تفسير سورة القيامة

اللباب
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة القيامة
مكية، وهي تسع وثلاثون آية، [ وهي في المصحف أربعون آية ] ومائة وسبع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفا.

مكية، وهي تسع وثلاثون آية، [وهي في المصحف أربعون آية] ومائة وسبع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة﴾.
العامَّة: على «لاَ» نافية، واختلفوا حينئذ فيها على أوجه:
أحدها: أنَّها نافية لكلامٍ تقدم، كأنَّ الكفَّار ذكروا شيئاً، فقيل لهم: «لا» ثم ابتدأ الله قسماً.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: «إنَّ القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردِّ عليهم كقوله:» والله لا أفعل «ف» لا «ردٌّ لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة. لحق، كأنك أكذبت قوماً أنكروه».
والثاني: أنها مزيدة. قال الزمشخري: قالوا: إنها مزيدة، مثلها في ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: ٢٩]، وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] ؛ وقوله: [الرجز]
٤٩٧٨ - فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ... قال ابن الخطيب: وهذا القولُ عندي ضعيفٌ من وجوه:
541
أحدها: أنَّ تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً، والإثبات نفياً، وذلك ينفي الاعتماد على الكلام نفياً وإثباتاً.
وثانيها: أن الحرف إنما يزاد في وسط الكلام، فإن امرأ القيس زادها في مستهل قصيدته؛ وهي قوله: [المتقارب]
٤٩٧٩ - فَلاَ - وأبِيكِ - ابنَةَ العَامِرِيْ... يِ لا يَدَّعِي القَوْمُ أنِّي أفِرْ
وأيضاً: هَبْ أنَّ هذا الحرف في أول الكلام إلا أنَّ القرآن كله كالسُّورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بدليل أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى ﴿وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله ﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: ٢]، وإذا كان كذلك، كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام.
والجواب عن الأول: أنَّ قوله: لا وأبيك، قسمٌ عن النفي، وقوله: «لا أقْسِمُ» نفي للقسم، لأنه على وزان قولنا: «لا أقبل، لا أضرب، لا أنصر» وذلك يفيد النفي، بدليل أنه لو حلف لا يقسم كان البرُّ بترك القسم، والحنث بفعل القسم، فظهر أن البيت المذكور ليس من هذا الباب.
وعن الثاني: أن القرآن الكريم كالسُّورة الواحدة في عدم التناقض، فإما أن يقرن في كل آية ما أقرن في الأخرى، فذلك غير جائز؛ لأنه يلزم جوازه أن يقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً، وأنه لا يجوز.
وثالثها: أن المراد من قولنا: «لا» صلة أنَّه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ووصف كلام الله - تعالى - بذلك لا يجوز.
الوجه الثالث: قال الزمشخري: «إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم؛ قال امرؤ القيس: [المتقارب]
٤٩٨٠ - فَلاَ - وأبِيكِ - ابْنَةَ العَامِري... البيت المتقدِّم.
وقال غويةُ بنُ سلمَى: [الوافر]
٤٩٨١ - ألاَ نَادتْ أمَامةُ باحْتِمَالِ... لتَحْزُننِي فلا بِكِ ما أبَالِي
542
وفائدتها: توكيد القسم في الردِّ «. ثمَّ قال بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم: والوجه أن يقال: هي للنَّفي، والمعنى في ذلك: أنَّه لا يقسم بالشيء إلاَّ إعظاماً له، يدلُّك عليه قوله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٥ - ٧٦] فكأنه بإدخال حرف النَّفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك.
وقيل: إنَّ»
لا «نفيٌ لكلامٍ ورد قبل ذلك انتهى.
قال ابن الخطيب: كأنَّهُم أنكروا البعث فقيل:»
لا «ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل: أقسم بيوم القيامة.
قال: وهذا فيه إشكال؛ لأن إعادة حرف النفي أحرى في قوله تعالى: ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة﴾ مع أن المراد ما ذكروه يقدح في فصاحة الكلام.
قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ:»
فقول الزمخشري «: والوجه أن يقال إلى قوله: يعني أنه يستأهل فوق ذلك، تقرير لقوله: إدخال» لا «النافية على فعل القسم مستفيض إلى آخره وحاصل الكلام يرجع إلى أنها نافية، وأنَّ النَّفي متسلّط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه منع لفظاً ولا معنى».
ثم قال: فإن قلت: قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: ٦٥] والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أنَّ «لا» التي قبل القسم زيدت موطِّئة للنَّفي بعده، ومؤكدة له، وقدَّرت المقسم عليه المحذوف - هاهنا - منفياً كقولك: لا أقسم بيوم القيامة لا تتركُونَ سُدًى؟.
قلت: لو قصَرُوا الأمر على النَّفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر، ألا ترى كيف نفى ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾ [البلد: ١] بقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان﴾ [البلد: ٤] وكذلك قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم﴾ [الواقعة: ٧٥] بقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٧]، وهذا من محاسن كلامه تعالى.
وقرأ قنبل والبزِّي - بخلاف عنه -: «لأقسم» بلام بعدها همزة دون ألف، وفيها أوجه:
أحدها: أنها جوابٌ لقسم مقدر، تقديره: «والله لأقسم» والفعل للحالِ، فلذلك لم تأت نونُ التوكيد، وهذا مذهبُ الكوفيين.
وأمَّا البصريون: فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جواباً للقسم فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبراً لمبتدإ مضمر، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها
543
وهذا عند بعضهم، من ذلك التقدير: والله لأنا أقسم.
الثاني: أنه فعل مستقبل، وإنَّما لم يأتِ بنون التوكيدِ؛ لأنَّ أفعال الله - تعالى - حقٌّ وصدقٌ فهي غنيةٌ عن التأكيد بخلاف أفعال غيره، على أن سيبويه حكى حذف النون، إلا أنه قليل، والكوفيون: يجيزون ذلك من غير قلَّة، إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قوله: [الكامل]
٤٩٨٢ - وقَتيلُ مُرَّة أثْأرنَّ فإنَّهُ فَرْغٌ وإنَّ أخَاكمُ لَمْ يَثْأرِ
أي لأثأرن، ومن حذف النون وهو نظير الآية الكريمة قول الآخر: [الطويل]
٤٩٨٣ - لَئِن تَكُ قَدْ ضَاقتْ عليكَم بُيوتكُمْ ليَعلمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ
الثالث: أنَّها لامُ الابتداء، وليست بلام القسم.
قال أبو البقاء: كقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ﴾ [النحل: ١٦٤]. والمعروف أنَّ لام الابتداء لا تدخل على المضارع إلاَّ في خبر «إنَّ» نحو: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ﴾ [النحل: ١٦٤] وهذه الآية نظير الآية التي في سورة يونس: ﴿وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ﴾ [يونس: ١٦] فإنهما قرآها بغير الألف. والكلام فيها قد تقدم.
ولم يختلف في قوله: «ولاَ أقسم» أنه بالألف بعد «لا» ؛ لأنه لم يرسم إلاَّ كذا بخلاف الأول، فإنه رسم بدون ألفٍ بعد «لا»، وكذلك في قوله تعالى ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾ [البلد: ١] لم يختلف فيه أنه بألف بعد «لا»، وجواب القسم محذوف، تقديره: لتبعثنّ، دل عليه قوله ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان﴾ [القيامة: ٣].
وقيل: الجواب: «أيَحْسَبُ».
وقيل: هو ﴿بلى قَادِرِينَ﴾ [القيامة: ٤]، ويروى عن الحسن البصري.
وقيل: المعنى على نفي القسم، والمعنى: إنِّي لا أقسم على شيء، ولكن أسألك أيحسب الإنسان.
وهذه الأقوال شاذَّة منكرة، ولا تصح عن قائلها لخروجها عن لسان العرب، وإنما ذكرناها تنبيهاً على ضعفها.

فصل في معنى الآية


قال ابن عباس وابن جبير: معنى الكلام: أقسمُ بيوم القيامة، وهو قول أبي عبيدة، ومثله قوله: [الطويل]
544
٤٩٨٤ - تَذكَّرْتُ لَيْلَى فاعْترتْنِي صَبَابَةٌ فَكادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتقطَّعُ
قوله: ﴿بِيَوْمِ القيامة﴾، أي: بيوم يقوم الناس فيه لربِّهم، والله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يقسم بما شاء، ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة﴾، لا خلاف في هذا بين القراء، وأنه سبحانه - جل ذكره - إنما أقسم بيوم القيامة تعظيماً لشأنه، وعلى قراءة ابن كثير أقسَم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل: ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة﴾ ردٌّ آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة.
قال الثعلبيُّ: والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً، ومعنى «بالنَّفْسِ اللَّوامَةِ» : أي: نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه، يقول: [ما أردت بكذا؟ ولا تراه إلا وهو يعاتب نفسه قاله ابن عبَّاس ومجاهد والحسن وغيرهم.
قال الحسن: هي والله نفس المؤمن ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه]، ما أردت بكلامي هذا؟ ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه.
وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشَّرِّ لم فعلته، وعلى الخير لِمَ لَمْ تستكثر منه.
وقيل: تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها.
وقيل
: المراد آدم - صلوات الله وسلامه عليه - لم يزل لائماً لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنها الملومة، فتكون صفة ذمٍّ، وهو قول من نفى أن يكون قسماً وعلى الأول: صفةُ مدحٍ فيكون القسم بها سائغاً.
وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسَّر في الآخرة على ما فرط في جنبِ الله تعالى.
قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن﴾. هذه «أن» المخففة وتقدم حكمها في «المائدة» و «أن» وما في حيِّزها في موضع الجرِّ، والفاصل هنا حرف النَّفي، وهي وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدّ مفعولي «حَسِب» أو مفعوله على الخلاف.
545
والعامَّة: على «نَجْمَعَ» بنون العظمة، و «عِظامهُ» نصب مفعولاً به.
وقتادة: «تُجْمع» بتاءٍ من فوقُ مضومةٍ على ما لم يسم فاعله؛ «عظامه» رفع لقيامه مقام الفاعل.

فصل في جواب هذا القسم


قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعنَّ العظام للبعث، فهذا جواب [القسم.
وقال النحاس: جواب] القسم محذوف، أي: لنبعثن.
والمراد بالإنسان: الكافر المكذب بالبعث.
قيل: «نزلت في عدي بن ربيعة قال للبني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَدِّثنِي عن يَومِ القِيامةِ مَتَى تكُونُ، وكَيْفَ أمْرهَا وحَالُهَا؟ فأخْبرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: لَوْ عَايَنْتُ ذلكَ اليَوْمَ لَمْ أصَدِّقكَ يا مُحمَّدُ ولَمْ أومِنْ بِه، أو يَجْمَعُ اللَّهُ العِظامَ؟ ولهذا كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» اللَّهُمَّ اكفِنِي جَارَي السُّوءِ عدَيَّ بن ربيعَة، والأخنس بنَ شَريقٍ «.
وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت، وذكر العظام، والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق.
وقيل: المراد بالإنسان: كل من أنكر البعث مطلقاً.
قوله: ﴿بلى﴾ إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام، وهو وقف حسن، ثم يبتدىء»
قَادِرين «، ف» قَادِرين «حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرنا من التقدير.
وقيل: المعنى بل نجمعها نقدر قادرين.
قال الفراء:»
قادرين «نصب على الخروج من» نَجْمعَ «أي نقدر ونقوى» قادرين «على أكثر من ذلك.
وقال أيضاً: يَصْلُح نصبُه على التكرير، أي: بلى فليحسبنا قادرين.
وقيل: المضمر»
كنا «أي: كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون.
وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع:»
قادرون «رفعاً على خبر ابتداء مضمر، أي»
546
بلى «نحن» قادرون « ﴿على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ والبنانُ عند العرب: الأصابع، واحدُها بنانةٌ؛ قال عنترة: [الوافر]
٤٩٨٥ - وأنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إذَا مَا وصَلْتُ بَنانَهَا بالهِنْدُوَانِي
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء.
وأيضاً: فإنها أضعف العظام فخصها الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالذكر لذلك.
قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله تعالى لا يبعث الموتى، ولا يقدرعلى جمع العظام، فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها، ونُؤلِّف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جميع الكبار أقدرُ.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين: ﴿على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلفِ الخنزيرِ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئاً ولكنا فرقنا أصابعه حتى يفعل بها ما يشاء.
وقيل: نقدر أن نُعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة: ٦٠، ٦١].
والقول الأول أشبه بمساق الآية.

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: وفي الآية إشكالات:
أحدها: ما المناسبة بين القيامة والنَّفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم؟.
وثانيها: على وقوع القيامة
وثالثها: قال جل ذكره: أقسم بيوم القيامة ولم يقل: والقيامة، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في سائر السور: ﴿والطور﴾ [الطور: ١] ﴿والذاريات﴾ [الذاريات: ١]، ﴿والضحى﴾ [الضحى: ١].
والجواب عن الأول من وجوه:
أحدها: أنَّ أحوال القيامة عجيبة جدّاً، ثُمَّ المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النُّفوس على ما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ عَرفَ نَفْسَهُ عرَفَ رَبَّهُ»
ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى
547
السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: ٧٢].
وقيل: القسم وقع بالنَّفس اللوامة على معنى التعظيم من حيث إنها أبداً يستحقرُ فعلها وجدُّها واجتهادها في طاعة الله تعالى.
وقيل: إنه - تعالى - أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها؛ لأن النفس اللوامة إمَّا أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإمَّا أن تكون فاسقة مقصرة في العمل، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.
والجواب عن الثاني: أن المحقِّقين قالوا: القسم بهذه الأشياء قسم بربِّها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل: أقسم برب القيامة على وقوع القيامة.
والجواب عن الثالث: أنه حيث أقسم، قال جل ذكره: «والذَّارياتِ»، وأما هنا فإنه سبحانه نفى كونه مقسماً بهذه الأشياء، فزال السؤال.
قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «بل» لمجرد الإضراب والانتقال من غير عطف، أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر.
الثاني: أنها عاطفة. قال الزمخشري: «بل يريد» عطف على «أيحسب»، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب.
قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدَّم: «وهذه التقادير الثلاثة متكلَّفة لا تظهر».
وقال شهاب الدين: «وليس هنا إلا تقديران، ومفعول» يُرِيد «محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى: ﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ والتقدير: يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائماً أبداً و» أمامه «منصوب على الظَّرفِ، وأصله مكانٌ فاستعير هنا للزمان».
والضمير في «أمَامَه» الظاهرُ عوده على الإنسان.
وقال ابن عباس: يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة.

فصل في تفسير الآية


قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله.
548
وعن ابن عباس: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾، قال: يعجل المعصية ويسوفُ بالتوبة وجاء في الحديث: «قال يقولُ: سوف أتُوبُ، ولا يتوبُ، فهُو قَدْ أخْلفَ فكذبَ».
وقال عبد الرحمن بن زيد: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ من البعث والحساب ودليله: يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون؟ على وجه الإنكار والتكذيب.
وقال الضحاك: هو الأمل، يقول: سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت.
وقيل: يعزم على المعصية أبداً وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة، فالهاء على هذه الأقوال الثلاثة للإنسان.
وإذا قلنا: بأن الهاء ليوم القيامة، فالمعنى: بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي القيامة. والفجورُ: أصله الميل عن الحق.
قوله: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ﴾ هذه جملة مستأنفة.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: تفسير ل «يفجر» فيحتمل أن يكون مستأنفاً مفسّراً، وأن يكون بدلاً من الجملة قبلها؛ لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل إلا أنَّ الثاني منه رفع الفعل، ولو كان بدلاً لنصب، وقد يقال: إنه أبدلَ الجملة من الجملة لا خصوصيَّة الفعلِ من الفعل وحده، وفيه بحث قد تقدم نظيره في «الذاريات» وغيره. والمعنى: يسأل متى يوم القيامة.

فصل فيمن أنكروا البعث


قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة، وأخرى من الشَّهوة، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ﴾، وتقديره: أنَّ الإنسان هو هذا البدن، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، واختلطت بأجزاء التراب، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها، فيكون تمييزها بعد ذلك محالاً.
وهذه الشبهة ساقطة من وجهين:
الأول: لا نُسلِّمُ أن الإنسان هو هذا البدن، بل هو شيء مدبرٌ لهذا البدن، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيّاً كما كان، وحينئذ يعيد الله - تبارك وتعالى - أي بدن أراد، فيسقط
549
السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، ثم قال تعالى جل ذكره: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ﴾، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن.
الثاني: سلَّمنا أنَّ الإنسان هو هذا البدن، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات، فيكونُ عالماً بالجزء الذي هو بدن زيدٍ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو، وهو - تعالى - قادر على كلِّ الممكنات، فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ثانياً، فزال الإشكال وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾.
ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشَّهوات واللَّذات والفكرةُ في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره.
550
﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة ﴾، لا خلاف في هذا بين القراء، وأنه سبحانه - جل ذكره - إنما أقسم بيوم القيامة تعظيماً لشأنه، وعلى قراءة ابن كثير أقسَم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل :﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة ﴾ ردٌّ آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة.
قال الثعلبيُّ : والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً، ومعنى «بالنَّفْسِ اللَّوامَةِ » : أي : نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه، يقول :[ ما أردت بكذا ؟ ولا تراه إلا وهو يعاتب نفسه قاله ابن عبَّاس ومجاهد والحسن وغيرهم.
قال الحسن : هي والله نفس المؤمن ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه ]١، ما أردت بكلامي هذا ؟ ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي ؟ والفاجر لا يحاسب نفسه٢.
وقال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشَّرِّ لم فعلته، وعلى الخير لِمَ لَمْ تستكثر منه٣.
وقيل : تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها.
وقيل : المراد آدم - صلوات الله وسلامه عليه - لم يزل لائماً لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنها الملومة، فتكون صفة ذمٍّ٤، وهو قول من نفى أن يكون قسماً وعلى الأول : صفةُ مدحٍ فيكون القسم بها سائغاً.
وقال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسَّر في الآخرة على ما فرط في جنبِ الله تعالى٥.
١ سقط من أ..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس"..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٢٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٦١)..
٥ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن ﴾. هذه «أن » المخففة وتقدم حكمها في «المائدة » و «أن » وما في حيِّزها في موضع الجرِّ، والفاصل هنا حرف النَّفي، وهي وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدّ مفعولي «حَسِب » أو مفعوله على الخلاف.
والعامَّة : على «نَجْمَعَ » بنون العظمة، و «عِظامهُ » نصب مفعولاً به.
وقتادة :«تُجْمع »١ بتاءٍ من فوقُ مضمومةٍ على ما لم يسم فاعله ؛ «عظامه » رفع لقيامه مقام الفاعل.

فصل في جواب هذا القسم


قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعنَّ العظام للبعث، فهذا جواب [ القسم.
وقال النحاس : جواب ]٢ القسم محذوف، أي : لنبعثن.
والمراد بالإنسان : الكافر المكذب بالبعث.
قيل :«نزلت في عدي بن ربيعة قال للبني صلى الله عليه وسلم حَدِّثنِي عن يَومِ القِيامةِ مَتَى تكُونُ، وكَيْفَ أمْرهَا وحَالُهَا ؟ فأخْبرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال : لَوْ عَايَنْتُ ذلكَ اليَوْمَ لَمْ أصَدِّقكَ يا مُحمَّدُ ولَمْ أومِنْ بِه، أو يَجْمَعُ اللَّهُ العِظامَ ؟ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول :" اللَّهُمَّ اكفِنِي جَارَي السُّوءِ عدَيَّ بن ربيعَة، والأخنس بنَ شَريقٍ " ٣.
وقيل : نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت، وذكر العظام، والمراد نفسه كلها ؛ لأن العظام قالب الخلق.
وقيل : المراد بالإنسان : كل من أنكر البعث مطلقاً.
قوله :﴿ بلى ﴾ إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام، وهو وقف حسن، ثم يبتدئ " قَادِرين "، ف " قَادِرين " حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرنا من التقدير.
وقيل : المعنى بل نجمعها نقدر قادرين.
قال الفراء :" قادرين " نصب على الخروج من " نَجْمعَ " أي نقدر ونقوى " قادرين " على أكثر من ذلك.
وقال أيضاً : يَصْلُح نصبُه على التكرير، أي : بلى فليحسبنا قادرين.
وقيل : المضمر " كنا " أي : كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون.
وقرأ ابن أبي عبلة٤ وابن السميفع :" قادرون " رفعاً على خبر ابتداء مضمر، أي " بلى " نحن " قادرون " ﴿ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ والبنانُ عند العرب : الأصابع، واحدُها بنانةٌ ؛ قال عنترة :[ الوافر ]
٤٩٨٥ - وأنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إذَا مَا*** وصَلْتُ بَنانَهَا بالهِنْدُوَانِي٥
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء.
وأيضاً : فإنها أضعف العظام فخصها الله - عز وجل - بالذكر لذلك.
١ ينظر: الكشاف ٤/٦٥٩، والبحر المحيط ٨/٣٧٦، والدر المصون ٦/٤٢٦..
٢ سقط من أ..
٣ ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" المسمى بـ"زاد المسير" (٨/٤١٧) والقرطبي في "تفسيره" (١٩/٦١)..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٠٢، والبحر المحيط ٨/٣٧٦، والدر المصون ٦/٤٢٦..
٥ ينظر ديوان عنترة ص ١٥٠، والقرطبي ١٩/٩٢..
قال القتبي والزجاج : وزعموا أن الله تعالى لا يبعث الموتى، ولا يقدر على جمع العظام، فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها، ونُؤلِّف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جميع الكبار أقدرُ.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين :﴿ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلفِ الخنزيرِ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئاً ولكنا فرقنا أصابعه حتى يفعل بها ما يشاء.
وقيل : نقدر أن نُعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٠، ٦١ ].
والقول الأول أشبه بمساق الآية.

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب١ رحمه الله : وفي الآية إشكالات :
أحدها : ما المناسبة بين القيامة والنَّفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم ؟.
وثانيها : على وقوع القيامة.
وثالثها : قال جل ذكره : أقسم بيوم القيامة ولم يقل : والقيامة، كما قال - عز وجل - في سائر السور :﴿ والطور ﴾ [ الطور : ١ ] ﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ]، ﴿ والضحى ﴾ [ الضحى : ١ ].
والجواب عن الأول من وجوه :
أحدها : أنَّ أحوال القيامة عجيبة جدّاً، ثُمَّ المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النُّفوس على ما قال صلى الله عليه وسلم :«مَنْ عَرفَ نَفْسَهُ عرَفَ رَبَّهُ » ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ].
وقيل : القسم وقع بالنَّفس اللوامة على معنى التعظيم من حيث إنها أبداً يستحقرُ فعلها وجدُّها واجتهادها في طاعة الله تعالى.
وقيل : إنه - تعالى - أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها ؛ لأن النفس اللوامة إمَّا أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإمَّا أن تكون فاسقة مقصرة في العمل، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.
والجواب عن الثاني : أن المحقِّقين قالوا : القسم بهذه الأشياء قسم بربِّها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل : أقسم برب القيامة على وقوع القيامة.
والجواب عن الثالث : أنه حيث أقسم، قال جل ذكره :«والذَّارياتِ »، وأما هنا فإنه سبحانه نفى كونه مقسماً بهذه الأشياء، فزال السؤال.
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٩١..
قوله تعالى :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون «بل » لمجرد الإضراب والانتقال من غير عطف، أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر.
الثاني : أنها عاطفة. قال الزمخشري :«بل يريد » عطف على «أيحسب »، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب.
قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدَّم :«وهذه التقادير الثلاثة متكلَّفة لا تظهر ».
وقال شهاب الدين١ :«وليس هنا إلا تقديران، ومفعول " يُرِيد " محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى :﴿ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ والتقدير : يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائماً أبداً و " أمامه " منصوب على الظَّرفِ، وأصله مكانٌ فاستعير هنا للزمان ».
والضمير في «أمَامَه » الظاهرُ عوده على الإنسان.
وقال ابن عباس : يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة٢.

فصل في تفسير الآية


قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله٣.
وعن ابن عباس :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾، قال : يعجل المعصية ويسوفُ بالتوبة٤ وجاء في الحديث :«قال يقولُ : سوف أتُوبُ، ولا يتوبُ، فهُو قَدْ أخْلفَ فكذبَ ».
وقال عبد الرحمن بن زيد :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ من البعث والحساب ودليله : يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون ؟ على وجه الإنكار والتكذيب٥.
وقال الضحاك : هو الأمل، يقول : سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت٦.
وقيل : يعزم على المعصية أبداً وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة، فالهاء على هذه الأقوال الثلاثة للإنسان.
وإذا قلنا : بأن الهاء ليوم القيامة، فالمعنى : بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي القيامة. والفجورُ : أصله الميل عن الحق.
١ ينظر: الدر المصون ٦/٤٢٦..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٦٢)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٢٩) عن مجاهد والحسن والسدي وعكرمة..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٥) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في "ذم الأمل" والبيهقي في "شعب الإيمان"..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٠)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٠)..
قوله :﴿ يَسْأَلُ أَيَّانَ ﴾ هذه جملة مستأنفة.
وقال أبو البقاء رحمه الله : تفسير ل «يفجر » فيحتمل أن يكون مستأنفاً مفسّراً، وأن يكون بدلاً من الجملة قبلها ؛ لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل إلا أنَّ الثاني منه رفع الفعل، ولو كان بدلاً لنصب، وقد يقال : إنه أبدلَ الجملة من الجملة لا خصوصيَّة الفعلِ من الفعل وحده، وفيه بحث قد تقدم نظيره في «الذاريات » وغيره. والمعنى : يسأل متى يوم القيامة.

فصل فيمن أنكروا البعث


قال ابن الخطيب١ : اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة، وأخرى من الشَّهوة، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله - عز وجل - بقوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾، وتقديره : أنَّ الإنسان هو هذا البدن، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، واختلطت بأجزاء التراب، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها، فيكون تمييزها بعد ذلك محالاً.
وهذه الشبهة ساقطة من وجهين :
الأول : لا نُسلِّمُ أن الإنسان هو هذا البدن، بل هو شيء مدبرٌ لهذا البدن، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيّاً كما كان، وحينئذ يعيد الله - تبارك وتعالى - أي بدن أراد، فيسقط السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، ثم قال تعالى جل ذكره :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن.
الثاني : سلَّمنا أنَّ الإنسان هو هذا البدن، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات، فيكونُ عالماً بالجزء الذي هو بدن زيدٍ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو، وهو - تعالى - قادر على كلِّ الممكنات، فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ثانياً، فزال الإشكال وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾.
ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشَّهوات واللَّذات والفكرةُ في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره.
١ الفخر الرازي ٣٠/١٩٣..
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَرِقَ البصر﴾. قرأ نافع وأبان عن عاصم: بَرَق بفتح الراء.
والباقون: بالكسر.
فقيل: لغتان في التحيُّر والدهشة، ومعناه لمع بصره من شدَّة شخوصه، فتراه لا يطرف.
وقيل: بَرِق - بالكسر - تحيَّر فزعاً.
قال الزمخشري: «وأصله من بَرِق الرجل إذا نظر إلى البرقِ فدُهِش بصرهُ».
قال غيره: كما يقال: أسد وبقر، إذا رأى أسداً وبقراً كثيراً فتحيّر من ذلك.
قال ذو الرمة: [الطويل]
٤٩٨٦ - وكُنْتُ أرَى في وجْهِ ميَّةَ لمْحعةً فأبْرَقُ مَغْشِياً عَليَّ مَكانِيَا
وأنشد الفراء رَحِمَهُ اللَّهُ: [المتقارب]
٤٩٨٧ - فَنفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَنِي ودَاوِ الكُلُومَ ولا تَبْرقِ
أي: لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك.
و «بَرَق» بالفتح: من البريق، أي: لمع من شدَّة شُخُوصه.
550
وقال مجاهد وغيره: وهذا عند الموت.
وقال الحسن: يوم القيامة، قال: وفيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان، كأنه قال: يوم القيامة إذا برق البصر، وخسف القمر.
وقيل: عند رؤية جهنم.
قال الفراء والخليل: «برِق» - بالكسر -: فَزِع وبُهِت وتحيّر، والعرب تقول للإنسان المتحيِّر المبهوت: قد برِق فهو برِقٌ.
وقيل: «بَرِق، يَبْرَقُ» بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة، وأنشد قول الكلابيِّ: [الرجز]
٤٩٨٨ - لمَّا أتَانِي ابنُ عُمَيْر راغِباً... أعْطيتُه عِيساً صِهَاباً فَبرِقْ
أي: فتح عينيه. قرأ أبو السمال: «بَلِق» باللام.
قال أهل اللغة إلا الفرّاء: معناه «فُتِح»، يقال: بَلقْت الباب وأبلقتُه: أي: فتحتُه وفرَّجتُه.
وقال الفراء: هو بمعنى أغلقته.
قال ثعلب: أخطأ الفراء في ذلك.
ثم يجوز أن يكون مادة «بَلَقَ» غير مادة «بَرَقَ»، ويجوز أن تكون مادةً واحدة بُدِّل فيها حرف من آخر، وقد جاء إبدال «اللام» من الراء في أحرف، قالوا: «نثر كنانته ونثلها» وقالوا: «وجل ووجر» فيمكن أن يكون هذا منه، ويؤيده أن «برق» قد أتى بمعنى شق عينيه وفتحهما، قاله أبو عبيدة، وأنشد [الرجز]
٤٩٨٩ - لمَّا أتَانِي ابن عُمَيْرٍ... البيت المتقدم.
أي: ففتح عينيه فهذا مناسب ل «بلق».
قوله: ﴿وَخَسَفَ القمر﴾.
العامةُ: على بنائه للفاعل.
551
وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، ويزيد بن قطيب قال القرطبي: وابن أبي إسحاق وعيسى: «خُسِف» مبنياً للمفعول.
وهذا لأن «خسف» يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال: خُسِفَ القمر، وخسف الله القمر.
وقد اشتهر أن الخسوف للقمر والكسوف للشمس.
وقال بعضهم: يكونان فيهما، يقال: خُسِفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف، وتأيد بعضهم بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ لا يخسفانِ لمَوْتِ أحدٍ»
، فاستعمل الخسوف فيهما، وفي هذا نظرٌ لاحتمال التغليب، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد وجماعة: هما بمعنى واحد.
وقال ابن أبي أويس: الخسوف ذهاب كل ضوئهما والكسوف ذهاب بعضه.
قال القرطبي: الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة فإنه لا يعود ضوؤه، ويحتمل أن يكون بمعنى «غاب»، ومنه قوله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض﴾ [القصص: ٨١].
قوله تعالى: ﴿وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾ لم تلحقه علامة تأنيث؛ لأن التأنيث مجازي.
وقيل: لتغليب التذكير. وفيه نظر، لو قلت: «قام هند وزيد» لم يجز عند الجمهور من العرب.
وقال الكسائي: «جمع» حمل على معنى جرح النيران.
وقال الفراء والزجاج: جمع بينهما في ذهاب ضوئيهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.
وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوَّرين مظلمين مقرَّنين كأنهما ثوران عقيران.
وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى.
وقال عليّ وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يجعلان في الحُجُب وقد يجمعان في نار
552
جنهم لأنهما قد عُبِدا من دون الله ولا تكون النار عذاباً لهما لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم.
وقيل: هذا الجمع إنما يجمعان ويقرَّبان من الناس فيلحقهم العرق لشدَّة الحر فيكون المعنى: يجمع حرهما عليهم.
وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقبُ ليلٍ ولا نهارٍ.
قال ابن الخطيب: وقيل: جمع بينهما في حكم ذهاب الضوء كما يقال: يجمع بين كذا وكذا في حكم كذا، أي: كل منهما يذهب ضوؤه.

فصل في الرد على من طعن في الآية


قال ابن الخطيب: طعنت الملاحدة في الآية فقالوا: خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر.
والجواب: أن الله - تعالى - قادر على أن يخسف القمر سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس، أو لم تكن؛ لأن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات فيقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال.
قوله: ﴿يَقُولُ الإنسان﴾. جواب «إذا» من قوله: «فإذا برق»، و «أيْنَ المفَرُّ» منصوب المحل بالقول، و «المَفَرّ» مصدر بمعنى «الفرار» وهذه هي القراءة المشهورة.
وقرأ الحسنان ابنا علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: بفتح الميم وكسر الفاء، وهو اسم مكان الفرار، أي أين مكان الفرار.
وجوز الزمخشري أن يكون مصدراً، قال: «كالمرجع» وقرأ الحسن عكس هكذا: أي بكسر الميم وفتح الفاء، وهو الرجل الكثير الفرار؛ كقول امرىء القيس يصف جواده: [الطويل]
553
وأكثر استعمال هذا الوزن في الآلات.

فصل في بيان ما يقوله الإنسان يوم القيامة


يقول الإنسان يومئذ: أين المفر، أي: يقول ابن آدم، وقيل: أبو جهل: أين المفر، أين المهرب؟.
قال الماوردي: ويحتمل وجهين:
أحدهما: أين المفر من الله استحياءً منه.
والثاني: أين المفر من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين:
أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه.
والثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها.
قوله: ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ﴾. تقدم الكلام ي «كلاَّ»، وخبر «لا» محذوف، أي لا وزر له.
أي لا ملجأ من النار.
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا حِصْن.
وقال ابن عباس: لا ملجأ وقال الحسن: لا جبل.
وقال ابن جبير: لا مَحِيصَ.
وهل هذه الجملة محكيّة بقول الإنسان، فتكون منصوبة المحل، أو هي مستأنفة من الله - تعالى - بذلك.
و «الوزر» : الملجَأ من حصنٍ أو جبلٍ أو سلاح؛ قال الشاعر: [المتقارب]
٤٩٩٠ - مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً كجُلْمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ
554
قال السديُّ: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذٍ منِّي.
قوله تعالى: ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر﴾. أي: المنتهى. [قاله قتادة، نظيره: «وأن إلى ربك المنتهى» ].
وقال ابن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع، أي: المستقر في الآخرة حيث يقره الله.
و «المُسْتقَرُّ» مبتدأ، خبره الجار قبله، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاستقرار، وأن يكون مكان الاستقرار، و «يَوْمئذٍ» منصوب بفعل مقدر، ولا ينصب ب «مستقر» لأنه إن كان مصدراً فلتقدمه عليه، وإن كان مكاناً فلا عمل له ألبتة.
قوله: ﴿يُنَبَّأُ الإنسان﴾. أي: يُخبَّر ابن آدم برّاً كان أو فاجراً يوم القيامة ﴿بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ﴾ أي: بما أسلف من عمل خيراً أو شرّاً، أو أخَّر من سيِّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود.
وقال ابن عباس أيضاً: بما قدَّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد: «بِما قدَّمَ» مرة من أمواله لنفسه «وأخَّرَ» خلَّف للورثة.
وقال الضحاك: «بِما قدَّم» من فرض «وأخَّرَ» من فرض.
وقال مجاهد والنخعيُّ: يُنَبَّأ بأوَّلِ عملٍ وآخره.
قال القشيري: وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت.
قوله: ﴿بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾. يجوز في «بَصِيرة» أوجه:
أحدها: أنها خبر عن الإنسان، و «على نفسه» متعلق ب «بصيرة»، والمعنى: بل الإنسان بصيرة على نفسه.
555
وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر.
وقد اختلف النحويون في ذلك، فقال بعضهم: الهاء فيه للمبالغة.
وقال الأخفش: هو كقولك: «فلان عِبْرة وحُجَّة».
وقيل: المراد بالإنسان الجوارح، فكأنه قال: بل جوارحه بصيرة، أي شاهدة.
والثاني: أنَّها مبتدأ، و «على نفسه» خبرها، والجملة خبر عن الإنسان.
وعلى هذا ففيها تأويلان:
أحدهما: أن تكون «بصيرة» صفة لمحذوف، أي عين بصيرة. قاله الفراء؛ وأنشد: [الطويل]
٤٩٩١ - لَعمْرُكَ ما لِلْفَتَى من وَزَرْ مِنَ المَوْتِ يُدرِكهُ والكِبَرَ
٤٩٩٢ - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ
يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ
الثاني: أن المعنى جوارحُ بصيرة.
الثالث: أنَّ المعنى ملائكة بصيرة، وهم الكاتبون، والتاء على هذا للتَّأنيث.
وقال الزمخشري: «بصيرة» : حُجَّة «بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ [النمل: ١٣].
قال شهاب الدين:»
هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة «.
الوجه الثالث: يكون الخبر الجار والمجرور و»
بصيرة «فاعل به، وهو أرجح مما قبله؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد.

فصل في تفسير الآية


قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:»
بصيرة «: أي: شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما يبطش بهما، ورجلاه بما يمشي عليهما، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة: الشاهد، كما أنشد الفراء، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤].
قال الواحدي: هذا يكون من صفات الكفار، فإنهم ينكرون ما عملوا، فيُختم على أفواههم، وتنطق جوارحهم.
556
قوله: ﴿وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَه﴾. هذه الجملة حالية، وقد تقدم نظيرها مراراً.
والمعاذير: جمع معذرة على غير قياس ك» ملاقيح ومذاكير «جمع لقحة وذكر.
وللنحويين في مثل هذا قولان:
أحدهما: أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر.
والثاني: أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر، أي ملقحة ومذكار.
وقال الزمخشري:»
فإن قلت: أليس قياس «المَعْذِرة» أن تجمع على معاذر لا معاذير؟.
قلت: «المعاذير» ليست جمع «معذرة» بل اسم جمع لها، ونحوه: «المناكير» في المُنْكَر «.
قال أبو حيان:»
وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جموع التكسير «انتهى.
وقيل:»
مَعاذِير «جمع مِعْذار، وهو السِّتر، والمعنى: ولو أرخى ستوره، والمعاذير: الستور بلغة» اليمن «، قاله الضحاك والسديُّ، وأنشد: [الطويل]
٤٩٩٣ - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ
قال الزجاج: المعاذير: الستور، والواحد: معذار.
أي وإن أرخى ستوره يريد أن يخفى عمله فنفسه شاهدة عليه، وقد حذف الياء من «المعاذر»
ضرورة.
وقال الزمخشري: «فإن صح - يعني أن المعاذير: الستور - فلأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب». وهذا القول منه يحتمل أن يكون بياناً للمعنى الجامع بين كون المعاذير: الستور والاعتذارات، وأن يكون بياناً للعلاقة المسوِّغة في التجويز.

فصل في معنى الآية


قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسديُّ: المعنى: ولو اعتذر وقال: لم أفعل شيئاً لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه فعليه شاهد يكذِّب عذرهُ «.
557
وقال مقاتل: ولو أدلى بعُذرٍ أو حجة لم ينفعه ذلك، نظيره قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦] فالمعاذير على هذا مأخوذة من العُذْر.
558
قوله :﴿ وَخَسَفَ القمر ﴾.
العامةُ : على بنائه للفاعل.
وأبو حيوة١، وابن أبي عبلة، ويزيد بن قطيب قال القرطبي٢ : وابن أبي إسحاق وعيسى :«خُسِف » مبنياً للمفعول.
وهذا لأن «خسف » يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال : خُسِفَ القمر، وخسف الله القمر.
وقد اشتهر أن الخسوف للقمر والكسوف للشمس.
وقال بعضهم : يكونان فيهما، يقال : خُسِفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف، وتأيد بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم :«إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ لا يخسفانِ لمَوْتِ أحدٍ »، فاستعمل الخسوف فيهما، وفي هذا نظرٌ لاحتمال التغليب، وهل هما بمعنى واحد أم لا ؟ فقال أبو عبيد وجماعة : هما بمعنى واحد.
وقال ابن أبي أويس : الخسوف ذهاب كل ضوئهما والكسوف ذهاب بعضه.
قال القرطبي٣ : الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة فإنه لا يعود ضوؤه، ويحتمل أن يكون بمعنى «غاب »، ومنه قوله تعالى :﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض ﴾ [ القصص : ٨١ ].
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٠٣، والبحر المحيط ٨/٣٧٦، والدر المصون ٦/٤٢٧..
٢ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٦٣..
٣ السابق..
قوله تعالى :﴿ وَجُمِعَ الشمس والقمر ﴾ لم تلحقه علامة تأنيث ؛ لأن التأنيث مجازي.
وقيل : لتغليب التذكير. وفيه نظر، لو قلت :«قام هند وزيد » لم يجز عند الجمهور من العرب.
وقال الكسائي :«جمع » حمل على معنى جرح النيران.
وقال الفراء والزجاج : جمع بينهما في ذهاب ضوئيهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.
وقال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوَّرين مظلمين مقرَّنين كأنهما ثوران عقيران١.
وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى٢.
وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما : يجعلان في الحُجُب وقد يجمعان في نار جنهم لأنهما قد عُبِدا من دون الله ولا تكون النار عذاباً لهما لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم٣.
وقيل : هذا الجمع إنما يجمعان ويقرَّبان من الناس فيلحقهم العرق لشدَّة الحر فيكون المعنى : يجمع حرهما عليهم.
وقيل : يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقبُ ليلٍ ولا نهارٍ.
قال ابن الخطيب٤ : وقيل : جمع بينهما في حكم ذهاب الضوء كما يقال : يجمع بين كذا وكذا في حكم كذا، أي : كل منهما يذهب ضوؤه.

فصل في الرد على من طعن في الآية


قال ابن الخطيب٥ : طعنت الملاحدة في الآية فقالوا : خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر.
والجواب : أن الله - تعالى - قادر على أن يخسف القمر سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس، أو لم تكن ؛ لأن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات فيقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال.
١ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٥٣) وينظر المصدر السابق..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٦٣)..
٤ ينظر الرازي ٣/١٩٤..
٥ ينظر الرازي ٣٠/١٩٤..
قوله :﴿ يَقُولُ الإنسان ﴾. جواب «إذا » من قوله :«فإذا برق »، و «أيْنَ المفَرُّ » منصوب المحل بالقول، و «المَفَرّ » مصدر بمعنى «الفرار » وهذه هي القراءة المشهورة.
وقرأ الحسنان ابنا١ علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : بفتح الميم وكسر الفاء، وهو اسم مكان الفرار، أي أين مكان الفرار.
وجوز الزمخشري أن يكون مصدراً، قال :«كالمرجع » وقرأ الحسن٢ عكس هكذا : أي بكسر الميم وفتح الفاء، وهو الرجل الكثير الفرار ؛ كقول امرئ القيس يصف جواده :[ الطويل ]
٤٩٩٠ - مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً*** كجُلْمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ٣
وأكثر استعمال هذا الوزن في الآلات.

فصل في بيان ما يقوله الإنسان يوم القيامة


يقول الإنسان يومئذ : أين المفر، أي : يقول ابن آدم، وقيل : أبو جهل : أين المفر، أين المهرب ؟.
قال الماوردي : ويحتمل وجهين :
أحدهما : أين المفر من الله استحياءً منه.
والثاني : أين المفر من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين :
أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه.
والثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٠٣، والبحر المحيط ٨/٣٧٧، والدر المصون ٦/٤٢٨..
٢ ينظر: السابق..
٣ ينظر ديوانه ص ١٩، وإصلاح المنطق ص ٢٥، وجمهرة اللغة ص ١٢٦، وخزانة الأدب ٢/٢٩٧، ٣/٢٤٢، ٢٤٣، والدرر ٣/١١٥، وشرح أبيات سيبويه ٢/٣٣٩، وشرح التصريح ٢/٥٤، وأوضح المسالك ٣/١٦٥، ورصف المباني ص ٣٢٨، وشرح الأشموني ٢/٢٢٣، وشرح شذور الذهب ص ١٤٠، ومغني اللبيب ١/١٥٤، والمقرب ١/٢١٥، وهمع الهوامع ١/٢١٠..
قوله :﴿ كَلاَّ لاَ وَزَرَ ﴾. تقدم الكلام في «كلاَّ »، وخبر «لا » محذوف، أي لا وزر له.
أي لا ملجأ من النار.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا حِصْن١.
وقال ابن عباس : لا ملجأ٢ وقال الحسن : لا جبل٣.
وقال ابن جبير : لا مَحِيصَ٤.
وهل هذه الجملة محكيّة بقول الإنسان، فتكون منصوبة المحل، أو هي مستأنفة من الله - تعالى - بذلك.
و «الوزر » : الملجَأ من حصنٍ أو جبلٍ أو سلاح ؛ قال الشاعر :[ المتقارب ]
٤٩٩١ - لَعمْرُكَ ما لِلْفَتَى من وَزَرْ*** مِنَ المَوْتِ يُدرِكهُ والكِبَرَ٥
قال السديُّ : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم يومئذٍ منِّي.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٤)..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٣) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "كتاب الأهوال" وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٣) عن الحسن ومجاهد وقتادة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٦)، عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد. وذكره عن مجاهد أيضا وزاد نسبته إلى عبد بن حميد..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٤) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٦) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٥ البيت لربيعة بن الذئبة ينظر مجاز القرآن ٢/٢٧٧، والقرطبي ١٩/٩٨، والمؤتلف ص ١٢٠، والبحر ٨/٣٧٤، والدر المصون ٦/٤٢٨، وروح المعاني ٢٩/١٧٦..
قوله تعالى :﴿ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ﴾. أي : المنتهى. [ قاله قتادة، نظيره :«وأن إلى ربك المنتهى » ]١.
وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع، أي : المستقر في الآخرة حيث يقره الله.
و «المُسْتقَرُّ » مبتدأ، خبره الجار قبله، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاستقرار، وأن يكون مكان الاستقرار، و «يَوْمئذٍ » منصوب بفعل مقدر، ولا ينصب ب «مستقر » لأنه إن كان مصدراً فلتقدمه عليه، وإن كان مكاناً فلا عمل له ألبتة.
١ سقط من: أ..
قوله :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان ﴾. أي : يُخبَّر ابن آدم برّاً كان أو فاجراً يوم القيامة ﴿ بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ ﴾ أي : بما أسلف من عمل خيراً أو شرّاً، أو أخَّر من سيِّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود١.
وقال ابن عباس أيضاً : بما قدَّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، وهو قول قتادة٢.
وقال ابن زيد :«بِما قدَّمَ » مرة من أمواله لنفسه «وأخَّرَ » خلَّف للورثة٣.
وقال الضحاك :«بِما قدَّم » من فرض «وأخَّرَ » من فرض٤.
وقال مجاهد والنخعيُّ : يُنَبَّأ بأوَّلِ عملٍ وآخره٥.
قال القشيري : وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٠) عن ابن عباس وابن مسعود وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٦) عن ابن مسعود وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٥) عن ابن عباس..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٦)..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٦٥) عن الضحاك..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٦)، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد..
قوله :﴿ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾. يجوز في «بَصِيرة » أوجه :
أحدها : أنها خبر عن الإنسان، و «على نفسه » متعلق ب «بصيرة »، والمعنى : بل الإنسان بصيرة على نفسه.
وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر.
وقد اختلف النحويون في ذلك، فقال بعضهم : الهاء فيه للمبالغة.
وقال الأخفش : هو كقولك :«فلان عِبْرة وحُجَّة ».
وقيل : المراد بالإنسان الجوارح، فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة، أي شاهدة.
والثاني : أنَّها مبتدأ، و «على نفسه » خبرها، والجملة خبر عن الإنسان.
وعلى هذا ففيها تأويلان :
أحدهما : أن تكون «بصيرة » صفة لمحذوف، أي عين بصيرة. قاله الفراء ؛ وأنشد :[ الطويل ]
٤٩٩٢ - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً*** بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ
يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم*** مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ١
الثاني : أن المعنى جوارحُ بصيرة.
الثالث : أنَّ المعنى ملائكة بصيرة، وهم الكاتبون، والتاء على هذا للتَّأنيث.
وقال الزمخشري :«بصيرة » : حُجَّة «بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً ﴾ [ النمل : ١٣ ].
قال شهاب الدين٢ :" هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة ".
الوجه الثالث : يكون الخبر الجار والمجرور و " بصيرة " فاعل به، وهو أرجح مما قبله ؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد.

فصل في تفسير الآية


قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما :" بصيرة " : أي : شاهد، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما يبطش بهما، ورجلاه بما يمشي عليهما، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة : الشاهد٣، كما أنشد الفراء، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : ٢٤ ].
قال الواحدي : هذا يكون من صفات الكفار، فإنهم ينكرون ما عملوا، فيُختم على أفواههم، وتنطق جوارحهم.
١ يروى ذي الظن بدل ذي العقل.
ينظر معاني القرآن للفراء ٣/٢١١، والقرطبي ١٩/٦٥، والبحر المحيط ٨/٣٧٧، والدر المصون ٦/٤٢٨، وروح المعاني ٢٩/١٧٧، وفتح القدير ٥/٣٣٨..

٢ ينظر الدر المصون ٦/٤٢٩..
٣ في أ: الساعة..
قوله :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَه ﴾. هذه الجملة حالية، وقد تقدم نظيرها مراراً.
والمعاذير : جمع معذرة على غير قياس ك " ملاقيح ومذاكير " جمع لقحة وذكر.
وللنحويين في مثل هذا قولان :
أحدهما : أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر.
والثاني : أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر، أي ملقحة ومذكار.
وقال الزمخشري :" فإن قلت : أليس قياس «المَعْذِرة » أن تجمع على معاذر لا معاذير ؟.
قلت :«المعاذير » ليست جمع «معذرة » بل اسم جمع لها، ونحوه :«المناكير » في المُنْكَر ".
قال أبو حيان١ :" وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جموع التكسير " انتهى.
وقيل :" مَعاذِير " جمع مِعْذار، وهو السِّتر، والمعنى : ولو أرخى ستوره، والمعاذير : الستور بلغة " اليمن " ٢، قاله الضحاك والسديُّ، وأنشد :[ الطويل ]
٤٩٩٣ - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ***عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ٣
قال الزجاج : المعاذير : الستور، والواحد : معذار. أي وإن أرخى ستوره يريد أن يخفى عمله فنفسه شاهدة عليه، وقد حذف الياء من «المعاذر » ضرورة.
وقال الزمخشري :«فإن صح - يعني أن المعاذير : الستور - فلأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب ». وهذا القول منه يحتمل أن يكون بياناً للمعنى الجامع بين كون المعاذير : الستور والاعتذارات، وأن يكون بياناً للعلاقة المسوِّغة في التجويز.

فصل في معنى الآية


قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسديُّ : المعنى : ولو اعتذر وقال : لم أفعل شيئاً لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه فعليه شاهد يكذِّب عذرهُ " ٤.
وقال مقاتل : ولو أدلى بعُذرٍ أو حجة لم ينفعه ذلك، نظيره قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾٥[ المرسلات : ٣٦ ] فالمعاذير على هذا مأخوذة من العُذْر.
وحكى الماوردي عن ابن عباس :" ولو ألقى معاذيره " أي ولو تجرد من ثيابه٦.
١ ينظر البحر المحيط ٨/٣٨٦..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٧) وعزاه إلى ابن المنذر..
٣ ينظر القرطبي ١٩/٦٦، والبحر ٨/٣٧٨، والدر المصون ٦/٤٢٩..
٤ ينظر تفسير القرطبي (١٦/٦٦)..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
وحكى الماوردي عن ابن عباس: " ولو ألقى معاذيره " أي ولو تجرد من ثيابه. قوله: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾.
قال بعض الرافضة: عدم مناسبتها لما قبلها يدل على تغيير القرآن.
قال ابن الخطيب: وفي مناسبتها وجوه:
الأول: لعل استعجال الرسول إنما كان عند نزول هذه الآيات.
الثاني: أنه تقدم أن الإنسان يستعجل بقوله: ﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ ثم بين أن العجلة مذمومة في أمر الدين، فقال تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾، وقال تعالى بعدها: ﴿بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة﴾ [القيامة: ٢٠].
الثالث: أنه قدم ﴿بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما يستعجل خشية النسيان، فقيل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن الأمور لا تحصل إلا بتوفيق الله - تعالى - وإعانته، فاعتمد على الله - تعالى - واترك التعجيل.
الرابع: كأنه قيل: غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه، وتبلغه إليهم ليظهر صدقك، وقبح عنادهم، لكنهم يعلمون ذلك بقلوبهم، فلا فائدة في هذا التعجيل.
الخامس: أن الكافر لما قال: «أين المَفر» ؟ كأنه يطلب الفرار من الله تعالى، فكن أنت يا محمد على مضادة الكافر، وفر من غير الله إلى الله.
السادس: قال القفالُ: الخطاب مع الإنسان المذكور في قوله ﴿يُنَبَّأُ الإنسان﴾ فإذا قيل له: اقرأ كتابك تلجلج لسانه، فيقال له: لا تعجل، فإنه يجب علينا بحكم الوعد، أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك ونقرأها عليك، فإذا قرآناه فاتَّبعْ قرآنه بالإقرار ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾، وهذا فيه وعيد شديد وتهويل.
روى الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: كان
558
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا نزل عليه القرآن يحرك لسانه يريد أن يحفظه، فأنزل الله تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾.
قال: وكان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ قال: جمعه في صدرك ثم نقرؤه ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ﴾ فاستمع وأنصت، ثم علينا أن نقرأه، فيقال: «فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أتاه جبريل - عليه السلام - استمع، وإذا نطق جبريل - عليه السلام - قرأه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما أقرأه» خرجه البخاري أيضاً.
ونظير هذه الآية: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤]. وقد تقدم.
وقال عامر الشعبي: إنما كان يُعجِّل بذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا نزل عليه الوحي من حبّه له وحلاوته في لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن﴾ الآية.
ونزل: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦]، ونزل: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ﴾. قاله ابن عباس: و «قرآنه» أي وقراءته عليك، والقراءة والقرآن في قول الفراء: مصدران.
وقال قتادة: «فاتَّبع قرآنه» فاتَّبع شرائعه وأحكامه.
قوله: ﴿وَقُرْآنَهُ﴾، أي: قراءته، فهو مصدر مضاف للمفعول، وأما الفاعل فمحذوف، والأصل: وقراءتك إياه، والقرآن: مصدر بمعنى القراءة.
وقال حسان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [البسيط]
٤٩٩٤ - ضَحَّوْا بأشْمَطَ عُنوانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا
وقال ابن عطية: قرأ أبو العالية: «إنَّ عَليْنَا جَمعهُ وقَرَتَهُ، فإذَا قَرَأنَاهُ فاتَّبع قَرَتهُ». بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف. ولم يذكر توجيهها.
فأما توجيه قوله: «جَمعَهُ وقُرآنهُ» وقوله: «فاتَّبعْ قُرآنهُ» فواضح - كما تقدم - في قراءة ابن كثير في «البقرة»، وأنه هل هو نقل أو من مادة «قرن»، وتحقيق القولين مذكور ثمَّة فليلتفت إليه.
وأما قوله: بفتح القاف والراء والتاء، فيعني في قوله: «فإذا قَرَتَه» يشير إلى أنه قُرىء شاذّاً هكذا.
559
وتوجيهها: أن الأصل: «قَرَأتَهُ» فعلاً ماضياً مسنداً لضمير المخاطب، أي: فإذا أردت قراءته، ثم أبدل الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة، ثم حذف الألف تخفيفاً، كقولهم: ولو ترى ما لصبيان، و «ما» مزيدة، فصار اللفظ «قَرَتَهُ».

فصل في لفظ الآية


قوله: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ أي بمقتضى الوعد عند أهل السنة، وبمقتضى الحكمة عند المعتزلة. «جمعه» في صدرك «وقرآنه» أي: يعيده جبريل عليك حتى تحفظه وتقرأه بحيث لا تنساه، فعلى الأول: القارىء جبريل عليك، وعلى الثاني محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد بقراءته: جمعه كقوله: [الوافر]
٤٩٩٥ -................................ لَمْ تَقْرَأ جَنِينَا
فيحمل الجمع على جمعه في الخارج، والقرآن على جمعه في ذهنه وحفظه لئلا يلزم التكرار، وأسند القراءة لله لأنها بأمره.
وقوله: «فاتبع قرآنه» قيل: حلاله وحرامه أو لا تقارئه بل اسكت حتَّى يسكت جبريل فاقرأ أنت، وهو أظهر؛ لأن الآية تدلّ على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقرأ مع جبريل، وكان يسأله في أثناء قراءته عن المشكلات فنهي عن الأول بقوله «فاتبع قرآنه»، وعن الثاني بقوله: ﴿ثم إن علينا بيانه﴾.
قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ أي: تفسير ما فيه من الحدود والحلال، والحرام. قاله قتادة. وقيل: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ما فيه من الوعد والوعيد.
وقيل: إنَّ علينا أن نبينه بلسانك. والضمائر تعود على القرآن، وإن لم يجر له ذكر.
وقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ يدل على أنَّ بيان المجمل واجب على الله - تعالى - أما عند أهل السُّنة فبالوعد والتفضل، وإما عند المعتزلة فبالحكمة. والله أعلم.

فصل في الرد على من جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب


احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية.
وأجاب أبو الحسين عند بوجهين:
560
الأول: أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأنتم لا تقولون به.
الثاني: أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعاراً بأنه ليس المراد في اللفظ ما يقتضيه ظاهره. فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي.
وذكر القفال وجها ثالثاً، وهو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه فيحمل على الترتيب، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: ١٣] إلى قوله ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ [البلد: ١٧].
قال ابن الخطيب: والجواب عن الأول: أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان، بل يقتضي تأخير وجوب البيان، فيكون الجواب بالمنع لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة، وعن الثاني: أنَّ كلمة «ثُمَّ» دخلت على مطلق البيان المجمل والمفصل، فالتخصيص بأحدهما تحكم بغير دليل.
وجواب القفال: بأنه ترك للظاهر بغير دليل.

فصل فيمن جوز الذنوب على الأنبياء


أورد من جوّز الذنوب على الأنبياء، بأن هذا الاستعجال إن كان بإذن، فكيف نهي عنه وإن كان بغير إذن فهو ذنب.
قال ابن الخطيب: والجواب: لعله كان مأذوناً فيه إلى وقت النهي.
561
قوله :﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ﴾ أي بمقتضى الوعد عند أهل السنة، وبمقتضى الحكمة عند المعتزلة. «جمعه » في صدرك «وقرآنه » أي : يعيده جبريل عليك حتى تحفظه وتقرأه بحيث لا تنساه، فعلى الأول : القارئ جبريل عليك، وعلى الثاني محمد صلى الله عليه وسلم والمراد بقراءته : جمعه كقوله :[ الوافر ]
٤٩٩٥ -. . . ***. . . لَمْ تَقْرَأ جَنِينَا١
فيحمل الجمع على جمعه في الخارج، والقرآن على جمعه في ذهنه وحفظه لئلا يلزم التكرار، وأسند القراءة لله لأنها بأمره.
١ جزء بيت لعمرو بن كلثوم وتمامه:
ذراعي عيطل أدماء بكر***هجان اللون لم تقرأ جنينا
ينظر اللسان (عطل)، و(هجن)، والطبري ٢٩/١١٨، والصحاح (عطل) و(هجن)، والبحر ٨/٣٧٩..

وقوله :﴿ فاتبع قرآنه ﴾ قيل : حلاله وحرامه أو لا تقارئه بل اسكت حتَّى يسكت جبريل فاقرأ أنت، وهو أظهر ؛ لأن الآية تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مع جبريل، وكان يسأله في أثناء قراءته عن المشكلات فنهي عن الأول بقوله «فاتبع قرآنه »، وعن الثاني بقوله :﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾.
قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ أي : تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام. قاله قتادة. وقيل :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ ما فيه من الوعد والوعيد.
وقيل : إنَّ علينا أن نبينه بلسانك. والضمائر تعود على القرآن، وإن لم يجر له ذكر.
وقوله :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ يدل على أنَّ بيان المجمل واجب على الله - تعالى - أما عند أهل السُّنة فبالوعد والتفضل، وإما عند المعتزلة فبالحكمة. والله أعلم.

فصل في الرد على من جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب


احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية.
وأجاب أبو الحسين عند بوجهين :
الأول : أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأنتم لا تقولون به.
الثاني : أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعاراً بأنه ليس المراد في اللفظ ما يقتضيه ظاهره. فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي.
وذكر القفال وجها ثالثاً، وهو قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه فيحمل على الترتيب، ونظيره قوله تعالى :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ إلى قوله ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ [ البلد : ١٣- ١٧ ].
قال ابن الخطيب١ : والجواب عن الأول : أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان، بل يقتضي تأخير وجوب البيان، فيكون الجواب بالمنع لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة، وعن الثاني : أنَّ كلمة «ثُمَّ » دخلت على مطلق البيان المجمل والمفصل، فالتخصيص بأحدهما تحكم بغير دليل.
وجواب القفال : بأنه ترك للظاهر بغير دليل.

فصل فيمن جوز الذنوب على الأنبياء


أورد من جوّز الذنوب على الأنبياء، بأن هذا الاستعجال إن كان بإذن، فكيف نهي عنه وإن كان بغير إذن فهو ذنب.
قال ابن الخطيب٢ : والجواب : لعله كان مأذوناً فيه إلى وقت النهي.
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٩٩..
٢ السابق ٣٠/١٩٧..
قوله: ﴿كَلاَّ﴾. قال الزمخشري: «كلاَّ» ردع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن عادة العجلة وحثّ على الأناة.
وقال جماعة من المفسرين: «كلاَّ» معناه «حقّاً» أي: حقّاً تحبّون العاجلة، وهو اختيار أبي حاتم؛ لأن الإنسان بمعنى الناس.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «كلاَّ» أي: أنَّ أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه.
وقيل: «كلاَّ» لا يصلُّون ولا يزكُّون، يريد كفار «مكّة».
561
«بَلْ تُحِبُّونَ». قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يُحِبُّون، ويَذَرُونَ» بيان الغيبة حملاً على لفظة الإنسان المذكور أولاً لأن المراد به الجنس، وهو اختيار أبي حاتم؛ لأن «الإنسان» بمعنى الناس والباقون: بالخطاب فيهما، إما خطاباً لكفار قريش أي: بل تحبون يا كفار قريش العاجلة، أي: الدار الدنيا والحياة فيها ﴿وَتَذَرُونَ الآخرة﴾ أي تدعون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدم والإقبال عليه بالخطاب.
واختار الخطاب أبو عبيد، قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء، لذكر الإنسان قبل ذلك.
قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أن يكون «وجوهٌ» مبتدأ، و «نَاضِرةٌ» نعتٌ له، و «يَومئذٍ» منصوب ب «نَاضِرَةٌ» و «ناظِرَةٌ» خبره، و «إلى ربِّها» متعلق بالخبر. والمعنى: أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى، وهذا معنى صحيح، والنَّاضرة: من النُّضرة وهي التنعم، ومنه غصن ناضر.
الثاني: أن تكون «وُجوهٌ» مبتدأ أيضاً، و «نَاضِرةٌ» خبره، و «يَوْمئذٍ» منصوب الخبر - كما تقدم - وسوَّغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل، كقوله: [المتقارب]
٤٩٩٦ -..................... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أجُرْ
وتكون «نَاضِرةٌ» نعتاً ل «وُجوهٌ» أو خبراً ثانياً او خبراً لمبتدأ محذوف، و «إلى ربِّها» متعلق ب «ناظرة» كما تقدم.
وقال ابن عطية: وابتدأ بالنكرة؛ لأنها تخصصت بقوله: «يوْمَئذٍ».
وقال أبو البقاء: وجاز الابتداء هنا بالنَّكرة لحصول الفائدة.
وفي كلا قوليهما نظر أما قول ابن عطية: فلأن قوله «تخصصت» بقوله: «يَوْمئذٍ» هو التخصيص إما لكونها عاملة فيه، وهو محال؛ لأنها جامدة، وإما لأنها موصوفة به، وهو محال أيضاً؛ لأن الجثة لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها.
وأما قول أبي البقاء: فإن أراد بحصول الفائدة ما تقدم من التفصيل فصحيح، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما تقدم.
الثالث: أن يكون «وُجوهٌ» مبتدأ، و «يُوْمئذٍ» خبره.
قاله أبو البقاءِ.
وهذا غلطٌ من حيث المعنى ومن حيث الصناعة.
562
أما المعنى: فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك، وأما الصناعة: فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثة، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول نحو «الليلة الهلالُ».
الرابع: أن يكون «وُجوهٌ» مبتدأ و «نَاضِرةٌ» خبره، و ﴿إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ جملة مستأنفة في موضع خبر ثانٍ، قاله ابن عطية.
وفيه نظر؛ لأنه لا ينعقد منهما كلام؛ إذ الظاهر تعلُّق «إلى» ب «نَاظِرةٌ» اللهمّ إلا أن يعني أن «ناظرة» خبر لمبتدأ مضمر، أي: هي ناظرة إلى ربها، وهذه الجملة خبر ثان وفيه تعسف.
الخامس: أن يكون الخبر ل «وُجوهٌ» مقدَّراً، أي: وجوه يومئذ ثمَّ، و «نَاضِرةٌ» صفة وكذلك «ناظرة».
قاله أبو البقاء: وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك.
والوجه: الأولى لخلوصه من هذه التعسّفات. وكون «إلى» حرف جر، و «ربها» مجروراً بها هو المتبادر إلى الذهن، وقد خرجه بعض المعتزلة على أن يكون «إلى» اسماً مفرداً بمعنى النعمة مضافاً إلى «الرب» ويجمع على «آلاء» نحو ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا﴾ [الرحمن: ١٣]- وقد تقدم أن فيها لغات أربعاً - و «ربِّهَا» خفض بالإضافة والمفعول مقدم ناصبه «ناظرة» بمعنى منتظرة والتقدير: وجوه منتظرة نعمة ربها.
وهذا فرار من إثبات النظر لله - تعالى - على معتقدهم.
وتَمحَّل الزمخشري لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة، فقال - بعد أن جعل التقديم في «إلى ربها» مؤذناً بالاختصاص -: والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: إنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، يريد معنى التوقّع والرجاء؛ ومنه قول القائل: [الكامل]
٤٩٩٧ - وإذَا نَظرْتُ إليْكَ مِنْ ملِكٍ والبَحْرُ دُونكَ زِدْتَنِي نِعَمَا
وسمعت سُرِّيَّة مستجدية ب «مكة» وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقايلهم تقول: «عُيَيْنتي نويظرة» إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم.
قال شهاب الدين: وهذا كالحوم على من يقول إن «نَاظِرةٌ» بمعنى منتظرة، إلا أن مكيّاً قد رد هذا القول، فقال: ودخول «إلى» مع النظر يدل على أنه نظر العين، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار لم تدخل معه «إلى» ؛ ألا ترى أنك لا تقول: انتظرت
563
إلى زيد، وتقول: نظرت إلى زيد تعني نظر العين، ف «إلى» تصحب نظر العين، ولا تصحب نظر الانتظار، فمن قال: إن «ناظرة» بمعنى «منتظرة» فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه.
وقال القرطبي: «إن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، كما قال تعالى ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة﴾ [الزخرف: ٦٦]، ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف: ٥٣]، ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [يس: ٤٩]، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقروناً بذكر» إلى «وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان».
وقال الأزهري: «إن قول مجاهد: تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال: نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذا تقوله العرب؛ لأنهم يقولون: نظرت إليه إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته» ؛ قال: [الطويل]
٤٩٩٨ - فإنَّكُمَا إنْ تنْظُرَا لي سَاعةً مِنَ الدَّهرِ تَنْفعْنِي لدى أمِّ جُندُبِ
لما أرادوا الانتظار قال: تنظراني، وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه.
قال الشاعر: [الطويل]
٤٩٩٩ - نَظرْتُ إليْهَا والنُّجُومُ كأنَّها مَصابِيحُ رُهبَانٍ تُشَبُّ لِقفَّالِ
وقال آخر: [الطويل]
٥٠٠٠ - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ من مِنى........................
والنّضْرة: طرواة البشرة وجمالها، وذلك من أثر النعمة، يقال: نضر وجهه فهو ناضر.
وقال بعضهم: نسلم أنه من نظر العين إلا أن ذلك على حذف مضاف، أي ثواب ربها ونحوه.
564
قال مكي: «لو جاء هذا لجاز: نظرت إلى زيد، بمعنى: نظرت إلى عطاء زيد، وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني».
ونضَره الله ونضَّره، مخففاً ومثقلاً، أي: حسنه ونعمه.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «نَضَّر اللَّهُ أمْرأً سَمِعَ مَقالَتِي فوَعَاهَا، فأدَّاهَا كما سَمِعهَا» يروى بالوجهين.
ويقال للذهب: نُضَار من ذلك، ويقال له: النضر أيضاً.
ويقال: أخضر ناضر كأسود حالك، وقدح نضار: يروى بالإتباع والإضافة.
والعامة: «ناضرة» بألف، وقرأ زيد بن علي: «نضرة» بدونها، ك «فرح» فهو فرح.

فصل في الرؤية.


روى مسلم في قوله تعالى ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ [يونس: ٢٦] كان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم تلى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.
وقال عكرمة: تنظر إلى ربها نظراً، وحكى الماوردي عن ابن عمر وعكرمة ومجاهد: تنظر أمر ربها، وليس معروفاً إلا عن مجاهد وحده.
وجمهور أهل السُّنَّة تمسك بهذه الآية لإثبات أن المؤمنين يرون الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة وأما المعتزلة فاحتجوا بقوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣]، ويقولون: النظر المقرون ب «إلى» ليس اسماً للرؤية، بل لمقدمة الرؤية، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة، وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾
[الأعراف: ١٩٨] فأثبت النظر حال عدم الرؤية، ويقال: نظر إليه شزراً، ونظر إليه غضبان ونظر راضياً، ولا يقال ذلك في الرؤية،
565
ويقال: وجوه متناظرة، أي: متقابلة ويقال: انظر إليه حتى تراه، فتكون الرؤية غاية للنظر، وأن النظر يحصل والرؤية غير حاصلة وقال: [الوافر]
٥٠٠١ - وجُوهٌ نَاظرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ إلى الرَّحْمنٍ تَنتظِرُ الخَلاصَا
ولا رؤية مع النظر المقرون ب «إلى»، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ [آل عمران: ٧٧] ومن قال: لا يراهم، كفر، قالوا: ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى: ﴿نَاظِرةٌ﴾ أي: منتظرة كقولك: أنا أنظر إليك في حاجتي، أو يكون «إلى» مفرد «آلاء» وهي النعم - كما تقدم - والمراد: إلى ثواب ربها؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية لما منعت الرؤية وجب التأويل، أو يكون المعنى أنها لا تسأل، ولا ترغب إلا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، كقوله: «اعْبُد الله كأنَّك تَرَاهُ».
قال ابن الخطيب: والجواب: لنا مقامان:
أحدهما: أن نقول: النظر هو الرؤية كقول موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإرادة فلا يكون تقليب.
المقام الثاني: سلمنا ما ذكرتموه من أن النظر تقليب الحدقة للرؤية، لكن يقدر حمله على الحقيقة، فيجب الحمل على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأم قولهم: نحمله على الانتظار قلنا: الذي هو بمعنى الانتظار، وفي القرآن غير مقرون، كقوله تعالى: ﴿انظرونا نَقْتَبِسْ﴾ [الحديد: ١٣]، ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف: ٥٣]، والذي ندّعيه أن النظر المقرون ب «إلى» ليس بمعنى الرؤية؛ لأن وروده بمعنى الرؤية، أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر، فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك وقوله: «وجوه ناظرات يوم بدر». شعر موضوع، والرواية الصحيحة: [الوافر]
٥٠٠٢ - وجُوهٌ نَاظِراتٌ يَوْمَ بَكْرٍ إلى الرَّحمنِ تَنتظِرُ الخَلاصَا
والمراد من هذا الرحمن: مسيلمة الكذاب؛ لأنهم كانوا يسمُّونه رحمن اليمامة، وأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه الخلاص من الأعداء.
وقولهم: هو مفرد «آلاء» أي: نعمة ربها.
566
قلنا: فيصدق على أيِّ نعمة كانت.
وإن قلنا: لأنه إنما كان للماهية التي يصدق عليها أنها نعمة، فعلى هذا يكفي في تحقيق مسمّى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة، وإن كانت غاية في القلة والحقارة، وكيف يمكن أن تكون من حاله الثواب يومئذ في النعم العظيمة، فكيف ينتظرون نعمة قليلة، وكيف يمكن أن يكون من حاله كذلك أن يبشر بأنه يتوقع الشيء الذي يطلق عليه اسم النعمة، ومثال هذا: أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حاله في العظمة والقوة بعد سنة بحيث يكون متوقعاً لحصول نعمة واحدة فكما أن ذلك فاسد، فكذا هاهنا سلمنا أن النظر المتعدي ب «إلى» المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار، ولكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه؛ لأن لذة الانتظار مع تعين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا، فلا بد وأن تحصل في الآخرة زيادة حتى يحصل الترغيب في الآخرة، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول.
قال
القشيري
: وهذا باطل؛ لأن واحد «الآلاء» يكتب بالألف لا بالياء.
وقرب الحصول معلوم بالعقل فبطل التأويل.
وأما قولهم: المراد ثواب ربها، فهو خلاف الظاهر، هذا ما ذكره ابن الخطيب.
وروى القرطبي في «تفسيره» قال: خرج «مسلم» عن جرير بن عبد الله قال: «كنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّكُمْ سَتَروْنَ ربَّكمْ عياناً كمَا تَرونَ القَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤيتِهِ، فإن اسْتَطَعْتُم ألاَّ تُغْلبُوا عَلى صلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وصلاةٍ قَبْلَ غُروبِهَا فافْعَلُوا «ثُمَّ قَرَأ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب﴾ [ق: ٣٩] » متفق عليه.
وفي كتاب «النسائي» عن صهيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «فيُكشَفُ الحِجابُ فيَنظُرونَ إليْهِ، فواللَّهِ ما أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحبَّ إليْهِمْ من النَّظرِ، ولا أقَرَّ لأعْيُنِهِمْ».
وروى أبو إسحاق الثعلبيُّ عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يتَجَلَّى ربُّنَا - سُبْحانَهُ وتَعَالَى - حتَّى يُنْظَرَ إلى وَجْههِ فيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً، فيقُولُ اللَّه تعالى: ارفَعُوا رُءُوسكمْ فَليْسَ هذا بِيومِ عِبَادةٍ».
567
وقال القرطبي: وقيل: أضاف النظر إلى العين؛ لأن العين في الوجه فهو كقوله تعالى: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [البقرة: ٢٥] والماء يجري في النهر لا النهر ثم قد يكون الوجه بمعنى العين، قال تعالى: ﴿فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٣]، أي على عينيه، ثم لا يبعد قلب العادة غداً حتى يخلق النظر في الوجه وهو كقوله تعالى ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ﴾ [الملك: ٢٢].
«فقيل: يا رسُول اللَّهِ، كيف يَمشُونَ في النَّار علَى وُجوهِهم؟ قال:» الَّذي أمْشاهُمْ عَلى أقدامهِم قَادِرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوُهِهِم «.
قوله: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾، أي: وجوه الكفار يوم القيامة شديدة كالحة.
والبَاسِر: الشديد العبوس، والباسل: أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحة.
وفي»
الصِّحاح «: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها، وبسر الرجل وجهه بسوراً أي: كلح، يقال:» عَبسَ وبَسَرَ «.
وقال السديُّ:»
بَاسِرةٌ «متغيّرة، والمعنى: أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها.
قوله تعالى: ﴿تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾.
أي: توقن وتعلم.
قال ابن الخطيب: هكذا قاله المفسرون، وعندي أن الظن هنا إنما ذكر على سبيل التهكم، كأنه قيل لما شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق.
والفاقرة هي الداهية العظيمة، قاله أبو عبيدة.
سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر.
قال النابغة: [الطويل]
٥٠٠٣ - أبَى لِيَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقَابلِي وضَرْبَةُ فَأسٍ فَوقَ رَأسِي فَاقِرَهْ
أي: داهية مؤثِّرة، يقال: فقرته الفاقرة، أي: كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره، ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القلّ وقد تقدم في البقرة.
568
وقال قتادة: «الفاقرة» : الشر، وقال السديُّ: الهلاك.
وقال ابن عباس وزيد: دخول النار، وأصلها الوسم على أنفس البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم. قاله الأصمعي.
يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة، ثم جعلت على موضع الحزّ الجرير وعليه وتر مَلْويّ لتذلله وتروضه.
569
﴿ وَتَذَرُونَ الآخرة ﴾ أي تدعون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدم والإقبال عليه بالخطاب.
واختار الخطاب أبو عبيد، قال : ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء، لذكر الإنسان قبل ذلك.
قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أن يكون «وجوهٌ » مبتدأ، و «نَاضِرةٌ » نعتٌ له، و «يَومئذٍ » منصوب ب «نَاضِرَةٌ » و «ناظِرَةٌ » خبره، و «إلى ربِّها » متعلق بالخبر. والمعنى : أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى، وهذا معنى صحيح، والنَّاضرة : من النُّضرة وهي التنعم، ومنه غصن ناضر.
الثاني : أن تكون «وُجوهٌ » مبتدأ أيضاً، و «نَاضِرةٌ » خبره، و «يَوْمئذٍ » منصوب الخبر - كما تقدم - وسوَّغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل، كقوله :[ المتقارب ]
٤٩٩٦ -. . . *** فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أجُرْ١
وتكون «نَاضِرةٌ » نعتاً ل «وُجوهٌ » أو خبراً ثانياً أو خبراً لمبتدأ محذوف، و «إلى ربِّها » متعلق ب «ناظرة » كما تقدم.
وقال ابن عطية : وابتدأ بالنكرة ؛ لأنها تخصصت بقوله :«يوْمَئذٍ ».
وقال أبو البقاء : وجاز الابتداء هنا بالنَّكرة لحصول الفائدة.
وفي كلا قوليهما نظر أما قول ابن عطية : فلأن قوله «تخصصت » بقوله :«يَوْمئذٍ » هو التخصيص إما لكونها عاملة فيه، وهو محال ؛ لأنها جامدة، وإما لأنها موصوفة به، وهو محال أيضاً ؛ لأن الجثة لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها.
وأما قول أبي البقاء : فإن أراد بحصول الفائدة ما تقدم من التفصيل فصحيح، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما تقدم.
الثالث : أن يكون «وُجوهٌ » مبتدأ، و «يُوْمئذٍ » خبره. قاله أبو البقاءِ.
وهذا غلطٌ من حيث المعنى ومن حيث الصناعة.
أما المعنى : فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك، وأما الصناعة : فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثة، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول نحو «الليلة الهلالُ ».
الرابع : أن يكون «وُجوهٌ » مبتدأ و «نَاضِرةٌ » خبره، و ﴿ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ جملة مستأنفة في موضع خبر ثانٍ، قاله ابن عطية.
وفيه نظر ؛ لأنه لا ينعقد منهما كلام ؛ إذ الظاهر تعلُّق «إلى » ب «نَاظِرةٌ » اللهمّ إلا أن يعني أن «ناظرة » خبر لمبتدأ مضمر، أي : هي ناظرة إلى ربها، وهذه الجملة خبر ثان وفيه تعسف.
الخامس : أن يكون الخبر ل «وُجوهٌ » مقدَّراً، أي : وجوه يومئذ ثمَّ، و «نَاضِرةٌ » صفة وكذلك «ناظرة ».
قاله أبو البقاء : وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك.
والوجه : الأولى لخلوصه من هذه التعسّفات. وكون «إلى » حرف جر، و «ربها » مجروراً بها هو المتبادر إلى الذهن، وقد خرجه بعض المعتزلة على أن يكون «إلى » اسماً مفرداً بمعنى النعمة مضافاً إلى «الرب » ويجمع على «آلاء » نحو ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا ﴾ [ الرحمن : ١٣ ] - وقد تقدم أن فيها لغات أربعاً - و «ربِّهَا » خفض بالإضافة والمفعول مقدم ناصبه «ناظرة » بمعنى منتظرة والتقدير : وجوه منتظرة نعمة ربها.
وهذا فرار من إثبات النظر لله - تعالى - على معتقدهم.
وتَمحَّل الزمخشري لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة، فقال - بعد أن جعل التقديم في «إلى ربها » مؤذناً بالاختصاص - : والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : إنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، يريد معنى التوقّع والرجاء ؛ ومنه قول القائل :[ الكامل ]
٤٩٩٧ - وإذَا نَظرْتُ إليْكَ مِنْ ملِكٍ*** والبَحْرُ دُونكَ زِدْتَنِي نِعَمَا٢
وسمعت سُرِّيَّة مستجدية ب «مكة » وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقايلهم تقول :«عُيَيْنتي نويظرة » إلى الله وإليكم، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم.
قال شهاب الدين٣ : وهذا كالحوم على من يقول إن «نَاظِرةٌ » بمعنى منتظرة، إلا أن مكيّاً قد رد هذا القول، فقال : ودخول «إلى » مع النظر يدل على أنه نظر العين، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار لم تدخل معه «إلى » ؛ ألا ترى أنك لا تقول : انتظرت إلى زيد، وتقول : نظرت إلى زيد تعني نظر العين، ف «إلى » تصحب نظر العين، ولا تصحب نظر الانتظار، فمن قال : إن «ناظرة » بمعنى «منتظرة » فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه.
وقال القرطبي٤ :«إن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته، كما قال تعالى ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة ﴾ [ الزخرف : ٦٦ ]، ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ]، ﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ [ يس : ٤٩ ]، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقروناً بذكر " إلى " وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان ».
وقال الأزهري :«إن قول مجاهد : تنتظر ثواب ربها خطأ ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذا تقوله العرب ؛ لأنهم يقولون : نظرت إليه إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته » ؛ قال :[ الطويل ]
٤٩٩٨ - فإنَّكُمَا إنْ تنْظُرَا لي سَاعةً*** مِنَ الدَّهرِ تَنْفعْنِي لدى أمِّ جُندُبِ٥
لما أرادوا الانتظار قال : تنظراني، وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه.
قال الشاعر :[ الطويل ]
٤٩٩٩ - نَظرْتُ إليْهَا والنُّجُومُ كأنَّها*** مَصابِيحُ رُهبَانٍ تُشَبُّ لِقفَّالِ٦
وقال آخر :[ الطويل ]
٥٠٠٠ - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ من مِنى ***. . . ٧
والنّضْرة : طرواة البشرة وجمالها، وذلك من أثر النعمة، يقال : نضر وجهه فهو ناضر.
وقال بعضهم : نسلم أنه من نظر العين إلا أن ذلك على حذف مضاف، أي ثواب ربها ونحوه.
قال مكي :«لو جاء هذا لجاز : نظرت إلى زيد، بمعنى : نظرت إلى عطاء زيد، وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني ».
ونضَره الله ونضَّره، مخففاً ومثقلاً، أي : حسنه ونعمه.
قال صلى الله عليه وسلم :«نَضَّر اللَّهُ امْرأً سَمِعَ مَقالَتِي فوَعَاهَا، فأدَّاهَا كما سَمِعهَا »٨ يروى بالوجهين.
ويقال للذهب : نُضَار من ذلك، ويقال له : النضر أيضاً.
ويقال : أخضر ناضر كأسود حالك، وقدح نضار : يروى بالإتباع والإضافة.
والعامة :«ناضرة » بألف، وقرأ زيد٩ بن علي :«نضرة » بدونها، ك «فرح » فهو فرح.

فصل في الرؤية.


روى مسلم في قوله تعالى ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى ﴾ [ يونس : ٢٦ ] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم تلا :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾١٠.
١ تقدم..
٢ ينظر الكشاف ٤/٦٢٢، والبحر ٨/٣٨٠، والدر المصون ٦/٤٣٠..
٣ ينظر الدر المصون ٦/٤٣١..
٤ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧١..
٥ تقدم..
٦ قائله هو امرؤ القيس ديوانه ص٣١، والهمع ١/٢٤٦، والدرر اللوامع ١/١٧٠، والقرطبي ١٩/٧١..
٧ صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة وعجزه:
... *** لحيني شمس سترت بيمان
ويروى أيضا:
ولي نظر لولا التخرج عارم ***...
ينظر ديوان عمر بن أبي ربيعة ص ٢٦٥، والقرطبي ١٩/٧١..

٨ تقدم تخريجه..
٩ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٨٠، والدر المصون ٦/٤٣١..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٧٠) عن ابن عمر..
﴿ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾.
وقال عكرمة : تنظر إلى ربها نظراً١، وحكى الماوردي عن ابن عمر وعكرمة ومجاهد : تنظر أمر ربها، وليس معروفاً إلا عن مجاهد وحده٢.
وجمهور أهل السُّنَّة تمسك بهذه الآية لإثبات أن المؤمنين يرون الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة وأما المعتزلة فاحتجوا بقوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ]، ويقولون : النظر المقرون ب «إلى » ليس اسماً للرؤية، بل لمقدمة الرؤية، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة، وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾[ الأعراف : ١٩٨ ] فأثبت النظر حال عدم الرؤية، ويقال : نظر إليه شزراً، ونظر إليه غضبان ونظر راضياً، ولا يقال ذلك في الرؤية، ويقال : وجوه متناظرة، أي : متقابلة ويقال : انظر إليه حتى تراه، فتكون الرؤية غاية للنظر، وأن النظر يحصل والرؤية غير حاصلة وقال :[ الوافر ]
٥٠٠١ - وجُوهٌ نَاظرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ*** إلى الرَّحْمنٍ تَنتظِرُ الخَلاصَا٣
ولا رؤية مع النظر المقرون ب «إلى »، وقال تعالى :﴿ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ] ومن قال : لا يراهم، كفر، قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى :﴿ نَاظِرةٌ ﴾ أي : منتظرة كقولك : أنا أنظر إليك في حاجتي، أو يكون «إلى » مفرد «آلاء » وهي النعم - كما تقدم - والمراد : إلى ثواب ربها ؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية لما منعت الرؤية وجب التأويل، أو يكون المعنى أنها لا تسأل، ولا ترغب إلا إلى الله عز وجل، كقوله :«اعْبُد الله كأنَّك تَرَاهُ ».
قال ابن الخطيب٤ : والجواب : لنا مقامان :
أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية كقول موسى عليه الصلاة والسلام :﴿ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ]، فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإرادة فلا يكون تقليب.
المقام الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أن النظر تقليب الحدقة للرؤية، لكن يقدر حمله على الحقيقة، فيجب الحمل على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة ؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأم قولهم : نحمله على الانتظار قلنا : الذي هو بمعنى الانتظار، وفي القرآن غير مقرون، كقوله تعالى :﴿ انظرونا نَقْتَبِسْ ﴾ [ الحديد : ١٣ ]، ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ]، والذي ندّعيه أن النظر المقرون ب «إلى » ليس بمعنى الرؤية ؛ لأن وروده بمعنى الرؤية، أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر، فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك وقوله :«وجوه ناظرات يوم بدر ». شعر موضوع، والرواية الصحيحة :[ الوافر ]
٥٠٠٢ - وجُوهٌ نَاظِراتٌ يَوْمَ بَكْرٍ*** إلى الرَّحمنِ تَنتظِرُ الخَلاصَا٥
والمراد من هذا الرحمن : مسيلمة الكذاب ؛ لأنهم كانوا يسمُّونه رحمن اليمامة، وأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه الخلاص من الأعداء.
وقولهم : هو مفرد «آلاء » أي : نعمة ربها.
قلنا : فيصدق على أيِّ نعمة كانت.
وإن قلنا : لأنه إنما كان للماهية التي يصدق عليها أنها نعمة، فعلى هذا يكفي في تحقيق مسمّى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة، وإن كانت غاية في القلة والحقارة، وكيف يمكن أن تكون من حاله الثواب يومئذ في النعم العظيمة، فكيف ينتظرون نعمة قليلة، وكيف يمكن أن يكون من حاله كذلك أن يبشر بأنه يتوقع الشيء الذي يطلق عليه اسم النعمة، ومثال هذا : أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حاله في العظمة والقوة بعد سنة بحيث يكون متوقعاً لحصول نعمة واحدة فكما أن ذلك فاسد، فكذا هاهنا سلمنا أن النظر المتعدي ب «إلى » المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار، ولكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ؛ لأن لذة الانتظار مع تعين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا، فلا بد وأن تحصل في الآخرة زيادة حتى يحصل الترغيب في الآخرة، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول.
قال القشيري : وهذا باطل ؛ لأن واحد «الآلاء » يكتب بالألف لا بالياء.
وقرب الحصول معلوم بالعقل فبطل التأويل.
وأما قولهم : المراد ثواب ربها، فهو خلاف الظاهر، هذا ما ذكره ابن الخطيب.
وروى القرطبي في «تفسيره » قال٦ : خرج «مسلم » عن جرير بن عبد الله قال :«كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال صلى الله عليه وسلم :" إنَّكُمْ سَتَروْنَ ربَّكمْ عياناً كمَا تَرونَ القَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤيتِهِ، فإن اسْتَطَعْتُم ألاَّ تُغْلبُوا عَلى صلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وصلاةٍ قَبْلَ غُروبِهَا فافْعَلُوا " ثُمَّ قَرَأ :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب ﴾ " متفق عليه٧.
وفي كتاب «النسائي » عن صهيب - رضي الله عنه - قال :«فيُكشَفُ الحِجابُ فيَنظُرونَ إليْهِ، فواللَّهِ ما أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحبَّ إليْهِمْ من النَّظرِ، ولا أقَرَّ لأعْيُنِهِمْ »٨.
وروى أبو إسحاق الثعلبيُّ عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يتَجَلَّى ربُّنَا - سُبْحانَهُ وتَعَالَى - حتَّى يُنْظَرَ إلى وَجْههِ فيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً، فيقُولُ اللَّه تعالى : ارفَعُوا رُءُوسكمْ فَليْسَ هذا بِيومِ عِبَادةٍ »٩.
وقال القرطبي١٠ : وقيل : أضاف النظر إلى العين ؛ لأن العين في الوجه فهو كقوله تعالى :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] والماء يجري في النهر لا النهر ثم قد يكون الوجه بمعنى العين، قال تعالى :﴿ فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ﴾ [ يوسف : ٩٣ ]، أي على عينيه، ثم لا يبعد قلب العادة غداً حتى يخلق النظر في الوجه وهو كقوله تعالى ﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ ﴾ [ الملك : ٢٢ ].
«فقيل : يا رسُول اللَّهِ، كيف يَمشُونَ في النَّار علَى وُجوهِهم ؟ قال :" الَّذي أمْشاهُمْ عَلى أقدامهِم قَادِرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوُهِهِم " ١١.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٣) عن مجاهد وأبي صالح وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٧٦) عن أبي صالح وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٩) وعزاه إلى ابن المنذر والآجري واللالكائي والبيهقي..
٣ يروى: فلاحا-خلاصا.
ينظر مجمع البيان ١٠/٦٠٠، والرازي ٣٠/٢٠٠..

٤ الفخر الرازي ٣٠/٢٠١..
٥ تقدم قريبا..
٦ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٠..
٧ أخرجه البخاري ٨/٤٦٢-٤٦٣، كتاب التفسير: باب "وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب" (٤٨٥١)، ومسلم ١/٤٣٩؛ ٤٤٠، كتاب المساجد: باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليها ٢١١/٦٣٣، (٢١٢)..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٧١)..
٩ ينظر المصدر السابق..
١٠ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٠..
١١ تقدم..
قوله :﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾، أي : وجوه الكفار يوم القيامة شديدة كالحة.
والبَاسِر : الشديد العبوس، والباسل : أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحة.
وفي " الصِّحاح " ١ : وبسر الفحل الناقة وابتسرها : إذا ضربها، وبسر الرجل وجهه بسوراً أي : كلح، يقال :" عَبسَ وبَسَرَ ".
وقال السديُّ :" بَاسِرةٌ " متغيّرة، والمعنى : أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها٢.
١ ينظر الصحاح ٢/٥٨٩..
٢ ذكره القرطبي في تفسيره (١٩/٧٠)..
قوله تعالى :﴿ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾. أي : توقن وتعلم.
قال ابن الخطيب١ : هكذا قاله المفسرون، وعندي أن الظن هنا إنما ذكر على سبيل التهكم، كأنه قيل لما شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق.
والفاقرة هي الداهية العظيمة، قاله أبو عبيدة.
سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر.
قال النابغة :[ الطويل ]
٥٠٠٣ - أبَى لِيَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقَابلِي***وضَرْبَةُ فَأسٍ فَوقَ رَأسِي فَاقِرَهْ٢
أي : داهية مؤثِّرة، يقال : فقرته الفاقرة، أي : كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره، ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القلّ وقد تقدم في البقرة٣.
وقال قتادة :«الفاقرة » : الشر٤، وقال السديُّ : الهلاك٥.
وقال ابن عباس وزيد : دخول النار٦، وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم. قاله الأصمعي.
يقال : فقرت أنف البعير : إذا حززته بحديدة، ثم جعلت على موضع الحزّ الجرير وعليه وتر مَلْويّ لتذلله وتروضه.
١ ينظر الرازي ٣٠/٢٠٣..
٢ يروى إن لي قبرا، مكان أبى لي قبرا.
ينظر ديوانه (١٢١)، والقرطبي ١٩/٧٢، والبحر المحيط ٨/٣٧٤، والدر المصون ٦/٤٣١، وفتح القدير ٥/٣٣٩..

٣ آية ٢٦٨..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٥) وذكره السيوطي في الدر المنثور" (٦/٤٧٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٧٢)..
٦ ينظر المصدر السابق..
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي﴾ «كَلاَّ» ردْعَ وزَجْر، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف فقال: ﴿إِذَا بَلَغَتِ التراقي﴾ أي: بلغت النفس والروح التراقي فأخبر بما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب به كقوله تعالى: ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ [ص: ٣٢] وقوله: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم﴾ [الواقعة: ٨٣].
وقيل: «كَلاّ» معناه «حقّاً» إن المساق إلى الله تعالى إذا بلغت التراقي، أي إذا ارتفعت النفس إلى التراقي.
وكان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. و «التراقي» : مفعول «بلغت» والفاعل مضمر، أي: النفس وإن لم يجرِ لها ذكر، كقول حاتم: [الطويل]
٥٠٠٤ - أمَاوِيَّ ما يُغنِي الثَّراءُ عن الفَتَى إذَا حَشْرجتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي: حشرجت النفس.
وقيل: في البيت: إن الدال على النفس ذكر جملة ما اشتمل عليها وهو الفتى فكذلك هنا ذكر الإنسان دال على النفس، والعامل في «إذَا بَلغت» معنى قوله تعالى: ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق﴾ [القيامة: ٣٠]، أي: إذ بلغت الحلقوم رفعت إلى الله تعالى، ويكون قوله: ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ [القيامة: ٢٧] معطوف على «بلغت».
و «التراقي» : جمع «ترقوة»، أصلها: «تراقو» قلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها.
569
والترقوة: أحد عظام الصدر. قاله أبو حيان، والمعروف غير ذلك.
قال الزمخشري: ولكل إنسان ترقوتان، فعلى هذا يكون من باب: غليظ الحواجب وعريض المناكب.
وقال القرطبي: «هي العظام المكتنفة لنُقْرة النحر، وهو مقدم الدّلق من أعلى الصدر، وهو موضع الحَشْرجة».
قال دريدُ بن الصمَّةِ: [الوافر]
٥٠٠٥ - ورُبَّ عَظِيمةٍ دَافعْتُ عَنْهَا وقَدْ بَلغَتْ نُفوسُهُمُ التَّراقِي
وقال الراغب: «التَّرْقُوة» : عظم وصل ما بين نُقرة النحر والعاتق انتهى.
وقال الزمخشري: العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال. ووزنها: «فَعْلُوة» فالتاء أصل والواو زائدة، يدل عليه إدخال أهل اللغة إياها في مادة «ترق».
وقال أبو البقاء والفراء: جمع تَرْقُوَة، وهي «فَعْلُوة»، وليست ب «تَفْعلَة»، إذ ليس في الكلام «رقو».
وقرىء: «التراقي» بسكون، وهي كقراءة زيد: ﴿تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وقد تقدم توجيهها.
وقد يكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.

فصل في الرد على من طعن في الآية


قال ابن الخطيب: قال بعض الطَّاعنين: إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها للقلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه: من راق وحتى تلتف الساق بالساق، والجواب: أن المراد من قوله: ﴿حتَّى إذَا بَلَغَت التَّرَاقِي﴾، أي: إذا حصل بالقرب من تلك الحالة.
قوله: ﴿مَن رَاقٍ﴾ مبتدأ وخبر، وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل، وأصول البصريين تقتضي ألا يكون؛ لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة، بل القائم مقامه ضمير المصدر وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة.
570
وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه، وأن يكون استبعاداً وإنكاراً.
فالأولى مروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما، قالوا: هو من الرقية.
وروى سماك عن عكرمة قال: «من راق» يرقي ويشفي.
والثاني رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضاً: هل من طبيب يشفيه، وهو قول أبي قلابة وقتادة. وقال الشاعر: [البسيط]
٥٠٠٦ - هَلْ لِلفَتَى مِنْ بنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ؟ أمْ هَلْ لَهُ مِن حَمامِ المَوتِ مِنْ رَاقِ؟
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس، أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضاً وأبي الجوزاء: أنه من رقي يرقى: إذا صعد.
والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
وقيل: إن ملك الموت يقول: «مَن راقٍ» أي: من يرقى بهذه النفس.
قال شهاب الدين: و «راقٍ» اسم فاعل إما من «رقى يرقي» من الرقية، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ومَا أدْراكَ أنَّها رُقْيَة» يعني الفاتحة، وهو اسم من أسمائها، وإما من «رَقِيَ يرقَى» من الرَّقْي وهو الصعود أي أن الملائكة لكراهتها في روحه تقول: من يصعد بهذه الروح يقال: «رَقَى - بالفتح - من الرُّقية، وبالكسر من الرَّقْي»، ووقف حفص على نون «من» سكتة لطيفة، وقد تقدم تحقيق هذا في أول الكهف.
وذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء وجوباً بغنة وبغيرها نحو «من راشد».
قال الواحدي: إن إظهار النون عند حروف الفم لحن فلا يجوز إظهار نون «من» في قوله: «من راق».
وروى حفص عن عاصم: إظهار النون واللام في قوله: «من راق» و «بل ران». قال أبو علي الفارسي: «ولا أعرف وجه ذلك».
قال الواحدي: والوجه أن يقال: قصدوا الوقف على «من» و «بل»، فأظهروهما ثم ابتدأوا بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراءة.
قوله: ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق﴾، أي: أيقن الإنسان أنه الفراق، أي: فراق الدنيا، والأهل
571
والمال والولد، وذلك حين يعاين الملائكة، وسمي اليقين هنا بالظن؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة، ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن الغالب تهكماً.
قال ابن الخطيب: وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باقٍ بعد موت البدنِ؛ لأن الله - تعالى - سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية، فإن الفراق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف.
قوله تعالى: ﴿والتفت الساق بالساق﴾. الالتفاف هو الاجتماع، قال تعالى: ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: ١٠٤] ومعنى الكلام: اتصلت الشدة بالشدة، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.
وقال الشعبي وغيره: التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكربِ.
قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى.
وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضاً: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفنِ.
وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت.
قال النحاس: القول الأول أحسنها، لقول ابن عباس: هو آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحنِ العظام، ومنه قولهم: قامت الحرب على ساقٍ.
قال أهل المعاني: إن الإنسان إذا دهمته شدة شمَّر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد: ساق، قال الجعديُّ: [الطويل]
572
٥٠٠٧ - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا وإنْ شَمَّرتْ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
قوله تعالى: ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق﴾. أي: إلى خالقك يومئذ، أي: يوم الساق، أي: المرجع، و «المساق» «مفعل» من السوق وهو اسم مصدر.
قال القرطبي: «المساق» : مصدر ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.
قوله: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى﴾ «لا» هنا دخلت على الماضي، وهو مستفيض في كلامهم بمعنى: لم يصدق ولم يصل.
قال: [الرجز]
٥٠٠٨ - إنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغفِرْ جَمَّا وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألمَّا
وقال آخر: [الطويل]
٥٠٠٩ - وأيُّ خَمِيسٍ، لا أتَانَا نِهَابُهُ وأسْيَافُنَا مِنْ كَبْشِهِ تَقطرُ الدِّمَا
وقال مكيٌّ: «لا» الثانية نفي، وليست بعاطفة، ومعناه: فلم يصدق ولم يصل. قال شهاب الدين: «وكيف يتوهم العطف حتى ينفيه».
وجعل الزمخشري ﴿فلا صدق وصلى﴾ عطفاً على الجملة من قوله: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة﴾ قال: وهو معطوف على قوله: «يسأل أيان» أي لا يؤمن بالبعث فلا صدق بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن الكريم.
واستبعده أبو حيان.
وقال الكسائي: «لا» بمعنى «لم» ولكنه يقرن بغيره، تقول العرب: لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله:
﴿فَلاَ اقتحم العقبة﴾ [البلد: ١١] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه: فهلا اقتحم، بحذف حرف الاستفهام.
573
وقال الأخفش: «فلا صدّق» أي: لم يصدق، كقوله تعالى: «فَلا اقْتَحَمَ» أي: لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي: لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل، ومنه قول زهير: [الطويل]
٥٠١٠ -...................... فَلاَ هُوَ أبْداهَا ولمْ يتقدَّمِ

فصل في معنى الآية


قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه لم يصدق بالرسالة، «ولا صلى» أي: دعا لربه - عَزَّ وَجَلَّ - وصلى على رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقال قتادة: «فلا صدق» بكتاب الله «ولا صلى» لله تعالى.
[وقيل: لا صدق بمالٍ ذخراً له عند الله تعالى «ولا صلى» الصلوات التي أمر الله بها.
وقيل: فلا آمن بقلبه] ولا عمل ببدنه.
قيل: المراد أبو جهل.
وقيل: الإنسان المذكور في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان﴾ [القيامة: ٣].
قوله: ﴿ولكن كَذَّبَ وتولى﴾ الاستدراك هنا واضح؛ لأنه لا يلزم من نفي التصدق والصلاة، التكذيب والتولي لأن كثيراً من المسلمين كذلك فاستدرك ذلك بأن سببه التكذيب والتولي، ولهذا يضعف أن يحمل نفي التصديق على نفي تصديق الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لئلا يلزم التكرار فتقع «لكن» بين متوافقين، وهو لا يجوز.
قال القرطبي: ومعناه كذب بالقرآن، وتولى عن الإيمان.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى﴾. أي: يتبختر افتخاراً بذلك. قاله مجاهد وغيره.
«يتَمطَّى» جملة حالية من فاعل «ذهب»، ويجوز أن يكون بمعنى شرع في التمطِّي، كقوله: [الطويل]
٥٠١١ - فَقامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسْيفهِ...
574
وتمطى - هنا - فيه قولان:
أحدهما: أنه من «المَطَا» وهو الظهر، ومعناه: يَتبختَرُ أي يمد مطاه ويلويه تبختراً في مشيته.
الثاني: أن أصله «يتمطّط» أي يتمدّد، ومعناه: أنه يتمدد في مشيته تبختراً، ومن لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول، ويفارقه في مادته، إذ مادة «المطا» :«م ط و»، ومادة الثاني: «م ط ط»، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهية اجتماع الأمثال نحو: تطيبت، وقصيت أظفاري، وقوله: [الراجز]
٥٠١٢ - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ... والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المُطَيْطَاءِ وخدَمتهُمْ من فَارِس والرَّومِ كان بَأسهُمْ بَيْنَهُمْ».
و «المطيط» : الماء الخاثر أسفل الحوض؛ لأنه يتمطّط، أي: يمتدّ فيه.
وقال القرطبي: التمطط: هو التمدد من التكسُّل، والتثاقل فهو متثاقل عن الداعي إلى الحق، والتمطي يدل على قلة الاكتراث.
قوله: ﴿أولى لَكَ فأولى﴾ تقدم الكلام عليه في أول سورة القتال، وإنما كررها هنا مبالغة في التهديد والوعيد، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد؛ قالت الخنساء: [المتقارب]
٥٠١٣ - هَمَمْتُ بنَفْسِيَ كُلَّ الهُمومِ فأولَى لِنفْسِيَ أوْلَى لَهَا
وقال أبو البقاء هنا: «وزن» أولى فيه قولان:
أحدهما: «فَعْلَى» والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث.
والثاني: هو «أفعل»، وهو على القولين هنا «علمٌ»، ولذلك لم ينون، ويدل عليه ما حكى أبو زيد في «النوادر» : هو أولاة - بالتاء - غير مصروف، لأنه صار علماً للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد، فعلى هذا يكون أولى مبتدأ، و «لك» الخبر.
575
والثاني: أن يكون اسماً للفعل مبنياً، ومعناه: وليك شر بعد شر، و «لك» تبيين.

فصل في نزول الآية


قال قتادة ومقاتل والكلبي: «خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنَ المَسْجدِ ذَاتَ لَيْلةٍ فاسْتقَبلهُ أبُو جَهْل على بَابِ المَسْجدِ ممَّا يلي باب بني مَخْزُوم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أوْلَى لَكَ فأوْلَى، ثُمَّ أوْلَى لَكَ فأوْلَى «فقال أبو جهلٍ: أتُهدِّدنِي؟ فواللَّهِ إنِّي لأعزُّ أهل هذا الوَادِي وأكْرمهُ، ولا تَسْتطِيعُ أنْتَ ولا ربُّكَ أن تَفْعَلا بِي شَيْئاً ثُمَّ انسَلَّ ذَاهِباً»، فأنزل الله - تعالى - كما قال الرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
ومعنى أوْلَى لَكَ يعني ويل لك؛ قال الشاعر: [الوافر]
٥٠١٤ - فأوْلَى ثُمَّ أوْلَى ثُمَّ أوْلَى وهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ؟
وقيل: هو من المقلوب، كأنه قيل: «ويل» ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كقوله: [الطويل]
٥٠١٥ -........................... لَكَ الوَيْلاتُ إنَّكَ مُرْجِلِي
أي لك الويل ثم الويل.
وقيل: معناه الذم لك أولى من تركه.
وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي «أولى» في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كما تقول: قد وليت الهلاك، أي دانيت الهلاك، وأصله من «الولي» وهو القرب، قال تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٣] أي: يقربون منكم.
قال القرطبي: «وقيل: التكرير فيه على معنى من ألزم لك على عملك السيّىء الأول ثم الثاني والثالث والرابع».
576
قوله :﴿ مَن رَاقٍ ﴾ مبتدأ وخبر، وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل، وأصول البصريين تقتضي ألا يكون ؛ لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة، بل القائم مقامه ضمير المصدر وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة.
وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه، وأن يكون استبعاداً وإنكاراً.
فالأولى مروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما، قالوا : هو من الرقية.
وروى سماك عن عكرمة قال :«من راق » يرقي ويشفي١.
والثاني رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضاً : هل من طبيب يشفيه، وهو قول أبي قلابة وقتادة. وقال الشاعر :[ البسيط ]
٥٠٠٦ -هَلْ لِلفَتَى مِنْ بنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ ؟*** أمْ هَلْ لَهُ مِن حَمامِ المَوتِ مِنْ رَاقِ ؟٢
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس، أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضاً وأبي الجوزاء : أنه من رقي يرقى : إذا صعد٣.
والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟
وقيل : إن ملك الموت يقول :«مَن راقٍ » أي : من يرقى بهذه النفس.
قال شهاب الدين٤ : و «راقٍ » اسم فاعل إما من «رقى يرقي » من الرقية، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ومَا أدْراكَ أنَّها رُقْيَة »٥ يعني الفاتحة، وهو اسم من أسمائها، وإما من «رَقِيَ يرقَى » من الرَّقْي وهو الصعود أي أن الملائكة لكراهتها في روحه تقول : من يصعد بهذه الروح يقال :«رَقَى - بالفتح - من الرُّقية، وبالكسر من الرَّقْي »، ووقف حفص على نون «من » سكتة لطيفة، وقد تقدم تحقيق هذا في أول الكهف.
وذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء وجوباً بغنة وبغيرها نحو «من راشد ».
قال الواحدي : إن إظهار النون عند حروف الفم لحن فلا يجوز إظهار نون «من » في قوله :«من راق ».
وروى حفص عن عاصم٦ : إظهار النون واللام في قوله :«من راق » و «بل ران ». قال أبو علي الفارسي :«ولا أعرف وجه ذلك ».
قال الواحدي : والوجه أن يقال : قصدوا الوقف على «من » و «بل »، فأظهروهما ثم ابتدأوا بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراءة.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٤٥) عن عكرمة..
٢ ينظر القرطبي ١٩/٧٣..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٥٨) والقرطبي(١٩/٧٣)..
٤ الدر المصون ٦/٤٣٢..
٥ تقدم..
٦ ينظر: السبعة ٦٦١، والحجة ٦/٣٤٦، وإعراب القراءات ٢/٤١٧، وحجة القراءات ٧٣٧..
قوله :﴿ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق ﴾، أي : أيقن الإنسان أنه الفراق، أي : فراق الدنيا، والأهل والمال والولد، وذلك حين يعاين الملائكة، وسمي اليقين هنا بالظن ؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة، ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن الغالب تهكماً.
قال ابن الخطيب١ : وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باقٍ بعد موت البدنِ ؛ لأن الله - تعالى - سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية، فإن الفراق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف.
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٢٠٥..
قوله تعالى :﴿ والتفت الساق بالساق ﴾. الالتفاف هو الاجتماع، قال تعالى :﴿ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٤ ] ومعنى الكلام : اتصلت الشدة بالشدة، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما١.
وقال الشعبي وغيره : التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكربِ٢.
قال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى٣.
وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضاً : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفنِ٤.
وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت٥.
قال النحاس : القول الأول أحسنها، لقول ابن عباس : هو آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله٦، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحنِ العظام، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساقٍ.
قال أهل المعاني : إن الإنسان إذا دهمته شدة شمَّر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد : ساق، قال الجعديُّ :[ الطويل ]
٥٠٠٧ -أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا***وإنْ شَمَّرتْ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا٧
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٧) عن ابن عباس والحسن ومجاهد.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٧٨) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وعن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وذكره عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٨) عن الشعبي..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٧٨) وعزاه إلى ابن المنذر..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٧٨) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٧٣)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٤٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٧٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٧ تقدم..
قوله تعالى :﴿ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق ﴾. أي : إلى خالقك يومئذ، أي : يوم الساق، أي : المرجع، و «المساق » «مفعل » من السوق وهو اسم مصدر.
قال القرطبي١ :«المساق » : مصدر ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٣..
قوله :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ﴾ «لا » هنا دخلت على الماضي، وهو مستفيض في كلامهم بمعنى : لم يصدق ولم يصل.
قال :[ الرجز ]
٥٠٠٨ - إنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغفِرْ جَمَّا*** وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألمَّا١
وقال آخر :[ الطويل ]
٥٠٠٩ - وأيُّ خَمِيسٍ، لا أتَانَا نِهَابُهُ*** وأسْيَافُنَا مِنْ كَبْشِهِ تَقطرُ الدِّمَا٢
وقال مكيٌّ :«لا » الثانية نفي، وليست بعاطفة، ومعناه : فلم يصدق ولم يصل. قال شهاب الدين٣ :«وكيف يتوهم العطف حتى ينفيه ».
وجعل الزمخشري ﴿ فلا صدق وصلى ﴾ عطفاً على الجملة من قوله :﴿ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة ﴾ قال : وهو معطوف على قوله :«يسأل أيان » أي لا يؤمن بالبعث فلا صدق بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم.
واستبعده أبو حيان.
وقال الكسائي :«لا » بمعنى «لم » ولكنه يقرن بغيره، تقول العرب : لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا تقول : مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله :﴿ فَلاَ اقتحم العقبة ﴾ [ البلد : ١١ ] ليس من هذا القبيل ؛ لأن معناه : فهلا اقتحم، بحذف حرف الاستفهام.
وقال الأخفش :«فلا صدّق » أي : لم يصدق، كقوله تعالى :«فَلا اقْتَحَمَ » أي : لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول : لا ذهب، أي : لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل، ومنه قول زهير :[ الطويل ]
٥٠١٠ -. . . *** فَلاَ هُوَ أبْداهَا ولمْ يتقدَّمِ٤

فصل في معنى الآية


قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لم يصدق بالرسالة٥، «ولا صلى » أي : دعا لربه - عز وجل - وصلى على رسوله عليه الصلاة والسلام.
وقال قتادة :«فلا صدق » بكتاب الله «ولا صلى » لله تعالى٦.
[ وقيل : لا صدق بمالٍ ذخراً له عند الله تعالى «ولا صلى » الصلوات التي أمر الله بها.
وقيل : فلا آمن بقلبه ]٧ ولا عمل ببدنه.
قيل : المراد أبو جهل.
وقيل : الإنسان المذكور في قوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان ﴾ [ القيامة : ٣ ].
١ البيت لأمية بن أبي الصلت، وقيل لأبي خراش الهذلي.
ينظر ابن الشجري ١/١٤٤، ٢/٩٤، ٢٢٨، والإنصاف ١/٧٦، وشرح شواهد المغني ٢/٦٢٥، واللسان (لمم)، وخزانة الأدب ٢/٢٩٥..

٢ يروى الشطر الثاني:
... *** وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
ينظر ابن الشجري ٢/٢٢٨، ومجاز القرآن ٢/٢٧٨، والبحر المحيط ٨/٣٧١، والدر المصون ٦/٤٣٣..

٣ ينظر الدر المصون ٦/٤٣٣..
٤ عجز بيت وصدره:
وكان طوى كشحا على مستكنه ***...
ينظر ديوان زهير ص ٢٢، واللسان طوى، والقرطبي ١٩/٨٤..

٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٧٤)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٠)..
٧ سقط من: أ..
قوله :﴿ ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ الاستدراك هنا واضح ؛ لأنه لا يلزم من نفي التصدق والصلاة، التكذيب والتولي لأن كثيراً من المسلمين كذلك فاستدرك ذلك بأن سببه التكذيب والتولي، ولهذا يضعف أن يحمل نفي التصديق على نفي تصديق الرسول - عليه الصلاة والسلام - لئلا يلزم التكرار فتقع «لكن » بين متوافقين، وهو لا يجوز.
قال القرطبي١ : ومعناه كذب بالقرآن، وتولى عن الإيمان.
١ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٤..
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى ﴾. أي : يتبختر افتخاراً بذلك. قاله مجاهد وغيره.
«يتَمطَّى » جملة حالية من فاعل «ذهب »، ويجوز أن يكون بمعنى شرع في التمطِّي، كقوله :[ الطويل ]
٥٠١١ - فَقامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسْيفهِ١ ***. . .
وتمطى - هنا - فيه قولان :
أحدهما : أنه من «المَطَا » وهو الظهر، ومعناه : يَتبختَرُ أي يمد مطاه ويلويه تبختراً في مشيته.
الثاني : أن أصله «يتمطّط » أي يتمدّد، ومعناه : أنه يتمدد في مشيته تبختراً، ومن لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول، ويفارقه في مادته، إذ مادة «المطا » :«م ط و »، ومادة الثاني :«م ط ط »، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهية اجتماع الأمثال نحو : تطيبت، وقصيت أظفاري، وقوله :[ الراجز ]
٥٠١٢ - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ٢ ***. . .
والمطيطاء : التبختر ومد اليدين في المشي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«المُطَيْطَاءِ وخدَمتهُمْ من فَارِس والرَّومِ كان بَأسهُمْ بَيْنَهُمْ »٣.
و «المطيط » : الماء الخاثر أسفل الحوض ؛ لأنه يتمطّط، أي : يمتدّ فيه.
وقال القرطبي٤ : التمطط : هو التمدد من التكسُّل، والتثاقل فهو متثاقل عن الداعي إلى الحق، والتمطي يدل على قلة الاكتراث.
١ تقدم..
٢ تقدم..
٣ أخرجه ابن المبارك في "الزهد" رقم (١٨٧) والترمذي (٢/٤٢-٤٣) وابن عدي في "الكامل" (١/٣٢٣) من حديث ابن عمر.
وله شاهد من حديث أبي هريرة. ذكره الهيثمي في "المجمع" (١٠/٢٤٠) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وإسناده حسن..

٤ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٤..
قوله :﴿ أولى لَكَ فأولى ﴾ تقدم الكلام عليه في أول سورة القتال، وإنما كررها هنا مبالغة في التهديد والوعيد، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد ؛ قالت الخنساء :[ المتقارب ]
٥٠١٣ - هَمَمْتُ بنَفْسِيَ كُلَّ الهُمومِ*** فأولَى لِنفْسِيَ أوْلَى لَهَا١
وقال أبو البقاء هنا :«وزن » أولى فيه قولان :
أحدهما :«فَعْلَى » والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث.
والثاني : هو «أفعل »، وهو على القولين هنا «علمٌ »، ولذلك لم ينون، ويدل عليه ما حكى أبو زيد في «النوادر » : هو أولاة - بالتاء - غير مصروف، لأنه صار علماً للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد، فعلى هذا يكون أولى مبتدأ، و «لك » الخبر.
والثاني : أن يكون اسماً للفعل مبنياً، ومعناه : وليك شر بعد شر، و «لك » تبيين.

فصل في نزول الآية


قال قتادة ومقاتل والكلبي :«خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ المَسْجدِ ذَاتَ لَيْلةٍ فاسْتقَبلهُ أبُو جَهْل على بَابِ المَسْجدِ ممَّا يلي باب بني مَخْزُوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أوْلَى لَكَ فأوْلَى، ثُمَّ أوْلَى لَكَ فأوْلَى " فقال أبو جهلٍ : أتُهدِّدنِي ؟ فواللَّهِ إنِّي لأعزُّ أهل هذا الوَادِي وأكْرمهُ، ولا تَسْتطِيعُ أنْتَ ولا ربُّكَ أن تَفْعَلا بِي شَيْئاً ثُمَّ انسَلَّ ذَاهِباً »، فأنزل الله - تعالى - كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام٢.
ومعنى أوْلَى لَكَ يعني ويل لك ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٥٠١٤ - فأوْلَى ثُمَّ أوْلَى ثُمَّ أوْلَى*** وهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ ؟٣
وقيل : هو من المقلوب، كأنه قيل :«ويل » ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى : الويل لك يوم تدخل النار ؛ وهذا التكرير كقوله :[ الطويل ]
٥٠١٥ -. . . *** لَكَ الوَيْلاتُ إنَّكَ مُرْجِلِي٤
أي لك الويل ثم الويل.
وقيل : معناه الذم لك أولى من تركه.
وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي «أولى » في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كما تقول : قد وليت الهلاك، أي دانيت الهلاك، وأصله من «الولي » وهو القرب، قال تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] أي : يقربون منكم.
قال القرطبي :«وقيل : التكرير فيه على معنى من ألزم لك على عملك السيئ الأول ثم الثاني والثالث والرابع ».
١ ينظر ديوانها ص ٨٣، وابن الشجري ١/٢٤٣، ٢/٣٢٥، والخصائص ٣/٤٤، ومجمع البيان ١٠/٦٠٥، ٨٤١..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥١) عن قتادة. وذكره القرطبي "تفسيره" (١٩/٧٤)..
٣ تقدم..
٤ تقدم..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:قوله :﴿ أولى لَكَ فأولى ﴾ تقدم الكلام عليه في أول سورة القتال، وإنما كررها هنا مبالغة في التهديد والوعيد، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد ؛ قالت الخنساء :[ المتقارب ]
٥٠١٣ - هَمَمْتُ بنَفْسِيَ كُلَّ الهُمومِ*** فأولَى لِنفْسِيَ أوْلَى لَهَا١
وقال أبو البقاء هنا :«وزن » أولى فيه قولان :
أحدهما :«فَعْلَى » والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث.
والثاني : هو «أفعل »، وهو على القولين هنا «علمٌ »، ولذلك لم ينون، ويدل عليه ما حكى أبو زيد في «النوادر » : هو أولاة - بالتاء - غير مصروف، لأنه صار علماً للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد، فعلى هذا يكون أولى مبتدأ، و «لك » الخبر.
والثاني : أن يكون اسماً للفعل مبنياً، ومعناه : وليك شر بعد شر، و «لك » تبيين.

فصل في نزول الآية


قال قتادة ومقاتل والكلبي :«خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ المَسْجدِ ذَاتَ لَيْلةٍ فاسْتقَبلهُ أبُو جَهْل على بَابِ المَسْجدِ ممَّا يلي باب بني مَخْزُوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أوْلَى لَكَ فأوْلَى، ثُمَّ أوْلَى لَكَ فأوْلَى " فقال أبو جهلٍ : أتُهدِّدنِي ؟ فواللَّهِ إنِّي لأعزُّ أهل هذا الوَادِي وأكْرمهُ، ولا تَسْتطِيعُ أنْتَ ولا ربُّكَ أن تَفْعَلا بِي شَيْئاً ثُمَّ انسَلَّ ذَاهِباً »، فأنزل الله - تعالى - كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام٢.
ومعنى أوْلَى لَكَ يعني ويل لك ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٥٠١٤ - فأوْلَى ثُمَّ أوْلَى ثُمَّ أوْلَى*** وهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ ؟٣
وقيل : هو من المقلوب، كأنه قيل :«ويل » ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى : الويل لك يوم تدخل النار ؛ وهذا التكرير كقوله :[ الطويل ]
٥٠١٥ -... *** لَكَ الوَيْلاتُ إنَّكَ مُرْجِلِي٤
أي لك الويل ثم الويل.
وقيل : معناه الذم لك أولى من تركه.
وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي «أولى » في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كما تقول : قد وليت الهلاك، أي دانيت الهلاك، وأصله من «الولي » وهو القرب، قال تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] أي : يقربون منكم.
قال القرطبي :«وقيل : التكرير فيه على معنى من ألزم لك على عملك السيئ الأول ثم الثاني والثالث والرابع ».
١ ينظر ديوانها ص ٨٣، وابن الشجري ١/٢٤٣، ٢/٣٢٥، والخصائص ٣/٤٤، ومجمع البيان ١٠/٦٠٥، ٨٤١..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥١) عن قتادة. وذكره القرطبي "تفسيره" (١٩/٧٤)..
٣ تقدم..
٤ تقدم..

قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان﴾، أي: أيظن ابن آدم «أن يترك سُدى» أي: أن يخلى مهملاً، فلا يؤمر ولا ينهى. قاله ابن زيد ومجاهد.
576
وقيل: أن يترك في قبره أبداً كذلك لا يبعث، و «سدى» حال من فاعل «يترك» ومعناه: مهملاً، يقال: إبل سدى، أي: مهملة.
وقال الشاعر: [المتقارب]
٥٠١٦ - وأقْسِمُ باللَّهِ جَهْدَ اليَمِي نِ ما خلقَ اللَّهُ شَيْئاً سُدَى
أي: مهملاً، وأسديت حاجتي، أو ضيعتها، ومعنى أسدى إليه معروفاً، أي: جعله بمنزلة الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمن به عليه.
قوله: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ﴾. العامة: على الياء من تحت في «يك» رجوعاً إلى الإنسان.
والحسن: بتاء الخطاب، على الالتفات إليه توبيخاً له.
وقوله: ﴿مِّن مَّنِيٍّ يمنى﴾. قرأ حفص: «يُمْنَى» بالياء من تحت.
وفيه وجهان:
أحدهما: أن الضمير عائد على المني - أي يصب - فتكون الجملة في محل جر.
والثاني: أنه يعود للنطفة، لأن تأنيثها مجازيّ؛ ولأنها في معنى الماء. قاله أبو البقاء.
وهذا إنما يتمشى على قول ابن كيسان.
وأما النحاة فيجعلونه ضرورة؛ كقوله: [المتقارب]
٥٠١٧ -.................... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا
وقرأ الباقون: «تُمْنَى» بالتاء من فوق على أن الضمير للنطفة، فعلى هذه القراءة وعلى الوجه المذكور قبلها تكون الجملة في محل نصب؛ لأنها صفة المنصوب.

فصل في معنى الآية


والمعنى من قطرة ما تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت «منى» لإراقة الدماء، والنُّطفة: الماء القليل، ويقال: نطف الماء، أي: قطر، أي ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة، فنبه تعالى بهذا على خسة قدره. ثم قال تعالى: ﴿فَخَلَقَ فسوى﴾ أي: فسواه تسوية، وعدله تعديلاً بجعل الروح فيه.
وقيل: فخلق فقد فسوى فعدل.
577
وقيل: «فخلق» أي: نفخ فيه «فسوى» فكمل أعضاءه. قاله ابن عباس ومقاتل.
﴿فَجَعَلَ مِنْهُ﴾ أي: من الإنسان.
وقيل: من المني «الزوجين، الذكر والأنثى» أي: الرجل والمرأة.
فقوله تعالى ﴿الذكر والأنثى﴾ يجوز أن يكونا بدلين من الزوجين على لغة من يرى إجراء المثنى إجراء المقصور، وقد تقدم تحقيقه في «طه» ومن ينسب إليه هذه اللغة والاستشهاد على ذلك [طه: ٦٣].

فصل فيمن احتج بالآية على إسقاط الخنثى


قال القرطبي: وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى وقد مضى في سورة «الشورى» أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجت مخرج الغالب.
فإن قيل: ما فائدة قوله: «يمنى» في قوله تعالى ﴿من منيّ يمنى﴾ ؟ فالجواب فيه إشارة إلى حقارة حاله، كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى النَّجاسة، فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله - تعالى - إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز، كما في قوله تعالى في «عيسى ومريم» - عليهما الصلاة والسلام -
﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ [المائدة: ٧٥] والمراد منه قضاء الحاجةِ.
قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بَقَادِرٍ﴾ أي: أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء.
وقوله: «بقَادرٍ» اسم فاعل مجرور ب «باء» زائدة في خبر «ليس» وهذه قراءة العامة.
وقرأ زيد بن علي: «يقدر» فعلاً مضارعاً.
والعامة: على نصب «يحيى» ب «أن» لأن الفتحة خفيفة على حرف العلة.
وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان: بسكونها، فإما أن يكون خفف حرف العلة بحذف حرف الإعراب. وإما أن يكون أجرى الوصل مجرى الوقف، وجمهور النَّاس على وجوب فك الإدغام.
قال أبو البقاء: لئلا يجمع بين ساكنين لفظاً وتقديراً.
يعني أن الحاء ساكنة، فلو أدغمنا لسكنا الياء الأولى أيضاً للإدغام، فيلتقي ساكنان لفظاً، وهو متعذر النطق، فهذان ساكنان لفظاً.
578
وأما قوله: تقديراً؛ فإن بعض الناس جوز الإدغام في ذلك، وقراءته أن يُحْيِّ، وذلك أنه لما أراد الإدغام نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء فأدغمها فالتقى ساكنان، الحاء لأنها ساكنة في الأصل قبل النقل إليها والياء؛ لأن حركتها نقلت من عليها إلى الحاء؛ واستشهد الفراء لهذه القراءة بقول الشاعر: [الكامل]
٥٠١٨ - تَمْشِي بِسُدَّة بَيْتهَا فَتُعيّ... وأما أهل «البصرة» فلا يدغمونه ألبتة قالوا: لأن حركة الياء عارضة إذ هي للإعراب.
وقال مكي: وقد أجمعوا على عدم الإدغام في حال الرفع، وأما في حال النصب فقد أجازه الفرَّاء لأجل تحرك الياء الثانية، وهو لا يجوز عند البصريين، لأن الحركة عارضة.
قال شهاب الدين: ادعاؤه الإجماع مردود بالبيت الذي تقدم إنشاده عن الفراء، وهو قوله: «فتعيّ» فهذا مرفوع وقد أدغم، ولا يبعد ذلك لأنه لما أدغم ظهرت تلك الحركة لسكون ما قبل الياء بالإدغام «.

فصل في معنى الآية


المعنى الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء قادر على أن يحيي الموتى أي: أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البِلَى.
روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
أنَّه كَانَ إذَا قَرأهَا، قال: «سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وبَلَى» «.
وقال ابن عباس: من قرأ ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ إماماً كان أو غيره فليقل:»
سُبْحَانَ ربِّيّ الأعْلَى «ومن قرأ: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة﴾ [القيامة: ١] إلى آخرها فليقل: سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غير.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
مَنَ قَرَأ سُورةَ القِيامةِ شَهِدتُ أنَا وجِبْريلُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أنه كَانَ مُؤمِناً بِيوم القِيامَةِ وجَاءَ وَوجْههُ يُسْفِرُ عَن وُجُوهِ الخَلائقِ يَوْمَ القِيامَةِ «والله أعلم وأحكم.
579

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الإنسان
مكية، وهي إحدى وثلاثون آية، ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وخمسون حرفا.
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: هي مكية.
وقال الجمهور: مدنية.
وقيل: فيها مكي من قوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا﴾ [الإنسان: ٢٣] إلى آخر السورة وما تقدمه مدني.
وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيدج قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقرأ ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر﴾ وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له دعه يا ابن الخطاب قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه، وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوف إلى الجنة ".
3
قوله :﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ ﴾. العامة : على الياء من تحت في «يك » رجوعاً إلى الإنسان.
والحسن١ : بتاء الخطاب، على الالتفات إليه توبيخاً له.
وقوله :﴿ مِّن مَّنِيٍّ يمنى ﴾. قرأ حفص :«يُمْنَى » بالياء من تحت.
وفيه وجهان :
أحدهما : أن الضمير عائد على المني - أي يصب - فتكون الجملة في محل جر.
والثاني : أنه يعود للنطفة، لأن تأنيثها مجازيّ ؛ ولأنها في معنى الماء. قاله أبو البقاء.
وهذا إنما يتمشى على قول ابن كيسان.
وأما النحاة فيجعلونه ضرورة ؛ كقوله :[ المتقارب ]
٥٠١٧ -. . . *** ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا٢
وقرأ الباقون٣ :«تُمْنَى » بالتاء من فوق على أن الضمير للنطفة، فعلى هذه القراءة وعلى الوجه المذكور قبلها تكون الجملة في محل نصب ؛ لأنها صفة المنصوب.

فصل في معنى الآية


والمعنى من قطرة ما تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت «منى » لإراقة الدماء، والنُّطفة : الماء القليل، ويقال : نطف الماء، أي : قطر، أي ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة، فنبه تعالى بهذا على خسة قدره.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٠٧، والبحر المحيط ٨/٣٨٢، والدر المصون ٦/٤٣٤..
٢ تقدم..
٣ ينظر السبعة ٦٦٢، والحجة، ٦/٣٤٦، ٣٤٧، وإعراب القراءات ٢/٤١٧..
ثم قال تعالى :﴿ فَخَلَقَ فسوى ﴾ أي : فسواه تسوية، وعدله تعديلاً بجعل الروح فيه.
وقيل : فخلق فقدر فسوى فعدل.
وقيل :«فخلق » أي : نفخ فيه «فسوى » فكمل أعضاءه. قاله ابن عباس ومقاتل.
﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ ﴾ أي : من الإنسان.
وقيل : من المني «الزوجين، الذكر والأنثى » أي : الرجل والمرأة.
فقوله تعالى ﴿ الذكر والأنثى ﴾ يجوز أن يكونا بدلين من الزوجين على لغة من يرى إجراء المثنى إجراء المقصور، وقد تقدم تحقيقه في «طه » ومن ينسب إليه هذه اللغة والاستشهاد على ذلك [ طه : ٦٣ ].

فصل فيمن احتج بالآية على إسقاط الخنثى


قال القرطبي١ : وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى وقد مضى في سورة «الشورى » أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجت مخرج الغالب.
فإن قيل : ما فائدة قوله :«يمنى » في قوله تعالى ﴿ من منيّ يمنى ﴾ ؟ فالجواب فيه إشارة إلى حقارة حاله، كأنه قيل : إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى النَّجاسة، فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله - تعالى - إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز، كما في قوله تعالى في «عيسى ومريم » - عليهما الصلاة والسلام - ﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام ﴾ [ المائدة : ٧٥ ] والمراد منه قضاء الحاجةِ.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٦..
قوله تعالى :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بَقَادِرٍ ﴾ أي : أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء.
وقوله :«بقَادرٍ » اسم فاعل مجرور ب «باء » زائدة في خبر «ليس » وهذه قراءة العامة.
وقرأ زيد بن علي١ :«يقدر » فعلاً مضارعاً.
والعامة : على نصب «يحيى » ب «أن » لأن الفتحة خفيفة على حرف العلة.
وقرأ طلحة٢ بن سليمان والفياض بن غزوان : بسكونها، فإما أن يكون خفف حرف العلة بحذف حرف الإعراب. وإما أن يكون أجرى الوصل مجرى الوقف، وجمهور النَّاس على وجوب فك الإدغام.
قال أبو البقاء : لئلا يجمع بين ساكنين لفظاً وتقديراً.
يعني أن الحاء ساكنة، فلو أدغمنا لسكنا الياء الأولى أيضاً للإدغام، فيلتقي ساكنان لفظاً، وهو متعذر النطق، فهذان ساكنان لفظاً.
وأما قوله : تقديراً ؛ فإن بعض الناس جوز الإدغام في ذلك، وقراءته٣ أن يُحْيِّ، وذلك أنه لما أراد الإدغام نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء فأدغمها فالتقى ساكنان، الحاء لأنها ساكنة في الأصل قبل النقل إليها والياء ؛ لأن حركتها نقلت من عليها إلى الحاء ؛ واستشهد الفراء لهذه القراءة بقول الشاعر :[ الكامل ]
٥٠١٨ - تَمْشِي بِسُدَّة بَيْتهَا فَتُعيّ ***. . . ٤
وأما أهل «البصرة » فلا يدغمونه ألبتة قالوا : لأن حركة الياء عارضة إذ هي للإعراب.
وقال مكي : وقد أجمعوا على عدم الإدغام في حال الرفع، وأما في حال النصب فقد أجازه الفرَّاء لأجل تحرك الياء الثانية، وهو لا يجوز عند البصريين، لأن الحركة عارضة.
قال شهاب الدين٥ : ادعاؤه الإجماع مردود بالبيت الذي تقدم إنشاده عن الفراء، وهو قوله :«فتعيّ » فهذا مرفوع وقد أدغم، ولا يبعد ذلك لأنه لما أدغم ظهرت تلك الحركة لسكون ما قبل الياء بالإدغام ".

فصل في معنى الآية


المعنى الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء قادر على أن يحيي الموتى أي : أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البِلَى.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٨٢، والدر المصون ٦/٤٣٤..
٢ ينظر: السابق، والمحرر الوجيز ٥/٤٠٧..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٨٢، والدر المصون ٦/٤٣٥..
٤ تقدم..
٥ الدر المصون ٦/٤٣٥..
Icon