ﰡ
ففي الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه نزلت هذه السورة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: من اليهود والنصارى، وإيراد (١) الصلة فعلًا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم؛ أي: حال كونهم من أهل الكتاب، ﴿و﴾ من ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ عبدة الأوثان، و ﴿مِنْ﴾ للتبيين، لا للتبعيض حتى يلزم أن لا يكون بعض المشركين كافرين، وذلك أن الكفار كانوا جنسين: أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى، والمشركين وهم الذين لا ينسبون إلى كتاب الله، فذكر الله سبحانه الجنسين بقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ على الإجمال، ثم أردف ذلك الإجمال بالتفصيل والتبيين، وهو قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ وهو حال من الواو في ﴿كَفَرُوا﴾؛ أي: كائنين منهم. ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ خبر كان؛ أي: لم يكونوا زائلين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان، والعزم على إنجازه.
وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه حتى إنهم كانوا يستفتحون بالنبي المبعوث، ويقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وإما من ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ فلعله قد وقع من متأخريهم بعدما شاع
وعبارة "الخازن" هنا: قوله عز وجل: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني: اليهود والنصارى ﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: ومن المشركين وهم: عبدة الأوثان، وذلك أن الكفار كانوا جنسين:
أحدهما: أهل كتاب، وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم، أما اليهود فقدلهم: عزير ابن الله وتشبيههم الله سبحانه بخلقه، وأما النصارى فقولهم: المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك.
والثاني: المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله، فذكر الله جنسين في قوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾؛ أي: منتهين عن كفرهم وشركهم، وقيل معناه: زائلين ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُم﴾؛ أي: حتى أتتهم، لفظه مضارع ومعناه الماضي ﴿الْبَيِّنَةُ﴾؛ أي: الحجة الواضحة يعني: محمدًا - ﷺ - أتاهم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وشركهم، وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان فآمنوا، فانقذهم الله تعالى من الجهالة والضلالة، ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم، والآية فيمن آمن من الفريقين.
أولها - وأحسنها -: الوجه الذي لخصه صاحب "الكشاف" وهو: أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان، كانوا يقولون قبل مبعث محمد - ﷺ - لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يُبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد - ﷺ -، فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه، ثم قال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾؛ أي: إنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق؛ إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه. لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى فيزداد فسقًا، فيقول واعظه: لم تكن منفكًا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار، فيذكِّره ما كان يقول أولًا توبيخًا وإلزامًا.
قال الإِمام فخر الدين: وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١)﴾ مذكور حكاية عنهم، وقوله: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ إخبار عن الواقع. والمعنى: أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا ووعدوا.
وثانيها: أن تقدير الآية؛ لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة ﴿حَتَّى﴾ بهذا ليس من
٢ - ثم فسر البينة، فقال: ﴿رَسُولٌ﴾ بدل اشتمال من ﴿الْبَيِّنَةُ﴾، عبر عنه - ﷺ - بها، للإيذان بغاية ظهور أمره، وكونه ذلك الموعود في الكتابين؛ أي: تلك البينة: رسول كائن ﴿مِنَ اللَّه﴾ سبحانه وتعالى متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾، مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية؛ أي: رسول؛ أي: رسول كائن منه تعالى. ﴿يَتْلُو﴾ صفة آخرى لـ ﴿رَسُولٌ﴾؛ أي: يقرأ ذلك الرسول - ﷺ - ﴿صُحُفًا﴾؛ أي: كتبًا يريد ما تضمنه المصحف من الآيات المكتوبة فيه، وهو القرآن؛ لأنه - ﷺ - كان يقرأ عن ظهر قلبه، لا عن كتاب لكونه أميًا، لكنه لما تلا ما في الصحف كان كالتالي لها، وقيل المراد: جبريل، قاله البيضاوي. جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب، ومحله من الأوراق. ﴿مُطَهَّرَةً﴾؛ أي: منزهة من الباطل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أن يمسه غير المطهرين، وفي "الروح": ونسبة التلاوة إلى الصحف، وهي القراطيس مجازية هي مجاز عما فيها بعلاقة الحلول، والمراد أنه لما كان ما يتلوه الذي هو القرآن مصدقًا لصحف الأولين مطابقًا لها في أصول الشرائع والأحكام.. صار متلوه كأنه صحف الأولين وكتبهم، فعبر عنه باسم الصحف مجازًا، وعبارة أبي حيان: ﴿يَتْلُو صُحُفًا﴾؛ أي: قراطيس ﴿مُطَهَّرَةً﴾ من الباطل، ﴿فِيهَا كُتُبٌ﴾؛ أي: مكتوبات ﴿قَيِّمَةٌ﴾؛ أي: مستقيمة ناطقة بالحق.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ وقرأ ابن مسعود ﴿لم يكن المشركين وأهل الكتاب﴾ قال ابن العربي هي قراءة في معرض البيان لا في معرض التلاوة، وقرأ الأعمش والنخعي؛ ﴿والمشركون﴾ - بالرفع - عطفًا على الموصول، وقرأ أبي: ﴿فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون﴾ وقرأ الجمهور: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ برفع ﴿رَسُولٌ﴾ على أنه بدل اشتمال، أو بدل كل من كل مبالغة، قال الزجاج: ﴿رَسُولٌ﴾ رُفع على البدل من ﴿الْبَيِّنَةُ﴾، وقال الفراء: رُفع على أنه خبر مبتدأ مضمر؛ أي: هي رسول، أو هو رسول، وقرأ أبي وابن مسعود: ﴿رسولًا﴾ - بالنصب - على القطع، وقوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾ كما مر، ويجوز تعلقه بنفس ﴿رَسُولٌ﴾.
والمعنى: أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها؛ لأنه - ﷺ - كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب، كما مر.
٣ - وقوله: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)﴾ صفة لـ ﴿صُحُفًا﴾، من حال من ضميرها؛ أي: في تلك الصحف أمور مكتوبة مستقيمة ناطقة بالحق والصواب، والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها، وفي "المفردات": فيه إشارة إلى ما فيه من معاني كتب الله، فإن القرآن مجمع ثمرة كتب الله المتقدمة.
والمعنى (١): أي هذه البينة هي محمد - ﷺ - يتلو لهم صحف القرآن المطهرة من الخلط والزيغ والتدليس والتي تنبعث منها أشعة الحق، كما قال: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ وفيها الصحيح القويم من كتب الأنبياء السابقين كموسى وعيسى وإبراهيم، كما قال: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)﴾، وقال: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)﴾.
وقد يكون المراد بالكتب سور القرآن وآياته، فإن كل سورة منه كتاب قويم، من الأحكام والشرائع التي تضمنها كلام الله تعالى والتي يتبين بها الحق من الباطل، كما قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وقُصارى ذلك (٢): أنّ حال الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين بعد مجيء الرسول تخالف حالهم قبلها، فقد كانوا قبل مجيئه كفارًا يتيهون في عماية من الأهواء والجهالات، فلما بُعث آمن به قوم منهم، فلم تبق حالهم كما كانت قبل
(٢) المراغي.
٤ - ثم سلَّى رسوله - ﷺ - عن تفرق القوم في شأنه، فقال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ عما كانوا عليه من الوعد، وإفراد (١) أهل الكتاب بالذكر هنا بعد الجمع بينهم وبين المشركين أولًا؛ للدلالة على شناعة حالهم، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى، فخصوا بالذكر؛ لأن جحود العالِم أقبح وأشنع من إنكار الجاهل، وقوله: ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ استثناء مفرَّغ من أعم الأوقات؛ أي: وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله - ﷺ - هو الموعود في كتبهم دلالة جلية واضحة لا ريب فيها، وهي بعثة رسول الله - ﷺ - بالشريعة الغرّاء والمحجة البيضاء، وقيل: ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل، كقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾.
قال المفسرون (٢): لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد - ﷺ - حتى بعثه الله تعالى، فلما بُعث تفرقوا في أمره، واختلفوا فيه فآمن به بعضهم، وكفر به آخرون، وقال القرطبي: قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين، وقوله: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ....﴾ إلخ فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج.
والمعنى (٣): أي لا تبخع نفسك عليهم حسرات، ولا يكونن في صدرك حرج منهم، فإن هذا شأنهم الذي درجوا عليه، وديدنهم وديدن أسلافهم الذين بدلوا وافتروا على أنبيائهم وتفرقوا طرائق قددًا حتى صار أهل كل مذهب يُبطل ما عند غيره بغيًا وعدوانًا وقولًا بالتشهي والهوى، ولم يكن تفرقهم لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم، فهم إن جحدوا بينتك فقد جحدوا بينة مَن قبلك، وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات الله بعدما استيقنتها أنفسهم، وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
٥ - ثم أنبهم ووبخهم على ما صاروا إليه من الأفعال، وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضلال، فقال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ جملة (١) حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا، ومفيدة لتقريعهم وتوبيخهم على ما ارتكبوا من التفرق بعد مجيء البينة؛ أي: تفرقوا بعد مجيء البينة، والحال أنهم ما أمروا بما أُمروا به في كتبهم لشيء من الأمور، ولمصلحة من المصالح، ولحكمة من الحكم إلا لحكمة أن يعبدوا الله سبحانه ويخضعوا له، ويتذللوا له بامتثال مأموراته واجتناب منهياته التي منها الإيمان بمحمد - ﷺ -، والاجتناب من تكذيبه، وهذه ﴿اللام﴾ في الحقيقة لام الحكمة والمصلحة، يعني: أن فعله تعالى وإن لم يكن معللًا بالغرض إلا أنه مغيًا بالحكم والمصالح، وكثيرًا ما تُستعمل لام الغرض في الحكمة المترتبة على الفعل تشبيهًا لها بها في ترتبها على الفعل بحسب الوجود.
والأولى (٢) أن تكون ﴿اللام﴾ بمعنى الباء، وأن مضمرة، والمعنى: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله تعالى، وقال بعضهم الأظهر أن تُجعل ﴿لام﴾ ﴿لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ زائدة، كما تزاد في صلة الإرادة، فيقال: أردتُ لتقوم، لتنزيل الأمر منزلة الإرادة، فيكون المأمور به هذه الأمور من العبادة ونحوها، كما هو ظاهر، نظيره قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾؛ أي: أن يبين لكم، وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾؛ أي: أن يطفئوا، وفي حصر (٣) علة كونهم مأمورين بما في كتبهم من عبادة الله بالإخلاص حيث قيل: وما أمروا بما أمروا إلا لأجل أن يتذللّوا له ويعظموه غاية التذلل والتعظيم ولا يطلبوا في امتثال ما كلفوا به شيئًا آخر سو التذلل لربهم ومالكهم، كثواب الجنة والخلاص من النار.. دليل على ما ذهب إليه أهل السنة من أن العبادة ما وجبت؛ لكونها مفضية إلى ثواب الجنة، أو إلى البعد من عذاب النار، بل لأجل أنك عبد وهو رب، ولو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب ألبتة، وأمرك بالعبادة لمحض العبودية ومقتضى الربوبية والمالكية، وفيه أيضًا إشارة إلى أن مَن عَبَدَ الله للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة، فالمقصود الأصلي من العبادة هو المعبود، وكذا الغاية من العرفان
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
وقرأ الجمهور: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾، وقرأ عبد الله: ﴿إلا أن يعبدوا الله﴾ بإبدال اللام بأن، وقوله: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ حال من الفاعل في ﴿لِيَعْبُدُوا﴾؛ أي: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله سبحانه حال كونهم جاعلين دينهم وعملهم خالصًا له تعالى، من جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين والعمل.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مُخْلِصِينَ﴾ - بكسر اللام - و ﴿الدِّينَ﴾ منصوب به، وقرأ الحسن: بفتحها؛ أي: يخلصون هم أنفسهم في نياتهم، وانتصب ﴿الدِّينَ﴾ إما على المصدر من ﴿لِيَعْبُدُوا﴾؛ أي: ليَدِينوا الله بالعبادة الدين، وإما على إسقاط الخافض؛ أي: في الدين.
والإخلاص (٢): أن لا يطلع على عملك إلا الله، ولا تطلب منه ثوابًا اهـ "كرخي". وقال الشهاب: الإخلاص: عدم الشرك، وأنه ليس بمعنى الإخلاص المتعارف اهـ. وفي "الروح": الإخلاص (٣): أن يأتي بالفعل خالصًا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، فالعبادة لجلب المنفعة أو لدفع المضرة ليست من قبيل الإخلاص، فالإخلاص في العبودية تجريد السر عما سوى الله تعالى وقال بعضهم: الإخلاص: أن لا يطلع على عملك إلا الله، ولا ترى نفسك فيه، وتعلم أن المنة لله عليك في ذلك حيث أهَّلك لعبادته ووفقك لها، ولا تطلب من الله أجرًا وعوضًا.
وقوله: ﴿حُنَفَاءَ﴾؛ أي: مائلين من جميع العقائد الزائغة إلى الإِسلام، وهو في المعنى تأكيد للإخلاص؛ إذ هو الميل عن الاعتقاد الفاسد، وأكبره اعتقاد الشركة، وأصل الحَنَف: الميل وانقلاب ظهر القدم حتى يصير بطنًا، فالأحنف هو الذي يمشي على ظهر قدميه في شقها الذي يلي خنصرها، ويجيء الحنف بمعنى الاستقامة، فمعنى حنفاء: مستقيمين، فعلى هذا إنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل، كقولك للأعمى بصير، وللحبشي كافور، وللطاعون مبارك، وللمهلكة
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
وقوله: ﴿حُنَفَاءَ﴾؛ إما حال من فاعل ﴿يعبدوا﴾ على قول من جوَّز حالين من ذي حال واحد، أو من الضمير المستكن في ﴿مُخْلِصِينَ﴾ على قول من لا يجوِّز ذلك، فتكون حالًا متداخلة.
وقوله: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ التي هي العمدة في باب العبادة البدنية، معطوف على ﴿يعبدوا﴾، وكذا ما بعده، وإقامتها: أداؤها في أوقاتها بشرائطها وأركانها وهيئاتها ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ التي هي الأساس في العبادات المالية، وإيتاؤها: صرفها إلى مستحقها عند محلها، قال في "الإرشاد" (١): إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة، فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا، فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها.
والمعنى: أي إنهم تفرقوا واختلفوا، وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم، وما يجلب لهم سعادة في معاشهم ومعادهم من إخلاص لله في السر والعلن، وتخليص أعمالهم من الشرك به واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له، كما قال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، وقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾، والمراد من إقامة الصلاة: الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود؛ ليعتاد الخضوع له، وبإيتاء الزكاة: إنفاقها فيما عيَّن لها في الكتاب الكريم من المصارف.
﴿وَذَلِكَ﴾ المذكور من عبادة الله تعالى وإخلاصها وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾؛ أي: دين (٢) الملة المستقيمة، قَدَّر الموصوف لئلا يلزم إضافة الشيء إلى صفته، وهي بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه، وصحة إضافة الدين إلى الملة باعتبار التغاير الاعتباري بينهما، فإن الشريعة المبلغة إلى الأمة بتبليغ الرسول إياها من قبل الله تسمى ملة باعتبار أنها تُكتب وتملى، ودينًا باعتبار أنها تطاع، فإن الدين الطاعة يقال: وإن له إذا أطاعه، وقال الكاشفي: أضاف الدين إلى القيِّمة وهي
(٢) روح البيان.
وأنث ﴿الْقَيِّمَةِ﴾ (١)؛ لأن الآيات هائية، فرد الدين إلى الملة، كما في "كشف الأسرار" والقيِّمة بمعنى المستقيمة التي لا عوج فيها، وقال الراغب: القيمة هنا اسم الأمة القائمة بالقسط المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾.
قال ابن الشيخ: بعض أهل الأديان بالغوا في باب الأعمال من غير إحكام الأصول، وهم اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم ربما أتعبوا أنفسهم في الطاعات، ولكنهم ما حصَّلوا الدين الحق بتحصيل الاعتقاد المطابق، وبعضهم حصلوا الأصول، وأهملوا في الفروع وهم: المرجئة الذين يقولون: لا تضر المعصية مع الإيمان، فالله تعالى خَطَّأَ الفريقين في هذه الآية، وبيَّن أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله: ﴿مُخْلِصِينَ﴾، ومن العمل في قوله: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾، ثم قال: وذلك المجموع كله هو دين الملة المستقيمة المعتدلة، فكما أن مجموع الأعضاء بدن واحد، كذلك هذا المجموع دين واحد، وقال محمد (٢) بن الأشعب الطالقاني: ﴿الْقَيِّمَةِ﴾ هنا: الكتب التي تجري ذكرها، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة كانت الألف واللام في ﴿الْقَيِّمَةِ﴾ للعهد، كقوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ وقرأ عبد الله: ﴿وذلك الدين القيمة﴾.
فالهاء في هذه القراءة للمبالغة، أو أنَّث على أن عني بالدين الملة، كقوله: ما هذه الصوت؟ يريد ما هذه الصيحة؟ والمعنى؛ أي (٣): هذا الذي ذُكر من إخلاص العبادة للخالق، والميل عن الشرك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو الدين الذي جاء في الكتب القيمة.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٦ - ثم بيَّن سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ وهذا (١) شروع في بيان مقر الأشقياء وجزاء السعداء، وحكم على الكفار من الفريقين بأمرين:
أحدهما: الخلود في النار.
والثاني: كونهم شر البرية، وبدأ بأهل الكتاب؛ لأنهم كانوا يطعنون في نبوته - ﷺ -، فجنايتهم أعظم؛ لأنهم أنكروه مع العلم به، و ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ ظاهره العموم، وقيل: ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ الذين عاصروا الرسول - ﷺ -؛ إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم الماضية من هو شر من هؤلاء كفرعون وعاقر ناقة صالح عليه السلام اهـ من "البحر"، وذكر المشركين؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حَسَب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم.
وقوله: ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾؛ أي: مشتركون (٢) في نار جهنم؛ أي: في جنس العذاب لا في نوعه، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب؛ لأن المشركين ينكرون التوحيد والرسالة والكتاب والبعث وما يترتب عليها، وأهل الكتاب يؤمنون بأكثرها، كإقرارهم بالبعث، ومقتضى الحكمة أن يزاد في عذاب من زاد كفره على عذاب غيره، وقد سوى بينهم في هذه الآية بحسب الظاهر اهـ "شهاب"، و"زاده".
ومعنى كونهم فيها أنهم يصيرون إليها يوم القيامة، وإيراد (٣) الجملة الاسمية
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
وقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ حال من المستكن في الخبر، واشتراك الفريقين في دخول دار العذاب بطريق الخلود؛ لأجل كفرهم لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية، فإن جهنم دركات وعذابها ألوان، فالمشركون كانوا ينكرون الصانع والنبوة والقيامة، وأهل الكتاب نبوة محمد - ﷺ - فقط، فكان كفرهم أخف من كفر المشركين، لكنهم اشتركوا في أعظم الجنايات التي هي الكفر، فاستحقوا أعظم العقوبات وهو الخلود، ولما كفروا طلبًا للرفعة صاروا إلى أسفل السافلين، فإن جهنم نار في موضع عميق مظلم هائر يقال: بئر جِهنَّام إذا كانت بعيدة القعر، واشتراكهم في هذا الجنس من العذاب لا يوجب اشتراكهم في نوعه كما مر آنفًا، ولم يقل هنا أبدًا، كما قاله فيما بعد في ثواب أهل الجنة؛ لأن رحمته أزيد من غضبه فلم يتفق الخلودان في الأبدية اهـ. "فتوحات".
والمعنى (١): أي إن هؤلاء الذين دسوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه، كما يعرفون أبناءهم يجازبهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدًا، فيدخلهم نارًا تلظَّى جزاء ما كسبت أيديهم، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي، وهدت إليه الفطرة، والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ البعداء المذكررون، إلى من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها ﴿هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾؛ أي: شر الخليقة وأخسهم، والبرية جميع الخلق؛ لأن الله سبحانه برأهم؛ أي: أوجدهم بعد العدم، يقال: برأ؛ أي: خلق، والبارىء: الخالق، والبرية: الخليقة (٢)، وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع وابن ذكوان: ﴿البرئة﴾ بالهمز في الموضعين، من برأ بمعنى خلق، وقرأ الجمهور: ﴿الْبَرِيَّةِ﴾ بشد الياء فيهما، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سُهل بالإبدال وأُدغم، واحتمل أن يكون من البراء وهو التراب، قال الفراء (٣): إن أُخذت البرية من البراء؛
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
والمعنى (١): أولئك الأشقياء المذكورون شر الخليقة؛ أي: أعمالًا وهو الموافق لما سيأتي في حق المؤمنين، فيكون في حيز التعليل لخلودهم في النار، من شرهم مقامًا ومصيرًا، فيكون تأكيدًا لفظاعة حالهم، وتوسيط ضمير الفصل؛ لإفادة الحصر؛ أي: هم شر البرية دون غيرهم كيف لا وهم شر من السراق؛ لأنهم سرقوا وأخفوا من كتاب الله نعوت محمد - ﷺ - وشر من قطّاع الطريق لأنهم قطعوا الدين الحق على الخلق، وشر من الجهال الأجلاف؛ لأن الكفر مع العلم يكون كفر عناد، فيكون أقبح من كفر الجهال، فقوله: ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ أفعل تفضيل؛ لأنهم أشر من هؤلاء المذكورين، وظهر منه أن وعيد العلماء السوء أعظم من وعيد كل أحد، ومن تاب منهم وأسلم خرج من الوعيد، وقيل: لا يجوز أن يدخل في الآية ما مضى من الكفار؛ لأن فرعون كان شرًا منهم كما مر آنفًا، وأما الآية الثانية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر؛ لأنهم أفضل الأمم، والمعنى: هم شر الخليقة على الإطلاق؛ إذ منكِر الحق بعد معرفته وقيام الدليل عليه، منكِر لعقله، جالب لنفسه الدمار والوبال،
٧ - وبعد أن ذكر جزاء الجاحدين الكافرين.. أردفه جزاء المؤمنين المخبتين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله وبما بعثوا به ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: الأعمال الصالحة؛ أي: جمعوا بين الإيمان والعلم والعمل الصالح، ويُفهم من مقابلة الجمع بالجمع أنه لا يكلَّف الواحد بجميع الصالحات، بل لكل مكلف حظ، فحظ الغني الإعطاء، وحظ الفقير الأخذ والصبر والقناعة ﴿أُولَئِكَ﴾ المنعوتون بما هو في الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة ﴿هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ استُدل بالآية على أن البشر أفضل من المَلَك؛ لظهور أن المراد بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو البشر، والبرية يشمل المَلَك والجن.
سئل الحسن رحمه الله تعالى عن قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ أهم خير من
وقرأ الجمهور: ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ مقابل ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾، وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد: ﴿خيار البرية﴾ جمع خَيِّر، كجيّد وجياد. ذكره في "البحر".
٨ - ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾؛ أي: ثوابهم بمقابلة ما وقع لهم من الإيمان والعمل الصالح، وهو مبتدأ ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: عند خالقهم ظرف للجزاء ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾؛ أي: دخول جنات عدن، وهو خبر للمبتدأ، والعدن الإقامة والدوام، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ﴿عَدْنٍ﴾ بطنان الجنة؛ أي: وسطها، والمراد بـ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ أوسط الجنات وأفضلها، يقال: عدن بالمكان يعدن عدنًا إذا أقام، ومعدن الشيء مركزه ومستقره ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل، وفي "الإرشاد": إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة الأغصان، كما هو الظاهر فجريان الأنهار من تحتها فظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض وما عليها، فهو باعتبار الجزء الظاهر وأيًا ما كان، فالمراد: جريانها بغير أخدود.
وجمع ﴿جَنَّاتُ﴾ (١) يدل على أن للمكلف جنات، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)﴾، ثم قال: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢)﴾ فذكر للواحد أربع جنات، والسبب فيه أنه بكى من خوف الله تعالى، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان.
وقيل: إنه تعالى قابل الجمع بالجمع في قوله: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ﴾ وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فيكون لكل مكلف جنة واحدة، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روي مرفوعًا، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ والألف واللام في الأنهار للتعريف، فتكون منصرفة إلى الأنهار الأربعة المذكورة في القرآن، وهي نهر الماء ونهر اللبن ونهر العسل ونهر الخمر، وفي
والمعنى: قبل أعمالهم وجازاهم عليها، قال ابن الشيخ: لما كان المكلف مخلوقًا من جسد وروح، وأنه اجتهد بهما في طاعة ربه.. اقتضت الحكمة أن يجزيه بما يتنعم ويستريح به كل واحد منهما، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة، وجنة الروح هي رضا الرب جل جلاله ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ حيث بلغوا من المطالب قاصيتها، وملكوا من المآرب ناصيتها، وأبيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا سيما أنهم أعطوا لقاء الرب الذي هو المقصد الأقصى، والمعنى؛ أي: فرحوا بما أعطاهم من أنواع الكرامة.
وحاصل المعنى (١): أي هؤلاء يجزيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدًا، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا، وعلينا أن نؤمن بالجنة، ولا نبحث عن حقيقتها، ولا أين موضعها، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه، ثم ذكر أسباب هذا الجزاء، فقال: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾؛ أي: إنهم حازوا رضا الله تعالى بالتزام حدود شريعته، فحمدوا مغبة أعمالهم، ونالوا ما يرضيهم في دنياهم وآخرتهم، قال الراغب: رضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرًا بأمره
﴿وَذَلِكَ﴾ المذكور من الجزاء والرضوان، وقال بعضهم (١): الأظهر أنه إشارة إلى ما ترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح.
وعبارة "السمين": ذلك المذكور من الاستقرار في الجنة مع الخلود فيها ومن رضا الله عنهم كائن ﴿لِمَنْ خَشِيَ﴾ وخاف ﴿رَبَّهُ﴾ بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ أي: ذلك المذكور كائن لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له لا مجرد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه، فإنها ليست بخشية على الحقيقة.
والمعنى (٢): أي هذا الجزاء الحسن إنما يكون لمن ملأت قلبه الخشية والخوف من ربه، وفي ذلك تحذير من خشية غير الله، وتنفير من إشراك غيره به في جميع الأعمال، كما أن فيه ترغيبًا في تذكر الله ورهبته لدى كل عمل من أعمال البر حتى يكون العمل له خالصًا، إلى أن فيه إيماء إلى أن أداء بعض العبادات كالصلاة والصوم بحركات وسكنات مجردين عن الخشية لا يكفي في نيل ما أعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات من الجزاء؛ لأن الخشية لم تحل قلوبهم ولم تهذب نفوسهم، وتلك الخشية التي هي من خصائص العلماء بشؤون الله تعالى مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية؛ للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية.
الإعراب
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢)﴾.
﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَكُنِ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الموصول، أو من الواو في
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)﴾.
﴿فِيهَا﴾: خبر مقدم. ﴿كُتُبٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿قَيِّمَةٌ﴾: نعت للكتب؛ أي: مستقيمة ناطقة بالحق والعدل، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿صُحُفًا﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿تَفَرَّقَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿أُوتُوا﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أُوتُوا﴾؛ لأنه بمعنى أعطوا، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَفَرَّقَ﴾. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿جَاءَتْهُمُ﴾: فعل ماض ومفعول به مقدم. ﴿الْبَيِّنَةُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، و ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بضافة الظرف إليه، التقدير: وما تفرقوا إلا من بعد مجيء البينة إياهم. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أُمِرُوا﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿تَفَرَّقَ﴾ أعني: الموصول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿لِيَعْبُدُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر زائد، أو بمعنى الباء، ﴿يعبدوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وعلامة نصبه حذف النون. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض إن قلنا: ﴿اللام﴾: زائدة، تقديره إلا عبادة الله؛ أي: إلا بعبادة الله، أو
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول. ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾: جار ومجرور حال من الموصول. ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان حال الفريقين ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾: ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ثان، أو ضمير فصل. ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾: خبر ﴿هُمْ﴾، أو خبر ﴿أُولَئِكَ﴾، وجملة ﴿أُولَئِكَ﴾ خبر ثان لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمْ﴾: ضمير فصل. ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة.
﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)﴾.
﴿جَزَاؤُهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾، أو حال من الضمير في ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾. ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو خبر ثان لـ ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾: صفة لـ ﴿جَنَّاتُ﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾:
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿يَكُنِ﴾: أصله يكون، دخل عليه الجازم، فسكن آخره فصار لم يكون، فالتقى ساكنان فحذفت الواو، فصار يكن.
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى والمجوس ﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾ عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ اسم فاعل من انفك من باب انفعل الخماسي، وانفكاك الشيء عن الشيء أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله، والمعنى: أنهم متعلقون بدينهم لا يتركونه ولا يرومون انفكاكًا عنه، قال الأزهري: وليس هو من باب ما انفك وما برح، وإنما هو من باب انفكاك الشيء عن الشيء؛ أي: انفصاله عنه.
﴿الْبَيِّنَةُ﴾ الحجة الواضحة، وزن فيعلة، أدغمت ياء فيعلة في عين الكلمة.
﴿صُحُفًا﴾ جمع صحيفة، وهي الأوراق والقراطيس التي يُكتب فيها. ﴿مُطَهَّرَةً﴾؛ أي: مبرأة من الزور والضلال ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)﴾؛ أي: أمور مكتوبة مستقيمة ناطقة بالحق والصواب التي لا عوج فيها، وأصل ﴿قَيِّمَةٌ﴾: قيومة بوزن فعيلة، اجتمعت الواو والياء وسُبقت إحداهما ساكنة، فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء.
﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ والعبادة هي: التذلل، ومنه طريق معبد؛ أي: مذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ؛ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام وما أطاعوهم، ولكن في الشرع صارت اسمًا لكل طاعة لله أديت له على وجه التذلل
﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ والإخلاص: أن يأتي بالفعل خالصًا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، فالعبادة لجلب المنفعة، أو لدفع المضرة ليست من قبيل الإخلاص، وقال الكرخي: والإخلاص أن لا يطلع على عملك إلا الله، ولا تطلب منه ثوابًا اهـ، وقال الشهاب: الإخلاص هنا عدم الشرك، وأنه ليس بمعنى الإخلاص المتعارف اهـ.
والدين: العبادة، واخلاص الدين لله: تنقيته من أدران الشرك. ﴿حُنَفَاءَ﴾: واحدهم حنيف، كشرفاء جمع شريف، وهو في الأصل المائل المنحرف، والمراد به هنا المنحرف عن الزيغ إلى إسلام الوجه لله تعالى.
﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ صيغة التفضيل وأصله: أشرر بوزن أفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الشين، ثم أُدغمت في الراء الثانية، ثم لما كثر استعمال هذه الكلمة على ألسنة العرب.. خففوها، فقالوا: شر فاستغنوا بها عن قولهم: أشر، وكذلك فعلوا في كلمة خير.
﴿الْبَرِيَّةِ﴾ قرىء بالهمزة، فقالوا: ﴿البريئة﴾ وبدونها، فقالوا: ﴿الْبَرِيَّةِ﴾ فقراءة الهمزة على أن لامه همزة من برأ، ووزنه فعيلة بمعنى مفعولة، ومن قرأ بياء مشددة بدون همزة يحتمل أن يكون تخفيفًا للغة الهمزة بإبدال الهمزة ياء وإدغام ياء فعيل فيها، ويحتمل أن يكون من البري وهو التراب؛ لأنهم خلقوا منه، فأدغمت ياء فعيل في ياء لام الكلمة ومعنى القراءتين شيء واحد، وهو جميع الخلق.
قال ابن خالويه: والعرب على ترك الهمز، قال العجير لنافع بن علقمة:
يَا نَافِعًا يَا أَكْرَمَ الْبَرِيَّهْ | وَاللهِ لَا أَكْذِبُكَ الْعَشِيَّهْ |
إِنَّا لَقِيْنَا سَنَةً قَسِيَّهْ | ثُمَّ مُطِرْنَا مَطْرَةَ رَوِيَّهْ |
فَنَبَّتَ الْبَقْلُ وَلَا رَعِيَّهْ | فَانْظُرْ بِنَا الْقرَابَةَ الْعَلِيَّهْ |
فأمر له بألف شاة.
أُمْرُرْ عَلَى جَدَثِ الْحُسَيْـ | ـنِ فَقُلْ لأَعُظُمِهِ الزَّكِيَّهْ |
قَبْرٌ تَضَمَّنَ طَيَّبًا | آبَاؤُهُ خَيْرُ الْبَرِيَّهْ |
آبَاؤُهُ أَهْلُ الْخِلاَ | فَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْعَطِيَّهْ |
سَلَامُ اللهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا | وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلَامُ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإجمال بقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ثم التفصيل بقوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾؛ لأن ذكر الشيء مجملًا، ثم ذكره مفصلًا أوقع في النفس.
ومنها: إيراد الصلة فعلًا في قوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إشعارًا بأن كفرهم حادث بعد أنبيائهم.
ومنها: التعبير عن إتيان البينة بالمضارع في قوله: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ اعتبارًا بحال المحكي لا الحكاية.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿رَسُولٌ﴾ للدلالة على التفخيم والتعظيم.
ومنها: وصفه بقوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ تأكيدًا لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية؛ أي: رسول؛ أي: رسول كائن من الله تعالى.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾؛ لأن نسبة التلاوة إلى الصحف بمعنى القراطيس مجاز؛ لأن الأوراق لا تتلى، بل المتلو المكتوب، ففيه إسناد ما للحال إلى المحل بعلاقة الحلول، والمراد أنه لما كان ما يتلوه الذي هو
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ حيث شبه تنزه الصحف عن الباطل بطهارة الشيء عن الأنجاس.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ حيث عطفهما على قوله: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ اهتمامًا بشأن الخاص وإظهارًا لمزيته.
ومنها: إضافة الشيء إلى صفته في قوله: ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾؛ أي: دين الملة القيمة اعتبارًا بالتغاير اللفظي بينهما؛ لأن الشريعة المبلغة إلى الأمة باعتبار أنها تملى وتُكتب تسمى ملة، وباعتبار أنها تطاع وتدان تسمى دينًا.
ومنها: ذكر المشركين في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب باعتبار اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم.
ومنها: إيراد الجملة الاسمية في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ إلخ؛ للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة، من أنهم فيها الآن إما على تنزيل ملابستهم لما يوجبها منزلة ملابستهم بها، وإما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت عليهم الآن بصورة عرضية وتظهر عليهم في الآخرة بصورة حقيقية.
ومنها: المقابلة بين نعيم الأبرار وعذاب الفجار في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ إلخ، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ إلخ.
ومنها: الطباق بين ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ و ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾.
ومنها: توسيط ضمير الفصل في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ لإفادة الحصر؛ أي: هم شر البرية دون غيرهم، ومثله قوله الآتي: ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾.
ومنها: التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية؛ للإشعار بعلة الخشية، والتحذير من الاغترار بالتربية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على سبعة مقاصد:
١ - عدم انفكاك المشركين وأهل الكتاب عما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة.
٢ - تفرقهم عندما جاءتهم البينة.
٣ - أمرهم بعبادة الله والصلاة والزكاة مخلصين له الدين حنفاء له.
٤ - خلود فريق الفجار في نار جهنم.
٥ - دخول فريق الأبرار جنات عدن.
٦ - رضا الله سبحانه وتعالى عنهم ورضوانهم عنه.
٧ - كون ذلك من نتائج خشيتهم لربهم سبحانه (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الزلزلة مدنية، نزلت بعد سورة النساء في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول: ابن مسعود وعطاء وجابر. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ﴾ بالمدينة، وآياتها: ثمان، وكلماتها (١) خمس وثلاثون كلمة، وحروفها: مئة وتسعة وأربعون حرفًا.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها (٢): أنه تعالى لما ذكر فيما قبلها جزاء المؤمنين والكافرين بيَّن في هذه السورة وقت ذلك الجزاء وعلامته، وعبارة أبي حيان: لما ذكر فيما قبلها كون جزاء الكفار النار، وجزاء المؤمنين جنات عدن، فكان قائلًا قال: متى ذلك؟ فقال: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١)﴾، وسميت سورة الزلزلة؛ لذكر الزلزلة فيها.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الزلزلة محكمة كلها ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
فضلها: وفضائلها كثيرة ورد بها أحاديث صحيحة:
فمنها: ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في "الشُّعَب" عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: أتى رجل رسولَ الله - ﷺ -، فقال: أقرئني يا رسول الله، قال له: "اقرأ ثلاثًا من ذوات الراء" فقال له الرجل: كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: "فاقرأ ثلاثًا من ذوات حم" فقال مثل مقالته الأولى، فقال له: "اقرأ ثلاثًا من المسبحات" فقال مثل مقالته الأولى، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فاقرأه: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١)﴾ حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذى بعثك بالحق نبيًا لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله - ﷺ -: "أفلح الرويجل أفلح الرويجل" ثم قال على به، فجاءه فقال له: أمرت بيوم الضحى
(٢) المراغي.
ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ سورة: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ﴾ عدلت له بنصف القرآن، ومن قرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ عدلت بثلث القرآن، ومن قرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ عدلت له بربع القرآن" وقوله: "تعدل بنصف القرآن، وذلك؛ لأن أحكام القرآن تنقسم على قسمين: أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة كلها إجمالًا".
ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن" قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة.
ومنها: ما أخرجه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال لرجل من أصحابه: "هل تزوجت يا فلان؟ قال: لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به قال: أليس معك قل هو الله أحد؟ قال: بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك إذا زلزلت الأرض؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن تزوج" قال الترمذي هذا حديث حسن.
ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من قرأ ليلة إذا زلزلت الأرض كان له عدل نصف القرآن" وروي أن جد الفرزدق ابن صعصعة بن ناجية أتاه - ﷺ - ليستقرِئَهُ، فقرأ عليه النبي - ﷺ - هذه الآية: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)﴾، فقال: حسبي حسبي، وهي أحكم آية في القرآن، ويسمونها الجامعة الفاذة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *