ﰡ
أقسم تعالى على البعث والجزاء بالأعمال (١)، بالمرسلات عرفا، وهي الملائكة التي يرسلها الله تعالى بشئونه القدرية وتدبير العالم، وبشئونه الشرعية ووحيه إلى رسله.
و ﴿عُرْفًا﴾ حال من المرسلات أي: أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة، لا بالنكر والعبث.
﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ وهي [أيضا] الملائكة التي يرسلها الله تعالى وصفها بالمبادرة لأمره، وسرعة تنفيذ أوامره، كالريح العاصف، أو: أن العاصفات، الرياح الشديدة، التي يسرع هبوبها.
﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ يحتمل أنها الملائكة (٢)، تنشر ما دبرت على نشره، أو أنها السحاب التي ينشر بها الله الأرض، فيحييها بعد موتها.
﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾ هي الملائكة تلقي أشرف الأوامر، وهو الذكر الذي -[٩٠٤]- يرحم الله به عباده، ويذكرهم فيه منافعهم ومصالحهم، تلقيه إلى الرسل.
﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ أي: إعذارا وإنذارا للناس، تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف وتقطع معذرتهم (٣)، فلا يكون لهم حجة على الله.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ﴾ من البعث والجزاء على الأعمال ﴿لَوَاقِعٌ﴾ أي: متحتم وقوعه، من غير شك ولا ارتياب.
فإذا وقع حصل من التغير للعالم والأهوال الشديدة ما يزعج القلوب، وتشتد له الكروب، فتنطمس النجوم أي: تتناثر وتزول عن أماكنها وتنسف الجبال، فتكون كالهباء المنثور، وتكون هي والأرض قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وذلك اليوم هو اليوم الذي أقتت فيه الرسل، وأجلت للحكم بينها وبين أممها، ولهذا قال:
﴿لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ استفهام للتعظيم والتفخيم والتهويل.
(٢) في ب: يحتمل أن المراد بها الملائكة.
(٣) في ب: أعذارهم.
أي: أما أهلكنا المكذبين السابقين، ثم نتبعهم بإهلاك من كذب من الآخرين، وهذه سنته السابقة واللاحقة في كل مجرم لا بد من عذابه (٢)، فلم لا تعتبرون بما ترون وتسمعون؟
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بعدما شاهدوا من الآيات البينات، والعقوبات والمثلات.
(٢) في ب: عقابه.
أي: أما خلقناكم أيها الآدميون ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ أي: في غاية الحقارة، خرج من بين الصلب والترائب، حتى جعله الله ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ وهو الرحم، به يستقر وينمو.
﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ووقت مقدر.
﴿فَقَدَرْنَا﴾ أي: قدرنا ودبرنا ذلك الجنين، في تلك الظلمات، ونقلناه من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى أن جعله الله جسدا، ثم نفخ فيه الروح، ومنهم من يموت قبل ذلك.
﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [يعني بذلك نفسه المقدسة] حيث كان قدرا تابعا للحكمة، موافقا للحمد (١).
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بعدما بين الله لهم الآيات، وأراهم العبر والبينات.
أي: أما امتننا (١) عليكم وأنعمنا، بتسخير الأرض لمصالحكم، فجعلناها ﴿كِفَاتًا﴾ لكم.
﴿أَحْيَاءً﴾ في الدور، ﴿وَأَمْوَاتًا﴾ في القبور، فكما أن الدور والقصور من نعم الله على عباده ومنته، فكذلك القبور، رحمة في حقهم، وسترا لهم، عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها.
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي: جبالا ترسي الأرض، لئلا تميد بأهلها، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات أي: الطوال العراض، ﴿وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا﴾ أي: عذبا زلالا قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ مع ما أراهم الله من النعم التي انفرد الله بها، واختصهم بها، فقابلوها بالتكذيب.
هذا من الويل الذي أعد [للمجرمين] للمكذبين، أن يقال لهم يوم القيامة: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ ثم فسر ذلك بقوله: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ أي: إلى ظل نار جهنم، التي تتمايز في -[٩٠٥]- خلاله ثلاث شعب أي: قطع من النار أي: تتعاوره وتتناوبه وتجتمع به.
﴿لا ظَلِيلٍ﴾ ذلك الظل أي: لا راحة فيه ولا طمأنينة، ﴿وَلا يُغْنِي﴾ من مكث فيه ﴿مِنَ اللَّهَبِ﴾ بل اللهب قد أحاط به، يمنة ويسرة ومن كل جانب، كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾
﴿لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين﴾
ثم ذكر عظم شرر النار، الدال على عظمها وفظاعتها وسوء منظرها، فقال:
﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ﴾ وهي السود التي تضرب إلى لون فيه صفرة، وهذا يدل على أن النار مظلمة، لهبها وجمرها وشررها، وأنها سوداء، كريهة المرأى (١)، شديدة الحرارة، نسأل الله العافية منها [من الأعمال المقربة منها].
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
أي: هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين، لا ينطقون فيه من الخوف والوجل الشديد، ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ أي: لا تقبل معذرتهم، ولو اعتذروا: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾
﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ﴾ لنفصل بينكم، ونحكم بين الخلائق، ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ﴾ تقدرون على الخروج من ملكي وتنجون به من عذابي، ﴿فَكِيدُونِ﴾ أي: ليس لكم قدرة ولا سلطان، كما قال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ﴾
ففي ذلك اليوم، تبطل حيل الظالمين، ويضمحل مكرهم وكيدهم، ويستسلمون لعذاب الله، ويبين لهم كذبهم في تكذيبهم ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
لما ذكر عقوبة المكذبين، ذكر ثواب (١) المحسنين، فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [أي:] للتكذيب، المتصفين بالتصديق في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم، ولا يكونون كذلك إلا بأدائهم الواجبات، وتركهم المحرمات.
﴿فِي ظِلالٍ﴾ من كثرة الأشجار المتنوعة، الزاهية البهية. ﴿وَعُيُونٍ﴾ جارية من السلسبيل، والرحيق وغيرهما، ﴿وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أي: من خيار الفواكه وطيبها، ويقال لهم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ من المآكل الشهية، والأشربة اللذيذة ﴿هَنِيئًا﴾ أي: من غير منغص ولا مكدر، ولا يتم هناؤه حتى يسلم الطعام والشراب من كل آفة ونقص، وحتى يجزموا أنه غير منقطع ولا زائل، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فأعمالكم هي السبب الموصل لكم إلى هذا النعيم (٢) المقيم، وهكذا كل من أحسن في عبادة الله وأحسن إلى عباد الله، ولهذا قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ولو لم يكن لهم من هذا الويل إلا فوات هذا النعيم، لكفى به حرمانا وخسرانا (٣).
(٢) في ب: إلى جنات النعيم.
(٣) في ب: حزنا وحرمانا.
هذا تهديد ووعيد للمكذبين، أنهم وإن أكلوا في الدنيا وشربوا وتمتعوا باللذات، وغفلوا عن القربات، فإنهم مجرمون، يستحقون ما يستحقه المجرمون، فستنقطع عنهم اللذات، وتبقى عليهم التبعات، ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وقيل لهم: ﴿ارْكَعُوا﴾ امتنعوا من ذلك.
فأي إجرام فوق هذا؟ وأي تكذيب يزيد على هذا؟ "
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ومن الويل عليهم أنهم تنسد عليهم أبواب التوفيق، ويحرمون كل خير، فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن الكريم، الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على الإطلاق.
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أبالباطل الذي هو كاسمه، لا يقوم عليه شبهة فضلا عن الدليل؟ أم بكلام كل مشرك كذاب أفاك مبين؟.
فليس بعد النور المبين إلا دياجى -[٩٠٦]- الظلمات، ولا بعد الصدق الذي قامت الأدلة والبراهين على صدقه إلا الكذب الصراح والإفك المبين (١)، الذي لا يليق إلا بمن يناسبه.
فتبا لهم ما أعماهم! وويحا لهم ما أخسرهم وأشقاهم!
نسأل الله العفو والعافية [إنه جواد كريم. تمت].
وهي مكية