تفسير سورة السجدة

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

به احد من خلص عباده أصلا إذ هو خارج عن استعداداتهم مطلقا واما امر المعجزات والكرامات الخارقة للعادات الصادرة عن خواص عباد الله من الأنبياء والأولياء فما صدرت ايضا منهم هذه الأمور الا باطلاع الله إياهم وتوفيقهم عليها وهم مجبورون مضطرون في ظهور أمثال تلك الكرامات عنهم مع ان بعض ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة جمال الله وجلاله قد تحزنوا وتغمموا عند ظهور أمثاله كثيرا كما يشاهد من بعض بدلاء الزمان ادام الله بركته على معارف اهل الايمان والعرفان وبالجملة لا بد ان يكون الموحد في عموم أحواله وأوقاته متمسكا بحبل الرضاء والتسليم راضيا بما جرى عليه من صولجان القضاء بلا تطلب منه وترقب لشيء. جعلنا الله ممن تمكن بمقام الرضاء ورضى بجميع ما ثبت له بلا ترقب نحو شيء لا يرد عليه بل له ان يترصد في جادة الرضاء منتظرا بعموم ما يرد عليه من القضاء الحق في لوح القضاء
[سورة السجدة]
فاتحة سورة السجدة
لا يخفى على اهل العناية الموفقين من عند الله باستكشاف ما في طي كتابه من المعارف والحقائق المتعلقة بسرائر التوحيد والمسترشدين منه بقدر ما يسر الله لهم من الأخلاق الإلهية المودعة فيهم ان أمثال هذه الأسرار والرموز والإشارات المندرجة في هذا الكتاب لا يليق الا بجناب الحكيم الوهاب المطلع على سرائر ما ظهر وما بطن من آثار الوجود غيبا وشهادة دنيا وعقبا إذ لا يسع لبشر ان يتفوه بهذه الحكم والاحكام على هذا النهج والنظام الأبلغ الأكمل وليس في طاقتهم واستعدادهم الوقوف على المغيبات التي قد تخصص بها سبحانه وبالاحاطة بالأمور التي تعلقت بالنشأتين وترتبت على المنزلتين ومن له ادنى درية بأساليب الكلام ودراية في اتساقه وانتظامه وترتيب ألفاظه وكلماته وتطبيق معانيه وترصيف محاويه ومبانيه جزم انه خارج عن طور البشر ومعلوماته إذ لا مناسبة لعقولهم به وبما فيه من الرموز والإشارات الخارجة عن طور البشر وطوقه. ثم لما بلغ المرتابون في قدحه وطعنه ونسبته الى الاختلاق والافتراء مجادلة ومراء رد الله سبحانه عليهم على ابلغ وجه وآكده مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي قد انزل على عباده الكتاب ليبين لهم طريق الصدق والصواب في سلوك سبيل التوحيد والعرفان الرَّحْمنِ لهم بإرسال الرسول الهادي الى دار السلام وروضة الجنان الرَّحِيمِ لهم يشرفهم فيها بلقاء الرحمن
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل الأعلم للوازم لوامع أنوار الوجود اللائح على صفائح الأكوان بمقتضى الجود الملاحظ المطالع لها بتوفيق الله الملك الودود
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الجامع لما في الكتب السالفة المبين لأحكام دين الإسلام المنزل عليك يا أكمل الرسل لتأييدك وترويج دينك لا رَيْبَ فِيهِ انه نازل من الله الجامع لجميع الأسماء والصفات كما ان مرتبتك جامعة لجميع مراتب اهل العلم وأنت مبعوث الى كافة الأمم هكذا قد صار كتابك نازلا مِنْ الله رَبِّ الْعالَمِينَ أيشكون ويترددون في نزوله من عنده سبحانه وتعالى أولئك الطاعنون الضالون
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ واختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى الله افتراء ومراء تغريرا وتلبيسا لا تحزن يا أكمل الرسل عليهم ولا تلتفت الى قولهم هذا بَلْ هُوَ الْحَقُّ الثابت المحقق المثبت نزوله مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع الكرم واصطفاك من بين البرايا بالرسالة العامة قد أنزله إليك مشتملا على الإنذارات الشديدة والتخويفات البليغة لِتُنْذِرَ أنت بوعيداته قَوْماً قد انقطع عنهم آثار النبوة والرسالة لبعد العهد إذ ما أَتاهُمْ بعد عيسى صلوات الله عليه وسلامه مِنْ نَذِيرٍ انذرهم
عن الباطل وأرشدهم الى طريق الحق مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل بل هم كانوا على فترة من الرسل فارسلك الحق إليهم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بهدايتك وارشادك الى توحيد الحق واتصافه بأوصاف الكمال وكيف لا يوحدونه سبحانه ولا يؤمنون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته مع انه
اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي خَلَقَ وأوجد بقدرته الكاملة السَّماواتِ اى العلويات وَالْأَرْضَ اى السفليات وَما بَيْنَهُما اى الممتزجات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وساعات وآنات منبسطة في عموم الأقطار والجهات الست ثُمَّ بعد ما قدتم التمهيد والبسط اسْتَوى واستولى وتمكن سبحانه عَلَى الْعَرْشِ اى قد انبسط وامتد اظلاله على عروش عموم ما ظهر وبطن من الأنفس والآفاق بالاستقلال التام والتصرف العام مع صرافة وحدته الذاتية بلا شوب شركة وطرق كثرة لذلك ما لَكُمْ ايها الاظلال المنعكسة من شمس ذاته مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم ويتصرف فيكم وَلا شَفِيعٍ ينصركم ويعاون عليكم سواه سبحانه أَتشكون وتترددون في وحدته وولايته سبحانه ايها المنهمكون في بحر الغفلة والضلال فَلا تَتَذَكَّرُونَ ولا تتعظون بمواعظه وتذكيراته مع انه قد كررها مرارا وكيف لا هو الذي
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى عالم الأمر المنبئ عن الإيجاد والإظهار بانزال الملائكة الذين هم مظاهر أوصافه وأسمائه مِنَ السَّماءِ اى سماء الأسماء المتعالية عن الأقطار والجهات مطلقا إِلَى الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والهيولى القابلة لقبول آثارها وانما أنزلهم واهبطهم سبحانه ليعد ويستعد حسب حكمته خلاصة المظاهر والمصنوعات لقبول فيضان سلطان توحيده ثُمَّ بعد ما تم على الوجه الابدع والنظام الأتم الأبلغ يَعْرُجُ ويصعد إِلَيْهِ سبحانه عموم ما يترتب على عالم الأمر من المعارف والحقائق والأسرار الكلية في سريان الوحدة الذاتية بعد انقراض النشأة الاولى فِي يَوْمٍ معد لعروجه وصعوده كانَ مِقْدارُهُ اى مقدار ذلك اليوم في الطول والامتداد أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في هذه النشأة من الأيام والأعوام وانما دبر سبحانه ما دبر من المعارف والحقائق المترتبة على الإيجاد والإظهار وقدر للعروج والصعود ما قدر لحكم ومصالح قد استأثر بها سبحانه في غيبه ولم يطلع أحدا عليها إذ
ذلِكَ الذات البعيد ساحة عز حضوره عن ان يحوم حوله ادراك احد من مظاهره ومصنوعاته عالِمُ الْغَيْبِ الذي لم يتعلق به علم احد سواه وَالشَّهادَةِ المنعكسة منه حسب تجلياته الجمالية والجلالية الْعَزِيزُ الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة حضرة علمه المحيط بان يتصرف فيه كيف يشاء ارادة واختيارا الرَّحِيمُ
الَّذِي وسعت رحمته كل ما لاحت عليه بروق تجلياته لذلك قد أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وقدر وجوده بعد ما دخل في حيطة حضرة علمه وقدرته وارادته وَبَدَأَ من بينه خَلْقَ الْإِنْسانِ يعنى آدم وقدر وجوده أولا مِنْ طِينٍ إذ هو اصل في عالم الطبيعة قابل لفيضان آثار الفاعل المختار مستعد لها استعدادا اصليا وقابلية ذاتية
ثُمَّ بعد ما تعلق ارادته سبحانه بابقاء نوعه جَعَلَ نَسْلَهُ اى قدر بصنعه وجود ذرياته المتناسلة المتكثرة المتخلفة المستخلفة منه على سبيل التعاقب والترادف والتوالي مِنْ سُلالَةٍ وفضلة منفصلة منه كائنة حاصلة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن مسترذل مستقذر لخروجه عن مجرى الفضلة
ثُمَّ بعد ما قدر خلقه أولا من الطين وثانيا من الماء المهين قد سَوَّاهُ سبحانه إظهارا لقدرته وعدّ له وقوّم أركانه على احسن التقويم وَبعد تسويته وتعديله قد نَفَخَ فِيهِ سبحانه مِنْ رُوحِهِ ووجوده وحياته المضافة الى ذاته المستجمع
لجميع أوصافه وأسمائه تتميما لرتبة خلافته ونيابته واستحقاقه لمرآتية الحق وقابلية انعكاس شئونه وتطوراته ولياقته للتخلق بأخلاقه وَبالجملة قد جَعَلَ وهيأ لَكُمُ ايها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد السَّمْعَ لتسمعوا بها آيات التوحيد ودلائل اليقين والعرفان وَالْأَبْصارَ لتشاهدوا بها آثار القدرة والارادة الكاملة المحيطة بذرائر الأكوان وَالْأَفْئِدَةَ المودعة فيكم لتتأملوا بها سريان الوحدة الذاتية على هياكل الأشباح الكائنة والفاسدة وتتفكروا بها في آلاء الله ونعمائه المتوالية المتوافرة ومع وفور تلك النعم العظام والفواضل الجسام قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وتؤدون حقها وتصرفونها الى مقتضياتها التي قد جبلها الحق لأجلها
وَمن غاية كفرانهم بنعم الله ونهاية عمههم وسكرتهم فيه قالُوا اى ابىّ ومن معه من المنافقين بعد ما سمعوا امر البعث والحشر ويوم العرض والجزاء مستبعدين مستفهمين مكررين على سبيل المبالغة في الإنكار أَإِذا ضَلَلْنا وقد اضمحللنا وغبنا فِي الْأَرْضِ وصرنا من جملة الهباآت المنبثة المتلاشية المتناثرة التي لا تمايز فيها أصلا أَإِنَّا بعد ما قد كنا كذلك ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ووجود مجدد معاد مثل ما كنا عليه قبل موتنا كلا وحاشا مالنا عود الى الدنيا سيما بعد ما متنا وصرنا ترابا وعظاما وايضا ما يقتصرون بمجرد قولهم هذا بَلْ هُمْ من غلظ غشاوتهم وغطائهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع النعم وأفاض عليهم سجال اللطف والكرم في النشأة الاخرى وبقبض ملك الموت أرواحهم بأمر الله إياه في النشأة الاولى كافِرُونَ منكرون جاحدون
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعد ما سمعت قولهم وانكارهم هذا يَتَوَفَّاكُمْ ويستوفى اجلكم أولا ايها المنهمكون في الغفلة والضلال مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ باذن الله لقبض أرواحكم ثُمَّ بعد ما قبضتم في النشأة الاولى وبعثتم من قبوركم احياء في النشأة الاخرى إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ للعرض والجزاء
وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي يومئذ بعد ما قد بعث الخلائق وعرضوا على ربهم حيارى سكارى تائهين هائمين إِذِ الْمُجْرِمُونَ المنكرون بالبعث والنشور والعرض وبشرف اللقاء حينئذ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من غاية الخجالة والحياء قائلين من نهاية اضطرارهم واضطرابهم مناجين معه سبحانه رَبَّنا يا من ربانا بأنواع الكرامة فكفرناك وأرسلت إلينا رسلا فكذبناهم عنادا وأنكرنا عليهم وعلى دعوتهم مكابرة فاليوم قد أَبْصَرْنا ما هو الحق المطابق للواقع وَسَمِعْنا منك حقا صدق رسلك وجميع ما جاءوا به من عندك فَارْجِعْنا بفضلك ولطفك الى الدنيا مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى نَعْمَلْ فيها عملا صالِحاً مرضيا عندك مقبولا لديك بمقتضى ما ابصرتنا واسمعتنا الآن وبالجملة إِنَّا مُوقِنُونَ اليوم بعموم ما قد جاء به رسلك ونطق به كتبك فيما مضى لو رأيت ايها المعتبر الرائي حالهم هذا وسمعت مناجاتهم هذه حينئذ لرأيت امرا فظيعا فجيعا ثم نودوا من وراء سرادقات العز والجلال الآن قد مضى وقت الاختبار والابتلاء وانقرض زمان التدارك والتلافي
وَلَوْ شِئْنا وتعلق ارادتنا ومشيتنا بهدايتكم أولا لَآتَيْنا في دار الابتلاء كُلَّ نَفْسٍ منكم هُداها ووفقكم عليها كما قد آتينا لخلص عبادنا ويسرنا لهم الهداية والرشد ووفقناهم عليها وَلكِنْ قد حَقَّ صح وثبت الْقَوْلُ والحكم مِنِّي حسب حكمتى ومصلحتي لَأَمْلَأَنَّ انا بمقتضى عزى وجلالي جَهَنَّمَ المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية مِنَ الْجِنَّةِ التي هي جنود إبليس وَمن النَّاسِ الناسين بمقتضى العهود الفطرية والمواثيق الجبلية بتغريرات شياطين
نفوسهم الامارة بالسوء أَجْمَعِينَ وبالجملة ما يبدل القول الذي لدىّ ولا معقب لحكمي
فَذُوقُوا اى قلنا لهم بعد ما لم نستجب دعوتهم ذوقوا اليوم ايها الضالون المسرفون بِما نَسِيتُمْ اى بشؤم نسيانكم وطغيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا مع ان الرسل قد بالغوا باخباره إياكم والكتب قد نطقت بتبيينه عليكم على ابلغ وجه وآكده وأنتم قد أصررتم على الإنكار غافلين ناسين مكابرين وبالجملة إِنَّا قد نَسِيناكُمْ اليوم في انواع العذاب والنكال كما نسيتم أنتم إيانا فيما مضى وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ اى المخلد المؤبد بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفران الدائم والنسيان المستمر في النشأة الاولى أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك. ثم قال سبحانه بمقتضى سنته المستمرة
إِنَّما يُؤْمِنُ ويذعن بِآياتِنَا الدالة على وحدة ذاتنا وبكمالات أسمائنا وصفاتنا الموحدون المخبتون الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها اى بالآيات تبشيرا وانذارا خَرُّوا وسقطوا سُجَّداً متذللين مستقبلين مبادرين لقبولها وامتثال ما فيها من الأوامر والنواهي والعبر والتذكيرات الواردة في محاويها وَمع ذلك قد سَبَّحُوا ونزهوا ربهم عما لا يليق بجناب قدسه قائلين بِحَمْدِ رَبِّهِمْ عادّين نعمه على أنفسهم مواظبين على شكرها خاضعين خاشعين أذلاء واضعين جباههم على تراب المذلة تواضعا واسقاطا للكبر والخيلاء المذمومين عقلا وشرعا وَهُمْ حينئذ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله وعن الانقياد بأوامره وأحكامه الواردة الموردة في كتابه ومن كمال اطاعتهم وانقيادهم
تَتَجافى اى تتخى وترتفع جُنُوبُهُمْ وضلوعهم عَنِ الْمَضاجِعِ والبسط والوسائد التي هم رقدوا عليها في الليل يعنى قد بعدوا في خلال الليالى عن مواضع رقودهم واستراحتهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حينئذ خَوْفاً من بطشه واخذه حسب قهره وجلاله وَطَمَعاً لمرضاته وسعة رحمته وجوده ومغفرته حسب لطفه وجماله وَهم لا يقتصرون بمجرد قيام الليل وصلاة التهجد فيه بل مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقناهم نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي يُنْفِقُونَ في سبيلنا على الطالبين المتوجهين إلينا منقطعين عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها سوى سد جوعة وستر عورة وهم بارتكاب هذه المتاعب والمشاق ما يريدون الا وجه الله وما يطلبون الا رضاه سبحانه موثرين رضاء الله على أنفسهم مخلصين فيه وبالجملة
فَلا تَعْلَمُ ولا تعرف ولا تأمل نَفْسٌ منهم كيفية ما أُخْفِيَ وأعد لَهُمْ من قبل الحق قُرَّةِ أَعْيُنٍ ألا وهي فوزهم بشرف لقائه ورؤية وجهه الكريم بلا كيف واين ووضع وجهة واضافة. اللهم ارزقنا لقاءك وجنبنا عما سواك وانما أعد لهم سبحانه ما أعد لهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ على وجه الإخلاص من إيثارهم جانب الحق على أنفسهم
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً يعنى أتظنون ايها الظانون المسرفون الجاحدون المنكرون ان من كان مؤمنا موقنا بوحدانية الله متصفا بالأعمال الصالحة المؤيدة لإيمانه كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن ربقة الايمان والإخلاص وعن عموم حدود الشرائع والأديان الواردة لحفظ الايمان كلا وحاشا انهم لا يَسْتَوُونَ في الشرف والكمال والفوز والنوال بل
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية الحق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم على وجهها مع كونهم مخلصين فيها خاشعين خاضعين فَلَهُمْ في النشأة الاخرى بعد ما انقرضوا عن دار الدنيا جَنَّاتُ الْمَأْوى اى المتنزهات المعدة لأرباب المحبة والولاء تأوى إليها نفوسهم على الرغبة الكاملة والطوع التام لتكون نُزُلًا لهم ومنزلا يسكنون فيه ويستريحون بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى بمقابلة ما يتحملون من المتاعب والمشاق في طريق التوحيد والعرفان
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وتركوا الايمان بالله وخرجوا عن مقتضيات الأوامر والنواهي الموردة في كتبه سبحانه وعلى ألسنة رسله فَمَأْواهُمُ مرجعهم ومثواهم في النشأة الاخرى النَّارُ المعدة لأهل الشقاوة الازلية هم فيها خالدون مخلدون مؤبدون لا نجاة لهم منها أصلا بل كُلَّما أَرادُوا وأملوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها حيث امهلهم الخزنة الموكلون عليهم الى ان يصلوا الى شفيرها ثم بعد ذلك أُعِيدُوا فِيها زجرا وقهرا تاما مهانين صاغرين وَقِيلَ لَهُمْ اى قال لهم الزبانية الموكلون بالهام الله إياهم ذُوقُوا ايها المنكرون المصرون عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ حين أخبركم به الرسل والكتب وأنذركم به النبيون المنذرون. ثم أشار سبحانه الى رداءة فطنة اصحاب الضلال وخباثة طينتهم فقال على سبيل المبالغة والتأكيد مقسما
وَالله لَنُذِيقَنَّهُمْ ولنصبن عليهم في دار الابتلاء مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى الأنزل الأسهل مثل القحط والطاعون والوباء والقتل والسبي والزلزلة وانواع المحن والبليات التي هي أسهل وأيسر بمراحل دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عند عذاب الآخرة الذي هو في غاية الشدة ونهاية الألم والفظاعة وانما أخذناهم بما أخذناهم في النشأة الاولى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مما هم عليه من الكفر والشقاق ويتفطنون عنها الى كمال قدرتنا واقتدارنا على اضعافها وآلافها ومع ذلك لم يتفطنوا ولم يرجعوا عن غيهم وضلالهم بل قد أصروا واستكبروا عدوانا وظلما
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله وأسوأ أدبا معه سبحانه مِمَّنْ قد ذُكِّرَ ووعظ بِآياتِ رَبِّهِ ليهتدى بها الى الايمان والتوحيد ويمتثل بمقتضاها ليتخلص عن الكفر والشرك ثُمَّ بعد ما قد سمعها أَعْرَضَ عَنْها فجاءة بلا تفكر وتأمل في معناها وأنكر على مقتضاها واستكبر على ما انزل الله اليه فكذبه ونسبه بما لا يليق بشأنه وأصر على ما هو عليه عنادا ومكابرة وبالجملة إِنَّا من مقام قهرنا وجلالنا مِنَ الْمُجْرِمِينَ المصرين على جرائمهم وآثامهم مُنْتَقِمُونَ يعنى قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعد ما قد بالغوا في الإنكار والإصرار نحن منتقمون منهم على ابلغ وجه وأشده من عموم المجرمين الظالمين فكيف هو أجرم واظلم منهم وأصر على البغي والعناد فانا ننتقم عنهم ونخلدهم في عذاب النار مهانين إذ لا عذاب أسوأ منه وأشد أعاذنا الله وعموم عباده منها
وَلا تظنن أنت يا أكمل الرسل انا لا ننجز وعدنا الذي قد وعدنا معك في كتابك من انا ننتقم من اهل الشرك والكفر واصحاب الإنكار والإصرار على ابلغ وجه وآكده بل لك ان تتيقن وتذعن انجاز وعدنا إياك مثل ما قد أنجزنا مواعيدنا مع أخيك موسى الكليم إذ لَقَدْ آتَيْنا من مقام جودنا أخاك مُوسَى الكليم الْكِتابَ اى التوراة مثل ما قد آتيناك الفرقان وواعدنا فيه معه مثل ما قد وعدنا معك في كتابك هذا من انتقام اهل الفساد والعناد بل قد وعدنا هذا الوعد مع كل نبي ورسول آتيناه الكتاب والصحف وبالجملة ما ارتاب وتردد موسى عليه السلام ولا احد من الرسل في انجاز وعدنا فَلا تَكُنْ أنت ايضا يا أكمل الرسل بل أنت أحق منهم بعدم الارتياب فِي مِرْيَةٍ اى شك وارتياب مِنْ لِقائِهِ اى من انجاز هذا الموعود وإتيانه على الوجه الذي قد وعدناك به ومن ملاقاتك إياه وَكيف يرتاب كليمنا وحبيبنا أنت يا أكمل الرسل في وعدنا هذا مع انا قد جَعَلْناهُ اى التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ هاديا لهم في المعالم الدينية والمعارف اليقينية والحقائق العلية والمكاشفات السنية كما قد جعلنا كتابك هذا لأمتك هكذا بل هذا أكمل من ذاك
وَكيف لا وهم اى بنو إسرائيل من خواص عبادنا وخلصهم إذ قد جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً أمناء هادون مهديون مهتدون مقتدون
يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا ووحينا إياهم والهامنا إليهم الى ديننا وتوحيدنا وانما أعطيناهم ما أعطيناهم من الكرامات لَمَّا صَبَرُوا وحين وطّنوا أنفسهم على تحمل ما لحقهم في إعلاء كلمة الحق وافشاء اعلام الدين ومعالم التوحيد واليقين وانتشارها في الأقطار من المتاعب والمكروهات المؤدية الى إتلاف النفس وبذل المهج وانواع المصيبة وَهم قد كانُوا في أنفسهم بِآياتِنا النازلة إياهم الدالة على كمال قدرتنا الواردة في إيجاد اىّ شيء أردناه يُوقِنُونَ يذعنون لا يترددون فيها ولا يتذبذبون وأنت يا أكمل الرسل اولى وأحق منهم بإيقان آياتنا واذعانها
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات وايدك بأصناف الخوارق والمعجزات هُوَ بذاته وحسب حكمته المتقنة وأحكامه المبرمة يَفْصِلُ ويقضى بَيْنَهُمْ اى بين المحقين والمبطلين ويميز كلا منهم عن صاحبه يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للقطع والفصل وتنفيذ الاحكام واجراء الحكومات فيومئذ يظهر لهم الحق فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الأمور الدينية والمعارف اليقينية
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ اى اهل مكة الى سبيل الرشد ولم يوقظهم عن هجعة الغفلة ورقاد العناد كَمْ أَهْلَكْنا اى كثر إهلاكنا واستيصالنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اهل الْقُرُونِ الماضية الهالكة المغرورين أمثالهم بالكبر والخيلاء بما عندهم من المال والجاه والثروة مع ان هؤلاء المعاندين يَمْشُونَ ويمرون فِي مَساكِنِهِمْ الخربة ودورهم المندرسة الكربة وقت ترحالهم نحو متاجرهم وما يعتبرون منها إِنَّ فِي ذلِكَ المرور والعبور وفي رؤية تلك المنازل والاطلال المغمورة والبلاد المقهورة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرتنا واختيارنا وشدة انتقامنا وقهرنا أَفَلا يَسْمَعُونَ مقتضيات الآيات ولا يتدبرون حق التدبر والتفكر حتى يتخلصوا عن اودية الضلالات واغوار الجهالات ويتصفوا بأنواع الهدايات والكرامات
أَوَلَمْ يَرَوْا ولم يبصروا أولئك المعاندون المنكرون على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا واختيارنا أَنَّا من مقام لطفنا وجودنا كيف نَسُوقُ الْماءَ بالتدابير العجيبة والحكم البديعة في تصعيد الابخرة والادخنة وتراكم السحب منها وتقاطر المطر من فتوقها وخلالها إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي قد انقطع نباتها من غاية يبسها وجمودها فَنُخْرِجُ بِهِ اى بالماء الذي سقنا إليها منها زَرْعاً وأنواعا من الأوراق والحبوب تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ أوراقه وتبنه وَأَنْفُسُهُمْ حبوبه وثمرته أَفَلا يُبْصِرُونَ أولئك المصرون المنكرون هذه القدرة العجيبة فيستدلوا بها على قدرتنا الكاملة وحكمتنا البديعة البليغة البالغة
وَبعد ما سمعوا منك يا أكمل الرسل ان ربك يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون يَقُولُونَ مستهزئين معك متهكمين مَتى هذَا الْفَتْحُ والفصل الذي قد وعدتم به أخبرونا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم نتهيأ له ونتزود لأجله ونؤمن به كما آمنتم
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم يَوْمَ الْفَتْحِ هو يوم القيامة المعدة لتنقيد الأعمال والحساب فيومئذ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى مدة اعمارهم إِيمانُهُمْ فيها وَلا هُمْ يومئذ يُنْظَرُونَ ولا يمهلون حتى يتداركوا ما فوّتوا على أنفسهم طول عمرهم من الايمان بالله والامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وتصديق الرسل والكتب وجميع معالم الدين وشعائر الإسلام وبعد ما قد تمادوا في الغفلة والضلال وبالغوا في العتو والعناد
فَأَعْرِضْ يا أكمل الرسل عَنْهُمْ ولا تلتفت الى هذياناتهم واصرف عنان عزمك عن هدايتهم وإرشادهم بعد ما تاهوا في تيه الغي والضلال وأصروا عليه وَانْتَظِرْ النصر والظفر والغلبة عليهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ايضا ليغلبوا عليك ويظفروا. وقل ربنا افرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين
Icon