تفسير سورة الغاشية

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

أي قد أتاكَ حديثُ الغاشيةِ، يعني القيامةَ تغشَى كلَّ شيءٍ بالأهوال؛ لأنَّها داهيةٌ تغشَى جميعَ الناسِ، وقال سعيدُ بن جبير: ((أرَادَ بالْغَاشِيَةِ نَارَ جَهَنَّمَ تَعُمُّ أهْلَهَا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِب، وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴾؛ أي وجوهٌ يومَ القيامة خاشعةٌ ذليلة، وهي وجوهُ الكفَرَةِ والمنافقين في الآخرةِ.
﴿ عَامِلَةٌ ﴾؛ أي تُجَرُّ في النار على وجُوهها.
﴿ نَّاصِبَةٌ ﴾؛ أي في تعَبٍ وعناء ومشقَّة وبلاءٍ من مُقاساتِ العذاب، قال الحسنُ: ((لَمْ تَخْشَعْ للهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَعْمَلْ لَهُ، فَأَخْشَعَهَا فِي الآخِرَةِ وَأعْمَلَهَا وَأنْصَبَهَا بمُعَالَجَةِ الأَغْلاَلِ وَالسَّلاَسِلِ)). وقال قتادةُ: ((تَكَبَّرَتْ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللهِ، فَأَعْمَلَهَا وَأنْصَبَهَا فِي النَّار)). وقال الضحَّاك: ((يُكَلَّفُونَ ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَديدٍ فِي النَّار)). والنَّصَبُ: الدَّأبُ فِي العملِ، وقال عكرمةُ والسديُّ: ((عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بمَعَاصِي اللهِ، نَاصِبَةٌ فِي النَّار يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وقال سعيدُ بن جبير: ((هُمُ الرُّهْبَانٌ أصْحَابُ الصَّوَامِعِ الَّذِينَ يَتْعَبُونَ وَيَنْصَبُونَ فِي الْعِبَادَةِ، ثُمَّ لاَ يَخْلصُونَ فِي الآخِرَةِ مِنْ ذلِكَ عَلَى شَيْءٍ لِوُقُوعِ ذلِكَ عَلَى غَيْرِ مُوَافَقَةِ الْعِلْمِ)). ويقالُ: همُ الخوارجُ. ويقال: المرادُ به كلُّ مَن عمِلَ عَملاً، وخلَطَ بعملهِ ما يُبطِلهُ من ربَا أو شركٍ أو عُجب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً ﴾؛ أي تلزَمُ ناراً قد انتهَى حرُّها، قال ابنُ مسعود: ((يَخُوضُ فِي النَّار كَمَا تَخُوضُ الإبلُ فِي الْوَحْلِ)). قرأ العامَّة (تَصْلَى) بفتحِ التاء، وقرأ أبو عمرٍو ويعقوب وأبو بكر بضمِّها اعتباراً بقوله: ﴿ تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾؛ أي من عَين متناهيةٍ في الحرِّ، قال الحسنُ: ((قَدِ انْتَهَى طَبْخُهَا مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ إلَى تِلْكَ السَّاعَةِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ﴾؛ قال مجاهدُ وعكرمة وقتادة: ((وَهُوَ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لاَطِئٍ بالأَرْضِ، تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ الشِّبْرِقُ حين يكون رطباً، فَإذا يَبسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ)) يَصِيرُ عِنْدَ الْيُبْسِ كَأَظْفَار الْهِرَّةِ سُمّاً، لاَ تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ وَإنَّمَا تَأْكُلُهُ الإبلُ فِي الرَّبيعِ مِنْ فَوْقِهِ. وقال ابنُ زيدٍ: ((أمَّا فِي الدُّنْيَا فَإنَّ الضَّرِيعَ الشَّوْكُ الْيَابسُ، وَأمَّا فِي الآخِرَةِ فَهُوَ شَوْكٌ فِي النَّار)). وقال الكلبيُّ: ((الضَّرِيعُ لاَ تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ، إذا يَبسَ لاَ يَرْعَاهُ شَيْءٌ)). وقال عطاءُ: ((هُوَ شَيْءٌ يَطْرَحُهُ الْبَحْرُ الْمَالِحُ تُسَمِّيهِ أهْلُ الْيَمَنِ الضَّرِيعُ)). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:" الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّار يُشْبهُ الشَّوْكَ أمَرُّ مِنَ الصَّبرِ، وَأنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، وَأشَدُّ حَرّاً مِنَ النَّار، سَمَّاهُ اللهُ ضَرِيعاً ". وقِيْلَ: إنَّ اللهَ يرسلُ على أهلِ النار الجوعَ حتى يعدلُ ما بهم من العذاب، فيستَغيثون من الجوعِ فيُغاثون بالضَّريع، ثم يستَغيثون فيُغاثون بطعامٍ ذِي غُصَّةٍ، فيذكُرون أنَّهم كانوا يسلِكُون الغصصَ في الدُّنيا بالماءِ، فيُسقَون فَيَعطشون ألفَ سنةٍ، ثم يُسقَون من عينٍ آنية لا شربة هنيَّة ولا مريَّة، فكلَّما أدنَوهُ من وجُوهِهم سلخَ جلودَ وجُوههم وسوَّدَها، فإذا وصلَ إلى بطونِهم قطَّعَها، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾[محمد: ١٥].
فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المشرِكون: إنَّ إبلَنا لتسمَنُ على الضَّريع، فأنزلَ اللهُ قولَهُ تعالى: ﴿ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴾؛ وكَذبوا، فإن الإبلَ لا ترعاهُ إلاّ ما دامَ رَطْباً، وأما إذا يبسَ فلا تقربهُ دابَّةٌ، ورَطِبُه يُسمَّى شَبْرَقاً لا ضَريعاً، والمعنى: لا يُسمَنُ مَن أكلَهُ ولا يسدُّ جوعةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴾؛ هذه صفةُ وجوهِ أهل الجنَّة يقول: وجوهُهم يومئذٍ نَضِرَةٌ حسنَةٌ جميلةٌ، آثارُ النِّعمة عليها ظاهرةٌ، وهي لعمَلها راضيةٌ بما أدَّاها إليه من الثواب والكرامة.
﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾؛ أي مُرتفعة في القدْر والشَّرف.
أي لا يسمَعُ أصحابُ تلك الوجوهِ كلمةً ذات لَفَقٍ ولا حِلفاً كَاذباً ولا كَلاماً باطلاً، وذلك لأنَّ سماعَ ما لا فائدةَ فيه يثقلُ على العُقَلاء، ولا يتكلَّمُ أهلُ الجنَّة إلاّ بالحكمةِ وحمدِ الله تعالى على ما رَزَقهم من النَّعيم المقيمِ.
أي فيها لكلِّ إنسان في قصرهِ عينٌ جارية من كلِّ شرابٍ يشتهيهِ، يجري إلى حيث يشاءُ على حسب إرادته ومحبَّتهِ.
في الهواءِ رفيعةُ القدر بعضُها فوقَ بعضٍ، من الذهب والفضَّة وغيرِ ذلك من الجواهر العظيمة، عليها مِن الفُرُشِ والحجالِ. قال صلى الله عليه وسلم:" لَوْ أُلْقِيَ مِنْ أعْلاَهَا فِرَاشٌ لَهَوَى إلى قَرَارهَا مِائَةَ خَرِيفٍ "والحكمةُ في ذلك الارتفاعِ أنْ يرى المؤمنُ بجلوسهِ عليها جميعَ ما خَوَّلهُ اللهُ من الْمُلكِ والنعمةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴾؛ الأكوابُ: جمع كُوبٍ، وهو الكوزُ الذي لا عُرَى له ولا خراطيمَ، موضوعةٌ على حافَّة العينِ الجارية مُعدَّةٌ لأشربَتِهم وهو من اللُّؤلؤ الرطب على ما وردَ في الحديثِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴾؛ هي جمعُ نَمْرَقَةٍ، وهي الوِسَادَةُ المنسوجةُ من قُضْبَانِ الذهَبِ المكلَّلة بالدُّرِّ والياقوتِ، قد صُفَّ بعضُها إلى بعضٍ للراحة ورفع المنْزلِ، قال الشاعرُ: كُهُولٌ وَشُبَّانٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ   عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَنَمَارقِ
الزَّرَابيُّ هي الطَّنافسُ العجيبةُ، واحدتُها زَريبَةٌ، وهي البسُطُ العريضةُ، والمبثوثةُ الكثيرة المبسوطة المفرَّقة في المجالسِ.
فيه تنبيهٌ على قُدرة اللهِ تعالى، يقول: أفَلاَ يَرَونَ إلَى الإبلِ مع عِظَمها وشدَّتِها كيف تبرُك إذا أُريدَ ركوبُها فتُحمَلُ عليها وتُركَبُ، ثم تقومُ فيقودها الصغيرُ وينَخِّيها ويَحمِلُ عليها الحِمْلَ الثقيلَ وهي باركةٌ، فتنهَضُ بثقلهِ دابةٌ بحملِها ((وليس ذلك في شيء من الحيوان)) إلا البعير. وَقِيْلَ: في وجه اتصالِ هذه الآية بما قبلَها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وصفَ للمشركين سُرُرَ أهلِ الجنة مع علُوِّها وارتفاعِها، وأنَّها تنحطُّ لصاحبها إذا أرادَ صُعودَها ثم ترتفعُ، استبعَدُوا ذلك، فذكرَ الله ما يزيلُ استبعادَهم وكانوا أربابَ إبلٍ، فأرَاهم دلائلَ توحيدهِ فيما في أيديهم. وتكلَّمَت الحكماءُ في وجه تخصيصِ الإبل من بين سائرِ الحيوانات، فقال مقاتلُ: ((لأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوا بَهِيمَةً قَطُّ أعْظَمَ مِنْهَا، وَلَمْ يُشَاهِدُوا الْفِيلَ " إلاَّ " الشَّاذ مِنْهُمْ)). وقال الحسنُ: ((لأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّوَى، وَتُخْرِجُ اللَّبَنَ)). وَقِيْلَ: لأنَّها مع عِظَمها تلينُ للحملِ الثقيل وتنقادُ للقائدِ الضعيف يذهبُ بها كيفَ شاءَ. وحكى الأُستاذ أبو القاسمِ بن حبيبٍ: أنه رأى في بعض التفاسيرِ: أنَّ فأرةً أخذت بزِمام ناقةٍ، فجعلتِ الفارةُ تجرُّ الناقةَ وهي تتبَعُها حتى دخلت الجحرَ، فجَرَّت الزمامَ فبَركت، فجَرَّته فقرَّبت فمَها من جحرِ الفارةِ، فسبحان الذي قدَّرها وسخَّرها وذلَّلَها. وقال أبو عمرٍ: ((الإبلُ هِيَ السَّحَابُ، وَهِيَ ألْيَقُ بما بَعْدُ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ)) إلاَّ أنَّ هَذا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ، وإنما يقولون للسَّحاب: الإبلَّ بتشديدِ اللام.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴾؛ في الهواءِ فوق كلِّ شيء لا تنالُها الأيدِي، بلا عمادٍ تحتها ولا علاَّقة فوقَها.
﴿ وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾؛ فجعلها مرساةً مثبَّتة لا تزلزَلُ، وفجَّر في أعلاها العُيونَ لمنافعِ الناس.
﴿ وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾؛ أي بُسطت على وجهِ الماء. فالذي فعلَ هذه الأشياءَ قادرٌ على أن يخلُقَ نعيمَ الجنة بالصفاتِ التي ذكرَها. قال أنسُ بن مالك: ((صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أبي طَالبٍ، فَقَرَأ: (أفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبلِ كَيْفَ خَلَقَتُ، وَإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رَفَعْتُ * وَ... نُصَبْتُ * و... سَطَحْتُ) برَفْعِ التَاءِ))، وقرأ الحسنُ بالتشديدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾؛ أي عِظْهُم يا مُحَمَّدُ بالقرآنِ، إنما أنتَ واعظٌ مبلِّغٌ ﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾؛ أي بمسلَّطٍ تُجبرهم على الإيمانِ، وتَمنَعُهم عن الكفرِ، وهذا كان من قبلِ آية القتلِ فنُسخ بها، وتَسَيطَرَ الرجلُ إذا تسلَّطَ.
أي لكن مَن أعرضَ عن الإيمانِ وثبَتَ على كُفرهِ فَكِلْهُ إلى الله تعالى لستَ له بمذكِّر؛ لأنه لا يقبلُ منكَ، وسيعذِّبهُ الله في الآخرةِ بأعظمِ النيران، وإنما قالَ ذلك لأنَّ من المعذبين مَن هو أشدُّ عذاباً من غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾؛ أي طِبْ نَفساً يا مُحَمَّدُ وإنْ عانَدُوا وجحَدُوا، فإنَّ إلينا مرجعَهم؛ أي إلينا مرجعُهم وجزاؤُهم، والإيَابُ: الرُّجُوعُ والمعادُ.
﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾؛ وإخراجَ ما لهم وعليهم حتى يظهرَ مقدارُ ما يستحقُّون من العذاب.
Icon