تفسير سورة البينة

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة البينة من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة البينة
مدنية، وهي ثماني آيات.

﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾ في زمان الماضي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ من أهل الكتاب ﴾ من البيان الموصول، وكفرهم بالإلحاد في صفات الله تعالى، وقولهم : عزير ابن الله، والمسيح ابن الله ﴿ والمشركين ﴾ يعني عبدة الأوثان، عطف على أهل الكتاب ﴿ منفكِّين ﴾ زائلين، متعضلين عن كفرهم الذي كانوا عليه، حذف صلة منفكين لدلالة صلة الذين عليه ﴿ حتى تأتيهم ﴾ لفظه مستقبل أريد به الماضي، أي حتى أتتهم ﴿ البيِّنة ﴾ يعني ما يبين الحق من الباطل، وهو ﴿ رسول من الله ﴾.
﴿ رسول من الله ﴾ يعني محمد صلى الله عليه وسلم بدل من البينة ﴿ يتلوا صحفاً ﴾ الجملة صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم وإن كان أميا لكنه لما كان متلوه مما يكتب في الصحف كان كمن يتلو صحفاً، أي مصاحف ﴿ مطهَّرة ﴾ من الباطل وتصرف الشياطين، أو ممنوعة من مس المحدث والجنب والحائض، قال الله تعالى :﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴾١ وقال :﴿ لا يمسُّه إلا المطهرون ٧٩ ﴾٢.
١ سورة فصلت، الآية: ٤٢..
٢ سورة الواقعة، الآية: ٧٩..
﴿ فيها ﴾ أي في تلك الصحف ﴿ كتب ﴾ مكتوب ﴿ قيِّمة ﴾ عادلة مستقيمة لا عوج فيها، فإذا أتاهم الرسول بين لهم ضلالتهم، وأزال عنهم جهلهم، ودعاهم إلى الإيمان، فانفك عن كفره من وفقه الله للإيمان، وقدر له السعادة.
﴿ وما تفرَّق الذين أوتوا الكتاب ﴾ في الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إلا من بعد ما جاءتهم البيِّنة ﴾ ما مصدرية، والاستثناء مفرغ منصوب المحل على الظرفية متعلق بتفرق، أي ما تفرقوا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في وقت من الأوقات إلا بعد مجيئه، وكانوا قبل ذلك مجتمعين على تصديقه منتظرين لمجيئه ﴿ يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾١ حسداً وعناداً، وجملة ما تفرق عطف على لم يكن، والحاصل أن أهل الكتاب وإن كان بعضهم لمحمداً في صفات الله ونسبه الولد إليه لكنهم كانوا مجتمعين في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لوضوح بيان أمره في كتبهم، ولما كان صفة اجتماعهم على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم مختصا بأهل الكتاب دون المشركين أفرد في هذه الآية ذكرهم لإظهار زيادة شناعة من بقي منهم على الكفر، والآية الأولى لبيان حال المؤمنين من أهل الكتاب ومن المشركين، والآية الثانية لبيان من بقي على الكفر من أهل الكتاب، قال البغوي : وقال بعض أئمة اللغة : معنى قوله ﴿ منفكين ﴾ هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم حتى تهلك، ومعنى الآية لم يكونوا هالكين معذبين إلا بعد قيام الحجة عليهم من إرسال الرسول وإنزال الكتاب، نظيره قوله تعالى :﴿ وما كنَّا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾٢.
١ سورة البقرة، الآية ٨٩..
٢ سورة الإسراء، الآية: ١٥..
﴿ وما أمروا ﴾ يعني هؤلاء الكفار كلهم ﴿ إلا ليعبدوا الله ﴾ قيل : اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة، حذفت إن وزيدت اللام، والجملة في محل النصب على أنه مفعول به لأمروا، أي ما أمروا إلا بأن يعبدوا الله، وقيل : المفعول به محذوف، واللام لام كي، والجملة في محل النصب على العلية، والمعنى ما أمروا بما أمروا به بشيء إلا ليعبدوا، والحاصل أنهم ما أمروا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بشيء حين ذاته تدل الأدلة العقلية على حسنه، وقد أمروا بذلك فيما سبق من الكتب المنزلة، فعجباً من المنكرين كيف أنكروا، وكيف تفرقوا فيه. ﴿ مخلصين ﴾ حال من فاعل يعبدوا ﴿ له ﴾ أي الله ﴿ الدين ﴾ أي الاعتقاد عن الشرك بغيره ﴿ حنفاء ﴾ حال مرادف، أو متداخل لمخلصين، أي مائلين عن الأديان الباطلة كلها، قال ابن عباس : معناه وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله موحدين ﴿ ويقيموا ﴾ عطف على يعبدوا ﴿ الصلاة ﴾ المكتوبة في أوقاتها ﴿ ويؤتوا الزكاة ﴾ عند محلها ﴿ وذلك ﴾ الذي أمروا به على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ دين القيِّمة ﴾ أي الأمة القائمة الراسخة على الحق من الأنبياء والماضين وأتباعهم الصالحين، قال البغوي : قال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى :﴿ وذلك دين القيِّمة ﴾ فقال : القيمة والقيم والقائم واحد، مجاز الآية : وذلك دين القيمة لله بالتوحيد، أو المعنى وذلك دين الكتاب القيمة التي لا عوج فيها التي جرى ذكرها في ضمن الذين أتوا الكتاب، وقيل : معناه ذلك طريق الملة والشريعة القيمة المستقيمة، قال البغوي : أضاف الدين إلى القيمة - وهي لغة - لاختلاف اللفظين، وأنث القيمة بتأويلها إلى الملة، ولما ورد ذكر المؤمنين والكافرين استأنف الله سبحانه بالوعد والوعيد للفريقين فقال :﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شرُّ البريَّة ٦ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريَّة ٧ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ٨ ﴾.
﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ﴾ اسم وخبره ما بعده ﴿ في نار جهنم خالدين فيها ﴾ حال مقدرة من فاعل الظرف ﴿ أولئك هم شر البريَّة ﴾ أي شر الخلائق أجمعين حتى الكلاب والخنازير، والجملة إما تذييل أو خبر ؛ لأن بعد خبر وهم ضمير الفصل، قرأ نافع وابن ذكروان البرية في الموضعين بالهمزة، والباقون بتشديد الياء بغير همزة.
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير ﴾ أجمعين حتى ﴿ البريَّة ﴾ الملائكة المعصومين، ومن ها هنا قالوا : إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة وعوام البشر، أعني المؤمنين الصالحين أرباب القلوب الصافية والنفوس الزاكية أفضل من عوام الملائكة، وأما غير الصالحين من المؤمنين فيلتحقون بالصالحين بعدما يتمحضون من الذنوب إما بالمغفرة أو بالعقاب، ويدخلون الجنة.
﴿ جزاؤهم ﴾ مبتدأ ﴿ عند ربهم ﴾ ظرف لجزاءهم ﴿ جنات عدن ﴾ أي إقامة خبر لجزائهم ﴿ تجري من تحتها ﴾ أي من تحت قصورها وأشجارها ﴿ الأنهار ﴾ فاعل يجري على المجاز، والجملة صفة لجنات ﴿ خالدين فيها ﴾ في جنات حال منهم في جزاءهم ﴿ أبدا ﴾ ظرف لخالدين، قال البيضاوي : فيه مبالغات تقديم المدح وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، والحكم عليه بأنه من عند ربهم، وجمع جنات وتقيدها إضافة، ووصفها بما يزداد بها نعيما وتأكيد الخلود بالتأبيد ﴿ رضي الله عنهم ﴾ هذا نعمة زاد من الجنات وما فيها فضل الله. عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك. فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم يعط أحد من خلقك. فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب أي شيء أفضل من ذلك. فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " ١ متفق عليه. قلت : لعل المراد من قوله :" ما لم يعط أحد من خلقه " ما لم يعط الملائكة، وإلا فليس غير أهل الجنة إلا أهل النار، ولا يجوز القول بالتفضيل عليهم ﴿ ورضوا عنه ﴾ قال البغوي : قيل : الرضا ينقسم قسمين : رضي الله به، ورضي عنه. رضي به رباً ومدبراً، ورضي عنه فيها يقضي ويقدر. وقلت : والرضى عنه على أقسام : قسم منه معناه ترك الاعتراض عليه، والاعتقاد بأن كل ما فعل هو الحسن في نفس الأمر، وإن خفي علينا وجه حسنه، وهذا القسم من الرضا واجب على العباد في كل ما قضي الله عليه من مرغوب ومكروه عنده، غير أنه إن صدر عنه المعصية أو عن غيره لا يرضى عن الكفر والمعصية من حيث صدوره عن العبد وكسبه، فإن صدور الكفر والمعصية عن العبد وكسبه به غير مرضي الله، وإن كان صادراً بإرادة الله وخلقه، ومناط التكليف في وجوب هذا القسم من الرضاء العقل والاستدلال، فإن العاقل إذا لاحظ أن الله تعالى مالك للأشياء كلها، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، والاعتراض إنما يتوجه على من يتصرف في ملك بغير إذنه، ولاحظ أنه تعالى حكيم لا يفعل إلا على ما اقتضاه الحكمة رضي الله به، وإن اختلج شيء في صدره فذلك لأجل نقصان في عقله ودينه وبقية كفر في نفسه الأمارة بالسوء، وإلى هذا القسم من الرضا أشار السري السقطي رضي الله عنه : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضى عنك ؟ وقسم منه معناه كون مقتضيات الله محبوباً له مرغوباً عنده، وإن كان على خلاف هواه، ومنشأه العشق والمحبة بالله سبحانه، فإن فعل المحبوب ومراده أحب عند المحب من مراد نفسه، ومن ها هنا قال الشاعر :
فإن فرحت بهجري رضيت بالضروري
وقسم منه معناه بلوغ المراد أقصى ما يتمناه ويشتهيه وهو المراد ها هنا، ومن قوله تعالى :﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ٥ ﴾٢ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار "، وقد مر في سورة الضحى ﴿ ذلك ﴾ المذكور من الجزاء والرضوان ﴿ لمن خشيَ ربه ﴾ فإن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير، والناهي عن كل معصية وشر، وجملة ذلك لمن خشي ربه في مقام التعليل بقوله تعالى : جزاءهم. عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي :" إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، - وفي رواية " أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا " - قال : الله سماني لك ؟ قال : نعم. قال : وقد ذكرت عند رب العالمين ؟ قال : نعم. فذرفت عينه )٣ متفق عليه، قلت : وما ذكر في الحديث من حال أُبي هواية عشاق، والله تعالى أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار (٦٥٤٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة (٢٨٢٩)..
٢ سورة الضحى، الآية: ٥..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة البينة (٤٩٦١)، وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق فيه وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه (٧٩٩)..
Icon