تفسير سورة الأحزاب

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة الأحزاب
قال الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
المراد بالقلب هنا: المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري، والجعل الخلق، وإذا كان الرجل لم يخلق له قلبان- والرجل أكمل النوع الإنساني حياة- فأولى ألا يكون للأنثى قلبان، وأما الصبيان فمآلهم أن يكونوا رجالا، فالمعنى حينئذ:
ما خلق الله لأحد من الناس قلبين في جوفه، وكانت العرب تزعم أنّ كلّ لبيب أريب له قلبان، واشتهر أبو معمر الفهري بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب (ظاهر من زوجته) أنه قال لها: «أنت عليّ كظهر أمّي» فهو نظير (لبّى) إذا قال: (لبيك) و (أفف) إذا قال: (أف) و (سبّح) إذا قال: (سبحان الله) و (كبّر) إذا قال: (الله أكبر). فجاء الشرع فألحق بهذه الصيغة- «أنت عليّ كظهر أمّي» - في الحكم كلّ ما يدلّ على تشبيه الرجل زوجته أو جزءا منها بأنثى محرّمة عليه على التأبيد.
وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا لا حلّ بعده برجعة ولا بعقد، لأنهم كانوا يجرون أحكام الأمومة على المظاهر منها، فأبطل الله هذه العادة، وجعل للظّهار أحكاما سوف يأتي بيانها في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله.
أَدْعِياءَكُمْ الأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنا وليس بابن، وقد كان التبني عادة فاشية في الجاهلية وصدر الإسلام، يتبنّى الرجل ولد غيره، فتجري عليه أحكام البنوّة كلّها. وقد تبنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة، وتبنّى حذيفة سالما مولاه، وتبنّى الخطاب- أبو عمر رضي الله عنه- عامر بن أبي ربيعة. وكثير من العرب تبنى ولد غيره، فجاء القرآن الكريم بإبطال هذا العمل وإلغائه.
بيّنت الآية أنّ هذه الأمور الثلاثة باطلة لا حقيقة لها، فكون الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع. وجعل المظاهر منها أمّا أو كالأم في الحرمة المؤبّدة من
624
مخترعات أهل الجاهلية، التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي. وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في شرع ظاهر.
ولما كان أظهر هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كون الرجل له قلبان قدّم الله جل شأنه قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وضربه مثلا للظهار والتبني، أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهر منها أما ولا المتبنّى ابنا.
وقوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ الإشارة فيه إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من كون الرجل له قلبان، وكون المظاهر منها أما والدعيّ ابنا. وزيادة قوله تعالى:
بِأَفْواهِكُمْ للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط، من غير أن يكون له مصداق أو حقيقة في الواقع ونفس الأمر، فلا يستتبع أحكاما كما يزعمون.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عزّ وجلّ.
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ
أخرج الشيخان والترمذي والنسائي «١» وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ إلخ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل»
. وكان من أمره ما
رواه ابن مردويه عن ابن عباس «٢»
أنّه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيء، فأصيب في نهب من طيء، فقدم به سوق عكاظ.
وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوّق بها، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه، فابتاعه، فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه، فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها، فأخذته.
فتزوجها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو عندها، فأعجب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظرفه، فاستوهبه منها، فقالت: أهبه لك، فإن أردت عتقه فالولاء لي، فأبى عليها الصلاة والسلام، فوهبته له إن شاء أعتق، وإن شاء أمسك.
قال: فشب عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنّه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه، فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة.
(١) رواه مسلم في الصحيح (٤/ ٨٨٤)، ٤٤- كتاب فضائل الصحابة، ١٠- باب فضائل زيد حديث رقم (٦٢/ ٢٤٢٥)، والبخاري في الصحيح (٦/ ٦)، ٦٥- كتاب التفسير، ٢- باب ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ حديث رقم (٤٧٨٢)، والترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٣٣٠)، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (٣٢٠٩).
(٢) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٥/ ١٨١- ١٨٢).
625
قال: من أنفسهم؟ قال: لا. قال: فحرّ أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك.
قال: لمن؟
قال: لمحمد بن عبد المطلب. فقال له: أعرابي أنت أم أعجمي؟ قال: عربي.
قال: ممن أهلك؟.
قال: من كلب. قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبدون. قال: ويحك ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل. قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي. قال:
ومن أخوالك؟ قال: طيء. قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى. فالتزمه وقال: ابن حارثة! ودعا أباه قال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبّا فلا أصنع إلّا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عبدك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فإنّك ابن سيد قومه، وإنا سندفع إليك في الفداء ما أحببت.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيكم خيرا من ذلك؟» قالوا: وما هو؟ قال: «أخيره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه».
فقالوا: جزاك الله خيرا فقد أحسنت.
فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا زيد أتعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم. هذا أبي وعمي وأخي.
فقال عليه الصلاة والسلام: «فهم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم».
فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت معي بمكان الوالد والعم.
قال أبوه وعمه: أيا زيد أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل.
فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصه عليه قال: «اشهدوا أنّه حر، وأنّه ابني يرثني وأرثه».
فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة.
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي دعاؤهم لآبائهم، ونسبتهم إليهم بالغ في العدل والصدق، وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه. فأفعل التفضيل ليس على بابه، بل قصد به الزيادة مطلقا، ويجوز أن يكون على بابه، جاريا على سبيل التهكم بهم.
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم في الدين ومَوالِيكُمْ
626
أي وهم مواليكم في الدين أيضا، فليقل أحدكم: يا أخي أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوة والولاية في الدين.
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ظاهر السياق أن المراد نفي الجناح عنهم فيما أخطؤوا به من التبني، وإثبات الجناح عليهم فيما تعمدت قلوبهم من التبني أيضا.
والقائلون بهذا الظاهر مختلفون في المراد بالخطأ ما هو؟
فأخرج ابن جرير «١» وغيره عن مجاهد أنّ المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم الأدعياء أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم عليهم هو ما كان من ذلك بعد النهي، فالخطأ هنا معناه الجهل بالحكم.
وأخرج ابن جرير «٢» وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
أي فعليك فيه الإثم، فعلى رأي مقاتل يكون المراد بالخطأ مقابل العمد. وكلا الأمرين بعد ورود النهي.
وأجاز بعض المفسرين أن يراد العموم في فِيما أَخْطَأْتُمْ وفي ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ويكون معنى قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ نفي الجناح عنهم في الخطأ كله دون العمد، فيتناول ذلك لعمومه خطأ التبني وعمده. والكلام حينئذ وارد في العفو عن الخطأ، كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه «٣» من حديث ابن عباس.
وكما في
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لست أخاف عليكم الخطأ، ولكن أخاف عليكم العمد» أخرجه ابن مردويه «٤».
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر لمن تعمّد قلبه الإثم إذا تاب رَحِيماً من رحمته أنّه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه.
وظاهر الآية يدلّ على أنه يحرم على الإنسان أن يتعمّد دعوة الولد لغير أبيه، وذلك محمول على ما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية. وأمّا إذا لم تكن كذلك، كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة: با بني. وكثيرا ما يقع ذلك، فالظاهر عدم الحرمة.
(١) و (٢) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢١/ ٧٦).
(٣) رواه ابن ماجه في السنن (١/ ٦٥٩)، ١٠- كتاب الطلاق، ١٦- باب طلاق المكره حديث رقم (٢٠٤٥). [.....]
(٤) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي (٥/ ١٨٢).
627
ولكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار. ولا فرق في ذلك بين كون المدعو ذكرا أو كونه أنثى. وإن لم يعلم علم اليقين وقوع التبني للإناث في الجاهلية.
ومثل دعاء الولد لغير أبيه انتساب الشخص إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، وعدّ ذلك كثير من العلماء في الكبائر. وهو محمول أيضا على ما إذا كان الانتساب على الوجه الذي كان في الجاهلية، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته، وقد ورد في هذا الادعاء الوعيد الشديد.
أخرج الشيخان وأبو داود «١» عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان «٢» أيضا: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».
وأخرجا «٣» أيضا: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر».
وأخرج الطبراني في «الصغير» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كفر من تبرّأ من نسب وإن دقّ، أو ادعى نسبا لا يعرف» «٤».
قال العلماء في معنى «كفر» هنا أنّه إن كان يعتقد إباحة ذلك فقد كفر وخرج عن الإسلام. وإن لم يعتقد إباحته ففي معنى كفره وجهان:
أحدهما: أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية.
والثاني: أنّه كافر نعمة الله والإسلام عليه.
وكذلك قوله في الحديث الآخر «فليس منا» أي إن اعتقد جوازه خرج عن الإسلام، وإن لم يعتقد جوازه فالمعنى: أنّه لم يتخلّق بأخلاقنا.
وليس الاستلحاق الذي أباحه الإسلام من التبني المنهي عنه في شيء، فإن من شرط الحل في الاستلحاق الشرعي أن يعلم المستلحق- بكسر الحاء- أن المستلحق- بفتحها- ابنه، أو يظن ذلك ظنا قويا، وحينئذ شرع له الإسلام استلحاقه، وأحلّه له، وأثبت نسبه منه بشروط مبيّنة في كتب الفروع.
(١) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٨٠)، ١- كتاب الإيمان حديث رقم (١١٤/ ٦٣)، والبخاري في الصحيح (٨/ ١٥)، ٨٥- كتاب الفرائض، ٢٩- باب من ادعى حديث رقم (٦٧٦٦).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ١١٤٧)، ٢٠- كتاب العتق، ٤- تحريم تولي العتيق حديث رقم (١٣٧٠) (بلفظ مختلف)، والبخاري في الصحيح (٢/ ٢٦٩)، ٢٩- كتاب فضائل المدينة، ١- باب حرم المدينة حديث رقم (١٨٧٠).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٨٠)، ١- كتاب الإيمان، ٢٧- باب حديث رقم (١١٣/ ٦٢)، والبخاري في الصحيح (٨/ ١٥)، ٨- كتاب الفرائض، ٢١- باب من ادعى حديث رقم (٦٧٦٨).
(٤) رواه ابن ماجه في السنن (٢/ ٩١٦)، ٣- كتاب الفرائض، ١٣- باب من أنكر ولده، حديث رقم (٢٧٤٤).
628
أما التبنّي المنهي عنه، فهو دعوى الولد مع القطع بأنّه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟
وظاهر الآية أيضا أنّه يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه: يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوة في الدين، والولاية فيه، لكنّ بعض العلماء خصّ ذلك بما إذا لم يكن المدعو فاسقا، وكان دعاؤه بيا أخي أو يا مولاي تعظيما له، فإنه يكون حراما، لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يدعى باسمه، أو بيا عبد الله، أو يا هذا. مثلا.
قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) لعلّك ترى زيدا قد تصيبه وحشة من أنّه صار لا يدعى بعد الآن زيد بن محمد، خصوصا بعد أن كان من أمر أبيه وعمه في النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه قد يرى في تخلّي النبي عن أبوته حطّا من قدره بين الناس، وقد كان هو يعتز بهذه الدعوة، لأنها تكسبه جاها عريضا ينفعه في الدنيا والآخرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية تسلية لزيد، ولبيان أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إن تخلى عن أبوة زيد فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا لا تفريق بين ابن الصلب وغيره، فهو يرعاهم حق الرعاية، ويهديهم طريقا إن اتبعوه لن يضلوا بعده أبدا. وما كانت أبوته لزيد أو لأحد غيره بزائدة في ذلك شيئا، ولن ينقص زيد بتخلّي النبي عن أبوته شيئا فالرسول أولى وأحق بكل المؤمنين من أنفسهم، فهو الآمر الناهي بما يحقّق للناس سعادتهم في الدنيا والآخرة، والحفيظ على مصالحهم، لا يضيّع شيئا، وقد تأمر النفس بالسوء؟ أما الرسول فهو الذي يوحى إليه، لا ينطق عن هوى، ولا يهدي إلا إلى الخير.
ولم يذكر في الآية ما تكون فيه الأولوية، بل أطلقت إطلاقا ليفيد ذلك أولويته في جميع الأمور، ثم إنّه ما دام أولى من النفس، فهو ولى من جميع الناس بطريق الأولى.
وقد روى البخاري «١» وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه»
. وقوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة الأمهات في تحريم نكاحهن،
(١) رواه البخاري في الصحيح (٣/ ١١٦)، ٤٣- كتاب الاستقراض، ١١- باب الصلاة على من ترك دينا حديث رقم (٢٣٩٩).
629
واستحقاق تعظيمهن، وأما في غير ذلك، فهنّ أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين.
ومن أجل هذا قالت السيدة عائشة لمن قالت لها يا أمه: أنا أمّ رجالكم لا أم نسائكم.
ثم الظاهر، أنّ المراد من أزواجه كل من وقع عليها اسم الزوج، سواء من طلّقها ومن لم يطلقها، فيثبت الحكم للجميع، فلا يحل نكاح أحد منهنّ حتى المطلقة، وقيل لا يثبت هذا الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة، كالمستعيذة «١»، وصحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط.
وقد روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه فهم برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف عنه. وفي رواية أنّه همّ برجمها، فقالت: ولم هذا؟ وما ضرب عليّ حجاب، ولا سميت للمسلمين أمّا، فكفّ عنها.
وأما التي اختارت الدنيا منهنّ حين نزلت آية التخيير الآتية فقد ذكر بعض العلماء أنّ الخلاف الذي سمعت يجري فيها كذلك.
واختار الرازي والغزالي القطع بالحل.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الظاهر أنّ المراد بأولي الأرحام ذوو القرابات مطلقا، سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام. فالمراد من الآية الكريمة أنّ أصحاب القرابة أيّا كان نوعها أولى من غيرهم بمنافع بعض، أو بميراث بعض، على ما سيأتي من القول فيه.
وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ المراد منه ما كتبه في اللوح المحفوظ، أو ما أنزله في القرآن من آية المواريث وغيرها، كآية الأنفال، أو المراد بكتاب الله ما كتبه وفرضه وقدّره، سواء أكان ذلك الفرض في القرآن أو في غيره.
قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يحتمل أن يكون راجعا إلى أولي الأرحام والمعنى:
وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض في النفع أو في الميراث، وقد قال بجواز هذا صاحب «الكشاف» «٢». ويحتمل أن يكون قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ متعلقا بأولي، والمعنى: وأولو الأرحام بعضهم أولى من المؤمنين والمهاجرين بنفع بعض، أو بميراث بعض، ويكون هذا إبطالا لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والنصرة، على نحو ما جاء في آخر سورة الأنفال من
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٠٠)، ٦٨- كتاب الطلاق، ٣- باب من طلّق حديث رقم (٥٢٥٥).
(٢) انظر الكشاف للإمام الزمخشري (٣/ ٥٢٤).
630
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥) [الأنفال: ٧٢- ٧٥].
فأنت ترى أنّه كان هناك توارث بالهجرة والنصرة، ثم نسخ، وتأكّد النسخ
بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» «١»
وظاهر أنّ النفي لا يراد منه نفي حقيقة الهجرة، وترك بلد إلى آخر، فذلك موجود بعد الفتح، ويوجد كل يوم، بل المراد نفي الأحكام التي كانت تترتب على الهجرة كالتوارث بها، وحينئذ يكون معنى قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أنّ التوارث الذي كان سبب الهجرة قد بطل، وصار التوارث بالرحم.
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يحتمل أن يكون الاستثناء هنا متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا.
فعلى الأول: يكون استثناء من أعم الأحوال التي تقدر الأولوية فيها كالنفع، فإنّه يتنوع إلى ميراث وصدقة وهدية ووصية، وغير ذلك، ويكون المعنى: أن أولي الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين، إلّا أن يكون لكم في هؤلاء ولي تريدون أن توصوا إليه، وتسدوا إليه معروفا، فذلك جائز، ويكون هو أولى بذلك المعروف من ذوي الأرحام، فإنّ الوصية لا تجوز لهم إلا برضاء الورثة.
وعلى الثاني: وهو أن الاستثناء منقطع فتجعل ما فيه الأولوية هو الميراث فقط، وهو المستثنى منه، ويكون فعل المعروف وهو المستثنى الوصية.
ولا شك أنّهما جنسان، وتخصيص ما فيه الأولوية بالميراث مفهوم من الكلام، إذ المسلمون جميعا بعضهم أولى ببعض في التناصر والتواصل والتراحم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
وقد يكون بعض وجوه النفع الأجانب فيها أولى من ذي الرحم، فإنّ الصدقات يأخذها الفقراء وإن كانوا أجانب، ويحرم منها الأغنياء وإن كانوا أقارب.
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٤٨٨)، ٣٣- كتاب الإمارة، ٢٠- باب المبايعة حديث رقم (٨٦/ ١٨٦٤).
631
والشيء الوحيد الذي يكون فيه ذو الرحم أولى من غيره هو الميراث، ويكون المعنى على هذا كأنه قيل: لا تورثوا غير ذي رحم، لكن أن تسدوا إلى أوليائكم المؤمنين والمهاجرين معروفا، فذلك جائز: بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام.
وترى أنّا قد فسرنا الأولياء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً بالأولياء من المؤمنين والمهاجرين، وذلك جريا على ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن الآية في ترك التوارث بالهجرة والمؤاخاة، ويكون هذا تمشيا مع ما أسلفناه من أنّ (من) في قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ داخلة في المفضل عليه.
وروي عن بعضهم أن الآية نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني، ويكون معنى الآية أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم، وهذا الوجه مروي عن محمد بن الحنفية وغيره.
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً كان هذا الحكم الذي دلت عليه الآيتان مثبتا بالأسطار في القرآن، أو حقا مثبتا عند الله لا يمحى.
ترى مما تقدم أنّا قد فسرنا (أولي الأرحام) بذوي القرابة مطلقا، أيا كان نوعهم، وقد نقل الفخر الرازي أنّ الإمام الشافعي رضي الله عنه فسّرها بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي من الحنفية. ثم هو بعد ذلك يردّ فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام من حيث إنّ الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إنّ الآية اقتضت أنّ ذا القرابة مطلقا أولى من غيره. وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض فهذا به أدلته الخاصة، ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم وهو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدّم بيت المال عليهم.
وقد اختلف العلماء في تقديم ذوي الأرحام على مولى العتاقة. فذهب بعضهم إلى أنّ ذا الرحم أولى، وهو يروى عن ابن مسعود، وظاهر الآية يساعده.
ويرى بعضهم أنّ مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو مرويّ عن كثير من الصحابة، بل زعم الجصاص أنّه مذهب سائر الصحابة، وقد روي عن ابنه حمزة أعتقت عبدا ومات، وترك بنتا، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته، ونصفه لابنة حمزة، ولم يقل لنا الرواة هل كان للميت ذو رحم حتى يتم الدليل؟
وهذا إن صح يدلّ أيضا على أن مولى العتاقة أولى من الرد، وهذا لا يكون إلا إذا كان مولى العتاقة محسوبا من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم، وقد روي أنّ النبي جعل ابنة حمزة عصبة لمولاها،
وقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الولاء لحمة كلحمة النّسب».
632
وللمخالف أن يقول: إن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق، فأين تقديمه على غيره.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (٤٩)
لا خلاف بين العلماء في أنّ المراد بالنكاح هنا العقد، ولا خلاف بينهم أيضا في أنّ قيد الإيمان هنا ليس للاحتراز، بل لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنّهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، وللإشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيارهم في الزواج على المؤمنات.
وكذلك اتفقوا على أنّه ليس المراد بالمس هنا حقيقته، وهي إلصاق اليد بالجسم، وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده من غير جماع ولا خلوة.
ولم يقل بذلك أحد. بل المراد بالمس الجماع، لشهرة الكناية به وبالمماسة والملامسة ونحوها عن الجماع في لسان الشرع.
والعدة شرعا المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها من الحمل، أو للتعبّد، أو للتفجّع على زوج مات.
ومعنى تَعْتَدُّونَها تعدونها عليهن، أو تستوفون عددها عليهن.
والمتعة في الأصل الاستمتاع، وما يتمتع به، وفي لسان أهل الشرع ما يعطيه الزوج لمطلقته إرضاء لها، وتخفيفا من شدة وقع الطلاق عليها. وبيان مقدار المتعة ونوعها قد تكفّلت به كتب الفروع.
وأصل التسريح إرسال الماشية لترعى السرح، وهو شجر عظيم ذو ثمر. ثم توسع في التسريح، فجعل لكل إرسال في الرعي، ثم لكل إرسال وإخراج. والمراد به هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية، إذ لا سبيل للرجال عليهن بعد طلاقهن.
والسراح الجميل يكون بمجاملتهن بالقول اللين، وترك أذاهن، وعدم حرمانهن مما وجب لهن من حقوق.
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ أنّه لا طلاق قبل النكاح، فقول الرجل: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق، لا يعدّ طلاقا، فإذا تزوج لم تطلق زوجته بهذه الصيغة التي صدرت منه قبل النكاح، سواء أخصّ أم عمّ، وسواء أنجز أم علّق.
وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: هو ليس بشيء، فقيل له: إنّ ابن مسعود كان يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال لقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ولكن إنما قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
وقد ذكر في «الدر المنثور» وغيره من رواية علي وجابر ومعاذ وغيرهم رضي الله عنهم
633
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا طلاق قبل نكاح» «١»
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
وقال الحنفية: الطلاق يعتمد الملك أو الإضافة إليه، لكنه في حال الإضافة إلى الملك يبقى معلّقا، حتى يحصل شرطه الذي هو الملك، فإذا قال للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، كان هذا تعليقا صحيحا للطلاق على شرط النكاح، فإذا حصل هذا الشرط وقع الطلاق على فوره، وكان طلاقا في الملك بالضرورة، فكأنّه أنجزه عليها حينذاك.
والفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية، وبين تعليق طلاقها على نكاحها، فإنّ الأول طلاق لم يحصل في الملك، ولم يكن مضافا إليه. أما الثاني فإنّ وقوعه لا بد أن يصادف الملك حيث كان معلقا عليه. والحنفية لا يشترطون في التعليق على الملك أن يكون صريحا بصيغة من الصيغ المعهودة في التعليق، بل المعوّل عليه عندهم أن يكون المعنى على التعليق، فلا فرق عندهم بين التعليق اللفظي كأن يقال:
إن تزوجت فلانة فهي طالق. والتعليق المعنوي مثل: كل امرأة أتزوجها طالق. غير أنّهم يشترطون في التعليق المعنوي ألا تكون المرأة معيّنة بالاسم أو بالإشارة مثل:
فلانة التي أتزوجها طالق، وهذه المرأة الحاضرة التي أتزوجها طالق، فإنّ تعيين المرأة بالاسم أو بالإشارة يضعف معنى التعليق، فتلتحق هاتان الصورتان وما أشبههما بالطلاق الناجز، والطلاق الناجز لا يقع في غير الملك بالاتفاق.
وقد حكي عن مالك رضي الله عنه أنّه إن عمّ لم يقع، وإن سمّى شيئا بعينه امرأة أو جامعة إلى أجل وقع.
وحكي عنه أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجلا يعلم أنه لا يبلغه كأن قال: إن تزوجت امرأة إلى مئة سنة لم يلزمه شيء، وهذا الذي حكيناه عن الحنفية والمالكية منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، على اختلاف في التفصيل، ليس هذا محل ذكره.
ويقول أصحاب هذا الرأي: إنّ قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ لا ينافي ما ذهبنا إليه، بل إنه ظاهر الدلالة على صحة قولنا، لأنّ الآية حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح. ومن قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت مطلّقة، فهي طالق بعد النكاح، فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه، وإثبات حكم لفظه.
(١) رواه ابن ماجه في السنن (١/ ٦٦٠)، ١٠- كتاب الطلاق، ١٧- باب لا طلاق قبل النكاح حديث رقم (٢٠٤٨).
634
وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل نكاح» «١»
- فبعد تسليم صحته- لا ينافي ما ذهبنا إليه، لأنّ من ذكرنا مطلّق بعد النكاح.
وقد روي عن الزهري في هذا الحديث إنما هو أن يذكر للرجل المرأة، فيقال له: تزوجها. فيقول: هي طالق البتة، فهذا ليس بشىء. فأمّا من قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة فإنما طلقها حين تزوجها.
ثم إنّ عطف الطلاق في الآية على النكاح ب ثُمَّ لا يدل على أنّ الحكم خاص بالحالة التي يتراخى فيها الطلاق عن النكاح، فإنه لا فرق بين أن يقع متراخيا، وأن يقع على الفور، بل عدم الاعتداد في صورة الفورية أولى منه في صورة التراخي.
وعلى هذا يكون التعبير ب ثُمَّ للتنصيص على الحكم في الصورة التي قد يتوهم فيها وجوب العدة، لطول المدة التي هي مظنة الملاقاة والمباشرة. وهذا ظاهر إذا كانت كلمة ثُمَّ باقية على معناها الوضعي، مفيدة للتراخي الزماني.
ويصحّ أن يراد منها التراخي في الرتبة وبعد المنزلة، فيستفاد منها أنّ مرتبة الطلاق بعيدة عن مرتبة النكاح، إذ إنّ النكاح تترتب عليه منافع كثيرة، ويثمر ثمرات طيبة. فأما الطلاق فإنّه يحل العقدة، ويفصم العروة، ويبطل ما بين الزوجين وأقاربهما من روابط وصلات. ولهذا قال بعض الفقهاء: إنّ الآية ترشد إلى أنّ الأصل في الطلاق الحظر، وأنّه لا يباح إلا إذا فسدت الزوجية، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين.
وظاهر التقييد بعدم المس- الذي عرفت أنّه كناية عن الجماع- أنّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدة بعد الطلاق، وهو قول الشافعي في الجديد. أما الحنفية والمالكية الذين يقولون بأنّ الخلوة الصحيحة كالجماع فمن العسير جدّا أن تحمل الآية على محمل يساعدهم. وقد حاول بعضهم أن يجعل المس كناية عن الخلوة أو عما يشمل الخلوة والجماع، ولكنّ ذلك بعيد، إذ لم يعرف، ولم يشتهر إطلاق المس على الخلوة.
وإذا فوجوب العدة بالخلوة عند من يقول بذلك لا بد له من دليل آخر، وذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني والرازي في «أحكام القرآن» «من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل».
وقال ابن المنذر: إنّ هذا قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وجابر، ومعاذ، وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنّه
(١) سبق تخريجه.
635
قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملا، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل.
هذا وقد اختلف علماء الحنفية بعد الاتفاق على وجوب العدة بالخلوة، فمنهم من يقول: إنّها واجبة قضاء وديانة، وإنّه لا يحل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعتدّ ما دامت الخلوة بالأول صحيحة، ولو من غير وقاع. ومنهم من يقول: إنّه يحل لها ذلك متى كان الزوج لم يواقعها، فأما في القضاء فلا اعتبار إلا بالظاهر.
وظاهر الآية أيضا أنه لا عدة على المرأة المدخول بها إذا طلّقها زوجها رجعيا، أو أبانها بينونة صغرى ثم راجعها، أو عقد عليها قبل انقضاء عدتها، ثم طلقها قبل أن يمسها، إذ إنّ هذا الطلاق الثاني يصدق عليه أنه طلاق قبل المس، وبذلك قال أهل الظاهر. فليس عليها عدة جديدة للطلاق الثاني لأنّه طلاق قبل المس، كما أنّه ليس عليها أن تكمّل العدة الأولى، لأنّ الطلاق الثاني قد أبطل الطلاق الأول. ثم يكون لها نصف الصداق في صورة البينونة، والوجه فيه ظاهر.
وقال بعض الفقهاء ومنهم عطاء والشافعي في أحد قوليه: إنّه يجب على المرأة في الصورتين أن تبني على عدة الطلاق الأول، وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة، إذ الطلاق الثاني لا عدة له، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول، فإنّه طلاق بعد دخول، يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب الاعتداد، وعلى الزوج نصف الصداق في صورة البينونة، كما يقول أهل الظاهر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي: أنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة جديدة في الصورتين، لأنّ الطلاق الثاني- وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة أو العقد الثاني مسّ ولا خلوة- لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق، إذ المفروض أنّ المرأة كان مدخولا بها من قبل، وعلى الرجل في صورة البينونة مهر كامل لهذا الاعتبار.
وأما المالكية فإنّهم يفرقون بين صورتي الرجعيّ والبائن.
فيقولون في الأولى: إنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة كاملة، إذ أنّها في حكم الموطوءة بعد المراجعة.
أما في صورة البائن فإنّ النكاح بعد البينونة عقدة جديدة، فالطلاق بعدها يصدق عليه أنه طلاق قبل الدخول، فلا يوجب عدة، لكنّه لا يصحّ أن يهدم ما وجب على المرأة بالطلاق، فعليها أن تكمل العدة الأولى، ولها على المطلّق نصف المهر. فهم يوافقون أبا حنيفة في صورة الطلاق الرجعي، فيوجبون عدة كاملة، ويخالفونه في صورة البائن فيوجبون نصف المهر، وإكمال عدة الطلاق الأول.
636
وظاهر قوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أنّ العدة حيث تجب تكون حقا للمطلّق، وقد يقول بعض من يسير مع الظواهر: إنّ العدة حقّ خالص للمطلق، فإنّه يغار على ولده، ويعنيه ألا يسقى زرعه بماء غيره، وكون العدة لا تسقط إذا أسقطها المطلّق لا يدل على أنها لسيت حقه، إذ قد عهد في الشريعة حقوق لا يملك أصحابها إسقاطها كحق الإرث وحق الرجوع في الهبة وحق خيار الرؤية.
لكن المشهور عند الفقهاء أنّ العدة ليست حقا خالصا للعبد، فإنّ منع الفساد باختلاط الأنساب من حقّ الشارع أيضا.
فالراجح أن العدة تعلّق بها حقّ الله وحقّ العبد ولما كانت منفعتها عائدة على العبد، وكانت غيرة الرجل مظنة أن تدفعه إلى أن يحول بين المرأة وحريتها في أن تلتمس غيره من الأزواج، حتى في هذه الحالة التي لم يحصل فيها خلوة ولا وقاع، لما كان ذلك كذلك خاطبه الله سبحانه وتعالى بأنه لا سبيل له على هذه المرأة، وأنه يجب عليه أن يخلي سبيلها بالمعروف، فلا يكون في الآية دلالة على أنّ العدة حق خالص للمطلق.
وظاهر أنّ الضمير في قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ راجع إلى المؤمنات اللاتي طلّقن قبل أن يمسسن، سواء أكن مفروضا لهنّ أم لا. فيكون ظاهر قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول، سواء أفرض لها مهر أم لم يفرض، وبهذا الظاهر كان يقول الحسن وأبو العالية.
وقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن أيضا أنّ لكل مطلقة متاعا، سواء أدخل بها أم لم يدخل، وسواء أفرض لها أم لم يفرض.
وظاهر هذه الرواية الوجوب في الكلّ عملا بظاهر قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) [البقرة: ٢٤١]. ولكنّ قوله تعالى في سورة البقرة:
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: ٢٣٧] لم يجعل للتي طلقت قبل الدخول وقد فرض لها مهر إلا نصف ما فرض لها، ولم يجعل لها متعة، لأنّ وروده في مقابلة قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) [البقرة: ٢٣٦] يجعله كالبيان لمفهوم القيد الذي هو عدم الفرض، فيكون كالصريح في أنّ التي طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر ليس لها متعة.
وقد علمت أنّ ظاهر الآية التي معنا يوجب لها المتعة، فكان بين الآيتين تعارض في ظاهرهما: وللعلماء في دفع هذا التعارض طرق:
فمنهم من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب التي معنا، أو ناسخة
637
لعمومها، ويكون المعنى: فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهم [مهر عند عقد] النكاح.
فوجوب المتعة المستفاد من قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ خاصّ بمن لم يفرض لها من المطلقات قبل الدخول، دون من فرض لها، وبهذا قال ابن عباس، وهو مذهب الحنفية والشافعية. ويؤيّد ذلك أن المتعة إنما وجبت للمطلقة، لإيحاش الزوج إياها بالطلاق، فإذا وجب للمطلقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابرا للإيحاش، فلم تجب لها المتعة.
ومنهم من حمل المتعة في آية الأحزاب على العطاء مطلقا، فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه، وتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها، فأوجبت لها على المطلّق شيئا تتمتّع به، وتزول به وحشتها، إلا أن ذلك الشيء في صورة الفرض مقدّر بنصف المفروض بالنص، وفي صورة عدم الفرض غير مقدّر، فإن اتفقا على شيء فذاك، وإلا قدّرها القاضي بنظره واجتهاده، معتبرا حالهما إيسارا وإعسارا، وما يليق بنسب المرأة وكرامتها.
ومنه من حمل الأمر في قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ على الإذن الشامل للوجوب والندب، مع بقاء المتعة على معناها المعروف، فتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها أيضا، إلا أنّه في صورة عدم الفرض يكون التمتيع واجبا، لقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ... وفي صورة الفرض الصحيح يكون التمتيع مستحبّا، لأنّه من الفضل المندوب إليه بقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وقد تقدّم لك ما في ذلك في تفسير سورة البقرة.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) الكلام على ربط الآية بما قبلها واضح بيّن. فقد كان الكلام هناك في أنكحة المؤمنين. وأحكامها. وهنا في نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي يحلّ له نكاحهن، وأحكام أخرى تتبع النكاح.
والمراد من الأجور هنا: المهور والصدقات. وسميت الصدقات أجورا في هذا الموضع وغيره من القرآن الكريم لما يظهر للناس بادئ الرأي أنّ في العقد تقابلا بين
638
المنفعة والمهر. وذلك كاف في تصحيح إطلاق اسم الأجر على المهر، وقد قلنا في بادئ الرأي، لأنّ الله تعالى يقول: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) [النساء: ٤] والنحلة العطية.
وإنك لترى الفقهاء قاطبة في مواضع كثيرة يقولون: المهر ليس في مقابلة البضع، ولا في مقابلة المنفعة، ولا هو في مقابلة الانتفاع، إنما هو بدل وعطية لإظهار خطر المحل وشرفه. على أنّك ترى أنّ حقيقة الأجرة لا تمشي مع المهر خطوات كثيرة، فالأجرة في مقابلة المنفعة تنقسم عليها، وتتجزأ معها بحسب الزمن، وليس كذلك المهر، حيث يجب نصفه بالطلاق بعد العقد قبل المس، ويجب كله في غير هذه، ولا عبرة بمرات الانتفاع كثرة وقلّة، بل المرة الواحدة كالذي لا يتناهى من المرات. وأنت تعرف أنّ الخلوة الصحيحة مرة واحدة توجب المهر كاملا عند الحنفية، فهل ترون أن الرجل انتفع، وأنّ انتفاعه تكرّر.
وقد جاء في الآية الكريمة عدة قيود، ما أريد بواحد منها إلا التنبيه على الحالة الكريمة الفاضلة:
منها، وصف أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم باللاتي آتى أجورهن، فإنه تنبيه على الحالة الكاملة، فإن الأكمل إيتاء المهر كاملا دون أن يتأخر منه شيء. وما الذي عليه الناس من تأخير بعض المهر إلا شيء أحدثه العرف، واقتضاه الحذر بعد أن فسد حال الناس، واقتضاه التغالي في المهور أو الظهور بمظهر المغالاة فيها. وإذا كان الفقهاء قد جعلوا للمرأة حقّ الامتناع من تمكين الزوج حتى تأخذ المهر كاملا. فلا يكون الأليق أن يدفع المهر كاملا حتى لا يظهر الرجل بمظهر من يريد استحلال الفروج بالمجان. ويقول العلماء: إنّ تعجيل المهور كان سنة السلف، لا يعرف منهم غيره، وقد شكا بعض الصحابة عدم قدرته على التزوج
فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أين درعك الحطمية» «١».
ومنها أن تخصيص المملوكات بأن يكنّ من الفيء من هذا القبيل، فإنّ المملوكة إذا كانت غنيمة من أهل الحرب كانت أحلّ وأطيب مما يشترى من الجلب، لأن تلك ظاهرة الحال، معروفة النشأة.
ومن تلك القيود قيد الهجرة في قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ولا شك أن من هاجرت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بشرف زوجية النبي صلّى الله عليه وسلّم ممن عداها.
وإنما قلنا الذي قلنا حتى لا نخوض فيما خاض فيه المفسرون من أشياء لا تغني من الحق شيئا، فقد حاولوا أن يأخذوا من قوله تعالى: اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أن الممهورات من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخذن مهرهنّ كلّه معجلا وأن تعجيل المهر كان
(١) رواه النسائي في السنن (٥- ٦/ ٤٤٠)، كتاب النكاح، باب تحلة الخلوة حديث رقم (٣٣٧٥).
639
واجبا عليه. لماذا؟ لأن الفقهاء قالوا: إن المراد في حل من عدم التمكين حتى تأخذ المهر. ولو لم يعجّل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مهور نسائه لكنّ في حل من حق الامتناع، وهو لو طلبهن ما كان لهن حق الامتناع، لأنه عصيان لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم هكذا يقرر المفسرون حكما: هو الوجوب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لأن الفقهاء قالوا، وبعد تسليم الذي قالوا، كيف يكون الامتناع في هذه الحالة معصية؟!! وهو مقرر بقاعدة شرعية هي التي نقلتموها عن الفقهاء!! وكذلك نريد أن نخرج مما خاضوا فيه من بحث أن المملوكات من غير الفيء هل كنّ حلالا له أو لا؟ وإنك لتعجب حين تراهم يقولون: هل كانت تحته مملوكات من غير هذا النوع أو لم يكن؟ ثم يقررون أنه لم يكن!! وإذا سئلوا عن مارية قالوا: إنّ هدية الحربيين بمنزلة الفيء. وكان خيرا لهم من هذا أن يبحثوا المسألة من الوجهة التاريخية، ولا يكتفوا بسرد رواية لا يعلم مدى صحتها إلا الله.
وأعجب من هذا أنّك تسمعهم يروون أن من بين أزواجه زينب بنت خزيمة الأنصارية، وهي التي كانت تعرف بأمّ المساكين. ثم يخوضون في أنّ غير المهاجرات كنّ محرّمات عليه أولا قبل التحريم والتحليل.
ابحثوا الذي وقع واعرفوه، ثم قولوا: هل الذي وقع كان واجبا لا معدى عنه:
أم كان التزاما للحالة الفضلى؟ هذا إذا ثبت أن جميع نسائه كن مهاجرات.
وأشد عجبا من ذلك كله خوضهم في المراد بالأزواج اللاتي أحلّهن الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون: هنّ من كنّ في عصمته: كعائشة وحفصة ممن تزوجها بمهر.
ويزعمون أن الذي يلجئهم إليه هو دفع التعارض بين هذا، وبين قوله تعالى بعد ذلك:
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.
ولو أنهم حملوا الإحلال على الإذن العام بالنكاح من هذه الأصناف الأربعة:
الممهورات، والمملوكات، والأقارب، والواهبات أنفسهن من غير مهر، ثم يجيء قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ملزما بالوقوف عند ما انتهى إليه من الزوجات لا يعدوهنّ، كما أباح النساء للناس، ثم بيّن لهم الوقوف عند الأربع من غير المحرمات بأسباب التحريم، لو أنهم فعلوا ذلك لما كان للذي ظنوه من التعارض أي أثر. ولما كانوا في حاجة إلى أن يحملوا بنات العم وبنات العمات على القرشيات، وبنات الخال وبنات الخالات على أقاربه من بني زهرة.
ولكنّ الذي ألجأهم إلى ذلك هو أنهم لم يجدوا في نسائه واحدة من بنات عمه، وبنات عماته لم يكن منهن إلا زينب، وهذا الذي ذهبوا إليه إن نفعهم في بنات العمومة لا
640
يجدون له أثرا في بنات الخئولة، فهو لم يتزوج واحدة من بنات خاله وخالاته.
ولقد كان يغني عن هذا كله ذكر وصف القرابة، لكن الأمر ليس كما ذهب إليه المفسرون وإنما هو تعداد للأصناف التي يباح له أن يتزوج منها على الوجه الكامل.
كما بيّن للناس ما فرضه عليهم في أزواجهم في غير هذا الموضع.
ولو تمشينا معهم إلى آخر الآية لما استطعنا أن نمشي في الواهبات أنفسهن، فقد نصوا على أنّ الصحيح أنه لم يكن فيمن كان تحته من النساء من وهبت نفسها، قال أبو بكر ابن العربي: وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم امرأة موهوبة. وقد بيّنا الحديث الصحيح في مجيء المرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ووقوفها عليه، وهبتها نفسها له من طريق سهل وغيره في «الصحاح» وهو القدر الذي ثبت سنده وصحّ نقله. والذي يتحقق أنها لما قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وهبت نفسي لك، فسكت عنها، حتى قام رجل فقال: زوجنيها يا رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة «١». إلخ القصة انتهى ما أردنا نقله عن ابن العربي «٢».
وإلى هنا يتضح أنّ المراد بالإحلال: الإذن العام، والتوسعة في الزواج من هذه الأصناف، والإباحة له في أن يختار منهنّ من تقتضي الحكمة الزواج منها.
ولعلك بهذا الذي ذكرنا تستغني عن الكلام في تفسير الآية من جديد. فهو أن هناك أشياء تكلّم فيها المفسرون، لا نرى بأسا من التعرض لها قبل الكلام فيما ذكروا من أحكام، قالوا إنها تتصل بالآية:
فقد عرض المفسرون للحكمة في إفراد العم والخال، وجمع العمة والخالة.
- كما تكلموا عن الشرط الثاني إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها هل هو شرط في الشرط الأول، أو في مشروط الشرط الأول: وهو الإحلال.
- ولقد تكلموا في قوله تعالى: خالِصَةً فقالوا: هل يرجع إلى المرأة المؤمنة، أو لما قبله جميعا، وسنذكر هذا على الترتيب فنقول.
قال المفسرون: إن المراد من بنات العم والعمة: القرشيات، فإنّه يقال للقرشيين قربوا أن بعدوا أعمامه عليه الصلاة والسلام، ويقال للقرشيات قربن أم بعدن عماته.
والمراد من بنات الخال والخالة البنات من بني زهرة. إطلاق العم والعمة:
على أقارب الشخص من جهة أبيه، والخالة والخال على الأقارب من جهة الأم، أمر جرى به العرف.
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ١٠٤٠)، ١٦- كتاب النكاح، ١٣- باب الصداق حديث رقم (٧٦/ ١٤٢٥)، والبخاري في الصحيح (٦/ ١٦٨)، ٦٧- كتاب النكاح، ٥١- باب التزويج حديث رقم (٥١٤٩).
(٢) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٣/ ١٥٤٦). [.....]
641
وقد كان تحت النبي صلّى الله عليه وسلّم ست من القرشيات، ولم تكن تحته زهرية قط. وذلك يرشد إلى أنّ المراد من الإحلال الإذن في العقد على هؤلاء، دون أن يستدعي وقوعه.
وإذا حمل العم والعمة على ما هو المعروف، وكذا الخال والخالة كان الإحلال أيضا مراد منه ذلك. لأنّه لم يكن من بنات أعمامه تحته أحد، وكذا من بنات خؤولته، ولم يكن من بنات عمته معه إلا زينب بنت جحش.
ثم قالوا في الحكمة في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة كلاما كثيرا، بل إنّ من العلماء من ألف في ذلك كتابا برأسه، فمنهم من زعم أن العم والخال لم يجمعا لوقوعهما على وزن المصدر، وهو لا يجمع.
وقيل: بل إن عدم الجمع في العم والخال جاء على الأصل من إرادة العموم عند الإضافة، وأما العمة والخالة وإن كانتا مضافين فجمعا لمكان تاء الوحدة فيهما، وهي تأبى العموم في الظاهر وجمع الكل في سورة النور في قوله تعالى: أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ [النور: ٦١] لا يسأل عن علته، لمجيئه على الأصل في نسق واحد.
ويرى بعضهم أنّ الخطاب لما كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن له إلا عمّ واحد تحل بناته له، وهو أبو طالب، أما حمزة والعباس فقد كانا أخويه من الرضاعة، فقد أفرد العم من أجل ذلك، وجمعت العمات لأنهنّ كثيرات.
ويرى البعض أن الذي جرى هنا من الإفراد في العم جرى على نحو مألوف العرب، فإنك لا تكاد تجد في كلام العرب العم مضافا إليه الابن أو البنت مفردين أو مجموعين إلا مفردا، كما قيل:
إن بني عمك فيهم رماح.
وكما قيل:
قالت بنات العمّ يا سلمى.
وجاء الكلام في الخال والخالة على مثاله، وفي هذا القدر كفاية.
وأما الشرطان في قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فقد قالوا: إنّ الشرط الثاني شرط في الأول، فتكون هبة المرأة نفسها لا تستلزم الحل إلّا إذا وجدت إرادة الاستنكاح، ويقولون: إنّ هذه الإرادة تكون جارية مجرى القبول، وإذا كانت السين والتاء للطلب، فتكون الإرادة بمعنى الرغبة التي تسبق العقد، ثم الهبة والاستنكاح يكون بعد.
ثم إنّهم يقرّرون هنا قاعدة حاصلها: أنّه إذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر عنه في اللفظ متقدم عليه في الوجود، وهذه القاعدة لو سلمت لهم لكان ذلك مخلّا بتفسير الإرادة بالقبول، لأن القبول لا يكون إلا بعد الإيجاب، وعلى ذلك يلزم
642
أن يقال: إن القاعدة أغلبية، وأن الآية جرت على خلاف الغالب، ولكن من أين لهم هذه القاعدة؟ وما الذي يضرّ لو أنّ مجموع الشرطين جعلا قيدين في الإحلال، سبق الثاني في الوجود أو تأخر، خصوصا وقد ذهب إلى هذا الذي نقول طائفة كبيرة من العلماء في مقدمتهم إمام الحرمين.
ونحب أن نقول: إنّ أكثر العلماء على أنّ الهبة وقعت من كثير من النساء، وقد وردت روايات كثيرة في أشخاص الواهبات. غير أنّهم مع ذلك يصحّحون أنّه لم يكن تحته صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها.
وقد أخرج ابن سعد أنّ ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ووهب نساء أنفسهنّ، فلم نسمع أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل منهن أحدا.
وقد روى ابن جرير «١» وغيره عن ابن عباس أنه قال: لم يكن عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها.
وأما قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فقد ذهب بعضهم إلى أن (خالصة) منصوب على المصدرية. وقد جاء المصدر على هذا الوزن كثيرا: كالعافية، والكاذبة. ثم هو يرجع إلى إحلال الواهبة، أي أحللنا لك الواهبة يخلص لك ذلك خلوصا. وذهب بعضهم إلى أن (خالصة) حال من امرأة، أي أحللنا لك امرأة وهبت نفسها حال كونها خالصة لك، لا تحل لأحد بعدك.
ويرى البعض أنه راجع إلى جميع المحللات، والمعنى أحللنا لك كلّ ما تقدم على أن تختص بهن، لا يكون لأحد بعدك أن ينكحهن.
وأما قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فهو جملة اعتراضية جيء بها لتوكيد مضمون الجملة قبلها. والمعنى: أن ما ذكرناه حكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك مع نسائهم، فعندنا علمه، نبينه لهم على حسب ما تقضي به الحكمة والمصلحة في شأنهم.
واحتيج إلى هذا هنا حتى لا يظنّ أنّ ما جاز للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أزواجه من الشؤون يجوز لأمته، وقد كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم في النكاح وفي التسري خصائص ليست لغيره، فهو يزيد في النساء إلى التسع، وغيره لا يباح له الزيادة على الأربع، واختص النبي صلّى الله عليه وسلّم بنكاح الواهبات دون الناس.
والذي فرضه الله على الناس في أزواجهم ألا يجاوزوا أربعا من النساء، والولي، والشهود، والمهر، والنفقة، والكسوة، على ما في بعض ذلك من خلاف بين الفقهاء.
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢٢/ ١٧).
643
وضّحته كتب الفروع، إلى غير ذلك مما فرض الله للناس في شأن الأزواج والمملوكات، مما اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون غير شأن النبي في النساء، وما علم الله أن فيه صلاح العباد في هذا الشأن أيضا.
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ قيل متعلّق بأحللنا، وهو راجع إلى جميع ما ذكر.
والمعنى: أحللنا لك من آتيت أجورهنّ من النساء والمملوكات والأقارب والواهبة لندفع عنك الحرج الذي يلحقك فتتفرّغ لتبليغ الرسالة.
وقيل: هو متعلق بخالصة، أو بعاملها، أي خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك، لكيلا يكون عليك حرج، فلا تبحث عن مهر، ولا تسعى في تدبيره.
ويروي بعض المحققين أنه متعلق بمحذوف، أي بينا هذا البيان حتى تخرج من الحرج، ومما يظن الناس تأثيمك فيه، ومتى علموا أنّك تصدر في الذي تفعل عن وحي ربك اندفع الذي ظنوا، وكفيت الاعتراض والتأثيم.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر للناس ما لا يمكنهم التحرز عنه، رحيما بهم، يدفع عنهم الحرج والعنت.
الأحكام
أحلّ الله تعالى لنبيه توسعة عليه، وتيسيرا له في نشر الرسالة، صنوفا من النساء، صنفا يدفع له المهر، وصنفا يتمتع به بملك اليمين، وصنفا من أقاربه، وصنفا رابعا ينكحه دون مهر، بعد أن تهب المرأة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتم القبول، وهذا خاصّ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يجوز له، ولا يجوز لأحد من المؤمنين.
ذلك هو محصول الآية الكريمة على ما رجّحه العلماء من جعل الخصوصية في نكاح الهبة، وإن اختلفوا في مرجح الخصوصية في هذا النكاح على ما يأتي بيانه.
وقد أراد الكرخي أن يأخذ من تسميته المهر أجرا في قوله تعالى: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ حجة في عقد النكاح بلفظ الإجارة، ولم يتابعه سائر الحنفية في هذا الذي ذهب إليه. ولعلّ مستند الكرخي في هذا أنّ الله قد سمّى المهر أجرا، والأجر يجب بعقد يتحقّق بلفظ الإجارة، فيصح النكاح بلفظ الإجارة.
وليس هذا يصح مستندا، فالحنفية وهم الذين يقولون: إنّ العبرة في العقود للمعاني، يقولون: إنّ معنى الإجارة يتنافى مع عقد النكاح، إذ النكاح مبني على الإطلاق، والتوقيت يبطله، وعقد الإجارة مبني على التوقيت، حتى لو أطلق المتعاقدان العقد عن التوقيت كان مؤقتا، ويتجدد العقد ساعة فساعة، فكيف يصحّ جعل ما هو موضوع للتوقيت دالا على ما يبطله التوقيت.
644
وشيء آخر: وهو أنّ الإجارة عقد على المنافع بعوض. وبعبارة أخرى هي تمليك المنافع بعوض.
ويقول الحنفية وقد فرّعوا الفروع على ما قالوا: إنّ النكاح ليس عقد تمليك، وإنما هو استباحة، وهما مختلفان في الآثار.
وفرق آخر: هو أنّ «١» الحنفية يصرّحون بأنّ المهر في النكاح ليس عوضا، وإنما هو عطية أوجبها الله تعالى إظهارا لخطر المحل، ولذلك صحّ النكاح مع النص فيه على ترك المهر، ويجب مهر المثل بالدخول، ولو كان عوضا لما صح تركه، فضلا عن النص عن الإسقاط، ولو سلّم أن النكاح يقتضي التمليك فلا يصح أن يعقد بلفظ الإجارة، حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل، وما ينشأ اللبس إلا من لفظ الإجارة الدالّ على التوقيت.
وما كانت تسمية المهر أجرا لتستلزم هذا الذي ذهب إليه الكرخي، وقد بينا لك فيما تقدم المسوّغ لهذا، وهو ما يبدو من شبه بين الأجر والمهر، والمسألة في هذا سهلة، فالحنفية كلهم على غير ما يرى الكرخي.
ومما جرى الخلاف فيه بين الفقهاء عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وزفر، ومحمد، والثوري، والحسن بن صالح: يجوز، ولها ما سمّى في العقد. ومهر المثل إن لم يسمّ شيء.
وروى ابن القاسم عن مالك أنّ الهبة لا تحل بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كانت هبة نكاح، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يصحّ النكاح بلفظ الهبة.
وخلاف الفقهاء تابع لنزاع العلماء في معنى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فذهب جماعة إلى أن الخصوصية والخلوص الوارد في الآية هو خلوص عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألا ترى كيف قال الله تعالى: لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وكيف قال: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وقبل ذلك: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ وفي جميع ذلك من الإشارة ما يدلّ على أن إحلال المرأة من طريق الهبة كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وذهب آخرون إلى الخلوص والخصوصية الواردة في الآية كان في نكاح الواهبة بغير مهر. أما عقد النكاح بلفظ الهبة فكان جائزا للنبي وأمته معه، لا خصوصية فيه، وهو مروي عن مجاهد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وزعم الذاهبون إليه أنّ الآية تدلّ عليه، وذلك أنّ الله تعالى يقول: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١- ٢/ ٢٠٦).
645
جعل الله العقد خالصا للنبي، وأضاف لفظ الهبة إلى المرأة، وأضاف إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إرادة الاستنكاح، فدلت المخالفة بين الجانبين على أنّ المراد مدلول اللفظ الذي فيه جانب المرأة، وهو ما يدل عليه لفظ الهبة من ترك العوض.
وأيضا فلو كانت الخصوصية راجعة للفظ الهبة لجاء في اللفظ الذي يكون في جانبه، أما خصوصية أن يكون عقده بلفظ الهبة من جانب المرأة دون أن يكون فيه إسقاط العوض فيكاد يكون غير مقبول.
ووجه آخر هو أن الله تعالى قال بعد ذلك: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وذلك يشير ظاهرا إلى أن الخصوصية دفعت حرجا. وقصر النكاح على لفظ النكاح أو التزويج لا حرج فيه، إنما الحرج يكون في إلزام المهر، لأن ذلك يلزمه مشقة السعي في التحصيل، وهو مشغول بشؤون الرسالة، ويرجّح هذا الذي نقوله قول الله تعالى في أول الآية: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ حيث يكون إحلال الهبة مقابلا له، فيكون المعنى أحللنا لك الممهورات وغير الممهورات.
ثم هم يسوقون في ذلك حديثا رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، عن محمد بن بشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت: ألا تستحي أن تعرض نفسها بغير صداق؟ أنزل الله عزّ وجلّ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قالت: إني أرى ربّك عزّ وجلّ يسارع لك في هواك «١».
ويقولون بعد ذلك أنه قد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عقد على امرأة بلفظ التمليك لرجل على ما معه من القرآن،
فقال: «ملكتكها بما معك من القرآن»
، وذلك يدل على صحة عقد النكاح بلفظ يدل على التمليك، ولفظ الهبة يدل على التمليك، فصح عقد النكاح به.
ذلك مجمل ما يقال في الاستدلال للمجيزين على ما ذهبوا إليه، وما نراه يدل لهم.
وإنا لنسألهم: أين وجدتم في الآية أنّ النكاح كان دون مهر؟ أليس في لفظ الهبة؟ فكيف يكون ما يدل عليه اللفظ خاصا به صلّى الله عليه وسلّم، وليس شيء يدل عليه إلا اللفظ ومع ذلك فأنتم لا تقولون بجواز عقد النكاح بلفظ الهبة مع بقاء معناه، وهو ترك العوض. والذي في الآية ترك العوض مدلولا عليه بلفظ الهبة.
فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟ فإن كنتم تريدون أنّ عقد النكاح بلفظ الهبة يصحّ من النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن غيره، وتريدون أن تأخذوه من الآية فخذوا جواز
646
ذلك للناس جميعا بكل ما دلّ عليه، وهو العقد بلفظ الهبة من غير مهر.
أما أن تقولوا: إنّ العقد بلفظ الهبة جائز للناس جميعا ويجب المهر، فهو الذي لا نجد لكم سندا فيه.
وكيف يكون السند، والله تعالى يقول: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ولا يمكن رجوع الخصوصية للمعنى إلا بعد أن يكون مستفادا من اللفظ، مدلولا عليه به، ولو أسقط لفظ الهبة من العقد استبعد إسقاط المهر، فالحقّ أنّ الخصوصية راجعة إلى ما كان من عقد النكاح بلفظ الهبة، مع ما يحمل من المعنى، وهو تمليك البضع بغير عوض.
وما سقتم من حديث عائشة لا ينفعكم، فليس فيه إلا أنّ نكاح الواهبة كان بغير عوض، وعائشة إنما فهمت ذلك من لفظ الهبة.
ونحن نقول: إنّ الخصوصية كانت في عقد النكاح بلفظ الهبة ومعناه، أما عقده بلفظ الهبة وحده دون المعنى فلا نقول: إنّ الخصوصية راجعة إليه.
وأما ما قلتم من أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقد النكاح بلفظ التمليك، فهو بعد تسليم حجية الحديث المروي فيه لا يدلّ [على ما ذهبتم إليه].
وهناك رواية أخرى تدل على أن العقد كان بلفظ: «زوجتكها» «١» ولا دلالة فيما رويتم، فعقد النكاح بلفظ التمليك لا يفيد أن كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح، ألا ترون أن لفظ الإجارة يدل على التمليك، وأنتم لا ترون النكاح ينعقد به، لما فيه من معنى يتنافى مع المقصود من النكاح، وهو أن الإجارة مبينة على التوقيت.
وكذلك نحن نقول بعد أن نسلّم لكم أنّ صيغ العقود يصحّ القياس فيها: إنّ لفظ الهبة نصّ على ترك العوض، والنكاح لا بدّ فيه من العوض، وإن لم يذكر في العقد، فلا يصح أن يدل عليه بلفظ صريح في ترك العوض.
هذا ما رأينا أن نذكره مما تكلم فيه المفسرون من الأحكام، وهناك أشياء أخرى عرض لها المفسرون: كالكلام على أعمام النبي، وعمّاته، وأخواله، وخالاته ومن وهبت نفسها من النساء، وما نرى أن نتابعهم فيه، لأنّ ذلك حتى بعد صحة ما يروى لا فائدة من ذكره [هاهنا].
قال الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) الإرجاء: التأخير والتنحية.
(١) رواه ابن ماجه في السنن (١/ ٦٠٨)، ٩- كتاب النكاح، ١٧- باب صداق النساء حديث رقم (١٨٨٩).
647
والإيواء: الضم والتقريب.
والابتغاء: الطلب.
والعزل: الإبعاد.
اختلف في سبب نزول هذه الآية، فروى أبو رزين العقيلي أنّ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا أشفقن أن يطلقهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلن: يا رسول الله! اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت فكانت منهن: سودة بنت زمعة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة غير مقسوم لهنّ.
وكان ممن آوى: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة: يضمهن ويقسم لهن.
وقيل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن الرجل أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو يتركها.
ويكون المعنى على ما روى أبو رزين: اعزل من شئت من القسم، وضمّ إليك من تشاء.
ويرى ابن العربي «١» أنّ القولين غير صحيحين، أما ما روي عن أبي رزين فلم يرد من طريق صحيح.
وأما الآخر، فلأنّ امتناع الخطبة بعد خطبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ذكر له، ولا إشعار به، وهو مع كونه غير خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يتسق مع باقي الآية.
وقد اختلف العلماء في المراد من الإرجاء والإيواء:
فقد روي عن ابن عباس أنّ معنى الآية: تطلّق من تشاء، وتمسك من تشاء.
وروي عن قتادة: أنّ المعنى: تترك من تشاء، وتنكح من تشاء، وقد أسلفنا لك. عن أبي رزين ما يفيد أن المعنى: تترك من تشاء من غير قسم، وتقسم لمن تشاء.
ويرى ابن العربي «٢» أنّ الصحيح في سبب نزول الآية وفي معناها هو ما روي من طريق صحيحة عن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وثبت في «الصحيح» «٣» أيضا عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يستأذن في يوم المرأة منّا بعد أن نزلت هذه الآية: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فقيل لها: فما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول: إن كان الأمر إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا أبدا.
(١) أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٣/ ١٥٥٤).
(٢) المرجع نفسه (٣/ ١٥٥).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨)، ٦٥- كتاب التفسير، ٧- باب ترجي من تشاء حديث رقم (٤٧٨٩).
648
ويرى ابن العربي «١» أنّ المعنى بعد ذلك هو: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أذن له في غير إلزام أن يكون مردّ الأمر في القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم، لكنّه كان يقسم بينهن من غير أن يكون القسم فرضا عليه.
وذلك خاصّ به دون المؤمنين. وقد ظلّ شأن النبي مع نسائه وشأن نسائه معه على هذا، حتى أدرك الكبر سودة بنت زمعة، فوهبت قسمها لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
ولنرجع بعد ذلك إلى تفسير الآية بتمامها، حتّى يتبين من التفسير أيّ المعاني أجدر بأن يكون مقصودا من الآية.
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قد عرفت مما سقناه لك آنفا أنّ الإرجاء التأخير، وأن الإيواء الضم، وعرفت آراء العلماء في المراد بذلك.
ونزيد هنا أنهم اختلفوا أيضا في مرجع الضمير في (منهن)، فرآى بعضهم أنه يرجع إلى نساء الأمة جميعا، وأنّ المعنى أن لك أن تترك نكاح من تشاء من نساء الأمة، وأن تنكح من تشاء.
وهذا القول بعينه قدمناه لك في جملة الأقوال.
ونقول: إنه لم يفد فائدة جديدة، فالمقصود منه قد استفيد من آية إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قول الله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ على ما تقدم بيانه، وهو بعد ذلك لا يتسق مع قول الله تعالى: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ.
ويرى البعض أنّ الضمير للواهبات، ويكون المعنى إنّ لك أن تقبل هبة من تشاء، وتترك هبة من تشاء، ويروون في ذلك من الروايات ما يستندون إليه، إذ يفيد أنّ بعض الواهبات قبلهنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودخل بهن، وأرجأ البعض الآخر، ولم يدخل بهن، ويقولون: إنّ منهن أمّ شريك.
وأنت تعلم مما سبق أن العلماء اختلفوا في وقوع الهبة، وعلمت أنّ الصحيح أنّها وقعت، وعلمت كذلك أنهم اختلفوا في قبوله صلّى الله عليه وسلّم الهبة منهن، وأن الصحيح أنه لم يكن تحته امرأة وهبت نفسها، ومتى علمت هذا كان لك أن تحكم بضعف هذا القول، خصوصا إذا نظرت إلى أن ضمير (منهن) للجمع، ولم يرد للواهبات ذكر بالجمع حتى يكون مرجعا، فخير أن يكون مرجع الضمير لنسائه اللاتي هنّ تحته: وأنّ المراد ترك أمر القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم توسعة عليه، حتى تطمئن نفوس زوجاته، على ما يأتي بيانه.
(١) أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٣/ ١٥٥٦).
649
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي أنّه لا حرج ولا إثم إذا عنّ لك أن تطلب إحدى المرجئات والمعزولات، فتضمها، وتؤويها إليك بعد عزلها وإرجائها، ويجوز حمل الإرجاء والعزل هنا على الطلاق، ويكون المعنى: ومن طلبت رجوعها ممن تكون قد عزلت فلا جناح عليك في طلب رجوعها إلى العصمة.
ويجوز أن يراد منه التأخير في القسم، أو ترك القسم، ويكون المعنى: ومن طلبت إيواءها وإدخالها في القسم ممن أخرت القسم لها أو تركته، فلا جناح عليك.
وأما أن يراد بالابتغاء طلب النكاح، وبالعزل والإرجاء تركه، على أن يكون المعنى: ومن طلبت نكاحها من اللاتي تركت فبعيد، لأنّ العزل مشعر بأن تكون المعزولة كانت في زمرة ثم عزلت، وفصلت عنها. والتي رفض نكاحها لا يقال:
إنها كانت في زمرة فصلت وعزلت منها. ومَنْ عل كلّ هذا شرطية جوابها فلا جناح عليك.
وروي عن الحسن أنّ معنى الآية: إنّا جعلنا لك أمر الإرجاء والإيواء، وجعلنا لك أيضا أن تطلب نكاح من تشاء عوضا ممن عزلتها بالطلاق أو بالموت. وهو في هذا يحمل الإرجاء على الطلاق، ويكون المعنى: أن الله أحلّ لك صنوفا من الأزواج، تطلق من تشاء منهن، وتعتاض عمن عزلت بالطلاق أو بالموت منهن، وعلى هذا (فمن) في قوله: مِمَّنْ عَزَلْتَ للبدل، مثلها في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل الآخرة.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً اسم الإشارة يرجع إلى ما تضمّنه الكلام السابق من تفويض أمر الإرجاء والإيواء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي إنّ تفويضنا الأمر- في إبقاء من تشاء، وترك من تشاء، أو في القسم وتركه إليك- أقرب أن تكون أعينهن قريرة. وذلك كناية عن سرورهن بذلك، فلا تحزن من كان لهن الإرجاء، ويرضين بما تصنع معهن. لأنّه متى علمن أنّ الأمر صار إليك، صار في مرجو المعزولة أن تكون يوما صاحبة فراش، فلا تيأس من قربك، ولا تقنط من رحمة الله.
وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأزواجه رضي الله عنهن، وجمع بجمع الذكور للتغليب، وتعقيب الكلام السابق بهذا يراد منه الحثّ على إصلاح ما عساه يكون في القلوب جميعا بالقدر المستطاع، فيخفف النبي صلّى الله عليه وسلّم ما عساه يكون منه من أثر للميل في معاملة نسائه، ويذهب من النساء ما عساه يكون من أثر للغيرة التي تغلب النساء عادة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً يعلم خفيّات الصدور، وما يكون لها من آثار ظاهرة وباطنة. ولا يعجل العقاب قبل الإرشاد والنصح.
650
قال الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) لا يزال الكلام متصلا في خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في شأن أزواجه، فلا تبحث عن الربط. و (بعد) في قوله: مِنْ بَعْدُ ظرف مبني على الضم لحذف المضاف إليه.
وقد اختلف في تعيين هذا المحذوف على ثلاثة أقوال ترجع في الحقيقة إلى اثنين.
١- روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: المراد من (بعد) من عندك من النساء اللواتي اخترنك على الدنيا، ويكون ذلك قصرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم على أزواجه مجازاة لهنّ، وشكرا على هذا الاختيار، كما قصرهن الله عليه إكراما له في قوله:
وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
٢- روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: المراد من (بعد) من أحللنا لك في الآية المتقدمة، وهن الأصناف الأربعة.
٣- روي عن مجاهد أن المعنى: لا يحل لك نكاح غير المسلمات.
وهذا الرأي الأخير في الحقيقة يرجع إلى الثاني، لأنّ المروي عن أبيّ يدل عليه، إذ ليس في الأصناف التي أحلّت للنبي غير مسلمة، فيكون ما روي عن مجاهد داخلا في الذي روي عن أبيّ، ويكون المعنى: لا يحل لك من عدا من آتيت أجورهن، وقرابتك المؤمنات. المهاجرات وما ملكت يمينك ومن وهبت نفسها إليك.
ويقول ابن العربي «١» : ويقوى في النفس قول ابن عباس، والله أعلم كيف وقع الأمر.
وسيأتي لنا كلام في هذا عند الكلام على آراء العلماء في نسخ الآية.
وقد اختلف العلماء أيضا في قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ فروي عن ابن عباس أنّ المراد: لا يحلّ لك أن تطلّق أحدا من أزواجك لتنكح غيرها.
وروي عن مجاهد أن المعنى: لا يحل لك أن تبدل المسلمة التي عندك بمشركة، ونقل عن ابن زيد أن المعنى: لا تعطي زوجك بدلا من زوج رجل آخر.
أما قول مجاهد فهو مبنيّ على رأيه في صدر الآية، ولو تأملت وجدت صدر الآية مغنيا عنه على حسب تأويله هو، فإنّ صدر الآية معناه عنده: لا يحل لك نكاح غير المسلمات، وذلك يقتضي تحريم العقد عليهن مطلقا، سواء أكان العقد مبتدأ، أم على وجه الإتيان بالمشركة بعد اطراح المسلمة من العصمة، وحينئذ يخلو وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ من الفائدة.
(١) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٣/ ١٥٥٩).
651
وأما قول ابن زيد فباطل أيضا، فإنّ نكاح الاستبدال الذي يدّعيه حرام على كل الناس، فلا يكون هناك محلّ لتوجيه الخطاب إليه وحده.
وأما إعراب قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ فيرى البعض أنّها في موضع الحال، والمعنى: لا يحل لك أن تتبدل بهن أزواجا على أي حال، حتى حال إعجابك بحسنهن. ويرى البعض أنّ هذه جملة شرطية حذف جوابها، لفهمه من الكلام، والمعنى: ولو أعجبك حسنهنّ لا يحل لك نكاحهن.
إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ رأيت في الذي سبق أنّ تقييد حلّ المملوكة بكونها فيئا لا يقصد منه الاحتراز، وقد جاء استثناء المملوكات من المحرمات مطلقا، فهو متفق مع الذي قلنا هناك.
وأما من يرى أنّ القيد هناك للاحتراز، فلعله يحمل المطلق هنا على المقيد هناك، أو لعلّه يقول: إنّ العموم هنا أبطله الخصوص هناك، وما نريد أن نعرض إلى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هل كان يحل له الكافرات، أو هن كنّ محرمات عليه؟ فالواقع أنّ النبي لم ينكح كافرة بعد الرسالة، والبحث في حلهن وحرمتهن غير مجد بعد ذلك.
بقي أنّ العلماء اختلفوا في الآية: أبقيت محكمة لم يدخلها النسخ، أم نسخت؟
والذين قالوا بالنسخ اختلفوا في الناسخ: أهو الكتاب أم السنة؟ فذهب جماعة إلى أنّها محكمة، وأنّ ذاك كان تكريما للمختارات، وجزاء على إحسانهن.
ويرى البعض أنها منسوخة، ويروون في ذلك حديثا عن عائشة: «ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا وقد أحلّ الله له من شاء من النساء إلا ذات محرم» «١» ويقول ابن العربي «٢» في هذا: إنه حديث ضعيف شديد الضعف.
والذين ذهبوا إلى النسخ اختلفوا في الناسخ، فيرى بعضهم أنّ الناسخ هو قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى آخر الآية، ويقولون: إنّ الترتيب في التلاوة ليس دليل الترتيب في النزول.
وهذا عجيب من قائليه، فإنّ النسخ في الحقيقة يعتمد ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ، وأن يكون بينهما تعارض، وأين هذا مما يقولون؟ هل مجرد احتمال أن تكون الآية التي معنا متقدمة في النزول كاف لإثبات النسخ فيها؟
أما الذين قالوا: إن الآية منسوخة بالسنة، وإن ذلك دليل على جواز نسخ الكتاب بالسنة، فأمرهم أعجب، فإن الذين يجيزون نسخ الكتاب بالسنة لا يقولون إنّه
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٣٣٢)، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (٣٢١٦)، والحاكم في المستدرك (٢/ ٤٣٧).
(٢) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٣/ ١٥٥٩).
652
ينسخ بكل سنة، بل كان متواترا معنى، وهو المشهور، فكيف يكون النسخ هنا بقول عائشة، وهي لم ترفعه، وفوق ذلك يقول ابن العربي فيه: إنّه حديث ضعيف.
ثم كيف جاز لهم أن يجعلوا النسخ هنا دليلا على القاعدة الأصولية: نسخ الكتاب بالسنة، والأصول لا تثبت إلا بقاطع كما يقولون. وحديثهم الذي يستدلون به على النسخ قد علمت قيمته.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً يطلع على ما يكون من كل أحد فيجازيه بحسابه.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣) روي في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة سنذكرها، ونبيّن الصحيح منها بعد أن نقول لك: إنّ الكلام هنا بيان لما يكون عليه حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في البيت، وذلك ينتظم أحوالا كثيرة بينت الآية الكريمة أحكامها: منها لزوم عدم الدخول إلا بعد صدور الإذن، وهذا يكون بعد الاستئذان. ومنها أن الدخول إذا كان لطعام فيلزم أن يكون المجيء إليه في إبانه لا قبله. وأن ينتشروا على فور الطعام، ولا يمكثوا سامرين.
وسيأتي عند الكلام على تفسير الآية ما يراه العلماء في معنى الآية، وإنما نذكر هنا أن الآية سيقت لبيان آداب الناس في بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والآية بعد هذا اشتملت على أحكام دخول البيت، وعلى حجاب النساء، ومنع المؤمنين من مخالطتهن، ولو من طريق المسألة إلا من وراء حجاب.
وقد ذكر العلماء أسبابا كثيرة يرجع بعضها إلى مسألة دخول البيت، ويرجع بعضها الآخر إلى مسألة حجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ونرى أن لا مانع من أن يكون كلّ ما روي بعد أن يكون صحيحا سببا للنزول، وقد علمت مرارا أنّ الآية نزلت على أسباب كثيرة.
روى البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له «١» عن أنس بن مالك قال: تزوج
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ١٠٤٢)، ١٦- كتاب النكاح، ١٣- باب الصداق حديث رقم (٨٠/ ١٤٢٨)، والبخاري في الصحيح (٦/ ٢٩)، ٦٥- كتاب التفسير، ٧- باب لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا... حديث رقم (٤٧٩١، ٤٧٩٢)، والترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٣٣٣)، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (٣٢١٨).
653
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل بأهله، فصنعت أمّ سليم حيسا، فجعلته في تور، وقالت لي: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقل: بعثت إليك بها أمي وهي تقرئك السلام، وتقول: إنّ هذا لك منا قليل يا رسول الله. قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إنّ أمي تقرئك السلام، وتقول: إنّ هذا منا لك قليل يا رسول الله. فقال:
«ضعه»، ثم قال: «اذهب فادع لي فلانا وفلانا، ومن لقيت» فسمّى رجالا. قال:
فدعوت من سمّى ومن لقيت، قال: قلت لأنس: عددكم كما كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس هات التّور» قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفّة والحجرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليتحلّق عشرة عشرة، وليأكل كلّ إنسان مما يليه» قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم قال: قال لي: يا أنس ارفع، قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت! قال: وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلّم على نسائه، ثم رجع. فلما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رجع ظنّوا أنّهم قد ثقلوا عليه، قال: فابتدروا الباب، فخرجوا كلّهم، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أرخى الستر، ودخل، وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى خرج عليّ، وأنزلت هذه الآيات، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأهن على الناس: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ إلى آخر الآية [٥٣]،
قال أنس: أنا أحدث الناس عهدا بهذه الآيات، وحجبن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ورويت روايات كثيرة قال فيها أبو بكر بن العربي «١» : إنها ضعيفة كلّها ما عدا الذي ذكرنا، وما عدا الذي روي أنّ عمر قال: قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب «٢». وما دامت الروايات لم تصح فلنعرض عن ذكرها.
وهناك رواية أخرى في «الصحيح» «٣» أيضا تعيّن الزوجة، وذلك على نحو ما روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس قال: لما تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام. فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء
(١) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٣/ ١٥٧٥).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٩)، ٦٥- كتاب التفسير، باب لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا...
حديث رقم (٤٧٩٠). [.....]
(٣) سبق تخريجه.
654
النبي صلّى الله عليه وسلّم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فجئت فأخبرت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ.
ولعلّك بعد الذي قدّمنا في غير حاجة إلى إعادة القول في إضافة البيوت مجموعة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهي بيوته، اختصّ بها، وأعدها لسكنى أزواجه المتعددات، وقد نهى الله المؤمنين أن يدخلوا هذه البيوت إلا دخولا مصحوبا بالإذن، والاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم، وتكون باء المصاحبة مقدرة في الكلام.
وذهب بعضهم إلى أن الباء المقدّرة باء السببية، والاستثناء من عموم الأسباب.
وذهب الزمخشري إلى عدم تقدير الباء، وإلى أن الاستثناء من عموم الأوقات، أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت الإذن، وهذا متوقف على صحة وقوع المصدر المؤول مع الظرف. ويرى أبو حيان أنّ وقوع المصدر موقع الظرف خاصّ بالصريح دون المؤول، والمسألة خلافية من خلافيات النحاة، والأشهر أنه لا يجوز.
وقوله تعالى: إِلى طَعامٍ متعلّق بيؤذن، وكان الظاهر أن يعدّى (بفي) بدل (إلى) إلّا أنّ الفعل يُؤْذَنَ ضمّن معنى الدعوة، فعدّي بما يتعدى به فعلها، وتضمينه معنى الدعوة للإيذان بأنه لا ينبغي الدخول للطعام إلا بدعوة إليه، وإن وجد صريح الإذن بالدخول، ويرى البعض أنّ إِلى طَعامٍ تنازعه تدخلوا ويؤذن.
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ إناه مصدر مضاف إلى الضمير، نقول: أنى الطعام يأنى إذا نضج إنى، أي نضجا.
ويرى بعضهم أنّه ظرف بمعنى حين، وهو مقلوب آن، فجاءت النون قبل الألف، وغيرت فتحة الهمزة كسرة، والمعنى على الأول: غير منتظرين نضجه، وعلى الثاني غير منتظرين وقته، أي وقت إدراكه ونضجه، وهما متقاربان.
ثم إن (غير) منصوب على الحالية، وهي حال مترادفة، أي لا تدخلوا في حال من الأحوال، إلا حال الإذن لكم، غير منتظرين النضج أو وقته، وصاحب الحال على هذا هو واو الجماعة في لا تَدْخُلُوا.
ويرى بعضهم أنه حال من فاعل فعل محذوف، أي ادخلوها غير ناظرين إناه.
وجوّز بعضهم أن يكون حالا من الضمير المجرور في لَكُمْ، ويكون المعنى: لا تدخلوا إلا حال الإذن، حال كونكم غير ناظرين. ويكون هذا إشارة إلى أنّ الإذن ينبغي أن يكون لمن كانت عادته لمن يسبق وقت الطعام، فإنّ ذلك يكون إثقالا على من في البيت.
655
ويرى البعض أنّ قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ حال من الواو في تَدْخُلُوا ويكون المعنى: نهيهم عن الدخول في هذه الحال، وهي حال عدم انتظار الطعام. وهم يروون في ذلك أنّ بعض أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل في وقت الطعام من غير سابق دعوة، وكانوا يسمّون الثقلاء من أجل ذلك، وبعد تسليم ما رووا فكيف تفيد الآية النهي عن الذي كان منهم؟ لعلهم يقولون: إنّ المعنى: لا تدخلوا حال كونكم غير منتظرين وقت الطعام، إلّا أن يؤذن لكم. ويكون المراد نهيهم أن يدخلوا على الفجاءة، وأما إذا جاؤوا ومكثوا انتظارا للطعام، فلا يكون ذلك منهيا عنه وهم بهذا يدفعون ثقيلا بأثقل منه، إذ إنهم يجوز لهم حينئذ أن يدخلوا البيت، ويمكثوا ما طاب لهم المكث حتى يجيء الطعام، ويهيّأ لهم.
وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا هذا استدراك على ما فهم من النهي عن الدخول بغير إذن، وهو مشعر بأنّ الإذن متضمّن معنى الدعوة، وهو بعد هذا تصريح بما علم قبل.
فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أمر بالتفرّق بعد الفراغ من الطعام، بعدية يرجع في تحديدها إلى ما يجري به العرف.
وأنت بعد الذي اطلعت عليه من سبب نزول ترى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان قد ثقل عليه أن يمكث هؤلاء الأضياف بعد أن فرغوا من الطعام، ولم يدعوه يتفرّغ لبعض شأنه في بيته، وكان يمنعه الحياء أن يأمرهم بالتفرّق.
وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الاستئناس للحديث طلب الأنس به، والطمأنينة والسرور والارتياح له، وقد أطلق نفي الاستئناس للحديث من غير بيان صاحب الحديث، للإشارة إلى أنّ المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، أيا كان الاستئناس، سواء كان لحديث بعضهم بعضا، أو لحديث غيرهم، فإنّ الأمر كان أمر وليمة، وقد انتهت، ولم يبق إلا أن يفرغ من البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك نوع من الثقل غير محمود.
ويرى بعض المفسرين أنّ قوله تعالى: مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ معطوف بالجر على (ناظرين) وتكون (لا) لتأكيد النفي، ويجوز أن تكون (لا) بمعنى (غير) معطوفة على (غير ناظرين).
ويرى البعض أنّ (مستأنسين) حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، واللام في قوله: (لحديث) إما تعليلية داخلة على محذوف، أي لأجل استماع الحديث، أو هي للتقوية.
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ هذا بمثابة التعليل لما قبله، أي إنما نهيتم عن دخول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في الحدود المبينة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يتأذّى من الدخول على غير هذه الحدود وإيذاء النبي لا يصح أن يكون من المؤمنين، من أجل
656
ذلك بيّنا لكم الحدود، ورسمنا الطرق، حتى لا يلحقه أذى، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ضجرا على ما عرفت من أسباب النزول. من بقاء من بقي عنده بعد انتهاء الطعام، بل لقد همّ بالقيام لينتبهوا فيقوموا فأقاموا، ولقد كان يمنعه الحياء أن يأمرهم بالانصراف.
وقد كان من عادات العرب ألّا يطلبوا إلى الضيف الانصراف بعد القرى مهما طال المكث، وكان الناس من أجل ذلك في حاجة لأن يتعلموا آداب المنازل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم شديد الحياء، فنزل القرآن إرشادا لهم وتعليما.
واسم الإشارة على ما ترى راجع إلى ما يكون منهم من الدخول على غير الوجوه المبيّنة، وقيل: بل هو راجع إلى مفهوم من الكلام، وهو المكث قصد الاستئناس للحديث، أو راجع إلى الاستئناس المفهوم من مستأنسين.
والاستحياء على الحقيقة لا يكون منهم، وإنما يكون من شيء يتصل بهم، ويلحقهم من جهته، وهو إخراجهم أو منعهم من البقاء والمكث، وإلا فالذات لا يستحيا منها، إنما يكون الاستحياء من الأفعال.
انظر إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنّه يدل على أنّ الذي كان يستحي منه النبي هو الحق، وهل يتصف بالحقيقة إلا الأفعال؟ ولو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال تعالى في مقابله والله لا يستحي منكم.
وأطلق استحياء الله من الحق وأريد منه عدم السكوت عن بيانه، فسمّى السكوت عليه استحياء على طريق المشاكلة، لوقوعه بجانب استحياء الرسول صلّى الله عليه وسلّم من إخراجهم.
و [يفيد] ظاهر الآية منع مكث المدعو إلى الطعام بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذيا لصاحب البيت، وإذا كانت الآية التي معنا خاصة بآداب دخول بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد تكفّلت سورة النور ببيان آداب دخول المنازل على الإطلاق في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) [النور: ٢٧] وفي غيرها من الآيات، فارجع إليها إن شئت.
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
لا يزال الكلام كما ترى متصلا في ذكر آداب الدنو من بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ترى ذلك ماثلا في ضمير النساء في قوله تعالى: سَأَلْتُمُوهُنَّ فهو راجع إلى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد فهم اشتمال الكلام عليهن من النهي عن دخول البيوت، وعن إطابة المكث تلذذا بالحديث، وعن الأمر بالدخول إن كانت هناك دعوة، والانتشار عقب الطعام، ومن أن مخالفة ذلك تؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما كان ليتأذّى لولا وجود النساء في البيوت، فإرجاع الضمير إلى مفهوم من الكلام السابق مؤذن بأنّه متصل بالكلام
657
السابق، متمّم له في ذكر آداب البيوت، واقع على ما وقع عليه من سبب، فهو في غير حاجة إلى ربط جديد، ولا إلى سبب خاصّ يقع عليه، وأنه ليكفي أن يوجد شأن من الشؤون يتصل بالبيوت، لنذكر كل الأحكام التي تكفل حياطة البيوت من الأذى.
ويرى بعض المفسرين تنزيل هذه الآية على سبب خاص روي هنا من طريق صحيح، ويعدون الآية إحدى موافقات القرآن لعمر رضي الله عنه، وذلك على نحو ما قدمنا مما
روى البخاري «١» وغيره عن أنس رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، ولو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب.
وليس هناك ما يمنع أن يكون ذلك أحد الأسباب التي نزلت من أجلها الآيات في شأن بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويكون قد جاء في بعضها أو كلها ما يوافق رأي عمر، وحرصه على كرامة نساء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فتكون الأسباب قد تجمّعت فنزلت الآيات متصلا بعضها ببعض في صيانة بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وحرمة أزواجه.
والمتاع ما يستمتع به حسيا كالماعون، أو معنويا كتعرّف الأحكام، والحجاب:
الساتر، وتكليف الرجال سؤال النساء المتاع من وراء حجاب مؤذن بتكليف من في البيوت ضرب الحجاب، لأنّه من غير المعقول أن يكون ضرب الحجاب على غير أصحاب البيوت.
ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ الإشارة راجعة إلى السؤال من وراء حجاب، أو إلى كلّ ما تقدم من الأحكام، ومعنى كونه أطهر أنّه أكثر تنزيها لقلوب الرجال والنساء من الهواجس التي تتولّد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء، فإنّ الرؤية بريد الفتنة.
هكذا كفل القرآن بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الأحكام، وأبعد عنها الريبة. واجتث أصول المخاوف والفتنة، فالآيات كما ترى خاصّة بآداب الاتصال ببيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة بلفظها، وبتوجيه الخطاب فيها، وبأسباب نزولها، وبما ذكر فيها من علة.
وأما بيوت المؤمنين فقد تكفلت بآدابها سورة النور كما قلنا لك وآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ الآية في سورة الأحزاب وستعرف فيها آراء العلماء في الحجاب.
وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
والمعنى: أنّه لا يكون من شأن المؤمنين أن تقع منهم أذية للرسول صلّى الله عليه وسلّم أيا كان نوعها، سواء أكانت من النوع الذي ذكر في الآية مما يتصل بالبيوت، أم من غيرها، وهذا التعميم يرشد إليه إطلاق الفعل. تُؤْذُوا عن التقييد بكونه في البيوت،
(١) سبق تخريجه.
658
أو في غيرها، فدلّ ذلك على أنّ شأن المؤمنين ألا يكون منهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم إلّا ما يكون إكراما وشكرا على ما أسدى إلى الأمة من خير، فلا معنى لتقييد الأذى هنا بنوع منه، كاللبث في بيوته صلّى الله عليه وسلّم، والاستئناس للحديث فيها، وكون الآية وردت في هذا السياق لا يقتضي تقييدها به، بل يقتضي دخولها في العموم الذي دلّت عليه الآية.
وذكر النبي بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من تحدّثهم نفوسهم بأذيته، إذ ذلك يكون كفرانا بنعمة الرسالة الواجب شكرانها.
وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ ذكر هذا بعد النهي عن الأذى بصيغة الخبر من قبيل ذكر الخاص بعد العام، للاهتمام به، فإنّ امتهان فراش الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أكبر الأذى.
وقد عرض المفسرون هنا للكلام في المراد من الأزواج، وقد سبق لك عند الكلام على آية التخيير شيء من هذا.
فقد ذهب بعضهم إلى أنّ الأزواج اللائي لا ينكحن هن من ثبت لهن هذا الوصف، ولو من طريق العقد من غير أن يدخل بها. وإطلاق الأزواج هنا ظاهر في هذا.
ويرى بعضهم كإمام الحرمين قصره على المدخول بها، ونحيلك هنا على ما ذكرناه عند الكلام على المختارات، لتقف على أرجح الأقوال في ذلك.
وقد عرض المفسّرون أيضا إلى البعدية من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً هل هي بعدية الوفاة، أو بعدية الفراق مطلقا. وما دام أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يثبت أنّه طلق أحدا من نسائه من طريق صحيح، وحتى التي قيل: إنها اختارت الدنيا قيل: إنها جنّت، وقد منعه الله من أن ينكح أزواجا بعد اللائي كنّ معه، وأن يطلقهن ليتزوج غيرهن.
فما نرى معنى لهذا الذي خاض فيه المفسرون، ونرى أنّ البعدية بعدية الوفاة.
وأما الكلام في حلّ المطلقة، ومن فسخ نكاحها فهو كلام مبني على الفرض والتقدير، ولا شأن للآية به، وإن كان لنا أن نقول شيئا فذلك أنّ إضافة البعدية إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم ظاهر في بعدية الوفاة. وأيضا فإنّ منع المؤمنين من نكاح أزواجه إنما هو لكفّ الأذى عنه صلّى الله عليه وسلّم، وأي أذى يلحقه من أن تنكح امرأة نبذها، ولم تنل شرف أمومة المؤمنين. إنّ منع زواجها فيه أذاها هي، ولا يليق أن يكون مقصدا من مقاصد الشريعة إلحاق الأذى بالناس، على أنّ منعها من الزواج فيه تسوية بينها وبين من نلن رضاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واللازم عدم التسوية.
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً اسم الإشارة راجع إلى إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونكاح أزواجه من بعده.
قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لما كان مقام البيوت خصوصا بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقتضي حيطة شديدة، حتى يكون
659
الامتثال للأحكام الواردة فيه يتفق فيه الظاهر والباطن، أعقب الله الآيات الواردة فيه بما يجعل الناس في تمام اليقظة، وعلى أشد ما يكون من الحذر، ذلك أنه نبههم إلى أنّ علمه قد أحاط بخفيات النفوس، فضلا عما يظهر منها، وذلك تهديد شديد يقطع ما يخالج النفوس من الوساوس، وما يحيط بها من دوافع الشهوات، فيعمل الناس على الإقلاع عن مجاراة الوساوس، واستئصال نوازع الشهوات، فإنّ الله مطّلع على ما ظهر وما خفي، ومجاز كلّ إنسان بحسب ذلك العلم، ومن ذا الذي يستطيع بعد هذا أن تحدثه نفسه بالدنو من الأذى، والله القادر على الجزاء قد أحاط بكل شيء علما.
قال الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) قد فهم مما تقدّم أنّ على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحتجبن عن الرجال، ولا يظهرن عليهم، وقد يفهم النصّ على عمومه، فيتناول أقرب الناس إليهنّ، وفي ذلك ما فيه من حرج، بل قد يكون فيه قطع الرحم التي أمر الله أن توصل، فجاءت هذه الآية الكريمة لبيان الأقارب الذين لا يحرم ظهور نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامهم من غير حجاب.
وقد ذكر الله من ذلك ستة أصناف هم: الآباء، والأبناء، والإخوان، وأبناء الإخوان، وأبناء الأخوات، والنساء المضافات إليهن، وما ملكت أيمانهنّ.
وقد بقي من المحارم: الأعمام والأخوال من غير ذكر، وقد ذهب العلماء في ذلك مذاهب:
فمنهم من يرى أنه اكتفي عنهم بذكر الآباء، وقد جرى العرف بإطلاق الأب على العم والخال.
ومنهم من رأى أنّ في ذكر أبناء الإخوان رمزا إلى قرابة العمومة، وفي ذكر أبناء الأخوات رمزا إلى قرابة الخئولة، وذلك أن من يكون ابن أخي المرأة تكون المرأة عمته، ومن يكون ابن أختها تكون هي خالته.
وعجب أن يرى بعض العلماء أنّ عدم التنصيص على الأعمام والأخوال يقتضي وجوب الاحتجاب منهم، ويذهب في التعليل مذهبا أعجب، فيقول: إنّ الأعمام والأخوال لو اطلعوا على النساء فربّما وصفوهنّ لأبنائهم؟
يا هؤلاء! أنتم تتكلمون في نساء متزوجات، هن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهل يريد العم أن يفسد ابنة أخيه على زوجها- وهو المصطفى- ليزوجها لابنه، وهل تقولون:
إنّ الحكم كذلك في سائر النساء، ولا تعدون الأخوال والأعمام محارم في حق النظر، أو تقولون إن ذلك خاص بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! وإذا كان خوف الوصف يصلح علّة للحجاب، فالوصف ممكن في الجميع، لا للأقارب فحسب، بل للأجانب، فكلّ من
660
أبحتم له النظر يمكن أن يصفها لكل من تحلّ له، سواء أكان قريبا أم أجنبيا، والعمة والخالة تريان من المرأة كل شيء إلا العورة، ويمكن أنّ كلّ واحدة منهما تصف لابنها ما رأت من ابنة أخيها أو من ابنة أختها.
وكيف يمكن أن يكون إمكان الوصف علة في الحجاب، وقد أباح النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر المرأة لمن أراد أن يخطبها
وقال: «انظر إليها، فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما» «١».
وقد اختلف العلماء في تعيين المراد من النساء في قوله تعالى: وَلا نِسائِهِنَّ فروي عن ابن عباس ومجاهد أنّ المراد منهنّ المؤمنات، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم من الكافرات.
ويرى بعضهم أنّ المراد منهن النساء القريبات، وتكون إضافتهنّ إليهن لمزيد اختصاصهن بهن، لما لهنّ من صلة القرابة، وكذلك من يكون من النساء مضافا إليهن لأي صلة أخرى، كالمتصرفات الخادمات.
وأما ما ملكت الأيمان فهو بظاهره، ويعمّ الذكور منهم والإناث، وتخصيص بعض العلماء له بالإماء يحتاج إلى دليل يدلّ على أنّ المرأة تحتجب من عبدها، ويبقى ظاهر الآية معمولا به حتى يقوم الدليل.
وقد تكلم بعضهم بعد ذلك في دخول المكاتب، وعدم دخوله، وهو رقيق ما بقي عليه درهم، فمن نظر إلى هذه الجهة قال: إنّ الآية تتناوله بظاهرها، وإخراجه يحتاج إلى الدليل، ومن نظر إلى أنّ الله إنما أباح الظهور للعبد لحاجة المرأة إلى خدمته، ومن حيث إنه حرّ يدا، وهو مشغول بسعيه في أداء بدل الكتابة، فهو لا يقوم بخدمة سيدته، ومن أجل ذلك لا يوجد المعنى الذي من أجله رفع الجناح في العبيد، فلا يكون مما تتناوله الآية.
وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لما كان أمر الحجاب عن الأجانب، والترخيص في تركه للأقربين المحارم يحتاج إلى كثير من الحذر والتقوى، فقد يجر دخول الأقارب بيوت الأزواج إلى مفاسد ومنغّصات، وقد يكون في الكلام مع الأجانب من وراء الحجب ما لا يقل عن تلك المفاسد. وتلك أشياء قد ترتكب مع التظاهر بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وليس من علاج لهذه الحال، إلّا أن يلزم النساء خشية ربهنّ وتقواه.
وجه الله الخطاب للنساء بعد أن كان الحديث عنهنّ حديثا عن الغائبات، حتى
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٣٩٧)، كتاب النكاح، باب النظر إلى المخطوبة حديث رقم (١٠٨٧)، وابن ماجه في السنن (١/ ٥٩٩)، ٩- كتاب النكاح، ٩- باب النظر إلى المرأة حديث رقم (١٨٦٥)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ٣٧٨)، كتاب النكاح، باب إباحة النظر حديث رقم (٣٢٣٥).
661
يكون لهنّ من علمهن بمراقبة الله وعلمه ما قد تنطوي عليه نفوسهن وقاية ودرعا يقيهن من الوقوع في مهاوي الفساد. وانظر كيف عقّب الله أمرهنّ بالتقوى بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً يعلم علم شهود وحضور ومعاينة، فيجازي على ما يكون، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي، ولقد بلغ من المبالغة في تكريم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قال بعض العلماء بحرمة نظر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وهنّ مستترات. قال القاضي عياض «١» : فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهنّ كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كنّ مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة. واستدلّ لذلك بما روي أنّ حفصة لما توفي عمر رضي الله عنه كان يسترها النساء أن يرى شخصها. ويرى ابن حجر بحق أنّ ذلك إن صحّ فلا دلالة فيه.
وقد كان نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤدين الحج بعد وفاته. ، ويطفن بالبيت، ويسعين بين الصفا والمروة، ولو قيل: إنّ الستر وعدم النظر إلى الشخوص أفضل ومندوب لكان شيئا يصح أن يصار إليه، ويشهد له ما روي أنّ عمر رضي الله عنه أمر يوم وفاة زينب بنت جحش ألا يشهد جنازتها إلا ذو رحم محرم منها، عملا بالحجاب، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليها، وقالت: إنها رأت ذلك في بلاد الحبشة، فصنعه عمر.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) قد بين الله تعالى فيما سبق أنّ شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بعث على تكريمه صلّى الله عليه وسلّم، وحياطة لمقامه الشريف، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الله يكرم نبيّه على وجه التأكيد، فكان ما هنا بمثابة العلة لما قبله، فكأنه قيل: ما كان لكم أن تؤذوه، لأنّ الله يصلّي عليه والملائكة، وما دام الأمر كذلك فهو لا يستحق إلا الإكرام والتمجيد، وأكّد الخبر اهتماما به، وجيء به جملة اسمية لإفادة الدوام، وكانت الجملة اسمية في صدرها فعلية في عجزها للإشارة إلى أنّ هذا التمجيد الدائم يتجدّد وقتا فوقتا على الدوام.
وقد ذكر في الآية أنّ الله وملائكته يصلّون على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمر المؤمنين بأن يصلوا عليه، وبأن يسلّموا تسليما. وقد عرض المفسّرون لبيان معنى صلاة الله على نبيه، وصلاة الملائكة عليه، وكذا صلاة الخلق وتسليمهم. ونحن متابعوهم فيما قالوا.
(١) عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي أبو الفضل عالم المغرب، وإمام أهل الحديث، ولي قضاء سبتة توفي بمراكش مسموما قيل سمه يهودي، انظر الأعلام للزركلي (٥/ ٩٩).
662
فقيل: الصلاة من الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، هو مروي عن البخاري عن الربيع بن أنس، ثم تعظيم الله له في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء العمل بشريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وإجزال الأجر والثواب له، وإعطائه المقام المحمود. وهل من الملائكة الدعاء له. وقيل: هي من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء.
وعلى القولين: فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة، وقد عبّر عنها بلفظ واحد أضيف إلى واو الجماعة يُصَلُّونَ فمن ذهب إلى منع الجمع بين الحقيقة والمجاز ذهب إلى أنّ في الآية حذفا تقديره هكذا: إنّ الله يصلّي، وملائكته يصلون، فتكون واو الجماعة خاصّة، وذهب بعضهم إلى أنّ تعدّد الفاعل مؤذن بتعدّد الفعل، فيكون الفعل مسندا إلى كلّ من الفاعلين.
وذهب جماعة إلى القول بأنّه من باب عموم المجاز، لا من الجمع بين الحقيقة والمجاز، فيقدّرون معنى مجازيا عاما، ينتظم أفرادا كثيرة، ويكون كلّ فرد منها فردا حقيقيا من أفراد المعنى المجازي للعام، ويقولون: إنّ هذا المعنى العام هو الاعتناء بالمصلّى عليه، وهذا الاعتناء له أفراد، فهو يكون من الله على وجه، ويكون من الملائكة على وجه آخر.
وأما صلاة المؤمنين عليه، فهي تعظيمهم لشأنه، وذلك يكون بوجوه كثيرة: منها الدعاء له باللفظ الوارد في ذلك، وقد جاءت كيفية الصلاة عليه من المؤمنين من طرق كثيرة، وفيها صور من الصلاة مختلفة، واختلافها يشعرك بأنّ الغرض ليس تحديد كيفية خاصّة، وإنما هي ألوان من التعظيم، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات لأنّ استيعابها يطول.
روى الشيخان «١» وغيرهما عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد».
وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم «٢» عن أبي حميد الساعدي أنهم
(١) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٣٠٥)، ٤- كتاب الصلاة، ١٧- باب الصلاة على النبي حديث رقم (٦٦/ ٤٠٦)، والبخاري في الصحيح (٦/ ٣٢)، ٦٥- كتاب التفسير، ١٠- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ... حديث رقم (٤٧٩٨).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٣٥٦)، ٤- كتاب الصلاة، ١٧- باب الصلاة على النبي حديث رقم (٦٩/ ٤٠٧)، والبخاري في الصحيح (٧/ ٢٥٢)، ٨- كتاب الدعوات، ٣٢- باب الصلاة على النبي حديث رقم (٦٣٦٠)، ومالك في الموطأ (١/ ١٦٥)، وأحمد في المسند (٥/ ٤٢٤).
663
قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذريّته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وأزواجه وذريّته، كما باركت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد».
وأخرج الجماعة «١» عن أبي سعيد الخدري قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: «قولوا: اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك، كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم».
وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة، وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة، وما دام المراد تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأيّ عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها.
وأما التسليم: فقد قيل: إنّ المعنى أن الله أمر المؤمنين أن يقولوا السلام عليك يا رسول الله، وقد اختلف في معنى السلام عليك فقيل: إنّ معناه دعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص [أن] تحيط به وتلازمه.
وقيل: بل السلام اسم من أسماء الله، ومعنى كونه عليه: أنه حافظه، حتى إن بعض من قال بهذا قال: إنّ الكلام على حذف مضاف، والتقدير حفظ السلام عليك.
وقيل: بل السلام الانقياد وعدم المخالفة، ومعنى كونه عليك: ملازمته، وهو حينئذ دعاء للمسلم عليه بانقياد الناس له انقيادا ملازما بحيث لا يخالفونه.
قالوا: إنما أكّد التسليم بالمصدر، ولم يؤكد الصلاة، لأن الصلاة قد قرنت بما يؤكدها، وهو الإخبار بأنّها تكون من الله ومن الملائكة، فكان ذلك أبعث على أن تكون من الناس.
وخص المؤمنين بالتسليم، لأنّ الآية وردت بعد الكلام في أذية النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأذية المحدّث عنها إنما تكون من البشر.
وقيل: بل صلاة الله مشتملة على تسليمه، وأما صلاة الناس فلا تشتمل عليه، فلذلك طلب التسليم منهم.
ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر، بل
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٣٢)، ٦٥- كتاب التفسير، ١٠- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ...
حديث رقم (٤٧٩٨)، وابن ماجه في السنن (١/ ٢٩٢)، ٥- كتاب إقامة الصلاة، ٢٥- باب الصلاة على النبي حديث رقم (٩٠٣)، والنسائي في السنن (٣- ٤/ ٥٦)، كتاب السهو، باب نوع آخر من الصلاة على النبي حديث رقم (١٢٩١).
664
لقد حكى القرطبي «١» الإجماع على ذلك، وذلك عملا بما يقتضيه الأمر صَلُّوا من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد، وذلك أنك تعلم أنّ الصحيح أنّ الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما هو للماهية المطلقة عن قيد التكرار والمرّة، وحصوله بالمرة ضرورة من ضرورات الحصول.
وذهب بعضهم إلى القول بوجوب الصلاة والتسليم في التشهد، وقيل: هي واجبة في الصلاة من غير قيد بمكان. وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقيّد بعدد، وقيل: تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره فيه، وقيل: تجب كلما ذكر.
ولعل هذا القول من قائليه مبنيّ على أنّ الأمر يفيد التكرار، ولعلهم يستدلون بالأحاديث الترغيبية والترهيبية الواردة في فعلها وتركها، وأنت لو اطلعت على هذه الأحاديث لفهمت من صيغتها أنّها لمجرد الترغيب، وأنّها ككل الحسنات تتضاعف، انظر إلى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشرا» «٢» و «من صلّى عليّ عشرا صلّى الله عليه مائة»
فإنك واجد أنّه متفق مع قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] وما قال أحد إلا أن هذا ترغيب في الإحسان.
وعلى كلّ فالآية لا دلالة لها إلا على الوجوب مرة، فمن زاد على هذا فعليه الدليل، ونحن لما يدل عليه ملتزمون.
وأخيرا فليلتمس القائلون بغير ما تدل عليه الآية دليلهم في غيرها، فإن قام دليل على وجوب الصلاة والسلام في التشهد وجب، وإن دلّ على ختام الصلاة وجب، وإلا فالآية بمنأى عن هذا كله.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) هذا عود إلى تأكيد النهي عن أذى النبي صلّى الله عليه وسلّم، بعد الأمر بالصلاة والتسليم عليه اقتضته العناية الكاملة بشأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وقد قيل: إنّ المراد بأذى الله ورسوله ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان، وقيل: بل إيذاء الله تعالى: ما يكون من قبيل قول اليهود والنصارى يد الله مغلولة، والمسيح ابن الله، وعزير ابن الله، وجعل الأصنام شركاء لله، وإيذاء الرسول: انتقاصه بوصفه بالشّعر والسّحر والجنون. وقيل: إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم المراد هنا هو ما كان من طعنهم في نكاح صفية بنت حيي، إلى غير ذلك، ولا مانع أن يكون كلّ ذلك مرادا.
(١) الجامع لأحكام القرآن المشهور بتفسير القرطبي، طبعة تصوير، بيروت دار المعرفة (١٤/ ٢٣٢- ٢٣٣).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٣٠٦)، ٤- كتاب الصلاة، ١٧- باب الصلاة من النبي حديث رقم (٤٠٨).
665
وقيل: إن المقصود هنا إيذاء الرسول خاصة صلّى الله عليه وسلّم وذكر الله عزّ وجلّ معه للتشريف، والإشارة إلى أنّ ما يؤذي الرسول صلّى الله عليه وسلّم لخليق به أن يؤذي الله تعالى، ولا يرضيه، كما جعلت طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومحبته طاعة الله تعالى ومحبته.
واللعن الطرد والإبعاد من رحمة الله، وبعد ذلك فهناك العذاب المهين المحقّر ينتظر في الآخرة.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) لما أنهى الكلام في شأن الذين يؤذون الله ورسوله ناسب ذلك أن يقرن به ذكر الذين يتعرّضون للمؤمنين بالأذى، والأذى هنا مطلق كالأذى في الآية السابقة، يتناول كل ما يصدق عليه اسم الأذى، سواء أكان بالقول أم بالفعل، وسواء أكان إيذاء للعرض أو الشرف أو المال، فإنّ الذين يلحقون بالمؤمنين أيّ نوع من أنواع الأذى يستحقون الجزاء الذي ذكر في الآية الكريمة، لا يخصّ منه شيء إلا ما خصّه الله تعالى، وهو أن يكون الإيذاء جزاء على الاكتساب، كالإيذاء بالقصاص، والإيذاء بقطع اليد في السرقة، وكالإيذاء بالتعزيرات المختلفة، وكالحقّ الوارد في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» «١».
وقد فهم أبو بكر رضي الله عنه أنّ الزكاة حقّ المال، فقاتل مانعيه من أجله، وقال: والله لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. وحاجّه في ذلك عمر، فقال له: إلا بحقها، والزكاة حق الأموال، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر.
وقد يخطر لك أن تقول: لماذا قيل: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا هنا، ولم يقل في الآية المتقدمة مثله؟
ونقول: لأنّ اكتساب الأذى هناك لا يكون، أما العباد فكل يوم يعدو بعضهم على بعض.
والمراد بالبهتان الفعل الشنيع، والإثم المبين البيّن الظاهر. واحتماله: حمله وفي التعبير بالاحتمال إشارة إلى ثقل ما يحملون من أوزار.
ويذكر المفسّرون هنا أسبابا لنزول الآية «٢»، فيقولون: هي في قوم آذوا عليا أو
(١) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٥)، ١- كتاب الإيمان، ٨- باب حديث رقم (٢٠ و ٢١)، و (١/ ٥٣)، ٨- باب الأمر بقتال الناس حديث رقم (٣٦/ ٢٢)، والبخاري في الصحيح (١/ ١٤)، ٢- كتاب الإيمان، ١٧- باب حديث رقم (٢٥) و (١/ ١١٨)، ٨- كتاب الصلاة، ٢٨- باب فصل استقبال القبلة حديث رقم (٣٩٢).
(٢) انظر تفصيله في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٥/ ٢٢٠- ٥٢١).
666
عائشة، وقيل في شأن النبي وصفيّة، وقيل: في قوم كانوا يتّبعون النساء إذا برزن لحاجتهنّ. وهي بعد ثبوتها لا تقتضي حمل الآية على واحد منها، وقد تكون الآية نزلت بعد تجمّع الأسباب.
وقد روى البيهقي في «شعب الإيمان» عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أيّ الرّبا أربى عند الله» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:
«أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا الآية.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) جرى حكم العرف بتخصيص النساء بالحرائر، وسبب النزول الآتي يقتضيه، وآخر الآية ظاهر فيه.
والإدناء: التقريب، أدناني منه: قرّبني منه. وهو هنا مضمّن معنى الإرخاء والسدل، ولذا عدّي بعلى، يقال: إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك، أي أرخيه واسدليه. والجلابيب جمع جلباب، وقد اختلف أهل التأويل في الجلباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كله، ويتأتى معه رؤية الطريق إذا مشت.
روى جماعة من المفسرين أنّه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فسّاق لا يزالون على عاداتهم في الجاهلية، يتعرّضون للإماء، وربما تعرضوا للحرائر، فإذا قيل لهم يقولون: حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي، فيستترن ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهنّ مراض القلوب.
واختلف أهل التأويل في كيفية هذا التستر، فأخرج ابن جرير «١» وغيره عن ابن سيرين أنه قال: سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فرفع ملحفة كانت عليه، فتقنّع بها، وغطّى رأسه كلّه حتى بلغ الحاجبين، وغطّى وجهه، وأخرج عينه اليسرى من شقّ وجهه الأيسر، وروي مثل ذلك عن ابن عباس.
وفي رواية أخرى عنه أنها تلوي الجلباب فوق الجبين، وتشدّه، ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها، لكن تستر الصدر ومعظم الوجه.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢٢/ ٣٣).
667
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهنّ الغربان من أكسية سود يلبسنها.
ومعنى الآية: أنّ الله جلّ شأنه يأمر الحرائر إذا خرجن لحاجة أن يتقنّعن ويستترن، حتى يميّزن من الإماء، فلا يتعرّض لهنّ أحد بالإيذاء. هذه طريق الجمهور في تأويل الآية.
ومن المعروف أن هذه الآية نزلت بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب ستر العورة، فلا بد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدا على ما يجب من ستر العورة، ولذلك ترى عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها متحدة في أنّ المراد بالجلباب الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كلّه من فوق ثيابها، كالملاءة المعروفة في عصرنا.
وعلى ذلك يكون الأمر بإدناء الجلابيب من الأدب الحسن، زيادة في الاحتياط، ومبالغة في التستر والاستعفاف، وبعدا عن مظان التهمة والارتياب.
ولا يعدّ في إجراء الأمر على ظاهره من وجوب لبس الجلباب إذا كان خروج المرأة بدونه- وإن كانت مستورة العورة- مدعاة للفتنة، وسببا في تعرّض الفساق لها، وإيذائها بالرفث وفحش القول.
وقد يقال: إنّ تأويل الآية على هذا الوجه، وقصرها على الحرائر، قد يفهم منه أنّ الشارع أهمل أمر الإماء، ولم يبال بما ينالهنّ من الإيذاء، وتعرض الفسّاق لهن في الطرقات، مع أنّ في ذلك من الفتنة ما فيه: فهلا كان ذلك التصون والتستر عامّا في جميع النساء؟
الجواب: أنّ الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن، وترددهنّ في الأسواق ومحالّ البياعات في خدمة سادتهن، وقضاء مصالحهم، فإذا كلّفن أن يتقنّعن، ويلبسن الجلباب السابغ كلّما خرجن، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن، وليس كذلك الحرائر، فإنهنّ مأمورات بالاستقرار في البيوت، وعدم الخروج منها إلا في أوقات الحاجة الشديدة، فلم يكن عليهنّ من الحرج والمشقة في التقنّع والتستر ما على الإماء.
ولقد راعى الشارع هذه الحال، فنهى الناس أن يؤذوا المؤمنين والمؤمنات جميعا، سواء الحرائر والإماء، وتوعّد المؤذين بالعذاب الأليم والعقاب الشديد.
ومع هذا فإنّ الشرع لم يحظر على الإماء التقنع والتستر، ولكنّه لم يكلفهن ذلك دفعا للحرج والعسر. فللأمة أن تتقنع وتلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك. وأما نهي عمر رضي الله عنه الإماء في زمانه، وزجره إياهنّ عن التقنع، فإنما كان ذلك من السياسات الشرعية، لأنّه كان يخشى إذا هنّ تشبهن بالحرائر في لباسهن وزيهنّ أن يعتدن الرقة، ويضعفن عن الخدمة والعمل، وتكثر مؤنهنّ على سادتهنّ.
668
وبعد فقد اختار أبو حيان «١» في تأويل الآية الكريمة وجها غير الوجه الذي سلكه الجمهور، فجعل الأمر بإدناء الجلابيب موجها إلى النساء جميعا، سواء الحرائر والإماء، وجعل معنى قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أنهنّ يعرفن بالعفة والتصون، فلا يتعرّض لهنّ، ولا يتلقين بما يكرهن، فإنّ المرأة إذا بالغت في التستر والتعفف لم يطمع فيها أهل السوء والفساد، وهو رأي تبدو عليه مخائل الجودة.
وفي «الطبقات الكبرى» أنّ أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية- على رأي الجمهور في تأويلها- أنّ ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزا لهم، حتى يعرفوا، فيعمل بأقوالهم.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر لمن امتثل أمره ما عسى أن يصدر منه من الإخلال بالتستر رَحِيماً بعباده، حيث راعى في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات، وأرشدهم إلى هذه الآداب الحسنة الجميلة.
(١) في تفسيره البحر المحيط (٧/ ٢٥٠).
669
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨)، ٦٥- كتاب التفسير، ٧- باب تُرْجِي مَنْ تَشاءُ حديث رقم (٤٧٨٨)، وأحمد في المسند (٦/ ١٥٨).