ﰡ
(مكية إلا ثلاث آيات وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلخ حروفها ألفان ومائة وعشرة كلمها خمسمائة وثمانية وأربعون آياتها أربع وثلاثون)
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ١٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
ورحمة بالرفع. حمزة وأبو عون عن قنبل ليضل بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ويَتَّخِذَها بالنصب: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بسكون الياء: البزي والقواس. وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله يا بُنَيَّ أَقِمِ الباقون: بكسر الياء. مثقال بالرفع: أبو جعفر ونافع نصاعر بالألف: أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف. الآخرون. بالتشديد.
الوقوف:
الم هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ وقف لمن قرأ وَرَحْمَةً بالرفع على تقدير هو هدى. ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في تِلْكَ فلا وقف لِلْمُحْسِنِينَ هـ لا يُوقِنُونَ هـ ط الْمُفْلِحُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط قد يوقف لمن قرأ وَيَتَّخِذَها بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفا على لِيُضِلَّ فهو معطوف على يَشْتَرِي هُزُواً ط مُهِينٌ ط وَقْراً ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء أَلِيمٍ هـ النَّعِيمِ هـ لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم فِيها ط لأن التقدير وعد الله وعدا حَقًّا ط الْحَكِيمُ هـ دابَّةٍ هـ للعدول كَرِيمٍ هـ دُونِهِ ط مُبِينٍ هـ لِلَّهِ ط لِنَفْسِهِ ج حَمِيدٌ هـ بِاللَّهِ ط وقد يوقف على لا تُشْرِكْ على جعل الباء للقسم وهو تكلف عَظِيمٌ هـ بِوالِدَيْهِ ج لانقطاع النظم مع تعلق أَنِ اشْكُرْ ب وَصَّيْنَا وَلِوالِدَيْكَ ط الْمَصِيرُ هـ مَعْرُوفاً ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين إِلَيَّ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار تَعْمَلُونَ هـ اللَّهُ ط خَبِيرٌ هـ أَصابَكَ ط الْأُمُورِ هـ ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين مَرَحاً ط فَخُورٍ ج لما ذكر مِنْ صَوْتِكَ هـ ط الْحَمِيرِ هـ.
التفسير:
لما قال في آخر السورة المتقدمة وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: ٢٧] وكان فيه إشارة إلى إعجاز القرآن، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة. وتفسيره إلى الْمُفْلِحُونَ كما في أول البقرة. إلا قوله تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ فإنه مذكور في أول «يونس». وحيث زاد هاهنا وَرَحْمَةً قال لِلْمُحْسِنِينَ فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى
لقوله ﷺ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» «١»
ولقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: ١٢٨]
وروي عن النبي ﷺ «روّحوا القلوب ساعة فساعة»
والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق
كقوله «يا بلال روّحنا»
ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان مع اشتغاله بلهو الحديث مستكبرا عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ومحل كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً نصب على الحال قال جار الله: الأولى حال من ضمير مُسْتَكْبِراً والثانية من لَمْ يَسْمَعْها قلت:
هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما ومُسْتَكْبِراً حالا من فاعل وَلَّى أي مستكبرا مشابها لمن لم يسمعها مشابها لمن في أذنيه وقر. وجوز أن يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن، قال أهل البرهان: هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ هاهنا في ذمه لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي صمما لا يقرع مسامعه صوت، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة. وترك الجملة الثانية في «الجاثية» لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً [الجاثية: ٩] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره. وحين بين
روي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود عليه السلام: بحق ما سميت حكيما.
وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضا فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا.
ثم فسر الحكمة بقوله أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لأن إيتاء الحكمة في معنى القول. قال العلماء: هذا أمر تكوين أي جعلناه شاكرا فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم، وفيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد. وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لابنه المسمى أنعم أو أشكم. قيل:
كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما. ووجه كون الشرك ظلما عظيما أنه وضع فيه أخس الأشياء- وهو الفقير المطلق- موضع أشرف الأشياء- وهو الغني المطلق- ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الإشراك بالله. وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان: أحدهما أن طاعة الأبوين تالية
روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك.
وقوله وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ توقيت للفطام كما مر في «البقرة» في قوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: ٢٣٣] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من المشاق. ومعنى مَعْرُوفاً صحابا أو مصاحبا معروفا على ما يقتضيه العرف والشرع. وفي قوله وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة. واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في «العنكبوت» وفي «الأحقاف» نزلت في سعد بن أبي وقاص وفي أمه حمنة بنت أبي سفيان،
وذلك أنه حين أسلم قالت: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد- وكان أحب ولدها إليها «فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله ﷺ وشكا إليه فنزلت هذه الآيات، فأمره رسول الله ﷺ أن يتراضاها بالإحسان
وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله حُسْناً لأن قوله أَنِ اشْكُرْ قام مقامه، وإنما قال هاهنا وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ لأنه أراد وإن حملاك على الإشراك، وقال في العنكبوت لِتُشْرِكَ [العنكبوت: ٨] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار. وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهو قوله يا بُنَيَّ إِنَّها أي القصة إِنْ تَكُ أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال: الحبة إن تك كحبة الخردل. ومن قرأ مِثْقالَ بالرفع تعين أن يكون الضمير في إِنَّها للقصة وتأنيث تَكُ لإضافة المثقال إلى الحبة.
وروي أن ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أي في مغاصه يعلمها الله؟ إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.
سؤال: الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟
الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا: الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء. وقال أهل الأدب: فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله، أراد فكانت مع صغرها في أخفى
التأويل:
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود لَهْوَ الْحَدِيثِ قال الجنيد: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ القلب لِابْنِهِ السر المتولد من ازدواج الروح والقلب وَهُوَ يَعِظُهُ أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا فِي عامَيْنِ يريد فطامه عن مألوفات الدارين وَإِنْ جاهَداكَ فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات، فإن الروح قد يميل إلى مجانسه من الروحانيات، والقلب يميل تارة إلى الروح، وأخرى إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ وهو الخفي. إِنَّها إِنْ تَكُ يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٠ الى ٣٤]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
نِعَمَهُ على الجمع: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص والبحر بالنصب: أبو عمرو ويعقوب عطفا على اسم «أن» الآخرون: بالرفع حملا على محل «أن» ومعمولها وَأَنَّ ما يَدْعُونَ على الغيبة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ التشديد: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم.
الوقوف:
وَباطِنَةً ط مُنِيرٍ هـ آباءَنا ط السَّعِيرِ هـ الْوُثْقى ط الْأُمُورِ هـ كُفْرُهُ هـ عَمِلُوا ط الصُّدُورِ هـ غَلِيظٍ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط لِلَّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط الْحَمِيدُ هـ كَلِماتُ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ واحِدَةٍ ط بَصِيرٌ هـ وَالْقَمَرَ ز لأن قوله كُلٌّ مبتدأ مع عطف «أن» على «أن» الأولى خَبِيرٌ هـ الْباطِلُ لا الْكَبِيرُ هـ مِنْ آياتِهِ ط شَكُورٍ هـ الدِّينَ ج مُقْتَصِدٌ ط كَفُورٍ هـ عَنْ وَلَدِهِ لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظا مع صدق الاتصال معنى شَيْئاً ط الدُّنْيا قف للفصل بين الموعظتين الْغَرُورُ هـ السَّاعَةِ ج لاختلاف الجملتين الْغَيْثَ ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب الْأَرْحامِ ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام غَداً ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها تَمُوتُ ط خَبِيرٌ هـ.
التفسير:
لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة أيضا،
وقيل: النفس. ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول «الحج». ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلا أَوَلَوْ كانَ إلخ. ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا؟ ثم أراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وهو نظير قوله في «البقرة» بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [الآية: ١١٢] والفرق أن معناه مع «إلى» يرجع إلى التفويض والتسليم، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي. وقوله يمتعهم الآية. كقوله في البقرة وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ [الآية: ١٢٦] وغلظ العذاب شدته. ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر «العنكبوت» مثله إلا أنه قال في آخره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وذلك أنه زاد هناك قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الرعد: ٢] فبالغ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس. ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق. وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الآية. عن ابن عباس: أنها نزلت جوابا لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة. وقيل: هي جواب قول المشركين أن الوحي سينفد.
وتقدير الآية على قراءة الرفع: لو ثبت كون الأشجار أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. ويجوز أن تكون الجملة حالا واللام في البحر للجنس. وجعل جنس البحار ممدودا بالسبعة للتكثير لا للتقدير، فإن كثيرا من الأشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله
قوله ﷺ «المؤمن يأكل في معا واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» «١»
أراد الأكل الكثير. وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل
الموطأ في كتاب صفة النبي حديث ٩، ١٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢١، ٤٣) (٤/ ٣٣٦).
ومعنى بِنِعْمَتِهِ بإحسانه ورحمته أو بالريح الطبية التي هي بأمر الله إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على الضراء شَكُورٍ في السراء. ووجه المناسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه
قوله ﷺ «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر».
ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة. وإنما قال هاهنا.
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وقد قال فيما قبل إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: ٦٥] لأنه ذكر هاهنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله أثر في الخيال فيخفض شيئا من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار، ويلزمه أن يكون متوسطا في الإخلاص أيضا لا غاليا فيه، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر أشد الغدر ومنه قولهم «لا تمد لنا شبرا من غدر إلا
وذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن، فكأنه قال: لا يجزى فيه والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شيئا من الآلام وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً من أسباب الإهانة. قال جار الله: إنما أوردت الجملة الثانية اسمية لأجل التوكيد. وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط «هو» مزيد تأكيد. وفي لفظ الْمَوْلُودِ دون أن يقول «ولا ولد» تأكيد آخر، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضا بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل: إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لمن فوقه. وقيل: إنما أوردت الثانية اسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوبا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بمجيء ذلك اليوم حَقٌّ أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق. والْغَرُورُ بناء مبالغة وهو الشيطان أي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة.
روي عن النبي ﷺ «مفاتيح الغيب خمس» وتلا قوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «١»
إلى آخرها. وعن المنصور، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس. فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة: تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. قال في التفسير الكبير: ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة. كان لقائل أن يقول: متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مرارا وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى. ثم إنه كأنه قال: أيها السائل إن لك شيئا أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم ماذا تَكْسِبُ غَداً مع أنه فعلك وزمانك ولا
روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه. فقال الرجل:
من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان نظري إليه تعجبا منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
قال جار الله: جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة كأنه قال: إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرىء بأية أرض والأفصح عدم تأنيثه.
التأويل:
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية، البسيطة والمركبة. وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها. وتسخير ما في أرض النفوس من أضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها. ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ لفساد استعدادهم تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ سلامتهم في الظاهر معلومة، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحقيقة لإراءة آيات شواهد الحق، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف.