روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب « إن الله أمرني أن أقرأ عليك ﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾ قال : وسماني لك؟ قال : نعم. فبكى » فقوله : أن أقرأ عليك ﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾ واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة ﴿ لم يكن ﴾ بالاقتصار على أول كلمة منها، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب.
وسميت في أكثر المصاحف ﴿ سورة القيمة ﴾ وكذلك في بعض التفاسير. وسميت في بعض المصاحف ﴿ سورة البينة ﴾.
وذكر في الإتقان أنها سميت في مصحف أبي ﴿ سورة أهل الكتاب ﴾، أي لقوله تعالى ﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾، وسميت سورة ﴿ البرية ﴾ وسميت ﴿ سورة الانفكاك ﴾. فهذه ستة أسماء.
واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية : الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين. وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية.
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام. وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبة البدري قال « لما نزلت ﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيا » الحديث، أي وأبي من أهل المدينة. وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية. قال ابن عطية : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالدينة.
وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع.
وعدد آياتها ثمان عند الجمهور، وعدها أهل البصرة تسع آيات.
أغراضها
توبيخ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها.
وتكذيبهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها.
ووعيدهم بعذاب الآخرة.
والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية.
والثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم.
وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل وما فيه من فضل وزيادة.
ﰡ
إِلَى مُنَاقَضَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَدْ عُدَّتِ الْمِائَةَ وَإِحْدَى فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَتَكُونُ نَزَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ النَّضِيرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ فَنُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ سَنَةِ ثَلَاثٍ أَوْ أَوَّلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ.
وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثَمَانٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ تسع آيَات.
أغراضها
تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّعْجِيبُ مِنْ تَنَاقُضِ حَالِهِمْ إِذْ هُمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ فَلَمَّا أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ كَفَرُوا بِهَا.
وَتَكْذِيبُهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ التَّمَسُّكَ بِالْأَدْيَانِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا.
وَوَعِيدُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَالتَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ.
وَالثَّنَاءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
وَوَعْدُهُمْ بِالنَعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ وَإِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالْقُرْآنِ وَفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ وَمَا فِيهِ مِنْ فضل وَزِيَادَة.
[١- ٣]
[سُورَة الْبَيِّنَة (٩٨) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)اسْتَصْعَبَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ تَحْصِيلُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ
وَأَنَا أَقُولُ: وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَنهم منفكون عماذا لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ إِذِ الْمُرَادُ
هُوَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ اللَّذَيْنِ كَانُوا عَلَيْهِمَا فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ كَلِمَةَ حَتَّى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ عِنْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ٤] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ حَصَلَ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُنَاقَضَةٌ فِي الظَّاهِرِ» اهـ كَلَامُ الْفَخْرِ.
يُرِيدُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنَ الْبَيِّنَةُ وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ مُنْفَكِّينَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ صِلَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِنَّ حَرْفُ الْغَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّ إِتْيَانَ الْبَيِّنَةِ الْمُفَسَّرَةِ بِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ هِيَ نِهَايَةُ انْعِدَامِ انْفِكَاكِهِمْ عَنْ كُفْرِهِمْ، أَيْ فَعِنْدَ إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ يَكُونُونَ مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ فَكَيْفَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ٤] فَإِنَّ تَفَرُّقَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى تَفَرُّقِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ازْدِيَادٌ فِي الْكُفْرِ إِذْ بِهِ تَكْثُرُ شُبَهُ الضَّلَالِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي دِينِهِمْ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي أَصْلِ الْكُفْرِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: ٤] إِلَخْ كَلَامًا مُتَّصِلًا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَلَنَا فِي ذَلِكَ كَلَامٌ سَيَأْتِي.
وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ الْفَخْرُ مِنْ وَجْهِ الْإِشْكَالِ: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الْكُفْرِ فِي زَمَنٍ مَا، وَأَنَّ نَصْبَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ حَتَّى يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ بَعْدَ حَتَّى فَيَقْتَضِي أَنَّ إِتْيَانَ الْبَيِّنَةِ مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ فُسِّرَتْ بِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَإِتْيَانُ الرَّسُولِ وَقَعَ قَبْلَ
وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ وَجْهُ الْإِشْكَالِ وَكَانَ مَظْنُونًا أَنَّهُ مَلْحُوظٌ لِلْمُفَسِّرِينَ إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ وَارِدًا عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِهِ فِي مُفْرَدَاتِهِ أَوْ تَرْكِيبِهِ، فَوَجَبَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، إِمَّا بِصَرْفِ تَرْكِيبِ الْخَبَرِ عَنْ ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ وَهُوَ إِفَادَةُ الْمُخَاطَبِ النِّسْبَةَ الْخَبَرِيَّةَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا التَّرْكِيبُ، بِأَنْ يُصْرَفَ الْخَبَرُ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ لِلتَّرْكِيبِ. وَإِمَّا بِصَرْفِ بَعْضِ مُفْرَدَاتِهِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا التَّرْكِيبُ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى مَجَازٍ أَوْ كِنَايَةٍ.
فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ صَرْفِ الْخَبَرِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَوُا الْخَبَرَ عَلَى
ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِهِ وَسَلَكُوا طَرِيقَةَ صَرْفِ بَعْضِ كَلِمَاتِهِ عَنْ ظَاهِرِ مَعَانِيهَا وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ لَفَظَ مُنْفَكِّينَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ مَعْنَى حَتَّى وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ رَسُولٌ، وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَ فِي الْبَيِّنَةُ وَجْهَيْنِ.
وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فَبَلَغَتْ بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا ذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ أَكْثَرَهَا وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ مُعْظَمَهَا غَيْرَ مَعْزُوٍّ، وَتَدَاخَلَ بَعْضُ مَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ وَزَادَ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ.
وَمَرَاجِعُ تَأْوِيل الْآيَة تؤول إِلَى خَمْسَةٍ.
الْأَوَّلُ: تَأْوِيلُ الْجُمْلَةِ بأسرها بِأَن يؤوّل الْخَبَرُ إِلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَنِفْطَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ.
الثَّانِي: تَأْوِيلُ مَعْنَى مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ عَنْ إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ، وَهُوَ لِابْنِ عَطِيَّةَ.
الثَّالِثُ: تَأْوِيلُ مُتَعَلِّقُ مُنْفَكِّينَ بِأَنَّهُ عَنِ الْكُفْرِ وَهُوَ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ، أَوْ عَنِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ لِلْفَخْرِ وَأَبِي حَيَّانَ. أَوْ مُنْفَكِّينَ عَنِ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ وَهُوَ لِابْنِ كَيْسَانَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَصَمِّ، أَوْ مُنْفَكِّينَ عَنِ الْحَيَاةِ، أَيْ هَالِكِينَ، وَعُزِيَ إِلَى بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ.
الْخَامِسُ: تَأْوِيلُ رَسُولٌ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتْلُو عَلَيْهِمْ صُحُفًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاء:
١٥٣] وَعَزَاهُ الْفَخْرُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَقْتَضِي صَرْفَ الْخَبَرِ إِلَى التَّهَكُّمِ.
هَذَا وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: ١١].
وَأَنْتَ لَا يَعُوزُكَ إِرْجَاعُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى هَذِهِ الْمَعَاقِدِ فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا فَدُونَكَ فَرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ، فَبِنَا أَنْ نَهْتَمَّ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْبَيِّنِ.
إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى
الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مُتَنَصِّلُونَ مِنَ الْحَقِّ مُتَعَلِّلُونَ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عِنَادًا، فَلْنَسْلُكْ بِالْخَبَرِ مَسْلَكَ مَوْرِدِ الْحُجَّةِ لَا مَسْلَكَ إِفَادَةِ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَ التَّرْكِيبَ عَنِ اسْتِعْمَالِ ظَاهِرِهِ إِلَى اسْتِعْمَالٍ مَجَازِيٍّ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي الْإِنْشَاءِ وَالِاسْتِفْهَامِ فِي التَّوْبِيخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ فِيهِ التفتازانيّ فِي «الْمُطَوَّلِ» : إِنَّ بَيَانَ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ هُوَ مِمَّا لَمْ يَحُمْ أَحَدٌ حَوْلَهُ. وَالَّذِي تَصَدَّى السَّيِّدُ الشَّرِيفُ لِبَيَانِهِ بِمَا لَا يُبْقِي فِيهِ شُبْهَةً.
فَهَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ نَقْلِ الْأَقْوَالِ الْمُسْتَغْرَبَةِ الْمُضْطَرِبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ ثَبَاتِ آرَاءِ أَصْحَابِهَا، فَهُوَ مِنَ الْحِكَايَةِ لِمَا كَانُوا يَعِدُونَ بِهِ فَهُوَ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: كُنْتُمْ تَقُولُونَ لَا نَتْرُكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنَا الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ بِأُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِنْشَاءِ التَّعْجِيبِ أَوِ الشِّكَايَةِ مِنْ صَلَفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَزِيزٌ بَدِيعٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التَّوْبَة: ٦٤] إِذْ عَبَّرَ بِصِيغَةِ يَحْذَرُ وَهُمْ إِنَّمَا تَظَاهَرُوا بِالْحَذَرِ وَلَمْ يَكُونُوا حَاذِرِينَ حَقًّا وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا
وَتَقَرَّرَ تَعَلُّلُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ حِينَ يَدْعُوهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمرَان: ١٨٣] الْآيَةَ.
وَشُيُوعُهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ سِيَاقِهِ دَمْغُهُمْ بِالْحُجَّةِ وَبِذَلِكَ كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ مُصَادِفًا الْمَحَزَّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرِيب مِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: ٨٩].
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ لَا نَتْرُكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ حَتَّى تَأْتِيَنَا الْبَيِّنَةُ، أَيِ الْعَلَامَةُ الَّتِي وُعِدْنَا بِهَا.
وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً إِلَخْ.
وَإِذِ اتَّضَحَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ وَانْقَشَعَ إِشْكَالُهَا فَلْنَنْتَقِلْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ.
فَالِانْفِكَاكُ: الْإِقْلَاعُ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فَكَّهُ إِذَا فَصَلَهُ وَفَرَّقَهُ وَيُسْتَعَارُ لِمَعْنَى أَقْلَعَ عَنْهُ وَمُتَعَلِّقُ مُنْفَكِّينَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ بِصِلَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالتَّقْدِيرُ: مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَتَارِكِينَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ كُفْرُهُمْ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ مِثْلَ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَانَ كُفْرًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا الْقَوْلُ صَادِرٌ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْقُرَى الَّتِي حَوْلَهَا وَيَتَلَقَّفُهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ لَمْ يَنْقَطِعُوا عَنِ الِاتِّصَالِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مُنْذُ ظَهَرَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَسْتَفْتُونَهُمْ فِي ابْتِكَارٍ مُخَلِّصٍ يَتَسَلَّلُونَ بِهِ
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمرَان: ١٨٣]، وَقَالَ عَنْهُمْ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: ٨٩]، وَحَكَى عَنِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصَّفّ: ٦]. وَقَالَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: ١٠٩]، وَحَكَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] وَقَوْلُهُمْ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥].
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ فِي أَنَّهُمْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ بِانْتِظَارِ نَبِيءٍ يَنْصُرُ الدِّينَ الْحَقَّ وَجُعِلَتْ عَلَامَاتُهُ دَلَائِلَ تَظْهَرُ مِنْ دَعْوَتِهِ كَقَوْلِ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: «أقيم لَهُم نبيئا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ». ثُمَّ قَوْلُهَا فِيهِ: «وَأَمَّا النَّبِيءُ الَّذِي يَطْغَى فَيَتَكَلَّمُ كَلَامًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فَيَمُوت ذَلِك النبيء وَإِنْ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ كَيْفَ نَعْرِفُ الْكَلَامَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ فَمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيءُ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ وَلَمْ يَصِرْ فَهُوَ
الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ (الْإِصْحَاحُ الثَّامِنَ عَشَرَ). وَقَوْلُ الْإِنْجِيلِ: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ (أَيْ شَرِيعَتُهُ لِأَنَّ ذَاتَ النَّبِيءِ لَا تَمْكُثُ إِلَى الْأَبَدِ) رُوحُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ (يُوحَنَّا الْإِصْحَاحُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْفِقْرَةُ ٦) «وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ بِاسْمِي فَهُوَ يعلمكم كل شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ (يُوحَنَّا الْإِصْحَاحُ الرَّابِعَ عَشَرَ فِقْرَةُ ٢٦).
وَقَوْلُهُ: وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ، (أَيْ بَعْدَ عِيسَى) وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى (أَيْ يَبْقَى إِلَى انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَهُوَ مؤول بِبَقَاءِ دِينِهِ إِذْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ حَيًّا إِلَى انْقِرَاضِ الدُّنْيَا) فَهَذَا يخلّص ويكرر بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ
وَكَانَ أَحْبَارُهُمْ قَدْ أَسَاءُوا التَّأْوِيلَ لِلْبِشَارَاتِ الْوَارِدَةِ فِي كُتُبِهِمْ بِالرَّسُولِ الْمُقَفِّي وَأَدْخَلُوا عَلَامَاتٍ يَعْرِفُونَ بِهَا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْعُودَ بِهِ هِيَ مِنَ الْمُخْتَرَعَاتِ الْمَوْهُومَةِ فَبَقِيَ مَنْ خَلْفَهُمْ يَنْتَظِرُونَ تِلْكَ الْمُخْتَرَعَاتِ فَإِذَا لَمْ يَجِدُوهَا كَذَّبُوا الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ.
والْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالْعَلَامَةُ عَلَى الصِّدْقِ وَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْوَصْفِ جَرَى عَلَى التَّأْنِيث لِأَنَّهُ مؤول بِالشَّهَادَةِ أَوِ الْآيَةِ.
وَلَعَلَّ إِيثَارَ التَّعْبِيرِ بِهَا هُنَا لِأَنَّهَا أَحْسَنُ مَا تُتَرْجَمُ بِهِ الْعِبَارَةُ الْوَاقِعَةُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يَحُومُ حَوْلَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الْوَاضِحَةِ لِكُلِّ مُتَبَصِّرٍ كَمَا وَقَعَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى لَفْظَ «شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ»، (وَلَعَلَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَا مَرَّتَيْنِ كَانَ لِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ) وَقَدْ ذُكِرَتْ مَعَ ذِكْرِ الصُّحُفِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْبَيِّنَةُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ مَعْهُودٌ بِنَوْعِهِ لَا بِشَخْصِهِ كَقَوْلِهِمُ: ادْخُلِ السُّوقَ، لَا يُرِيدُونَ سُوقًا مُعَيَّنَةً بَلْ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَاهِيَّةُ سُوقٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ: إِنَّ الْمُعَرَّفَ بِهَذِهِ اللَّامِ هُوَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ بَيِّنَةٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِمَعْهُودٍ عِنْدَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ، أَيِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ وَصَايَا أَنْبِيَائِهِمْ فَهِيَ مَعْهُودَةٌ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَخَيُّلِهَا وَابْتَعَدُوا فِي تَوَهُّمِهَا بِمَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِ تَخَيُّلَاتُهُمْ وَاخْتِلَاقُهُمْ.
وَأُوثِرَتْ كَلِمَةُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي كَلَامِهِمْ وَلِذَلِكَ نَرَى مَادَّتَهَا مُتَكَرِّرَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْغَرَضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣] وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصَّفّ:
٦]
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَيَانِيَّةٌ بَيَانٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا مَعَ أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ أَشَدُّ مِنْ كُفْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ السَّبْقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَهُمُ الَّذِينَ بَثُّوا بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةَ انْطِبَاقِ الْبَيِّنَةِ الْمَوْصُوفَةِ بَيْنَهُمْ فَأَيَّدُوا الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ أَتْقَنُ مِنْ تُرَّهَاتِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أُمِّيِّينَ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ، فَلَمَّا صَدَمَتْهُمُ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَزِعُوا إِلَى الْيَهُودِ لِيَتَلَقَّوْا مِنْهُمْ مَا يَرُدُّونَ بِهِ تِلْكَ الدعْوَة وخاصة بعد مَا هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَالْمَقْصُودُ بِالْإِبْطَالِ ابْتِدَاءً هُوَ دَعْوَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَتَبَعٌ لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ هُنَاكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، أَيْ هِيَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، يَعْنِي لِأَنَّ مَا فِي الْبَيِّنَةِ مِنَ الْإِبْهَامِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ صِفَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا... مُنْفَكِّينَ إِلَى آخِرِهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: ٤].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولٌ بَدَلًا مِنَ الْبَيِّنَةُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ لَفْظِ «بَيِّنَةٍ» فَيَكُونُ مِنْ حِكَايَةِ مَا زَعَمُوهُ. أُرِيدَ إِبْطَالُ مَعَاذِيرِهِمْ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي يَنْتَظِرُونَهَا قَدْ حَلَّتْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ أَوْ لَا يُنْصِفُونَ أَوْ لَا يَفْقَهُونَ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: ٨٩].
وَتَنْكِيرُ رَسُولٌ لِلنَّوْعِيَّةِ الْمُرَادِ مِنْهَا تَيْسِيرُ مَا يَسْتَصْعِبُ كَتَنْكِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ
[الْبَقَرَة: ١٨٤] وَقَوْلِ: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١، ٢].
وَفِي هَذَا التَّبْيِينِ إِبْطَالٌ لِمَعَاذِيرِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَةُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [الْمَائِدَة: ١٩]، وَهُوَ يُفِيدُ
فَأُسْلُوبُ هَذَا الرَّدِّ مِثْلَ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا
[الْإِسْرَاء: ٩٠- ٩٤].
وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ بِغَلَطِهِمْ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ مَا وَعَدَتْ إِلَّا بِمَجِيءِ رَسُولٍ مَعَهُ شَرِيعَةٌ وَكِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِجُ فِي قَوْلَةِ التَّوْرَاةِ: «وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ».
وَقَوْلُ الْإِنْجِيلِ: «وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ [الْمَائِدَة: ٤٨] لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَصِفَا النَّبِيءَ الْمَوْعُودَ بِهِ إِلَّا بِأَنَّهُ مِثْلُ مُوسَى أَوْ مِثْلُ عِيسَى، أَيْ فِي أَنَّهُ رَسُولٌ يُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرِيعَةٍ، وَأَنَّهُ يُبَلِّغُ عَن الله وينطلق بِوَحْيِهِ، وَأَنَّ عَلَامَتَهُ هُوَ الصِّدْقُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ «الْمُنْقِذِ مِنَ الضَّلَالِ» :«إِنَّ مَجْمُوعَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ كَانَ بَالِغًا فِي نَبِيِّنَا إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ وَإِنَّ مُعْجِزَاتِهِ كَانَتْ غَايَةً فِي الظُّهُورِ وَالْكَثْرَةِ».
ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ رَسُولٌ وَلَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَ الْإِضَافَةِ لِيَتَأَتَّى تَنْوِينُ رَسُولٌ فَيُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ هَذَا الرَّسُول.
وَجُمْلَة يَتْلُوا صُحُفاً إِلَخْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ، وَهِيَ إِدْمَاجٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً.
وَالتِّلَاوَةُ: إِعَادَةُ الْكَلَامِ دُونَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نَقْصٍ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ كَلَامًا مَكْتُوبًا أَوْ مَحْفُوظًا عَنْ ظَهْرِ قلب، فَفعل يَتْلُوا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كَلَامًا لَا تُبَدَّلُ أَلْفَاظُهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ.
وتعدية فعل يَتْلُوا إِلَى صُحُفاً مَجَازٌ مُرْسَلٌ مَشْهُورٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ قَالَ تَعَالَى:
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت: ٤٨]، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَتْلُوِّ مَكْتُوبًا، وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَهْرِ قلب وَلَا يقرأه مِنْ صحف فَمَعْنَى يَتْلُوا صُحُفاً يَتْلُو مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي صُحُفٍ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ اشْتِهَارُ كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمّيّا.
وَوصف الصُّحُفُ بِ مُطَهَّرَةً وَهُوَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّهَارَةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ كَوْنُ مَعَانِيهِ لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِيهِ تَضْلِيلٍ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِبَعْضِ مَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ التحريف والأوهام.
وَوصف الصُّحُفُ الَّتِي يَتْلُوهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِيهَا كُتُبًا، وَالْكُتُبَ: جَمْعُ كِتَابٍ، وَهُوَ فِعَالٌ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، فَمَعْنَى كَوْنِ الْكُتُبِ كَائِنَةً فِي الصُّحُفِ أَنَّ الصُّحُفَ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا الْقُرْآنُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مِمَّا هُوَ خَالِصٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالْبَاطِلِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الْبَقَرَة:
٩٧] وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: ١٨، ١٩]، فَالْقُرْآنُ زُبْدَةُ مَا فِي الْكُتُبِ الْأُولَى وَمَجْمَعُ ثَمَرَتِهَا، فَأُطْلِقَ عَلَى ثَمَرَةِ الْكُتُبِ اسْمُ كُتُبٍ عَلَى وَجْهِ مَجَازِ الْجُزْئِيَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكُتُبِ أَجْزَاءُ الْقُرْآنِ أَوْ سُوَرُهُ فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْكُتُبِ.
وَالْقَيِّمَةُ: الْمُسْتَقِيمَةُ، أَيْ شَدِيدَةُ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْكَمَالِ وَالصَّوَابِ وَهَذَا مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ تَشْبِيهًا بِالْقَائِمِ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْعَمَلِ النَّافِعِ، وَضِدَّهُ الْعِوَجُ قَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف:
١، ٢]،
وَتَأْنِيثُ الْوَصْفِ لِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَصفا لجمع.
[٤]
[سُورَة الْبَيِّنَة (٩٨) : آيَة ٤]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
ارْتِقَاءً فِي الْإِبْطَالِ وَهُوَ إِبْطَالٌ ثَانٍ لِدَعْوَاهُمْ بِطَرِيقِ النَّقْضِ الْجَدَلِيِّ الْمُسَمَّى بِالْمُعَارَضَةِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِمَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْمَدْلُولِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلِذَلِكَ أَظْهَرَ فَاعِلَ تَفَرَّقَ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، إِذْ لَوْ أَضْمَرَ لَتُوُهِّمَتْ إِرَادَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَعَادِ الضَّمِيرِ، بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ زَعْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة: ٢] ارْتَقَى إِلَى إِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ إِبْطَالًا مَشُوبًا بِالتَّكْذِيبِ وَبِشَهَادَةِ مَا حَصَلَ فِي الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَاطِفَةً إِبْطَالًا عَلَى إِبْطَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ.
وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ من الدَّين مغيّا بِوَقْتِ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ جَاءَتْهُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ بَيِّنَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَفَرَّقُوا فِي الْإِيمَانِ بِهِ فَنَشَأَ مِنْ تَفَرُّقِهِمْ حُدُوثُ مِلَّتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ مَجِيءُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ كَمَا وَعَدَهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ أَمْثَالَ إِلْيَاسَ وَالْيَسَعَ وَأَشْعِيَاءَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْيَهُودُ عَلَى النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَجْدِيدُ الدِّينِ الْحَقِّ وَكَانُوا مُنْتَظِرِينَ الْمُخَلِّصَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى كَذَّبُوهُ، أَيْ فَلَا يَطْمَعُ فِي صِدْقِهِمْ فِيمَا زَعَمُوا مِنِ انْتِظَارِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ عِيسَى وَهُمْ قَدْ كَذَّبُوا بِبَيِّنَةِ عِيسَى، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجُحُودَ وَالْعِنَادَ شَنْشَنَةٌ فِيهِمْ مَعْرُوفَةٌ.
وَالْمُرَادُ بالتفرق: تفرق بني إِسْرَائِيلَ بَيْنَ مُكَذِّبٍ لِعِيسَى وَمُؤْمِنٍ بِهِ وَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ مِنَ الْيَهُودِ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَيِّنَةُ الْمَذْكُورَةِ ثَانِيًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَوْ لِلْمَعْهُودِ بَيْنَ
الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى وَإِعَادَتُهَا مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً مثلهَا إِذْ الْمُعَرّف بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ، أَوْ مِنْ إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ الْمَعْهُودَةِ مَعْرِفَةً مِثْلَهَا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا تَكُونُ الْمُعَادَةُ عَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَقَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، أَيْ تَبَاعَدُوا عَنْهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلَفْظِ التَّفَرُّقِ وَهُوَ صَرْفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ بَعِيدٌ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وَجْهُ تَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ التَّبَاعُدَ عَنِ الْإِسْلَامِ حَاصِلٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلُوا الْمُرَادَ بِ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِالْأُولَى وَهِيَ بَيِّنَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى أَنَّ الْفَخْرَ ذكر كَلِمَات تنبىء عَنْ مُخَالَفَةِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمَلِ تَفَرُّقِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ الْمَعْنَى بِمَا يُوَافِقُ كَلَامَ بَقِيَّةِ الْمُفَسِّرِينَ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي حَمْلَ التَّفَرُّقِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَمْلَ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَعْنًى مُغَايِرٍ لِمَحْمَلِ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى، إِذْ قَالَ:
«الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا يَغُمَّنَّكَ تَفَرُّقُهُمْ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِي الْحُجَّةِ بَلْ لِعِنَادِهِمْ فَسَلَفُهُمْ هَكَذَا كَانُوا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي السَّبَبِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا بَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، فَهِيَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهُمْ»، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَلَعَلَّهُ بَدَا لَهُ هَذَا الْوَجْهُ وَشَغَلَهُ عَنْ تَحْرِيرِهِ شَاغِلٌ وَهَذَا مِمَّا تَرَكَهُ الْفَخْرُ فِي المسودة.
[٥]
[سُورَة الْبَيِّنَة (٩٨) : آيَة ٥]
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)
هَذَا إِبْطَالٌ ثَالِثٌ لِتَنَصُّلِهِمْ مِنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَأْتِهِمْ.
فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: ٤] إِلَخْ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ١]. وَالْمَعْنَى وَالْحَالُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ أَتَتْهُمْ إِذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِمَا صَدَّقَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا من وسط أخواتهم وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ»، وَقَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ».
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُسْنَدِ لِلْمَجْهُولِ مُفِيدٌ مَعْنَيَيْنِ، أَيْ مَا أُمِرُوا فِي كِتَابِهِمْ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ. فَالْمَعْنَى: وَمَا أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ إِلَى آخِرِهِ.
فَإِنَّ التَّوْرَاةَ أَكَّدَتْ عَلَى الْيَهُودِ تَجَنُّبَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَتْ بِالصَّلَاةِ، وَأَمَرَتْ بِالزَّكَاةِ أَمْرًا مُؤَكَّدًا مُكَرَّرًا. وَتِلْكَ هِيَ أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ، وَالْإِنْجِيلُ لَمْ يُخَالِفِ التَّوْرَاةَ أَوِ الْمَعْنَى وَمَا أُمِرُوا فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَثَلِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ كِتَابُهُمْ، فَلَا مَعْذِرَةَ لَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
وَنَائِبُ فَاعِلِ أُمِرُوا مَحْذُوفٌ لِلْعُمُومِ، أَيْ مَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ هِيَ اللَّامُ الَّتِي تَكْثُرُ زِيَادَتُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦] وَقَوْلِهِ:
وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧١]، وَسَمَّاهَا بَعْضُ النُّحَاةِ لَامَ (أَنْ).
وَالْإِخْلَاصُ: التَّصْفِيَةُ وَالْإِنْقَاءُ، أَيْ غَيْرَ مُشَارِكِينَ فِي عِبَادَتِهِ مَعَهُ غَيْرَهُ.
وَحُنَفَاءُ: جَمْعُ حَنِيفٍ، وَهُوَ لَقَبٌ لِلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ شَرِيكٍ قَالَ تَعَالَى:
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ١٦١].
وَهَذَا الْوَصْفُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مَعَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي مُلِئَتِ التَّوْرَاةُ بِتَمْجِيدِهِ وَاتِّبَاعِ هَدْيِهِ.
وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ.
وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ: مَفْرُوضٌ فِي التَّوْرَاةِ فَرْضًا مُؤَكَّدًا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِاللَّامِ الْمُسَمَّاةِ (لَامَ أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ فَهُوَ فِي تَأْوِيلِ مُفْرَدٍ، أَيْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، أَيْ وَالْمَذْكُورُ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
ودِينُ الْقَيِّمَةِ يَجُوزُ أَن تكون إِضَافَته عَلَى بَابِهَا فَتَكُونَ الْقَيِّمَةِ مُرَادًا بِهِ غير المُرَاد بدين مِمَّا هُوَ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ مِمَّا يُضَافُ إِلَيْهِ دِينُ أَيْ دِينُ الْأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ أَوْ دِينُ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا التَّقْدِيرَ أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَدَّرِ مَوْجُودٌ فِي اللَّفْظِ قَبْلَهُ. وَهَذَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِأَحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ الدِّينُ الْقَيِّمُ قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الرّوم: ٣٠- ٣١].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ صُورِيَّةً مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ وَهِيَ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَصْلُهُ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَأَنَّثَ الْوَصْفَ عَلَى تَأْوِيلِ دِينٍ بِمِلَّةٍ أَوْ شَرِيعَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ التَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلَ تَاءِ عَلَّامَةِ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمُرَادُ بِدِينِ الْقَيِّمَةِ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْقَيِّمَةُ: الشَّدِيدَةُ الِاسْتِقَامَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ هُوَ دِينُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَصَالِحِيِ الْأُمَمِ وَهُوَ عَيْنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمرَان: ٦٧] وَقَالَ
وَحَكَى عَنْهُ وَعَنْ يَعْقُوبَ قَوْلَهُمَا: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٢] وَقَالَ سُلَيْمَانُ: وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النَّمْل: ٤٢].
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢].
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الَّذِي أُمِرُوا بِهِ أَيْ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، أَيْ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَحَسِبُوهُ نَقْضًا لِدِينِهِمْ، فَيَكُونُ مَهْيَعُ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: ٦٤] وَقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: ٥٩].
وَالْمَقْصُودُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ تَبَعًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا
عَمَّا هُمْ يَتَطَلَّبُونَهُ فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا مُقِرُّونَ بِأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ الْحَقُّ الَّذِي أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَوِيَّةُ وَالْعِيسَوِيَّةُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْحَنِيفِيَّةَ وَيَأْخُذُونَ بِمَا أَدْرَكُوهُ مِنْ بَقَايَاهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ تَحْرِيفٌ لِلْحَنِيفِيَّةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَامَّةُ الْعَرَبِ غَيْرَ مُتَهَوِّدِينَ وَلَا مُتَنَصِّرِينَ وَيَتَمَسَّكُونَ بِمَا وَجَدُوا آبَاءَهُمْ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ وَقَلَّ مِنْهُمْ مَنْ تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا، وَذَهَبَ نَفَرٌ مِنْهُمْ يَتَطَلَّبُونَ آثَارَ الْحَنِيفِيَّةِ مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
وَخَصَّ الضَّمِيرَ بِ «أَهْلِ الْكِتَابِ» لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: ٤٦].
[٦]
[سُورَة الْبَيِّنَة (٩٨) : آيَة ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦)
بَعْدَ أَنْ أَنَحَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مَعًا ثُمَّ خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالطَّعْنِ فِي تَعَلُّلَاتِهِمْ وَالْإِبْطَالِ لِشُبُهَاتِهِمُ الَّتِي يُتَابِعُهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهَا. أَعْقَبَهُ بِوَعِيدِ الْفَرِيقَيْنِ
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَقَدَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَعِيدِ اسْتِتْبَاعًا لِتَقْدِيمِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي سَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلِأَنَّ مُعْظَمَ الرَّدِّ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى أَحْوَالهم من قَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَة: ٤، ٥]، وَلِأَنَّهُ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ.
ومِنْ بَيَانِيَّةٌ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَة: ١].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، فَإِنَّ الظَّرْفِيَّةَ الَّتِي اقْتَضَتْهَا فِي تُفِيدُ أَنَّهُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَدْ أَنْكَرُوا الْجَزَاءَ رَأْسًا.
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْكَوْنِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِخْبَارٌ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْوَعِيدِ فَإِنَّ الْوَعِيدَ كَالْوَعْدِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ شَأْنُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ غَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِمَا يُعَيِّنُ زَمَانَ وُقُوعِهَا أَنْ تُفِيدَ حُصُولَ مَضْمُونِهَا فِي الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ فِي نِعْمَةٍ.
وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ كَالنَّتِيجَةِ لِكَوْنِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ إِخْبَارٌ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأُرِيدَ بِالْبَرِيئَةِ هُنَا الْبَرِيئَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَهُمُ الْبَشَرُ، فَلَا اعْتِبَارَ لِلشَّيَاطِينِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَهَذَا يُشْبِهُ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ.
وَالْبَرِيئَةُ: فَعِيلَةُ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ صَوَّرَهُمْ.
وَمَعْنَى كَونهم شَرُّ الْبَرِيَّةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ شَرًّا، فَ شَرُّ هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ أَشَرُّ مِثْلَ خَيْرٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَخْيَرَ، فَإِضَافَةُ شَرُّ إِلَى الْبَرِيَّةِ عَلَى نِيَّةِ مِنْ التَّفْضِيلِيَّةِ.
وَإِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بَعْدَ تَلَبُّسِهِمْ بِأَسْبَابِ الْهُدَى، فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِأَنَّ لَدَيْهِمْ كِتَابًا فِيهِ هُدًى وَنُورٌ فَعَدَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا
وَأُقْحِمَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥]. وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِهِمْ شَرَّ الْبَرِيئَةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ فِرَقِ أَهْلِ الْكُفْرِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَلَا يَرِدُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَشَدُّ شَرًّا مِنْهُمْ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّ اسْمَ الْبَرِيئَةِ اعْتُبِرَ إِطْلَاقُهُ على الْبشر.
والْبَرِيَّةِ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِهَمْزٍ بعد الْيَاء فعلية مِنْ بَرَأَ اللَّهُ، إِذَا خَلَقَ.
وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ دُونَ هَمْزٍ عَلَى تَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْكَسْرَةِ يَاءً وَإِدْغَامِ الْيَاءِ الْأُولَى فِي الْيَاءِ الثَّانِيَةِ تَخْفِيفًا.
وَإِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّخْفِيفُ لُغَةُ بَقِيَّةِ الْعَرَبِ، كَمَا تَرَكُوا الْهَمْزَ فِي الدَّرِيَّةِ وَالنَّبِيِّ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَيَقُولُ: تَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ بِالْهَمْزِ غَيْرَ أَنَّهُمْ
تَرَكُوا الْهَمْز فِي النبيّ كَمَا تَرَكُوهُ فِي: الدَّرِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ إِلَّا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ يَهْمِزُونَهَا وَيُخَالِفُونَ الْعَرَبَ فِي ذَلِكَ
[٧، ٨]
[سُورَة الْبَيِّنَة (٩٨) : الْآيَات ٧ الى ٨]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
قُوبِلَ حَالُ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَالُ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَة: ٥]، اسْتِيعَابًا لِأَحْوَالِ الْفِرَقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ نِذَارَةِ الْمُنْذَرِينَ بِبِشَارَةِ الْمُطْمَئِنِّينَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدَّمَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ عَلَى بِشَارَتِهِمْ عَلَى عَكْسِ نَظْمِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي ضِدِّهِمْ لِيَكُونَ ذِكْرُ وَعْدِهِمْ كَالشُّكْرِ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ شَكُورٌ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ تَكَرُّرِ ذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ تَسَاؤُلًا عَنْ حَالِهِمْ لَعَلَّ تَأَخُّرَ إِيمَانِهِمْ إِلَى مَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ فِي التَّنْدِيدِ عَلَيْهِمْ يَجْعَلُهُمْ فِي انْحِطَاطِ دَرَجَةٍ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ هُوَ مَعْدُودٌ فِي خَيْرِ الْبَرِيئَةِ.
وَالْقَوْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَضَمِيرِ الْفَصْل وَالْقصر وهمز الْبَرِيئَةِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ وَالْجُمْلَةُ الْمُخْبَرُ بِهَا عَنْهُ جَمِيعُهَا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ إِنَّ وَجُمْلَةُ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ إِلَى آخِرِهَا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وعِنْدَ رَبِّهِمْ ظَرْفٌ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جَزاؤُهُمْ وَبَيْنَ جَنَّاتُ عَدْنٍ لِلتَّنْوِيهِ بِعِظَمِ الْجَزَاءِ بِأَنَّهُ مُدَّخَرٌ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ تَكْرُمَةً لَهُمْ لِمَا فِي عِنْدَ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْحُظْوَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَمَا فِي لَفْظِ رَبِّهِمْ مِنْ الْإِيمَاءِ إِلَى إِجْزَالِ الْجَزَاءِ بِمَا يُنَاسِبُ عِظَمَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ، وَمَا يُنَاسِبُ شَأْنَ مَنْ يَرُبُّ أَنْ يَبْلُغَ بِمَرْبُوبِهِ عَظِيمَ الْإِحْسَانِ.
وَإِضَافَةُ: جَنَّاتُ إِلَى عَدْنٍ لِإِفَادَةِ أَنَّهَا مَسْكَنُهُمْ لِأَنَّ الْعَدْنَ الْإِقَامَةُ، أَيْ لَيْسَ جَزَاؤُهُمْ تَنَزُّهًا فِي الْجَنَّاتِ بَلْ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا.
وَوَصْفُ الْجَنَّاتِ بِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لِبَيَانِ مُنْتَهَى حُسْنِهَا.
وَجَرْيُ النَّهْرِ مُسْتَعَارٌ لِانْتِقَالِ السَّيْلِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ انْتِقَالِ الْمَاءِ بِسُرْعَةِ الْمَشْيِ.
وَالنَّهْرُ: أُخْدُودٌ عَظِيمٌ فِي الْأَرْضِ يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَجْمُوعِ الْأُخْدُودِ وَمَائِهِ. وَإِسْنَادُ الْجَرْيِ إِلَى الْأَنْهَارِ تَوَسُّعٌ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ الَّذِي يَجْرِي هُوَ مَاؤُهَا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي مَاهِيَّةِ النَّهْرِ.
وَجُعِلَ جَزَاءُ الْجَمَاعَةِ جَمْعَ الْجَنَّاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّوْزِيعِ، أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَنَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٩] وَقَوْلِكَ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ جَنَّاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْفضل لَا ينْحَصر قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦].
وَجُمْلَةُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خالِدِينَ، أَيْ خَالِدِينَ خُلُودًا مُقَارِنًا لِرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ، فَهُمْ فِي مُدَّةِ خُلُودِهِمْ فِيهَا مَحْفُوفُونَ بِآثَارِ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢] وَرِضَى اللَّهِ تَعَلُّقُ إِحْسَانِهِ وَإِكْرَامِهِ لِعَبْدِهِ.
وَأَمَّا الرِّضَى فِي قَوْلِهِ: وَرَضُوا عَنْهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ نَالَهُمْ مِنْ إِحْسَانِ اللَّهِ مَا لَا مَطْلَبَ لَهُمْ فَوْقَهُ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْغَارِ: «فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ»، وَقَوْلُ مَخْرَمَةَ حِينَ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَاءً: «رَضِيَ مَخْرَمَةُ». وَزَادَهُ حُسْنَ وَقْعٍ هُنَا مَا فِيهِ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ.
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ تَذْيِيلٌ آتٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعْدِ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَالْوَعِيدِ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بَيَّنَ بِهِ سَبَبَ الْعَطَاءِ وَسَبَبَ الْحِرْمَانِ وَهُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْطُوقِ الصِّلَةِ وَمَفْهُومِهَا.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَنَالَهُمْ ذَلِكَ الْجَزَاءَ هُوَ خَشْيَتُهُمُ اللَّهَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَشُوا اللَّهَ تَوَقَّعُوا غَضَبَهُ إِذَا لَمْ
يَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَأَقْبَلُوا عَلَى النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ فَاهْتَدَوْا وَآمَنُوا، وَأَمَّا الَّذِينَ آثَرُوا حُظُوظَ الدُّنْيَا فَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَتَوَقَّعُوا غَضَبَ مُرْسِلِهِ فَبَقُوا فِي ضَلَالِهِمْ.
فَمَا صَدَقَ: «مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَشُوا رَبَّهُمْ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ مِلْكًا لِغَيْرِهِمْ فَأَفَادَ حِرْمَانَ الْكَفَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَتَمَّ التَّذْيِيلُ.
وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اللَّهَ، تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَرْعَوْا حق الربوبية إِذْ لَمْ يَخْشَوْا رَبَّهُمْ فَهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم
٩٩- سُورَة الزلزالسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ: إِذا زُلْزِلَتِ رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «نَزَلَتْ إِذَا زلزلت» وَأَبُو كبر قَاعِدٌ فَبَكَى» الْحَدِيثَ (١).
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «إِذَا زُلْزِلَتِ» تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ»
، وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَسُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَمِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الزِّلْزَالِ».
وَسُمِّيَتْ فِي مُصْحَفٍ بِخَطٍّ كُوفِيٍّ قَدِيمٍ مِنْ مَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِ «زُلْزِلَتْ» وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفِ فِي مَكَانِ نُزُولِهَا، وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهَا فِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ»، وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ ذَوَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ هَذِهِ أَلْقَابًا لَهَا بَلْ جَعَلَهَا حِكَايَةَ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا وَلَكِنَّ تَسْمِيَتَهَا سُورَةَ الزَّلْزَلَةِ تَسْمِيَةٌ بِالْمَعْنَى لَا بِحِكَايَةِ بَعْضِ كَلِمَاتِهَا.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَاكُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: مَدَنِيَّةٌ، وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفَاسِيرِهِمْ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَعَلَّهُ يَعْنِي: جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيَّ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ فَإِنَّهَا مَعْدُودَة فِي نزُول السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
آخِرُهَا وَهُوَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧] الْآيَةَ نَزَلَ فِي رَجُلَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ
اهـ. وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ.
_________
(١) تَمَامه:
فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يبكيك يَا أَبَا بكر؟ فَقَالَ: أبكاني هَذِه السُّورَة فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَو أَنكُمْ لَا تخطئون وَلَا تذنبون لخلق الله أمة بعدكم يخطئون ويذنبون وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيغْفر لَهُم»