تفسير سورة التكوير

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها تسمية صريحة. وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت. وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها، فتعين أن المعنى : فليقرأ هذه الآيات، وعنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي ﴿ سورة إذا الشمس كورت ﴾، وكذلك عنونها الطبري.
وأكثر التفاسير يسمونها ﴿ سورة التكوير ﴾ وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول ﴿ كورت ﴾.
وتسمى ﴿ سورة كورت ﴾ تسمية بحكاية لفظ وقع فيها. ولم يعدها في الإتقان مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى.
وعدد آيها تسع وعشرون.
أغراضها
اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا.
وعلى إثبات البعث وابتدىء بوصف الأهوال التي تتقدمه وأنتقل إلى وصف أهوال تقع عقبه.
وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذ رموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان.

وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَابْتُدِئَ بِوَصْفِ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَتَقَدَّمُهُ وَانْتُقِلَ إِلَى وَصْفِ أَهْوَالٍ
تَقَعُ عَقِبَهُ.
وَعَلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ لِأَنَّهُ أَوْعَدَهُمْ بِالْبَعْثِ زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَحْث إِذا رَمَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُنُونِ وَالْقُرْآنَ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ بِهِ شَيْطَان.
[١- ١٤]
[سُورَة التكوير (٨١) : الْآيَات ١ إِلَى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)
الِافْتِتَاحُ بِ إِذَا افْتِتَاحٌ مُشَوِّقٌ لِأَنَّ إِذَا ظَرْفٌ يَسْتَدْعِي مُتَعَلَّقًا، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا شَرْطٌ يُؤْذِنُ بِذِكْرِ جَوَابٍ بَعْدَهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ تَرَقَّبَ مَا سَيَأْتِي بعده فَعِنْدَ مَا يَسْمَعُهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ كَمَالَ تَمَكُّنٍ، وَخَاصَّةً بِالْإِطْنَابِ بِتَكْرِيرِ كَلِمَةِ إِذَا وَتَعَدُّدِ الْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَإِعَادَةُ كَلِمَةِ إِذَا بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ إِطْنَابٌ، وَهَذَا الْإِطْنَابُ اقْتَضَاهُ قَصْدُ التَّهْوِيلِ، وَالتَّهْوِيلُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ وَالتَّكْرِيرِ، كَمَا فِي قَصِيدَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ الْبَكْرِيِّ:
قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي إِلَخْ وَفِي إِعَادَةِ إِذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ مُسْتَقِلٌّ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَفَاوُتِ زَمَانِ حُصُولِ الشُّرُوطِ فَإِنَّ زَمَنَ سُؤَالِ الْمَوْءُودَةِ وَنَشْرِ الصُّحُفِ أَقْرَبُ لِعِلْمِ النُّفُوسِ بِمَا أَحْضَرَتْ أَقْرَبُ مِنْ زَمَانِ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْصُلُ قَبْلَ الْبَعْثِ.
140
وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ اثْنَا عَشَرَ حَدَثًا فَسِتَّةٌ مِنْهَا تَحْصُلُ فِي آخِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَسِتَّةٌ مِنْهَا تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ.
وَكَانَتِ الْجُمَلُ الَّتِي جُعِلَتْ شُرُوطًا لِ إِذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفْتَتَحَةً بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِمُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ دُونَ كَوْنِهَا جُمَلًا فِعْلِيَّةً وَدُونَ تَقْدِيرِ أَفْعَالٍ مَحْذُوفَةٍ تُفَسِّرُهَا الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ بِجَوَازِ وُقُوعِ شَرْطِ إِذَا جُمْلَةً غَيْرَ فعلية وَهُوَ الرَّاجِع لِأَنَّ إِذَا غَيْرُ عَرِيقَةٍ فِي الشَّرْطِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ مَا أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ الْأَفْعَالُ الَّتِي يَغْلِبُ أَنْ تَكُونَ شُرُوطًا لِ إِذَا لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا أَدْخَلُ فِي التَّهْوِيلِ
وَالتَّشْوِيقِ وَلِيُفِيدَ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ تَقَوِّيَ الْحُكْمِ وَتَأْكِيدَهُ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْجُمَلِ رَدًّا عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرِيهِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَلَمْ يُقَلْ: إِذَا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَهَكَذَا نَظَائِرُهُ.
وَجَوَابُ الشُّرُوطِ الِاثْنَيْ عَشَرَ هُوَ قَوْلُهُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ الظُّرُوفُ الْمُشْرَبَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ الْوَارِدَةِ شُرُوطًا لِ إِذَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الشَّرْطِ.
وَتَكْوِيرُ الشَّمْسِ: فَسَادُ جِرْمِهَا لِتَدَاخُلِ ظَاهِرِهَا فِي بَاطِنِهَا بِحَيْثُ يَخْتَلُّ تَرْكِيبُهَا فَيَخْتَلُّ لِاخْتِلَالِهِ نِظَامُ سَيْرِهَا، من قَوْلِهِمْ: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ، إِذَا أَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ وَلَفَّهَا، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ إِطْلَاقُ الطَّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤].
وَفُسِّرَ كُوِّرَتْ بِمَعْنَى غُوِّرَتْ. رَوَاهُ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ وَأَنَّ أَصْلَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ كُورُ بِكْرْ (بِضَمِّ الْكَافِ الْأُولَى وَسُكُونِ الرَّاءِ الْأَخِيرَةِ) وَعَلَى ذَلِكَ عُدَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِمَّا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ. وَقَدْ عَدَّهَا ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي نَظْمِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُعَرَّبَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَإِذَا زَالَ ضَوْءُ الشَّمْسِ انْكَدَرَتِ النُّجُومُ لِأَنَّ مُعْظَمَهَا يَسْتَنِيرُ مِنَ انْعِكَاسِ نُورِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا.
وَالِانْكِدَارُ: مُطَاوِعُ كَدَّرَهُ الْمُضَاعَفِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَيْ حَصَلَ لِلنُّجُومِ
141
انْكِدَارٌ مِنْ تَكْدِيرِ الشَّمْسِ لَهَا حِينَ زَالَ عَنْهَا انْعِكَاسُ نُورِهَا، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ مُطَاوِعُ كَدَّرَ دُونَ ذِكْرِ فَاعِلِ التَّكْدِيرِ.
وَالْكُدْرَةُ: ضِدُّ الصَّفَاءِ كَتَغَيُّرِ لَوْنِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ.
وَفُسِّرَ الِانْكِدَارُ بِالتَّسَاقُطِ وَالِانْقِضَاضِ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْعَجَّاجِ يَصِفُ بَازِيًا:
أَبْصَرَ خِرْبَانَ فَضَاءً فَانْكَدَرْ وَمَعْنَى تَسَاقُطِهَا تَسَاقُطُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاصْطِدَامُهَا بِسَبَبِ اخْتِلَالِ نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِإِمْسَاكِهَا إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ.
وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ انْتِقَالُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا بِارْتِجَاجِ الْأَرْضِ وَزِلْزَالِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ.
والْعِشارُ جَمْعُ عُشَرَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الْحَامِلُ إِذَا بَلَغَتْ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ لِحَمْلِهَا فَقَارَبَتْ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا لِأَنَّ النُّوقَ تَحْمِلُ عَامًا كَامِلًا، والْعِشارُ أَنْفَسُ مَكَاسِبِ الْعَرَبِ وَمَعْنَى عُطِّلَتْ تُرِكَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا.
وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ النَّاسِ أَعْمَالَهُمْ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فِي الْأَرْضِ فَيُنَاسِبُ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِشارُ مُسْتَعَارَةً لِلْأَسْحِبَةِ الْمُحَمَّلَةِ بِالْمَطَرِ، شُبِّهَتْ بِالنَّاقَةِ الْعُشَرَاءِ. وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، فَهُمْ يُطْلِقُونَ مِثْلَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لِلسَّحَابِ، كَمَا أَطْلَقُوا عَلَى السَّحَابَةِ اسْمَ بِكْرٍ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ:
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
فَأَطْلَقَ عَلَى السَّحَابَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَاءِ اسْمَ الْبِكْرِ الْحُرَّةِ، أَيِ الْأَصِيلَةِ مِنَ النُّوقِ وَهِيَ فِي حَمْلِهَا الْأَوَّلِ.
وَمَعْنَى تَعْطِيلِ الْأَسْحِبَةِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا مَا يَحْبِسُ مَطَرَهَا عَنِ النُّزُولِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَسْحِبَةَ الثِّقَالَ لَا تَتَجَمَّعُ وَلَا تَحْمِلُ مَاءً، فَمَعْنَى تَعْطِيلِهَا تَكَوُّنُهَا، فَيَتَوَالَى الْقَحْطُ
142
عَلَى الْأَرْضِ فَيَهْلِكُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْعُلْوِيَّةِ فَيُنَاسِبُ تَكْوِيرَ الشَّمْسِ وَانْكِدَارَ النُّجُومِ.
والْوُحُوشُ: جَمْعُ وَحْشٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ غَيْرُ الْمُتَأَنِّسِ بِالنَّاسِ.
وَحَشْرُهَا: جَمْعُهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، أَيْ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ اقْتِرَابِ فَنَاءِ الْعَالَمِ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ حَشْرِهَا طُوفَانًا يَغْمُرُ الْأَرْضَ مِنْ فَيَضَانِ الْبِحَارِ فَكُلَّمَا غَمَرَ جُزْءًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَّتْ وُحُوشُهُ حَتَّى تَجْتَمِعَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ طَالِبَةً النَّجَاةَ مِنَ الْهَلَاكِ، وَيُشْعِرُ بِهَذَا عَطْفُ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ عَلَيْهِ.
وَذُكِرَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُحُوشِ إِيمَاءً إِلَى شِدَّةِ الْهَوْلِ فَالْوُحُوشُ الَّتِي مِنْ طَبْعِهَا نَفْرَةُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ تَتَجَمَّعُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَا يَعْدُو شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، فَهِيَ ذَاهِلَةٌ عَمَّا فِي طَبْعِهَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَالِافْتِرَاسِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَشْرَ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ بِهِ
لِلْحِسَابِ بَلْ هَذَا حَشْرٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا عُدَّ مَعَهُ مِنَ الْأَشْرَاطِ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَتَسْجِيرُ الْبِحَارِ: فَيَضَانُهَا قَالَ تَعَالَى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٦].
وَالْمُرَادُ تَجَاوُزُ مِيَاهِهَا مُعَدَّلَ سُطُوحِهَا وَاخْتِلَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ اخْتِلَالِ قُوَّةِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الَّتِي كَانَتْ ضَاغِطَةً عَلَيْهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي آيَةِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ [٣] : وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ
وَإِذَا حَدَثَ ذَلِكَ اخْتَلَطَ مَاؤُهَا بِرَمْلِهَا فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ.
يُقَالُ: سَجَّرَ مُضَاعَفًا وسجر مخففا. وقرىء بِهِمَا فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مُشَدَّدًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ مُخَفَّفًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ شُرُوعٌ فِي ذِكْرِ الْأَحْوَالِ الْحَاصِلَةِ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدِ انْتُقِلَ إِلَى ذِكْرِهَا لِأَنَّهَا تَحْصُلُ عَقِبَ السِّتَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَابْتُدِئَ بِأَوَّلِهَا وَهُوَ تَزْوِيجُ النُّفُوسِ، وَالتَّزْوِيجُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَوْجًا لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كِلَاهُمَا فَرْدًا، وَالتَّزْوِيجُ أَيْضًا: جَعْلُ الْأَشْيَاءِ أَنْوَاعًا مُتَمَاثِلَةً قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: ٣] لِأَنَّ الزَّوْجَ يُطْلَقُ عَلَى النَّوْعِ وَالصِّنْفِ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالنُّفُوسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَالنَّفْسُ يُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الْفجْر:
٢٧، ٢٨] وَقَالَ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَام: ٩٣].
143
وَتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلَى ذَاتِ الْإِنْسَانِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: ١٥١] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَة: ٢] وَقَالَ:
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] أَيْ فَلْيُسَلِّمِ الدَّاخِلُ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ النَّاسِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى النُّفُوسِ هُنَا الْأَرْوَاحَ، أَيْ تُزَوَّجُ الْأَرْوَاحُ بِالْأَجْسَادِ الْمُخَصَّصَةِ لَهَا فَيَصِيرُ الرُّوحُ زَوْجًا مَعَ الْجَسَدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَرْدًا لَا جِسْمَ لَهُ فِي بَرْزَخِ الْأَرْوَاحِ، وَكَانَتِ الْأَجْسَادُ بِدُونِ أَرْوَاحٍ حِينَ يُعَادُ خَلْقُهَا، أَيْ وَإِذَا أُعْطِيَتِ الْأَرْوَاحُ لِلْأَجْسَادِ. وَهَذَا هُوَ الْبَعْثُ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ أَوَّلًا، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَإِذَا الْأَشْخَاصُ نُوِّعَتْ وَصُنِّفَتْ فَجُعِلَتْ أَصْنَافًا: الْمُؤْمِنُونَ، وَالصَّالِحُونَ، وَالْكُفَّارُ، وَالْفُجَّارُ، قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ [الْوَاقِعَة: ٧- ١٠] الْآيَةَ.
وَلَعَلَّ قَصْدَ إِفَادَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ مُقْتَضَى الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ مَا زُوِّجَتِ النُّفُوسُ بِهِ. وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الْبَعْثِ اقْتِرَانُ الْأَرْوَاحِ بِأَجْسَادِهَا، ثُمَّ تَقْسِيمُ النَّاسِ إِلَى مَرَاتِبِهِمْ لِلْحَشْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] ثُمَّ قَالَ:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الزمر: ٧١] ثُمَّ قَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: ٧٣] الْآيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرُوا مَعَانِيَ أُخْرَى لِتَزْوِيجِ النُّفُوسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مُنَاسِبَةٍ لِلسِّيَاقِ.
وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ تَزْوِيجِ النُّفُوسِ بِالْأَجْسَادِ خُصَّ سُؤَالُ الْمَوْءُودَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ الْمُجْرِمُونَ يَوْمَ الْحِسَابِ. ذَلِكَ لِأَنَّ إِعَادَةَ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ إِمَّا بِعَارِضٍ جَسَدِيٍّ مِنَ انْحِلَالٍ أَوْ مَرَضٍ وَإِمَّا بِاعْتِدَاءٍ عُدْوَانِيٍّ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قِتَالٍ، وَكَانَ مِنْ أَفْظَعِ الْإِعْتِدَاءِ عَلَى إِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ مِنْ أَجْسَادِهَا اعْتِدَاءُ الْآبَاءِ عَلَى نُفُوسِ أَطْفَالِهِمْ بِالْوَأْدِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي الْفِطْرَةِ حِرْصَ الْآبَاءِ عَلَى اسْتِحْيَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَجَعَلَ الْأَبَوَيْنِ سَبَبَ إِيجَادِ الْأَبْنَاءِ، فَالْوَأْدُ أَفْظَعُ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَسُؤَالُ الْمَوْءُودَةِ سُؤَالٌ تَعْرِيضِيٌّ مُرَادٌ مِنْهُ تَهْدِيدُ وَائِدِهَا وَرُعْبُهُ بِالْعَذَابِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ سُؤَالَ الْمَوْءُودَةِ وَعُقُوبَةَ مَنْ وَأَدَهَا أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
144
كَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ جَعْلَ هَذَا السُّؤَالِ وَقْتًا تَعْلَمُ عِنْدَهُ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ فَهُوَ مِنْ أَوَّلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ حِينَ الْجَزَاءِ.
وَالْوَأْدُ: دَفْنُ الطِّفْلَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ: قِيلَ هُوَ مَقْلُوبُ آدَاهُ، إِذَا أَثْقَلَهُ لِأَنَّهُ إِثْقَالُ الدَّفِينَةِ بِالتُّرَابِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا الْبَسْهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِنْ أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا كَانَتْ سُدَاسِيَّةً يَقُولُ لِأُمِّهَا طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ فَيَبْلُغُ بِهَا الْبِئْرَ فَيَقُولُ لَهَا: انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى تَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا أَقْرَبَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ الْحُفْرَةِ فَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ وَإِنْ وَلَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ اهـ.
وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ إِغَارَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَيَسْبِي نِسَاءَهُمْ وَلِخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ فِي سِنِيِّ الْجَدْبِ لِأَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَالُ لِلْكَسْبِ بِالْغَارَةِ وَغَيْرِهَا وَالْأُنْثَى عَالَةٌ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١] وَقَالَ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
[النَّحْل: ٥٨، ٥٩].
وَإِذْ قَدْ فَشَا فِيهِمْ كَرَاهِيَةُ وِلَادَةِ الْأُنْثَى فَقَدْ نَمَا فِي نُفُوسِهِمْ بُغْضُهَا فَتَحَرَّكَتْ فِيهَا الْخَوَاطِرُ الْإِجْرَامِيَّةُ فَالرَّجُلُ يَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهُ أُنْثَى لِذَلِكَ، وَامْرَأَتُهُ تَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهَا أُنْثَى خَشْيَةً مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا إِيَّاهَا وَقَدْ يَهْجُرُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى.
وَقَدْ تَوَارَثَتْ هَذَا الْجَهْلَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَقَدْ مَاتَتِ ابْنَتُهُ: «نِعْمَ الصِّهْرُ الْقَبْرُ»
.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الشُّعُورِ حِرْمَانُ الْبَنَاتِ مِنْ أَمْوَالِ آبَائِهِنَّ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ مِثْلَ وَقْفِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرَأَى ذَلِكَ الْحُبْسَ بَاطِلًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْمَيِّتِ يُلْجِئُونَ بَنَاتَهُ إِلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِنَّ فِي مِيرَاث أيهن لِإِخْوَتِهِنَّ فِي فَوْرِ الْأَسَفِ عَلَى مَوْتِ أَبِيهِنَّ فَلَا
145
يَمْتَنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ وَيَرَيْنَ الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ عَارًا عَلَيْهِنَّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْنَ قَطَعَهُنَّ أَقْرِبَاؤُهُنَّ.
وَتُعْرَفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْفِقْهِ بِهِبَةِ بَنَاتِ الْقَبَائِلِ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّهَا مِنَ الْإِكْرَاهِ.
وَلَمْ يَكُنِ الْوَأْدُ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ وَأَدَ الْبَنَاتِ مِنَ الْقَبَائِلِ رَبِيعَةُ، وَكَانَتْ كِنْدَةُ تَئِدُ الْبَنَاتِ، وَكَانَ بَنُو تَمِيمٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَوَأَدَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ مِنْ بني تَمِيم ثَمَان بَنَاتٍ لَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
وَلَمْ يَكُنِ الْوَأْدُ فِي قُرَيْشٍ الْبَتَّةَ. وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يَفْتَدِي مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيد وأد ابْنَته مِنْ قَوْمِهِ بِنَاقَتَيْنِ عُشَرَاوَيْنِ وَجَمَلٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ افْتَدَى ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَوْءُودَةً، وَقِيلَ: وَسَبْعِينَ وَفِي «الْأَغَانِي» : وَقِيلَ: أَرْبَعَمِائَةٍ.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ أَحْيَا سَبْعِينَ مَوْءُودَةً وَمِثْلُ هَذَا فِي «كِتَابِ الشُّعَرَاءِ» لِابْنِ قُتَيْبَةَ وَبَيْنَ الْعَدَدَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ فَلَعَلَّ فِي أَحَدِهِمَا تَحْرِيفًا.
وَفِي تَوْجِيهِ السُّؤَالِ إِلَى الْمَوْءُودَةِ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ فِي ذَلِكَ الْحَشْرِ إِدْخَالُ الرَّوْعِ عَلَى مَنْ وَأَدَهَا، وَجَعْلُ سُؤَالِهَا عَنْ تَعْيِينِ ذَنْبٍ أَوْجَبَ قَتْلَهَا لِلتَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّخْطِئَةِ لِلَّذِي وَأَدَهَا وَلِيَكُونَ جَوَابُهَا شَهَادَةً عَلَى مَنْ وَأَدَهَا فَيَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ الْعِقَابَ أَشَدَّ وَأَظْهَرَ.
وَجُمْلَةُ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ سُئِلَتْ وَ (أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمَيُّزُ شَيْءٍ مِنْ بَيْنِ أَشْيَاءَ تَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي حَالٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي بِأَيِّ ذَنْبٍ تَقْرِيرِيٌّ، وَإِنَّمَا سُئِلَتْ عَنْ تَعْيِينِ الذَّنْبِ الْمُوجِبِ قَتْلَهَا دُونَ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ قَاتِلِهَا لِزِيَادَةِ التَّهْدِيدِ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ تَعْيِينِ الذَّنْبِ مَعَ تَحَقُّقِ الْوَائِدِ الَّذِي يَسْمَعُ ذَلِكَ السُّؤَالَ أَنْ لَا ذَنْبَ لَهَا إِشْعَارٌ لِلْوَائِدِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِيمَا صَنَعَ بِهَا.
وَيُنْتَزَعُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ الْوَارِدِ فِي سِيَاقِ نَفْيِ ذَنْبٍ عَنِ الْمَوْءُودَةِ يُوجِبُ قَتْلَهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتُوا مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ لَا يُعْتَبَرُونَ مُشْرِكِينَ مِثْلَ آبَائِهِمْ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ تَعَرَّضَ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي
146
«الْكَشَّافِ». وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ لَا يعذّبون وَإِذا بكّت اللَّهُ الْكَافِرَ بِبَرَاءَةِ الْمَوْءُودَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَمَا أَقْبَحَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَنْ يَكِرَّ عَلَى هَذَا التَّبْكِيتِ فَيَفْعَلَ بِهَا مَا تَنْسَى عِنْدَهُ فِعْلَ الْمُبَكَّتِ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ اهـ. فَأَشَارَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: دِلَالَةُ الْإِشَارَةِ، أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا لَا ذَنْبَ لَهَا، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الذَّنْبَ الْمَنْفِيَّ وَجُودُهُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَشُوبِ بِإِنْكَارٍ إِنَّمَا هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي يُخَوِّلُ لِأَبِيهَا وَأْدَهَا لَا إِثْبَاتَ حُرْمَتِهَا وَعِصَمِةَ دَمِهَا فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهَا.
الثَّانِي: قَاعِدَةُ إِحَالَةِ فِعْلِ الْقَبِيحِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ التَّحْسِينِ، وَالتَّقْبِيحِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِحَالَتِهِمُ الظُّلْمَ عَلَى اللَّهِ إِذَا عَذَّبَ أَحَدًا بِدُونِ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. فَعِنْدَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ اللَّهِ فِي عَبِيدِهِ لَا يُوصَفُ بِالظُّلْمِ خِلَافًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ سَالِمٍ مِنَ النَّقْضِ.
الثَّالِثُ: مَا نَسَبَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ كَذَّبَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الصِّحَّةِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ مُتَعَارِضَةٌ،
فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ أَوْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ.
فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»

، وَهَذَا الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ عَنِ الْجَوَابِ، أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ [طه: ٥٢] جَوَابًا لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: ٥١]. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ كَبَرَ مَاذَا يَكُونُ عَامِلًا مِنْ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ، أَيْ فَيُعَامِلُهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ.
147
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (بِبَعْضِ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»
الْحَدِيثَ. زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ يَقُولُ (أَيْ أَبُو هُرَيْرَة) اقرأوا: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الرّوم: ٣٠] فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ قَرِيبِهِ أَوْ قَرِينِهِ مَا يُغَيِّرُهُ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا أَظْهَرُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «الْمُعَلِّمِ» : فَاضْطَرَبَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ. وَالْأَحَادِيثُ وَرَدَتْ ظَوَاهِرُهَا مُخْتَلِفَةً وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ سَبَبُ اضْطِرَابِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِك وَالْقطع هَاهُنَا يَبْعُدُ اهـ.
وَقَوْلُ أبي هُرَيْرَة: واقرأوا: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها إِلَخْ مِصْبَاحٌ يُنِيرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ: وَقَدْ
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ». قَالَ سَمُرَةُ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ»
. وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالشَّافِعِيُّ هُمْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَهَبَ الْأَزَارِقَةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ
عَنْ حَدِيثِ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»
فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ وَقَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَرِثَاهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَهُمَا كَافِرَانِ فَلَمَّا فُرِضَتِ الْفَرَائِضُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى كَافِرًا وَعُلِمَ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى دِينِهِمَا.
وَهُنَالِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَعْزُوَّةٍ إِلَى مُعَيَّنٍ وَلَا مُسْتَنِدَةٍ لِأَثَرٍ صَحِيحٍ.
وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ: أَنَّ أَطْفَالَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ بِإِجْمَاعٍ وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ بَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَفَ فِيهِمْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
148
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «قُتِلَتْ» بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْأُولَى، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِهَا وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى أَنَّهُ قَتْلٌ شَدِيدٌ فَظِيعٌ.
وَنَشْرُ الصُّحُفِ حَقِيقَتُهُ: فَتْحُ طَيَّاتِ الصَّحِيفَةِ، أَوْ إِطْلَاقُ الْتِفَافِهَا لِتُقْرَأَ كِتَابَتُهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [٥٢]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٣].
وَالْمُرَادُ: صُحُفُ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ إِمَّا صُحُفٌ حَقِيقِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلصُّحُفِ الْمَأْلُوفَةِ، وَإِمَّا مَجَازِيَّةٌ أُطْلِقَتْ عَلَى أَشْيَاءَ فِيهَا إِحْصَاءُ أَعْمَالِ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: نُشِرَتْ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ لِلتَّكْثِيرِ لِكَثْرَةِ الصُّحُفِ الْمَنْشُورَةِ.
وَالْكَشْطُ: إِزَالَةُ الْإِهَابِ عَنِ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السَّلْخِ لِأَنَّ السَّلْخَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي إِزَالَةِ إِهَابِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ إِزَالَةِ إِهَابِ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ كَشْطٌ وَلَا يُقَالُ: سَلْخٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ إِزَالَةٌ تَقَعُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي أَثْنَاءِ أَحْدَاثِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّمَاءَ تَبْقَى مُنْشَقَّةً مُنْفَطِرَةً تعرج الْمَلَائِكَة بَينهمَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْمَحْشَرِ حَتَّى يَتِمَّ الْحِسَابُ فَإِذَا قُضِيَ الْحِسَابُ أُزِيلَتِ السَّمَاءُ مِنْ مَكَانِهَا فَالسَّمَاءُ مَكْشُوطَةٌ وَالْمَكْشُوطُ عَنْهُ هُوَ عَالَمُ الْخُلُودِ، وَيَكُونُ كُشِطَتْ اسْتِعَارَةً لِلْإِزَالَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي جُعِلَتْ أَشْرَاطًا لِلسَّاعَةِ وَأُخِّرَ ذِكْرُهُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ نَشْرِ الصُّحُفِ لِأَنَّ الصُّحُفَ تَنْشُرُهَا الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَيَكُونُ هَذَا الْكَشْطُ مِنْ قَبِيلِ الِانْشِقَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] وَالِانْفِطَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِلَى قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: ١- ٥] فَيَكُونُ الْكَشْطُ لِبَعْضِ أَجْزَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَكْشُوطُ عَنْهُ بَعْضٍ آخَرَ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: ٤٠] وَمِنْ قَبِيلِ الطَّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما
بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
[الْأَنْبِيَاء: ١٠٤] لِأَنَّ ظَاهِرَهُ اتِّصَالُ طَيِّ
149
السَّمَاءِ بِإِعَادَةِ الْخَلْقِ، وَتَصِيرُ الْأَشْرَاطُ الَّتِي تَحْصُلُ قَبْلَ الْبَعْثِ سَبْعَةً وَالْأَحْدَاثُ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ خَمْسَةً.
وَالْجَحِيمُ أَصْلُهُ: النَّارُ ذَاتُ الطَّبَقَاتِ مِنَ الْوَقُودِ مِنْ حَطَبٍ وَنَحْوِهِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ دَارِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَتَسْعِيرُهَا أَوْ إِسْعَارُهَا: إِيقَادُهَا، أَيْ هُيِّئَتْ لِعَذَابِ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: سُعِّرَتْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مُبَالَغَةً فِي الْإِسْعَارِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ.
وَقُوبِلَتْ بِالْجَنَّةِ دَارِ النَّعِيمِ وَاسْمُ الْجَنَّةِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى دَارِ النَّعِيمِ، وأُزْلِفَتْ قُرِّبَتْ، وَالزُّلْفَى: الْقُرْبُ، أَيْ قُرِّبَتِ الْجَنَّةُ مِنْ أَهْلِهَا، أَي جعلت بِقرب مِنْ مَحْشَرِهِمْ بِحَيْثُ لَا تَعَبَ عَلَيْهِمْ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ كَرَامَةً لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ الْمُفْتَتَحَاتِ بِكَلِمَةِ إِذَا مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِلَى هُنَا، وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يُقَالَ:
إِذَا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ وَإِذَا انْكَدَرَتِ النُّجُومُ، وَهَكَذَا كَمَا قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: ٣٧] أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيمَ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ الْمَجْعُولَةِ عَلَامَاتٍ لِيَوْمِ الْبَعْثِ تَوَسُّلًا بِالِاهْتِمَامِ بِأَشْرَاطِهِ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ.
وَإِنَّ إِطَالَةَ ذِكْرِ تِلْكَ الْجُمَلِ تَشْوِيقٌ لِلْجَوَابِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ وَجُمْلَةُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ يَتَنَازَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ كَلِمَاتُ إِذَا الْمُتَكَرِّرَةُ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «أَنَّهُ قَرَأَ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَمَّا بَلَغَ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ قَالَ: لِهَذَا أُجْرِيَتِ الْقِصَّةُ» أَيْ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَمَعْنَى عَلِمَتْ أَنَّهَا تُعْلَمُ بِمَا أَحْضَرَتْ فَتَعْلَمُهُ.
وَقَوْلُهُ نَفْسٌ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ مُرَادٌ بِهَا الْعُمُومُ، أَيْ عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ، وَاسْتِفَادَةُ الْعُمُومِ مِنَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ تَحْصُلُ مِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، وَالْقَرِينَةُ هُنَا وُقُوعُ لَفْظِ نَفْسٌ فِي جَوَابِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ تَكُونَ شُرُوطًا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ
150
قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمرَان: ٣٠].
وَالْإِحْضَارُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَاضِرًا.
وَمَعْنَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ حُصُولُ الْيَقِينِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بِهِ عِلْمٌ مِنْ حَقَائِقِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ عِلْمُهَا بِهَا أَشْتَاتًا: بَعْضُهُ مَعْلُومٌ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَبَعْضُهُ مَعْلُومٌ صُورَتُهُ مَجْهُولَةٌ عَوَاقِبُهُ، وَبَعْضُهُ مَغْفُولٌ عَنْهُ. فَنُزِّلَ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا لِلنَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَأَثْبَتَ الْعِلْمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِلْمَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَيَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ مِمَّا يُحَقِّرُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَيَتَذَكَّرُ مَا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ، وَتَذَكُّرُ الْمَنْسِيِّ وَالْمَغْفُولِ عَنْهُ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ.
وَمَا أَحْضَرَتْهُ هُوَ مَا أَسْلَفَتْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ تَظْهَرُ آثَارُهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ يَوْمَئِذٍ عُبِّرَ عَنْ ظُهُورِ آثارها بالإحضار لشببه بِهِ كَمَا يُحْضَرُ الزَّادُ لِلْمُسَافِرِ فَفِي فِعْلِ:
أَحْضَرَتْ اسْتِعَارَةٌ. وَيُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْدَادِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ مَتَى السَّاعَةُ:
«مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا»
. وَأُسْنِدَ الْإِحْضَارُ إِلَى النُّفُوسِ لِأَنَّهَا الْفَاعِلَةُ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يَظْهَرُ جَزَاؤُهَا يَوْمَئِذٍ فَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِ فِعْلِهِ، فَحَصَلَ هُنَا مَجَازَانِ: مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، وَمَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَحَقِيقَتُهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ وَجُعِلَتْ مَعْرِفَةُ النُّفُوسِ لِجَزَاءِ أَعْمَالِهَا حَاصِلَةً عِنْدَ حُصُولِ مَجْمُوعِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشُّرُوطُ مُقَارَنٌ لِحُصُولِ عِلْمِ النُّفُوسِ بِأَعْمَالِهَا وَهِيَ الْأَحْوَالُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَخِيرًا، وَبَعْضَ الْأَحْوَالِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ بِقَلِيلٍ وَهِيَ الْأَحْوَالُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا. فَنَزَلَ الْقَرِيبُ مَنْزِلَةَ الْمُقَارَنِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْجَمِيعُ شُرُوطًا ل إِذَا
151

[سُورَة التكوير (٨١) : الْآيَات ١٥ إِلَى ٢١]

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّمْهِيدِ لِمَا بَعْدَ الْفَاءِ فَإِنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ أَفَادَ تَحْقِيقَ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهُمْ قَدْ أَنْكَرُوهُ وَكَذَّبُوا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ، فَلَمَّا قُضِيَ حَقُّ الْإِنْذَارِ بِهِ وَذُكِرَ أَشْرَاطُهُ فُرِّعَ عَنْهُ
تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ وَأَنَّهُ مُوحًى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
فَالتَّفْرِيعُ هُنَا تَفْرِيعُ مَعْنًى وَتَفْرِيعُ ذِكْرٍ مَعًا، وَقَدْ جَاءَ تَفْرِيعُ الْقَسَمِ لِمُجَرَّدِ تَفْرِيعِ ذِكْرِ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ آخَرَ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ
عَقِبَ نَسِيبِ مُعَلَّقَتِهِ الَّذِي لَا يَتَفَرَّعُ عَنْ مَعَانِيهِ مَا بَعْدَ الْقَسَمِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِلْإِقْبَالِ عَلَى مَا بَعْدَ الْفَاءِ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ تَفَوُّقُ التَّفْرِيعِ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْرِيعِ بَيْتِ زُهَيْرٍ.
وَمَعْنَى: (لَا أُقْسِمُ) : إِيقَاعُ الْقَسَمِ، وَقَدْ عُدَّتْ (لَا) زَائِدَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٧٥].
وَالْقَسَمُ مُرَادٌ بِهِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ وَتَحْقِيقُهُ، وَأُدْمِجَ فِيهِ أَوْصَافُ الْأَشْيَاءِ الْمُقْسَمِ بِهَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَمَامِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَ (الْخُنَّسِ) : جَمْعُ خَانِسَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَخْنِسُ، أَيْ تَخْتَفِي، يُقَالُ: خَنِسَتِ الْبَقَرَةُ وَالظَّبْيَةُ، إِذَا اخْتَفَتْ فِي الْكِنَاسِ.
وَ (الْجَوَارِي) : جَمْعُ جَارِيَةٍ: وَهِيَ الَّتِي تَجْرِي، أَيْ تَسِيرُ سَيْرًا حَثِيثًا.
والْكُنَّسِ: جَمْعُ كَانِسَةٍ، يُقَالُ: كَنَسَ الظَّبْيُّ، إِذَا دَخَلَ كِنَاسَهُ (بِكَسْرِ الْكَافِ) وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ لِلْمَبِيتِ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أُرِيدَ بِهَا صِفَاتٌ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْصُوفَاتِهَا
152
الْكَوَاكِبُ، وُصِفْنَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي النَّهَارِ مُخْتَفِيَةً عَنِ الْأَنْظَارِ فَشُبِّهَتْ بِالْوَحْشِيَّةِ الْمُخْتَفِيَةِ فِي شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، فَقِيلَ: الْخُنَّسُ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الْخُنُوسَ اخْتِفَاءُ الْوَحْشِ عَنْ أَنْظَارِ الصَّيَّادِينَ وَنَحْوهم دون سُكُون فِي كِنَاسٍ، وَكَذَلِكَ الْكَوَاكِبُ لِأَنَّهَا لَا تُرَى فِي النَّهَارِ لِغَلَبَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَى أُفُقِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَطَالِعِهَا.
وَشبه مَا يَبْدُو للأنظار من تنقلها فِي سمت الناظرين للأفق بِاعْتِبَار اخْتِلَاف مَا يسامتها من جُزْء من الكرة الأرضية بِخُرُوج الْوَحْش، فشبهت حَالَة بدوّها بعد احتجابها مَعَ كَونهَا كالمتحركة بِحَالَة الْوَحْش تجْرِي بعد خنوسها تَشْبِيه التَّمْثِيل. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا صَارَت مرئية فَلذَلِك عقب بعد ذَلِك بوصفها بالكنّس، أَي عِنْد غُرُوبهَا تَشْبِيها لغروبها بِدُخُول الظبي أَو
الْبَقَرَة الوحشية كناسها بعد الانتشار والجري.
فَشُبِّهَ طُلُوعُ الْكَوْكَبِ بِخُرُوجِ الْوَحْشِيَّةِ مِنْ كِنَاسِهَا، وَشُبِّهَ تَنَقُّلُ مَرْآهَا لِلنَّاظِرِ بِجَرْيِ الْوَحْشِيَّةِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ كِنَاسِهَا صَبَاحًا، قَالَ لَبِيدٌ:
حَتَّى إِذَا انْحَسَرَ الظَّلَامُ وَأَسْفَرَتْ بَكَرَتْ تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلَامُهَا
وَشُبِّهَ غُرُوبُهَا بَعْدَ سَيْرِهَا بِكُنُوسِ الْوَحْشِيَّةِ فِي كِنَاسِهَا وَهُوَ تَشْبِيهُ بَدِيعٌ فَكَانَ قَوْلُهُ:
بِالْخُنَّسِ اسْتِعَارَة وَكَانَ الْجَوارِ الْكُنَّسِ تَرْشِيحَيْنِ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثِ مَا يُشْبِهُ اللُّغْزَ يُحْسَبُ بِهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَاتِ ظِبَاءٌ أَوْ وُحُوشٌ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَقَائِقُهَا مِنْ أَحْوَالِ الْوُحُوشِ، وَالْأَلْغَازُ طَرِيقَةٌ مُسْتَمْلَحَةٌ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ وَهِيَ عَزِيزَةٌ فِي كَلَامِهِمْ، قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ:
فَقُلْتُ أَعِيرَانِي الْقُدُومَ لَعَلَّنِي أَخُطُّ بِهَا قَبْرًا لِأَبْيَضَ مَاجِدِ
أَرَادَ أَنَّهُ يَصْنَعُ بِهَا غِمْدًا لِسَيْفٍ صَقِيلٍ مُهَنَّدٍ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: حَمْلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى حَقَائِقِهَا الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ.
153
وَالْمَعْرُوفُ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ أَنْ تَكُونَ بِالْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ الْأَشْيَاءِ الْمُبَارَكَةِ.
ثُمَّ عُطِفَ الْقَسَمُ بِ اللَّيْلِ عَلَى الْقَسَمِ بِ «الْكَوَاكِبِ» لِمُنَاسَبَةِ جَرَيَانِ الْكَوَاكِبِ فِي اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ أَجَلِّ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَعَسْعَسَ اللَّيْلُ عَسْعَاسًا وَعَسْعَسَةً، قَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: أَدْبَرَ ظَلَامُهُ، وَقَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَجَزَمَ بِهِ الْفَرَّاءُ وَحَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْخَلِيلُ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: عَسْعَسَ، إِذَا أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَعَسْعَسَ، إِذَا أَدْبَرَ ظَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ مَعًا اهـ.
وَبِذَلِكَ يَكُونُ إِيثَارُ هَذَا الْفِعْلِ لِإِفَادَتِهِ كِلَا حَالَيْنِ صَالِحَيْنِ لِلْقَسَمِ بِهِ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ إِذْ يَعْقُبُ الظَّلَامَ الضِّيَاءُ ثُمَّ يَعْقُبُ الضِّيَاءَ الظَّلَامُ، وَهَذَا إِيجَازٌ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ الْقَسَمُ بِالصُّبْحِ حِينَ تَنَفُّسِهِ، أَيِ انْشِقَاقِ ضَوْئِهِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ
تَنَفُّسَ الصُّبْحِ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ النِّظَامِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَالتَّنَفُّسُ: حَقِيقَتُهُ خُرُوجُ النَّفَسِ مِنَ الْحَيَوَانِ، اسْتُعِيرَ لِظُهُورِ الضِّيَاءِ مَعَ بَقَايَا الظَّلَامِ عَلَى تَشْبِيهِ خُرُوجِ الضِّيَاءِ بِخُرُوجِ النَّفَسِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا بَدَا الصَّبَاحُ أَقَبَلَ مَعَهُ نَسِيمٌ فَجُعِلَ ذَلِكَ كَالتَّنَفُّسِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الصُّبْحِ بِذِي نَفَسٍ مَعَ تَشْبِيهِ النَّسِيمِ بِالْأَنْفَاسِ.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ مِمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ لِأَجْلِ ذَلِكَ.
وَالرَّسُولُ الْكَرِيمُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وُصِفَ جِبْرِيلُ بِرَسُولٍ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ.
154
وَإِضَافَةُ «قَوْلُ» إِلَى رَسُولٍ إِمَّا لأدنى مُلَابسَة لِأَن جِبْرِيلَ يُبَلِّغُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْكِيهَا كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ قَائِلُهَا، أَيْ صَادِرَةٌ مِنْهُ أَلْفَاظُهَا.
وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْ جِبْرِيلَ بِوَصْفِ رَسُولٍ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي يُبَلِّغُهُ هُوَ رِسَالَةٌ مِنَ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهَا كَمَا هِيَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ آخَرُونَ الرَّسُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ كُلِّهَا اهـ. وَلَمْ يُعَيِّنِ اسْمَ أَحَدٍ مِمَّنْ قَالُوا هَذَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَاسْتُطْرِدَ فِي خِلَالِ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَلَكِ الْمُرْسَلِ بِهِ تَنْوِيهًا بِالْقُرْآنِ فَإِجْرَاءُ أَوْصَافِ الثَّنَاءِ عَلَى رَسُولٍ لِلتَّنْوِيهِ بِهِ أَيْضًا، وَلِلْكِنَايَةِ عَلَى أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ صِدْقٌ لِأَنَّ كَمَالَ الْقَائِلِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْقَوْلِ.
وَوُصِفَ رَسُولٍ بِخَمْسَةِ أَوْصَافٍ:
الْأَوَّلُ: كَرِيمٍ وَهُوَ النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ.
وَالْوَصْفَانِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ فَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا مَقْدِرَةُ الذَّاتِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا غَالِبًا. وَمِنْ أَوْصَافِهِ تَعَالَى: «الْقَوِيُّ»، وَمِنْهَا مَقْدِرَةُ الذَّاتِ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَبْنَاءُ نَوْعِهِ.
وَضِدُّهَا الضَّعْفُ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ
قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً
[الرّوم: ٥٤].
وَتُطْلَقُ الْقُوَّةُ مَجَازًا عَلَى ثَبَاتِ النَّفْسِ عَلَى مُرَادِهَا وَالْإِقْدَامِ وَرِبَاطَةِ الْجَأْشِ، قَالَ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: ١٢] وَقَالَ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْبَقَرَة: ٦٣]، فَوَصْفُ جِبْرِيلَ بِ ذِي قُوَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شِدَّةَ الْمَقْدِرَةِ كَمَا وُصِفَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
ذُو مِرَّةٍ [النَّجْم: ٦]، وَيَجُوزُ أَنْ يكون فِي الْقُوَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ الثَّبَاتُ فِي أَدَاءِ مَا أُرْسِلَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْم: ٥] لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلتَّعْلِيمِ هُوَ قُوَّةُ النَّفْسِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ المُرَاد مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَصْفُهُ بِ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْكَرَامَةُ وَالِاسْتِجَابَةُ لَهُ.
155
وَالْمَكِينُ: فَعِيلٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ مَكُنَ بِضَمِّ الْكَافِ مَكَانَةً، إِذَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ الْمَلِكِ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: ٥٤].
وَتَوْسِيطُ قَوْلِهِ: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ بَيْنَ ذِي قُوَّةٍ ومَكِينٍ لِيَتَنَازَعَهُ كِلَا الْوَصْفَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ، أَيْ هُوَ ذُو قُوَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ مَقْدِرَةَ جِبْرِيلَ تُخَوِّلُهُ أَنْ يَقُومَ بِعَظِيمِ مَا يُوَكِّلُهُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى قُوَّةِ الْقُدْرَةِ وَقُوَّةِ التَّدْبِيرِ، وَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَزُلْفَى.
وَوُصِفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَعْظِيمٍ، وَعِنَايَةٍ، فَ (عِنْدَ) لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ والزلفى.
وَعدل عَن اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى ذِي الْعَرْشِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِبْرِيلَ لِتَمْثِيلِ حَالِ جِبْرِيلَ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ بِحَالَةِ الْأَمِيرِ الْمَاضِي فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ الْمَلِكِ وَهُوَ بِمَحَلِّ الْكَرَامَةِ لَدَيْهِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ شَأْنِهِ إِذْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ عِنْدَ أَعْظَمِ مَوْجُودٍ شَأْنًا.
الْوَصْفُ الرَّابِعُ: مُطاعٍ أَنْ يُطِيعَهُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا يُطِيعُ الْجَيْشُ قَائِدَهُمْ، أَوِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطَاعٌ: أَيْ مَأْمُورٌ النَّاسُ بِطَاعَةِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ.
وثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْمَكَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُجَازِيُّ الَّذِي
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ فَيَجُوزُ تَعَلُّقُ الظَّرْفِ بِ مُطاعٍ وَهُوَ أَنْسَبُ لِإِجْرَاءِ الْوَصْفِ عَلَى جِبْرِيلَ، أَيْ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطَاعٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، أَيْ مُقَرَّرٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ أَمِينٍ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، فَوَصْفُ جِبْرِيلَ بِهِ ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَوَصْفُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِأَنَّهُ مُقَرَّرَةٌ أَمَانَتُهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى.
156
وَالْأَمِينُ: الَّذِي يَحْفَظُ مَا عُهِدَ لَهُ بِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ دُونَ نَقْصٍ وَلَا تَغْيِيرٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ إِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَأْمُونٌ مِنْ أَمِنَهُ عَلَى كَذَا. وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَمِينٌ، وَلَا يُقَالُ:
أَمِينَةٌ، وَإِمَّا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ أَمُنَ بِضَمِّ الْمِيمِ إِذَا صَارَتِ الْأَمَانَةُ سَجِيَّتَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَمِينَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُشْتَكِيَةِ أَضْرَارَ زَوْجِهَا: يُجْعَلَانِ عِنْدَ أمينة وَأمين.
[٢٢]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٢]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩] فَهُوَ دَاخِلٌ فِي خَبَرِ الْقَسَمِ جَوَابًا ثَانِيًا عَنِ الْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا هُوَ (أَيِ الْقُرْآنُ) بِقَوْلِ مَجْنُونٍ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ وَكَانَ قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ ثَنَاءً عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَعْقَبَهُ بِإِبْطَالِ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اختلقوه عَن النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدُّخان: ١٤] وَقَوْلِهِمْ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٨]، فَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ إِبْطَالًا مُؤَكَّدًا وَمُؤَيَّدًا، فَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ وَبِزِيَادَةِ الْبَاءِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَتَأْيِيدُهُ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ وَصْفُهُ بِأَنَّ الَّذِي بَلَّغَهُ صَاحِبُهُمْ، فَإِنَّ وَصْفَ صَاحِبٍ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ خُلُقَهُ وَعَقْلَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، إِذْ شَأْنُ الصَّاحِبِ أَنْ لَا تَخْفَى دَقَائِقُ أَحْوَالِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ.
وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ وَسَاوِسِ الْمَجَانِينِ، فَسَلَامَةُ مُبَلِّغِهِ مِنَ الْجُنُونِ تَقْتَضِي سَلَامَةَ قَوْلِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَسْوَسَةً.
وَيَجْرِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩] النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صاحِبُكُمْ هُنَا إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ.
وَالصَّاحِبُ حَقِيقَتُهُ: ذُو الصُّحْبَةِ، وَهِيَ الْمُلَازَمَةُ فِي أَحْوَالِ التَّجَمُّعِ وَالِانْفِرَادِ
لِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّوْجِ: صَاحِبَةٌ وَلِلْمُسَافِرِ مَعَ غَيْرِهِ صَاحِبٌ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ
157
وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يُوسُف: ٣٩]، وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ» :«وَلَا لَكُمْ مِنِّي إِلَّا صُحْبَةُ السَّفِينَةِ».
وَقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُخَالِطِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَلَوْ فِي الشَّرِّ، كَقَوْلِ الْحَجَّاجِ يُخَاطِبُ الْخَوَارِجَ: «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ، وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ».
وَقَوْلِ الْفَضْلِ اللَّهَبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي تُخَاصِمُونَهُ وَتُكَذِّبُونَهُ وَتَصِفُونَهُ بِالْجُنُونِ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَأَنَّكُمْ مُخَالِطُوهُ وَمُلَازِمُوهُ وَتَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ فَمَا قَوْلُكُمْ عَلَيْهِ: «إِنَّهُ مَجْنُونٌ» إِلَّا لِقَصْدِ الْبُهْتَانِ وَإِسَاءَةِ السُّمْعَةِ.
فَهَذَا مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهَا مَسُوقَةٌ فِي مَعْرِضِ الْمُوَازَنَةِ وَالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالشَّهَادَةُ لَهُمَا بِمَزَايَاهُمَا حَتَّى يُشَمَّ مِنْ وَفْرَةِ الصِّفَاتِ الْمُجْرَاةِ عَلَى جِبْرِيلَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي أَوْصَافِ جِبْرِيلَ مَعَ الِاقْتِصَادِ فِي أَوْصَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْذِنُ بِتَفْضِيلِ أَوَّلِهِمَا عَلَى الثَّانِي.
وَمِنْ أَسْمَجِ الْكَلَامِ وَأَضْعَفِ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» :«وَنَاهِيكَ بِهَذَا دَلِيلًا عَلَى جَلَالَةِ مَكَانَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُبَايَنَةِ مَنْزِلَتِهِ لِمَنْزِلَةِ أَفْضَلِ الْإِنْسِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَازَنْتَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَقَايَسْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: ١٩، ٢٠]، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ اهـ.
وَكَيْفَ انْصَرَفَ نَظَرُهُ عَنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُولُوا فِي جِبْرِيلَ شَيْئًا لِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ رَامَ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنَ الْآيَةِ دَلِيلًا لِمَذْهَبِ أَصْحَابِ الِاعْتِزَالِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَهَا مَجَالٌ آخَرُ، عَلَى أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى رَسُولٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
إِلَى قَوْله: أَمِينٍ [التكوير: ١٩- ٢١]، غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ انْصِرَافُهَا إِلَى جِبْرِيلَ
158
فَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةُ الِانْصِرَافِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ يَطْغَى عَلَيْهِ حُبُّ الِاسْتِدْلَالِ لِعَقَائِدِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ طُغْيَانًا يَرْمِي بِفَهْمِهِ فِي مَهَاوِي الضَّآلَةِ، وَهَلْ يَسْمَحُ بَالُ ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عِلْمٍ بِمَجَارِي كَلَامِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَصَدَّى مُتَصَدٍّ لِبَيَانِ فَضْلِ أَحَدٍ بِأَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ:
رَسُولٍ كَرِيمٍ بِجِبْرِيلَ فَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُوَ وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَهَذَا مُقْتَلَعٌ مِنْ جِذْرِهِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ اسْمِ النَّبِيءِ الْعَلَمِ إِلَى صاحِبُكُمْ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ صاحِبُكُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ عَلَى عِلْمٍ بِأَحْوَالِهِ، وَأَمَّا الْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِ رَسُولٍ خُصُوصَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَإِذَا أُرِيدَ بِ رَسُولٍ كِلَاهُمَا فَذِكْرُ صاحِبُكُمْ لِتَخْصِيصِ الْكَلَام بِهِ.
[٢٣]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٣]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: ٢٢].
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا بَلَغَهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ مِنْ وَقْتِ غَارِ حِرَاءٍ فَمَا بعده استهزأوا وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُ هُوَ جِنِّيٌّ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِنَفْيِ الْجُنُونِ عَنْهُ ثُمَّ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ الْقَوِيَّ الْأَمِينَ.
فَضَمِيرُ الرَّفْعِ عَائِدٌ إِلَى صَاحِبٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩]، وَسِيَاقُ الْكَرَمِ يُبَيِّنُ مَعَادَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ.
وَ «الْأُفُقِ» : الْفَضَاءُ الَّذِي يَبْدُو لِلْعَيْنِ مِنَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ بَيْنَ طَرَفَيْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا مِنْ حَيْثُ يَلُوحُ ضَوْءُ الْفَجْرِ وَيَبْدُو شَفَقُ الْغُرُوبِ وَهُوَ يَلُوحُ كَأَنَّهُ قُبَّةٌ زَرْقَاءُ وَالْمَعْنَى رَآهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
والْمُبِينِ: وَصْفُ الْأُفُقِ، أَيْ لِلْأُفُقِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ نَعْتُ الْأُفُقِ الَّذِي تَرَاءَى مِنْهُ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ أُفُقٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ لَا تَشْتَبِهُ فِيهِ الْمَرْئِيَّاتُ وَلَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ الْخَيَالُ،
وَجُعِلَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ عَلَامَةً عَلَى أَنَّ الْمَرْئِيَّ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِخَيَالٍ لِأَنَّ الْأَخْيِلَةَ الَّتِي يَتَخَيَّلُهَا الْمَجَانِينُ إِنَّمَا يَتَخَيَّلُونَهَا عَلَى الْأَرْضِ تَابِعَةً لَهُمْ عَلَى مَا تَعَوَّدُوهُ مِنْ وَقْتِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَكَ الَّذِي رَآهُ عِنْدَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ بِأَنَّهُ عَلَى كُرْسِيٍّ جَالِسٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ،
وَلِهَذَا تَكَرَّرَ ذِكْرُ ظُهُورِ الْمَلَكِ بِالْأُفُقِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ [٥- ٩] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى إِلَى أَنْ قَالَ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى [النَّجْم: ١٢- ١٥] الْآيَاتِ، قِيلَ: رَأَى النَّبِيءُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِمَكَّةَ مِنْ جِهَةِ جَبَلِ أَجْيَادٍ من شرقيّه.
[٢٤]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٤]
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)
الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى صاحِبُكُمْ [التكوير: ٢٢] كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ جِبْرِيلَ ضَنِينٌ عَلَى الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا ادَّعَوْا ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظُلْمًا وَزُورًا، وَلِقُرْبِ الْمَعَادِ.
والْغَيْبِ: مَا غَابَ عَنْ عِيَانِ النَّاسِ، أَوْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ. وَالْمُرَادُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ إِلَّا أَنْ يُطْلِعَ عَلَيْهِ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ، وَمِنْهُ وَحْيُ الشَّرَائِعِ، وَالْعِلْمُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُؤُونِهِ، وَمُشَاهَدَةُ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣].
وَكُتِبَتْ كَلِمَةُ بِضَنِينٍ فِي مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مَا عَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمْ بِهِ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» :«هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالضَّادِ وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ بالظاء» وَقد اقْتصر الشَّاطِبِيُّ فِي مَنْظُومَتِهِ فِي الرَّسْمِ عَلَى رَسْمِهِ بِالضَّادِ إِذْ قَالَ:
وَالضَّادُ فِي بِضَنِينٍ تجمع الْبشر وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ فَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ
160
وَخَلَفٌ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ حَافَّةِ اللِّسَانِ مِمَّا يَلِي الْأَضْرَاسَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا، وَذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّنْبِيهِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مَا كَانَتَا مُتَوَاتِرَتَيْنِ إِلَّا وَقَدْ رُوِيَتَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالضَّادُ وَالظَّاءُ حَرْفَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْكَلِمَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي غَالِبًا إِلَّا نَحْوَ حُضَضٍ بِضَادَيْنِ سَاقِطَتَيْنِ وحظظ بِظَاءَيْنِ مُشَالَيْنِ وحضظ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُشَالَةٌ وَثَلَاثَتُهَا بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ مَا بَعْدَ الْحَاءِ. فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا لُغَاتٌ فِي كَلِمَةٍ ذَاتِ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ اسْمُ صَمْغٍ يُقَالُ لَهُ: خَوْلَانُ.
وَلَا شَكَّ أَن الَّذين قرأوه بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ قَدْ رَوَوْهُ مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِي قِرَاءَتِهِمْ كَوْنُهَا مُخَالِفَةً لِجَمِيعِ نُسَخِ مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ لِأَنَّ تَوَاتُرَ الْقِرَاءَةِ أَقْوَى مِنْ تَوَاتُرِ الْخَطِّ إِنِ اعْتُبِرَ لِلْخَطِّ تَوَاتُرٌ.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ مُوَافَقَةِ الْقِرَاءَةِ لِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ لِتَكُونَ قِرَاءَةً صَحِيحَةً تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا، إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَمْ تُرْوَ متواترة كَمَا بَيناهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَقَدِ اعْتَذَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ اتِّفَاقِ مَصَاحِفِ الْإِمَامِ عَلَى كِتَابَتِهَا بِالضَّادِ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، بِأَنْ قَالَ: «لَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الضَّادَ وَالظَّاءَ لَا يَخْتَلِفُ خَطُّهُمَا فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا بِزِيَادَةِ رَأْسِ إِحْدَاهُمَا عَلَى رَأْسِ الْأُخْرَى فَهَذَا قَدْ يَتَشَابَهُ وَيَتَدَانَى» اهـ.
يُرِيدُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَا رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ لَيْسَ مُخَالَفَةً مِنْ كُتَّابِ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَيَكْتُبُونَ بَعْضَ نُسَخِ الْمَصَاحِفِ عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَهُوَ الْغَالِب. وَهَاهُنَا اشْتَبَهَ الرَّسْمُ فَجَاءَتِ الظَّاءُ دَقِيقَةَ الرَّأْسِ.
وَلَا أَرَى لِلِاعْتِذَارِ عَنْ ذَلِكَ حَاجَةً لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَيْنِ عَنِ
161
النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَدَ كُتَّابُ الْمَصَاحِفِ عَلَى إِحْدَاهُمَا وَهِيَ الَّتِي قَرَأَ بِهَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَخَاصَّةً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَوْكَلُوا الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى إِلَى حفظ القارئين.
وَإِذ تَوَاتَرَتْ قِرَاءَةُ بِضَنِينٍ بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ، وبظنين بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَأَنَّهُ أَرَادَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
فَأَمَّا مَعْنَى «ضَنِينٍ» بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ فَهُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّنِّ بِالضَّادِ مَصْدَرُ ضَنَّ، إِذا بَخِلَ، وَمُضَارِعُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِبَخِيلٍ أَيْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ طَلَبًا لِلِانْتِفَاعِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يُنْبِئُكُمْ عَنْهُ إِلَّا بِعِوَضٍ تُعْطُونَهُ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا يَتَلَقَّى الْأَخْبَارَ عَنِ الْجِنِّ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الْكُهَّانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِالْمُغَيَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١- ٤٢] فَأَقَامَ لَهُمُ الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْكُهَّانِ وَحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ لَا يَسْأَلُهُمْ عِوَضًا عَمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ وَأَنَّ الْكَاهِنَ يَأْخُذُ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مَا يُسَمُّونَهُ حُلْوَانًا، فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الْفرْقَان: ٥٧] قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الْأَنْعَام: ٩٠] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «ضَنِينٍ» مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْكِتْمَانِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ بُخْلٌ بِالْأَمْرِ الْمَعْلُومِ لِلْكَاتِمِ، أَيْ مَا هُوَ بِكَاتِمٍ الْغَيْبَ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: ١٥] وَقَالُوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣].
وَيَتَعَلَّقُ عَلَى الْغَيْبِ بِقَوْلِهِ: بِضَنِينٍ وَحَرْفُ (عَلَى) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الْبَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: ١٠٥] أَيْ حَقِيقٌ بِي، أَوْ لِتَضْمِينِ «ضَنِينٍ» مَعْنَى حَرِيصٍ، وَالْحِرْصُ: شِدَّةُ الْبُخْلِ وَمَا مُحَمَّدٌ بِكَاتِمٍ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ فَمَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَهُوَ عَيْنُ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْبَخِيلُ عَلَى هَذِهِ كِنَايَةً عَنْ كَاتِمٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى
162
عَنْ عَدَمِ التَّغْيِيرِ.
وَالْمَعْنَى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِكَاتِمٍ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ، أَيْ مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ.
وَأَمَّا مَعْنَى «ظَنِينٍ» بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّنِّ بِمَعْنَى التُّهْمَةِ، أَيْ مَظْنُونٌ. وَيُرَادُ إِنَّهُ مَظْنُونٌ بِهِ سُوءٌ، أَيْ أَنْ يَكُونُ كَاذِبًا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ الْغَيْبِ، وَكَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ ظَنِينٍ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ الظَّنُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى التُّهْمَةِ فَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ظَنَّ بِهِ سُوءًا، فَيَتَعَدَّى إِلَى مُتَعَلِّقِهِ الْأَوَّلِ بِحَرْفِ بَاءِ الْجَرِّ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَذَفُوا الْبَاءَ وَوَصَلُوا الْفِعْلَ بِالْمَجْرُورِ فَصَارَ مَفْعُولًا فَقَالُوا ظَنَّهُ: بِمَعْنَى اتَّهَمَهُ، يُقَالُ: سُرِقَ لِي كَذَا وَظَنَنْتُ فَلَانًا.
وَحَرْفُ عَلَى فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ نَحْوَ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً [طه: ١٠]، أَيْ مَا هُوَ بِمُتَّهَمٍ فِي أَمْرِ الْغَيْبِ وَهُوَ الْوَحْيُ أَنْ لَا يَكُونَ
كَمَا بَلَّغَهُ، أَيْ أَنَّ مَا بَلَّغَهُ هُوَ الْغَيْبُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَعَكْسُهُ قَوْلُهُمُ: ائْتَمَنَهُ على كَذَا.
[٢٥]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٥]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥)
عَطْفٌ عَلَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩]، وَهَذَا رُجُوعٌ إِلَى مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، بَعْدَ أَنِ اسْتَطْرَدَ بَيْنَهُمَا بِتِلْكَ الْمُسْتَطْرِدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى زِيَادَةِ كَمَالِ هَذَا الْقَوْلِ بِقُدْسِيَّةِ مَصْدَرِهِ وَمَكَانَةِ حَامِلِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَصِدْقِ مُتَلَقِّيهِ مِنْهُ عَن رُؤْيَة مُحَققَة لَا تَخَيُّلَ فِيهَا، فَكَانَ التَّخَلُّصُ إِلَى الْعُودِ لِتَنْزِيهِ الْقُرْآنِ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْغَيْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير: ٢٤].
فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الضَّمِيرِ بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إِذْ قَالَ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير: ٢٥] فَكَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ
وَهَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إِنَّهُ كَاهِنٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكُهَّانَ تَأْتِيهِمُ الشَّيَاطِينُ بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ، قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١- ٤٢] وَقَالَ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ [الشُّعَرَاء: ٢١٠، ٢١١] وَقَالَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٢٢١، ٢٢٢] وَهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكَاهِنَ يَتَلَقَّى عَنْ شَيْطَانِهِ وَيُسَمُّونَ شَيْطَانَهُ رَئِيًا.
وَفِي حَدِيثِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَنُزُولِ سُورَةِ وَالضُّحَى: أَنَّ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ وَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ قَالَتْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى شَيْطَانَكَ قَدْ قَلَاكَ».
ورَجِيمٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَرْجُومٌ، وَالْمَرْجُومُ: الْمُبْعَدُ الَّذِي يَتَبَاعَدُ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَجَمُوهُ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِلشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا متبّرأ مِنْهُ.
[٢٦]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٦]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦)
جُمْلَةُ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير:
٢٥] وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [التكوير: ٢٧].
وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيزِ عَلَى الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُثْبِتَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ كَاهِنٍ وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ.
وَهَذَا مِنِ اقْتِرَانِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِالْفَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ [١٢].
وَ (أَيْنَ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْمَكَانِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنْ مَكَانِ ذَهَابِهِمْ، أَيْ طَرِيقِ ضَلَالِهِمْ، تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي سُلُوكِ طُرُقِ الْبَاطِلِ بِحَالِ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ الْجَادَّةَ فَيَسْأَلُهُ السَّائِلُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ سُلُوكَهُ، أَيِ اعْدِلْ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ مَضِلَّةٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ عَنْ طَلَبِ طَرِيقٍ يَسْلُكُونَهُ إِلَى مَقْصِدِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْكُمْ طُرُقُ بُهْتَانِكُمْ إِذِ اتَّضَحَ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ بُطْلَانُ
ادِّعَائِكُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ مَجْنُونٍ أَوْ كَلَامُ كَاهِنٍ، فَمَاذَا تَدَّعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ «أَيْنَ تَذْهَبُونَ» قَدْ أُرْسِلَتْ مَثَلًا، وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ وَكُنْتُ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ، لِمَنْ كَانَ فِي خطأ وعماية.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة التكوير (٨١) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)
بَعْدَ أَنْ أَفَاقَهُمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُؤَكِّدَةِ لِجُمْلَةِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير: ٢٥] وَلِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنِ الْعَاطِفِ، ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يُفِيدُ قَصْرَ الْقُرْآنِ عَلَى صِفَةِ الذِّكْرِ، أَيْ لَا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قُصِدَ مِنْهُ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، أَوْ قَوْلَ كَاهِنٍ، أَوْ قَوْلَ مَجْنُونٍ، فَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَبِذَلِكَ كَانَ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ وَالذِّكْرُ اسْمٌ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الدُّعَاءِ وَالْوَعْظِ بِحُسْنِ الْأَعْمَالِ وَالزَّجْرَ عَنِ الْبَاطِلِ وَعَنِ الضَّلَالِ، أَيْ مَا الْقُرْآنُ إِلَّا تَذْكِيرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي صَلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ، وَطَاعَةِ اللَّهِ رَبِّهِمْ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ، وَآدَابِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِهِمْ، وَدَوَامِ انْتِظَامِ جَمَاعَتِهِمْ، وَكَيْفَ يُعَامِلُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.
فَ «الْعَالَمِينَ» يَعُمُّ كُلَّ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمْ مَدْعُوُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَمُسْتَفِيدُونَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَهُوَ أَيْضًا مُعْجِزَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ قُصِرَ عَلَى كَوْنِهِ ذِكْرًا.
قُلْتُ: الْقَصْرُ الْإِضَافِيُّ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا تَخْصِيصُ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى خَاصَّةٍ، عَلَى أَنَّكَ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقَصْرَ حَقِيقِيًّا مُفِيدًا قَصْرَ الْقُرْآنِ
165
عَلَى الذِّكْرِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مَقْصُودٌ بِهِ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ.
وَأَمَّا إِعْجَازُهُ فَلَهُ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ فِي التَّذْكِيرِ لِأَنَّ إِعْجَازَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ وَقَعَ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ حَقٌّ.
وَأُبْدِلَ مِنْ لِلْعالَمِينَ قَوْلُهُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَأُعِيدَ مَعَ الْبَدَلِ حَرْفُ الْجَرِّ الْعَامِلُ مِثْلُهُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِتَأْكِيدِ الْعَامِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ [الْأَنْعَام: ٩٩] وَقَوْلِهِ: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٧٥]. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ:
مِنْكُمْ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: ٢٦] وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ ذِكْرًا لَهُمْ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالِمَيْنِ كَانَ ذِكْرُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ مِنْ بَقِيَّةِ الْعَالَمِينَ أَيْضًا بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، فَفِي الْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِبْدَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُسلمُونَ قد شاؤوا الِاسْتِقَامَةَ لِأَنْفُسِهِمْ فَنَصَحُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ.
وَفِي مَفْهُومِ الصِّلَةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ مَا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ بِهِ إِلَّا أَنهم لم يشاؤوا أَنْ يَسْتَقِيمُوا، بَلْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالِاعْوِجَاجِ، أَيْ سُوءِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ دَوَامَ أُولَئِكَ عَلَى الضَّلَالِ لَيْسَ لِقُصُورِ الْقُرْآنِ عَنْ هَدْيِهِمْ بَلْ لِأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَهْتَدُوا بِهِ، إِمَّا لِلْمُكَابَرَةِ فَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] وَإِمَّا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ تَلَقِّيهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
وَالِاسْتِقَامَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِصَلَاحِ الْعَمَلِ الْبَاطِنِيِّ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، وَالظَّاهِرِيِّ وَهُوَ الْأَفْعَالُ وَالْأَقْوَالُ تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِخَطٍّ مُسْتَقِيمٍ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يَشَاءُوا أَنْ
يَسْتَقِيمُوا هُمُ الْكَافِرُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمَسُوقُ لَهُمُ الْكَلَامُ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ عَلَى مَقَادِيرَ مُتَفَاوِتَةٍ كُلُّ مَنْ فَرَّطَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِمَا فَرَّطَ مِنْهُ فِي أَحْوَالٍ أَوْ أَزْمَانٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ.
166
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَطَأِ أَنْ يُوزَنَ حَالُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ بِمِيزَانِ أَحْوَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُعْظَمِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ إِذْ يَجْعَلُونَ وُجْهَةَ نَظَرِهِمُ التَّأَمُّلَ فِي حَالَةِ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَيَسْتَخْلِصُونَ مِنِ اسْتِقْرَائِهَا أَحْكَامًا كُلِّيَّةً يَجْعَلُونَهَا قَضَايَا لِفَلْسَفَتِهِمْ فِي كُنْهِ الدِّيَانَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْمَشِيئَةِ لِلْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ فِيمَا يَأْتِي وَيَدَعُ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ إِذَا قَالَ: هَذَا أَمْرٌ قُدِّرَ، وَهَذَا مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ تِلْكَ كَلِمَاتٌ يَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَحَالِّهَا، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ، وَيَثْبُتُ لِلْعَبْدِ كَسْبٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى اخْتِلَاف التَّعْبِير.
[٢٩]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٩]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا أَوِ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْكَلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا. وَالْمَقْصُودُ التَّكْمِيلُ وَالِاحْتِرَاسُ فِي مَعْنَى لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، أَيْ وَلِمَنْ شَاءَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِنْسَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْإِنْسَان: ٢٩، ٣٠].
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِ رَبُّ الْعالَمِينَ وَهُوَ مُفِيدٌ التَّعْلِيلَ لِارْتِبَاطِ مَشِيئَةِ مَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ مِنَ الْعَالِمَيْنِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ الْخَالِقُ فِيهِمْ دَوَاعِيَ الْمَشِيئَةِ وَأَسْبَابَ حُصُولِهَا الْمُتَسَلْسِلَةَ وَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَهُمْ لِلِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْحَقِّ، وَبِهَذَا الْوَصْفِ ظَهَرَ مَزِيدُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ مَشِيئَةِ النَّاسِ الِاسْتِقَامَةَ بِالْقُرْآنِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْقُرْآنِ ذِكْرًا لِلْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ ذُيِّلَتْ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْإِنْسَان: ٣٠] أَيْ فَهُوَ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ يَنُوطُ مَشِيئَتَهُ لَهُمْ الِاسْتِقَامَةَ بِمَوَاضِعِ صَلَاحِيَتِهِمْ لَهَا فَيُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا قَدْ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَشِيئَتِهِ الْخَيْرَ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ كِنَايَةً عَنْ شَقَائِهِمْ.
167
وَ (مَا) نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَصَادِرَ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ الْإِنْسَانِ إِفْصَاحٌ عَنْ شَرَفِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِكَوْنِهِمْ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِمْ إِذَا شَاءَ لَهُمْ الِاسْتِقَامَةَ وَهَيَّأَهُمْ لَهَا، وَهَذِه الْعِنَايَة معنى عَظِيمٍ تَحَيَّرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَطَوَّحَ بِهِ إِلَى الْجَبْرِ وَمِنْهُمْ مَنِ ارْتَمَى فِي وَهْدَةِ الْقَدَرِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَدَلَ فَجَزَمَ بِقُوَّةٍ لِلْعِبَادِ حَادِثَةٍ يَكُونُ بِهَا اخْتِيَارُهُمْ لِسُلُوكِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ فَسَمَّاهَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ قُدْرَةً حَادِثَةً وَبَعْضُهُمْ سَمَّاهَا كَسْبًا. وَحَمَلُوا مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى مَقَامِ تَعْلِيمِ اللَّهِ عِبَادَهُ التَّأَدُّبَ مَعَ جَلَالِهِ.
وَهَذَا أَقْصَى مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ الْقَوِيمَةُ فِي مَجَامِلِ مُتَعَارِضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ. وَمِنْ وَرَائِهِ سِلْكٌ دَقِيقٌ يَشُدُّهُ قَدْ تَقْصُرُ عَنْهُ الْأَفْهَامُ.
168

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٨٢- سُورَةُ الِانْفِطَارِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ الِانْفِطَارِ» فِي الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ.
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ عَرَّفْتُ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّكْوِيرِ.
وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: «سُورَةُ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ» وَبِهَذَا الِاسْمِ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ». وَلَمْ يَعُدَّهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّورِ ذَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ وَهُوَ «الِانْفِطَارُ».
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ وُقُوعُ جُمْلَةِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١] فِي أَوَّلِهَا فَعُرِفَتْ بِهَا.
وَسُمِّيَتْ فِي قَلِيلٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ «سُورَةُ انْفَطَرَتْ»، وَقِيلَ: تُسَمَّى «سُورَةُ الْمُنْفَطِرَةِ» أَيِ السَّمَاءِ الْمُنْفَطِرَةِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَهِيَ مَعْدُودَةٌ الثَّانِيَةَ وَالثَمَانِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّازِعَاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ.
وَعَدَدُ آيِهَا تِسْعَ عشرَة آيَة.
أغراضها
وَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى: إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَذِكْرِ أَهْوَالٍ تَتَقَدَّمُهُ.
169
Icon