تفسير سورة سورة التكوير من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
سورة التكوير
في هذه السورة تصوير للقيامة ومباديها. ومنها هذه الأحداث العظام في السموات وفي الأرض، التي بين الله أنها إذا حصلت علمت كل نفس في ذلك اليوم – علم مشاهدة – ما قدمته من العمل في الدنيا، خيرا كان أو شرا، وحوسبت عليه. فإذا علم الإنسان ذلك الآن ارعوى عن غيه، وأناب إلى ربه
ﰡ
فقال تعالى :﴿ إذا الشمس كورت ﴾ أزيل نورها بعد انبساطه وانتشاره ؛ فأظلمت. وأصل التكوير : التلفيف على جهة الاستدارة ؛ من كورت العمامة إذنا لففتها. تجوز به عما ذكر لعلاقة اللزوم ؛ لأن الشيء الذي يلف يذهب انبساطه وانتشاره، وتخفي آثاره.
﴿ وإذا النجوم انكدرت ﴾ أي انقضت وتناثرت. يقال : انكدر، إذا أسرع وانقض. وانكدر عليهم القوم : إذا جاءوا أرسالا حتى ينصبوا عليهم. أو تغيرت وانطمس نورها ؛ من كدرت الماء فانكدر : جعلته كدرا، أي مائلا نحو السواد والغبرة.
﴿ وإذا الجبال سيرت ﴾ أزيلت عن أماكنها من الأرض ؛ كما قال تعالى : " وسيرت الجبال فكانت سرابا " . أو سيرت في الجو ؛ كما قال تعالى : " وترى الجبال تحبسها جامدة وهي تمر مر السحاب " .
﴿ وإذا العشار ﴾ جمع عشراء كنفساء، وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، وتسمى بهذا الاسم إلى أن تضع لتمام السنة. ﴿ عطلت ﴾ أهملت بلا راع كأنها غير موجودة. وهو تمثيل لما يصيب الناس في يوم القيامة من الذهول لشدة الهول، حتى لو كانت لهم فيه عشار – وهي أنفس الأموال عندهم وأعز شيء عليهم – لذهلوا وشغلوا بأنفسهم عنها.
﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾ جمعت من أوكارها، وخرجت من أجحارها في ذهول عما تقتضيه طبائعها من التوحش والتعادي ؛ لشدة الاضطراب والفزع مما نزل بالأرض والسماء. يقال : حشرهم ويحشرهم حشرا، جمعهم. وقيل أهلكت ؛ من قولهم : حشرت السنة مال فلان، أهلكته. وعن ابن عباس : جمعت بالموت فلا تبعث ؛ ولا يحضر في القيامة غير الثقلين
﴿ وإذا البحار سجرت ﴾ أحميت بالنار حتى تبخرت مياهها، وظهر النار في مكانها ؛ من قولهم : سجر التنور، أحماه. وقريب منه قول الحسن : يذهب ماؤها حتى لا يبقى فيها قطرة. وقيل : ملئت بسبب التفجير وانسياب مياههما حتى اختلط عذبها بملحها، وصارت بحرا واحدا ؛ من قولهم : سجر الحوض : إذا ملأه فهو مسجور ؛ قال تعالى : " والبحر المسجور " وذلك بسبب زلزلة الساعة التي وصفها الله بغاية العظم.
﴿ وإذا النفوس زوجت ﴾ أي قرنت الأرواح بالأبدان، وأحيا الله الناس للحساب والجزاء. أو قرنت كل نفس بكتابها أو بعملها، أو قرن كل إنسان بشكله.
﴿ وإذا الموءودة ﴾ أي المدفونة حية﴿ سئلت بأي ذنب قتلت ﴾ وكان الرجل في الجاهلية يئد ابنته فيدفنها حية، ويهيل عليها التراب حتى تموت خشية العار أو الإملاق ؛ فجاء الإسلام بتحريم ذلك تحريما قاطعا.
﴿ وإذا الصحف نشرت ﴾ بسطت بعد أن كانت مطوية، وهي صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير أو من شر ؛ تطوى عند الموت وتنشر عند الحساب. أو هو كناية عن إعلامهم بأعمالهم.
﴿ وإذا السماء كشطت ﴾ قلعت وأزيلت، فلم تبق سماء تغطى ما تحتها، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة. والكشط : قلع عن شدة التصاق. يقال : كشطت البعير كشطا، نزعت جلده.
﴿ وإذا الجحيم سعرت ﴾ أوقدت إيقادا شديدا للكفار.
﴿ وإذا الجنة أزلفت ﴾ أدنيت وقربت من المتقين ؛ كقوله تعالى : " وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد " ؛ من تزلف فلان : أي تقرب.
﴿ علمت نفس.... ﴾ تبين لكل نفس جميع ما عملته من خير وشر بإحضار صحفها ؛ قال تعالى : " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " وهو جواب " إذا " في الآيات السابقة. والمراد بها : زمان ممتد يسع الأمور المذكورة، مبدؤه النفخة الأولى، ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق. وعلم النفوس : ما عملته وإن كان في جزء منه وهو وقت نشر الصحف. إلا أنه لما كان بعض هذه الأمور من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع هذه الأمور كلها ؛ تهويلا للخطب، " وتفظيعا للأمر.
﴿ فلا أقسم ﴾ شروع في بيان شأن القرآن والنبوة، بعد إثبات المعاد ؛ أي أقسم بما ذكر [ آية ٧٥ الواقعة ص ٣٩٧، آية ١ القيامة ص ٤٨٤ ]. وجواب القسم " إنه لقول رسول كريم " وما عطف عليه. ﴿ بالخنس ﴾ كركع. جمع خانس ؛ من الخنوس، وهو الانقباض والاستخفاء. يقال : خنس إبهامه – كنصر وضرب – وخنوسا، قبضها. وبفلان : غاب به ؛ كتخنس به.
﴿ الجوار ﴾ جمع جارية ؛ من الجري وهو المر السريع. ﴿ الكنس ﴾ كركع. جمع كانس ؛ من كنس الظبي – من باب نزل – دخل كناسه، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر ؛ لأنه يكنس الرمل حتى يصل إليه. أقسم تعالى بالنجوم التي تخنس بالنهار، أي يغيب ضوءها فيه عن الأبصار مع كونها فوق الأفق، ويظهر بالليل. وتكنس، أي تستتر وقت غروبها، أي نزولها تحت الأفق ؛ كما تكنسي الظباء في كنسها. وإنما أقسم بها لدلالتها بهذه الأحوال المختلفة والحركات المتسقة – على عظيم قدرة مبدعها ومصرفها. وكذلك في القسمين الآخرين. ومن ذلك خلقه ذلك الملك الكريم القوي الأمين، وإنزاله بالوحي على رسوله العظيم.
﴿ والليل إذا عسعس ﴾ أدبر ظلامه، أو أقبل ؛ وهو من الأضداد. وقيل : العسعة رقة الظلام وذلك في طرفي الليل ؛ فهو من المشترك المعنوي وليس من الأضداد. والمعنى : أقبل وأدبر معا.
﴿ والصبح إذا تنفس ﴾ أضاء وتبلج. وأصل التنفس : خروج النفس من الجوف ؛ فجعل الروح والنسيم الذي يقبل بإقبال الصبح نفسا له.
﴿ إنه لقول رسول كريم ﴾ جواب القسم. أي إن القرآن المبين لما ذكر في هذه السورة وغيرها لقول رسول كريم، مرسل من الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه السلام ؛ ونسبة القول إليه لأنه الواسطة في تبليغ الوحي.
﴿ مكين ﴾ أي ذي مكانة رفيع ومنزلة عظيمة عند الله تعالى.
ثم عطف على المقسم عليه قوله :﴿ وما صاحبكم ﴾ أي محمد صلى الله عليه وسلم﴿ بمجنون ﴾ وقد نعته كفار مكة بذلك افتراء عليه، وهم أعلم الناس برجاحة عقله، وكمال صفاته.
﴿ ولقد رآه ﴾ وهو من المقسم عليه أيضا. أي لقد رآه صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بصورته التي خلقه الله عليها بالأفق الأعلى من ناحية المشرق بمكة. والمراد بها : الرؤية الأولى الواقعة بغار حراء.
﴿ وما هو على الغيب بضنين ﴾ وما رسول الله صلى الله عليه وسلم ببخيل بالوحي، مقصر في تبليغه لكم، وتعليمكم إياه ؛ من الضن – بالكسر والفتح – بمعنى البخل، و " على " بمعنى الباء. وقرئ " بظنين " أي بمتهم على الغيب، بل هو صادق في كل ما أخبره به عن الله تعالى ؛ من الظنة بمعنى التهمة. و " على " بمعنى في.
﴿ وما هو بقول شيطان رجيم ﴾ أي ليس القرآن المنزل عليه بقول شيطان مسترق للسمع من الملأ الأعلى ؛ حتى تقولوا إنه كهانة !
﴿ فأين تذهبون ﴾ أي فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم ! ؟ والله أعلم.