تفسير سورة التكوير

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ التَّكْوِيرِ
مكية، وهي سبع وعشرون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَمْسُ كُوِّرَتْ (١) روى الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - قال: " من سرّه أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ (إِذَا الشَمْسُ كُوِّرَتْ) و (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطرت) و (إذَا السَّمَاءُ انْشَقت) ". والتكوير من كورت العمامة إذا لففتها، والمراد: إذهاب ضوئها أو عينها؛ لأن الثوب إذا أريد دفعه لفّ
وطوي. أو من طعنه فكوّره أي: ألقاها لما روى " أنَّ الشمس والقمر يكوران في جهنّم "؛ لقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) انتثرت؛ لقوله: (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) وقيل: أظلمت من كدّرت الماء فانكدر، وهو تفسير باللازم. (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) عن وجه الأرض تمرّ مرَّ السحاب.
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) أهملت. جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ويبقى هذا الاسم بعد حملها أيضاً؛ ولذلك فسِّر تعطيلها بعدم الحلب وقيل: هى السحاب عطّلت عن المطر.
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) من كلّ أوْبٍ كما يحشر الإنس والجن.
(وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) ملئت بأن يفجر بعضها إلى بعضٍ حتى تصير بحراً واحداً، أو أحْمِيَت، من سجّرت التنور. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أوقدت فصارت نيراناً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " سجِرت " مخفّفاً، والتشديد أبلغ وأوفق بقوله: (زِدْنَاهُم سَعِيرًا).
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) كل نفس بشكلها في الموقف الأنبياء ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الأمثل فالأمثل، أو زوجت بأعمالها. وقيل: نفوس المؤمنين بالحور والكفار بالشياطين.
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) الوأد: دفن الحي في القبر. والغرض من سؤالها تبكيت الوائد على فعله. وليس في الآية دليل على أنَّها في الجنة، ولكن دلت الأحاديث على أنَّ أطفالَ المشركين في الجنة، فهي من باب الأولى، فإن قلت: روى سلمة بن يزيد أنه سأل رسول اللَّه - ﷺ - أن أمه قد وأدت أختاً له في الجاهلية فقال: " الْوَائِدَةُ وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ ". قلت: مُعاَرِضاً بِماَ رَوَتْ خنساء بنت معاوية أنَّ عمّها أخبرها أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - قال: " الْمَوْءُودَةُ في الجنة "، ويحمل قوله: " الْمَوْءُودَةُ في النار " على أن تلك المعينة كانت بالغة فإنهم كانوا يدفنون إذا صار قامتها ستة أشبار.
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) عند الحساب فإنَّها تطوى بعد الموت. وقيل: هي غير صحف الأعمال بل صحف تطير من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في الجنة، وصحيفة الكافر في يده في النار. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي؛ (نشِّرت) مشدداً؛ لكثرة الصحف، أو لشدة التطاير.
(وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) كما يكشط الجلد من المسلوخ (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) أوقدت إيقاداً شديداً. وقرأ نافع وابن ذكوان وحفص بتشديد العين، والأبلغية فيه كما في سجِّرت.
(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) قرّبت من المؤمنين كقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) هذه اثنتا عشر خصلة ستٌّ منها في الدنيا، وستٌّ في الآخرة.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤) جواب (إِذَا الشَمْسُ كُوِّرَتْ) وما عطف عليه، وهو العامل فيها. والمعنى: علمت كلّ نفس؛ لقوله. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ)، وإنما نكّره؛ لأن الكلام صادر عن مقام الكبرياء إشارة إلى أن من يكَوِّرُ يعتبر هذه الأجرام العظام فعله يستقلّ النفوس الإنسانية في جنب قدرته، فهي كنفس واحدة.
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) هي الكواكب؛ لأنَّها تخنس أي: تتأخر في المغيب، أو تختفي، ومنه سمي الشيطان خناساً؛ لأنه يتأخر إذا ذكر اللَّه. وقيل: هي السيّارة دون الثوابت. وقال الفراء: " هي الخمسة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ".
(الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) التي تكنس أي: تستتر، من كنس الظبي: دخل في كناسه، وقيل. تظهر بالليل بعد الخنس بالنهار.
(وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) أدبر؛ لقول العجاج:
حتى إذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسا وانْجابَ عَنْها لَيْلُها وَعَسْعَسا
وقيل: أقبل، وهو من الأضداد. وكلا المعنين حسن.
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) النهار بغشيان الليل يصير كالمكروب، فجعل تخلصه منه بانكشاف الليل عنه كتنفس المكروب بعد زوال الكرب، أو جعل نسيم الصباح؛ لاشتماله على الروح كالتنفس المفرج عن القلب.
(إِنَّهُ... (١٩) أي: القرآن. (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) عند اللَّه، وهو جبرائيل. وكون القرآن قوله؛ لملابسة التبليغ.
(ذِي قُوَّةٍ... (٢٠) أي: قوة كقوله: (شَدِيدُ الْقُوَى) (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) ذي مكانة وعزٍّ.
(مُطَاعٍ... (٢١) بين الملأ الأعلى والكروبيين. (ثَمَّ أَمِينٍ) أي: عند اللَّه موصوف بالأمانة على وحي اللَّه وتنفيذ أوامره.
(وَمَا صَاحِبُكُمْ... (٢٢) أي: رسول اللَّه - ﷺ -. (بِمَجْنُونٍ) كما تزعمون. [وليس الكلام مسوقاً للموازنة والمفاضلة بين جبرائيل ورسول اللَّه عليهما السلام حتى يستدل بتلك الأوصاف الفاضلة على أفضليته على المرسل إليه، بل مسوق؛ لبيان حقية المنزل. ولا شكّ أنَّ وصف الآتي به بتلك الصفات الكوامل يشد من أعضاده أبلغ شد، ألا يرى إلى مقام الحث على اتباعه كيف جعله سراجاً منيراً ورحمة للعالمين].
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) بمطلع الشمس الأعلى. (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ... (٢٤) أي: محمد في إخباره عن المغيبات. (بِضَنِينٍ) بمتهم؛ ولذلك تعدى إلى مفعول واحد، أي: ولا يتهم فيما يوحى إليه بنقص أو زيادة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: بالضاد وعليه الرسم، أي. ليس ببخيل في تبليغ ما أوحي إليه. والأول أوفق بقوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) وقوله. (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ونظائرها.
(وَمَا هُوَ... (٢٥) أي: القرآن. (بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) مطرود، تصريح بما علم ضمناً ونفي للكهانة والتنجيم، ولتقابل به (رَسُولٍ كَرِيمٍ).
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) شبه عقولهم عن الحق واتباعه بالعدول عن الجادة والذهاب عنها إلى المهالك من الفيافي والمفاوز.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ... (٢٧) موعظة. (لِلْعَالَمِينَ) من الثقلين. (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) بدل من (الْعَالَمِينَ)؛ لأنهم المنتفعون بالتذكير.
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... (٢٩) مشيئتكم، حذف؛ لدلالة الفعل عليه. (رَبُّ الْعَالَمِينَ) مالكهم والمتصرف فيه، فلا يكون شيء إلا بإرادته ومقتضى مشيئته.
* * *
تمت سورة التكوير، والحمد للواحد الخبير، والصلاة على البشير النذير، وآله وصحبه كل صغير وكبير.
* * *
Icon