تفسير سورة النّمل

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة النمل من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يترددون ويتحيرون، والعَمَهُ: التحير والتردُّد كما هو حال الضال عن الطريق قال الزاجر: «أعْمى الهُدى بالحائرين العُمَّه» ﴿قَبَسٍ﴾ القَبس: النار المقبوسة من جمرٍ وغيره ﴿تَصْطَلُونَ﴾ اصطلى يصطلي إذا استدفأ من البرد قال الشاعر:
النارُ فاكهةُ الشتاءِ فمن يُرد أكْلَ الفواكه شاتياً فليصْطَلِ
﴿بُورِكَ﴾ من البركة وهي زيادة الخير والنماء قال الثعلبي: العرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربعُ لغات قال الشاعر:
فبوركتَ مولوداًَ وبركت ناشئاً وبوركتَ عن الشيب إِذْ أنت أشيب
﴿يُوزَعُونَ﴾ أصل الوزع الكفُّ والمنع يقال: وزَعه يزعه إذا كفَّه عن الشيء ومنعه ومنه قول عثمان «إن الله ليزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» قال النابغة:
على حين عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا وقلتُ ألمَّا أصّحُ والشيبُ وازع
التفسِير: ﴿طس﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم الكلام عليها ﴿تِلْكَ آيَاتُ القرآن﴾ أي هذه الآيات المنزَّلة عليك يا محمد هي آياتُ القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه ﴿وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي وآياتُ كتابٍ واضحٍ مبين لمن تفكر فيه وتدبَّر، أبان اللهُ فيه
368
الأحكام، وهدى به الأنام ﴿هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي تلك آيات القرآن الهادي للمؤمنين إلى صراطٍ مستقيم، والمبشر لهم جنات النعيم، خصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم به ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ أي يؤدونها على الوجه الأكمل بخشوعها، وآدابها، وأركانها ﴿وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ أي يدفعون زكاة أموالهم طيبةً بها نفوسهم ﴿وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي يصدقون بالآخرة تصديقاً جازماً لا يخالجه شك أو ارتياب قال الإِمام الفخر: والجملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فما يوقن بالآخرة حقَّ الإِيقان إلاّ هؤلاء الجامعون بين الإِيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يجملهم على تحمل المشاق وقال أبو حيان: ولما كان ﴿يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ ما يتجدَّد ولا يستغرق الأزمان جاءت الصلة فعلاً، ولما كان الإِيمان بالآخرة بما هو ثابت ومستقر جاءت الجملة إسمية وأُكدت بتكرار الضمير ﴿وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر بعدها المنكرين المكذبين بالآخرة فقال ﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي لا يصدّقون بالبعث ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي زينا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة قال الرازي: والمراد من التزيين هو أن يخلق في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار والآفات ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي فهم في ضلال أعمالهم القبيحة يترددون حيارى لا يميزون بين الحسن والقبيح ﴿أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب﴾ أي لهم أشد العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والتشريد ﴿وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون﴾ أي وخسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا لمصيرهم إلى النار المؤبدة والجحيم والأغلال ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن﴾ أي وإِنك يا محمد لتتلقى هذا القرآن العظيم وتُعطاه ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ أي من عند الله الحكيم بتدبير خلقه، العليم بما فيه صلاحهم وسعادتهم قال الزمخشري: وهذه الآية بسطٌ وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه ﴿إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً﴾ أي اذكر يا محمد حين قال موسى لأهله - أي زوجته - إني أبصرتُ ورأيت ناراً قال المفسرون: وهذا عندما سار من مدين إلى مصر، وكان في ليلة مظلمة باردة، وقد ضلَّ عن الطريق وأخذ زوجته الطَّلقُ ﴿سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ أي سآتيكم بخبرٍ عن الطريق إذا وصلتُ إليها ﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ أي أو آتيكم بشعلةٍ مقتبسة من النار ﴿لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ أي لكي تستدفئوا بها ﴿فَلَمَّا جَآءَهَا﴾ أي فلما وصل إلى مكان النار رأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث رأى النار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقداً ولا تزداد الشجرةُ إلا خضرةً ونُضْرة، ثم رفع رأسه فإِذا نورها متصلٌ بعنان السماء قال ابن عباس: لم تكن ناراً وإِنما كانت نوراً يتوهج فوقف موسى متعجباً ممّا رأى وجاءه النداء العلوي ﴿نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أي نودي من جانب الطور بأن بوركتَ يا موسى وبورك من حولك وهم الملائكة قال ابن عباس: معنى ﴿بُورِكَ﴾ تقدَّس ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ الملائكةُ قال أبو
369
حيان: وبدؤه بالنداء تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته، وجدير أن يبارك من في النار ومن حواليها إذ قد حدث أمرٌ عظيم وهو تكليم الله لموسى وتنبيئه ﴿وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين﴾ أي تقدَّس وتنزَّه ربُّ العزة، العليُّ الشأن، الذي لا يشبهه شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله ﴿ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم﴾ أي أنا الله القويُّ القادر، العزيز الذي لا يُقهر، الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتدبير ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ عطفٌ على السابق أي ونودي أن ألق عصاك لترى معجزتك بنفسك فتأنس بها ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ أي فلما رآها تتحرك حركة سريعة كأنها ثعبان خفيف سريع الجري ﴿ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أي ولّى الأدبار منهزماً ولم يرجع لما دهاه من الخوف والفزع قال مجاهد: «لم يُعقّب» لم يرجع، وقال قتادة: لم يلتفت، لحقه ما لحق طبع البشر إذ رأى أمراً هائلاً جداً وهو انقلاب العصا حيةً تسعى ولهذا ناداه ربه ﴿ياموسى لاَ تَخَفْ﴾ أي أقبل ولا تخف لأنك بحضرتي ومن كان فيها فهو آمنٌ ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾ أي فأنت رسولي ورسلي الذي اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري قال ابن الجوزي: نبَّهه على أن من آمنَه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء﴾ الاستثناء منقطع أي لكنْ من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين فإِنه يخاف إلا إذا تاب وبدَّل عمله السيء إلى العمل الحسن ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة قال ابن كثير: وفيه بشارة عظيمةٌ للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع ورجع وتاب وأناب فإِن الله يتوب عليه كقوله
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى﴾ [طه: ٨٢] ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ هذه معجزة أُخرى لموسى تدل على باهر قدرة الله والمعنى أدخل يا موسى يدك في فتحة ثوبك ثم أخرجها تخرج مضيئة ساطعة بيضاء تتلألأ كالبرق الخاطف دون مرضٍ أو برص ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ أي هاتان المعجزتان «العصا واليد» ضمن تسعِ معجزاتٍ أيدتك بها وجعلتُها برهاناً على صدقك لتذهب بها إلى فرعون وقومه ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ أي خارجين عن طاعتنا، ممعنين في الكفر والضلال ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ أي فلما رأوا تلك المعجزات الباهرة، واضحةً بينةً ظاهرة ﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي أنكروها وزعموا أنها سحرٌ واضح ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا﴾ أي كفروا وكذبوا بتلك الخوارق ﴿واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ﴾ أي وقد أيقنوا بقلوبهم أنها من عند الله وليست من قبيل السحر ﴿ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ أي جحدوا بها ظلم ا ً من أنفسهم، واستكباراً عن اتباع الحق، وأيُّ ظلمٍ أفحش ممن يعتقد ويستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم يكابر بتسميتها سحراً؟ ولهذا قال ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾ أي انظر أيها السامع وتدبر بعين الفكر والبصيرة ماذا كان مآلُ أمر الطاغين، من الإِغراق في الدنيا، والإِحراق في الآخرة؟ قال ابن كثير: وفحوى الخطاب كأنه يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإِن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشرفُ وأعظمُ من موسى، وبرهانُه
370
أدلُّ وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً﴾ هذه هي القصة الثانية في السورة الكريمة وهي قصة «داود وسليمان» والمعنى واللهِ لقد أعطينا داود وابنه سليمان علماً واسعاً من علوم الدنيا والدين، وجمعنا لهما بين سعادة الدنيا والآخرة قال الطبري: وذلك علم كلام الطير والدواب وغير ذلك مما خصَّهم الله بعلمه ﴿وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين﴾ أي وقلا شكراً لله الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة، والعلم، وتسخير الإِنس والجن والشياطين، على كثيرٍ من عباده المؤمنين ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ أي ورث سليمانُ أباه في النبوة، والعلم والمُلْك دون سائر أولاده قال الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً فورث سليمانُ من بينهم نبوته وملكه، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء ﴿وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾ أي وقال تحدثاً بنعمة الله: يا أيها الناسُ لقد أكرمنا اللهُ فعلَّمنا منطق الطير وأصوات جميع الحيوانات ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي وأعطانا الله من كل شيء من خيرات الدنيا يعطاها العظماء والملوك ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾ أي إن ما أُطعيناه وما خصَّنا الله به من أنواع النعم لهو الفضل الواضح الجلي، قاله على سبيل الشكر والمحمدة لا على سبيل العلوّ والكبرياء ﴿وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير﴾ أي جمعت له جيوشه وعساكره وأُحضرت له في مسيرةٍ كبيرة فيها طوائف الجن والإِنسِ والطير، يتقدمهم سليمان في أُبَّهة وعظمةٍ كبيرة ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي فهم يُكَفُّون ويمنعون عن التقدم بين يديه قال ابن عباس: جعل كل صنفٍ من يردُّ أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك ﴿حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل﴾ أي حتى إذا وصلوا إلأى وادٍ بالشام كثير النمل ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ أي قالت إحدى الن ملات لرفيقاتها ادخلوا بيوتكم، خاطبتهم مخاطبة العقلاء لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء ﴿لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾ أي لا يكسرنَّكم سليمانُ وجيوشه بأقدامهم ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي وهم لا يشعرون بكم ولا يريدون حطمكم عن عمد حذَّرت ثم اعتذرت لأنها علمت أنه نبيٌّ رحيم، فسمع سليمان كلامها وفهم مرامها ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا﴾ أي فتبسَّم سروراً بما سمع من ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإِن قولها ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان ﴿وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ﴾ أي ألهمني ووفقني لشكر نعمائك وأفضالك التي أنعمت بها عليَّ وعلى أبويَّ ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾ أي ووفقني لعمل الخير الذي يقربني منك والذي تحبه وترضاه ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين﴾ أي وأدخلني الجنة دار الرحمة عبادك الصالحين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِشارة بالبعيد عن القريب ﴿تِلْكَ آيَاتُ القرآن﴾ للإِيدان ببعد منزلته في الفضل والشرف.
٢ - التنكير للفخيم والتعظيم ﴿وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي كتابٍ عظيم الشأن رفيع القدر.
٣ - ذكر المصدر بدل اسم الفاعل للمبالغة ﴿هُدًى وبشرى﴾ أي هادياً ومبشراً.
371
٤ - تكرير الضمير لإِفادة الحصر والاختصاص ﴿وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ ومثله ﴿وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون﴾ وفيه المقابلة اللطيفة بين الجملتين.
٥ - التأكيد بإِنَّ واللام ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن﴾ لوجود المتشككين في القرآن.
٦ - إيجاز الحذف ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ حذفت جملة فألقاها فانقلبت إلى حية الخ وذلك لدلالة السياق عليه.
٧ - الطباق ﴿حُسْناً بَعْدَ سواء﴾. وبين ﴿ولى مُدْبِراً.. وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾.
٨ - الاستعارة ﴿آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ استعار لفظ الإِبصار للوضوح والبيان لأن بالعينين يبصر الإِنسان الأشياء.
٩ - التشبيه المرسل المجمل ﴿كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فصار مرسلاً مجملاً.
١٠ - حسن الاعتذار ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾.
لطيفَة: قال بعض العلماء هذه الآية ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ..﴾ من عجائب القرآن لأنها بلفظة «يا» نادت «أيها» نبَّهت «النمل» عيَّنت «ادخلوا» أمرت «مساكنكم» نصَّت «لا يحطمنكم» حذَّرت «سليمان» خصت «وجنوده» عمَّت «وهم لا يشعرون» اعتذرت، فيا لها من نملة ذكية!!
372
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن «سليمان بن داود» الذي جمع الله له بين «النبوة والمُلْك» فكان نبياً ملكاً، وسخر له الإِنس والجن وعلمه منطق الطير، وتذكر الآيات هنا قصته مع «بلقيس» ملكة سبأ وما كان من الأمور العجيبة التي حدثت في زمانه.
اللغَة: ﴿تَفَقَّدَ﴾ التفقد: طلب ما غاب عن الإِنسان ﴿الخبء﴾ : الشيءُ المخبوء من خبأتُ الشيء أخبؤه خبأَ إذا سترته ﴿صَاغِرُونَ﴾ أذلاء مهانون من الصَّغار وهو الذل ﴿عِفْرِيتٌ﴾ العفريب: القويُ المارد من الشياطين ومن الإِنس، والخبيث الماكر ﴿الصرح﴾ القصر، وكلُّ بناءٍ عال مرتفع يسمى صرحاً ومنه قول فرعون «يا هامان ابن لي صَرْحاً» ﴿مُّمَرَّدٌ﴾ الممرَّد: المملَّس، والأمرد الذي لم تخرج لحيته بعد إداركه، وشجرةٌ مرداء: لا ورقَ عليها ﴿قَوارِيرَ﴾ جمع قارورة وهي الزجاجة.
التفسِير: ﴿وَتَفَقَّدَ الطير﴾ أي بحث سليمان وفتش عن جماعة الطير ﴿فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد﴾ أي لم لا أرى الهُدهد هاهنا؟ قال المفسرون: كانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، فلما فصل سليمان عن وادي النمل ونزل في قفرٍ من الأرض عطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدله على الماء فإِذا قال: هاهنا الماء شقت الشياطين وفجَّرت العيون، فطلبه في ذلك اليوم فلم يجده فقال مالي لا أراه ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ أمْ منقطعة بمعنى «بل» أي بل هو غائب، ذهب دون إذنٍ مني ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي لأعقبنه عقاباً أليماً بالسجن أو نتف الريش أو الذبح أو ليأتيني بحجة واضحة تبيّن عذره ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أي فأقام الهدهد زماناً يسيراً ثم جاء إلى سليمان ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ أي اطلعت على ما لم تطّلع عليه وعرفت ما لم تعرفه ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ أي وأتيتك من مدينة سبأ - باليمن - بخبرٍ هام، وأمر صادقٍ وخطير ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ﴾ أي من عجائب ما رأيت أن امرأة - تسمى بلقيس - هي ملكة لهم، وهم يدينون بالطاعة لها ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي وأُعطيت من كل شيء من الأشياء التي
373
يحتاج إليها الملوك من أسباب الدنيا من سعة المال وكثرة الرجال ووفرة السلاح والعتاد ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ أي ولها سرير كبير مكلَّل بالدر والياقوت قال قتادة: كان عرشُها من ذهب، قوائمُه من جوهر، مكلَّل باللؤلؤ قال الطبري: وعنى بالعظيم في هذا الموضع العظيم في قدرة وخطره، لا عِظمه في الكبر والسعة، ولهذا قال ابن عباس: ﴿عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ أي سرير كريم حسن الصنعة، وعرشُها سريرٌ من ذهب قوائمُه من جوهرٍ ولؤلؤ، ثم أخذ يحدثه عما هو أعظم وأخطر فقال ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾ أي وجدتهم جميعاً مجوساً يعبدون الشمس ويتركون عبادة الواحد الأحد ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ أي حسَّن لهم إبليسعبادتهم الشمس وسجودهم لها من دون الله ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل﴾ أي منعهم بسبب هذا الضلال عن طريق الحق والصواب ﴿فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي فهم بسبب إغواء الشيطان لا يهتدون إلى الله وتوحيده، ثم قال الهدهد متعجباً ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض﴾ أي أيسجدون للشمس ولا يسجدون للهِ الخالق العظيم، الذي يعلم الخفايا ويعلم كل مخبوء في العالم العلوي والسفلي؟ قال ابن عباس: يعلم كل خبيئةٍ في السماء والأرض ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ أي ويعلم السرَّ والعلن، ما ظهر وما بطن ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ أي هو تعالى المتفرد بالعظمة والجلال، ربُّ العرش الكريم المستحق للعبادة والسجود، وخصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات، وإِلى هنا انتهى كلام الهُدهد ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾ أي قال سليمان: سننظر في قولك ونتثبت هل أنت صادقٌ أم كاذب فيه؟ قال ابن الجوزي: وإِنما شكَّ في خبره لأنه أنكر أن يكون لغيره سلطان، ثم كتب كتاباً وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهُدهد وقال ﴿اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ أي اذهب بهذا الكتاب وأوصلْه إلى ملكة سبأ وجندها ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي تنحَّ إلى مكان قريب مستتراً عنهم ﴿فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ أي فانظر ماذا يردون من الجواب؟ قال المفسرون: أخذ الهدهد الكتاب وذهب إلى بلقيس وقومها، فرفرف فوق رأسها ثم ألقى الكتاب في حجرها ﴿قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ أي قالت لأشراف قومها إنه أتاني كتاب عظيم جليل ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾ أي إن هذا الكتاب مرسل من سليمان ثم فتحته فإِذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وهو استفتاح شريفٌ بارع فيه إعلان الربوبية لله ثم الدعوة إلى توحيد الله والانقياد لأمره ﴿أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ أي لا تتكبروا عليَّ كما يفعل الملوك وجيئوني مؤمنين قال ابن عباس: أي موحدين، وقال سفيان: طائعين ﴿قَالَتْ ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي﴾ أي أشيروا عليَّ في الأمر ﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ﴾ أي ما كنتُ لأقضي أمراً بدون حضوركم ومشورتكم ﴿قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي نحن أصحابُ كثرةٍ في الرجال
374
والعتاد، وأصحابُ شدةٍ في الحرب ﴿والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ ؟ أي وأمرنا إليكِ فمرينا بما شئتِ نمتثل أمرك، وقولهم هذا دليلٌ على الطاعة المفرطة قال القرطبي: أخذتْ في حسن الأدب مع قومها ومشاورتهم في أمرها في كل ما يعرض لها، فراجعها الملأ بما يُقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها، وهذه محاوة حسنة من الجيمع قال الحسن البصري: فوَّضوا أمرهم إلى عِلجةٍ يضطرب ثدياها، فلا قالوا لها ما قالوا كان هي أحزم منهم رأياً وأعلم ﴿قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ أي إن عادة الملوك أنهم إذا استولوا على بلدةٍ عنوةً وقهراً خربوها ﴿وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً﴾ أي أهانوا أشرافها وأذلوهم بالقتل والأسر والتشريد ﴿وكذلك يَفْعَلُونَ﴾ أي وهذه عادتهم وطريقتهم في كل بلدٍ يدخلونها قهراً، ثم عدلت إلى المهادنة والمسالمة فقالت ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾ أي وإِني سأبعث إلأيه بهدية عظيمة تليقُ بمثله، فأنظر هل يقبلها أن يردُّها؟ قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها!! علمتْ أن الهدية تقع موقعاً من الناس، وقال ابن عباس: قالت لقومها إن قبِلَ الهدية فهو ملك يريد الدنيا فقاتلوه، وإِن لم يقبلها فهو نبيٌ صادق فاتبعوه ﴿فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ ؟ أي فلما جاء رسل بلقيس إلى سليمان بالهدية العظيمة قال منكراً عليهم: أتصانعونني بالمال والهدايا لأترككم على كفركم وملككم؟ ﴿فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ﴾ أي فما أعطاني الله من النبوة والمُلك والواسع خيرٌ مما أعطاكم من زينة الحياة فلا حاجة لي بهديتكم ﴿بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ أي أنتم تفرحون بالهدايا لأنكم أهل مفاخرةٍ ومكاثرة في الدنيا، ثم قال لرئيس الوفد ﴿ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ أي ارجع إليهم بهديتهم فواللهِ لنأتينَّهم بجنودٍ لا طاقة لهم بمقابلتها، ولا قدرة لهم على مقاتلتها ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي ولنخرجنهم من أرضهم ومملكتهم أذلاء حقيرين إن لم يأتوني مسلمين قال ابن عباس: لما رجعت رسلُ بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم ارتحلْت إلى سليمان في اثني عشر ألف قائد ﴿قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ؟ أي قال سليمان لأشراف من حضره من جنده: أيكم يأتيني بسريرها المرصَّع بالجواهر قبل أن تصل إليَّ مع قومها مسلمين؟ قال البيضاوي: أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب، الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكّر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟ ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ أي قال ماردٌ من مردة الجنِّ: أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس الحكم - وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم - وغرضُه أنه يأتيه به في أقل من نصف نهار ﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ أي وإِني على حمله لقادرٌ، وأمينٌ على ما فيه من الجواهر والدُّر وغير ذلك ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ قال المفسرون:
375
هو «آصف بن برخيا» كان من الصِّدقين يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وهو الذي أتى بعرش بلقيس وقال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك أي آتيك به بلمح البصر فدعا الله فحضر العرشُ حالاً ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾ أي فلما نظر سليمان ورأى العرش - السرير - حاضراً لديه قال: هذا من فضل الله عليَّ، وإِحسانه إليَّ ﴿ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ ؟ أي ليختبرني أأشكر إنعامه، أم أجحد فضله وإِحسانه؟ ﴿وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ أي ومن شكر فمنفعة الشكر لنفسه، لأنه يستزيد من فضل الله
﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ أي ومن لم يشكر وجحد فضل الله فإِن الله مستغنٍ عنه وعن شكره، كريمٌ بالإِنعام على من كفر نعمته.. ولما قرُب وصولُ ملكة سبأ إلى بلاده أمر بأن تُغيَّر بعضُ معالم عرشها امتحاناً لها ﴿قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا﴾ أي غيّروا بعض أوصافه وهيئته كما يتنكر الإِنسان حتى لا يُعرف ﴿نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي لننظر إذا رأته هل تهتدي إلى أنه عرشها وتعرفه أم لا؟ أراد بذلك اختبار ذكائها وعقلها ﴿فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾ ؟ أي أمثل هذا العرش الذي رأيتيه عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ رئلا يكون تلقيناً لها ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أي يشبهه ويقاربه ولم تقل: نعم هو، ولا ليس هو قال ابن كثير: وهذا غاية في الذكاء والحزم ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ هذا من قول سليمان أي قال سليمان تحدثاً بنعمة الله: لقد أوتينا العلم من قبل هذه المرأة بالله وبقدرته وكنا مسلمين لله من قبلها، فنحن أسبقُ منها علماً وإِسلاماً ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله﴾ أي منعها عن الإِيمان بالله عبادتُها القديمة للشمس والقمر ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ أي بسبب كفرها ونشوئها بين قوم مشركين ﴿قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح﴾ أي ادخلي القصر العظيم الفخم ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا﴾ أي فلما رأت ذلك الصرح الشامخ ظنته لجة ماء - أي ماءً غمراً كثيراً - وكشفت عن ساقيها لتخوض فيه ﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ﴾ أي قال سليمان: إنه قصر مملَّس من الزجاج الصافي ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ أي قالت بلقيس حينئذٍ: ربّ إني ظلمت نفسي بالشرك وعبادة الشمس ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي وتابعتُ سليمان على دينة فدخلت في الإِسلام مؤمنةً برب العالمين، قال ابن كثير: والغرضُ أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة، ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله وجلاله ما هو فيه وتبصرت في أمره، انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبيٌ كريم، وملِكٌ عظيم، وأسلمت لله عَزَّ وَجَلَّ.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - أسلوب التعجب ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد﴾ ؟
٢ - التأكيد المكرر ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ.. أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ.. أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ لتأكيد الأمر.
٣ - طباق السلب ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ وكذلك ﴿تهتدي.. لاَ يَهْتَدُونَ﴾.
٤ -
376
الجناس اللطيف ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ ويسمى الجناس الناقص لتبدل بعض الحروف.
٥ - الطباق في اللفظ ﴿تُخْفُونَ.. وتُعْلِنُونَ﴾ وكذلك ﴿أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾.
٦ - الطباق في المعنى ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾.
قال علماء البيان: والمطابقة هنا بالمعنى أبلغ من اللفظ لأنه عدول عن الفعل إلى الإِسم فيفيد الثبات فلو قال «أصدقت أم كذبت» لما أدَّى هذا المعنى لأنه قد يكذب في هذا الأمر ولا يكذب في غيره، وأما قوله ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾ فإِنه يفيد أنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة فلا يوثق به أبداً.
٧ - جناس الاشتقاق ﴿أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ وكذلك ﴿أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ﴾.
٨ - التشبيه ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أي كأنه عرشي في الشكل والوصف ويسمى «مرسلاً مجملاً».
٩ - الاستعارة البديعة ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ شبَّه سرعة مجيئه بالعرش برجوع الطرف للإِنسان، وارتدادُ الطرف معناه التقاء الجفنين وهو أبلغ ما يمكن أن يوصف به في السرعْة ومثله «وما أمرُ الساعةِ إلا كلمح البصر أو هو أقرب» فاستعار للسرعة الفائقة ارتداد الطرف.
١٠ - توافق الفواصل في كثير من الآيات، ولها وقعٌ في النفس رائع مثل ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ إلى آخر ما هنالك.
لطيفَة: أخذ بعض العلماء من قوله تعالى ﴿وَتَفَقَّدَ الطير﴾ استحباب تفقد الملك لأحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء، والإِخوان، والخلان وأنشد بعضهم: تفقَّد الطيرَ على مُلْكه... فقال: مالِيَ لا أرى الهُدْهد؟
377
المناسبة: لما ذكر تعالى في أول السورة قصة موسى، ثم أعقبها بقصة داوْد وسليمان وما فيها من العجائب والغرائب، ذكر هنا قصة «صالح» ثم قصة «لوط» وكلُّ هذه القصص غرضُها التذكير والاعتبار، وبيانُ سنة الله في إهلاك المكذبين، ثم أتبعها بذكر البراهين الدالة على الوحدانية، والعلم، والقدرة.
اللغَة: ﴿اطيرنا﴾ من التطير وهو التشاؤم قال الزجاج: أصلُها تطيَّرنا فأُدغمت التاء في الطاء واجْتُلبت الألف لسكون الطاء ﴿خَاوِيَةً﴾ خالية من خوى البطنُ إذا خلى، وخوى النجم إذا سقط ﴿الفاحشة﴾ الفعلة القبيحة الشنيعة ﴿حَدَآئِقَ﴾ جمع حديقة وهي البستان الذي عليه سور قال الفراء: الحديقةُ البستانُ الذي عليه حائط فهو البستان ﴿قَرَاراً﴾ مستقراً يثبت عليه الشيء ﴿حَاجِزاً﴾ الحاجز: الفاصل بين الشيئين.
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعبدوا الله﴾ اللام جواب قسم محذوف أي والله لقد ارسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم - في النسب لا في الدين - صالحاً عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي فإِذا هم جماعتان: مؤمنون وكافرون يتنازعون في شأن الدين قال مجاهد: «فريقان: مؤمنٌ، وكافر» واختصامُهم: اختلافهم وجدالهم في الدين، وجاء الفعل بالجمع ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ حملاً على المعنى ﴿قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ أي قال لهم صالح بطريق التلطف والرفق: يا قومِ لم تطلبون العذاب قبل الرحمة؟ ولأي شيء تستعجلون بالعذاب ولا تطلبون الرحمة؟ ﴿لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي هلاّ تتوبون
378
إلى الله من الشرك لكي يتوب الله عليكم ويرحمكم؟ قال المفسرون: كان الكفار يقولون لفرط الإِنكار: يا صالح ائتنا بعذاب الله فقال لهم: هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب، فإ ِن استعجال الخير أولى من استعجال الشر! ﴿ {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ أي تشاءمنا بك يا صالح وبأتباعك المؤمنين فإِنكم سبب ما حلَّ بنا من بلاء، وكانوا قد أصابهم القحط وجاعوا ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله﴾ أي حظكم في الحقيقة منخيرٍ أو شر هو عند الله وبقضائه، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم.. لمّا لاطفهم في الخطاب أغلظوا له في الجواب وقالوا تشاءَمنا بك وبمن معك، فأخبرهم أن شؤمهم بسبب عملهم لا بسبب صالح والمؤمنين ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ أي بل الحقيقةُ أنكم جماعة يفتنكم الشيطان بوسوسته وإِغوائه ولذلك تقولون ما تقولون ﴿وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ أي وكان في مدينة صالح - وهي الحِجْر - تسعةُ رجالٍ من أبناء أشرافهم قال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة ﴿يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾ أي شأنهم الإِفساد، وإِيذاء العباد بكل طريق ووسيلة قال ابن عباس: وهم الذين عقروا الناقة ﴿قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله﴾ أي قال بعضُهم لبعض: احلفوا باللهِ ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ أي لنقتلنَّ صالحاً وأهله ليلاً ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ أي ثم نقول لوليّ دمه ما حضرنا مكان هلاكه ولا عرفنا قاتله ولا قاتل أهله ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أي ونحلف لهم إِنا لصادقون قال ابن عباس: أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم قال تعالى ﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً﴾ أي دبَّروا مكيدةً لقتل صالح ﴿وَمَكَرْنَا مَكْراً﴾ أي جازيناهم على مكرهم بتعجيل هلاكهم، سمَّاه مكراً بطريق المشاكلة ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي من حيث لا يدرون ولا يعلمون قال أبو حيان: ومكرُهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله، ومكرُ الله إهلاكُهم من حيث لا يشعرون ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي فتأملْ وتفكرْ في عاقبة أمرهم ونتيجة كيدهم، كيف أنَّا أهلكناهم أجمعين وكان مآلهم الخراب والدمار} ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا﴾ أي فتلك مساكنهم ودورهم خاليةً بسبب ظلمهم وكفرهم لأنه أهلها هلكوا ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي إن في هذا التدمير العجيب لعبرة عظيمة لقوم يعلمون قدرة الله فيتعظون ﴿وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ أي وأنجينا من العذاب المؤمنين المتقين الذين آمنوا مع صالح ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ أي واذكر رسولنا «لوطاً» حين قال لقومه أهل سدوم ﴿أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ أي أتفعلون الفعلة القبيحة الشنيعة وهي اللواطة ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أي وأنتم تعلمون علماً يقيناً أنها فاحشة وأنها عملٌ قبيح؟ ﴿أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء﴾ تكريرٌ للتوبيخ أي أئنكم أيها القوم لفرط سفهكم تشتهون الرجال وتتركون النساء؟ ويكتفي الرجال بالرجال بطريق الفاحشة القبيحة ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ أي بل أنتم قوم سفهاء ماجنون ولذلك تفضلون العمل الشنيع على ما أباح الله لكم من النساء ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ﴾ أي فما كان جواب أولئك المجرمين إلا أن قالوا أخرجوا لوطاً وأهله من بلدتكم {إِنَّهمْ
379
أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي إنهم قوم يتنزهون عن القاذورات ويعدّون فعلنا قذراً، وهو تعليلٌ لوجوب الطرد والإِخراج قال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء وقال ابن عباس: هو استهزاء يستهزئون بهم بأنهم يتطهرون عن أدبار الرجال ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته﴾ أي فخلصناه هو وأهله من العذاب الواقع بالقوم إلا زوجته ﴿قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين﴾ أي جعلناها بقضائنا وتقديرنا من المهلكين، الباقين في العذاب ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً﴾ أي أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهلكتْهُم ﴿فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين﴾ أي بئس العذاب الذي أُمطروا به وهو الحجارة من سجيلٍ منضود، ولما ذكر تعالى قصص الأنبياء أتبعه بذكر دلائل القدرة والوحدانية فقال ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى﴾ أي قل يا محمد الحمدُ للهِ على إفضاله وإِنعامه، وسلامٌ على عباده المرسلين الذين اصطفاهم لرسالته، واختارهم لتبليغ دعوته قال الزمخشري: أمر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتلو هذه الآيات الدالة على وحدانيته، الناطقة بالبراهين على قدرته وحكمته، وأن ستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه، وفيه تعليمٌ حسن، وتوقيفٌ على أدبٍ جميل، وهو حمد الله والصلاة على رسله، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسوله أمام كل علم، وقبل كل عظة وتذكرة ﴿ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تبكيتٌ للمشركين وتهكمٌ بهم أي هل الخالق المبدع الحكيم خيرٌ أم الأصنام التي عبدوها وهي لا تسمع ولا تستجيب؟ ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض﴾ برهان آخر على وحدانية الله أي أمَّن أبدع الكائنات فخلق تلك السماواتِ في ارتفاعها وصفائها، وجعل فيها الكواكب المنيرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والسهول والأنهار والبحار، خيرٌ أمّا يشركون؟ ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ أي وأنزل لكم بقدرته المطر من السحاب فأخرج به الحدائق والبساتين، ذات الجمال والخضرة والنضرة، والمنظر الحسنِ البهيج ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾ أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم، وليس بمقدورهم ومستطاعهم أن يُنبتوا شجرها فضلاً عن ثمرها ﴿أإله مَّعَ الله﴾ استفها إنكار أي هل معه معبود سواه حتى تسوّوا بينهما وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟ ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ أي بل هم قوم يشركون بالله فيجعلون له عديلاً ومثيلاً، ويسوّون بين الخالق الرازق والوثن ﴿أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً﴾ برهان آخر أي جعل الأرض مستقَراً للإنسان والحيوان، بحيث يمكنكم الإِقامة بها والاستقرار عليها ﴿وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾ أي وجعل في شعابها وأوديتها الأنهار العذبة الطيبة، تسير خلالها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾ أي وجعل جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد وتضطرب بكم ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً﴾ أي وجعل بين المياه العذبة والمالحة فاصلاً ومانعاً يمنعها من الاختلاط، لئلا يُفسد ماء البحار المياهَ العذبة ﴿أإله مَّعَ الله﴾ أي أمع الله معبودٌ سواه؟ ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي أكثر المشركين لا يعلمون الحق فيعلمون الحق فيشركون مع الله غيره ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ﴾ برهانٌ ثالث أي أمّن يجيب المكروب المجهود الذي مسَّه الضر فيستجيب دعاءه
380
ويلبي نداءه؟ ﴿وَيَكْشِفُ السواء﴾ أي ويكشف عنه الضُرَّ والبأساء؟ ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض﴾ أي ويجعلكم سكان الأرض تعمرونها جيلاً بعد جيل، وأُمةً بعد أُمة ﴿أإله مَّعَ الله﴾ ؟ أي أإله مع الله يفعل ذلك حتى تعبدوه؟ ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ أي ما أقلَّ تذكركم واعتباركم فيما تشاهدون؟ ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ ؟ برهان رابع أي أم من يرشدكم إلى مقاصدكم في أسفاركم في الظلام الدامس، في البراري، والقفار، والبحار؟ والبلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار؟ ﴿وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ ؟ أي ومن الذي يسوق الرياح مبشرةً بنزول المطر الذي هو رحمة للبلاد والعباد؟ ﴿أإله مَّعَ الله﴾ ؟ أي أإلهٌ مع الله يقدر على شيءٍ من ذلك؟ ﴿تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تعظَّم وتمجَّد الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ﴾ برهانٌ خامس أي أمَّنْ يبدأ خلق الإِنسان ثم يعيده بعد فنائه؟ قال الزمخشري: كيف قال لهم ذلك وهم منكرون للإِعادة؟ والجواب أنه قد أُزيحت علَّتُهم بالتمكين من المعرفة والإِقرار، فلم يبق لهم عذرٌ في الإِنكار ﴿وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض﴾ أي ومن يُنزل عليكم من مطر السماء، ويُنبتُ لكم من بركات الأرض الزروع والثمار؟ قال أبو حيان: لما كان إِيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإِحساناً عليهم، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال ﴿وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء﴾ أي بالمطر ﴿والأرض﴾ أي بالنبات ﴿أإله مَّعَ الله﴾ ؟ أي أإله مع الله يفعل ذلك؟ ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تزعمون إن كنتم صادقين في أنَّ مع الله إلهاً آخر ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله﴾ أي هو سبحانه وحده المختص بعلم الغيب، فلايعلم أحدٌ من ملك أو بشر الغيب إلا اللهُ علامُ الغيوب قال القرطبي: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قيام الساعة ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ ؟ أي وما يدري ولا يشعر الخلائق متى يُبعثون بعد موتهم؟ ﴿بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة﴾ أي هل تتابع وتلاحق علمُ المشركين بالآخرة وأحوالها حتى يسألوا عن الساعة وقيامها؟ إنهم لا يصدقون بالآخرة فلماذا يسألون عن قيام الساعة؟ ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾ إضراب عن السابق أي هم شاكون في الآخرة لا يصدّقون بها ولذلك يعاندون ويكابرون ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾ أي بل هم في عمَىً عنها، ليس لهم بصيرةٌ يدركون بها دلائل وقوعها لأن اشتغالهم باللذات النفسانية من شهوة البطن والفرج صيّرهم كالبهائم والأنعام لا يتدبرون ولا يبصرون قال ابن كثير: هم شاكون في وقوعها ووجودها، بل هم في عماية وجهلٍ كبير في أمرها.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ -
381
الطباق ﴿يُفْسِدُونَ.. وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾.
٢ - التحضيض ﴿لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله﴾ أي هلاّ تستغفرون الله.
٣ - جناس الاشتقاق ﴿اطيرنا.. طَائِرُكُمْ﴾.
٤ - المشاكلة ﴿وَمَكَرُواْ.. وَمَكَرْنَا﴾ سمَّى تعالى إهلاكهم وتدميرهم مكراً على سبيل المشاكلة.
٥ - الطباق ﴿لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ ؟
٦ - الاستفهام التوبيخي ﴿أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ؟
٧ - أسلوب التبكيت والتهكم ﴿ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ؟
٨ - الاستعارة اللطيفة ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أي أمام نزول المطر فاستعار اليدين للأمام.
٩ - الطباق ﴿يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ﴾.
١٠ - الاستعارة ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾ استعار العمى للتعامي عن الحق وعدم التفكر والتدبر في آلاء الله.
١١ - مراعاة الفواصل مما يزيد في رونق الكلام وجماله، وله على السمع وقع خاص مثل ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾ ومثل ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾. وأمثاله كثير، وفي القرآن روائع بيانية يعجز عن التعبير عنها اللسان، فسبحان من خصَّ نبيَّه الأمي بهذا الكتاب المعجز!!
382
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، ذكر هنا شبهات المشركين في الإِيمان بالآخرة والبعث والنشور، وأردفها بذكر الدلائل القاطعة، وذكر بعض الأهوال التي تكون بين يدي الساعة.
اللغَة: ﴿رَدِفَ﴾ اقترب ودنا ﴿تُكِنُّ﴾ تُسِرُّ وتخفي ﴿دَاخِرِينَ﴾ ذليلن صاغرين ﴿فَوْجاً﴾ الفوج: الجماعة ﴿جَامِدَةً﴾ الجمود: سكون الشيء وعدم حركته ﴿أَتْقَنَ﴾ الإِتقان: الإِتيانُ بالشيء على أحسن حالاته من التمام والكمال والإِحكام ﴿كُبَّتْ﴾ الكبُّ: الطرح والإِلقاء يقال: كببتُ الرجل ألقيتُه على وجهه، وكببتُ الإِناء قلبتُه.
التفسِير: ﴿وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ أي قال مشركو مكة المنكرون للبعث: أئذا متنا وأصبحنا رفاً وعظاماً باليه، فهل سنخرج من قبورنا ونحيا مرة ثانية؟ ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ﴾ أي لقد وَعدنا محمدٌ بالبعث كما وعَدَ من قبله آباءنا الأولين، فلو كان حقاً لحصل ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي ما هذا إلا خرافات وأباطيل السابقين. ينكرون البعث ونسون أنهم خُلقوا من العدم، وأن الذي خلقهم أولاً قادر على أن يعيدهم ثانياً! ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض﴾ أي قل لهؤلاء الكفار: سيروا في أرجاء الأرض ﴿فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين﴾ أي فانظروا - نظر اعتبار - كيف كان مآل المكذبين للرسل؟ ألم يهلكهم الله ويدمّرهم؟ فما حدث للمجرمين من قبل، يحدث للمجرمين من بعد، والآيةُ وعيدٌ وتهديد ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ تسلية للرسول عليه السلام أي لا تحزن يا محمد ولا تأسف على هؤلاء المكذبين إنْ لم يؤمنوا، ولا يضيقْ صدرك من مكرهم فإِن الله يعصمك منهم ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي يقولون استهزاءً: متى يجيئنا العذاب إن كنتم صادقين فيما تقولون؟ والخطابُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين ﴿قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي لعلَّ الذي تستعجلون به من العذاب قد دنا وقرُب منكم بعضه قال المفسرون: هو ما أصابهم من القتل والأسر يوم بدر ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ أي لذو إفضالٍ وإِنعامٍ على الناس بترك تعجيل عقوبتهم على معاصيهم وكفرهم ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثرهم لا يعرفون حقَّ النعمة، ولا يشكرون ربهم ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي وإِنه تعالى ليعلم ما يُخْفون وما يعلنون من عداوة
383
الرسول وكيدهم له وسيجازيهم عليه ﴿وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السمآء والأرض إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي ليس من شيء في غاية الخفاء على الناس والغيبوبة عنهم إلا وقد علمه الله وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ عنده، فلا تخفى عليه سبحانه خافية قال ابن عباس: معناه ما من شيءٍ سرٌّ في السماوات والأرض أو علانية إلا وعند الله علمه ﴿إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ لما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد والنبوة، وكان القرآن من أعظم الدلائل والبراهين على صدق محمد وصدق ما جاء به، أعقبه هنا بذكر القرآن المجيد وذكر أوصافه والمعنى: إن هذا القرآن المنزَّل على خاتم الرسل لهو الكتاب الحق الذي يبين لأهل اكلتاب ما اختلفوا فيه من أمر الدين، ومن جملته اختلافهم في أمر المسيح وتفرقُهم فيه فرقاً كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً، فلو كانوا منصفين لأسلموا، لأن القرآن جاءهم بالرأي الساطع، والخبر القاطع ﴿وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ﴾ أي وإِنه لهداية لقلوب المؤمنين من الضلالة، ورحمة لهم من العذاب، قال القرطبي: وإِنما خصَّ المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به ﴿إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ﴾ أي إن ربك يا محمد يفصل بين بني إسرائيل يوم القيامة بحكمه العادل، وقضائه المبرم، فيجازي المحقَّ والمبطل ﴿وَهُوَ العزيز﴾ أي المنيع الغالب الذي لا يُردُّ أمره ﴿العليم﴾ أي العليم بأفعال العباد فلا يخفى عليه شيء منهم ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ أي فوِّضْ إليه أمرك، واعتمد عليه في جميع شئونك فإنه ناصرك ﴿إِنَّكَ عَلَى الحق المبين﴾ أي إنك يا محمد على الدين الحق، الواضح المنير، فالعاقبة لك بالنصر على الكفار ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ أي لا تُسمع الكفار لتركهم التدبر والاعتبار، فهم كالموتى لا حسَّ لهم ولا عقل ﴿وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾ أي ولا تُسمعهم دعاءَك ونداءك إِذا ذكَّرتهم بالله أو دعوتهم إلى الإِيمان، لأنهم كالصُّم الذين في آذانهم وقرٌ، فلا يستجيبون الدعاء، لا سيما إذا تولَّوا عنك معرضين، فإِن الأصمَّ إذا تولى مدبراً ثم ناديته كان أبعد عن السماعحيث انضمَّ إلى صممه بُعدُ المسافة ﴿وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ﴾ أي وليس بوسعك يا محمد أن تصرف عُمي القلوب عن كفرهم وضلالهم ﴿إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ أي ما تُسمع - سماع تدبر وإِفهام - إلا المؤمنين، ولا يستجيب لدعوتك إلاّ أهل الإيمان، وهم الذين انقادوا وأسلموا وجوههَم للرحمن.
. شبَّه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى في أنهم لا يسمعون وإن كانوا أحياء، ثم شبههم ثانياً بالصم وبالعُمي وإِن كانوا سليمي الحواس، وأكَّد عدم سماعهم بقوله ﴿إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾ لأن الأصمَّ، وكالعُمي، لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون، ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل الكونية، أو الآيات القرآنية ﴿وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾ هذا بيان لما يكون بين يدي الساعة أي وإِذا قَرُبَ نزول العذاب وقيام الساعة، وحان وقت عذاب الكفار ﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ﴾ أي أخرجنا للكفار هذه الآية الكبيرة «دابة الأرض» تكلم الناس وتناظرهم وتقول من جملة كلامها: ألا لعنةُ الله على الظالمين، الذين لا يصدّقون ولا يؤمنون بآيات
384
الله، وخروجُ الدابة من أشراط الساعة وفي الحديث
«لا تقوم الساعةُ حتى تروا عشر آياتٍ.. وعدَّ منها طلوع الشمس من مغربها، وخروجَ الدابة..» الحديث قال ابن كثير: هذه الدابة تخرج في آخر الزمان، عند فساد الناس وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، فتكلم الناس وتخاطبهم مخاطبة قال ابن عباس: تكلمهم كلاماً فتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وروي أن خروجها حي ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر، ولا يبقى منيبٌ ولا تائب، وهي آية خاصة خارقة للعادة، ثم ذكر تعالى بعض مشاهد القيامة فقال ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾ أي واذكر يوم نجمع للحساب والعقاب من كل أمةٍ من الأمم جماعة وزمرة ﴿مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا﴾ أي من الجاحدين المكذبين بآياتنا ورسلنا ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي فهم يُجمعون ثم يُساقون بعنف ﴿حتى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً﴾ أي حتى إذا حضروا موقف الحساب والسؤال قال لهم تعالى مُوبِخاً ومُقرِّعاً: أكذبتم بآياتي المنزلة على رسلي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، أو معرفة صدقها؟ ﴿أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تقريع وتوبيخ آخر أيْ أيَّ شيء كنتم تعملون في الدنيا؟ وبَّخهم أولاً بقوله ﴿أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي﴾ ثم اضرب عنه إلى استفهام تقرير وتبكيت كأنه قيل: دَعُوا ما نسبتُه إليكم من التكذيب وقولوا لي: أيَّ شيءٍ كنتم تعملونه في الدنيا غير التكذيب؟ ﴿وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ﴾ أي بُهِتوا فلم يكن لهم جواب، وقامت عليهم الحجة وحقَّ عليهم العذاب، بسبب ظلمهم وهو تكذيبهم بآيات الله ﴿فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ﴾ أي فهم لا يتكلمون لأنه ليس لهم عذر ولا حجة، وقد شُغلوا بالعذاب عن الجواب.. ثم لما ذكر تعالى أهوال القيامة ذكر الأدلة والبراهين على التوحيد والحشر والنشر مبالغةً في الإِرشاد إلى الإِيمان فقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً﴾ أي ألم يروا قدرة الله فيعتبروا أنه تعالى جعل الليل مظلماً ليناموا ويستريحوا من تعب الحياة، وجعل النهار منيراً مشرقاً ليتصرفوا فيه في طلب المعاش والرزق؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي إن في تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة، ومن ظلمةٍ إلى نور لآيات باهرة، ودلائل قاطعة على قدرة الله لقومٍ يصدّقون فيعتبرون، ثم أشار تعالى إلى أحوال الناس في الآخرة فقال ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ أي واذكر يوم ينفخ إسرافيل في الصور «نفخة الفزع» فلا يبقى أحدٌ من أهل السماوات والأرض إلا خاف وفزع إلا من شار الله من الملائكة والأنبياء والشهداء قال المفسرون: هذه نفخة الفزع، ثم تتلوها نفخة الصَّعق - وهو الموت - ثم بعد ذلك نفخة النشور من القبور وهي نفخة القيام لرب العالمين، قال أبو هريرة: إن الملك له في الصور ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفزع - وهو فزع الحياة الدنيا - وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصَّعْق، ونفخة القيام من القبور ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ أي وكلٌّ من الأموات الذين أُحيوا أتَوْا ربَّهم صاغرين مطيعين لم يتخلف منهم أحد ﴿وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ أي وترى أيها المخاطب الجبال وقت النفخة الأولى تظنها ثابتة في مكانها وواقفة ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب﴾ أي وهي
385
تسير سيراً سريعاً كالسحاب قال الإِمام الفخر: ووجه حسبانهم أنها جامدة أن الأجسام الكبار إذا تحركت سريعة على نهجٍ واحد ظنَّ الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً سريعاً ﴿صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي ذلك صنعُ الله البديع، الذي أكحم كل شيء خلقه، وأودع فيه من الحكمة ما أودع ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ أي هو عليم بما يفعل العباد من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
. ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم الرهيب فقال ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾ أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات، فإِن الله يضاعفها له إلى عشر حسنات، ويعطيه بالعمل القليل الثواب الأبدي ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ أي وهم من خوف ذلك اليوم العصيب آمنون كما قال تعالى ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣] ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾ قال ابن عباس: لاسيئة: الإِشراك بالله أي ومن جاء يوم القيامة مسيئاً لا حسنة له أو مشركاً بالله فإِنه يكبُّ في جهنم على وجهه منكوساً، ويُلقى فيها مقلوباً ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي يقال لهم توبيخاً: هل تُجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من سيء الأعمال؟ ﴿إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا﴾ أي قل لهم يا محمد: لقد أُمرت أن أخصَّ الله وحده بالعبادة ربَّ لابلد الأمين الذي جعل مكة حرماً آمناً لا يُسفك فيها دم، ولا يُظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها ولا يُختلى خلاها كما جاء في الحديث الصحيح ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ﴾ أي هو تعالى الالق والمالك لكل شيء فهو رب كل شيء ومليكه ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ أي وأُمرتُ أن أكون من المخلصين لله بالتوحيد، المنقادين لأمره، المستسلمين لحكمه ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن﴾ أي أُمرتُ أيضاً بتلاوة القرآن لتنكشف لي حقائقه الرائعة، وأن أقرأه على الناس ﴿فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي فمن اهتدى بالقرآن، واستنار قلبه بالإِيمان، فإِن ثمرة هدايته راجعة إليه ﴿وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين﴾ أي ومن ضلَّ عن طريق الهدى، فوبالُ ضلاله مختص به، إذْ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغتكم رسالة الله ﴿وَقُلِ الحمد للَّهِ﴾ أي قل يا محمد: الحمد لله على ما خصني به من شرف النبوة والرسالة، وما أكرمني من رفيع المنزلة والمقام ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ تهديد ووعيد أي سيريكم آياته الباهرة الدالة على عظيم قدرته وسلطانه في الأنفس والآفاق فتعرفونها حين لا تنفعكم المعرفة ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي وما ربك بغافل عن أعمال العباد بل هو على كل شيء شهيد، وفيه وعدٌ ووعيد.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستفهام الإِنكاري ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ وتكرير الهمزة ﴿أَإِنَّا﴾ للمبالغة في التعجب والإِنكار.
٢ - الوعيد والتهديد ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين﴾.
٣ - التأكيد بإِن واللام ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ﴾ ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ﴾ ﴿وَإِنَّهُ لَهُدًى﴾.
٤ - الطباق ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ لأن معنى ﴿تُكِنُّ﴾ تخفي.
386
٥ - الاستعارة البديعة ﴿إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ﴾ لأن القصص لا يوصف به إلا الناطق المميز، ولكنَّ القرآن لما تضمَّن نبأ الأولين، كان الشخص الذي يقصُّ على الناس الأخبار ففيه استعارةٌ تبعية.
٦ - المبالغة ﴿العزيز العليم﴾ لأن صيغة فعيل من صيغ المبالغة.
٧ - الاستعارة التمثيلية ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ التعبير بالموتى، والصم، والعمي، جاء كله بطريق الاستعارة، وهو تمثيل لأحوال الكفار في عدم انتفاعهم بالإِيمان بأنهم كالموتى والصم والعمي.
٨ - أسلوب التوبيخ والتأنيب ﴿أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ؟
٩ - الطباق ﴿مَن جَآءَ بالحسنة.. وَمَن جَآءَ بالسيئة﴾.
١٠ - التشبيه البليغ ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب﴾ أي تمرُّ كمرِّ السحاب في السرعة، حذفت الأداة ووجه الشبه فأصبح تشبيهاً بليغاً مثل محمد قمر.
١١ - الإِحتباك ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً﴾ حُذف من أوله ما أُثبت في آخره وبالعكس، أصله جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً للتصرفوا فيه فحذف «مظلماً» لدلالة «مبصراً» عليه، وحذف «لتتصرفوا فيه» لدلالة ﴿لِيَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ وهذا النوع يسمى الإِحتباك وهم من المحسنات البديعية.
387
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
سنَّ سُليمانُ لنا سُنَّةً وكان فيما سنْه مُقْتدى