة من عنده (وعبر عنها بكتابِ، بالإفراد، لأنها وحدةٌ واحدة تدعو الى نهجٍ واحد) في صحفٍ ميسّرة للقراءة، وبالبيت المعمور بالعبادةِ ليلَ نهار، وبالسماء وما فيها من عجائب الكون، وبالبحر المملوء بالمخلوقات.
اقسم الله تعالى بهذه المقدسات أن عذابه لا بدّ أن يقع بالكافرين لا يستطيع أحدٌ دفعه عنهم، وذلك يوم القيامة، يوم تضطربُ السماء اضطراباً شديداً بما فيها، وتسير الجبال سيراً شديداً وتمرُّ مر السحاب. ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ اعداءِ الله الذين يخوضون في الباطل ويتخذون الدينَ لَهواً ولعبا. ففي ذلك اليوم يُدفعون الى النار دفعاً شديدا ويقال لهم: ﴿هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ فادخلوها وقاسوا حَرَّها وعذابها. وسواء عليكم أصبرتم ام لم تصبروا، فليس لكم منها مَهرب، وأنتم تلاقون اليوم ذلك الجزاء الذي كنتم توعَدون به على أعمالكم السيئة في الدنيا.
فاكهين: نفوسُهم طيبة متمتعين بما أعطاهم الله من نعيم الجنة. وقاهم: حفظهم. وزوّجناهم بحورٍ عين: الحور: نساء الجنة. وما ألَتناهم من عملهم: ما أنقصناهم. رهين: مرعون بعمله عند الله. يتنازعون: يتعطَون ويتجاذبون. لا لغو فيها ولا تأثيم: ان خمر الجنة لا تذهبُ بعقل الشارب، فيلغو ويأثمُ في كلامه. غلمان: مماليك مختصون بهم. مكنون: مصون. مشفِقين: خائفين. السّموم: النار. البر: الواسع الاحسان.
بعد ان بيّن ما يصيب الكافرين الكذّابين من العذاب، ذكَر هنا بالمقابل ما أعدّ الله للمؤمنين وما يتمتعون به في جنّات النعيم من مختلِفِ أنواع الملذّات في المسكَن والمأكل والأزواج هم وذريّاتهم الطيبة، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم، وكل انسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح. ويُنعم الله عليهم بأنواع الفاكهة واللّحم ومما يشتهون، ويجلسون على الأسرّة يتجاذبون أطراف الاحاديث، ويشربون من شراب الجنة ﴿كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ﴾ فيها شرابٌ لا يَعْبَث بالعقل، ولا يدع شاربها يتكلم باللغو او الباطل. ويقوم على خدمتهم غلمانٌ غاية في الحسن والجمال ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ من حيث الصفاء والبياض وحُسن الرونق.
ثم يُقبل بعضهم على بعض يتساءلون ويتحدّثون في أخبار الدنيا وما مرّ عليهم، ويقولون: كنا في دار الدنيا خائفين من عذاب الآخرة، ﴿فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم﴾، اذ تفضّل برحمته لنا، ووقانا عذاب النار.
﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم﴾
انا كنّا نعبده في الدنيا، ونسأله ان يمنَّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجابَ لنا وأعطانا مآلنا، انه هو المُحسِن الواسعُ الرحمة والفضلز
قراءات:
قرأ ابو عمرو: واتبعناهم ذرياتهم بدمع ذريات. وقرأ ابن عامر ويعقوب: واتبعتهم ذرياتهم بالجمع. والباقون: واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع.
الكاهن: الذي يوهم الناسَ أنه يعلم الغيب عن طريق اتصاله بالجنّ. نتربص: ننتظر. المنون: المنية، والدهر. ريب المنون: حوادثُ الدهر وصروفه. أحلامهم: عقولهم. قومٌ طاغون: ظالمون تجاوزوا حد المكابرة والعناد. تقوّله: اختلقه من عند نفسه. من غير شيء: من غير خالق. خزائن ربك: خزائن رزقه. المصيطرون: بالصاد وبالسين: القاهرون، المسلَّطون، سيطر عليه: تسلط عليه. بسلطان مبين: بحجة واضحة. من مَغرم مثقلون: من غرامة ثقيلة عليهم. كيداً: شراً. مَكيدون: يحيق بهم الشر ويعود عليهم وباله. كسفا: جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. مركوم: متراكم بعضه فوق بعض.
يأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يداوم على التذكير والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد المشركون، فما أنت ايها الرسول، بفضل ما أنعم الله به عليك من النبو ورجاحة العقل بكاهن، ولا بمجنون كما يزعمون، ولا انت شاعرٌ كما يقولون حتى يتربّصوا بك حوادثَ الدهر ونكباته.
﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾
قل لهم ايها الرسول: انتظِروا، فإني معكم من المنتظرين.
ثم سفّه أحلامَهم بقوله تعالى: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ؟﴾
هل تأمرهم عقولهم بهذا القول المتناقِض، فالكاهنُ والشاعر من أهلِ الفطنة والعقل والذكاء، والمجنونُ لا عقل له، فكيف بكون شاعراً أو مجنوناً!؟، بل الحقّ أنهم قومٌ طاغون، يفتَرون الأقاويل دون دليل عليها.
ثم زادوا في الإنكار ونسَبوا الى النبيِّ الكريم أنه اختلق القرآن من عنده، بل هم بمكابرتهم لا يؤمنون. فإن صحَّ ما يقولون فليأْتوا بحديثٍ مثل القرآن، ان كانوا صادقين في قولهم ان محمداً اختلقه.
ثم انتقل الكتابُ الى الردّ عليهم في إنكارهم وجودَ الخالق كما هو شأن الدهريين فقال: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون؟﴾
هل خُلقوا من غير إله، ام هم الّذين خلَقوا أنفسَهم، فلا يعترفون بخالقٍ يعبدونه.
وهل هم الذين خلَقوا السمواتِ والأرضَ على هذا الصنع البديع؟ بل حقيقةُ أمرهم أنهم لا يوقنون بما يقولون.
وهل عندهم خزائنُ ربّك يتصرفون بها، ﴿أَمْ هُمُ المسيطرون﴾ القادرون المدبِّرون للأمور كما يشاؤون. الحقيقة ان الأمرَ ليس كذلك، بل اللهُ هو المالكُ المتصرف الفعال لما يريد.
قراءات: قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي المسيطرون بالسين. والباقون بالصاد. يقال: سيطر وصيطر.
روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال: سمعتُ النبي ﷺ يقرأ في صلاة المغرِب بالطّور، فلما بلغ قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون؟ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المسيطرون﴾ قال: كادَ قلبي يطير، وأثّرت فيه هذه الآياتُ وكان ذلك من أسباب دخوله الاسلام.
276
وكان جبير من الذين وفَدوا على النبي الكريم بعد وقعةِ بدرٍ في فداء أسرى قريش.
فاذا كانت أقوالُهم هذه غيرَ صحيحة فهل يدَّعون انهم ارتقوا بمصعَدٍ إلى السماء وسمعوا شيئاً من الله؟
﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾
فليأتِ الذي استمع شيئاً بحجّة واضحةٍ تصدِّق دعواه.
ثم رد على الذين قالوا ان الملائكة بناتُ الله، وسفّه احلامهم، اذ اختاروا له البناتِ ولأنفسِهم البنينَ فقال: ﴿أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون﴾ كما تشاؤون وتحبّون؟ ولماذا يكذِّبون رسول الله؟ هل طلبَ منهم أجرة باهظة تُثقل كواهلهم ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ ؟ أم عندَهم عِلم الغيب، فهم يكتبون منه ما يشاؤن؟ بل يريد هؤلاء المشركون بقولهم هذا وافترائهم كيداً في رسول الله وفي الناس. فإن كان هذا ما يريدون فكيدُهم راجعٌ إليهم ووبالُه على أنفسهم. ام لهم الهٌ يعبدونه غير الله يمنعهم من عذاب الله؟ ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾.
ان هؤلاء القوم معانِدون مكابرون، فحتى لو رأَوا بعضَ ما سألوه من الآيات، فعاينوا بعضَ السماءِ ساقطاً لكذّبوا وقالوا: هذا سحابٌ بعضُه فوق بعض. وذلك لن الله ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارَهم.
277
يُصعقون: يهلكون. دون ذلك: غيره. بأعيُننا: في حِفظنا ورعايتنا. إدبار النجوم، بكسر الهمزة: وقتُ مغيبها.
يتّجه الخطاب هنا الى الرسول الكريم تسليةً له بأن يدعَ هؤلاء الكفار وشأنهم حتى يلاقوا يومَهم الذي يهلكون فيه.. لا تكترثُ تكذيبم وعنادهم، فإن لهم يوما لا يجدون فيه من يدافع عنهم أو ينصرهم. بل ان لِلذين ظلموا انفسهم بالكفر، مثل هؤلاء، عذاباً آخر قبل يوم القيامة، ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾. فاصبر يا محمد لحكم ربك بإمهالهم، وعلى ما يلحقُك من أذاهم، فإنك في حِفظِنا ورعايتنا فلا يضرّك كيدهم، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ في الليل، وسبِّحه حين تغيبُ النجوم، واذكر الله في جميع الحالات والأوقات، آناءَ الليل وأطرافَ النهار.
Icon