تفسير سورة التين

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة التين من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن عباس - رضي الله عنهما - قال: هم نفر رُدوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله - ﷺ - فسُئل عنهم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله سبحانه عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)﴾؛ أي: أقسم بالتين، وبالزيتون على خلق الإنسان في أحسن تقويم، هما ثمران معلومان أقسم الله بهما لما فيهما من المنافع الكثيرة، والمصالح للعباد، وخصهما (١) من بين الثمار بالإقسام؛ لاختصاصهما بخواص جليلة، فإن التين فاكهة طيبة لا فضل له، وغذاء لطيف سريع الهضم، ودواء كثير النفع، يليِّن الطبع، ويحلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح سدد الكبد والطحال.
وروى أبو ذر - رضي الله عنه - أنه أُهدي للنبي - ﷺ - سل من تين فأكل منه، وقال لأصحابه: "كلوا التين، فإنه يقطع البواسير"، وعن بعضهم: التين يزيل نكهة الفم، ويطول الشعر، وهو أمان من الفالج، وأما كونه دواء، فلأنه سبب لإخراج فضلات البدن، وهو مأكول الظاهر والباطن دون غيره، كالجوز والتمر، والتين في النوم رجل غير جبار، ومن نالها في المنام نال مالًا، ومن أكلها منامًا رزقه الله تعالى أولادًا، وتستر آدم بورق التين حين فارق الجنة.
(١) روح البيان.
125
قال في "خريدة العجائب": إذا نُثر رماد خشب التين في البساتين.. هلك منه الدود، ودخان التين يهرب منه البق والبعوض. انتهى. وفي "القسطلاني على البخاري": في تفسير سورة التين ما نصه: التين فاكهة طيبة لا فضل له، وغذاء لطيف سريع الهضم، وفيه دواء كثير النفع؛ لأنه يلين الطبع، ويحلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل رمل المثانة، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويسمن البدن، ويقطع البواسير، وينفع من النقرس، ويشبه فواكه الجنة؛ لأنه بلا عجم، ولا يمكث في المعدة، ويخرج بطريق الرشح. انتهى.
قال الشهاب: ورمل المثانة بفتح الراء وسكون الميم، والمثانة مقر البول، ودملها مرض يستولي عليها، فيحجز البول عن الخروج بأجزاء دقيقة كالرمل يعسر معها البول، ويتأذى به الإنسان، فإن زاد صار حصاة انتهى.
وأما الزيتون: فهو فاكهة من وجه، ودواء من وجه، ويستصبح به، ومن رأى ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى اهـ. "رازي"، وقال بعضهم: الزيتون فاكهة، وإدام، ودواء، ولو لم يكن سوى اختصاصه بدهن كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهنية فيها كالجبال.. لكفى به فضلًا، وشجرته هي الشجرة المباركة المشهورة في التنزيل، ومر معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيبًا واستاك به، وقال: سمعت النبي - ﷺ - يقول: "نعم سواك الزيتون، وهو سواكي وسواك الأنبياء من قبلي"، وشجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة.
ومن خواصّها (١): أنها تصبر عن الماء طويلًا كالنخل، وإذا لقط ثمرتها جنب فسدت، وألقت حملها وانتثر ورقها، وينبغي أن تُغرس في المدر لكثرة الغبار؛ لأن الغبار كلما علا على زيتونها.. زاد دسمه ونضجه، ورماد ورقها ينفع العين كحلًا، ويقوم مقام التوتيا في نفع العين، وفي الحديث؛ "عليكم بالزيت، فإنه يكشف المرة، ويذهب البلغم، ويشد العصب، ويمنع الغشي، ويحسن الخلق، ويطيب النفس، ويذهب الهم".
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: التين مسجد نوح عليه السلام الذي بُنِي
(١) روح البيان.
126
على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال الضحاك: ﴿وَالتِّينِ﴾: المسجد الحرام، و ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾: المسجد الأقصى، وقال ابن زيد: و ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾: مسجد بيت المقدس، وقال قتادة: ﴿وَالتِّينِ﴾: الجبل الذي عليه دمشق، و ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾: الجبل الذي عليه بيت المقدس، وقال محمد بن كعب: ﴿وَالتِّين﴾ مسجد أصحاب الكهف، ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾: إلياء، وقال كعب الأحبار وقتادة أيضًا، وعكرمة وابن زيد أيضًا: ﴿وَالتِّينِ﴾: دمشق، و ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾: بيت المقدس، وهذا اختيار الطبري، قال الشوكاني (١): وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى الحقيقي المبنية على الخيالات التي لا ترجع إلى عقل، ولا إلى نقل؟ وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخِر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية، وقال الفراء: سمعت رجلًا من أهل الشام يقول ﴿وَالتِّينِ﴾: جبال ما بين حلوان إلى همدان، و ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾: جبال الشام، وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما: طور تينا، وطور زيتا بالسريانية، سميا بذلك؛ لأنهما ينبتان بهما اهـ "قرطبي"، وقيل: إنه على حذف مضاف؛ أي: وأقسم بمنابت التين والزيتون، قال النحاس: لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يحوز خلافة.
وعبارة "المراغي" هنا: ﴿وَالتِّينِ﴾ أي: أقسم (٢) بعصر آدم أبي البشر الأول، وهو العهد الذي طلق فيه آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة. ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾؛أي: وأقسم بالزيتون عصر نوح عليه السلام وذريته حينما أهلك الله من أهلك بالطوفان، وبعد أن بلغت الأرض الماء جاءته بعض الطيور حاملة ورقة من هذا الشجر فاستبشر، وعلم أن غضب الله قد سكت، وأذن للأرض أن تبتلع ماءها لتُعمر، ويسكنها الناس، ثم أرسى السفينة ونزل هو وأولاده، وعمروا الأرض.
وقصارى ذلك: أن التين والزيتون يذكران بهذين العصرين عصر آدم أبى البشر الأول، وعصر نوح أبي البشر الثاني. انتهى.
٢ - ﴿وَطُورِ سِينِينَ (٢)﴾؛ أي: وأقسم بجبل طور سينين، وهو (٣) الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه عزّ وجل، قال الماوردي: ليس كل جبل يقال له طور
(١) فتح القدير.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
إلا أن يكون فيه الأشجار والثمار، وإلا فهو جبل فقط، وسينين وسيناء عَلَمان للموضع الذي هو فيه، ولذلك أضيف إليهما، ومعنى ﴿سِينِينَ﴾: بالسريانية ذو الشجر، من حسن مبارك بلغة الحبشة، وقال مجاهد والكلبي: ﴿سِينِينَ﴾: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النبط، قال الأخفش: ﴿وَالتِّينِ﴾ جبل، و ﴿سِينِينَ﴾: شجر، واحدته: سينينة، وهو غريب جدًّا غير معروف عند أهل الصرف، قال أبو علي الفارسي: ﴿سِينِينَ﴾: فعليل، فكررت اللام التي هي نون فيه، ولم ينصرف ﴿سِينِينَ﴾ كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جُعل اسمًا للبقعة.
وفي "كشف الأسرار": أصل ﴿سِينِينَ﴾ سيناء بفتح السين وكسرها، وإنما قال هنا: ﴿سينين﴾؛ لأن تاج الآيات النون، كما قال في سورة الصافات: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠)﴾، وهو إلياس، فخُرّج على تاج آيات السورة، وإنما أقسم سبحانه بهذا الجبل؛ لأنه بالشام وهي الأرض المقدسة، كما في قوله: ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ وأعظم بركة حلت به ووقعت عليه تكليم الله سبحانه لموسى عليه السلام، وقرأ الجمهور: ﴿سِينِينَ﴾ بكسر السين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء بفتحها، وهي لغة بكر وتميم، وقال الزمخشري: ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء وتحريك النون بحركات الإعراب. انتهى.
وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والحسن وطلحة: ﴿سيناء﴾ بكسر السين والمد، وعمر أيضًا وزيد بن علي: بفتحها، والمد وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب.
والإقسام (١) به تذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه، وما كان بعد ذلك من إنزال التوراة عليه، وظهور نور التوحيد بعد أن تدنست جوانب الأرض بالوثنية، وما زال الأنبياء بعده يدعون أقوامهم إلى التمسك بهذه الشريعة، ثم عرضت لها البدع، فجاء عيسى مخلصًا لها مما أصابها،
٣ - ثم أصاب قومه ما أصاب الأمم قبلهم من الاختلاف في الدين حتى من الله على الناس بعهد النور المحمدي، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)﴾؛
(١) المراغي.
أي: وأقسم بهذا البلد الأمين الذي شرّفه الله تعالى بميلاد رسوله محمد - ﷺ - فيه، وكرَّمه بالبيت الحرام، وهو مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، ومعنى ﴿الْأَمِينِ﴾؛ أي: الآمن، فالأمين مبالغة آمن؛ أي: آمن من فيه، ومن دخله، وكل ما فيه من طير وحيوان وشجر جاهليه وإسلامًا، مِن قتلٍ وسبي واصطياد وقطع، كما يحفظ الأمين ما ائتُمن عليه، من أَمُن الرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين، ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول؛ أي: بمعنى المأمون فيه على الحذف والإيصال من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل والعاهات، كما وُصف بالأمن في قوله تعالى: ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ بمعنى ذي أمن، وفي الحديث: "من مات في أحد الحرمين بُعث يوم القيامة آمنًا" وفيه مقال.
وحكمة القسم بهذه الأشياء (١): الإبانة عن شرف البقاع المباركة، وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين، فمنبت التين والزيتون: مهاجر إبراهيم ومولد عيسى، ومَنْشَؤُهما عليهما السلام، والطُور: المكان الذي نودي فيه موسى عليه السلام، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين، ومولد رسول الله - ﷺ - ومبعثه.
وخلاصة ما سلف: أن الله سبحانة أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز في تاريخ البشر، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور،
٤ - ثم ذكر المقسم عليه، فقال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: جنس الإنسان؛ لأن المراد بالإنسان الماهية من حيث هي الشاملة للمؤمن والكافر. ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وتعديل؛ أي: في أحسن صورة (٢)، فجعلناه مديد القامة حسن البزة، يتناول بيده ما يريد، لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه، إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات، وله من الحول والطول ما يستمد إلى كل شيء. لكن قد غفل عما ميز به وظن نفسه كسائر المخلوقات، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل ولا ترضى عنه الفطرة، وانطلق يتزود من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأعرض عن النظر فيما ينفعه في معاده، وما يرضي به ربه، وما يوصله إلى
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
129
النعيم المقيم ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾ وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾ إلى آخر السورة؛ أي: خلقنا جنس الإنسان حال (١) كونه كائنًا في أحسن تقويم وتعديل، وقال الواحدي: قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكبًا على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده، ومعنى التقويم: التعديل، يقال: قام إذا انتصب، وقام الأمر اعتدل، كما ستقام، وقومته، عدلته، كما في "القاموس"، والتقويم (٢): تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف والتعديل، وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة، فإنه حَكَى أنَّ مَلِك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة، فقال لها: إن لم تكوني أحسن من القمر، فأنت كذا، فأفتى كل العلماء بالحنث إلا يحيى بن أكثم قال: لا يحنث، فقالوا: خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم، ولقد أفتى من هو أعلم منا، وهو الله تعالى قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)﴾ فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، وسيأتي قريبًا بسط هذه القصة.
وفي "المفردات": هو إشارة إلى ما خص به الإنسان من بين الحيوان من العقل والفهم، وانتصاب القامة الدال على استيلائه على كل ما في هذا العالم، والمعنى: ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾: كائنًا في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورة ومعنى، حيث يراه تعالى مستوي القامة، متناسب الأعضاء، حسن الشكل، كما قال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾؛ أي: صوركم أحسن تصوير. قال (٣) ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيًا عالمًا قادرًا مريدًا متكلمًا سميعًا بصيرًا مدبرًا حكيمًا، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله - ﷺ -: "إن الله خلق آدم على صورته"؛ أي: على صفاته التي ذكرناها هنا. قلت: وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وقوله: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ وعليه يدور معنى قوله - ﷺ -: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" فإن الإنسان مظهر الجلال والجمال والكمال.
وحاصل ما في هذا المقام: أنه سبحانه وتعالى أقسم بالأمور الأربعة السابقة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
130
على أنه خلق الإنسان، وقوَّمه أفضل تقويم، وركبه أحسن تركيب، وجعله في أحسن اعتدال، وأفضل قوام، وقطره أحسن فطرة نفسًا وبدنًا، وكرمه بالعقل الذي ساد به العوالم الأرضية، وأطلعه به على ما شاء الله سبحانه من العوالم السماوية حتى أوصله بحكمته تعالى وأمره إلى القمر، وجعله يطير في الفضاء، ويحلق في الأجواء، ويغوص في الماء، ويفعل العجائب والغرائب، كل ذلك بفضله تعالى، وفضل هذا العقل الذي ركبه فيه، وهو عجيب من عجائب خلق الله تعالى.
قصة وفتوى
ذكر أنه كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبًا جمًا، وقد خرج معها يومًا في ليلة مقمرة، فقال لها: أنت طالق ثلاثًا إن لم تكوني أحسن من هذا القمر، فنهضت المرأة واحتجبت عنه، وقالت: لقد طلقتني، وبات زوجها بليلة كئيبة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى الخليفة المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعًا عظيمًا، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلقت إلا رجلًا واحدًا من أصحاب أبي حنيفة، وهو القاضي يحيى بن أكثم، فإنه كان ساكتًا، فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال: الرجل لم يطلق، ولم يحنث في يمينه، فقيل له خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم، ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى، فإنه يقول عز من قائل عليم: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)﴾ يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك، وأرسل إلى زوجة الرجل أن أطيعي زوجك، ولا تعصيه، فما طلقك. ذكرها "القرطبي" و"الرازي" وغيرهما.
وهذا الفهم لهذه الآية مما يدل على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنًا وظاهرًا جمال هيئة وبديع تركيب، قامته منتصبة، وصورته حسنة، وخواص الكائنات فيه مستجمعة، وقواه الباطنة تامة، وحواسه كافية، وأعضاء بطنه وعمله بما يحتاج إليه قائمة، ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالَم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه، وفي هذا الإنسان قال الشاعر:
أَتَحْسَبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيْرُ وَفِيْكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأَكْبَرُ
٥ - ﴿ثُمَّ﴾ بعدما خلقناه في أحسن تقويم وتعديل، ﴿رَدَدْنَاهُ﴾ أي رددنا الإنسان
131
المذكور وصيرناه وجعلناه ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾؛ أي: أسفل من سفل في خلقه وصورته، وأضعف من ضعف في قوته وحيلته ورأيه؛ أي: جعلناه أضعف الضعفاء في القوة والعقل، فينقص عمله وأجره، بأن رددناه إلى أرذل العمر وأخسه، وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوة حتى يصير كالصبي، فيخرف وينقص عقله، كذا قال جماعة من المفسرين.
قال الواحدي: والسافلون: هم الضعفاء والزمناء والأطفال، والشيخ الكبير يكون أسفل من هؤلاء. وقيل المعنى: ثم رددنا ذلك الإنسان بعدما خلقناه في أحسن تقويم، وجعلناه بسبب سوء فعاله واعتقاده أسفل سافلين؛ أي: جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل؛ لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها.. لكان في أعلى عليين، فالضمير راجع إلى الإنسان بالنظر إلى بعض أفراده على هذا المعنى، ففيه استخدام كما سيأتي في مبحثه.
والحاصل: أنه حُوِّل بسوء حاله من أحسن تقويم إلى أقبح تقويم صورة ومعنى؛ لأن مسخ الظاهر إنما هو من مسخ الباطن، فالمراد بـ ﴿السافلين﴾: عصاة المؤمنين، وأفعل التفضيل هنا يتناول المتعدد المتفاوت، و ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾؛ إما حال من المفعول؛ أي: رددنا ذلك الكافر إلى النار حال كونه أسفل السافلين في دركات النار، أو صفة لمكان محذوف؛ أي: رددناه إلى مكان هو أسفل أمكنة السافلين، والأول أظهر، ثم هذا بحسب بعض الأفراد الإنسانية وهو الكافر؛ لانغماسهم في بحر الشهوات الحيوانية البهيمية، وانهماكهم في ظلمات اللذات الجسمانية الشيطانية والسبعية، وفيه إشارة إلى أن الاعتبار إنما هو بالصورة الباطنة، لا بالصورة الظاهرة، فكم من مصور على أحسن الصور في الظاهر، وهو في الباطن على أقبح الهيئات، ولذا يجيء الناس يوم القيامة أفواجًا، فإن صفاتهم الباطنة تظهر على صورهم الظاهرة، فتتنوع صورهم بحسب صفاتهم على أنواع، وقال مجاهد وأبو العالية والحسن: المعنى: ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض، فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل. وقيل في معنى الآية: لما وصف الله الإنسان
132
بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها.. طغى وعلا، حتى قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، واعترض على الخالق عز وجل.
قال الشاعر:
إِذَا طَغَى الْعَقْلُ عَلَى رَبِّهِ فَإنَّمَا الْعَقْلُ هُوَ الْجَهْلُ
يَعْتَرِضُ الْعَقْلُ عَلَى صَانِعٍ مِنْ بَعْضِ مَصْنُوْعَاتِهِ الْعَقْلُ
إِنْ بَانَ فَضْلُ الْعَقْلِ في صُنْعِهِ فَصَانِعُ الْعَقْلِ لَهُ الْفَضْلُ
وحين علم الله سبحانه هذا من عبده وهو العلم بكل شيء، وقضاؤه صادر من عنده.. رده أسفل سافلين بأن جعله مملوءًا حَذرًا، مشحونًا نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجًا منكرًا على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغلبة أخرى، حتى إذا شاهد ذلك من أمره رجع إلى قدره، ذكره القرطبي في "تفسيره".
وذكر الطنطاوي في "تفسيره": ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾: إما برده إلى أرذل العمر، فتنكَّس خَلْقه، وتقوس ظهره بعد اعتداله، وتبيض شعره بعد اسوداده، وتغير جلده بالانكماش، وسمعه وبصره بالضعف، ويمشي دلفًا وهو ضعيف القوة، خافت الصوت، إما بضعف قواه العقلية بالخرف وقت الهرم، وإما بأن نحول بينه وبين قلبه، فيعتقد اعتقادًا يضر في دنياه وآخرته، فندخله جهنم.
وخلاصة ما ذكر في الآية: أي ثم رددناه بعد ذلك الكمال الجسماني والعقلي أسفل من سفلوا بتشويه صورة من عقل من دخول جهنم ذليلًا. انتهى. قال في "عين المعاني" (١): ولم تدخل لام الجنس في ﴿سَافِلِينَ﴾ كما ورد في مصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -؛ لأنه عني أسفل الخرفين خاصة دون كل الناس من أهل الزمانة، وفي "كشف الأسرار": السافلون هم الضعفاء من المرضى والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعًا. انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ مُنَكَّرًا، وقرأ عبد الله: ﴿أسفل السافلين﴾ معَرَّفًا بالألف واللام،
٦ - وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانًا صادقًا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ المأمور بها، والمأجور عليها، استثناء منقطع على المعنى الأول، فالمعنى: لكن
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
133
الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يخرفون ولا يهرمون، ولا تذهب عقولهم، ووجه كون الاستثناء منقطعًا: أن الهرم والرد إلى أرذل العمر، يصاب به المؤمن، كما يصاب به الكافر، فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى، وعلى المعنى الثاني يكون الاستثناء متصلًا من ضمير ﴿رَدَدْنَاهُ﴾، فإنه في معنى الجمع؛ أي: رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قال القرطبي: والاستثناء على قول من قال: ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ الهرم منقطع، وعلى قول من قال: إنه النار فهو متصل. انتهى.
﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: غير منقوص ولا مقطوع، بل أجرهم موصول، ورزقهم موفور من رب كريم عظيم يعطي الجزيل؛ أي: فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم، وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق، والقيام بالعبادة على ضعف نهوضهم، ويجوز أن يكون المعنى: غير ممنون عليهم؛ أي: لا يمن به عليهم، ومن كمال صفات الثواب أن يكون موصولًا غير مقطوع، وأن لا يكون منغصًا بالمنة والتعالي بإظهار الفضل على من صدر الفضل إليهم.
فهذه الجملة على المعنى الأول مبينة لكيفية حال المؤمنين (١)، وعلى المعنى الثاني مقررة لما يفيده الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد إلى النار، وقال: ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع، ولو قال: أسفل سافل.. لجاز؛ لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد، وقيل معنى قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾ رددناه إلى الضلال، كما قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾؛ أي: إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك.
وعبارة "الخازن" هنا: وعلى القول الأول (٢): يكون الاستثناء منقطعًا، والمعنى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾: فزال عقله وانقطع عمله، فلا تُكتب له حسنة، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضعف، فإنه يُكتب لهم بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملونه في حالة الشباب والصحة.
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
134
وقال ابن عباس: هم نفر ردوا إلى أرذل العمر في زمن النبي - ﷺ -، فأنزل الله عذرهم، وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم، فعلى هذا القول السبب خاص، وحكمه عام، قال عكرمة: ما يضر هذا الشيخ كِبَرُه إذا ختم الله له عمله بأحسن ما كان يعمل، ورُوي عن ابن عباس: إلا الذين قرؤوا القرآن، وقال: من قرأ القرآن لم يُرد إلى أرذل العمر، وقال أبو الليث: ﴿إِلَّا الَّذِينَ...﴾ إلخ يعني: لا يخرف ولا يذهب عقل من كان عالمًا عاملًا، وفي الحديث: "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله"، والفاء (١) في قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ﴾ في دار الكرامة؛ لأنها المحل، له رابطة على القول الأول؛ لتضمن الموصول معنى الشرط، وتعليلية على القول الثاني؛ أي: لا يغير صورهم في النار؛ لأنهم مثابون في الجنة، وفي "التيسير" عن رسول الله - ﷺ -: إن العبد إذا مرض من سافر.. كُتب له مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا، أخرجه البخاري وأحمد وغيرهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكذا رُوي في الهرم، وفي "تفسير أبي الليث" رُوي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "إن المؤمن إذا مات صعد الملكان إلى السماء، فيقولان: إن عبدك فلانًا قد مات، فائذن لنا حتى نعبدك على السماء، فيقول الله سبحانه: إن سمواتي مملوءة بملائكتي، ولكن اذهبا إلى قبره واكتبا حسناته إلى يوم القيامة".
٧ - ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ﴾ يا محمد، من يا أيها الإنسان خطابًا على طريق الالتفات ﴿بَعْدُ﴾؛ أي: بعد هذه الحجة القاطعة، والبرهان الساطع، و ﴿بَعْدُ﴾ مبني على الضم؛ لحذف المضاف إليه ونيته، والاستفهام للتقريع والتوبيخ وإلزام الحجة إن كان الخطاب للإنسان، وللتعجب إن كان الخطاب للرسول - ﷺ - ﴿بِالدِّينِ﴾؛ أي: بالحساب والجزاء، والمعنى: على أن الخطاب (٢) للإنسان؛ أي: إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؛ أي: فما الذي يلجئك (٣) إلى هذا الكذب ألا تتفكر في صورتك وشبابك ومبدأ خلقك وهرمك، فتعتبر وتقول: إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني؛ أي: فأي شيء يجعلك أيها الإنسان مكذبًا بالدين والجزاء منكرًا له بعد هذا الدليل.
(١) روح البيان بتصرف.
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
وحاصله: أن خلق الإنسان من نطفة قذرة وتقويمه بشرًا سويًا، وتحويله من حال إلى حال كمالًا ونقصانًا، أوضح دليل على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء؛ فأي شيء يضطرك بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبًا بسبب تكذيبه أيها الإنسان، والمعنى: على أن الخطاب لمحمد - ﷺ -؛ أي: فمن يكذبك أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل والبراهين على البعث والجزاء؛ أي: فمن ينسبك إلى الكذب بسبب إثباتك الجزاء وإخبارك عن البعث بعد ظهور الأدلة الدالة على كمال القدرة، فإن مَن خلق الإنسان السوي من الماء المهين، وجعل ظاهره وباطنه على أحسن تقويم، ودرجه في مراتب الزيادة إلى أن استكمل واستوى، ثم نكسه إلى أن يبلغ إلى أرذل العمر، لا شك أنه قادر على البعث والجزاء، فكأنه قال: من يقدر على تكذيبك في إثبات الثواب والعقاب بعدما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر، فـ ﴿ما﴾ بمعنى: من، كما في "الجمل"، واختار هذا المعنى الآخر ابن جرير، و ﴿الدين﴾ (١): الجزاء، ومنه قول الشاعر:
دِنَّا تَمِيْمًا كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا دَانَتْ أَوَائِلُهُمْ مِنْ سَالِفِ الزَّمَنِ
وقال الآخر:
وَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوْا
٨ - ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ﴾ الذي فعل ما فعل مما ذكرنا ﴿بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾؛ أي: بأتقن (٢) المتقنين صنعًا وتدبيرًا في كل ما خلق، حتى تتوهم أيها الإنسان عدم الإعادة والجزاء، وفيه وعيد شديد للكفار، أي: أليس ذلك بأبلغ إتقانًا للأمور من كل متقن لها؛ إذ الحاكم هو المتقين للأمور، ويلزمه كونه تام القدرة كامل العلم، وحيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين، تعين الإعادة والجزاء؛ أي: بل هو سبحانه أتقن المتقنين صنعًا في كل ما خلق؛ لأن الاستفهام تقريري، أو المعنى: أليس الله بأقضى القاضين يحكم بينك وبين من يكذبك بالحق والعدل، يقال: حكم بينهم إذا قضى، والاستفهام فيه تقريري؛ لأن نفي النفي إثبات، كما تقدم في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
136
لَكَ}، والآية وعيد للمكذبين له - ﷺ -، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله؛ أي: بل هو سبحانه أعدل القاضين وأنفذهم وأصحهم قضاء بين خلقه نافذ الحكم ولا بد، بخلاف قضاء غيره من القضاة.
وأخرج (١) الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا: من قرأ ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)﴾ فقرأ ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾ فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعًا: "إذا قرأت ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)﴾، فقرأت ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾، فقل: بلى".
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾ قال: سبحانك اللهم فبلى، وظاهر الحديثين وأثر ابن عباس - رضي الله عنهما - يدل على أنه يأتي قارئها بهذه الكلمات، سواء كان في الصلاة من خارجًا عنها، كما عليه الشافعية خلافًا لمن خصه بخارج الصلاة، كالحنفية.
خاتمة: قال في "فتح الرحمن": قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، إن فسر (٢) بالرد إلى جهنم، فهو سفل حقيقي، والاستثناء بعده متصل، وعليه فقوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ قائم مقام قوله: فلا نردهم أسفل سافلين، من بالرد إلى أسفل العمر، فهو تسفل في الرتب والأوصاف بالنسبة إلى رتب الشباب وأوصافه. والاستثناء بعده منقطع، وعليه فقوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، أي: غير مقطوع بالهرم والضعف.
والمعنى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال شبابهم وقوتهم إذا عجزوا بالهرم عن العمل.. كتب لهم ثواب ما كانوا يعملون إلى وقت موتهم. انتهى.
الإعراب
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦)﴾.
(١) الشوكاني.
(٢) فتح الرحمن.
137
﴿وَالتِّينِ﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿وَالتِّينِ﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالتين، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾: معطوف على ﴿وَالتِّينِ﴾. ﴿وَطُورِ﴾: معطوف على ﴿وَالتِّينِ﴾، وهو الجبل، وهو مضاف. ﴿سِينِينَ﴾: مضاف إليه من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعناه: البقعة المباركة مجرور بالفتحة الظاهرة على النون نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف بعلتين فرعيتين، وهما العلمية والعُجمة؛ لأنه لفظ سرياني عُرِّب، فهو جار مجرى حين في إعرابه بالحركات الظاهرة، ويجوز أن يعرب إعراب جمع المذكر السالم بالواو رفعًا، وبالياء جرًا ونصبًا. ﴿وَهَذَا﴾: في محل الجر معطوف على ﴿وَالتِّينِ﴾. ﴿الْبَلَدِ﴾: بدل من اسم الإشارة. ﴿الْأَمِينِ﴾. صفة لـ ﴿الْبَلَدِ﴾. ﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي أَحْسَن﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿الْإِنْسَانَ﴾. ﴿أَحْسَنِ﴾: مضاف. ﴿تَقْوِيمٍ﴾: مضاف إليه. و ﴿أَحْسَنِ﴾: صفة لموصوف محذوف؛ أي: في تقويم أحسن تقويم، ويجوز أن تكون ﴿فِي﴾ زائدة؛ أي: قومناه أحسن تقويم اهـ "سمين". ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ. ﴿رَدَدْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به أول معطوف على ﴿خَلَقْنَا﴾. ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾: مفعول ثان لرد؛ لأنه بمعنى: رجع، فينصب مفعولين، نظير قول الشاعر:
فَرَدَّ شُعُوْرَهُنَّ السُّوْدَ بِيْضًا وَرَدَّ شُعُوْرَهُنَّ الْبِيْضَ سُوْدَا
أو حال من المفعول في ﴿رَدَدْنَاهُ﴾، أو صفة لمكان محذوف؛ أي: مكانًا أسفل سافلين، فهو ظرف مكان. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب على الاستثناء المتصل إن فسرنا الرد بالرد إلى جهنم، أو على الاستثناء المنقطع إن فسرنا الرد بالرد إلى الهرم، وعلى هذا تكون ﴿إِلَّا﴾ بمعنى لكن. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، خبره جملة قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، والجملة الابتدائية جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ معطوفة على ﴿آمَنُوا﴾ داخلة في حيز الصلة. ﴿فَلَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية على أن الاستثناء متصل، ﴿لهم﴾: خبر مقدم. ﴿أَجْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: صفة لـ ﴿أَجْرٌ﴾، والجملة الاسمية جملة تعليلية لا محل لها
138
من الإعراب مسوقة لتعليل الاستثناء؛ لأن الفاء بعد الاستثناء المتصل؛ للتعليل غالبًا، ورابطة الخبر بالمبتدأ على أن الاستثناء منقطع لما في الموصول من معنى الشرط الذي هو الإبهام.
﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾.
﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أسفل سافلين، وأردت بيان ما هو النصيحة لك.. فأقول لك: ما يكذبك؛ أي: ما يحملك على أن تذكب بالبعث والجزاء على أن الخطاب للإنسان. أو إذا عرفت يا محمد ما بينا لك من دلائل قدرتنا على البعث والجزاء، وأوردت أن تطمئن قلبك على ما بينا لك.. فأقول لك على أن الخطاب لمحمد - ﷺ -، ﴿ما﴾: اسم استفهام للاستفهام التقريري المضمَّن للإنكار على أن الخطاب للإنسان، أو للاستفهام التعجبي بمعنى: من، على أن الخطاب للرسول - ﷺ - في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا ﴿يُكَذِّبُكَ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدَّرة مستأنفة. ﴿بَعْدُ﴾: في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الضم؛ لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا؛ لحذف المضاف إليه، ونية معناه؛ أي: بعد هذه العبر والعظات، الظرف متعلق بـ ﴿يُكَذِّبُكَ﴾. ﴿بِالدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿يُكَذِّبُكَ﴾ أيضًا. ﴿أَلَيْسَ﴾: ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام التقريري، ﴿ليس﴾: فعل ماض ناقص. ﴿اللَّهُ﴾: اسمها. ﴿بِأَحْكَمِ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة في خبر ﴿ليس﴾. ﴿أحكمِ﴾: خبرها مجرور لفظًا منصوب محلًا. ﴿الْحَاكِمِينَ﴾: مضاف إليه مجرور بالياء.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢)﴾ والتين - بكسر التاء - ثمر شجر ورطبه النضيج، أحمد الفاكهة وأكثرها غذاء، وأقلها نفخًا، جاذب محلل، مفتح سدد الكبد والطحال، مليَّن، والإكثار منه مقمل، وجبل بالشام ومسجد بها، وجبل لغطفان واسم دمشق، والتينة بالكسر الدُّبُرُ، والتينان - بالكسر - جبلان لبني نعامة
139
والذئب، وتينات فرضة على بحر الشام اهـ من "القاموس".
والزيتون ثمر شجرة مباركة فيه إدام ودهن يؤكل ويستصبح به، وشجرته في أغلب البلاد، ولا يحتاج إلى خدمة وتربية، ويمكث في الأرض ألوفًا من السنين، كما مر.
﴿وَطُورِ سِينِينَ (٢)﴾ والطور: جبل كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام، وهو جبل عظيم فيه عيون وأشجار. إن قلت: كيف ذلك مع قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ المقتضي أنه دك ولم يبق له أثر؛ أجيب: بأنه متسع والذي دك قطعة منه، ومعنى ﴿سِينِينَ﴾: المبارك، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، ومعناه: الجبل المبارك؛ لكونه مباركًا مشرفًا بتكليم موسى ربه عليه، وسينين يجوز أن يُعرب بالحركات الثلاث على النون، مع لزومه الياء في أحواله كلها، ويكون ممنوعًا من الصرف للعلمية والعجمة؛ لأنه عَلَم على البقعة، أو الأرض، وأن يعرب كجمع المذكر السالم بالواو رفعًا، وبالياء نصبًا وجرًا.
﴿الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ والبلد والبلدة مكة، شرّفها الله تعالى، وكل قطعة من الأرض معمورًا بالسكنى، والبلد أيضًا: القبر والدار، يجمع على بلاد وبلدان.
﴿الْأَمِينِ﴾؛ أي: الآمن فعيل بمعنى: فاعل، يقال: أَمُن الرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين، وأمانة مكة أنها تحفظ من دخلها جاهلية واسلامًا مِن قتلٍ وسبي، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول بمعنى: المأمون فيه على الحذف والإيصال من أمنه إذا جعله مأمونًا مما يخاف؛ لأنها مأمونة الغوائل والعاهات والحروب.
﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾؛ أي: في أعدل قامة وأحسن صورة، يتناول مأكوله بيده، مزينًا بالعلم والفهم والعقل، والتمييز والنطق والأدب، يقال: قام إذا انتصب، وقام الأمر إذا اعتدل، كاستقام، وقوَّمته تقويمًا عدلته، كما في "القاموس"، والتقويم: تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف والتعديل.
﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ و ﴿أَسْفَلَ﴾ هنا: اسم تفضيل، يتناول المتعدد المتفاوت، والسافلون هم إما الصغار والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير هو أسفل من هؤلاء؛ لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلًا؛ لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله وثقله على
140
أهله وجيرانه، وعلى هذا المعنى، فالاستثناء الآتي منقطع، والمعنى حينئذ، ثم رددناه أسفل سافلين، فزال عقله، وانقطع عمله، فلا يُكتب له حسنة، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضعف، فإنه يكتب له بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملونه في حال الشباب والصحة، وإما عصاة المؤمنين، فيكون الاستثناء على هذا متصلًا، والمعنى: رددناه أسفل ممن سفل خلقًا وتركيبًا حسًا ومعنًى، وهو أهل النار إلا الذين آمنوا الخ، فيكون بمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: غير مقطوع، بل متصل دائم، مِن مَنَّهُ مَنًّا إذا قطعه قطعًا، أو غير ممنون به عليهم، فإن المنة تكدّر النعمة، مِنْ مَنَّ عليه مِنَّة، والأول هو الظاهر، ولعل المراد من الثاني: تحقيق الأجر وإثباته، وأن المأجور استحق الأجر بعمله إطاعة لربه، وإن كان ذلك الاستحقاق من فضل الله تعالى.
﴿بِالدِّينِ﴾ والدين: الجزاء بعد البعث، كما مر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)﴾ بإطلاق الحال وإرادة المحل على القول بأنه أراد موضعهما، وهو دمشق وبيت المقدس على ما رجحه ابن جرير.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ من إسناد ما للشيء إلى مكانه؛ لأن الأمن إنما يكون لمن فيه.
ومنها: الطباق بين ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وبين ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾.
ومنها: الاستخدام في قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ﴾ حيث ذكر الإنسان أولًا بمعنى وهو الجنس، ثم أعاد الضمير عليه بمعنى آخر وهو الإنسان بمعنى بعض أفراده، والاستخدام عند البديعيين: ذكر الشيء بمعنى، وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر، كما هنا.
141
ومنها: الاستفهام التقريعي أو التعجبي في قوله: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ﴾ وفيه الالتفات أيضًا من الغيبة في قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ إلى الخطاب هنا، والنكتة في ذلك الالتفات: تشديد الإنكار على الإنسان بمشافهته بالخطاب، كأنه قيل له: فأي شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبًا بعد هذه الدلائل بسبب تكذيب الجزاء.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ﴾؛ لأنه دخل على النفي، ونفي النفي تقرير.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
142
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على خمسة مقاصد:
١ - أقسم الله سبحانه وتعالى بأربعة أشياء على مقسم عليه واحد تعظيمًا للمقسم به، وإشعارًا بغرابة المقسم عليه.
٢ - بيان شرف الإنسان بكونه خُلق على أحسن تقويم.
٣ - استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين يردون إلى أرذل العمر.
٤ - التقريع والإنكار على المكذبين له - ﷺ - في إخباره عن البعث والجزاء.
٥ - وتطمين قلبه - ﷺ - بكون الله سبحانه أحكم الحاكمين بينه وبينهم (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تمت سورة التين بعون الملك المعين قُبيل الغروب من يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة من شهور سنة: ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
143
سورة العلق
سورة العلق، وتسمى سورة القلم، وسورة اقرأ: مكية بلا خلاف، وهي أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، وأخرج ابن مردويه (١) من طرق عن ابن عباس - رضي الله عنهم -: أول ما نزل من القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)﴾.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في "الحلية" عن أبي موسى الأشعري قال: أول سورة أنزلت على محمد - ﷺ -: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)﴾.
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وصححه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن أول ما نزل من القرآن ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)﴾، ويدل على أن هذه السورة أول ما نزل الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة، وفيه: فجاءه الحق وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ الحديث، وفي الباب أحاديث وآثار كثيرة عن جماعة من الصحابة، وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وفي هذه الأحاديث رد على من قال: أول ما نزل من القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)﴾ كما في حديث جابر المذكور في "صحيح مسلم" وغيره، ويجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن المراد يكون: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)﴾ أول ما نزل كونه أول ما نزل بعد فترة الوحي نحو ثلاث سنوات، وآياتها: تسع عشرة آية، وكلماتها (٢): اثنتان وتسعون كلمة، وحروفها: مئتان وثمانون حرفًا.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها (٣): أنه سبحانه وتعالى ذكر في سورة التين: ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، وذكر في هذه السورة: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)﴾، والمناسبة ظاهرة بين خلقه من علق، وخلقه في أحسن تقويم، ففي البداية من علق، وفي النهاية في أحسن تقويم، ثم أسفل سافلين إلى أنه تعالى ذكر هنا من أحوال
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
144
الآخرة ما هو كالشرح والبيان لما ذكره في السورة السابقة والقرآن الكريم كله كالحلقة المفرغة في قالب واحد يرتبط أوله بآخره، وآخره بأوله، مع إيماءات وإشارات، لا يعلمها إلا من أطلعه الله سبحانه عليها من ذوي المعارف الصمدانية.
وعبارة "أبي حيان" (١) هنا: هذه السورة صدرها أول ما نزل من القرآن، وذلك في غار حراء على ما ثبت في "صحيح البخاري" وغيره، وقول جابر: أول ما نزل المدثر، وقول أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أول ما نزل الفاتحة لا يصح، وقال الزمخشري عن ابن عباس ومجاهد: هي أول سورة نزلت، وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل، ثم سورة القلم. انتهى.
ولما ذكر فيما قبلها خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك.. ذكره هنا منبهًا على شيء من أطوارها، وذكر نعمته عليه، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك، وما يؤول إليه حاله في الآخرة.
تسميتها: وسميت سورة العلق وسورة القلم؛ لذكرهما فيها.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - سورة العلق كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
145

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)﴾.
المناسبة
تقدم لك آنفًا بيان المناسبة بين أول هذه السورة والتي قبلها، وأما قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦)...﴾ إلى آخر السورة. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) في مطلع السورة دلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وعلامات الحكمة البالغة، ودقة صنائعه البديعة، وكان ذلك كله بحيث يبتعد من العاقل أن لا يلتفت إليه.. أتبعه جل شأنه ببيان السبب الحقيقي في طغيان الإنسان وتكبره وتماديه عليه، وهو حبه للدنيا واشتغاله بها، وجعلها أكبر همه، وذلك يعمي قلبه، ويجعله يغفل عن خالقه، وما يجب له في عنقه من إجلال وتعظيم، وقد كان ينبغي أن يكون حين الغنى والميسرة وكثرة الأعوان واتساع الجاه أشد حاجة إلى الله تعالى منه في حال الفقر والمسكنة؛ لأنه في حال فقره، لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأعضائه، أما في حال الغنى فيتمنى ذلك ويتمنى سلامة مماليكه وأتباعه وأمواله.
ألا يعلم أنه راجع إلى ربه فمجازيه على ما يعمل، وقد بلغ من حمقه أن يأمر وينهى، وأنه يوجب على غيره طاعته، ثم هو بعد ذلك يعرض عن طاعة ربه.
أما ينبغي له أن يهتدي ويشتغل بأمر نفسه، (فمن كان ذا عقل ورأي وثروة وجاه وأعوان، واختار الهدى، وتخلق بأخلاق المصلحين.. كان ذلك خيرًا له
(١) المراغي.
146
وأجدى)، وإنا لننكلن به نكالًا شديدًا في العاجلة، ولَنُهِيْتَهُ يوم العرض والحساب، وليدع أمثاله من المغرورين، فإنهم لن يمنعوه، ولن ينصروه، ثم ختم السورة بأمره بالتوفر على عبادة ربه فعلًا وإبلاغًا للناس مبتغيًا بذلك وجه الله سبحانه والقربى.
أسباب النزول
تقدمة تاريخية: جاء في صحيح الأحاديث: أن النبي - ﷺ - "كان يأتي غار حراء - حراء جبل بمكة - يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي وهو في الغار إذ جاءه الملك، فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، قال: فأخذه ثانيًا، فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء، قال: فأخذه ثالثة فغطه حتى بلغ منه الجهد، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾.
قال الرواة: فرجع ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة الخبر، ثم قال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق". الحديث الطويل رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم.
ومن ذلك تعلم (١) أن صدر هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن الكريم، وأول رحمة رحم الله بها عباده، وأول خطاب وجه إلى رسوله - ﷺ -، أما بقية السورة فهو متأخر النزول، نزل بعد شيوع بعثته - ﷺ -، وبعد أن دعا قريشًا إلى الإيمان به وآمن به قوم منهم، وكان جمهرتهم يتحرشون بمن آمن به ويؤذونهم، ويحاولون ردهم عن تصديقه، والإيمان بما جاء به من عند ربه.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦)...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (٢) ابن المنذر عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟، فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل لأطأن على رقبته،
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
147
Icon