ﰡ
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
المفردات:
طس تقرأ هكذا طاسين بمد في السين يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين، وهذا افتتاح لسورة النمل، يشبه افتتاح سورة القصص، والله وحده هو العالم بالفرق والسر الخفى بين طسم، وطس. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
المعنى:
هذه الآيات- آيات تلك السورة- آيات من القرآن، وآيات من كتاب مبين ظاهر في كل أغراضه ومعانيه، ومقاصده وأحكامه، وإننا نقرأ في أول سورة الحجر الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. وهنا تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ فنجد مرة ذكر الكتاب مقدما معرفا، ومرة ذكر القرآن مقدما فنرى أن الله جمع لكلامه بين الصفتين بأنه قرآن وأنه كتاب، يظهر بالقراءة والكتابة، فكل واحد يصلح مكان الآخر والتنكير في هذا المقام يفيد ما تفيده المعرفة.
أما الذين لم يهتدوا بنور الحق، وهدى القرآن فهم الذين لا يؤمنون بالآخرة، وهؤلاء زين الله لهم أعمالهم، وحسن لهم أعمال الخير ولكنهم لم يعملوها بل ساروا على الطريق المعوج الذي يسير عليه المغضوب عليهم والضالون، نعم زين الله أعمال الخير بإرسال الرسل وإنزاله الكتب تبين الحلال والحرام، وتبشر العاملين، وتنذر العصاة والمقصرين، وقيل: إن المعنى. الله زين لهم عملهم القبيح حيث أودع فيهم الشهوة والميل إلى الشر، ومكن الشيطان من إغوائهم حتى رأوا الحسن قبيحا، والقبيح حسنا في نظرهم، فوقعوا في الهلاك والآثام، وهم يعمهون، ويتحيرون، وفي الضلال يتيهون، أولئك الذين لهم العذاب السيئ الشديد في الدنيا والآخرة، وهم في الآخرة هم الأخسرون أعمالا، والتفضيل بالنسبة للزمان والمكان، فالمفضل عليه هو أنفسهم لكن باعتبار حالهم في الدنيا أى إن خسرانهم في الآخرة أشد من خسرانهم في الدنيا.
وإنك يا رسول الله لتلقى القرآن، وينزل عليك من لدن حكيم عليم خبير بصير.
يفعل ما تقتضيه الحكمة والعلم الصحيح.
وهذه الآية بساط وتمهيد لما سيذكر بعدها من الأخبار والقصص، وهي دعوى تفيد أن القرآن من عند الله، والدليل على صحة ذلك ما سيذكر من أخبار الماضين وأحوالهم.
(٢) سورة المعارج الآيات ١٩- ٢٢.
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
المفردات:
بِشِهابٍ بشعلة نار، وقال بعضهم: كل أبيض ذي نور فهو شهاب قَبَسٍ القبس النار المقبوسة تَصْطَلُونَ المراد رجاء أن تستدفئوا بها يقال صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يقال: عقب فلان إذا رجع جَيْبِكَ طوق قميصك مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص مُبْصِرَةً واضحة بينة وَجَحَدُوا بِها كذبوا مستيقنين بها.
المعنى:
اذكر وقت قول موسى لأهله، والمراد زوجه بنت شعيب في مسيرة من مدين إلى مصر بعد قضاء الأجل المضروب بينه وبين شعيب، وكان إذ ذاك في الوادي المقدس طوى، وكانت ليلته باردة عاصفة مظلمة يحتاج المسافر فيها إلى نار، ولما ضل الطريق أراد نارا يستدفئ بها هو وأهله حتى الصباح فأورى زنده فلم يخرج نارا، فالتفت يبحث فوجد نارا على بعد، فقال لأهله: امكثوا في مكانكم لا تبرحوه، إنى آنست نارا سآتيكم منها بشعلة مقبوسة رجاء أن تصطلوا بها وتستدفئوا، فلما جاءها نودي من قبل الرب- سبحانه وتعالى- أن بورك من في قرب النار، ومن هو حولها، والنار نور، ولكن موسى ظنها نارا، وقد نزه الله نفسه فقال: وسبحان الله رب العالمين، وتنزيها له عن مشابهة أحد من خلقه، يا موسى إنه الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم، يا موسى: ألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية فلما رآها تهتز وتتحرك كما يتحرك الجان، وهي الحية البيضاء شبهها بالجان لخفة حركتها. وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها، فلما رآها كالجان، ولى مدبرا وخائفا، ولم يعقب على شيء، ولم يلتفت فلما وقع منه ذلك قال الله له: يا موسى لا تخف من الحية وضررها، إنى لا يخاف لدىّ المرسلون، فلا تخف أنت لكن من ظلم نفسه ثم تاب وآمن، وبدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم. يا موسى: أدخل يدك في جيب قميصك تخرج يدك بيضاء من غير برص فذانك برهانان من ربك إليك لتعلم أنك بأعيننا، والله معك يرعاك ويحيطك بعنايته.
يا موسى اذهب إلى فرعون وقومه في تسع آيات إنهم كانوا قوما فاسقين. أما الآيات فهي العصا. واليد. والطوفان. والجراد. والقمل. والضفادع. والدم. والسنون ونقص الثمرات.. وبعضهم عدها بشكل آخر.
فلما جاءتهم آياتنا التسع مبصرة واضحة جلية شاهدة على صدق موسى كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها. قالوا: هذا سحر مبين ظاهر لا يحتاج لبرهان، وجحدوا بها،
فانظر يا محمد وكذا كل مخاطب كيف كانت عاقبة المفسدين؟ فقد كان جزاؤهم الغرق والإهلاك، ونجاة موسى ومن معه من بنى إسرائيل، حقا لقد صدق الله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [سورة النمل آية ٦].
من نعم الله على داوود وسليمان وقصة النملة [سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
المفردات:
مَنْطِقَ الطَّيْرِ المنطق والنطق: كل صوت يعبر به عما في الضمير حُشِرَ جمع يُوزَعُونَ يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون، والوازع في الحروب الموكل
وهذا جزء من قصة داوود وسليمان ابنه- عليهما الصلاة والسلام-.
المعنى:
ولقد آتينا داوود نبي الله وسليمان ابنه- عليهما الصلاة والسلام- آتاهما ربهما علما من لدنه، علما شريفا يتعلق بذاته تعالى، وبوصفه بصفات الجلال والكمال، وتنزهه عن كل نقص وما هو في حقه من المحال، علما هو أشرف العلوم والمعارف، علما جامعا لخيرى الدنيا والآخرة، ولقد آتيناهما علما فعملا به حتى امتلأ قلبهما يقينا وعزما أكيدا على فعل الطاعات، وهجر المحرمات، والشكر لله- سبحانه- حتى قالا: الحمد لله وحده، الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين، بهذه العلوم والمعارف المصحوبة بالعمل القلبي والبدني واللساني، وفي هذا رفع لمرتبة العلم والعلماء. إذ قد أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم.
وكان لداود أولاد كثيرة، ولكن سليمان ورث أباه في العلم والنبوة والملك والحكم لا في المال لأن الأنبياء لا تورث فيه
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»
حديث شريف، ومما يؤيد هذا ما سيأتى من معرفة منطق الطير، والإتيان من كل شيء، وذكر جنود سليمان من الجن والإنس والطير.
وقال سليمان تحدثا بنعمة الله، وإشهارا لها، وتنويها بها، ودعاء للناس ليصدقوا بها على أنها معجزة. قال سليمان: أيها الناس: قد علمنا منطق الطير والحيوان. وإنما خص الطير لأنه من جنوده التي كان لها مواقف بارزة في حياته كما سيأتى في قصة الهدهد.
وللطير منطق إذ هو يصوت بأصوات مختلفة تدل دلالة قوية على أحاسيسه وحاجاته فصهيل الفرس عند طلبها الأكل غير صهيلها عند طلبها الحصان للفساد، وصوتها عند الألم والضرب غير صوتها وهي تدعو رضيعها ليرضعها، وهكذا كل حيوان، فمواء القطة عند حبسها في مكان ضيق غير موائها عند طلبها الأكل أو السفاد مثلا- هذه حقائق معترف بها وكما قال الشيخ البيضاوي في تفسيره ما معناه، ولعل سليمان كان إذا صوت حيوان علم بقوته الحدسية التخيلية صوته والغرض الذي توخاه به، ومن
وعلى كل فإدراك أصوات الحيوانات خصوصا الطير، وما يقصد منه لم يكن إلا هبة من الله- تعالى-، وقد وهبها سليمان وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ويقول سليمان تحدثا بنعمة الله وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وهذا يفيد كثرة نعم الله عليهما إن هذا لهو الفضل المبين، وأى فضل أظهر من هذا؟ وفيه تقرير للحمد والثناء على الله- سبحانه وتعالى-، ولا تنس أنه يقر بأنهما أوتيا من كل شيء يتصل بالنبوة والملك والحكم.
وأما قوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ فهو دليل على قوة سليمان، وكثرة سلطانه، وتعدد جنده من الجن والإنس والطير أما جند سليمان من الجن فظاهر من قوله- تعالى-: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ الآيتان ١٢، ١٣] وأما الطير فقصة الهدهد ستأتى إن شاء الله، وأما الإنس فمعلوم أنه كان لسليمان ملك وجند بنص القرآن الكريم.
وهؤلاء الجند لهم قواد وحكام ونظام فهم يوزعون، ويكفون عن الفوضى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [سورة الأنعام آية ٣٨].
قصة النملة مع سليمان:
حتى إذا أتى سليمان وجنده الكثيف (الكثير) من فوق على وادي النمل والله أعلم.
بمكانه... قالت نملة. لها حق الإمارة على النمل، قالت: ادخلوا مساكنكم لا يكسرنكم ولا يحطمنكم سليمان وجنده بأرجلهم وهم لا يشعرون بكم لصغر حجمكم، وسيركم وسط الرمال.
فتبسم سليمان ضاحكا من قولها حيث وصفت جنده بأنهم لا يعمدون إلى الشر، ولا يشعرون بعملهم له ولا شك أن هذه النعم، وخصوصا فهم سليمان عن النملة يقتضى منه الشكر والحمد لله فقال: رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت على
وعد سليمان النعمة التي لوالده نعمة له بمعنى أنها تستوجب الشكر منه لله.
وألهمنى يا رب أن أعمل صالحا ترضاه، وأدخلنى برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الناس هذا هو سليمان يطلب من ربه أن يحبسه على الشكر له والثناء عليه ويطلب من ربه أن يوفقه إلى العمل الصالح الذي يرضاه، وهو يطلب أن يدخله برحمته وفضله مع عباده الصالحين الداخلين الجنة بإذن الله- هذا سليمان لم يغتر بعلمه بل طلب الزيادة والمعونة والفضل حتى يدخل في عداد الصالحين،
ولقد صدق رسول الله حيث يقول «سدّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يدخل أحد الجنّة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته».
قصة الهدهد أو بلقيس [سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٤٤]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التفقد تطلب ما غاب عنك وتعرف أحواله. والطير اسم جنس لكل طائر بِسُلْطانٍ بحجة قوية بينة أَحَطْتُ الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته مِنْ سَبَإٍ اسم مدينة في اليمن والمراد أهلها بِنَبَإٍ النبأ الخبر المهم الْخَبْءَ ما خبأته فاختبأ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ألا تتكبروا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أشيروا على أيها الأشراف ماذا أفعل في هذا الأمر قاطِعَةً أَمْراً مبرمة أمرا لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بها بِعَرْشِها الظاهر أن المراد بالعرش هو سرير الملك يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ الطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر، وارتداده انضمامها نَكِّرُوا لَها عَرْشَها غيروه صَّرْحَ
القصر المشيدجَّةً
اللجة: الماء المجتمع الكثيرمَرَّدٌ
الممرد الأملس ومنه الأمرد.
خلاصة القصة:
كان لسليمان علم بمنطق الطير كما مر، فكان يعرف ما تريده الطير، وكانت الطيور مسخرة له، يكلفها بما يشاء، وتفقد سليمان في يوم من الأيام
ولم يمض غير زمن قليل حتى جاء الهدهد فسأله عن غيبته فأخبره بأنه أحاط بأمر لم يحط سليمان به، وجاء بنبإ مهم من بلاد سبإ التي هي من بلاد اليمن، وأخبره بملك عظيم وجاه عريض تملكه امرأة اسمها بلقيس، وهي الملكة على تلك الديار، وهذه المرأة أوتيت من كل شيء يتعلق بأسباب الملك واستتباب النظام، ولها عرش عظيم، محلى بالجواهر وأفخر الزينات. وهذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من دون الله، ويرتكبون المعاصي، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة حتى حسبوها خيرة، فصدهم عن سبيل الله فهم لا يهتدون، فعل الشيطان بهم هذا لئلا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وينزل المطر من السماء، وهو مخبوء فيها، وينبت من الأرض، وقد كان مستورا فيها، وهو العالم بما تخفون أيها الناس، وما تظهرون، إنه عليم بذات الصدور، هو الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم حقا، وصاحب التصريف المطلق، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولكنه الشيطان يزين للناس، ويغويهم حتى ينحرفوا عن الطريق الصواب إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين.
وفي قراءة: ألا يا اسجدوا، والمعنى: ألا يا قوم اسجدوا لله الذي يخرج الخبء الآية.
قال سليمان حينما سمع مقالة الهدهد: سننظر في أمرك بعين الرؤية لنعلم أصدقت في مقالتك أم كنت من الكاذبين؟! يا هدهد: اذهب بكتابي هذا إلى تلك الملكة فألقه إليهم، ثم أعرض عنهم قليلا، فانظر بعد هذا ماذا يرجعون من القول، ويرددون، وانظر أى رأى يختارون؟
فامتثل الهدهد أمر قائدة ورئيسه، وحمل الخطاب، وأوصله إلى بلقيس فقرأته، وعلمت ما فيه، وجمعت الملأ من قومها، وأشراف مملكتها للتشاور في هذا الحدث، فقالت: يا أيها الملأ: إنى ألقى إلى كتاب كريم لأن مرسله كذلك، ولأنه مختوم، وكريم في عباراته، إنه من سليمان، وقد كتب فيه:
لم ترد الملكة أن تستبد بالأمر، بل جمعت وجوه القوم للمشاورة، فقالوا، وقد أخذتهم العزة بالإثم، واندفعوا وراء العاطفة بدون عقل قالوا: نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد، فعندنا العدد، والعزم الأكيد، ونحن طائعون لأمر الرئيس، فالأمر إليك فانظرى بماذا تأمرين؟
أما بلقيس فكانت امرأة عاقلة حكيمة استعملت العقل والسياسة، ولم تغتر بما أبداه جيشها ورجالها من القوة والبأس، وحسن النظام، وكمال الطاعة، وقالت لهم: أيها القوم، هذا كتاب من ملك، فإذا عاندناه وحاربناه ربما يغلبنا، ويدخل ديارنا فيهتك سترنا، وإن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين غازين أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، نعم، ومثل ذلك وأكثر منه يفعلون!! وإنى سأعرض عليكم رأيا آخر، ربما كان أحكم وأسلم، ذلك أن نرسل لسليمان هدية نصانعه بها، وتأتى رسلنا بأخباره الحقيقية، وسيكون لنا بعد ذلك شأن، وهذا رأى سديد... وقد ارتضاه الكل، وأرسلوا الرسل.
فلما جاءت رسلها سليمان بالهدايا قال سليمان: أتمدونني بمال؟! أنكر عليهم هديتهم قائلا: لست طالبا للدنيا وعرضها الزائل، إنى أطالبكم بالدخول في دين الله وترك عبادة الشمس، على أنى لست في حاجة لمالكم، فما آتاني الله خير وأكثر مما آتاكم، بل أنتم أيها القوم بهديتكم تفرحون.
ارجع إلى قومك أيها الرسول- والخطاب لزعيم الوفد- فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولا طاقة لهم على لقائها، ولنخرجنهم من ديارهم أذلة، وهم صاغرون.
وصل الخبر إلى بلقيس، وعلمت حقيقة سليمان وجنده، وقوة ملكه، وأشفقت على قومها، فأجمعت أمرها، وعزمت على الذهاب إلى سليمان في (أورشليم) بالشام بهدية عظيمة.
ولما علم سليمان بزيارة بلقيس له في عاصمة ملكه شيد لها صرحا عظيما، وجعل أرضه من زجاج، وهذا شيء غير معروف باليمن.
فسأل جنوده عن قوى يأتيه بعرشها، فقال عفريت من الجان: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وإنى على حمله وحفظه لقوى أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب- والله أعلم به- أنا آتيك به في لمح البصر قبل أن أن تغمض عينك، ويرتد إليك طرفك، وكان كما قال وأحضر العرش الذي هو كرسي الملك على ما يظهر من وصفه الآتي فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [سورة النمل آية ٤٠] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها [سورة النمل آية ٤١] فهذا يدل أن العرش يراد به كرسي الملك.
فلما رآه سليمان ماثلا أمامه قد حضر في أقل من لمح البصر قال: هذا من فضل ربي على ليبلوني أأشكر تلك النعم أم أكفر بها؟!! علما بأن من شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإنما وزره على نفسه فقط، وإن ربي- جل شأنه- لغنى عن شكر الشاكرين، كريم يجازى على الحسنة بأضعافها قال سليمان لجنده: نكروا لها عرشها، وغيروا فيه بعض التغير لنرى أتهتدي إليه أم تكون من الذين لا يهتدون؟!! وقد يراد بالاهتداء وعدمه الاهتداء إلى الحق فلما جاءت قيل لها: أهكذا عرشك؟
قالت: كأنه هو....
قيل لها ادخلى القصر الذي أعد لمقامك فيه، ولما أرادت دخول الصرح والوصول إلى العرش ظنت الزجاج المصنوع منه أرض القصر ظنته ماء فكشفت عن ساقيها لئلا تبتل ثيابها بالماء، فأخبرت بأنه ليس ماء إنه قصر مشيد قد مرد بالقوارير، وصنعت أرضه من زجاج.
قال سليمان: وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة منقادة من قبل حضورها، وكنا منقادين في كل ذلك لله- سبحانه وتعالى-.
وهذه المملكة، وعلى رأسها بلقيس صدها ما كانت تعبد من دون الله أى: منعها من إظهار الحق والإيمان بالله ما كانت تعبده وهي الشمس إنها كانت من قوم كافرين.
فلما رأت كل ذلك، وأراد الله لها الخير والهداية قالت: ربي إنى ظلمت نفسي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
صالح مع قومه ثمود [سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
يَخْتَصِمُونَ يتنازعون اطَّيَّرْنا تطيرنا أى: تشاءمنا والطيرة تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا تُفْتَنُونَ تمتحنون رَهْطٍ الرهط اسم للجماعة لِوَلِيِّهِ من له ولاية عليه مَهْلِكَ هلاك.
وهذه قصة أخرى لصالح مع قومه ثمود، دليل على أن محمدا رسول الله، وأنه.
يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وفيها إنذار وتهديد للكفار والمشركين.
المعنى:
تالله لقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فإذا هم فريقان يختصمون أحدهما مؤمن، والآخر كافر قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [سورة الأعراف الآيات ٧٥، ٧٦].
قال صالح: يا قومي ويا أهلى ويا عشيرتي لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ أى لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر وتتعجلون به وهو يوجب العقاب والسوء والعذاب، هلا تستغفرون الله، وتتوبون إليه لكي ترحموا قالوا من فرط جهلهم وسوء تفكيرهم: إنا متشائمون بك وبمن اتبعك من الناس فإنا نرى القحط وقلة المطر أصابتنا من يوم أن ظهرت تدعو إلى ما تدعو إليه.
قال لهم صالح: لا يا قوم. إنما طائركم ومصائبكم من عند ربكم بل أنتم قوم تفتنون وتبتلون بما ينزل عليكم من نعمه، وما يصيبكم من نقمه، وتشاؤم الناس بأنبيائهم فكرة جالت في رؤوس كل الأمم «فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه». «وإن تصبهم حسنة يقولوا هذا من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك- أى محمد صلّى الله عليه وسلّم قل كل من عند الله».
وكان في تلك المدينة التي يسكنها ثمود تسعة رجال من أشرافهم، لهم أثرهم
قال هؤلاء متقاسمين فيما بينهم متعاونين على الإثم والعدوان: لنبيتنه وأهله، والمعنى تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح- عليه السلام- ليلا ثم يقولون لوليه: ما شهدنا مهلك أهله، وما قتلناه، وإنا لصادقون في دعوانا، ومكروا ومكر الله، ولكن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وكان أن أهلكهم الله وهم لا يشعرون.
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم؟ فقد أهلكهم ربك بالصاعقة، ودمرهم بالصحيحة جميعا، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، إن في ذلك لآية وعبرة لقوم يعلمون، وانظر كيف نجينا القوم الذين آمنوا بالله ورسوله، وكانوا يتقون، وهكذا سنة الله مع الجبابرة والطغاة، فالويل لهم إن لم يتوبوا إلى رشدهم ويؤمنون بربهم، ويقلعوا عن طغيانهم...
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
المفردات:
الْفاحِشَةَ الفعلة القبيحة المنكرة، والمراد بها إتيان الذكور في أدبارهم قَدَّرْناها قضينا أنها من الغابرين أى: الباقين في العذاب.
وهذه هي آخر القصص التي تلقاها النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورة من لدن حكيم عليم.
المعنى:
ولقد أرسلنا لوطا إلى قومه- أهل سدوم- فقال لهم مؤنبا، وداعيا: أتأتون الفاحشة، وأنتم تبصرون؟ أنكر عليهم إتيان الفعلة المتناهية في الفحش حتى كأنها المعروفة به وحدها، ومن العجيب أنهم يأتونها، وهم يبصرون ويعلمون أنها فاحشة، وما كانوا يستترون حين فعلها بل يبصرون وينظر بعضهم لبعض عتوا وتمردا، واستكبارا في الأرض وفسادا.
فما كان جواب قومه على هذا إلا أن قالوا: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون! يا للعجب يأمرون بإخراج لوط ومن آمن به من القرية لأنهم أناس يتطهرون!! يا للعجب العاجب. من الناس من ينقمون على إخوانهم، لأنهم آمنوا بربهم، ودعوا غيرهم إلى الدين الحق!! ولكن هل يغفل الحق- تبارك وتعالى- أمر هؤلاء وهؤلاء؟ لا. أبدا.. لن يكون ذلك، فهذا لوط مع قومه العتاة العصاة المتجبرين. قد نجاه الله وأهله الذين آمنوا معه إلا امرأته فقد قضى عليها أن تكون من الهالكين، ولم ينفعها قربها من لوط، ما دامت تستحق الهلاك لكفرها وأمطر الله على العصاة المتكبرين مطر السوء فأبادهم وخسف بهم الأرض، فساء وقبح مطر المنذرين، وتلك عاقبة العصاة الفاسقين.
الشواهد الدالة على الوحدانية والقدرة [سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٦]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
اصْطَفى اختار حَدائِقَ جمع حديقة وهي البستان عليه سور وحائط لأن الحائط أحدق بها بَهْجَةٍ البهجة: حسن المنظر يَعْدِلُونَ يميلون. يقال: عدل عنه أى مال عنه قَراراً مكانا يقر عليه الإنسان وغيره بمعنى يستقر خِلالَها أى: بين جهاتها المختلفة حاجِزاً مانعا الْمُضْطَرَّ الذي أصابه الضر بُشْراً مخفف بشرا جمع بشير، والمراد مبشرات ادَّارَكَ أصله تدارك بمعنى تلاحق عَمُونَ جمع أعمى.
ولما فرغ من قصص تلك السورة عاد إلى خطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ هو المقصود الأول، وكأن أمر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بالحمد والتسليم صدر خطبة لما يلقى بعد ذلك من البراهين والشواهد الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة الكاملة.
قل يا محمد: الحمد لله، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، نحمده- سبحانه- الذي منّ على الأمة المحمدية، بنور القرآن، وشرفها بأن منع عنها عذاب الاستئصال وهلاك الأمم السابقة، وأبقى لها المعجزة الكبرى على مر الأيام والعصور، وهي معجزة القرآن، وسلام من الله وتحية من عنده مباركة طيبة، على عباده المؤمنين ورسله المصطفين الأخيار، الذين صبروا وصابروا على مشاق الرسالة، وتكاليف النبوة، فكان لهم من الله الأجر والثواب الجزيل.
أيها الناس: آلله خير أم ما يشركون؟ آلله خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها؟ وفي هذا تبكيت للمشركين وتأنيب لهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار ففي هذا الكلام تنبيه لهم على نهاية الضلال والجهل،
روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجلّ وأكرم».
ثم إنه- تعالى- ذكر ما يفيد أنه المستحق للعبادة دون سواه، إذ هو الخالق للسماء والأرض، والذي يجيب المضطر إذا دعاه وهو الهادي في ظلمات البر والبحر، وهو عالم الغيب والشهادة، ولا يطلع على علمه أحدا، وسيعلم الذين ظلموا كل هذا، يوم لا تنفعهم معذرتهم في شيء، وفي هذا من دلائل القدرة، وكمال الوحدانية، وتمام العلم ما لا يخفى.
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ؟!!، والمعنى بل من خلق السماء وما فيها والأرض وما عليها، وأنزل لكم من السماء ماء فأنبت بسببه حدائق وبساتين وزروعا وأشجارا ذات لون بهيج، ورواء جميل، ما كان لكم أيها الناس أن تنبتوا شجرها؟ أمن خلق هذا كله كمن لم يخلق شيئا؟ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أغير الله يقرن به في العبادة، ويجعل شريكا له في القداسة؟!! بل هم قوم يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ويجعلون لله عدلا وشريكا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام آية ١].
الله- سبحانه- خلق لنا السماء والأرض والبحار والأنهار، والزروع والأشجار، وهل تركنا بعد ذلك؟ لا. إننا محتاجون إليه، وهو- سبحانه- يكشف عنا الضر إذا نزل.
بل أمن يجيب المضطر إذا دعاه [والمضطر من أصابه ضر من فقر أو مرض أو حاجة دعته إلى الالتجاء والاضطرار] ويكشف عنه السوء إذا التجأ إلى ربه حقا ودعاه، وهو الذي جعلكم أيها الناس خلفاء في الأرض لغيركم، فكل منا وارث لأبيه وسيرثه ابنه، والدنيا كالمنزل يأوى إليه جماعة من الناس ليلا ثم يفارقونه نهارا، ويخلفهم آخرون؟ أمن يفعل هذا كمن لا يفعل شيئا؟ أيكون مع الله إله آخر تدعونه، وهو لا ينجيكم من البحر، ولا ينقذكم من الضر، ولا يدفع عنكم سوءا؟!! ما تذكرون ذلك إلا ذكرا قليلا.
الله يحرسنا بعين لا تنام، ويحفظنا بقدرة لا ترام، ويكلؤنا ويهدينا في ظلمات البر والبحر حتى ننجو بسلام. وسبحانه وتعالى عما يشركون.
بل من يهديكم أيها الناس في ظلمات البر والبحر؟ حيث أودع فيكم عقلا وفكرا، وهداكم إلى العلم والمعرفة التي بها تعرفون اتجاهكم وسيركم بمقاييس مضبوطة، نعم هو
بل من يبدأ الخلق ثم يعيده، ولا يقدر على البدء والإعادة إلا هو، ومن يرزقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغيره؟ أمن يفعل هذا كله كمن لا يفعل شيئا أبدا؟ بل أيعقل أن يكون مع الله إله آخر يفعل هذا؟! قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم وحجتكم إن كانت لكم حجة، وكنتم صادقين في دعوى أن له شريكا.
قل لهم يا محمد: لا يعلم من استقر في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب أى ما غاب عنهم، ومن جملته قيام الساعة لكن الله يعلم الغيب والشهادة، ويعلم السر وأخفى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ... الآية: ٣٤ من سورة لقمان، قالت عائشة. من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وهذا يفيد وصف الله بالعلم التام الشامل بعد وصفه بالقدرة والوحدانية، وذلك كله يفيد انفراده بالالوهية وما يشعر الكفار في أى وقت يبعثون للحساب والجزاء، وسآتيهم الساعة بغتة، وهم يجحدون بل ادارك علمهم، تلاحق أى: تكامل علمهم في الآخرة عنها لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به بعد إنكارهم لأحواله كلها، بل هم في شك منها في الدنيا، بل هم من الآخرة وأحوالها عمون بقلوبهم، لا يؤمنون بها ولا يفكرون فيها...
اعتقادهم في البعث [سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
أَساطِيرُ جمع أسطورة وهي ما سطره الأقدمون من خرافاتهم وأحاديثهم ضَيْقٍ في ضيق صدر رَدِفَ لَكُمْ تبعكم ولحقكم ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ما تخفيه غائِبَةٍ التاء فيها للمبالغة كالتاء في علامة ونسابة والأصل غائب.
بعد ما ثبت بالدليل القاطع أن الله هو المستحق وحده للعبودية إذ هو صاحب القدرة الكاملة، والعلم التام، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال، ومن كان كذلك كان قادرا على البعث، ومع هذا كله فلم يؤمنوا به.
المعنى:
وقال الذين كفروا بالله وبرسله أإذا كنا ترابا بعد موتنا نحن وآباؤنا؟ أإنا لمخرجون- من قبورنا بعد أن صرنا ترابا- للبعث والجزاء!؟ إن هذا شيء لا يمكن أن نصدقه، ولا أن نؤمن به، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل كثيرا، ولم نسمع أن قام أحد بعد موته وصيرورته ترابا، ما هذا الذي تدعونا إليه، وتخبرنا به أيها الرسول إلا أساطير الأولين وأكاذيبهم التي دونوها.
رأى الله- سبحانه وتعالى- فيهم هذا الإنكار للبعث، وهو يعلم أن سبب ذلك حبهم الدنيا، وافتتانهم بها وحبهم للرياسة الكاذبة، والزخرف الزائل، فعالج لهذا الداء
وأنت يا محمد لا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق وكرب مما يمكرون، فإن الله معك وناصرك، وعاصمك من الناس ومؤيدك.
وانظر إليهم وهم يقولون: متى هذا الوعد؟ إن كنتم أيها القائلون به صادقون وهذا سؤال المراد منه الإنكار واستبعاد تحقق الوعد، فيرد الله عليهم: قل لهم يا محمد عسى أن يكون ردفكم ولحقكم، واقترب منكم بعض الذي تستعجلون من العذاب، وعسى في كلام الله للتحقق، وقد تحقق هذا في غزوة بدر ويتحقق في عذاب القبر قريبا.
وإن ربك لذو فضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يمن على الجميع بنعمة في الدنيا، وعلى المؤمن خاصة بنعمة الهداية، وعلى الكافر بتأخير العذاب لعله يثوب إلى رشده، وإن ربك ليعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة، وهو العليم بذات الصدور، وما من شيء يغيب عنه ويخفى خفاء شديدا أينما كان في السماء أو الأرض إلا كان في كتاب مسطور، كتاب مبين يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان آية ١٦].
القرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلم [سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
لقد كان الكتاب الذي سطر فيه ما مضى من أدلة تثبت لله صفات الكمال وتؤيد البعث للثواب والعقاب- وهذان أصلان مهمان للدين الإسلامى- هو القرآن الكريم، فمن الخير التعرض له ببيان أنه من عند الله، وأنه معجزة دالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يدعيه.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فإنه الكتاب الذي أنزل مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه، وقد بقي عند اليهود والنصارى من كتبهم الشيء القليل على أصله أى: بدون تحريف والأكثر حرف وبدل فهم مختلفون، دليل ذلك قوله- تعالى- فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [النساء: ٤٤] يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.. مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أقرأ الآيتين ١٣، ١٤ من سورة المائدة.
فضياع جزء من التوراة نسيانا. وتحريف جزء آخر منها عمدا- ومثل هذا حصل في الإنجيل- وليس هذا تجنّيا بل ثبت بنص القرآن كما مر.. هذا جعلهم يختلفون في كثير من المسائل بينهم وبين بعض، بل بين أتباع الدين الواحد وقع اختلاف كثير وقد جاء القرآن بالقصص المحكم، والقضاء العادل، مخاطبا لهم جميعا بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية ١٧١].
اختلف بنو إسرائيل في عيسى ابن مريم اختلافا كثيرا فاليهود كذبوا ورموا أمه بالزنا، وحاولوا قتله وصلبه، والنصارى صدقوه ثم عظموه وألهوه حتى قالوا: إنه إله أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة: تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد جاء القرآن يقص عليهم
وأما أنت يا محمد فتوكل على الله حقا، وفوض أمرك إليه صدقا، إنك على الحق المبين، ورسالتك هي المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، ولا تعجب من كفر هؤلاء فليس ذلك راجعا لنقص فيك أو في رسالتك، بل إنك لا تسمع الموتى وأشباههم ولا تسمع الصم الدعاء، وكيف يسمع الأصم دعاء؟ وبخاصة إذا ولى مدبرا.
وما أنت يا محمد، وكذا كل من دعا بدعوتك، وسار على طريقتك بهادي العمى عن ضلالتهم.
ما تسمع إلا من فيه استعداد لقبول الحق، ومن في روحه صفاء وهو المؤمن بآياتنا، الناظر بعين البصيرة في ملكوتنا، أولئك هم المسلمون، أما غيرهم فكالأنعام لها عيون وآذان، ولا قلب لها ترى به العبرة، بل هم أضل من الأنعام.
بعض مناظر القيامة مع ذكر مقدماته [سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ دنا وقرب وقوع مدلول القول دَابَّةً كائنا حيا يدب على الأرض فَوْجاً جماعة يُوزَعُونَ في المادة معنى المنع كما تقدم في قصة سليمان والمراد هنا يمنع أولهم ويوقف حتى يتلاحقوا.
لا زال الكلام متلاحقا في البعث وإمكانه، وبخاصة بعد ذكر بعض صفات الله كالقدرة والعلم والوحدانية والتعرض للنبوة والقرآن وكونه معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلم.
المعنى:
وإذا وقع القول عليهم ودنا الوقت، وقربت الساعة الفاصلة، وحق عليهم العذاب لفساد الدنيا، وضياع الدين وهذا يكون قبيل قيام الساعة.
وإذا دنا وقت ما وعدوا به من قيام الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وما هي تلك الدابة؟ وهنا انفلت خيال الكاتبين والمفسرين، واستندوا إلى بعض أحاديث آحادية، وأخذوا يغربون في وصفها وجسمها وكيفية خلقها. ونوعها.
وفي ظني- والله أعلم بكتابه- أن تلك الدابة هي إنسان عادى، عالم بكتاب الله وسنة رسوله وأحكام شرعه، يظهر في هذا الوقت الذي يقل فيه العلماء، ويقبض فيه العلم بموتهم، وينعدم حفظة القرآن الكريم، ورجال الدين العاملون في هذا الوقت الذي يكثر فيه الفساد، ويعم الجهل بأحكام الدين، ويتخذ الناس رؤساء جهلاء يستفتونهم في دينهم فيفتونهم فيضلون ويضلون، يا أخى لا تظن أنى متشائم بل دلائل هذا الأيام السود قد تكون ولدت، فنحن في بلد تعتبر هي الموئل الوحيد للدين والعلم ولكن يجب أن نصارح الناس. أليس الأزهر في محنة؟! في هذه الأيام نعتنى بمحو
لقد قام بعض الكتاب يهاجم الأزهر في نظمه وقد يكون فيه عيب راجع لنظمه ولرجاله!! وفي الواقع هي حملة لإثبات أن الدين الإسلامى لم يصلح لتحريرنا، وأنا أمة يجب أن تتحرر من كل شيء حتى من تقاليدها ودينها.
أيبعد بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة- والله أعلم- أن يوجد هذا الوقت الذي يقبض فيه العلم والعلماء؟ حتى تنتهك الحرمات جهارا ونهارا، فلا يوجد من ينكر وإذا حصل هذا يخرج الله للناس دابة من الأرض- وهي الإنسان المخلوق من التراب- تكلمهم، وتعظهم، وتأمرهم وتنهاهم، ولكن هذا يكون في وقت قد بلغ فيه السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين، وقربت الساعة.
والذي دعاني إلى تفسير الدابة بالإنسان وصفها بالكلام، ولأن الإنسان دابة من الدواب، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن الدابة وخروجها، فقال: تخرج من أعظم المساجد حرمة على الله- تعالى- المسجد الحرام، ولقد قال بهذا بعض المفسرين، وقوله تعالى: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النمل ٨٢] مما تعظ به تلك الدابة.
وهاك منظرا من مناظر يوم القيامة بعد الكلام على بشائرها. ويوم يحشر جماعة كثيرة من كل ممن يكذب بآياتنا نجمعهم، ونسوقهم سوقا فهم يوزعون حتى يكبكبوا في جهنم، وهذا إشارة إلى كثرة العدد! وتباعد أطرافه.
حتى إذا جاءوا، وأخذوا جزاءهم قيل لهم تبكيتا: أكذبتم بآيات الله، والحال أنكم لم تحيطوا بها علما؟ على معنى أنكم كذبتم قبل بحث الآيات والإحاطة بها لأنكم شغفتم بالتكذيب.
بل ماذا كنتم تعملون؟! أى: إذ كنتم لم تبحثوا الآيات وكذبتموها بادى الرأى من غير فكر ولا نظر فبماذا كنتم تشغلون أنفسكم؟.
وعند ذلك وقع عليهم بالفعل العذاب الموعود بغشاهم بسبب التكذيب والكفر
يا عجبا لأولئك الكفار! ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه، وجعلنا النهار مبصرا يبصرون فيه أمور معاشهم، ومعادهم، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون، فالقادر على إيجاد الليل بعد النهار، والنهار بعد الليل، ومن يقدر على وفاة الناس ليلا ثم إحيائهم نهارا، قادر بلا شك على إيجاد الحياة للبعث والجزاء. بعد الموت والفناء، وفي ذلك آيات معلومة تلفت الأنظار، ولكن لقوم يؤمنون.
من علامات يوم القيامة [سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٧ الى ٩٠]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
المفردات:
- الصُّورِ هو البوق الذي ينفخ فيه فَفَزِعَ الفزع هنا: الخوف الشديد المفضى إلى الموت داخِرِينَ صاغرين من الذل أو الهيبة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ ألقيت من جهنم.
ذلك من علامات يوم القيامة، العلامات القريبة التي تتقدمه بزمن يسير فإذا أراد الله.. أمر الملك الموكل بالبوق فنفخ فيه نفخة يرتج لها كل من في الدنيا من الأحياء، ويصيبهم هول وخوف شديد، يؤدى بهم إلى الموت إلا من شاء ربك من الملائكة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ
آية ٦٩ من سورة الزمر. وعلى ذلك فالنفخ مرة ليموت الكل، ومرة ليحيا الكل للحساب، ومن شاء الله يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية.
وكل أتوه صاغرين صغار ذل إن كانوا كفارا، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «١».
وترى الجبال يومئذ تظنها جامدة ساكنة، وهي تمر مر السحاب يدفعها الريح صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحكمه، إنه خبير بما تفعلون.
من جاء بالحسنة يوم القيامة فله ثواب جزيل بسببها، وأصحابها يومئذ من الفزع آمنون مطمئنون، وكان الفزع الأول عاما لأنه عقب نفخ الصور، وأما الفزع المنفي عن المؤمنين فالمراد به دوامه واستمراره، فالمؤمن يموت أو يحيا للحساب يستبشر بالثواب الجزيل والعطاء الذي لا يقطع فهو بحق من الخوف آمن.
وأما من جاء بالسيئة فسيلقى في جهنم على وجهه الذي طالما صعر خده كبرا، وشمخ بأنفه عجبا وتيها على عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ثم يقال لهؤلاء الكفار: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون.
وبعض العلماء يقول في قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً «٢»...
إن ذلك في الدنيا وهذا دليل على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة، وتلك نظرية علمية ثابتة، ولكن الظاهر والله أعلم أن ذلك في الآخرة، لأن الآيات التي هنا كلها عن يوم القيامة.
(٢) سورة النمل الآية ٨٨.
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
وهذا ختام للسورة، وإنه لختام رائع لا يصدر إلا من الحكيم العليم الذي أنزل هذا الكتاب المحكم الآيات، المتشابه المقاطع والحلقات، تقشعر منه قلوب الذين يتلونه بخشوع، وخضوع، وتخضع لقوته وأحكامه جباه البلغاء والحكماء، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
فبعد أن بين أن القرآن ينزل على النبي من لدن حكيم عليم، وساق قصصا لإخواته الأنبياء في عصور مختلفة ليكون عبرة وعظة، وحجة وبرهانا، وتعرض بعد ذلك لأمر التوحيد مناقشا الكفار والمشركين، مبينا آثار فضل الله ونعمه التي تنطق بوحدانيته وقدرته وعلمه، ثم تعرض للبعث، وما في يوم القيامة من أهوال وأحوال ختم هذا كله بما يفيد أن الواجب عليه عبادة الله حقا وتلاوة القرآن، وبعد ذلك فالأمر لله.
فقال في النهاية: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة- مكة- الذي حرمها ربها، وعظّم الله حرمتها، وجعلها حرما آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر، ولا يخوف فيها خائف، بل هي الحرم الآمن تجنى إليه ثمرات الدنيا في كل ناحية، ولله كل شيء ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا وليس علىّ إلا البلاغ والإيمان الخالص، وعلى الله وحده الحساب، وله الأمر من قبل ومن بعد.
وإذا تلونا القرآن وعملنا بما فيه فلا يضيرنا شيء بعد هذا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما عليه وزرها، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون، وإنما أنت يا محمد نذير وبشير.
وقل الحمد لله حمدا يوازى نعماءه، سيريكم الله آياته الدالة على عظمته وحكمته وقدرته فتعرفونها سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «٣». وما ربك بغافل عما تعملون.
(٢) سورة النحل آية ٨٩.
(٣) سورة فصلت آية ٥٣.